|
المؤلف: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عدد الأجزاء: 88 جزءا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ومعه ملحق بتراجم الأعلام والأمكنة]
من رسول الله» خرجه الإمام أحمد والبخاري.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن باز
(71/90)
من الفتوى رقم 9117
السؤال الرابع: إن والدي مؤذن وقد مرض وأدخل المستشفى، وأنه قال لي: أذن بدلي، وأنا أشاهد التلفزيون بعض الأيام هل يجوز لي ذلك؟
ج: إذا كنت تحسن الأذان فأطعه، وأذن بدلا منه، ولكن لا يجوز لك مشاهدة ما يكون في التلفاز من المحرمات كالأغاني وسائر الملاهي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(71/90)
من الفتوى رقم 9854
السؤال الثاني: هل يجوز تحريك الجسم أثناء كلمة حي على الصلاة؟ أم تحريك الرأس فقط، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
ج: يشرع للمؤذن الذي يؤذن في غير مكرفون أن يلتفت يمينا وشمالا عند الحيعلة مع ثبوت قدميه، لأن ذلك ثبت من فعل مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته صلى الله عليه وسلم، ولأنه أبلغ في إسماع النداء للصلاة لمن بعد عن المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(71/91)
سجدات القرآن
أحكام وتوجيهات
لفضيلة الدكتور \ فهد بن عبد العزيز الفاضل (1)
__________
(1) الأستاذ بكلية الملك عبد العزيز الحربية.
(71/92)
المقدمة:
الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه، وخصمت العقول لطائف حججه، وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه، وهتفت في أسماع العالمين آياته وسننه، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا عدل له معادل، ولا مثل له مماثل، ولا شريك له مظاهر، وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعا وكرها. كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (1) .
فكل موجود إلى وحدانيته داع، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد (2) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 15
(2) انظر: مقدمة الإمام الطبري في تفسيره: جامع البيان عن تأويل القرآن 3، 4.
(71/93)
ثم الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين محمد بن عبد الله عليه من الله أزكى صلاة وأتم تسليم، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الميامين، وأتباعه الظاهرين إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد كانت تراودني فكرة الكتابة في تأويل آيات السجدات في القرآن الكريم منذ زمن، بعد بحثي في المكتبة القرآنية عمن كتب فيها، فلم أجد من المعاصرين أحدا كتب في سجدات القرآن الكريم إلا ما رأيته لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله في كتابه: سجود التلاوة مواضعه وموضوعاته، وفضيلة الشيخ عبد العزيز السدحان من كتاب: التبيان في سجدات القرآن، فاستعنت بالله عز وجل في الكتابة حول هذا الموضوع، فكان هذا البحث الذي أسأل الله عز وجل أن ينفعني به وينفع إخواني المسلمين. وأن يجعله خالصا لوجهه العظيم إنه جواد كريم.
وتكمن أهمية دراسة آيات وأحكام سجدات القرآن الكريم فيما يلي:
أولا: حاجة الناس اليوم الذي ضعف فيه العلم، وقصرت همم الناس، إلى مثل هذا الموضوع الذي يتعلق بشعيرة من شعائر دينهم ألا وهو سجود التلاوة.
(71/94)
ثانيا: محاولة الوصول إلى السنة الصحيحة فيما يتعلق بسجود التلاوة.
ثالثا: ربط المسلم المطيع لربه بمعاني آيات السجود ليستحضرها عند تلاوة هذه الآيات.
رابعا: إثراء المكتبة القرآنية بموضوع مهم قل التصنيف فيه جدا بشكل مستقل. . خاصة وأن العلم الشرعي ظهر زهد الناس فيه نتيجة جهلهم به.
خامسا: حاجة الناس اليوم إلى استشعار معاني هذه الآيات من حين لآخر خاصة عند تلاوتها.
ومن خلال التتبع في فهارس الكتب والمخطوطات لم أجد - على بحثي القاصر - من أفرد هذا العلم بالتصنيف إلا ثلاثة وهم:
1 - الإمام الحافظ أبو إسحاق إبراهيم الحربي، المتوفي سنة (285 هـ) ، ألف كتابه سجود القرآن. ولا أعرف أحدا أشار إلى مكان وجوده.
2 - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن
(71/95)
تيمية، المتوفى سنة (728 هـ) ، ألف رسالة في سجود القرآن.
وذكر الدكتور سعود الفنيسان أنه توجد مخطوطة في برلين برقم (3570 هـ) (1) .
3 - الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله له كتاب مطبوع هو: سجود التلاوة مواضعه وموضوعاته. نشر دار التراث بالمدينة المنورة الطبعة الأولى، 1409 هـ.
4 - الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان. له كتاب مطبوع متداول هو: التبيان في سجدات القرآن. وقد علق على بعضه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. وقرأه فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين غفر الله له.
وقد اشتمل هذا البحث (سجدات القرآن الكريم أحكام وتوجيهات) على مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.
وقد احتوت المقدمة على سبب اختياري لهذا الموضوع، وأهميته، والكتب المؤلفة فيه، وخطة البحث.
أما التمهيد فقد اشتمل على السجود عامة (معناه، وصفته، وفضله) .
__________
(1) انظر: آثار الحنابلة في علوم القرآن 134.
(71/96)
الفصل الأول: أحكام سجود التلاوة. وشمل أربعة مباحث، هي:
المبحث الأول: عدد سجدات القرآن الكريم ومواضعها.
المبحث الثاني: حكم سجود التلاوة.
المبحث الثالث: صفة سجود التلاوة.
المبحث الرابع: أذكار سجود التلاوة.
الفصل الثاني: توجيهات آيات السجود، وفيه خمسة عشر مبحثا:
المبحث الأول: التوجيه عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (1) .
المبحث الثاني: التوجيه عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (2) .
المبحث الثالث: التوجيه عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ} (3) .
المبحث الرابع: التوجيه عند قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (4) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 206
(2) سورة الرعد الآية 15
(3) سورة النحل الآية 49
(4) سورة الإسراء الآية 109
(71/97)
المبحث الخامس: التوجيه عند قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1) .
المبحث السادس: التوجيه عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (2) .
المبحث السابع: التوجيه عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (3) .
المبحث الثامن: التوجيه عند قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} (4) .
المبحث التاسع: التوجيه عند قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} (5) .
المبحث العاشر: التوجيه عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} (6) .
المبحث الحادي عشر: التوجيه عند قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (7) .
__________
(1) سورة مريم الآية 58
(2) سورة الحج الآية 18
(3) سورة الحج الآية 77
(4) سورة الفرقان الآية 60
(5) سورة النمل الآية 25
(6) سورة السجدة الآية 15
(7) سورة ص الآية 24
(71/98)
المبحث الثاني عشر: التوجيه عند قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} (1) .
المبحث الثالث عشر: التوجيه عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (2) .
المبحث الرابع عشر: التوجيه عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (3) .
المبحث الخامس عشر: التوجيه عند قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (4) .
الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها.
وقد سلكت في هذا البحث الإيجاز غير المخل قدر وسعي، ولم أتطرق إلى كثير من التفاصيل التي لا طائل وراءها، واقتصرت في تخريج الأحاديث المذكورة في الصحيحين عليهما دون تتبعه في السنن والمسانيد مع محاولة ذكر من حكم على الحديث إذا كان في غيرهما.
__________
(1) سورة فصلت الآية 37
(2) سورة النجم الآية 62
(3) سورة الانشقاق الآية 21
(4) سورة العلق الآية 19
(71/99)
والله أسأل التوفيق والسداد لي ولكل من أعانني في بحثي هذا، وأن يغفر لي زللي وتقصيري، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، ويعلي راية الدين. إنه سميع مجيب. آمين.
(71/100)
أولا: معنى السجود:
السجود في اللغة: التذلل والخضوع والتطامن.
قال ابن فارس رحمه الله: السين والجيم والدال أصل واحد مطرد يدل على تطامن وذل. يقال سجد إذا تطامن. وكل ما ذل فقد سجد (1) .
وقال السمين الحلبي رحمه الله: وفرق بعضهم بين سجد وأسجد، فسجد: وضع جبهته، وأسجد: أمال رأسه وطأطأها (2) .
والسجود في الشرع: التذلل لله عز وجل وعبادته بالصفة المعروفة بوضع الجبهة على الأرض.
والسجود عام فيمن يعقل وسجوده باختياره، وفيمن لا يعقل وسجوده بالتسخير (3) . والسجود ركن من أركان الصلاة في
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 3 \ 133.
(2) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون 1 \ 275.
(3) انظر: نزهة الأعين 1 \ 230، مفردات ألفاظ القرآن 396، وبصائر ذوي التمييز 3 \ 188.
(71/100)
الإسلام (1) .
وقد عرف السجود منذ أقدم العصور في تاريخ الأمم والأنبياء، فقبل نزول آدم عليه السلام إلى الأرض كان سجود الملائكة له، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} (2) (3) .
ولخليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - قال لهما الله عز وجل: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (4) .
وفي قصة يوسف عليه السلام قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (5) (6) .
وفي قصة موسى عليه السلام مع السحرة قال الله عز وجل: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (7) {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (8) .
وفي قصة سبأ قال الله عز وجل: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (9) .
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير 1 \ 322.
(2) سورة البقرة الآية 34
(3) سورة البقرة، الآية [34] . وانظر في تأويل سجود الملائكة لآدم، المحرر الوجيز لابن عطية 1 \ 177.
(4) سورة البقرة الآية 125
(5) سورة يوسف الآية 100
(6) سورة يوسف: الآية [100] . وانظر في تأويل هذا السجود، تفسير القران العظيم لابن كثير 4 \ 335.
(7) سورة الأعراف الآية 120
(8) سورة الأعراف الآية 121
(9) سورة النمل الآية 24
(71/101)
وقال تعالى عمن أنعم عليهم من النبيين وممن هدى الله واجتبى {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1) .
وفي مريم عليها السلام قال الله عز وجل: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) .
وفي يوم الجزاء والحساب يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: ولفظ السجود يراد به مطلق الخضوع والاستكانة. . . إلى أن قال: وأما أن يكون سجود الإنسان لا يراد به إلا خضوع ليس فيه سجود الوجه، فهذا لا يعرف (4) .
فالسجود لله جل جلاله من أعظم دلائل الإجلال، وتمريغ الوجه في التراب أقصى علامات التذلل لذي الجلال والسلطان. فهو أقصى درجات العبودية، وأجل مظاهر التذلل، وأصدق دلائل الإذعان، وأعذب مناظر الخشوع، وأفضل أثواب الافتقار.
__________
(1) سورة مريم الآية 58
(2) سورة آل عمران الآية 43
(3) سورة القلم الآية 42
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 152.
(71/102)
وهو انطراح للجبار، وتذلل للقهار، وتمريغ للأنف، وتعفير للوجه، وانطلاق من أسر الدنيا، وهروب من قيود الطاغوت، وتجرد من أوسمة العظمة، وتخل عن رتب الفخامة، وألقاب الزعامة. . .
يسجد الملك والمملوك والغني والفقير، والسيد والمسود، والرجل والمرأة، كلهم سواء في فقرهم إلى الكريم، وذلهم للعظيم.
سبحان من لو سجدنا بالعيون له ... على حمى الشوك والمحمي من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته ... ولا العشير ولا عشرا من العشر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركه ... سبحانه من مليك نافذ القدر (1)
__________
(1) انظر: الله أهل الثناء والمجد، للزهراني 420، 421.
(71/103)
ثانيا: صفة السجود:
صفة السجود أن يسجد المسلم على سبعة أعضاء منه، وهي: الجبهة والأنف، واليدان، والركبتان، وأطراف القدمين.
لما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن اسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين (2) » الحديث (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (812) ، صحيح مسلم الصلاة (490) ، سنن الترمذي الصلاة (273) ، سنن النسائي التطبيق (1097) ، سنن أبو داود الصلاة (889) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1319) .
(2) أعظم: جمع عظم، وهي الأعضاء السبعة. انظر: فتح الباري 2 \ 296. (1)
(3) فتح الباري 2 \ 297.
(71/103)
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر الحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء، لأن الأمر للوجوب (1) .
ويجب على المسلم أيضا أن يطمئن في سجوده، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فانك لم تصل (ثلاثا) فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (2) » .
ورأى حذيفة رضي الله عنه رجلا لا يتم الركوع والسجود قال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا صلى الله عليه وسلم عليها (3) .
قال ابن حجر رحمه الله تعليقا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق: واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في
__________
(1) العدة على إحكام الإحكام 2 \ 306.
(2) أخرجه البخاري. انظر: فتح الباري 2 \ 277.
(3) أخرجه البخاري. انظر: فتح الباري 2 \ 274.
(71/104)
أركان الصلاة، وبه قال الجمهور، واشتهر عند الحنفية أن الطمأنينة سنة وصرح بذلك كثير من مصنفيهم، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب عندهم. . . (1)
ومن السنة في السجود الاعتدال فيه فلا يضع ذراعيه على الأرض، كما تفعل السباع، فقد أخرج البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب (2) » .
قال الترمذي رحمه الله: والعمل عليه عند أهل العلم، يختارون الاعتدال في السجود، ويكرهون الافتراش كافتراش السبع (3) .
قال ابن قدامة رحمه الله: وجملته أن من السنة أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه إذا سجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في سجوده. . . (4)
__________
(1) فتح الباري 2 \ 279.
(2) أخرجه البخاري. انظر: فتح الباري 2 \ 301.
(3) سنن الترمذي 2 \ 66.
(4) المغني 2 \ 200. وللمزيد من سنن السجود انظر: المغني 2 \ 199-207. والمجموع 4 \ 421-435.
(71/105)
ثالثا: فضل السجود:
ورد من فضل السجود ما يلي:
1 - أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لما روى
(71/105)
أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء (1) » .
2 - حرم الله عز وجل على النار أن تأكل آثار السجود؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث طويل وفيه: «حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود. فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود (2) » . . . .
3 - في السجود لله رفعة الدرجات وحط الخطايا؛ لما أخرج مسلم في صحيحه عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: «عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة (3) » .
4 - معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل السجود يوم القيامة مع كثرة الخلائق؛ لما روى عبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أمتي من
__________
(1) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1 \ 350.
(2) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه 1 \ 353.
(3) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1 \ 350.
(71/106)
أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: أرأيت لو دخلت صيرة. فيها خيل دهم (3) . وفيها فرس أغر (4) . محجل (5) .، أما تعرفه منها؟ قال: بلى. قال: فإن أمتي يومئذ غر من السجود محجلون من الوضوء» .
5 - في السجود طاعة للرحمن، وخيبة للشيطان؛ لما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله. أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار (6) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، انظر: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل للبنا، 23 \ 213، 214، وصححه الألباني في صفة الصلاة 131.
(2) الصيرة: حظيرة تتخذ للدواب من الحجارة وأغصان الشجر. انظر: النهاية 3 \ 66. (1)
(3) (2) . بهم البهم: جمع بهيم، وهو الذي لا يخالط لونه لون سواه. انظر النهاية 1 \ 167.
(4) الغرة: بياض في الجبهة، والأغر: الأبيض من كل شئ. انظر: ترتيب القاموس المحيط 3 \ 380.
(5) المحجل من الخيل هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد. انظر: النهاية 1 \ 346.
(6) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة 1 \ 87.
(71/107)
الفصل الأول: أحكام سجود التلاوة: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: عدد سجدات القرآن الكريم ومواضعها.
سجدات القرآن الكريم هي الآيات التي يشرع فيها السجود لله عز وجل عند ختام الآية لتالي القرآن الكريم.
وللعلماء في عدد سجدات القرآن الكريم ومواضعها أقوال منها:
أولا: ذهب الإمام مالك في رواية ابن وهب عنه، وأحمد في رواية عنه، وإسحاق، والطبري رحمهم الله، أن سجدات القرآن الكريم خمس عشرة سجدة هي:.
1 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (1) .
2 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (2) .
3 - قوله تعالى:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 206
(2) سورة الرعد الآية 15
(71/108)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) .
4 - قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (3) {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (4) {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (5) .
5 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (6) .
6 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (7) .
7 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (8) .
__________
(1) سورة النحل الآية 49
(2) سورة النحل الآية 50
(3) سورة الإسراء الآية 107
(4) سورة الإسراء الآية 108
(5) سورة الإسراء الآية 109
(6) سورة مريم الآية 58
(7) سورة الحج الآية 18
(8) سورة الحج الآية 77
(71/109)
8 - قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (1) .
9 - قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (2) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) .
10 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (4) .
11 - قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (5) .
12 - قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (6) {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (7) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 60
(2) سورة النمل الآية 25
(3) سورة النمل الآية 26
(4) سورة السجدة الآية 15
(5) سورة ص الآية 24
(6) سورة فصلت الآية 37
(7) سورة فصلت الآية 38
(71/110)
13 - قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (1) .
14 - قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (2) .
15 - قوله تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (3) .
ثانيا: ذهب الإمام أبو حنيفة، والثوري، والشافعي في المشهور عنه، وأحمد في المشهور من المذهب، وأبو ثور - رحمهم الله - إلى أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة. واختلفوا في تحديد بعضها: فذهب أبو حنيفة والثوري إلى عد ما سبق سوى السجدة الثانية من سورة الحج الآية (77) .
وذهب الشافعي وأحمد إلى عد ما سبق سوى سجدة سورة ص الآية (24) . وذهب أبو ثور إلى عد ما سبق سوى سجدة سورة النجم الآية (62) .
ثالثا: ذهب الإمام مالك في رواية المذهب والشافعي في
__________
(1) سورة النجم الآية 62
(2) سورة الانشقاق الآية 21
(3) سورة العلق الآية 19
(71/111)
رواية - رحمهما الله - إلى أن سجدات القرآن إحدى عشرة سجدة ليس منها شيء من المفصل (النجم، والانشقاق، والعلق) ، وكذلك السجدة الثانية من سورة الحج عند مالك، وسجدة سورة ص عند الشافعي.
ووردت أقوال أخرى لكنها غير مشهورة فلا يعتد بها (1) .
ويتضح مما سبق أن العلماء - رحمهم الله - قد اتفقوا على الكثير من السجدات واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه من السجدات ما يلي:
1 - سجدة سورة الأعراف الآية (206) .
2 - سجدة سورة الرعد الآية (15) .
3 - سجدة سورة النحل الآية (49، 50) .
4 - سجدة سورة الإسراء الآية (109) .
5 - سجدة سورة مريم الآية (58) .
6 - السجدة الأولى من سورة الحج الآية (18) .
7 - سجدة سورة الفرقان الآية (60) .
__________
(1) انظر: أحكام القرآن 7 \ 357، 10 \ 63، وفتح الباري لابن حجر 2 \ 551.
(71/112)
8 - سجدة سورة النمل الآية (25) .
9 - سجدة سورة السجدة الآية (15) .
10 - سجدة سورة فصلت الآية (37، 38) (1) .
ومما اختلفوا فيه من السجدات ما يلي:
1 - سجدة سورة الحج الآية (77) .
2 - سجدة سورة ص الآية (24) .
3 - سجدة سورة النجم الآية (62) .
4 - سجدة سورة الانشقاق الآية (21) .
5 - سجدة سورة العلق الآية (19) .
والأقرب - والله أعلم - أن سجدات القرآن خمس عشر سجدة؛ لما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها: «ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان (2) » . وأما ما اختلف فيه
__________
(1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 1 \ 359، والمحلى لابن حزم 5 \ 106
(2) أخرجه أبو داود في سننه: باب تقريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 4 \ 278. وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: باب سجود القرآن. سنن ابن ماجه 1 \ 334. والدارقطني في سنته 1 \ 408. والحاكم في المستدرك على الصحيحين 1 \ 223. والبيهقي في السنن الكبرى 2 \ 314. قال ابن حجر: حسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق، وابن القطان. تلخيص الحبير 2 \ 10. وانظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم وكلامه في ثبوت هذا الحديث 2 \ 406، 407. وانظر الكلام على سند هذا الحديث في التبيان في سجدات القرآن للسدحان 64-67
(71/113)
العلماء رحمهم الله تعالى من سجدات القرآن الكريم، وما ورد من الأحاديث في مشروعيتها فهي كالتالي:
أولا: السجدة الثانية من سورة الحج الآية (77) .
وقد أخرج الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج عن سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم. فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما (1) » .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 4 \ 151. وأخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب تفريغ أبواب السجود 2 \ 120. والترمذي في سننه: أبواب الصلاة، باب ما جاء في السجدة في الحج 2 \ 470. قال الترمذي بعد سياقه لهذا الحديث: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي. وقال الشيخ أحمد شاكر معقبا على كلام الترمذي: بل هو حديث صحيح، فإن ابن لهيعة ومشرح بن هاعان ثقتان. . . الجامع الصحيح 2 \ 471. وانظر: التبيان في سجدات القرآن 80-83 ففيه كلام نفيس على سند هذا الحديث.
(71/114)
وأخرج أبو داود في المراسيل (1) عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين (2) » .
قال البيهقي رحمه الله: وهذا المرسل إذا انضم إلى رواية ابن لهيعة صار قويا.
وأخرج البيهقي بسنده عن عبد الله بن ثعلبة أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح فسجد في الحج سجدتين (3) .
وأخرج بسنده عن نافع قال: أخبرني رجل من أهل مصر أنه صلى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفجر بالجابية فقرأ السورة التي يذكر فيها الحج فسجد فيها السجدتين، قال نافع: فلما انصرف قال: إن هذه السورة فضلت بأن فيها سجدتين. وكان ابن عمر يسجد فيها سجدتين. وهذه الرواية عن عمر. وإن كانت عن نافع في معنى المرسل لترك نافع تسمية المصري الذي حدثه، فالرواية الأولى عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن عمر رواية صحيحة
__________
(1) المرسل من الحديث: رواية غير الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - انظر: الباعث الحثيث 44.
(2) المراسيل لأبي داود 113. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي 2 \ 317.
(3) السنن الكبرى 2 \ 317.
(71/115)
موصولة، وكذلك رواية نافع عن ابن عمر موصولة (1) .
وممن روى البيهقي سجوده من الصحابة في سورة الحج سجدتين: عمر، وابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن قدامة: ولأنه - أي السجود في سورة الحج سجدتان - قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا.
قال أبو إسحاق: أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين (2) . (3)
ثانيا: سجدة سورة ص الآية (24) .
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
__________
(1) السنن الكبرى 2 \ 317. وانظر: كتاب الأم للإمام الشافعي 1 \ 137.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه 2 \ 12.
(3) المغني 2 \ 356. وانظر: المحلى لابن حزم 5 \ 106، 107.
(71/116)
«ص ليس من عزائم السجود (2) » .
وأخرج البخاري أيضا بسنده أن مجاهدا سأل ابن عباس رضي الله عنهما: من أين سجدت - أي في سورة ص -؟ فقال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (4) ، فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) فتح الباري 2 \ 552.
(2) (1) ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها
(3) سورة الأنعام الآية 84
(4) سورة الأنعام الآية 90
(71/117)
قال ابن عبد البر رحمه الله: واختلفوا أيضا في السجود في سورة (ص) : فذهب مالك، والثوري، وأبو حنيفة إلى السجود فيها، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وجماعة من التابعين، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور - واختلف في ذلك عن ابن عباس -.
وذهب الشافعي إلى أن لا سجود في (ص) ، وهو قول ابن مسعود وعلقمة (1) . وقال ابن حزم: واختلف أفي (ص) سجدة أم لا؟ وإنما قلنا بالسجود فيها لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود فيها (2) .
ثالثا: السجود في سور المفصل (3) ، من القرآن الكريم وهي:
سورة النجم الآية: 62، وسورة الانشقاق الآية: 21، وسورة العلق الآية: 19.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس (4) » .
__________
(1) التمهيد 19 \ 129.
(2) المحلى 5 \ 107.
(3) انظر هامش رقم 2، ص 20.
(4) فتح الباري 8 \ 614. وانظر: تعليل سجود غير المسلمين في فتح الباري 8 \ 614.
(71/118)
وأخرج البخاري أيضا بسنده «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم. قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه. . . (1) » .
وأخرج مسلم في صحيحه بسنده «عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قرأ لهم: فسجد فيها. فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها (3) » .
وأخرج مسلم في صحيحه أيضا بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في و (6) » وأخرج أبو داود الطيالسي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سجد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في وومن هو خير منهما (10) » .
__________
(1) فتح الباري 8 \ 614. وانظر: تعليل سجود غير المسلمين في فتح الباري 8 \ 614.
(2) صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة 1 \ 406.
(3) سورة الانشقاق الآية 1 (2) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
(4) صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة 1 \ 406.
(5) سورة الانشقاق الآية 1 (4) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
(6) سورة العلق الآية 1 (5) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
(7) مسند أبي داود الطيالسي 327 حديث 2499. وصحح إسناده الشيخ السدحان. انظر: التبيان في سجدات القرآن 141.
(8) سورة الانشقاق الآية 1 (7) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
(9) سورة العلق الآية 1 (8) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
(10) يعني النبي صلى الله عليه وسلم. (9)
(71/119)
قال أبو عمر ابن عبد البر: احتج من أنكر السجود في المفصل بقول أبي سلمة لأبي هريرة: لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها.
قالوا: فهذا دليل على أن السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (1) كان قد تركه الناس، وجرى العمل بتركه في المدينة، فلهذا ما كان اعتراض أبي سلمة لأبي هريرة في ذلك.
واحتج من رأى السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (2) في سائر المفصل، بأن أبا هريرة رأى الحجة في السنة لا فيما خالفها، ورأى أن من خالفها محاج بها، وكذلك أبو سلمة لما أخبره أبو هريرة بما أخبره به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت لما لزمه من الحجة، ولم يقل له الحجة في عمل الناس، لا فيما تحكي أنت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل علم أن الحجة فيما نزع به أبو هريرة، فسلم وسكت. وقد ثبت عن أبي بكر وعمر والخلفاء
__________
(1) سورة الانشقاق الآية 1
(2) سورة الانشقاق الآية 1
(71/120)
بعدهما السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (1) فأي عمل يدعي في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين؟! (2)
__________
(1) سورة الانشقاق الآية 1
(2) التمهيد 19 \ 125.
(71/121)
المبحث الثاني: حكم سجود التلاوة
اتفق العلماء رحمهم الله على مشروعية سجود التلاوة (1) .
واختلفوا في حكمه على قولين هما:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي والليث وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وداود الظاهري رحمهم الله إلى أن سجود التلاوة سنة وليس بواجب (2) .
مستدلين على ذلك بما يلي:
1 - أخرج البخاري بسنده «عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها (3) » .
2 - وأخرج البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها
__________
(1) انظر: المجموع 4 \ 58، والتبيان في سجدات القرآن 17.
(2) انظر: المحلى: 5 \ 106، والتمهيد 19 \ 133، 132. والمغني 2 \ 364. والمجموع 4 \ 61.
(3) فتح الباري 2 \ 554.
(71/121)
حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر رضي الله عنه. وزاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء (1) .
3 - إجماع الصحابة على سنية سجود التلاوة وأنه ليس بواجب قال النووي - رحمه الله -: وهذا القول والفعل من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن والمجمع العظيم دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب؛ لأن الأصل عدم الوجوب حتى يثبت صحيح صريح في الأمر به، ولا معارض له، ولا قدرة لهم على ذلك. . . (2) .
القول الآخر: ذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن تيمية رحمهم الله إلى وجوب سجود التلاوة، مستدلين بما يلي:
1 - أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله
__________
(1) فتح الباري 2 \ 557.
(2) المجموع 4 \ 62.
(71/122)
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار (1) » .
2 - قال الكاساني رحمه الله: ولأن الله تعالى ذم أقواما بترك السجود فقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (2) ، وإنما يستحق الذم بترك الواجب.
ولأن مواضع السجود في القرآن منقسمة: منها ما هو أمر بالسجود وإلزام للوجوب، كما في آخر سورة العلق، ومنها ما هو إخبار عن استكبار الكفرة عن السجود فيجب علينا مخالفتهم بتحصيله، ومنها ما هو إخبار عن خشوع المطيعين فيجب علينا متابعتهم. . . . (3) .
والأقرب - والله أعلم - أن سجود التلاوة سنة وليس بواجب لما سبق من قوة أدلة جمهور العلماء رحمهم الله (4) ، وأما ما استدل به من رأي الوجوب فيجاب عن دليلهم الأول وهو حديث أبي هريرة بأن السجود المذكور هو السجود الواجب الذي هو ركن من أركان
__________
(1) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة 1 \ 87.
(2) سورة الانشقاق الآية 21
(3) بدائع الصنائع 1 \ 180.
(4) انظر: الانتصار في المسائل الكبار للكلوذاني 2 \ 380-392.
(71/123)
الصلاة (1) . وهذا ما فهمه الإمام مسلم في إيراده لهذا الحديث في باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة من صحيحه (2) .
وكأن الشيطان في سجود المسلم لربه حال التلاوة يتذكر موقفه عندما أمر بالسجود لآدم فلم يسجد، فهذه الصورة، صورة امتثال المسلم لربه وخضوعه له في كل شيء، وصورة عصيان الشيطان لربه وإعراضه عنه أحدثت للشيطان الكذوب (3) . الحزن والندم على ما كان منه.
أما ما استدل به من يرى الوجوب بأن الآيات جاءت بلفظ الأمر أو الخبر، فلا حجة لهم بذلك لأنه قد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل فيها سجود أو لا، وهي ثانية الحج (4) ، وخاتمة النجم (5) ، واقرأ (6) ، فلو كان سجود التلاوة واجبا لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر (7) .
قال ابن عبد البر: أي شيء أبين من هذا عن عمر وابن عمر
__________
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2 \ 831، والجامع لأحكام القرآن 7 \ 358.
(2) انظر صحيح مسلم 1 \ 87.
(3) ورد وصف الشيطان بالكذوب في صحيح البخاري. انظر: فتح الباري 9 \ 55.
(4) الآية 77.
(5) الآية 72.
(6) الآية 19.
(7) انظر: شرح معاني الآثار 1 \ 360. فتح الباري 2 \ 558.
(71/124)
ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت، وليس قول من أوجبها بشيء، والفرائض لا تجب إلا بحجة لا معارض لها، وبالله التوفيق.
وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل يقرأ السجدة في الصلاة فلا يسجد؟ فقال: جائز أن لا يسجد. وإن كنا نستحب أن يسجد فإن شاء سجد. واحتج بحديث عمر: ليس علينا إلا أن نشاء. قيل له: فإن هؤلاء يشددون - يعني أصحاب أبي حنيفة -، فنفض يده وأنكر ذلك (1) .
__________
(1) التمهيد 19 \ 133.
(71/125)
المبحث الثالث: صفة سجود التلاوة
ويدخل في هذا المبحث الأمور التالية وهي:
أ - هل يشترط لسجود التلاوة الطهارة؟
ب - هل يكبر عند السجود والرفع منه؟
ج - هل يسلم من سجود التلاوة؟
وسوف نبحث كل سؤال بشكل مختصر - إن شاء الله تعالى -.
أ - هل يشترط لسجود التلاوة - الطهارة؟
ذهب جمهور العلماء رحمهم الله من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن سجود التلاوة تشترط له الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر (1) . وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما،
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 186. والمغني 2 \ 358. والمجموع 4 \ 62. والجامع لأحكام القرآن 7 \ 358.
(71/125)
والنخعي والثوري وإسحاق بن راهويه (1) . وأخرج البيهقي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر.
وذهب ابن حزم وابن تيمية وابن حجر وغيرهم - رحمهم الله - إلى عدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة.
وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما (2) ، والشعبي، وأبي عبد الرحمن السلمي (3) .
والأقرب - والله أعلم - عدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة مع أن الأفضل السجود على طهارة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وهذا السجود - أي سجود التلاوة - لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر له بالطهارة، بل ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم سجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس (4) .
__________
(1) أنظر: الأوسط 5 \ 284.
(2) انظر: فتح الباري 2 \ 553، 554.
(3) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 15، 14، والأوسط لابن المنذر 5 \ 284.
(4) مر هذا الحديث في سجدة سورة النجم.
(71/126)
وسجد سحرة فرعون على غير طهارة (1) ، وثبت عن ابن عمر أنه سجد للتلاوة على غير وضوء، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أوجب فيه الطهارة (2) .
وقال في موضوع آخر: فلا تشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة، كما كان ابن عمر يسجد على غير طهارة، لكن هي بشروط الصلاة أفضل. . . (3)
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: الصواب أنه لا يشترط له الطهارة - أي في سجود التلاوة - ولا غيرها من شروط الصلاة كما قال ابن حزم.
ب- هل يكبر عند السجود، والرفع منه؟
ذهب الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يشرع عند سجود التلاوة التكبير للسجود، والتكبير عند الرفع منه، في الصلاة وخارج الصلاة.
__________
(1) كما في قوله تعالى: (وألقي السحرة ساجدين) سورة الأعراف: الآية 120 وغيرها.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 194، 195.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 165.
(71/127)
وعند الشافعية زيادة تكبيرة الإحرام خارج الصلاة قبل تكبيرة السجود (1) .
واختلف عن الإمام مالك في التكبير خارج الصلاة (2) .
قال ابن قدامة رحمه الله: وبه قال ابن سيرين، والحسن، وأبو قلابة، والنخعي، ومسلم بن يسار، وأبو عبد الرحمن السلمي. . . (3)
وظاهر كلام الخرقي الحنبلي رحمه الله أن تكبيرة السجود واحدة عند السجود خارج الصلاة.
وقال ابن تيمية رحمه الله: والمروي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم تكبيرة واحدة، فإنه لم ينتقل من عبادة إلى عبادة (4) .
وذهب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إلى أن السجود للتلاوة في الصلاة يكبر فيه عند الخفض والرفع، أما خارج الصلاة فتكبيرة واحدة للسجود (5) .
__________
(1) انظر: المجموع 4 \ 63.
(2) انظر: المدونة الكبرى 1 \ 111. والاستذكار لابن عبد البر 8 \ 112.
(3) المغني: 2 \ 359.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 172. وهو قول ابن القيم رحمه الله. انظر: زاد المعاد 1 \ 362.
(5) انظر: التبيان 40 \ 41.
(71/128)
مما سبق يتضح أن سجود التلاوة في الصلاة لا خلاف في التكبير فيه عند السجود والرفع منه؛ لما ثبت في صحيح البخاري «عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع، فإذا انصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » .
أما التكبير خارج الصلاة فورد فيه ما أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه» قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبو داود: يعجبه لأنه كبر.
قال ابن حجر رحمه الله: رواه أبو داود بسند فيه لين.
وعلى هذا هل يكبر في سجود التلاوة حال السجود فقط دون الرفع منه أم يكبر للسجود والرفع؟
الأمر في ذلك واسع والحمد لله.
__________
(1) فتح الباري 2 \ 269.
(71/129)
قال ابن القاسم رحمه الله راوي المدونة الكبرى عن الإمام مالك رحمه الله لما ذكر اختلاف مالك في التكبير خارج الصلاة، قال: وكل ذلك واسع (1) .
ج- هل يسلم من سجود التلاوة؟
ذهب الأحناف والمالكية والرواية الأخرى عند الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يسلم من سجود التلاوة. قال الإمام أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو (2) . وذهب الشافعية والحنابلة في رواية المذهب إلى السلام لسجود التلاوة (3) .
والأقرب- والله أعلم - أن سجود التلاوة لا تسليم له؛ لأنه ليس صلاة فيشرع له ما يشرع في الصلاة، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم في سجود التلاوة، أما ما استدل به من قال بالسلام لسجود التلاوة من قوله صلى الله عليه وسلم: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (4) » فهذا في حق الصلاة المعروفة، ولا
__________
(1) المدونة الكبرى 1 \ 111.
(2) الأوسط 5 \ 279.
(3) انظر: المغني 2 \ 362، 363، والمجموع 4 \ 65.
(4) انظر: مسند الإمام أحمد 1 \ 123. وسنن أبي داود: كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء 1 \ 50، 49. وسنن الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور. انظر: صحيح الترمذي للألباني 1 \ 4.
(71/130)
صلاة في سجود التلاوة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وسجود القرآن لا يشرع فيه تحريم ولا تحليل، هذا هو السنة المعروفة عن الأئمة المشهورين. وعلى هذا فليست صلاة، ولا تشترط لها شروط الصلاة (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 165.
(71/131)
المبحث الرابع: أذكار سجود التلاوة
ورد من أذكار السجود ما يلي:
1 - سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته؛ فتبارك الله أحسن الخالقين.
لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته (1) » . قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح (2) . وزاد الحاكم: «فتبارك الله أحسن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6 \ 30، وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا سجد 2 \ 126. والترمذي في سننه أبواب الصلاة باب ما يقول في سجود القران 2 \ 474. والنسائي في سننه: باب الدعاء في السجود 2 \ 222، والدارقطني في سننه: في سجود القرآن 1 \ 406. والبيهقي في السنن الكبرى: باب ما يقول في سجود التلاوة 2 \ 325.
(2) سنن الترمذي 2 \ 474.
(71/131)
الخالقين (1) » وصحح الحاكم هذا الحديث.
2 - اللهم اكتب لي بها أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود.
لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: "اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود" قال ابن عباس: فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة (2) » .
__________
(1) انظر: المستدرك على الصحيحين 1 \ 220، ووافقه الذهبي. وصححه ابن السكن هذا الحديث. انظر: تلخيص الحبير 2 \ 10، والألباني صححه. انظر: صحيح سنن الترمذي 1 \ 180.
(2) أخرجه الترمذي في سننه: أبواب الصلاة، باب ما يقول في سجود القران، وقال: هذا حديث حسن غريب. . . . سنن الترمذي 2 \ 473، 474. وابن ماجه في سننه: أبواب إقامة الصلاة، باب سجود القران 1 \ 188. وابن خزيمة في صحيححه 1 \ 272. وابن حبان في صحيحه، انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 4 \ 189. والحاكم في المستدرك 1 \ 219، 220. وقال: هذا حديث صحيح رواته مكيون لم يذكر واحد منهم بجرح. ووافقه الذهبي وصححه الشيخ أحمد شاكر. انظر: سنن الترمذي 2 \ 474، وصححه محمد الأعظمي. انظر: صحيح ابن خزيمة 1 \ 282. وحسنه الألباني. انظر: صحيح سنن الترمذي 1 \ 180. وحسنه السدحان في التبيان 44.
(71/132)
ورد عن بعض السلف رحمهم الله أدعية أخرى (1) .
قال ابن قدامة: ومهما قال من ذلك ونحوه فحسن (2) .
وقال النووي: وإن قال فيه ما يقول في سجود الصلاة جاز (3) .
قلت: والأحرى بالمسلم أن يتقيد بما ورد وصح عن رسول الله صلى الله عله وسلم ففيه الخير وفضل الاتباع.
__________
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 20، 21.
(2) المغني 2 \ 362.
(3) المجموع 4 \ 64.
(71/133)
الفصل الثاني: توجيهات آيات السجود وفيه خمسة عشر مبحثا:
المبحث الأول: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الله عز وجل وهو خطاب لأمته من بعده صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (2) (3) . ذكر الله عز وجل أن له عبادا مستديمين لعبادته، مواظبين لذكره، ملازمين لخدمته وهم الملائكة، لتعلموا أن الله لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة، ولا ليتعزز بها من ذلة، وإنما يريد
__________
(1) سورة الأعراف الآية 206
(2) سورة الأعراف الآية 205
(3) سورة الأعراف، الآية 205. وانظر أحكام القران لابن العربي، 2 \ 829.
(71/133)
نفع أنفسكم (1) .
وفيه أيضا أن الله عز وجل لما أمر بذكره ورغب فيه لبني آدم ذكر حال الملائكة ومن هم في الشرف والمكانة عند الله ومع ذلك لا يفترون عن عبادة ربهم وذكره ليتأسى بهم المسلم وهو المحتاج إلى رحمة ربه وعفوه (2) .
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (3)
أجمع المفسرون أن المقصود بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (4) أنهم الملائكة (5) ، وعندية الملائكة عند ربهم عندية ارتفاع وعلو، ولوازمها القرب والمكانة (6) ، كما قال تعالى عن الشهداء {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (7) .
وأبان ابن القيم رحمه الله في نونيته هذه العندية أوضح بيان بقوله:
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لابن سعدي، 3 \ 140.
(2) انظر التفسير الكبير للرازي، 15 \ 110.
(3) سورة الأعراف الآية 206
(4) سورة الأعراف الآية 206
(5) انظر الجامع لأحكام القرآن 7 \ 356.
(6) انظر المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات، للمغراوي، 1 \ 400.
(7) سورة آل عمران الآية 169
(71/134)
هذا وعاشرها اختصاص البعض من ... أملاكه بالعند للرحمن
وكذا اختصاص كتاب رحمته بعن ... د الله فوق العرش ذو تبيان
ولو لم يكن سبحانه فوق الورى ... كانوا جميعا عند ذي السلطان
ويكون عند الله إبليس وجب ... ريل هما في العند مستويان
وتمام ذاك القول أن محبة ال ... رحمن غير إرادة الأكوان
وكلاهما محبوبه ومراده ... وكلاهما هو عنده سيان
إن قلتم عندية التكوين فال ... ذاتان عند الله مخلوقان
أو قلتم عندية التقريب تق ... ريب الحبيب وما هما عدلان
فالحب عندكم المشيئة نفسها ... وكلاهما في حكمها مثلان
لكن منازعكم يقول بأنها ... عندية حقا بلا روغان
جمعت له حب الإله وقربه ... من ذاته وكرامة الإحسان
والحب وصف وهو غير مشيئة ... والعند قرب ظاهر التبيان (1)
ولا عجب أن تخضع الملائكة لربها وتسبحه لأنها عرفت عظمة ربها وجلاله عز وجل والقرآن الكريم يعرض بعضا من خضوع الملائكة لربها وتسبيحها له من مثل قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (2) ،
__________
(1) القصيدة النونية للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، 63.
(2) سورة النساء الآية 172
(71/135)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (2) وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (3) {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (4) ، وقوله تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (5) .
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (6) ، اشتمل على ثلاثة أعمال جليلة، أولها: عدم الاستكبار. وثانيها: تسبيح الله. وثالثها: السجود لله.
وهذه الأعمال تشترك في أدائها الأعضاء والجوارح. وغلب كل عمل منها بجارحة من الجوارح، فعدم الاستكبار الغالب عليها أنها عمل قلبي (7) ، وتسبيح الله عمل اللسان، والسجود لله عمل الأركان الظاهرة.
والكبر خلق ذميم وصفة مستكرهة لا يحبها الله من أحد،
__________
(1) سورة النحل الآية 49
(2) سورة الزمر الآية 75
(3) سورة الأنبياء الآية 26
(4) سورة الأنبياء الآية 27
(5) سورة التحريم الآية 6
(6) سورة الأعراف الآية 206
(7) انظر إحياء علوم الدين، للغزالي، 3 \ 343، 344
(71/136)
وتوعد من اتصف بها بالنار، وفي التنزيل الحكيم: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (1) ، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2) ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (3) » ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار (4) » .
والتواضع والإخبات لله صفة ملائكة الله الأطهار ورسله الكرام صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (5) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (6) .
__________
(1) سورة النحل الآية 23
(2) سورة غافر الآية 60
(3) صحيح مسلم، باب تحريم الكبر وبيانه، 1 \ 93، وسنن أبي داود كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر 4 \ 351. وسنن ابن ماجه كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر والتواضع. صحيح ابن خزيمة 2 \ 405.
(4) سنن أبي داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر 4 \ 350. وسنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر والتواضع. صحيح ابن ماجه 2 \ 405.
(5) سورة النساء الآية 172
(6) سورة الأعراف الآية 206
(71/137)
والعمل الثاني الذي وصف الله به ملائكته الكرام في الآية التي نحن بصددها هو التسبيح. والتسبيح من ذكر الله وهو تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به (1) . وهو أفضل الذكر وفي الحديث الصحيح: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده (2) » .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ قلت: يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله. فقال: سبحان الله وبحمده (3) » .
وتسبيح الملائكة لله دائم لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (4) .
ولكثرة تسبيحهم فإنهم هم المسبحون في الحقيقة، وحق لهم أن يفخروا بذلك: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} (5) {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (6) (7) .
__________
(1) انظر لسان العرب، لابن منظور 3 \ 1914.
(2) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل سبحان الله وبحمده 4 \ 2093.
(3) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل سبحان الله وبحمده 4 \ 2093.
(4) سورة الأنبياء الآية 20
(5) سورة الصافات الآية 165
(6) سورة الصافات الآية 166
(7) انظر: عالم الملائكة الأبرار، للدكتور \ عمر الأشقر، ص 35.
(71/138)
بل التسبيح صفة كل شيء في هذا الكون الفسيح: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (1) .
وقال عز من قائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (2) .
والعمل الثالث الذي وصف الله به ملائكته الكرام: السجود لله عز وجل وأصل السجود: التطامن والتذلل (3) ، وكل من ذل وخضع لما أمر به فقد سجد، ومنه سجود الصلاة وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا خضوع أعظم منه. وفي الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون. إن السماء أطت (5) » .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 44
(2) سورة النور الآية 41
(3) بصائر ذوي التمييز، للفيروز أبادي، 3 \ 188.
(4) مسند الإمام أحمد، 5 \ 173، صحيح سنن الترمذي، كتاب الزهد باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم، 2 \ 268. وصحيح سنن ابن ماجه، واللفظ له، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء 2 \ 407.
(5) (4) ، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله
(71/139)
وحق لملائكة الرحمن أن تخضع وتذل وتخشع لربها، وهي من عرفت عظمة الرب عز وجل جلاله. {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (1) .
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - أن الآية أخبرت عن حال من أحوال الملائكة في تعظيم الله عز وجل، وهو السجود له، وفي سجود النبي صلى الله عليه وسلم عند هذه الآية حض للمؤمنين على التخلق بأخلاق الملائكة ومنه السجود لله جل جلاله.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 206
(71/140)
المبحث الثاني: قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (1) .
مناسبة الآية لما قبلها: في الوقت الذي يتخذ الكافرون آلهة من دون الله، يتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (2) . إذ كل من في الكون خاضعون لله، وكلهم محكومون بإرادته، مسيرون وفق مشيئته، المؤمن منهم يخضع طاعة
__________
(1) سورة الرعد الآية 15
(2) سورة الرعد الآية 14
(71/140)
وإيمانا، وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاما، فما يملك أحد أن يخرج عن إرادة الله، ولا أن يخالف مشيئته (1) .
وللمفسرين في معنى السجود في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (2) قولان:
الأول: السجود حقيقة، وهو وضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول يكون المعنى:
أ- أن المؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين.
ب- وقيل: الآية في المؤمنين، منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه السجود؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا.
الثاني: أن السجود بمعنى الخضوع والانقياد. وعلى هذا يكون المعنى:
أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، ويسجد خضوعا وانقيادا وطاعة لسنن الله وإرادته الكونية، والكافر يسجد إرغاما وكرها خضوعا لسنن الله وإرادته الكونية، حيث إنه كافر لا يؤمن بالله العظيم (3) . وهذا المعنى هو الأقرب. والله أعلم (4) .
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب 4 \ 2052.
(2) سورة الرعد الآية 15
(3) انظر: التفسير الكبير للرازي 19 \ 30، 29، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9 \ 302.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9 \ 302.
(71/141)
وفي قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1)
من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن التي تختص بالعقلاء مع كون غيرهم أيضا كذلك، لأنهم العمدة، وانقيادهم دليل على انقياد غيرهم، والتعبير بمن للتغليب (2) .
{وَظِلَالُهُمْ} (3) أي وتسجد ظلالهم، جمع ظل، وهو ما ستره الشيء عن شعاع الشمس، يقصر مرة ويمتد أخرى (4) .
وسجود الظلال له معنيان:
الأول: السجود حقيقة، بمعنى الميلان والانحناء (5) . كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (6) . قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره (7) . قال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت (8) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 15
(2) انظر: روح المعاني للألوسي 13 \ 126.
(3) سورة الرعد الآية 15
(4) انظر غرائب التفسيرات للكرماني 1 \ 565.
(5) انظر: معاني القرآن للفراء 2 \ 61، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9 \ 302.
(6) سورة النحل الآية 48
(7) تفسير الطبري 16 \ 404.
(8) الجامع لأحكام القرآن 9 \ 302. وفتح القدير للشوكاني 3 \ 73.
(71/142)
الثاني: سجود الانقياد والخضوع لمشيئة الله وسننه ونوامسه الكونية (1) وكلا المعنيين صحيح.
والغدو: أول النهار (2) . والآصال: جمع أصل، والأصيل: هو العشي، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس (3) .
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - أن يضع المسلم نفسه مع من يسجد لله طوعا باختياره بإيقاع السجود لله تعالى، وهو اعتراف بالفعل بعبودية الله عز وجل (4) .
__________
(1) انظر: الكشاف للزمخشري 2 \ 284.
(2) مفردات ألفاظ القرآن 603.
(3) تفسير الطبري 16 \ 405.
(4) انظر: تفسير التحرير والتنوير 13 \ 113.
(71/143)
المبحث الثالث: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُون} (1) {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (2) {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3) .
صلة الآيات لما قبلها: لما ذكر الله عز وجل حال الذين مكروا السيئات في صدودهم عن ربهم وإعراضهم عنه وعدم
__________
(1) سورة النحل الآية 48
(2) سورة النحل الآية 49
(3) سورة النحل الآية 50
(71/143)
طاعتهم له مع قدرته عليهم، لكنه أمهلهم رحمة بهم، ذكر عز وجل حال الجمادات والدواب في عبادتها لربها وحال الملائكة في خوفهم من ربهم وطاعتهم له وشتان بين الحالين (1) .
قرأ حمزة والكسائي وخلف: {أَوَلَمْ يَرَوْا} (2) بالتاء، على أنه خطاب لجميع الناس. وقرأ عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة {أَوَلَمْ يَرَوْا} (3) بالياء، على الخبر عن اللذين مكروا السيئات (4) .
وفي الآية لفت الأنظار إلى ما خلق الله من كل شيء، يتفيأ ظلاله، أي ترجع وتتمايل ظلاله من حال إلى حال، فهو أول النهار على حال، ثم يتقلص، ويعود إلى حال أخرى في آخر النهار (5) . وهذه الظلال تتمايل عن اليمين والشمال، قال قتادة: أما اليمين: فأول النهار. وأما الشمال: فآخر النهار (6) . وقيل عن اليمين والشمائل: أن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظل إذ يكون عن يمين الشخص مرة وعن شماله
__________
(1) انظر: تفسير الطبري 14 \ 114، ونظم الدرر للبقاعي 11 \ 172.
(2) سورة النحل الآية 48
(3) سورة النحل الآية 48
(4) انظر: تفسير الطبري 14 \ 114، ورجح القراءة بالياء، والجامع لأحكام القرآن 10 \ 111.
(5) انظر: تفسير الطبري 4 \ 114، ومفردات ألفاظ القرآن 650.
(6) تفسير الطبري 4 \ 115.
(71/144)
أخرى، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها، وليس المراد خصوص اليمين والشمال، بل كذلك الأمام والخلف، فاختصر الكلام (1) .
وإفراد اليمين وجمع الشمال تفنن في الكلام (2) ، وكانت العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (3) وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} (4) . ويمكن أن يقال وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (5) (6) .
وفي قوله تعالى: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (7) ، قد مر في الآية التي قبلها سجود الظلال وكيف هو، والدخور: الصغار والذل، يقال: أدخرته فدخر، أي أذللته فذل (8) .
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير 14 \ 169. وانظر: غرائب التفسير للكرماني 1 \ 606.
(2) انظر: تفسير التحرير والتنوير 14 \ 169.
(3) سورة الأنعام الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 7
(5) سورة القمر الآية 45
(6) انظر: التفسير الكبير للرازي 20 \ 42، 41.
(7) سورة النحل الآية 48
(8) انظر: الجامع لأحكام القرآن 10 \ 111، ومفردات ألفاظ القرآن 309.
(71/145)
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) .
الدابة: اسم لما دب ومشى على الأرض (2) . كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (3) ، قال الراغب الأصفهاني: والأولى إجراؤها على العموم (4) . وسجود الملائكة مر معنا في سورة الأعراف عند الآية [206] .
قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (5) . خوف إجلال وكبرياء لله عز وجل، وكلما كانت معرفة الله تعالى أتم، كان الخوف منه أعظم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (6) .
وفي الحديث: «أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له (7) » . وهذا من كمال معرفته صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل.
__________
(1) سورة النحل الآية 49
(2) انظر: لسان العرب 2 \ 1312، مادة دبب.
(3) سورة فاطر الآية 45
(4) مفردات ألفاظ القرآن 306، وانظر: الكشاف للزمخشري 2 \ 331.
(5) سورة النحل الآية 50
(6) سورة فاطر الآية 28
(7) فتح الباري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9 \ 104، ومسلم، كتاب الصيام، الحديث 74، 2 \ 779.
(71/146)
وفي سنن الدرامي أن موسى عليه السلام قال: يا رب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي (1) .
وفي قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (2) إثبات لصفة العلو لله عز وجل.
كقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (3) {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) الآية.
وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (5) الآية.
قال ابن خزيمة رحمه الله: باب ذكر سنن النبي صلى الله عليه وسلم المثبتة أن الله جل وعلا فوق كل شيء، وأنه في السماء، كما أعلمنا في وحيه، وعلى لسان نبيه، إذ لا تكون سنته أبدا المنقولة عنه بنقل العدل عن العدل موصولا إليه إلا موافقة لكتاب الله لا مخالفة له (6) .
قوله: ويفعلون ما يؤمرون وهذا من كمال طاعة ملائكة الله الكرام لربها عز وجل.
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - أن المؤمن يسجد
__________
(1) سنن الدرامي، المقدمة، باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله 1 \ 102.
(2) سورة النحل الآية 50
(3) سورة المعارج الآية 3
(4) سورة المعارج الآية 4
(5) سورة الملك الآية 16
(6) كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل 1 \ 265. وانظر: تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل 6 \ 114.
(71/147)
عند هذه الآية تأسيا بملائكة الله الكرام، ومشابهة لمن يسجد لله عز وجل في هذا الكون الفسيح اعترافا بأحقيته وقهره عز وجل (1) .
__________
(1) انظر: تفسير التحرير والتنوير 14 \ 171.
(71/148)
المبحث الرابع: قال الله عز وجل: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} (1) {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (2) {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (3) .
صلة الآية بما قبلها: يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعاندين المكذبين من كفار مكة ممن طلبوا الآيات والمعجزات حتى يؤمنوا وهم يرون هذا الكتاب الحق وما فيه من الحق الذي لا يمارون فيه، قل لهم على سبيل التهديد والوعيد والاستغناء عنهم وعن إيمانهم {آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} (4) فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرون تعظيما له وتكريما (5) .
والهاء في قوله {مِنْ قَبْلِهِ} (6) يعود على القرآن، والذين
__________
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2) سورة الإسراء الآية 108
(3) سورة الإسراء الآية 109
(4) سورة الإسراء الآية 107
(5) انظر: تفسير الطبري 15 \ 180، وفتح القدير 3 \ 264.
(6) سورة الإسراء الآية 107
(71/148)
أوتوا العلم من قبل نزول القرآن هم مؤمنوا أهل الكتاب ممن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم من مثل ورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي. . وغيرهم.
ووصف الله عز وجل حال المؤمنين بالقرآن الكريم من مؤمني أهل الكتاب وسرعة استجابتهم وتأثرهم بالقرآن بقوله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (1) والخرير: سقوط يسمع منه صوت (2) قال ابن الجوزي: اللام ها هنا بمعنى (على) . قال ابن عباس: قوله: {لِلأَذْقَانِ} (3) أي للوجوه (4) قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم. إنما يخر
__________
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2) انظر: مفردات ألفاظ القرآن 277.
(3) سورة الإسراء الآية 107
(4) انظر: تفسير الطبري 15 \ 180، والدر المنثور للسيوطي 5 \ 346.
(71/149)
لوجهه، والذقن: مجتمع اللحيين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يخر، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال: {لِلأَذْقَانِ} (1) . ويجوز أن يكون المعنى: يخرون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل، وبالنوع من الجنس. أ. هـ (2) .
ويقولون في هذا السجود: سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وفيه تنزيه لله عز وجل وتعظيم له (3) ، وفي قوله {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (4) أي بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب؛ لأن الوعد ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد.
وعطفت {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} (5) على {وَيَخِرُّونَ} (6) للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع، والقول الدال على التنزيه والتعظيم (7) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2) زاد المسير 5 \ 97، 98.
(3) انظر: التفسير الكبير 21 \ 69، وفتح التقدير 3 \ 264.
(4) سورة الإسراء الآية 108
(5) سورة الإسراء الآية 108
(6) سورة الإسراء الآية 109
(7) تفسير التحرير والتنوير 15 \ 234.
(71/150)
وقوله عز وجل: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} (1) كرر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السبب، فإن الأول: لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه. والثاني: للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم، ولهذا قال: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (2) أي سماع القرآن خشوعا أي لين قلب ورطوبة عين (3) .
روى الدارمي والطبري عن أبي محمد عبد الأعلى التميمي قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه؛ لأن الله نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (4) الآيتين (5) .
وقال القرطبي عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (6) هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل (7) .
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - اقتداء بأولئك الساجدين، بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع
__________
(1) سورة الإسراء الآية 109
(2) سورة الإسراء الآية 109
(3) فتح القدير 3 \ 264.
(4) سورة الإسراء الآية 107
(5) سنن الدارمي، المقدمة باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله 10 \ 88. وتفسير الطبري 15 \ 181-182.
(6) سورة الإسراء الآية 107
(7) الجامع لأحكام القرآن 10 \ 341.
(71/151)
القرآن إلا وهو أولى بالسجود عند تلاوة القرآن (1)
__________
(1) انظر تفسير التحرير والتنوير 15 \ 235.
(71/152)
المبحث الخامس: قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل الأنبياء في هذه السورة وعددهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس - عليهم السلام - جميعا. وأثني على كل واحد منهم بما يخصه من الثناء، ثم جمعهم آخرا (2) فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (3) فاسم الإشارة أولئك يشير إلى المذكورين في السورة الكريمة، وما فيه من معنى البعد للإشارة بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل (4) .
وأنعم الله عليهم بنعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة.
وقوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} (5)
__________
(1) سورة مريم الآية 58
(2) انظر التفسير الكبير 21 \ 233، والتفسير الواضح، للدكتور حجازي 2 \ 12
(3) سورة مريم الآية 58
(4) انظر: تفسير أبي السعود 5 \ 271، وروح المعاني 16 \ 107.
(5) سورة مريم الآية 58
(71/152)
ومن في قوله: من النبيين للبيان؛ لأن جميع الأنبياء منعم عليهم، ومن الثانية للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم، لقربه منه (1) .
قال السدي في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (2) قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم. أما من ذرية آدم: فإدريس ونوح، وأما من حمل مع نوح: فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب. وأما ذرية إسرائيل: فموسى وهارون وزكريا، ويحيى وعيسى (3) .
وقوله تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} (4) أي وهم من جملة من هديناهم للحق والدين الصحيح، واجتبيناهم واصطفيناهم للنبوة والكرامة (5) .
__________
(1) انظر: البحر المحيط 7 \ 276، 277. وتفسير القرآن العظيم 5 \ 237. وأضواء البيان 4 \ 305.
(2) سورة مريم الآية 58
(3) الدر المنثور، للسيوطي 5 \ 525.
(4) سورة مريم الآية 58
(5) انظر: تفسير أبي السعود 5 \ 271.
(71/153)
وقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1)
تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء، فبين تعالى أنهم من نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله عز وجل يخرون سجدا وبكيا خضوعا وخشوعا وحذرا وخوفا. والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم (2) وفي إضافة الآيات إلى اسمه: الرحمن دلالة على أن آياته من رحمته بعباده، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق، وبصرهم من العمى، وأنقذهم من الضلالة، وعلمهم من الجهالة (3) .
والبكي: جمع باك (4) ؛ ولهذا ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ سورة مريم فسجد، ثم قال: هذا السجود فأين البكاء؟ (5) .
والحكمة من السجود - والله أعلم - اقتداء بأولئك الأنبياء عليهم السلام حيث سجدوا عند تلاوة آيات الله التي أنزلت
__________
(1) سورة مريم الآية 58
(2) انظر: التفسير الكبير 21 \ 234.
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5 \ 120.
(4) انظر: تفسير الطبري 16 \ 98، وتفسير القرآن العظيم 5 \ 238.
(5) تفسير الطبري 16 \ 98، والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب 534.
(71/154)
عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا، وأثنت على سجودهم قصدا للتشبه بهم (1)
__________
(1) انظر: تفسير التحرير والتنوير 16 \ 133، 134.
(71/155)
المبحث السادس: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2) ، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (3) ذكر بعدها طوائف الناس من المؤمنين واليهود والصابئين والنصارى والمجوس والمشركين وأنه عز وجل يفصل بينهم، ثم ذكر بعد ذكر طوائف الناس سجود كل شيء في السماوات والأرض لله عز وجل لا يخرج عن هذا السجود إلا من أهان الله ولم يرد هدايته وكتب عليه العذاب من طوائف الناس سابقة الذكر (4) .
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} (5) الرؤية هنا هي الرؤية القلبية لا البصرية، أي ألم تعلم (6) ....، وسجود من في السماوات
__________
(1) سورة الحج الآية 18
(2) سورة الحج الآية 14
(3) سورة الحج الآية 16
(4) انظر: البحر المحيط 7 \ 493. وتفسير المراغي 17 \ 100.
(5) سورة الحج الآية 18
(6) انظر تفسير الطبري 17 \ 130، وفتح القدير 3 \ 443.
(71/155)
ومن في الأرض لله هو سجود حقيقة وانقياد وطاعة، والدليل على أنه سجود حقيقة أن الله عز وجل وصف به كثير من الناس (1) ، فلو كان السجود سجود الانقياد والتسخير لأمر الله الكوني فقط لكان كل الناس يسجدون لله عز وجل لأنهم كلهم مربوبون لله منقادون لمشيئته الكونية، وسجود هذه المخلوقات لله عز وجل نجهل نحن كيفيته، لكننا نؤمن به لإخبار ربنا عز وجل عنه، وفي التنزيل الحكيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (2) ، وقال عز من قائل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (3) فإذا كنا لا نعلم كيفية صلاة وتسبيح هذه الأشياء فكذلك لا نعلم كيفية سجود من في السماوات ومن في الأرض لكننا نؤمن بهذا السجود وإن لم نعلم كيفيته.
وورد في صحيح السنة عن سجود الشمس ما رواه أبو ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوما: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة
__________
(1) انظر: تفسير الطبري 17 \ 130، وتفسير القرآن العظيم 5 \ 398.
(2) سورة النور الآية 41
(3) سورة الإسراء الآية 44
(71/156)
فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي. ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها. ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة. . . (1) » الحديث.
والذي يريد أن يعرف كنه كل شيء بعقله القاصر، لا يمكن أن يستوعب فهم هذا الحديث وهو يعلم يقينا أن هذه الشمس إذا غربت في مكان فهي طالعة في مكان آخر، وهكذا هي. فكيف تسجد تحت العرش؟ .
لكن المؤمن بقدرة الله على كل شيء وأن الله عز وجل خلق كل شيء وهداه إلى سنن ونواميس خاصة به لا تشاركه فيها كثير من المخلوقات، يؤمن يقينا بسجود الشمس وغيرها من المخلوقات على الصفة الخاصة بها في علم الله -عز وجل - لكننا لا نعرف هذه الكيفية والصفة.
قال النووي: وأما سجود الشمس فهو بتميز وإدراك بخلق الله تعالى فيها (2) وقال ابن العربي: أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن (3) وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا
__________
(1) فتح الباري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر 6 \ 297. ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان 1 \ 137.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 2 \ 197.
(3) فتح الباري 6 \ 299.
(71/157)
يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين (1) .
قوله: {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (2) والذين في السماوات مما نعلم الملائكة ومن في الأرض عام في كل من في الأرض من العوالم التي نعرف والتي لا نعرف، ولا يشذ عن هذا العموم إلا من أشرك أو كفر من البشر أو الجن ممن حق عليهم العذاب، وأراد الله له الهوان.
قوله: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (3) والشمس والقمر والنجوم في السماء والجبال والشجر والدواب في الأرض (4) ، وأفرد هذه المخلوقات بالذكر مع كونها داخلة تحت من في السماوات ومن في الأرض لكونها من أكثر ما عبد من دون الله عز وجل مع أنها مربوبة خاضعة ساجدة لله (5) فالشمس عبدتها حمير، وعبد القمر كنانة، وعبد بعض النجوم تميم ولخم وقريش وطي وأسد وغيرهم، وعبد كثير من
__________
(1) تفسير الطبري 17 \ 130، والدر المنثور، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، 6 \ 18.
(2) سورة الحج الآية 18
(3) سورة الحج الآية 18
(4) انظر: تفسير الطبري 17 \ 130.
(5) انظر: نظم الدرر 13 \ 26.
(71/158)
المشركين الأصنام المنحوتة من الجبال والشجر وعبدت البقرة وبعض الدواب كما يفعل الهندوس وغيرهم.
قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (1) أي وكثير من الناس يسجد لله طائعا مختارا متذللا لخالقه ومولاه عز وجل، وهم المؤمنون بالله (2) .
قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (3) معني بها من ترك السجود لله، أي حق عليهم العذاب بسبب عدم سجودهم وطاعتهم لله عز وجل، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار وبئس المصير (4) .
قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (5) ؛ لأن من كفر بالله العظيم استحق العذاب المهين كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (6) وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (7) .....، ومن استحق العذاب المهين فهو مهان، ومن أهان الله فلن تجد من يكرمه وينصره من دون الله {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} (8) {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (9)
__________
(1) سورة الحج الآية 18
(2) انظر: تفسير الطبري 17 \ 130.
(3) سورة الحج الآية 18
(4) انظر التحرير والتنوير 17 \ 227.
(5) سورة الحج الآية 18
(6) سورة آل عمران الآية 178
(7) سورة النساء الآية 37
(8) سورة الكهف الآية 43
(9) سورة الكهف الآية 44
(71/159)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1) أي أن الله يفعل في خلقه ما يشاء من مثل إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد كرامته؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، والحكم حكمه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2) (3) نسأل الله عز وجل أن يكرمنا بمنه وفضله ورحمته.
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - طاعة لله عز وجل وتأسيا بأكرم خلق الله، ومخالفة لمن أراد الله لهم الهوان بإعراضهم عن السجود لله فاستحقوا العذاب المهين، جزاء فعلهم المشين.
__________
(1) سورة الحج الآية 18
(2) سورة الأنبياء الآية 23
(3) انظر: تفسير الطبري 17 \ 131.
(71/160)
المبحث السابع: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر سبحانه ضعف من عبد من دون الله، وأن الله هو القوي العزيز (2) ، والإله الحق الذي له الملك والأمر، ومن أمره إرسال الرسل إلى خلقه ليبينوا لهم طريق العبادة
__________
(1) سورة الحج الآية 77
(2) كما في قوله تعالى: '' يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له '' الآيات، 73-76.
(71/160)
وسبيل الفلاح (1) .
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (2) أمر بإقامة الصلاة المفروضة، والركوع والسجود خصهما هنا؛ لأنهما أعظم أركان الصلاة وفيهما كمال الخضوع والعبودية لله (3) .
قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (4) بخضوعكم له وطاعة أوامره (5) قال الراغب: العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل. ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى (6) .
قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (7) أمر بإسداء الخير إلى الناس (8) ، قال أبو حيان: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (9) قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولا بالصلاة، وهو نوع من العبادة، وثانيا بالعبادة وهي نوع من فعل الخير، وثالثا بفعل الخير وهو أعم من العبادة، فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم (10) .
قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (11) أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح (12) ، وهو الظفر وإدراك البغية في الدنيا والآخرة (13) .
__________
(1) انظر: البحر المحيط 7 \ 539، ونظم الدرر 13 \ 99.
(2) سورة الحج الآية 77
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن 12 \ 98، والتحرير والتنوير 17 \ 346.
(4) سورة الحج الآية 77
(5) انظر: تفسير الطبري 17 \ 204.
(6) مفردات ألفاظ القرآن 542.
(7) سورة الحج الآية 77
(8) انظر: التحرير والتنوير 17 \ 346.
(9) سورة الحج الآية 77
(10) انظر: البحر المحيط 7 \ 539.
(11) سورة الحج الآية 77
(12) انظر: فتح القدير 3 \ 470.
(13) انظر: مفردات ألفاظ القرآن 644.
(71/161)
قال أبو القاسم الأنصاري: لعل كلمة للترجية، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله تعالى، والعواقب أيضا مستورة (1) .
وأما ما يستلزمه الرجاء من تردد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تحيل الشك على الله تعالى (2) .
والسجود المذكور في هذه الآية هو سجود الصلاة لا سجود التلاوة، ومع ذلك يشرع سجود التلاوة هنا لما ورد في الأحاديث والآثار، من ذلك ما رواه عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: «قلت: يا رسول الله، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم. فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما (3) » وعن أبي الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج، وهو بالجابية، وقال: إن هذه فضلت بسجدتين.
قال ابن القيم: فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع من كونها سجدة، بل تؤكدها وتقويها. يوضحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان: إخبار، وأمر. فالإخبار خبر من الله تعالى عن
__________
(1) التفسير الكبير 23 \ 72، 71.
(2) التحرير والتنوير 17 \ 346.
(3) مسند الإمام أحمد 4 \ 151، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن 2 \ 120، 121.
(71/162)
سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا، فسن للتالي والسامع وجوبا أو استحبابا أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها. وآيات الأوامر بطريق الأولى. وهذا لا فرق فيه بين أمر وأمر، فكيف يكون الأمر بقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (1) مقتضيا للسجود دون الأمر بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (2) فالساجد إما متشبه بمن أخبر عنه، أو ممتثل لما أمر به، وعلى التقديرين يسن له السجود في آخر الحج كما يسن له السجود في أولها، فلما سوت السنة بينهما سوى القياس الصحيح والاعتبار الحق بينهما، وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات واستماعها، وقربة إليه، وخضوعا لعظمته، وتذللا بين يديه، واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكد ذلك ويقويه لا يضعفه ويوهيه. والله المستعان (3)
__________
(1) سورة النجم الآية 62
(2) سورة الحج الآية 77
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2 \ 408، 409.
(71/163)
المبحث الثامن: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر بعض صفاته العظيمة من الحياة والخلق وغيرهما ختم ذلك بقوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (2) ثم أمر تبارك وتعالى بالسجود والخضوع والإذعان له وحده لا
__________
(1) سورة الفرقان الآية 60
(2) سورة الفرقان الآية 59
(71/163)
شريك له.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} (1) أي إذا قيل للمشركين الذين يعبدون ويخضعون لغير الله (2) {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} (3) أي اعبدوا الله واخضعوا له وحده لا شريك له، وعبر بالسجود عن العبادة لأنه رمز الخضوع والتذلل ومن سجد فقد عبد (4) .
قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (5) منكرين له (6) ، قال الماوردي: فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العرب لم تكن تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى، وكان مأخوذا من الكتاب، فلما دعوا إلى السجود لله تعالى بهذا الاسم سألوا عنه مسألة الجاهل به فقالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} (7)
الثاني: أن مسيلمة الكذاب كان يسمى الرحمن، فلما سمعوا هذا الاسم في القرآن حسبوه مسيلمة، فأنكروا ما دعوا إليه من السجود له.
والثالث: أن هذا قول قوم كانوا يجحدون التوحيد، ولا يقرون بالله تعالى، فلما أمروا أن يسجدوا للرحمن ازدادوا نفورا مع هواهم بما دعوا إليه من الإيمان (8) .
والأقرب من هذه الأقوال القول الثالث، لأن ادعاء أن العرب
__________
(1) سورة الفرقان الآية 60
(2) انظر: تفسير ابن كثير 6 \ 129.
(3) سورة الفرقان الآية 60
(4) انظر: التحرير والتنوير 19 \ 62.
(5) سورة الفرقان الآية 60
(6) الجامع لأحكام القرآن 7 \ 64.
(7) سورة الفرقان الآية 60
(8) انظر النكت والعيون 4 \ 152، 153، وانظر: التفسير الكبير 23 \ 105.
(71/164)
لا تعرف اسم الرحمن غير مسلم به (1) ، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2) ، وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ} (3) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (4) .
وأما ذكر أن مسيلمة كان يسمى رحمن اليمامة، فهذا بعد ظهور الإسلام في مدة الردة (5) .
قال الشيخ الشنقيطي: وقد قدمنا أيضا أنهم يعلمون أن الرحمن هو الله، وأن تجاهلهم له تجاهل عارف (6) .
قوله تعالى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} (7) قرأ عامة قراء المدينة والبصرة بتاء المخاطبة بمعنى: أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له. وقرأ عامة قراء الكوفة بالياء (8) ، أي أنسجد لما يأمرنا به محمد (9) وهذا الاستفهام للإنكار والامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له (10) .
قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (11) قال ابن جرير الطبري:
__________
(1) انظر النكت والعيون 4 \ 153، وأضواء البيان 6 \ 345.
(2) سورة الإسراء الآية 110
(3) سورة الرحمن الآية 1
(4) سورة الرحمن الآية 2
(5) انظر: التحرير والتنوير 19 \ 62.
(6) أضواء البيان 6 \ 345.
(7) سورة الفرقان الآية 60
(8) انظر: تفسير الطبري 19 \ 28، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد 466.
(9) انظر: الجامع لأحكام القرآن 13 \ 64.
(10) انظر: التحرير والتنوير 19 \ 62، 63.
(11) سورة الفرقان الآية 60
(71/165)
وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا (1) .
وفي قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (2) دليل على أن هناك نفورا سابقا من الإيمان والإذعان قبل سماع اسم الرحمن (3) .
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمن، وفي المخالفة للمشركين بالفعل مبالغة في المخالفة لهم (4)
__________
(1) تفسير الطبري 19 \ 29.
(2) سورة الفرقان الآية 60
(3) انظر: التحرير والتنوير 19 \ 63.
(4) انظر: التحرير والتنوير 19 \ 63.
(71/166)
المبحث التاسع: قال تعالى: {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (1) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) .
صلة الآية بما قبلها: هذا من تتمة قول الهدهد لنبي الله سليمان - عليه السلام - عن حال قوم سبأ في عبادتهم الشمس من دون الله تعالى، كما قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (3) {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} (4)
__________
(1) سورة النمل الآية 25
(2) سورة النمل الآية 26
(3) سورة النمل الآية 22
(4) سورة النمل الآية 23
(71/166)
الآيات.
قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} (1) قرأ أكثر القراء بالتشديد على معنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، أي: فصدهم لئلا يسجدوا. وقرأ الكسائي وغيره {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} (2) مخففة على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فيضمر هؤلاء.
قوله تعالى: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) الخبء: المستتر، وهو من خبأت الشيء: إذا أخفيته، والمخبوء في السماوات والأرض مثل المطر والنبات والأقوات والأرزاق وغيرها (4) .
قال ابن كثير: وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي جعل لله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره، من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض ودواخلها.
__________
(1) سورة النمل الآية 25
(2) سورة النمل الآية 25
(3) سورة النمل الآية 25
(4) انظر: تفسير الطبري 19 \ 150، وتفسير أبي السعود 5 \ 282.
(71/167)
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (1) أي يعلم ما يخفيه العباد، وما يعلنونه من النيات والأقوال والأفعال وغيرها (2) وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (3) وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (4) .
وقال حكاية عن خليله إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (5) .
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (6) أي: لا معبود بحق إلا الله عز وجل، ولا تصلح العبادة إلا له (7) .
قال ابن رجب: وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: لا إله إلا الله، يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله هو الذي يطاع
__________
(1) سورة النمل الآية 25
(2) انظر: تفسير الطبري 19 \ 150، وتفسير القرآن العظيم 6 \ 198.
(3) سورة البقرة الآية 77
(4) سورة الأنعام الآية 3
(5) سورة إبراهيم الآية 38
(6) سورة النمل الآية 26
(7) انظر: تفسير الطبري 19 \ 150، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن 18، 19.
(71/168)
فلا يعصى هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل (1) .
قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) في هذه الآية تعريض بأن عظمة عرش ملكة سبأ لا تقارب عظمة عرش الرحمن ولا تدانيها، ففرق بين عرش المخلوق وعرش الخالق، ومهما قيل عن عظمة عرش ملكة سبأ (3) فهو لا شيء بالنسبة لعرش الرحمن جل جلاله وتقدست أسماؤه (4) ، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (5) قال ابن كثير: ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له نهي عن قتله، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد (6) »
__________
(1) كلمة الإخلاص وتحقيق معناها 23.
(2) سورة النمل الآية 26
(3) انظر: زاد المسير 6 \ 165.
(4) انظر: التحرير والتنوير 19 \ 255.
(5) سورة البقرة الآية 255
(6) الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3 \ 21.
(71/169)
وإسناده صحيح (1) .
والسجود هنا مشروع على كلا القراءتين فهي إما أمر بالسجود على قراءة التخفيف {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} (2) أو ذم للتارك على قراءة التشديد {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} (3)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 6 \ 198.
(2) سورة النمل الآية 25
(3) سورة النمل الآية 25
(71/170)
المبحث العاشر: قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل الكافرين بآياته وما أعد لهم من العذاب كما في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (2) الآيات، ذكر المؤمنين بها، ووصفهم، وما أعد الله لهم من الثواب.
__________
(1) سورة السجدة الآية 15
(2) سورة السجدة الآية 12
(71/170)
قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} (1) قصرت الآية المؤمنين بآيات الله حقا من اتصف بما ذكرته من خصال ثلاث: الأولى: الخرور سجدا إذا ذكروا بآيات الله. الثانية: التسبيح بحمد الله. الثالثة: عدم الاستكبار. والتذكير بآيات الله بإعادة ذكرها عليهم وتكرار تلاوتها على مسامعهم (2) .
قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا} (3) سبق معنى الخرور وهو السقوط الذي يسمع منه صوت كما في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (4) ، وهو تعبير عن الطاعة لله عز وجل، والتذلل لعظمته، وإقرار بالعبودية له.
قوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (5) سبق معنى التسبيح عند قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُونَهُ} (6) والحمد لله تعالى، قال
__________
(1) سورة السجدة الآية 15
(2) انظر: تفسير التحرير والتنوير 21 \ 227.
(3) سورة السجدة الآية 15
(4) سورة الإسراء الآية 107
(5) سورة السجدة الآية 15
(6) سورة الأعراف الآية 206
(71/171)
الراغب: الثناء عليه بالفضيلة. وقال الشيخ: ابن عثيمين: وقوله تبارك وتعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (1) أي سبح الله مصحوبا بالحمد، فالباء هنا للمصاحبة، وذلك لأنه إذا كان التسبيح مصحوبا بالحمد فإنه به يتحقق الكمال؛ لأن الكمال لا يتحقق إلا بانتفاء العيوب، وثبوت صفات الكمال، فانتفاء العيوب مأخوذ من قوله: سبحانك؛ لأن التسبيح معناه التنزيه عن كل نقص وعيب، وثبوت الكمال مأخوذ من قوله: وبحمدك؛ لأن الحمد هو وصف المحمود بالصفات الكاملة، وليس هو الثناء كما هو مشهور عند كثير من العلماء، وبعضهم يقول: بالجميل الاختياري وما أشبه ذلك، والدليل على ذلك الحديث القدسي، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين - يعني الفاتحة - فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي. فإذا قال: الرحمن الرحيم. قال أثنى علي عبدي (2) » ففرق بين الحمد والثناء. والمهم أن الإنسان إذا جمع بين التسبيح والحمد فقد جمع بين إثبات الكمال لله ونفي النقائص عنه (3) .
__________
(1) سورة النصر الآية 3
(2) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان، صحيح مسلم 1 \ 296.
(3) شرح رياض الصالحين 3 \ 175، 176.
(71/172)
قوله تعالى: وهم لا يستكبرون وهذه هي الخصلة الثالثة للمؤمنين بآيات الله، وهي عدم الاستكبار، وقد سبق معنى الكبر والكلام عليه عند قوله تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 206
(71/173)
المبحث الحادي عشر: قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (1) .
صلة الآية بما قبلها: هذه الآية جزء من قصة نبي الله داود - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم - إذ تسور عليه خصمان محل عبادته ليحكم بينهما وهي قصة واضحة لا تحتاج إلى بيان، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (2) {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} (3) {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (4) {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ} (5) .
قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} (6)
__________
(1) سورة ص الآية 24
(2) سورة ص الآية 21
(3) سورة ص الآية 22
(4) سورة ص الآية 23
(5) سورة ص الآية 24
(6) سورة ص الآية 24
(71/173)
هذا حكم نبي الله داود - عليه السلام - في هذه الحادثة، فصاحب النعاج الكثيرة ظلم أخاه الذي لا يملك إلا نعجة واحدة، ظلمه بسؤال ضم نعجته إلى نعاجه.
والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو من الجور ومجاوزة الحد (1) .
النعجة: هي الأنثى من الضأن والظباء والبقر الوحشي، والجمع: نعاج ونعجات (2) .
قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (3) هذا الكلام من نبي الله داود - عليه السلام - أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير في انتهاز الفرص المناسبة للوعظ، فأراد داود - عليه السلام - أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين، وأن يكره إليهما الظلم والاعتداء (4) .
قال الراغب: ويقال للصديق والمجاور والشريك: خليط (5) .
وقال ابن جرير: وفي {مَا} (6) التي في قوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (7)
__________
(1) انظر: لسان العرب 4 \ 2756 مادة: ظلم.
(2) انظر: لسان العرب 6 \ 4471 مادة نعج.
(3) سورة ص الآية 24
(4) انظر: البحر المحيط 9 \ 150. وتفسير التحرير والتنوير 23 \ 236.
(5) مفردات ألفاظ القرآن 293.
(6) سورة ص الآية 24
(7) سورة ص الآية 24
(71/174)
وجهان: أحدهما: أن تكون صلة بمعنى: وقليل هم، فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يفسد الكلام. والآخر: أن تكون اسما، وهم صلة لها، بمعنى: وقليل ما تجدهم (1) .
قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (2) أي علم داود أنما فتناه (3) ، وقد اختلف المفسرون في الفتنة التي ابتلي بها نبي الله - عليه السلام - على أقوال منها:
أولا: ما ذكره بعض المفسرين عن بني إسرائيل من نظر نبي الله داود إلى زوجة أحد بني إسرائيل وتقديمه في الحروب ليقتل ويتزوج زوجته، في كلام كثير واختلافات متعددة (4) .
قال الشنقيطي رادا لهذا القول: واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب داود - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به ولا معول عليه، ما جاء منه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح منه شيء (5) .
ثانيا: ذكر أبو حيان أنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه، إذ كان
__________
(1) تفسير الطبري 23 \ 145.
(2) سورة ص الآية 24
(3) انظر: تفسير الطبري 23 \ 145، 146. والبحر المحيط 9 \ 150.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن 8 \ 166، 167، والدر المنثور 7 \ 155 - 160.
(5) أضواء البيان 7 \ 24.
(71/175)
منفردا في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم، كما قص الله تعالى، وأن داود - عليه السلام - ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنفاذ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنه، فاستغفر من ذلك الظن (1) .
ثالثا: من المفسرين من توقف، ووكل علم الفتنة التي فتن بها داود إلى الله عز وجل. قال ابن كثير: فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا (2) .
رابعا: أن الفتنة التي فتن بها داود تتعلق بالحكم بين الناس حيث حكم قبل أن يسمع كلام الآخر (3) ، كما قص القرآن الكريم ذلك، أو أنه اعتزل الناس، وهو الحاكم والناس محتاجون له، أو أنه حكم في حال الفزع، وكلها آداب تتعلق بالحكم بين الناس ونصت عليها الآيات من مثل قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} (4) وإن في التعقيب على
__________
(1) البحر المحيط 7 \ 151.
(2) تفسير القرآن العظيم 7 \ 51.
(3) انظر: فتح القدير 4 \ 427، وفي ظلال القرآن 5 \ 3018.
(4) سورة ص الآية 22
(71/176)
هذه القصة ما يشعر بقوة هذا القول حيث يقول تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} (1) الآية (2) .
قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (3) وهذه سنة الأنبياء وصفة الأولياء في كثرة الاستغفار والإنابة إلى العزيز الغفار. قال سبحانه حكاية عن آدم وحواء عليهما السلام: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) .
وقال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (5) .
وقال سبحانه عن موسى - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (6) .
وقال تعالى لمحمد - عليه الصلاة والسلام -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (7) .
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) انظر: في ظلال القرآن 5 \ 3018.
(3) سورة ص الآية 24
(4) سورة الأعراف الآية 23
(5) سورة الشعراء الآية 82
(6) سورة القصص الآية 16
(7) سورة محمد الآية 19
(71/177)
قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا} (1) قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن الركوع ها هنا السجود؛ لأنه أخوه إذ كل ركوع سجود، وكل سجود ركوع، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدل على الآخر، فسمى السجود ركوعا (2) ويؤيد أن الركوع هنا هو السجود لفظ الخرور (3) .
والإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل (4) .
وفي السجود ها هنا اقتداء بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث سجد هنا مقتديا بداود - عليه السلام - أخرج البخاري عن العوام بن حوشب قال: سألت مجاهدا عن سجدة ص. فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} (5) إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (6) فكان داود ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به، فسجدها داود فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7)
__________
(1) سورة ص الآية 24
(2) أحكام القرآن 4 \ 1639، 1640.
(3) انظر: فتاوى ابن تيمية 23 \ 151.
(4) انظر: مفردات ألفاظ القرآن 827.
(5) سورة الأنعام الآية 84
(6) سورة الأنعام الآية 90
(7) فتح الباري 8 \ 544.
(71/178)
المبحث الثاني عشر: قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (2) .
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إليه سبحانه، وذكر موقف الداعية من أعدائه من الإنس أو الجن ذكر سبحانه الآيات الدالة على وحدانيته وأنه المستحق للعبادة دون من سواه، وفي هذا توجيه للداعية في دعوته إلى الله جل جلاله وتقدست أسماؤه (3) .
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4) {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (5) {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (6) {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (7) {وَمِنْ آيَاتِهِ} (8) الآيات.
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (9)
__________
(1) سورة فصلت الآية 37
(2) سورة فصلت الآية 38
(3) انظر: التفسير الكبير 27 \ 128، والبحر المحيط 9 \ 307.
(4) سورة فصلت الآية 33
(5) سورة فصلت الآية 34
(6) سورة فصلت الآية 35
(7) سورة فصلت الآية 36
(8) سورة فصلت الآية 37
(9) سورة فصلت الآية 37
(71/179)
أي من آيات الله الدالة على وحدانيته وعظيم سلطانه واستحقاقه للعبادة دون من سواه: الليل والنهار والشمس والقمر لظهورهما لكل أحد، وعظيم خلقهما وانتفاع الناس بهما أيما انتفاع، وبتعاقبهما تعرف الأيام والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق، وأوقات العبادات والمعاملات (1) ، وذكر الليل قبل النهار لأنه الأصل السابق وهو الظلام، وقدم الشمس على القمر؛ لأن ضوء القمر مستمد من الشمس وهي الأكبر (2) .
قوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} (3) لأنهما مخلوقان من مخلوقات الله فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته (4) وخص الشمس والقمر؛ لأنهما مما عبدا من دون الله، ولأنهما الأصل في تعاقب الليل والنهار (5) .
قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} (6) أي: اعبدوه وحده؛ لأنه الخالق العظيم، ودعوا عبادة ما سواه من المخلوقات، وإن كبر جرمها، وكثرت مصالحها، فإن ذلك ليس منها، وإنما هو من خالقها، تبارك وتعالى (7) والضمير في قوله: خلقهن
__________
(1) تفسير الطبري 24 \ 121، وتفسير القرآن العظيم 7 \ 170.
(2) انظر: البحر المحيط 9 \ 307، وروح المعاني 24 \ 125.
(3) سورة فصلت الآية 37
(4) فتح القدير 4 \ 518.
(5) انظر: فتح البيان في مقاصد القرآن 12 \ 255.
(6) سورة فصلت الآية 37
(7) تيسير الكريم الرحمن 6 \ 579.
(71/180)
عائد على الآيات أي: خلق آياته (1) .
وقيل: عائد على الليل والنهار والشمس والقمر؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الإناث (2) .
قوله تعالى: إن كنتم إياه تعبدون قال ابن جرير: يقول: إن كنتم إياه تعبدون، وتذلون له بالطاعة، وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه.
قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (3) أي: فإن استكبر المشركون عن إفراد الله بالعبادة، وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره (4) ، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (5) مما نعلم الملائكة (6) ، وعندية الملائكة عند ربهم عندية ارتفاع وعلو، ومن لوازمها القرب والمكانة (7) .
قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (8)
__________
(1) انظر: تفسير كتاب الله العزيز 4 \ 84.
(2) انظر: الكشاف 3 \ 392.
(3) سورة فصلت الآية 38
(4) انظر: تفسير القرآن العظيم 7 \ 170.
(5) سورة فصلت الآية 38
(6) تفسير الطبري 24 \ 121.
(7) سبق الكلام عن العندية في موضع السجدة في سورة الأعراف، الآية 206.
(8) سورة فصلت الآية 38
(71/181)
وتسبيح الملائكة لربها عز وجل سبق الكلام عليه (1) ، وفي التنزيل الحكيم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (2) .
قوله تعالى: {لَا يَسْأَمُونَ} (3) قال ابن عباس - رضي الله عنه -: لا يملون ولا يفترون (4) واختلف أهل العلم في موضع سجدة التلاوة: هل هو عند قوله تعالى: إن كنتم إياه تعبدون أو عند قوله تعالى في الآية التي بعدها: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (5)
قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق سعيد بن جبير - رضي الله عنه - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان يسجد بآخر الآيتين من حم السجدة، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يسجد الأولى منهما.
وقال القرطبي: واختلفوا في موضع السجود منها، فقال مالك: موضعه إن كنتم إياه تعبدون؛ لأنه متصل بالأمر، وكان علي وابن مسعود وغيرهم يسجدون عند قوله: تعبدون.
وقال ابن وهب والشافعي: موضعه {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (6) ؛ لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. وبه قال أبو حنيفة. وكان
__________
(1) انظر: موضع السجدة في سورة الأعراف، الآية 206.
(2) سورة الأنبياء الآية 20
(3) سورة فصلت الآية 38
(4) انظر: الدر المنثور7 \ 329.
(5) سورة فصلت الآية 38
(6) سورة فصلت الآية 38
(71/182)
ابن عباس يسجد عند قوله: {يَسْأَمُونَ} (1) وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي. . . إلى أن قال: قال ابن العربي: والأمر قريب (2)
__________
(1) سورة فصلت الآية 38
(2) الجامع لأحكام القرآن 8 \ 364، وانظر: كلام ابن العربي في أحكام القرآن 4 \ 1664.
(71/183)
المبحث الثالث عشر: قال تعالى {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (1) .
صلة الآية بما قبلها: لما وبخ الله جل جلاله المشركين على الاستهزاء بالقرآن، والضحك عند سماعه، والسخرية به، والغفلة عنه وعدم الانتفاع به، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله والعبادة له (2) فقال سبحانه: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} (3) {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} (4) {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (5) {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (6) .
قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} (7) الفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا كان الأمر من الكفار كذلك، فاسجدوا لله واعبدوا، فإنه المستحق لذلك منكم (8) .
وللمفسرين ثلاثة أقوال في المخاطب بهذا الأمر:
الأول: أنه خطاب لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم (9) .
__________
(1) سورة النجم الآية 62
(2) انظر: فتح القدير 5 \ 118.
(3) سورة النجم الآية 59
(4) سورة النجم الآية 60
(5) سورة النجم الآية 61
(6) سورة النجم الآية 62
(7) سورة النجم الآية 62
(8) انظر: فتح القدير 5 \ 118.
(9) انظر: تفسير الطبري 27 \ 84، والتفسير الكبير 29 \ 27.
(71/183)
الثاني: أنه التفات لخطاب المؤمنين خاصة بأن لا يسلكوا طريق الكافرين بالاستهزاء والغفلة بل يعبدوا الله وحده (1) .
الثالث: أنه خطاب للمشركين بأن يسلموا، وكنى بالسجود لأنه من الصلاة، والصلاة شعار الإسلام (2) .
والأقرب - والله أعلم - أنه خطاب للمؤمنين لأنهم هم المنتفعون المطيعون لأمر ربهم، ولذلك سجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند هذه الآية وسجد أتباعه من بعده. وفي البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم (3) »
وفي تفسير النسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد بهم (4) »
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم. . . (5)
__________
(1) انظر: التفسير الكبير 29 \ 27، وتفسير القرآن العظيم 7 \ 443.
(2) انظر: تفسير التحرير والتنوير 27 \ 161.
(3) وتتمة الحديث:. . . وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس - وحرر ابن رجب سجود غير المسلمين عند تفسير سورة الحج في كلام نفيس اختار فيه أن سبب سجود المشركين ما ألقاه الشيطان وتلاه. انظر: فتح الباري 8 \ 438 - 440.
(4) تفسير النسائي 2 \ 362.
(5) فتح الباري 8 \ 614.
(71/184)
ثم هل المقصود بهذا السجود: سجود التلاوة أو سجود الصلاة فعن ابن مسعود أنه سجود التلاوة (1) .
وعن مقاتل وابن جرير الطبري أنه سجود الفرض في الصلاة (2) .
والأقرب - والله أعلم - أن كلا القولين صحيح، وكلاهما فيه خضوع وطاعة لله عز وجل (3) .
قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا} (4) قال ابن جرير: وإياه فاعبدوا دون غيره، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، فأخلصوا له العبادة والسجود ولا تجعلوا له شريكا في عبادتكم إياه (5) .
وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا} (6) عدم ذكر لفظ الجلالة أو ما يشير إليه، إما لكونه معلوما، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله، لأن عبادة غير الله عز وجل ليست عبادة (7) .
وقد نقل عن بعض السلف عدم السجود في المفصل (8) من القرآن (9) ، والصحيح مشروعية السجود فيه لما ورد من فعل النبي
__________
(1) انظر: زاد المسير 8 \ 86.
(2) انظر: تفسير الطبري 27 \ 84. وزاد المسير 8 \ 86.
(3) انظر: تفسير التحرير والتنوير 27 \ 161.
(4) سورة النجم الآية 62
(5) تفسير الطبري 27 \ 84.
(6) سورة النجم الآية 62
(7) انظر: التفسير الكبير 29 \ 27.
(8) انظر الهامش رقم 1، صـ 112.
(9) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 6.
(71/185)
- صلى الله عليه وسلم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في و (3) »
قال ابن العربي قال علماؤنا - رضي الله عنهم -: لم يختلف قول مالك أن سجدة النجم ليست من عزائم القرآن. . . إلى أن قال: وقال أبو حنيفة والشافعي: هي من عزائم السجود. وهو الصحيح (4)
__________
(1) صحيح مسلم 1 \ 406.
(2) سورة الانشقاق الآية 1 (1) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
(3) سورة العلق الآية 1 (2) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
(4) أحكام القرآن 4 \ 1735.
(71/186)
المبحث الرابع عشر: قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (2) .
صلة الآية بما قبلها: لما أقسم الله عز وجل بالتغيرات والأحوال التي تحدث في بعض مخلوقاته في الكون مما يشاهده الناس من مثل حدوث الشفق الذي يسبقه النور ويعقبه الظلام، أو تمام القمر الذي تسبقه الولادة والزيادة ويعقبه النقص والأفول. وبعد القسم بهذه الأحوال المتغيرة في الكون أقسم سبحانه بتغير أحوال الخلق، وفي هذا دليل وتأكيد على صحة البعث والنشور، وصدق ما جاء به القرآن. وبعد هذه الأقسام منه سبحانه عقب باستفهام
__________
(1) سورة الانشقاق الآية 20
(2) سورة الانشقاق الآية 21
(71/186)
إنكاري عن سبب عدم إيمانهم وخضوعهم، مع ظهور الآيات والدلائل (1) .
قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} (2) {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (3) {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} (4) {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} (5) {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (6) .
قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (7) يعني: أي شيء يمنعهم من الإيمان بالبعث أو القرآن أو محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ما وضحت لهم الآيات، وقامت الدلالات وهو استفهام بمعنى الإنكار على المشركين عدم إيمانهم، وهذا إنما يحسن عند ظهور الحجة وزوال الشبهات، والأمر ها هنا كذلك.
قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (8) أي: أي مانع يمنعهم حال قراءة القرآن عليهم من السجود والخضوع لله رب العالمين.
واختلف المفسرون بالمقصود بالسجود ها هنا على أقوال:
فمنهم من قال: عني بالسجود هنا الصلاة المفروضة، روي
__________
(1) التفسير الكبير 31 \ 111. وروح المعاني 30 \ 83.
(2) سورة الانشقاق الآية 16
(3) سورة الانشقاق الآية 17
(4) سورة الانشقاق الآية 18
(5) سورة الانشقاق الآية 19
(6) سورة الانشقاق الآية 20
(7) سورة الانشقاق الآية 20
(8) سورة الانشقاق الآية 21
(71/187)
ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن وعطاء ومقاتل وغيرهم.
وقيل: بل المقصود بالسجود هنا الخضوع والاستسلام لله عز وجل، واختار هذا القول ابن جرير والقاضي أبو يعلى وغيرهما.
وقيل: المقصود بالسجود هنا هو سجود التلاوة المعروف، وفي هذه الآية سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والصحيح أن كل الأقوال صحيح وهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فمن صلى الصلاة المفروضة أو خضع لربه، أو سجد سجدة التلاوة فهو مطيع لله عابد لربه يبتغي رضوانه ويخاف من عقابه.
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - طاعة الله عز وجل وتأس برسوله - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة المشركين حيث لم يسجدوا عند سماع آيات الله تتلى عليهم ولم يخضعوا لربهم وخالقهم، وفي المخالفة للمشركين بالفعل مبالغة في المخالفة لهم (1)
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير19 \ 63.
(71/188)
الموضع الخامس عشر: قال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1) .
صلة الآية بما قبلها: أخرج النسائي في تفسيره عن ابن عباس
__________
(1) سورة العلق الآية 19
(71/188)
- رضي الله عنهما - قال: «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ والله إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني. فأنزل الله عز وجل: (3) » قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته الزبانية.
قال تعالى في شأن أبي جهل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} (4) {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (5) {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} (6) {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (7) {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (8) {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (9) {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (10) {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (11) {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} (12) {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (13) {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (14) .
قوله تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ} (15) وكلا: ردع لإبطال ما تضمنه قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} (16) أي: وليس بفاعل، وهذا تأكيد للتحدي والتعجيز (17) .
{لَا تُطِعْهُ} (18) فيما دعاك إليه أبو جهل من ترك الصلاة (19) .
__________
(1) تفسير النسائي 2 \ 535، 536. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 1 \ 368. والترمذي في جامعه: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة اقرأ باسم ربك 5 \ 443، 444. والواحدي في أسباب النزول 257. قال الهيثمي: في الصحيح بعضه. ورجال أحمد رجال الصحيح 7 \ 139.
(2) سورة العلق الآية 17 (1) {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}
(3) سورة العلق الآية 18 (2) {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}
(4) سورة العلق الآية 9
(5) سورة العلق الآية 10
(6) سورة العلق الآية 11
(7) سورة العلق الآية 12
(8) سورة العلق الآية 13
(9) سورة العلق الآية 14
(10) سورة العلق الآية 15
(11) سورة العلق الآية 16
(12) سورة العلق الآية 17
(13) سورة العلق الآية 18
(14) سورة العلق الآية 19
(15) سورة العلق الآية 19
(16) سورة العلق الآية 17
(17) تفسير التحرير والتنوير 30 \ 452.
(18) سورة العلق الآية 19
(19) انظر: الجامع لأحكام القرآن 20 \ 128.
(71/189)
قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1) والأقرب أن السجود المأمور به هنا هو سجود الصلاة لقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} (2) {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (3) .
واقترب أي: واجتهد يا محمد في القرب إلى الله بالصلاة (4) ، وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (5) »
وعن ثوبان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جواب عن أحب الأعمال إلى الله: «عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة (6) »
وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالسجود لأنه غاية العبودية والذل لله عز وجل، قال القرطبي: قال علماؤنا: وإنما كان ذلك لأنها نهاية العبودية والذل، ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها. . . إلى
__________
(1) سورة العلق الآية 19
(2) سورة العلق الآية 9
(3) سورة العلق الآية 10
(4) انظر: تفسير التحرير والتنوير 30 \ 452.
(5) صحيح مسلم. كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1 \ 350.
(6) صحيح مسلم. كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه 1 \ 353.
(71/190)
أن قال: ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها (1)
وقيل: {وَاقْتَرِبْ} (2) أي: واقترب يا أبا جهل من النار. والأول أولى (3) .
وفي قوله تعالى: واقترب تشريف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخصيصه بالقرب من الله عز وجل (4) .
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - التأسي برسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - حيث سجد في هذه السورة، وسجد معه أصحابه - رضي الله عنهم -، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في و (7) »
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 20 \ 128.
(2) سورة العلق الآية 19
(3) انظر: التفسير الكبير 32 \ 26، وفتح القدير 5 \ 470.
(4) انظر التفسير الكبير 32 \ 118، وأسرار ترتيب القرآن، للسيوطي 163.
(5) صحيح مسلم. كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة 1 \ 406.
(6) سورة الانشقاق الآية 1 (5) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
(7) سورة العلق الآية 1 (6) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
(71/191)
الخاتمة
وبعد هذه الوقفات مع أحكام سجدات القرآن وتوجيهاتها نستعرض في ختام المطاف أبرز النتائج والفوائد منها:
1 - السجود لله - عز وجل - من أشرف العبادات، وأجل
(71/191)
الطاعات، وأقصى علامات التذلل لفاطر الأرض والسماوات، بل أقرب ما يكون العبد الضعيف من الخالق العظيم حال السجود.
2 - سجدات القرآن التحقيق أنها خمسة عشر موضعا من كتاب الله - عز وجل - كما سبق.
3 - سجود التلاوة ليس صلاة ولا يشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة والقبلة وغيرهما لعدم ورود خبر بذلك، والأصل في العبادات التوقيف.
4 - ثبت من أذكار السجود ذكران هما: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين (1) » . و «اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عنى بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود (2) » .
5 - آيات السجود في القرآن على أقسام فهي: إما أمر بالسجود لله عز وجل، أو وصف لحال عباد الله الخاشعين الساجدين لله عز وجل، أو ذكر للمعرضين عن السجود لله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
6 - أشرف خلق الله عز وجل من الملائكة العظام والرسل الكرام والأولياء والصالحين لا يستكبرون عن السجود لله عز وجل
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (771) ، سنن الترمذي الدعوات (3423) ، سنن أبو داود الصلاة (760) ، مسند أحمد بن حنبل (1/95) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (579) .
(71/192)
والإذعان لعظمته والتقرب لرحمته.
7 - السجود لا يجوز أن يصرف إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لخلق من خلقه قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1)
__________
(1) سورة فصلت الآية 37
(71/193)
صفحة فارغة
(71/194)
تحصين الشباب من الغزو الفكري
لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . وبعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل مستمر، فالحق قد أبانه الله سبحانه، وأوضح القرآن الكريم معالمه التي يسترشد بها من أنار الله عقله، وفتح على بصيرته.
والباطل قد جعل الله على دربه أعوانا من شياطين الجن والإنس، يزينون للناس سلوكه، ويمهدون لهم حسن الاتباع؛ لأنه لا يحلو لهم إلا جذبهم إلى حمأة هذا الباطل بالغين في سبيل ذلك نهاية الغواية. يقول الله جل وعلا لرسوله الكريم، محذرا له، وأمته بالتبعية، من الركون لأهل الباطل، والانقياد لشبههم وأقوالهم، أو الاستماع لمعسول كلامهم؛ لما وراء ذلك من شرور وآفات، تباعد عن الحق الذي يوجه إليه داعي الهدى.
(71/195)
وذلك في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. من ذلك قوله جل وعلا في سورة الأنعام، ضمن آيات تحاور أهل الباطل وترد على شبهاتهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (1) . والشباب الذين قد تفتحت مداركهم على العلوم المختلفة، واستعدوا لتحمل المسئولية في الحياة، نحو أنفسهم ومن حولهم، ونحو دينهم وتوجيه أمتهم، يجب الاهتمام بهم، وإعانتهم على تخطي الصعاب المعترضة.
ذلك أن الشباب الذين هم الجوهرة الثمينة في جيد الأمة، والنجمة الساطعة في سمائها، هم في أمس الحاجة إلى النصح لهم، والمحافظة عليهم، ورعايتهم وتوجيههم، ضد الغزو الفكري، التي تتسع دائرته بين وقت وآخر، ويعرض بأساليب وشبهات.
ذلك الغزو الموجه من أعداء دينهم، الذين لا يريدون بهم خيرا، بل يثيرون الشكوك، حتى يباعدوا بينهم وبين دينهم بالشبهات، وقلب الحقائق. . في غزو فكري، يجعل بين الشباب، وبين تعاليم الإسلام، هوة سحيقة، ويجعلون بينهم وبين العلماء وولاة الأمر، عقبات كأداء، يتجسم أمام الشباب تخطيها.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 116
(71/196)
وإن في الاهتمام بتحصين عقول الشباب ضد ذلك الغزو الموجه، لمما يتوفر للأمة به - بتوفيق الله - جيل صالح، يعين على تخطي العقبات، وينشط معه البناء والتعمير في عقول الشباب: حصانة وتعليما، للوقوف أمام تيارات الأفكار الموجهة.
والأمم تحرص على الاهتمام والعناية بالشباب، وتبذل في سبيل رعايتهم وتعليمهم، الشيء الكثير من جهدها ومالها ونشاطها. . لأنها ترى من الضرورة المحافظة على صيانة وسلامة تلك الدرة الثمينة، في فترة التفتح، وإبان النظارة؛ لأنهم مناط الأمل، وركيزة التصدي - بعد توفيق الله - لكل ما فيه دفاع عن دين الله، ورد للشبهات التي تثار بين حين وآخر.
لكن هل حققت كثير من الأمم ما تريده من الأماني، وما ترجوه من ثمرة، وخاصة في المجتمعات الإسلامية، التي يصارع أبناؤها تيارات فكرية عديدة، موجهة نحو شبابها، ومقصود من وراء ذلك تصيد عقولهم بالشبهات، في محاولة لطمس معالم الإسلام، ونكران أثر حضارته على البشرية، وخاصة أثر هذه الحضارة المشرقة على الغرب. .؟؟!! ومن ثم تحصل الآثار السيئة في المجتمع، وهذا ما يهدف إليه الأعداء.
ذلك ما نرجوه للأمة الإسلامية، بأن تكون قد أخذت بالأسباب، في تنشيط عقول الشباب، حتى يتصدوا للغزو الفكري،
(71/197)
الموجه لهذه العقول بطرق شتى، وبأساليب عديدة، وحتى لا يتأثر الشاب بما يقصده الأعداء للصغير قبل الكبير، ولدين الإسلام قبل كل شيء، رغبة في أن تخف مكانته تدريجيا من النفوس؛ لأن الأعداء يدركون أن قوة المسلم في دينه، وحصانة الشاب في قوة إيمانه وتمكنه، وإدراكه ما تعنيه تعاليم دينه.
فهم يغزونه من هذا الجانب لإحداث ثغرة ينفذ منها فكرهم في عقول شباب المسلمين، لتخدم أغراض الأعداء، وتضر بالمجتمع المسلم.
إن واقع الدراسات والإحصائيات في كثير من أمم الأرض اليوم، وفي مقارنة الجريمة والاستقامة، ومقاربة النفع بالضر، ليبدو منه إجابة واضحة بعدم تحقيق ما كانت تلك الأمم تؤمل، سواء كان هذا في الأمم القديمة أو الحديثة.
فالجريمة والتفسخ الأخلاقي وذوبان الشخصية المستقلة، وتوسع دائرة النوازع الكثيرة، التي تضر بالفرد والجماعة، وما يضعون لذلك من دراسة، أو يفكرون في حلول، فإنهم مع هذا قد عجزوا أن يجدوا لتلك المشكلة المهمة علاجا، يتغلب على جذورها في مجتمعاتهم، وقد ضج من ذلك عقلاؤهم، ومن له فكر يوجهه لإيجاد العلاج.
فكل ذلك وأكثر منه، يلمس لدى الشباب في تلك الأمم، وسببه الرئيس - والله أعلم - عدم الاهتمام ببناء الروح، ومعرفة ما
(71/198)
يوجبه الدين الصحيح، الذي جاء من عند الله، لأنهم معرضون عنه، والله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (2) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (3) {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (4) .
ذلك أنهم يهتمون بالتركيز على قوام الأجسام، والاكتفاء بالمظاهر دون المخابر، ودون مخاطبة العقول بما يريحها، والقلوب بما يطمئنها: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (5) .
__________
(1) سورة طه الآية 124
(2) سورة طه الآية 125
(3) سورة طه الآية 126
(4) سورة طه الآية 127
(5) سورة الرعد الآية 28
(71/199)
أين العلاج:
عند تلك الأمم، التي ضاعت في المتاهات، وعاش شبابها في خواء فكرى، قادهم إلى ذوبان الشخصية ومن قبل فإن شباب جزيرة العرب، كغيرهم من التائهين في ظلمات الغواية، والانفلات من الاطمئنان الروحي، فهي أمور مسيطرة عند الناس عامة. . اللهم إلا وميض أضاء قلوب بعض الحيارى، ممن يلتمس مخرجا من هذا الضياع.
ومن هنا بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة
(71/199)
الإسلامية السمحة، لتعدل اعوجاج النفوس، وتوفر المسببات لتربية الروح التي يقوى بها الجسد: عزيمة وتضحية. . ومدها بالغذاء الذي يجعلها مستقيمة ونافعة: مستقيمة في نفسها ونافعة لغيرها وصالحة ومصلحة لمجتمعها.
فالنص الشرعي من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته (1) » ، يوقد جذوة في الأعماق، تتحدد معها المسئولية في التوجيه، والشعور بثقل الأمانة، والحرص على العلم الذي يعين على أداء هذه المسئولية. نحو الشباب، والعناية بهم.
إذ هذا النص وأمثاله: قاعدة أساسية، يضعها المربي والمعلم الأول: صلى الله عليه وسلم ركيزة في الاهتمام بالشباب، وحسن تعليمهم؛ لأنهم رعية عند من استرعاهم الله، واجب الاهتمام بهم، وحسن توجيههم، وذلك حسب التسلسل في المسئولية: من الأبوين اللذين تفتحت عيون الشباب، منذ ولدوا في أحضانهما، ليأخذوا عنهما الدروس الأولى، في مبدأ التعليم، ومن ثم يتأثرون بهما تقليدا وتوجيها، يقول الشاعر:
__________
(1) من حديث شريف صحيح رواه البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
(71/200)
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
وأبلغ من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) » .
ثم يمتد الأثر مع الإخوة الأكبر فالأكبر، من الأقارب ومن يحيطون بهذا الشاب، الذين يجب عليهم الإحسان في تنمية هذه البذرة؛ ليستقيم على المنهج السليم، الذي فطر الله الناس عليه: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تلد الشاة بهيمة جمعاء، هل ترون فيها من جدعاء (2) » .
ثم يمتد التسلسل في المسئولية والرعاية للشباب ليأتي دور آخر، يأخذه الشاب من معلمه في مراحل التعليم العام، ليصل بعد ذلك وقد كبر جسمه، ونما عقله إلى المرحلة الجامعية، حيث يترتب عليه في هذه المرحلة، مع نمو العقل والجسم، نمو الاهتمام بما حوله، واستعداده لأداء الأمانة، وتحمل المسئولية. . فإن كان التقويم لهذا الشاب، وحسن التوجيه تدرج معه، مع نمو عقله، وبلوغ رشده، صالحا ومفيدا، سهل تحصين الشباب ضد الغزو الفكري، وخاصة في هذا الزمان الذي أجفل فيه الشرق والغرب،
__________
(1) من حديث شريف صحيح رواه البخاري في كتاب (الجنائز) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) من حديث شريف صحيح رواه البخاري في كتاب (الجنائز) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(71/201)
بخيلهم ورجلهم على أمة الإسلام، بشبهات متعددة المسارات، إعلاميا بقنواته الثلاث: المسموع والمرئي والمقروء. إلى جانب الفضائيات والإنترنت وغيرها من وسائل، مع توجيه متعمد، وغزو سافر.
والمقصود في هذا الغزو الفكري، الشباب الإسلامي لتعبئة أذهانهم بفكر مختلط، يمتزج فيه الغث بالسمين، ويختلط فيه الحابل بالنابل. . بقصد جعل الشاب تائها، مذبذب النزعات حائرا لا يعرف من أين يتجه؛ ليجعلوا منه طابورا خامسا، يخدمهم وإلبا على بني جنسه، فيأخذوا كلامه بدون علم: حجة؛ لأن من تكلم بغير علم أتى بالعجائب.
خاصة وأن فكرهم هذا الموجه لشباب الإسلام، يسيره تربويا: علماء النفس، ويرعاه علماء الاجتماع، بحيلهم ونظرياتهم المادية، البعيدة عن منهج الإسلام، ومخاطبة العقول بما يسعدها، يقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (1) .
وماديا: بما يسخرون من أموال في هذا السبيل رصدا وتخطيطا، ومتابعة وتنفيذا، يتبع ذلك الدراسة، واستظهار النتائج. . ثم تغيير المنهج في حيل تستقطب بعض الشباب، الذين لم يتسلحوا ضد ذلك الغزو، ويعوزهم إدراك أساليبهم المتشعبة في التأثير
__________
(1) سورة البقرة الآية 204
(71/202)
على شباب المسلمين. وما يريدون من وراء أعمالهم هذه.
وإذا كانت الوقاية الصحية، تقتضي التنبه لما وراء تلك المقاصد، ثم الاهتمام بتنفيذ ما يحصن المجتمع بفئاته، عن كل خلل يطرأ. . والمبادرة في كل وقت، قبل بروز الظاهرة، حتى يتهيأ - بإذن الله - للعقول حصانة، ضد الأوبئة الفكرية، التي يخشى منها انتشارا في المجتمع، حتى تقوى لديها المناعة، ثم القدرة على المواجهة للشبهات، بالأعمال والأجوبة المفيدة المقنعة.
فإن هذا العلاج يحتاج إلى تهييء نفسي، ورصد مادي. . مع المتابعة بالجهود والدراسة والتخطيط. ونحن المسلمين مع التحديات الموجهة، والجهود المبذولة من أعدائنا في هذا الوقت بالذات؛ لطمس معالم ديننا، يجب أن نتسلح برعاية الشباب، وتهيئتهم للمواجهة، وإدراك مكامن الخطر. فإذا كان مثل هذا لازما ومحسوسا، في الوقاية من الآفات المرضية، سواء للإنسان أو الحيوان أو البيئة. . وبذل الجهود والأموال، ومتابعة الإرشادات، والاهتمام بالتوجيهات المتخصصة لكل نوع.
كل هذا من أجل حماية المجتمع، والمحافظة على سلامة أجسام أبنائه من الأمراض، والحامي والحافظ هو الله سبحانه. ولكن هذا العمل من الأسباب التي أمر الله بها.
فإن الشباب، وحماية عقولهم في مراحل حياتهم، في حاجة
(71/203)
أكبر إلى جهود وأعمال، تعين على توضيح حسن المآخذ، وتمييز كل فكر وافد وإدراك أبعاده. حتى تتحصن أفئدتهم، كما يتحصن الجسم باللقاحات عن الأمراض الضارة.
ذلك أن كل من بعد عن الإسلام وتعاليمه، يسوقه الحسد والغيرة، من جهة، والعداوة والإضرار من جهة أخرى، بالإسلام وأهله، فيحرص على تصدير سموم مجتمعاتهم، التي أفسدت شبابهم باتباع الهوى، إلى شباب المسلمين، وبالذات من هم في مرحلة النضج الفكري، وتحمل المسئولية، حتى يجدوا ممن تستهويهم تلك المظاهر، أو تأثر بما جاءه من فكر لم يدرك أبعاده، وضرره على نفسه وعلى أمته، من قد يركن إليهم، ويميل قلبه لفكرهم، فيطمعوا بفساده كما فسد مجتمعهم والتأثر ثم الدفاع عن معسول فكرهم، والله يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) ، مع أن تعاليم ديننا نهت عن متابعتهم والركون إليهم: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (2) .
ومن فسد هانت عليه تعاليم دينه، ومتى تساووا في هذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) سورة هود الآية 113
(71/204)
الاتجاه سهلت قيادتهم، كما جاء في الأثر: «من عصاني وهو يعرفني، سلطت عليه من لا يعرفني» (1) .
ولذا فإن الحصانة للشباب الجامعي، مع حسن التوجيه تتأكد في حثهم على التمعن في تعليمات الإسلام، من مصدريه: كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والتبسط في شرح ما قد يغمض فهمه عليهم، من مدرسيهم، ولدى من عنده علم ممن يختلطون به: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) .
فهذان المصدران: ندرك بهما أن تربة الإسلام خصبة، والتربة الخصبة دائما جيدة العطاء، مفيدة لمن يستثمرها.
كما ندرك أن جذور التوجيه في قاعدة دين الإسلام مكينة وراسخة البناء، وأن عروق غراس الإسلام، ترتع في مياه عذبة وغزيرة. وما ذلك إلا أن هذين المصدرين المهمين، هما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من بعده. . ولن تضل الأمة، أو يجد العدو منفذا للدخول على الأمة، بغزو أو شبهات ما دامت حريصة عليهما، ومتمسكة بهما، حيث قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه، لما طلبوا منه الوصية. . فأجابهم بقوله الكريم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي (3) »
__________
(1) جزء من حديث قدسي.
(2) سورة فاطر الآية 28
(3) رواه النسائي في السنن عن ابن عباس وجابر بن عبد الله.
(71/205)
فإذا كان الحريصون على تنمية الأجسام، وإعدادها للمواجهة، يرعونها تدريبا وتعليما، وملاحقة ولياقة حتى تتهيأ لما أريدت له: رياضيا أو مهنيا، بحسب الحاجة الملحة لكل موقف، كما تضمر الخيول وتهيأ قبل دخولها السباق، أو استعدادها للمعركة.
والجندي لا يدخل المعركة، إلا بعد تمرين على أنواع من الأسلحة. وتعريفه بعض النقاط التي يجب أن يستغلها ضد عدوه، وتبيين مواطن الضعف عند خصمه، وكيفية المواجهة معه.
والسباح لا يسمح له بإلقاء نفسه في اليم، إلا بعد التأكد من قدراته في السباحة، ومتابعة تمريناته على مواقف صعبة في مجاله، والاهتمام بجسمه ولياقته.
وهكذا في شئون الحياة كلها، يسبق كل مواجهة تهيئة ومتابعة، وتأكد من القدرة على الصمود وتحقيق النتائج المطمئنة. . كل هذا خوفا من الخسارة، وضمانا لأثر مادي أو نتائج في الميدان الموجه له. إذا كان هذا لازما فيما هو محسوس، فإن الاهتمام بالشباب، ورعايتهم فكريا، وتحصينهم دينيا، ومتابعة ذلك توجيها، حتى تتسع مداركهم لإدراك مكامن الداء ووصف الدواء، من أهم المهمات التي يجب ألا تقتصر في مراحل الدراسة عامة وفي المرحلة الجامعية خاصة على المنهج الدراسي، والمواد المقررة، التي يعتبرها بعض الشباب للامتحانات فقط.
(71/206)
وإنما فتح المجال، ومناقشة ما يطرح على الساحة يوميا، من تحديات وشبهات وما جد من أساليب في الغزو الفكري. يراد منها طمس معالم الإسلام، ومسخ أثر حضارته على البشرية، ورمي مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالإرهاب، وتعاليمه بالقسوة، وإفساد المجتمعات، ووصف الإسلام بصفات منفرة، تحت مسميات شتى.
بل بلغ الأمر من أعداء دين الله إلى ما هو أكبر، بطلب حذف آيات الجهاد من القرآن، وإبعاد كل ما يتعلق بشبهات أهل الكتاب، ومكائد اليهود التي فضحها القرآن الكريم، حتى يتحقق لهم ما يريدون من تبديل لكلام الله، وزعزعة لمكانة مصدري التشريع في الإسلام: القرآن الكريم، والسنة المطهرة من القلوب، حتى يخف الميزان في قلوب أبناء المسلمين، فيتساووا معهم في المعصية: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
فالقرآن الكريم هو كلام الله، وهو مصدر عز المسلم، ومكمن القوة في قلبه، وليس في تعاليمه قسوة، ولا إفساد للمجتمعات، كما يطرحون اليوم، وإنما فيه الرفق واللين، والمحبة
__________
(1) سورة الصف الآية 8
(71/207)
والحرص على إصلاح المجتمعات لما فيه الخير والسعادة.
وحتى تقوى هذه المكانة في قلوب الشباب، لا بد من إبرازها عندهم بنماذج من أقوال أعداء دينهم، وهي كثيرة جدا؛ لأن الضد يبرزه الضد، مثل قولهم في أحد مؤتمرات الاستشراق وقد أحضر أحدهم نسخة من القرآن الكريم، ومجسما للكعبة المشرفة، وقال: ما دام هذا وأشار للقرآن، وهذه بين أيديهم وأشار للكعبة، يحتلان مكانة في قلوب المسلمين فلن نستطيع النفاذ إلى عقولهم. . فسئل: وما الحل؟ قال نمزق هذا القرآن، ونهدم الكعبة، ونوجد مكانها كنيسة. كان هذا في عام 1909م، في أحد مؤتمراتهم بالقدس. فتناول أحدهم المصحف ومزق ورقات منه. فقال له صموئيل زويمر: أنت أحمق نريد تمزيقه من قلوبهم، وعدم تطبيق ما فيه.
ويقول أحد وزراء إيطاليا في مؤتمر آخر: لن يرتاح لنا بال ما لم تنزع المرأة المسلمة الحجاب، وتغطي به القرآن (1) .
__________
(1) صحيفة النور بالجزائر - العدد 14 صفر عام 1422هـ.
(71/208)
بل أكثر من ذلك مع أحداث 11 سبتمبر في أمريكا: نشر في كبريات الصحف الأمريكية هجوما شرسا على مقدسات المسلمين، وخرجت كتابات محزنة، وصور تنبئ عن مكنون الصدور ضد الإسلام، مع تركيز الهجمات على المملكة العربية السعودية، باعتبارها قلب الإسلام النابض، ومرنى أفئدة المسلمين في كل مكان.
(71/208)
حيث يرون المملكة التي شرفها الله برعاية الأماكن المقدسة، واهتمت بالدعوة إلى دين الله شوكة في نحورهم، وملجأ بعد الله للمسلمين، يستمدون العلم من جامعاتها، ويسترشدون فيم اختلف فيه من أمر، من فتاوى علمائها؛ لأنها تستند على ما قال الله، وما صح من سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها على منهج السلف الصالح، المترسمة خطا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان، بحسن المأخذ من كتاب الله عز وجل، وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قال به الخلفاء الراشدون الذين أوصى رسول الله عليه الصلاة والسلام، بالتمسك بسنتهم، والعض عليها بالنواجذ. .
فقد أحيا أعداء الله. ما أشار به المستشرقون من قبل، بنعت منهج المملكة، وأهل السنة في مكان: بالوهابيين باعتبار ذلك مذهبا جديدا في الإسلام، وبدعة في تعاليمه. . على طريقتهم من قديم في تشويه الصورة، حتى يتأثر بهم قليل المعرفة أو صاحب الهوى، ومن في قلبه مرض، والجاهل الذي يساق بدون روية، وزادوا في هذا العصر بتكثيف الإعلام، الذي يريدون من ورائه إطفاء نور الله بأفواههم، وفي القرآن الكريم وسيرتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العدوانية ما يكشف نواياهم، ويظهر حقدهم على الإسلام وأهله. . وإن تلبسوا في هذا الزمان بأساليب ملونة كالأفعى،
(71/209)
ملمس لين تحته سم زعاف: فإن الكفر ملة واحدة، وعداوتهم ثابتة. وحتى يتنبه الشباب ومعلموهم، لمكامن الخطر، ويسعوا جادين في التسلح لخوض المعركة العقائدية والفكرية مع أعداء الله، وأعدائهم، أذكر حالتين لا بد أن كثيرا قرأهما، وخاصة الذين يتتبعون صحافة الغرب، التي كشر الكاتبون فيها عن أنيابهم، وبرز مكنون صدورهم:
الأولى: ما نشر في مجلة الواشنطن بوست بتخيل أحد كتابها، ليثير ذلك لدى قياداتهم: عندما رسم الكعبة، وتوجيه طائرات تخترقها وتحطمها، وتشعل النيران في جنباتها، كما حصل في مركز التجارة الأمريكي. . انتقاما مما حصل كما يقول.
الثانية: تعليق من أشهر كتاب هذه الصحيفة، برغبته إلقاء قنبلة ذرية على مكة المكرمة حتى تنمحي من الوجود لينتهي الإسلام.
ولهذا نظائر كثيرة، وخاصة الإثارة ضد المملكة العربية السعودية، التي يرون عز الإسلام في مكانتها؛ لأن أفئدة المسلمين ترنو إليها، ويتخيلون أن الإضرار بها إضعاف لمكانة الإسلام، ولكن الله سبحانه حافظ دينه، ومهيئ له قيادة مخلصة ترعاه وتحافظ على مثله، وهذا آخر سهم يرمون به، وسيبطل الله كيدهم، وينصر دينه وحماته، يقول سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) ، ويقول جل وعلا:
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(71/210)
{فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، فنصر الله حق ثابت، لأهل الإيمان الصادقين في إيمانهم عقيدة وعملا.
فإن اعتبروا مثل هذه الأقوال والأفكار لا تصدر إلا عن السفهاء، وليست جادة، وما أكثر ما نجد مثلها في أفكارهم وسريات مؤتمراتهم، فإن المثل العربي عندنا يقول: خذوا علوم القوم من سفهائهم، ويقول سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) ، والشاعر العربي يقول في حكمته:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
ويجب أن ترسخ عند الشباب، خاصة هذه النفثات، على أنها أفكار جادة؛ لتؤخذ الأهبة، ويعد السلاح الفكري والمادي لذلك.
ونحن المسلمين سلاحنا الروحي أمكن من السلاح المادي، وإن كنا معه مأمورون بإعداد القوة للعدو بصنوفها، وفي المقدمة سلاح العقيدة والدين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
ألم يقل الله سبحانه عن أهل الكتاب والأعداء: {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (3) .
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة النساء الآية 89
(3) سورة التوبة الآية 8
(71/211)
حسن التوجيه:
الحوار الفكري والجدال في الشبهات، التي يطرحها أهل الكتاب قديمة، بدأت مع ظهور الرسالة في مكة المكرمة، ثم بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستمرت إلى الآن، وستبقى لكن الشبهات تتجدد في المظهر أما المغزى فثابت.
واليوم نجد الشباب في حاجة لتمكين دور شريعة الإسلام، في بناء الشخصية وأثر العبادات، وتعاليم الإسلام في استقامة النفس البشرية، وتعديل اعوجاجها، وتوفير المسببات لتربية الروح ومدها بالغذاء الذي يجعلها مستقيمة في نفسها، ونافعة لغيرها، وصالحة ومصلحة لمجتمعها.
فالنص الشرعي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضع قاعدة في بناء الأمة وإصلاحها، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » ، ثم بين هذه الرعاية من القمة، فيمن يتولى قيادة في مجتمعه، أو عشيرته عند من استرعاهم الله: من الأبوين اللذين تفتحت عيون الأبناء في أحضانهما منذ ولدوا؛ ليأخذوا عنهما الدروس الأولى، في مبدأ الإدراك والفهم،
__________
(1) من حديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(71/212)
ويتأثروا بهما: تقليدا وتوجيها كما مر بنا.
حيث يمتد الأثر مع الاخوة الأكبر فالأكبر، ومن الأقارب ليأتي دور آخر، يأخذ فيه الشباب العلم والقدوة من المعلمين في المدرسة حسب مراحل التعليم، ليصل إلى الجامعة، وقد نما عقل الشاب، وكبر اهتمامه بما يدور حوله. . فإن كان التقويم وحسن التوجيه في هذه المراحل صالحا ومفيدا، سهل تحصين الشباب وخاصة في الجامعات ضد الغزو الفكري، وأصبح لديهم قدرة في التصدي للتيارات الموجهة إليهم، كل حالة بما يلائمها. وخاصة في هذا الزمان الذي أجفل الغرب والشرق بخيله ورجله، على أمة الإسلام بغزو متعدد القنوات:
إعلاميا بقنواته الثلاث: المسموع والمقروء والمرئي. . وأخطر ما في ذلك القنوات الفضائية، والإنترنت، وغيرها بما تبثه من غث يراد به الإلهاء، وإفساد الأخلاق، وما تطرحه من شبهات وأكاذيب وسموم تبلبل الأفكار، وتدغدغ المشاعر، ويتعمدون أخذ التعليق على ما يوجهون، ممن لا قاعدة علمية أو فكرية من أبناء المسلمين لديه حتى تكبر هوة الفكر.
ويسير ذلك أخصائيون متمرسون كما قلنا: في علم النفس، وعلم الاجتماع وفي الجدل بحيلهم، ونظرياتهم البعيدة عن منهج دين الإسلام، وتعاليمه التي يجب على الشاب المسلم - قبل غيره - الحرص عليها وتنميتها في نفسه وفيمن حوله.
(71/213)
وماديا: بما يسخرون من وسائل، وما يغدقون من مال، وما يشجعون من بحوث، في سبيل ما يدعون إليه، وما يرجون الوصول نحوه: رصدا وتخطيطا، ومتابعة وتنفيذا. . يتبع ذلك الدراسة واستظهار النتائج.
وإذا كانت الوقاية الصحية، والمحافظة علي البيئة، تقتضي اليقظة والمتابعة، مع الحرص والاهتمام بالتنفيذ، إلى العناية بالسبل والمبادرة في تحصين المجتمع بفئاته: عن كل مرض يطرأ، وفي كل وقت قبل بروز الظاهرة، حتى يتهيأ - بتوفيق من الله - للأجسام حصانة من الأمراض، وللمجتمع وقاية عن الأعراض، التي يخشى منها الضرر، وللبيئة سلامة عن الأوبئة التي تؤثر في المصالح.
هذه الوقاية المطلوبة، يرصدون لها أموالا، ويبذلون لها جهدا، وتحظى بمتابعة ودراسات وتخطيط. .
إذا كان ذلك لازما في الآفات والظواهر التي تمس الفرد في بدنه، والبيئة في محاصيلها، من أجل حماية المجتمع والمحافظة على سلامة أبناء الأمة - والحامي والحافظ هو الله سبحانه -، ولكن هذه الاحتياطات من الأسباب التي أمر الله بها، ووجب الأخذ بها؛ لأن الله جل وعلا قد جعل لكل شيء سببا، يقول سبحانه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (1) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 84
(71/214)
فإن الشباب في مراحل دراستهم ونمو حياتهم، كالنبتة عند الفلاح في مراحل نموها، في حاجة إلى حماية عقولهم من كل فكر وافد، وتحصين أفئدتهم عن تقبل السموم التي أفسدت تلك المجتمعات، البعيدة عن الإسلام وتعاليمه، فجاءوا ليوجهوها للمجتمع الإسلامي، بوسائلهم المختلفة، ليفسدوا شباب المسلمين، بما يوجهون لهم من فكر سيئ، وشبهات يغتر بها قليلو الإدراك، سواء عاشوا في بيئاتهم، أو كانوا في مجتمعاتهم لم يحتكوا بهم، فأرادوا غزوهم في قعر دارهم، كما أخبر الله سبحانه من قبل، بقوله الكريم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} (1) .
وما ذلك إلا أن الشباب، سيتحملون عن قريب مسئولية كبيرة في مجتماعتهم: تعليما وتربية وأمرا ونهيا، وتصريف أمور الأمة أخذا وعطاء وتوجيها وتخطيطا.
فإن تأثروا بهم ضمن الأعداء نفاذهم بواسطتهم إلى المجتمع الإسلامي، وإدخال ما يريدون شيئا فشيئا، أما إذا أدركوا ما يريده العدو وحافظوا على دينهم، ورعاية أمتهم على ضوء منهج شرع الله، كان ذلك خسارة لهم، وبطلانا لمخططاتهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 109
(71/215)
ولذا فإن من الحصانة لدى هؤلاء الشباب، وتقوية القدرات المناعية عندهم، حتى لا يتقبلوا كل شيء وافد، وحتى يعتزوا بما أكرمهم الله به، ويجعلوا بينهم وبين الأعداء ستارا لا يمكن التطاول لتجاوزه: الاهتمام بتنمية أمور عند الشباب منها:
- البعد عن المعاصي. . فإن جميع الشرور التي تصيب المسلم، هي بسبب معاصيه، وهو الذي عرفته تعاليم دينه سبل الخير ليعملها، وطرق الشر ليحذرها، يقول سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) .
- الحرص على القدوة الصالحة في الرفقة وفي العمل وفي المجالس، حتى يستفيدوا منهم ويعينوهم على الخير، وينتفعوا من عملهم. يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الجليس الصالح: كحامل المسك، إما أن يحذيك وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ومثل جليس السوء: كمثل حامل الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثا (2) » .
- السؤال عن كل شبهه تطرح، والاستيضاح عن كل فكر وافد وأبعاده، حتى يعرف الشاب ما ينفع ليعلمه، ويحافظ عليه. ويدرك الضار ليتجافى عنه؛ لأن الله يأمر بذلك: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) سورة الأنبياء الآية 7
(71/216)
- الاهتمام بحسن التطبيق لكل أمر حسن، والدعوة إليه، وعدم مخالفة العمل لما تدعو إليه أيها الشاب، يقول سبحانه: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) .
- تعويد الشباب على تمكين العلاقة بالله في كل أمر: فلا علم إلا ما يسره الله لهم، ولا توفيق إلا ما قدره الله، والحرص على ما يوصل إلى تقوى الله: بالذكر والحمد، والتسبيح والاستغفار، يقول سبحانه في قصة نوح مع قومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (2) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (3) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (4) ويقول صلى الله عليه وسلم: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب (5) » .
- إدراك أن ما يعطيه العلماء والمعلمون لطالبي العلم، إنما هي معالم على الطريق، وجوازات سفر توصلهم إلى الغايات المطلوبة، وذلك باستمرار البحث والتعليم، وزيادة التحصيل، وعرض
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) سورة نوح الآية 10
(3) سورة نوح الآية 11
(4) سورة نوح الآية 12
(5) حديث أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (جامع الأصول لابن الأثير 4: 389) .
(71/217)
كل ما يعترضهم على المحك في شريعة الإسلام، والتعلم ممن هو أقدر منهم، فلا ينال العلم مستح ولا متكبر.
- ترسم خطا سلف هذه الأمة، والتربية على منوال المدرسة الأولى، التي رعت شباب المدينة المنورة، الذين بحرصهم حملوا علما غزيرا، وتركوا أثرا بارزا في الاهتمام بالمثابرة والتعليم، والحرص والمتابعة، أمثال: عبد الله بن الزبير وأخويه مصعب وعروة، وعلي بن أبي طالب ثم أولاده: الحسن والحسين، ومحمد، وعبد الله بن عمرو، ومعاذ ومعوذ ابني الحارث، وجابر بن عبد الله، وأسامة بن زيد الذي قاد جيشا جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمره (17) عاما، وعمر بن عبد العزيز - الخليفة الأموي - ومحمد بن القاسم، الذي فتح الهند والسند ولم يبلغ عمره العشرين، وغيرهم كثير من شباب الإسلام في كل زمان ومكان. . ممن اهتموا بدينهم، ودافعوا عنه بكل ما يستطيعون: باللسان وباليد وبالجهد؛ لأنهم أدركوا الدور الذي عليهم، فبذلوا طاقاتهم من أجل الذود عن حياضه، فهابهم الأعداء، وتعاضدوا فيما بينهم، يقول الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
(71/218)
دور الأمانة:
إن الأمانة التي عرض الله حملها على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، فظلم الإنسان نفسه
(71/218)
بحملها (1) ، فهي مسئولية كبيرة على شباب الإسلام، بالحرص عليها أداء ودفاعا، وخاصة في هذه الأيام التي تسلط فيها الإعلام الغربي، والتنفس الصهيوني ضد الإسلام، واعتبرها بعضهم عودة للحروب الصليبية كما جاء على لسان أحد ساستهم يقوله: الآن عادت الحروب الصليبية وذلك بعد أحداث 11 سبتمبر عام2001م. . مما يعني أنها تحديات مكشوفة، ليست بالقول فقط، وإنما قد يكون وراء الأكمة، ما وراءها. . نسأل الله أن يقي العثرات، وأن يحمي دينه من كل متطاول وعابث.
وإن من المهم أن نذكر شيئا لازما، عن الأمانة المطلوبة من الشباب، والأمانة المطلوبة لهم ممن يتولى أمرهم، ويهتم برعايتهم وتوجيههم.
وهذا يستلزم توجيه الشباب للأعمال التي يتطلعون لها، وتتناسب مع مدارك كل واحد منهم؛ لتكون قاعدة انطلاقهم في الدفاع عن دينهم وأمتهم ونصحهم في بناء مجتمعهم.
هذه القاعدة التي يجب أن تكون متينة وراسخة تؤتي ثمارها اليانعة، بنتائجها التي يترقبها المجتمع من الشباب، وهم يتحملون المقاليد في بناء أمتهم:
أولا: يحسن أن لا يغرب عن البال: أن الصغير يكبر، وبعد كبره
__________
(1) تراجع آية الأمانة رقم 72 في سورة الأحزاب، وتفسيرها عند ابن كثير.
(71/219)
يتحمل المسئولية، وينوء كاهله بأعباء كثيرة، نحو نفسه وأسرته ومجتمعه، وأهم ذلك نحو دينه، وصد كيد المعتدين؛ لأن الدين هو الجوهر الذي به العزة والكرامة. والشاب في هذا التحمل مطالب بأشياء وأشياء، عليه أن يسعها صدره، ويتعمق في فهمها؛ لأن هذه الحماسة جزء من رسالته في الحياة، وهي ما يوجهه إليه رب العالمين في مثل هذا الأمر الكريم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1) .
وكل شاب يعرف أن عليه مسئولية في أي عمل، نراه يهتم به؛ لكي يرضي من يتابعه، مع الطمع في الحصول على النتائج الوقتية، فكيف بالمسئولية أمام الله جل وعلا، وأنه سيسأل، وجاء هذا السؤال بتأكيد بعد تأكيد، والبلاغيون يقولون: زيادة المبنى، زيادة في تمكين المعنى.
وهذا لأهمية الأمر الذي يجب على الشباب خاصة، وعلى كل فرد في المجتمع الإسلامي بصفة عامة، وضعه نصب عينيه.
ثانيا: الإخلاص في العمل، والحماسة ضد من يناصب دينهم العداء، فقد جعل رسول الله المسئولية عامة على الصغير والكبير، والغني والفقير، كل يجب أن يبذل ما في وسعه حمية لله. نحو دينه، ومدافعة شبهات المغرضين، فالكبير يوجه الصغير، والعالم يبين للجاهل والغافل؛ ليكونوا سدا منيعا، لا يستطيع العدو أن يجد له مجالا للنفاذ
__________
(1) سورة الزخرف الآية 44
(71/220)
بينهم، ولا أذنا تسمع ما يقول من شبهات، أو يبدر منه من نفثات. . يقول صلى الله عليه وسلم: «كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك (1) » .
فقد جعلهم جميعا أمناء، على هذا الكيان العظيم الذي اختاره الله لخير أمة أخرجت للناس، ورضيه جل وعلا لهم دينا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) .
ثالثا: ولما كان الله سبحانه، قد جعل للإنسان، هبة منه سبحانه: السمع والبصر والفؤاد والقلب، وجميع الأحاسيس التي يدرك بها ما حوله في هذه الحياة، فإن هذه يكتمل نموها لدى الشباب في مرحلة التحصيل الدراسي بمراحله، وهي أمكن ساعات العمر عنده: قدرة على الأخذ، وقدرة على الفهم والتمييز، وحيوية في العطاء والرد على التحديات الموجهة نحوهم ونحو أمتهم.
وهذا يستلزم عليهم، وعلى من أنيط به تعليمهم وتوجيههم، رعاية هذه المواهب، في بوتقة أفق الإسلام. ونظرته الشمولية، ليستمد الشباب من ذلك طاقة تعينهم على أن يكونوا مؤثرين لا متأثرين،
__________
(1) أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة عن يزيد بن مرثد، قال: قال صلى الله عليه وسلم.
(2) سورة المائدة الآية 3
(71/221)
وموضحين للأمور البعيدة التي يهدف إليها الإسلام بتعاليمه، نحو النفس البشرية؛ لتسعد في حياتها، وبعد مماتها، بدل أن يكونوا مدافعين للشبهات الموجهة نحوهم ونحو دينهم.
رابعا: تنمية الأخوة الإسلامية، بين شباب المسلمين، من أي لغة، وبأي موقع علي الأرض؛ لأن الإسلام لا يفرق بين عجمي وعربي، إلا بالتقوى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، والسعي في إبعاد الحزازات والتفرقة - كجزء من مكائد الأعداء - وبث المحبة والترابط فيما بينهم، تحقيقا للتوجيهات الكريمة، في مبادئ هذا الدين، حتى تصفو النفوس، وتتشابك الأيدي في صف واحد، ضد مخططات الأعداء التي يحبون ترويجها بين شباب المسلمين، حتى يتفرقوا شيعا وأحزابا. . مع الاهتمام بالتشاور والتناصح بين الأخوة المسلمين.
يقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يظلمه ولا يخذله (2) » ، ويقول أيضا: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا (3) » . وعليهم في هذا أن ينطلقوا في هدفهم، من دروس الإسلام، التي وحدت بين بلال الحبشي، وسلمان الفارسي،
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) يراجع تفسير ابن كثير للآية الكريمة: (إنما المؤمنون إخوة) 4: 210 - 212.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله.
(71/222)
وصهيب الرومي، وأبي بكر العربي القرشي (1) . وغيرهم من الأجناس الذين رفع الله بحماستهم ودفاعهم، راية الإسلام في الآفاق.
خامسا: أن يكون الشاب غير مندفع بدون علم، وأن يكون مستشيرا فيما يريد عمله ممن له تجربة أكثر، وأمكن علما، حتى لا يستجره الخصوم إلى مزالق تضر أكثر مما تنفع، ويتخذها الأعداء ثغرات ينفذون منها لما يريدون؛ لأن من تكلم بغير علم، أساء من حيث لا يدري. . والمثل يقول من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
والأفضل للشباب في بداية أمره أن يكون مسترشدا وسائلا، ومستمعا أكثر مما يتكلم، ليتعلم من السماع، كيفية التروي، والفهم الجيد لما يدور من تيارات. . وإدراك طريقة النقاش والنفاذ إلى أعماق الآخرين.
سادسا: أن يكون الشاب في المرحلة الجامعية خاصة وفي غيرها عامة: حسن الخلق، حليما فيما يأمر أو يناقش فيه، صبورا فيما ينهى عنه، وألا يجادل غيره في الشبهات التي تطرح ضد الإسلام، إلا بالتي أحسن، حتى يتعود على الأسلوب النافع، والطريقة المجدية بعد خروجه للحياة العملية، ومقارعة الآخرين، مسترشدا بهذه الآيات الكريمة من قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (3) {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (4) {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5) .
__________
(1) لراغب الفائدة مراجعة تراجمهم في أسد الغابة لابن الأثير.
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة فصلت الآية 34
(4) سورة فصلت الآية 35
(5) سورة فصلت الآية 36
(71/223)
وما خفي عليه، في فعله أو قوله، يقف عند هذا الأثر الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ".
(71/224)
المرور ببعض الشبهات:
إن ما يتعرض له الشباب، مما يشوش أفكارهم، وخاصة في عصرنا هذا، حيث أشرعت السهام ضد الإسلام، بأهداف ومسميات شتى، وفي مقدمتها كلمة الإرهاب، الذي جعلوه شعارا ضد الإسلام ومبادئه وقيمه، ومع هذا الشعار وتحت مظلته تكاثرت التيارات المتعارضة، وتباينت الأغراض المقصودة، فكانت فتنا يحتار فيها الحليم.
وكثرت الأفكار المتصارعة، الموجهة نحو شباب الإسلام، مما أصاب بعضهم بالحيرة، في هذه النماذج الفكرية، وكيفية مواجهتها، وبعضهم انساق بدون روية مدفوعا أو مقلدا، كما حصل عندما تكاثرت الأفكار في أيام الدولة الأموية، وما بعدها، وعندها نبت
(71/224)
الأعداء الذين دخلوا الإسلام خداعا، أو ممن تأثروا بخلفيات الأمم المغلوبة عقيدة وفكرا فنشأت الفتن والفرق، وظهر شباب أحداث السن، خاوية عقولهم، فخرجوا على جماعة المسلمين، وسموا الخوارج بفكرهم وعدم فهمهم منطلقات الإسلام، واتباعهم من لا يريدون لوحدة المسلمين، وعقائدهم خيرا، فنشأت البداية في تكفير ولاة الأمور والعلماء.
ولذا كان على المهتمين بالأمانة العلمية، والمتحملين للقيادة والتوجيه، واجب يحسن بهم أن يأخذوا الحيطة من أجله، وجهودا يجدر بها أن تبذل، من أجل حماية الشباب، وتحصين عقولهم عن تلك الأفكار المسلطة، وتنقية أفكارهم من تلك التيارات الجارفة. . وإحلال أذهانهم بأفكار إسلامية مكانها، حتى يتكون لدى الشباب في البيئة الإسلامية - بفضل من الله -: مناعة في التصدي، وقدرة على فهم ما ينطوي عليه الغزو الفكري الموجه، ومن مثل هذا تتكون لدى كل شاب القدرة على المجابهة، ومقارعة الشبهة بحجة واضحة، بعدما تكتمل الحصيلة، التي يغترف منها في المجابهة.
وسأدلي بدلو في الميدان، مسترشدا بالتعليق والإدلاء بما يفيد ويعين، ومشاركا بالتوضيح والإبانة، إذ حسبي في هذا التعرض: الحماسة والرغبة في المساهمة، وطرح الموضوع للإبانة عن أهمية الحاجة إلى حلول مريحة، تطمئن الأمة على شبابها، وتعين في حمايتهم
(71/225)
من المخاطر المحدقة بهم.
وعندما تعرف مكامن الخطر ومواطن الداء، يمكن للمختصين التعاون والتشاور في تلمس العلاج، ووصف الدواء. ذلك أن الواجب التعاون مع الشباب اليوم، الذين يمرون بعقبات متعددة، وتحيط بهم مدلهمات خطيرة، وتكتنفهم تيارات عديدة، أكثر مما أحاط بشباب الأمس.
لأن العدو قد ركز شبهاته على صميم الأمة الإسلامية، ووجه غزوا سافرا متعمدا، بقصد بلبلة أفكار الشباب وجاءهم بأفكار وشبهات عديدة، مصداقا للحديث الشريف الذي ورد في الفتن: بأنهم يأتون خلف ألف غاية وغاية. ويريد العدو من وراء ذلك السيطرة على أفكار الأمة ممثلة بشبابها، لمباعدتهم عن دينهم، وتشكيكهم في قدرة شرائعه على حل ما يعترضهم، ومحاولة صم آذانهم عن فهم تعاليمه، فهما صحيحا، أو أخذها من مصادرها الموثوقة وتخفيف مكانة العلماء من نفوسهم، بأوصاف ونعوت وصلت إلى حد تكفيرهم، ثم تكفير ولاة الأمر؛ ليبرروا الخروج عليهم، وفتح باب الفتنة بالفساد والترويع.
ولذا فإن الحماية من تلك الأخطار - والحماية من الله سبحانه - تحتاج إلى جهد يبذل، وعمل متواصل، وجهود تتظافر من الشباب في الجامعات، مع فهم عميق منهم، وإدراك وروية من
(71/226)
أساتذتهم والموجهين لهم، حتى يتعاون الجميع في التركيز على ما يجب عليهم عمله؛ لوقف الفكر الزاحف عليهم، الذي يهدف لصد الشباب عن دينهم، وصرفهم عن التحمس له.
ولئن كان شباب اليوم، قد انفتحت أمامهم مصادر المعرفة، وتكاثرت عليهم الآراء المتباينة، وانتشرت في ثقافتهم المطروحة أمامهم الأفكار والنوايا المغرضة، التي يراد بها تشكيك المسلمين في تعاليم دينهم حتى ينحرفوا عنه، فإن المهم جدا، حتى لا يتشعب أمام الشباب في بلادنا وغيرها، مع الأحداث المتتالية، والمجسمة إعلاميا، عدم تركهم في الميدان وحدهم تائهين بين الغزو الفكري. . والشبهات المجسمة أمامهم. . وحائرين بين ما يجب أخذه، وما يحسن تركه. فهم مع ما يدور بينهم، كالواضع قدميه على تلتين بينهما هوة، يخشى من الوقوع فيها إن حرك إحدى قدميه بلا توازن أو تبصر.
إذا هم في حاجة لمن يأخذ بأيديهم، ويفتح ما انغلق أمامهم، في حل ينير لهم الطريق، ويبصرهم بما يجلي الغشاوة أمامهم. . ويوضح المقصد من تلك الشبهات، سواء نحو تعاليم الدين، أو السمع والطاعة لولاة الأمر، أو الاسترشاد بالفتوى الصحيحة المستندة على النص الشرعي، من العلماء الموثوقين.
ولئن تعددت المصادر التي تأتي منها الأفكار والعلوم،
(71/227)
فأصبحت المعرفة الموجهة إلى الشباب، ذات أبعاد متنوعة من فكرية إلى عقدية، إلى مادية، وابتزاز، إلى وعود وتهديدات، إلى ملذات ودعوة لتسليم النفس قيادة الهوى، والنفس أمارة بالسوء.
فإننا نخاف على الشباب عموما وشباب الجامعات بالذات من الضعف أمام المغريات، والاستسلام والهزيمة، في إحباط يمس كيان الأمة، ولذا فإن من المهم تبصيرهم بالمصادر السليمة، التي تعينهم في تخطي العقبات، ويؤخذ بأيديهم لما يوصلهم لبر الأمان، لينتفعوا وينفعوا.
فترابط أطراف العالم بثقافاته، وتشابك الطرق المؤدية إلى ذلك، وتعدد الوسائل الحاملة لهذه الثقافات، مما يدعو إلى إعانة الشباب في معرفة ذلك كله، وتبصيرهم بما خلف كل ثقافة، من بعد عميق في الجذور العقدية، وإدراك للمنطلقات الفكرية الموجهة للشباب، حتى يتفاداها؛ لأن غالبها خلفه أيد نشطة تحركه وتغذيه، وتدفع في سبيله الشيء الكثير من مال ووقت، وجهد وتخطيط، ومغريات وإعلام، ومواصلة ذلك بلا كلل ولا ملل.
حيث أصبحت وسائل الثقافة الموجهة، تتغير بين وقت وآخر بمسميات ورموز، فتوافرت في كل صقع من الأرض، بل دخلت كل بيت في أنحاء المعمورة، حتى أكواخ الفقراء، ومضارب البادية، وحصون النساء المخدرات، ولم يكن بوسع أحد أن يوقف زحفها. .؛
(71/228)
لأنها تسربت بالوسائل العديدة إلى كل مكان، وتحركها عوامل عديدة: من نفس وهوى وشيطان. . وشياطين الإنس أشد خطرا من شياطين الجن.
والشاب في الجامعات أصبح يصارع التيارات المختلفة، ويعاني من ثقافات اليوم، التي هي سلاح ذو حدين في التوجيه والاهتمام، مما يعني أنهم في حاجة إلى من يأخذ بأيديهم، ويعينهم في الفهم ومن ثم إدراك ما ينبغي عمله أمام ذلك السلاح. . الذي إن روعي طرح الحل أمام كل جانب، بعد فهمه جيدا، وإدراك أبعاده. . فهذا جانب خير ومفيد، ولا ننسى الاهتمام بشغل فراغهم، بما هو مفيد ونافع، والوقوف إلى جانبهم، رعاية وتوجيها وتعليما.
هذه الأمور لن تتأتى إلا بجهود مبذولة، في التوجيه والإعداد، ومغالبة للنفس في العمل وحسن الإدراك. وجهود أخرى من المراقبة والحيطة، وتوعية للشباب بصبر وإقناع، ورغبة منهم في التتبع وتلمس المداخل لذلك الخطر.
وهذا الجانب المهم، مهما بذل فيه، فإن له طرقا للإفلات يدركها المتمرسون فيه، والمدفوعون إلى ترويج ذلك الغزو، لأي هدف وبأي مصلحة: شخصية أو جماعية، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان عن طريق يخرج الشباب من منعطفات ذلك الغزو، ويعينهم على الصبر والعلاج النافع لهم، ومن ثم لأمتهم التي لزاما
(71/229)
عليهم الدفاع عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات (1) » .
فحتى يدرك الشاب منزلة الجنة، التي هي مطمع لكل مسلم، حيث ترنو الأفئدة لذلك الفوز العظيم، فإنه لا بد أن يكره نفسه، ويفسرها على كثير من الأمور، حتى ينال تلك السلعة الغالية.
واتباع الشهوات التي يبسطها العدو أمامه، بأمور بارزة، وثقافات متعددة، تثير العواطف، وتحرك الشهوات التي تورد الشباب موارد الردى إن تخاذل، وتسلمهم إلى المهالك التي لا تقتصر عليهم، بل تتعدى إلى الأمة بأسرها، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) .
ودور الراعين لمصلحة الشباب وتوجيههم، حتى ينفذ كلامهم إلى سويداء قلوبهم، ومكامن التأثير فيهم، عندما يتحدثون أمامهم عن نماذج الغزو الفكري، الموجه للتقريب بضرب المثل المحسوس أمامهم بين طريقين:
أحدهما: في نهايته أشياء محببة للنفس، ونتائج مفيدة للمجتمع. . والآخر ينتهي بمن سلكه إلى أشياء تكرهها النفس
__________
(1) أخرجه مسلم والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، جامع الأصول 10: 521.
(2) سورة الأنفال الآية 25
(71/230)
ونتائج سيئة للأمة بأسرها.
فالأول: لمن يرغبه، يحتاج إلى الصبر والتحمل، والإعداد بزاد يعين على الوصول بزاد يعين على الوصول إليه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) .
والثاني: لمن يوجه نفسه إليه، فالوصول إليه بتسليم النفس شهواتها، ونسيانها من الزاد.
«والعاجز من أتبع نفسه هواها ثم تمنى على الله الأماني (2) » .
فالأول: الدليل إليه، توجيه رباني، وطاعة لله ورسوله.
والثاني: يقود الناس إليه عدو الله الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس والجن، مما يقود إلى عصيان أمر الله ورسوله.
والفرق بينهما كبير، والنتائج متباينة؛ لأن الضدين لا يجتمعان. . فطاعة الله فيها الفلاح، وطاعة الشيطان باتباع الهوى، فيها الخسارة الأبدية، وهذا الأمر لا يتمكن عند الشاب، إلا مع تمكين الإيمان من قلبه، وإيقاظ ضميره، لتمكين تعاليم الإسلام فيه، بالمذاكرة والتعلم، حتى يكبر عنده خوفه من الله، وحرصه على حسن التطبيق، وخوفه من عقاب ولاة الأمر.
فالشباب عندما تكبر مداركهم، يجب أن يوضح لهم المختصون الأمور بالقرائن الملامسة لأوتار القلب، حتى يستيقظ عندهم
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) جزء من حديث جاء في سنن ابن ماجه في الزهد برقم4250.
(71/231)
الإحساس، وتكبر لديهم المهمة، التي تشعرهم بالدور الملقى عليهم؛ ليكون الشباب يقظا وحذرا، ومستعدا للتهيؤ للمعركة بما يناسب المقام: من سلاح وقوة.
قوة في الفهم والإدراك، وقوة في الحجة ودرء الشبهات، وسلاح يقارع به ما سلط عليه، وما نصب نحوه من أهداف، يقال في المثل العربي: (إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب) .
(71/232)
فالمسلم كيس فطن، تحركه المصائب، وتؤثر فيه الأحداث بعدما يستنهض، وخاصة عندما يستهدف دينه، وموطن عزته، أو تطرح شبهات تمس الذات الإلهية، أو يقصد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تعاليم الإسلام في القرآن الكريم.
وعندما يتحرك الإحساس في نفسه، ويدرك أن وراء الموجة للأمة الإسلامية شرورا كثيرة، فإنه ينبعث مع حماسته، جهد يتقي به السلاح الموجه إلى الإسلام، بالمدافعة ورد الشبهات المطروحة، بحيطة وحذر وعلم، وغزو مضاد. وهذا ما يسمى: القوة الكامنة.
ونستطيع أن نجمل مسارب الغزو الفكري، وتياراته المعاصرة في أمور منها:.
1 - التحديات ومحاولة طمس معالم الإسلام، ونسيان أثره
(71/232)
على البشرية جمعاء.
2 - الهجمة الشرسة على الإسلام، والعداء للمسلمين، وتسليط الإعلام ضد المملكة العربية السعودية بالذات؛ لأنها تمثل ركيزة الإسلام.
3 - محاولة قسر الأمور الإسلامية، حتى توافق أهواء أولئك الأعداء، وما يرضي نزغات اليهود خاصة.
4 - التشكيك في التشريعات الإسلامية، ووصفها بأنها تعلم الإرهاب، وتدعو إليه، وكذبهم إعلاميا: بأن المملكة بمناهجها ومدارسها تصدر الإرهاب.
5 - المقاييس المختلفة في التعبير عن الأمور، حيث يعتبرون جهاد الفلسطينيين بالحجارة لضعفهم إرهابا، وضربهم بالطائرات وأحدث الأسلحة، وهدم منازلهم، وتشريدهم في العراء، يسمونه مكافحة للإرهاب، وهم المعتدون المتجمعون من شذاذ الآفاق.
6 - الرغبة في حذف آيات من القرآن الكريم: كالجهاد، والدعوة إلى دين الله، وغير ذلك مما يريدون منه، التعديل والتبديل في شرع الله، بما يحلو لهم، وما يوافق أهواءهم، كما عملوا من قبل في كتبهم، التي طمسوا معالمها، كما قال تعالى: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 78
(71/233)
7 - إظهار شعارات مختلفة للتضليل من باب دس السم في الدسم، لتكون مجالات ودعوات للتقارب مع الإسلام، باسم التقارب بين الأديان، ودين الله واحد، وأتباع إبراهيم، الدين الإبراهيمي والمؤمنون متحدون وغير ذلك.
8 - التباعد بين الشباب وبين قياداتهم وعلمائهم وتكفيرهم حتى تنزع الثقة بينهم وبين العلماء وولاة الأمور، وذلك بتجسيم أمور لم تحصل، ووضع أمور في غير محلها، وباب الكذب واسع، وميدانه فسيح.
9 - ابتداع شعارات مطاطة، لا مفهوم ثابت لها، ليحركوها كيفما يريدون: كالإرهاب، ومحور الشر، والتطرف والغلو وغير ذلك بقصد التبرير لغاياتهم المبطنة، والاتجاه للغرض الذي يقصدون.
10 - الإطلاق على المدارس وخاصة مدارس تحفيظ القرآن الكريم، والمناهج والكتب المدرسية، في ديار المسلمين، بأنها تعلم الإرهاب؛ ليبرروا الدخول في الشئون المحلية لكل إسلامي. . والدخول في خصوصيات كل دولة. . مما يرفضونه هم عن أنفسهم، فكيف يبيحونه لأنفسهم بغير حق.
11 - تجسيم التيارات الفكرية، ونشرها وتمجيد أصحابها،
(71/234)
ما دامت منطلقة من أفكارهم، واعتبار محاربتها والدفاع عما يمس الإسلام إرهابا، يدعو للتصدي له، وهذا فيه قلب لموازين الأمور بما يرونه، ففكر الإسلام وتعاليمه في نظرهم باطل، وفكرهم الباطل يجعلونه حقا وذلك وفق عرضهم للأمور: إعلاميا وبثه علميا.
12 - وصف الشريعة الإسلامية بالقصور، وعدم الإحاطة ببعض الأمور التي جدت على مسرح الحياة، وخاصة في الاقتصاد، حتى يبرروا الدعوة إلى استبدالها بالقوانين والأنظمة الوضعية. وبذلك يخف ميزان التشريع الإسلامي من القلوب، وما العولمة إلا جزء من ذلك.
13 - تسليط المغريات على الشباب من الجنسين، والتركيز على المرأة حتى تخلع الحجاب تدريجيا، حيث يصفونه بالتخلف، وحقوق الإنسان المهضومة لإخراجها في المجتمعات كما هي عندهم، حتى تنبذ تعاليم الإسلام تدريجيا (1) ، وعدم القدرة على العمل.
14 - وضع البرامج في وسائل إعلامهم المشوقة في أوقات العبادات عند المسلمين، حتى يكثر المتباطئون عن الصلاة مثلا،
__________
(1) يراجع هذا في بحثنا: '' الشباب والتيارات المعاصرة '' بمجلة البحوث الإسلامية العدد: 26 ص215 - 254.
(71/235)
يعينهم في هذا عدو الله إبليس وأعوانه بالإلهاء والإغراء.
وغيرها من أمور كثيرة، يدركها من يتابع أقوالهم ودعواتهم في وسائل إعلامهم المختلفة.
ولن نمر بكل واحدة من هذه الأمور التي المقصود بها الشباب، باعتبارهم الركيزة المهمة، في بث الأخطار وتسليط الغزو. . وهذا يحتاج إلى بسط واستدلالات. . لأن الوقت لا يسمح بالإطالة والاستقصاء؛ لأن المثل العربي يقول: رب إشارة أبلغ من عبارة، ولعل من معرفة الداء، أن يوفق لله الشباب بالحماسة، إلى الوصول إلى الدواء واستعماله. والإمام مالك رحمه الله يقول: لا يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها.
فأولها لم يصلحه إلا الإسلام: تطبيقا وعملا، وآخرها لن يصلحه إلا الإسلام والعودة إليه: فهما وحماسة، وأخذ تعاليمه منهج عبادة، وإصلاحا للأمة.
وجدير بالشباب أن يتعمقوا في فهم هذه الآية الكريمة: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) .
ففي كتاب الله المخرج من كل مشكلة، والحل لكل معضلة وراحة القلب من كل هم، والتصدي لكل خصم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم،
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(71/236)
والحكم فيما بينكم.
(71/237)
تحصين الشباب:
يقول الإمام الشافعي رحمه الله فيما نسب إليه:.
كل العداوة قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين
والعدو مهما أبدى جانب المسكنة والتودد، فإنه كالنار تحت الرماد، إذا تهيأت لهم الفرصة، تسلطوا لتحقيق مآربهم، ومن حقيقة ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القول: «ونصرت بالرعب مسيرة شهر (1) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «سألت ربي ثلاثا، فأعطيت اثنتين ومنعت الثالثة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، كما أهلكت الأمم من قبل، فأعطيت إياها، وسألت ربي ألا يسلط عليهم عدوا من غير أنفسهم فأعطيت إياها (2) » .
من هذا فإن من حماية الشباب، ووقايتهم من كل عمل يؤثر في أفكارهم:
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر بن عبد لله (جامع الأصول 8: 529) .
(2) حديث صحيح جاء بروايات، وهذه رواية الموطأ.
(71/237)
- الاهتمام بتحصين الشباب في الجامعات، ضد ما يطرح أمامهم من غزو فكري، وشبهات وتحديات تبلبل الأفكار، وتشغل أذهان الشباب، المنفتح على المعرفة، والمقبل على تحمل المسئولية نحو نفسه، فإنه يجب على الشباب وعلى من يهتم بتوجيهه، إدراك قاعدتين هامتين في الإعانة على تحصينه، في المعركة الفكرية مع عدوه وعدو دينه، وذلك بالإعانة على الخير وتوسيع دائرته، وعلى الشر بمحاربته وإدراك منبعه والتصدي له؛ لأن الخير والشر يتصارعان، فإذا قويت حجة العدو بما يطرح من غزو وتحديات، فإنه يطمع بعلو مكانة الشر الذي سعى إليه، واتساع دائرته في أذهان الشباب الإسلامي شيئا فشيئا.
وهذا لن يكون إلا بتخاذل أهل الخير، ووهنهم؛ لأنه حق قدره الله سبحانه، يجب إدراكه، لأهل الإيمان، أن لا يعلو الكافرون عليهم، كما قال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1) . هذه الحقيقة يجب تمكينها.
فالخير من الله ويؤيده الله سبحانه وينصره أهله، والشر من الشيطان، ورمز لأولياء الشيطان، ولن تعلو كفته على الخير، وعلى الشباب إدراك هذه الحقيقة، وتنميتها بمسبباتها في نفوسهم وثقافاتهم، والتتبع لذلك علميا، مع الاهتمام بالتطبيق،
__________
(1) سورة النساء الآية 141
(71/238)
وطرح الشواهد التي تمكن هذه الحقيقة من قلوبهم، حسب الواقع الإسلامي في مسيرته.
فالحسنة التي هي من الله، وتوفيق الله، خير هيأه الله للمسلم بحسن اتباعه.
والسيئة التي هي من الإنسان، قاده إليها تخاذله في فعل الخير، وعقاب من الله جنته عليه نفسه؛ لبعده من الخير، وميوله إلى الشر ودعاته، ألم يقل سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) .
ولذا فإن الشباب، يجب أن يتحصنوا ضد التيارات الموجهة نحوهم بسلاحين، وفق القاعدتين المهمتين المشار إليهما من قبل:
1 - شرعي: قاعدته دينية راسخة من مصدري التشريع في شريعة الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله، وما سار عليه السلف الصالح من هذه الأمة، في نظرتهم للأمور، ومعالجتهم ما مر عليهم مع الأمم السابقة، وأهل الأهواء.
2 - فكري: يقارع به فكر بفكر، من باب مخاطبة الناس بما يعرفون، لا يميل في مساره عن مقصد الأمر الشرعي؛ لأن العقل وإدراكه، لا يختلف عن الشرع، إذا كان المأخذ سليما. . وما مال عن المدلول الشرعي العقدي، فهو فكر لا يصح الاستدلال به؛
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(71/239)
لعدم سلامته.
فالمحور الأول: أو السلاح الأول: هو الاستدلال الشرعي، الذي هو عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يجب أن يهتم به الشباب دراسة وفهما، ويرعاه معلموهم تفهيما وشرحا.
ففي كتاب الله سبحانه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يقوي العزيمة، ويثبت الجنان، ويلهم من تطرح أمامه نفثات الأعداء؛ ليجد الجواب المريح للنفس، والمطمئن للمجتمع.
فعندما يقول سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) ، وقوله سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، وقوله جل وعلا: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) .
فإن من التعمق في الدلالة الكريمة، أن الله جل وعلا، يؤكد في كل آية، بالمؤكدات المعروفة لغويا، ويجعل سبحانه على نفسه حقا تفضل به، بأن ينصر المؤمنين، ويثبت أقدامهم، ويطمئن قلوبهم. .
لكن هذا التأييد مقترن بشرط تحقيق الإيمان، وهو التصديق
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة محمد الآية 7
(71/240)
بالقلب، والعمل بالجوارح. . ذلك أن الإيمان، ليس بالتحلي ولا بالتمني. . ولكن له حقيقة يجب أن ترسخ في القلب، وتؤكد هذه الحقيقة الجوارح بالعمل.
وحديث جبريل عليه السلام، الذي جاء ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أسئلة، على هيئة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه من الصحابة أحد، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه راوي الحديث، وأنه جاء ليعلم الصحابة دينهم.
كان أول ما سأل عنه الإسلام: فأجابه رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (1) » .
ثم سأل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وبملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (2) » . ثم سأل عن الإحسان: فقال له «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فاعلم أنه يراك (3) » . إلى آخر الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
وما ذكرناه منه، هي مراتب عقيدة هذا الدين، الذي يبدأ بالإسلام وكل أركانه الخمسة، ظاهرة وبينة عند التطبيق، إما
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/53) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (9) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(71/241)
بالقول، وتلفظ اللسان كالشهادتين، أو عملية بدنية يبرز أثرها على المطبق وهي الأربعة الباقية.
أما الإيمان الذي تؤكده كثيرا آيات من كتاب الله، ومنها النموذج المذكور، فهو وجداني محله القلب، مما يبرهن على أن حقيقته مغالبة النفس، وقهرها من أجل رضا الله، وتمكين دلالة هذه الأركان الستة العظيمة، حتى يصدق العمل والقول.
وتعلو مرتبة العقيدة بعد ذلك؛ لتزداد تمكينا من قلب العارف بالله، والمهتم بتطبيق أمره في المرتبتين السابقتين: الإسلام والإيمان، إلى أن يكون عمل الإنسان الظاهر، وإحساسه الباطن تحوطه الرقابة الذاتية: ومحاسبة النفس عن سلامة هذا العمل: ظاهرا أو باطنا، بأن من لا تخفى عليه خافية سبحانه مطلع عليه، وأنه يعلم الدقيقة والجليلة من عبده، مما يدعوه إلى الإخلاص والصدق فيه، وإجادته بقلب حاضر، وهيئة متكاملة. وهذا أمكن في المراقبة.
وهذا ما يجب أن يؤصل عند الشاب في المرحلة الجامعية، بالذات؛ لأن السلم الهرمي في الإدراك، والقدرة على الاستيعاب متكاملة، والتهيئة إلى أن تناط به مسئولية رد الشبهات، بارتباط شرعي، من المصدرين اللذين أوصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، وأخبر أنهم لن يضلوا ما تمسكوا بهما.
فواجب الموجهين للشباب في هذا السن، تمكين هذا المفهوم،
(71/242)
حتى تتسع مداركهم لإدراك الأسرار الكامنة، والكنوز النفيسة، في تشريعات دينهم، الذي عليهم حمل همه بالدفاع عنه، وبيانه للآخرين، وتفنيد شبهات الخصوم برد مقنع، وحجة دامغة: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (1) .
وإن من مرتبة الإحسان، تقوى الله، هذه الخصلة إذا تمكنت من عقل المسلم: شابا أو كبيرا، فإنها تعطيه راحة في القلب، واطمئنانا في الوجدان، وفتحا لمغاليق الأمور، ألم يقل سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (2) ، ويقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (4) ، ويقول جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) .
فمن ارتوى من الشباب، من مناهل القرآن العذبة، وتشبع من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحيحة الصافية هيأ الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه العلم والفهم، وقوى عزمه في المقارعة والمجادلة بالتي هي أحسن.
أما المحور الثاني، أو السلاح الثاني: فهو الحوار الفكري،
__________
(1) سورة النساء الآية 87
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(71/243)
لمنازلة أصحاب الغزو الفكري الموجه لشباب المسلمين بوسائل الإعلام المتعددة: من مسموع ومرئي ومقروء.
فإن الإمام سفيان الثوري يروى عنه رحمه الله قوله: هم رجال ونحن رجال، ولهم عقول وعندنا عقول. . وأمكن من ذلك قول الله سبحانه: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (1) . ونحن معاشر المسلمين ديننا لم يترك العقل والفكر، جانبا بل له جانب كبير في المخاطبة ورد الأباطيل، وخاصة فيما نلمس في القرآن الكريم، في رد شبهات الكفار، وفي محاورة أهل الكتاب في حججهم وشبهاتهم، حيث نجد تكرار ما يتعلق بالفكر في مثل: لآيات لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لأولي الألباب، ألهم قلوب لا يعقلون بها. . . إلخ.
وهذا كثير جدا في القرآن الكريم، مما يبين أهمية مقارعة الحجة، بدليل أقوى، ومناقشة الغزو ببرهان أمكن، واللغة هي السبيل المبين في مخاطبة العقول بما تدركه، مع الإتيان بما يمكن القول بالشواهد المقربة للأمر.
فالجدال والمناقشة أمر مطلوب في النواحي العقلية، لكن ينبغي
__________
(1) سورة النساء الآية 104
(71/244)
تأديب الشباب بآداب هذا الدين القويم، لما وراء ذلك من مصالح في مثل:
- عدم الاستفزاز عندما يحاور الشاب غيره، يقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) .
- أن يكون الجدال بالتي هي أحسن؛ لأنه أدعى إلى التقبل والتقارب، وأن يكون عن علم ومعرفة؛ لأن ذلك أقوى للحجة، فمن حفظ حجة على من لم يحفظ.
- عدم الغضب والسب، حتى لا يحفز الأمر الجانب الثاني، إلى سب الله عدوا بغير علم، وسب ديننا.
- التوسع في الثقافة، بحيث يرد عليهم بأقوال مقبولة لديهم، كالمنصفين من بني جنسهم.
- الحرص على ضرب الأمثال والاستشهاد بالنظائر المقربة للفهم، والمزيلة للبس.
- وأقوى شيء يرد غزوهم الفكري، اقتناص نصوص من مصادرهم، أو مقتطفات من مفكريهم، من باب مخاطبة الناس بما يعرفون، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(71/245)
ولا يغرب عن البال: أن أعداء الإسلام، في عالم الشرق والغرب، قديما وحديثا، من أصحاب الديانات والنزعات والأهواء المختلفة، وهم قد حاربوا الإسلام في الظاهر، وناصبوه العداء في الباطن، قد أدركوا مع هذا العداء للإسلام وأهله، دور الشباب في عصور الإسلام الأولى، ومكانتهم في التصدي لتحدياتهم؛ لأن نفوسهم قد تشبعت بتعاليم الإسلام، وشرائعه غرست فيهم بذور الخير منذ نعومة أظفارهم، فكانوا مسددين في التصدي لخصوم دينهم، وموفقين بالردود الصائبة، التي من أثرها انجذاب كثير من الخصوم، بعدما بانت لهم الحقائق المقنعة، والحجج الملامسة لأوتار القلوب. إلى دخولهم الإسلام، فكانوا مدافعين عنه، بدل أن كانوا مهاجمين له. . ونريد من شباب اليوم السير على ذلك المنهج.
ودور الشباب في تاريخ دولة الإسلام، يحسن بشباب اليوم معرفته، ليتشبهوا بهم من حيث:
- التمثيل بالأخلاق الحسنة التي دعا إليها الإسلام.
- عدم الركون إلى الذين ظلموا أو محبتهم، أو التشبه بهم.
- تأصيل المحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي، والالتحام مع ولاة الأمر بالطاعة والسمع لهم، بدون معصية لله.
(71/246)
المحافظة على كيان دوله الإسلام، وبناء مجتمعه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) .
- نسيان الذات من أجل الدفاع عن دين الله، وتقديم الغالي والنفيس من أجل عزة دين الله، وعدم علو الباطل عليه.
- نصر مبادئ وتعاليم الإسلام، مع الثبات والتمسك بأوامره واجتناب نواهيه، لأن هذا من نصر الله.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(71/247)
الفهم الجيد:
إن الشباب الجامعي في حاجة إلى تركيز الفهم للمهمة التي يجب أن يتهيأ لها، وإدراك دلالات الغزو الفكري الموجه نحو أمته، تأسيا بالصحابي الجليل: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقد روي عنه أنه قال: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه ".
فالشباب في الجامعة، يحسن بهم ألا ينتظروا الهجوم عليهم فكريا. . بل من الحزم تتبع ما يثار فكريا قديما، على ما يسمعون حديثا، ليوازنوا ويقارنوا، وليبحثوا عما رد به على السابقين،
(71/247)
ويتلمسوا ما يناسب اللاحقين، فيكونوا مهاجمين، بدلا أن يكونوا مدافعين.
فالمسلمون في كل مكان ما ضيع عملهم، ولا أضعف مكانتهم، ولا أدخل عليهم أعداءهم، إلا عدم فهم الدين، واختلاف الكلمة. . وعدوهم في كل مكان يحرص على تغذية الخلاف بينهم.
وعملية الفكر الإسلامي نحو الشباب، يجب أن ترتكز دعائمه على محاربة فهم الدين فهما حقيقا، في العمل والتطبيق أولا. وإدراك نقاط الخلاف، والعمل بالقضاء عليها ثانيا (1) .
- ولا يغرب عن البال أهمية تعليم الناشئة أمور دينهم، وتوسيع مداركهم، والإجابة على تساؤلاتهم بما يرضي طموحاتهم ويطمئن نفوسهم، حتى ترتبط بحسن المأخذ، ويتأصل حبه في القلوب.
- وبذلك تكبر دائرة الفهم، بتكاثرهم، مع إدراكهم لتعاليم دينهم، ودور هذه التعاليم في تنظيم المجتمعات وإصلاح الأمم. . لأنه ما من حكم شرعي في الإسلام، إلا وراءه مصلحة. . ويسميها بعضهم: حكمة التشريع.
- تنظيم الرحلات الإسلامية، التي منها يتعود الشباب، تسيير
__________
(1) ينظر في هذا كتابنا: '' الشباب والفكر السليم '' نشر رسائل النور رقم (8) تطوان المغرب ص 27 ـ 34.
(71/248)
الحياة اليومية، وتطبيق ما يجهله بعضهم من أمور دينه، وما قيل علميا وراء العبادات في الإسلام من أسرار، وأن يرعى هذه الرحلات، من يوثق في علمه وخلقه، وسلامة فكره.
- وتكوين المحاضرات والندوات المتنقلة، وفتح أبواب الحوار للمناقشة والمحاورة، على تصحيح مفاهيم الشباب وتساؤلاتهم.
- ترجمة الكتب ونشرها باللغات التي يفهمها الشباب، والاهتمام بحسن الاختيار، فيما يفيد الشباب حسب الأمور والشبهات المطروحة في المجتمع الشبابي.
- نسيان النفس، أو طلب الشهرة في العمل الإسلامي؛ ليكون الهدف الحمية لدين الله، وتربية جيل بأكمله، يخرج على السطح الاجتماعي، ويرد في الفكر العالمي الأمور إلى مكانتها في دين الإسلام، حسب الفهم الصحيح.
وبذلك يكون لهؤلاء الشباب وزن في المجتمع الذي يعيشون فيه، وتصبح كلماتهم ذات صدى، وأعمالهم نحو أبناء الإسلام في مجتمعهم تتكاثر، وخاصة عندما تحوجهم الأمور، إلى أن يكونوا ضمن الأقليات في بعض المجتمعات. . ليؤثروا فيمن حولهم، ويبينوا لهم مقاصد شريعة الإسلام.
وليظهر عليهم الأثر بما عرفوه ودرسوه، وليؤثروا في غيرهم في حوارهم، ونقاشهم الهادئ مع غيرهم، أوردهم على ما ينشر من
(71/249)
فكر مغاير لمنطق الفهم الصحيح، في عقيدة المسلم المتمكن.
وبذلك يكون لهؤلاء الشباب وزن في المجتمع الذي يعيشون فيه، وتصبح كلماتهم ذات صدى، وأعمالهم نحو أبناء الإسلام في مجتمعهم تتكاثر، وخاصة عندما تحوجهم الأمور إلى أن يكونوا ضمن الأقليات في بعض المجتمعات. . ليتميزوا فيمن حولهم، ويبينوا لهم مقاصد الإسلام.
- والمفكر يجب أن يكون بعيد النظرة، حاسبا لكل مشكلة حلا، فإذا رسم الهدف، ووضحت المعالم، وتأسست القاعدة، سهل أمر التنفيذ بالتكاتف والتعاون، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وإن من المناسب تضمين حديثي: بكلمة تنسب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (1) ، فقد سأل ابنه عبد الله: ماذا تريد لنفسك أن تكون في العلم؟ فقال: أريد أن أكون مثلك. . فقال الإمام أحمد: ثكلتك أمك، لقد كنت أتوقع لنفسي أن أكون مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقصر جهدي دون ذلك، وأنت إذا كنت تريد أن تكون مثلي، فلا شك أنك ستقصر دون ذلك.
وهذا ما يراد للشباب بطموحهم، ونمو فكرهم، وما يرسمه
__________
(1) تراجع سيرته في وفيات الأعيان لابن خلكان 63: 1- 68 وفي حلية الأولياء لأبي نعيم 16: 10ـ233 بتوسع.
(71/250)
المسئولون عن تعليمهم وتوجيههم؛ فإنه لا بد من وضع هدف بعيد المرمى، جيد النتائج، وإعانتهم بالأساليب الموصلة لذلك، حتى يكونوا بجهودهم - إن شاء الله - حل المشكلة جذريا؛ لأن الفهم الإسلامي يكون عاما لا فرديا.
وما حقق اليهود - وهم أعداء الله وأعداء الأمة الإسلامية كلها، وأعداء شرع الله - مطالبهم، وأثروا في المجتمعات التي عاشوا فيها، إلا بتكاتفهم وتنظيم أمورهم، وتخطيطهم بعيد الهدف، وهم أهل باطل، ويسعون خلف كل باطل. . كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عجبت لأهل الحق ونكوصهم عن حقهم، ولأهل الباطل وصمودهم على باطلهم.
أما نحن معاشر المسلمين فأصحاب حق، ونطبق شرع الله، وندافع عن دينه، ونحن أولى منهم بمثل هذا الدفاع والصبر عليه؛ لأن ديننا يأمر بذلك. . وحملنا الله رسالة ليست لأنفسنا، وإنما لإسعاد البشرية كلها على وجه الأرض، وتبليغ شرع الله إلى عباد الله، وهذا هو سر الوجود البشري على وجه الأرض كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(71/251)
ونرجو من الله الأجر والإعانة، بما لا يرجون، والله سبحانه يقول: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (1) .
إن الشباب في كل موقع إسلامي، إذا أحسن توجيههم، وحددت لهم مسارات المآخذ الحسنة، وأعينوا بما يضع الصوى على الطريق. . فإنهم بإذنه تعالى سيتخطون العقبة في أنفسهم، وستكبر عندهم المهمة، ويكونون دعاة في مجتمعاتهم وعند من حولهم، ومسلحين ضد الغزو الفكري الذي لا يكبر حجمه في المجتمع، إلا مع نقص العلم، وضعف الوازع الإيماني، فإذا كبرت قاعدة الشباب الفكرية السليمة، فإنهم بحول الله سيؤدون الواجب على كل مسلم حول توضيح الإسلام، لمن يجهله، وتبيين ما وراء شبهات المغرضين، من أهداف مع نقضها، ويكونون قدوة لغيرهم في الجيل بعدهم، وذلك بعد صلاحهم في أنفسهم، وسلامة أفكارهم.
والأهم ألا يتكلم الإنسان إلا بعلم، ولا يجادل إلا بحلم، وأن يكون صبورا ومتحملا لما يلقى عليه، أو يكتب ضده، ويمتثل بهذا التوجيه الرباني الكريم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 30
(2) سورة النحل الآية 125
(71/252)
وما قد يبدر من تقصير، فإنما هو على عاتق المفكرين، من العلماء المدركين، وينوء به كاهل المسئولين عن توجيه الشباب، فيحسن تداركه بالتناصح والتعاون على البر والتقوى.
والله الموفق لكل خير.
(71/253)
صفحة فارغة
(71/254)
الاستقامة في التربية
الإسلامية وأثرها في تحصين الشباب
لفضيله الدكتور \ عيد بن حجيج الفايدي (1)
الحمد لله الذي أنعم بنعمة الإسلام، والحمد لله الذي جعل الصراط المستقيم طريق النجاة وطريق السعادة لعباده الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه رسولا، وبشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا للناس كافة. . وبعد:
الإسلام دين الله عز وجل، دين الفطرة السليمة، دين الحق والخلق القويم، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
يقول ابن جرير في تفسيره: " فسدد وجهك نحو الوجه الذي
__________
(1) أستاذ مساعد، قسم التربية، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة الروم الآية 30
(71/255)
وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته. . . إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدل هو الدين القيم، يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية " (1) .
ورد في تفسير البغوي: أن أخلص دينك لله. وإقامة الوجه: أي إقامة الدين. وقيل: أي سدد عملك على دين الله عز وجل، ملتزما فطرة الله التي خلق الناس عليها، المقصود بالفطرة هو دين الإسلام (2) .
وقال البيضاوي في تفسيره لقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} (3) (أي فقومه له، غير ملتفت أو ملتفت عنه، وهو تمثيل للإقبال، للاستقامة عليه والاهتمام به) (4) .
وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد، إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (5) » .
الكتاب والسنة مصدران أساسيان للتربية الإسلامية، والبحث فيهما عن علاج مشكلات الشباب أمر لا بد منه، خاصة وأن
__________
(1) الطبري، تفسير الطبري 6 \ 104.
(2) البغوي، مختصر تفسير البغوي 2 \ 725.
(3) سورة الروم الآية 30
(4) البيضاوي، تفسير البيضاوي 2 \ 220.
(5) الزبيدي، مختصر صحيح البخاري ص159.
(71/256)
الإسلام جاء بمنهاج كامل وشامل وواضح.
قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) . (منهاجا: طريقا واضحا في الدين، من نهج الأمر: إذا وضح) (2) .
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) .
قال ابن جرير: " اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. . . وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به، أنه أكمل لهم دينهم، بإفرادهم البلد الحرام، وإجلاله عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون " (4) .
وقال الشوكاني في تفسيره لهذه الآية: (جعلته كاملا؛ غير محتاج إلى إكمال، لظهوره على الأديان كلها، وغلبته لها، ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام، والمشتبه، وفيما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك) (5) .
والشباب في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لهم أعمال
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) البيضاوي، تفسير البيضاوي 1 \ 269.
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) الطبري، 3 \ 18.
(5) الشوكاني، فتح القدير 2 \ 11.
(71/257)
جليلة، وسجل حافل، ودور بارز في نشر الإسلام، فقد سارعوا في الدخول إلى الإسلام وناصروا الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسارعون في المشاركة في الغزوات والمهمات، ومن الشباب القراء والحفظة لكتاب الله عز وجل.
وخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب بقوله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » .
ذكر الصنعاني في كتاب سبل السلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب الشباب لأنهم مظنة الشهوة وحثهم على الصوم، حتى يحصل للشباب التحصين (2) .
ومن فوائد هذا الحديث النبوي؛ أن التحصين يحصل بأمر من الله تعالى بعد قيام الشباب بعمل صالح، وهو الزواج، وبالتالي فإن التحصين نتيجة من نتائج الأعمال الصالحة.
وأهل الجنة شباب، حيث ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينادى مناد: يا أهل الجنة: إن
__________
(1) صحيح مسلم، ص432.
(2) الصنعاني، سبل السلام ص 342.
(71/258)
لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا (1) » .
والشاب الصالح الذي نشأ في عبادة الله عز وجل، هو من بين السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ففي الحديث الذي ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (2) » وذكر منهم: «شاب نشأ في عبادة ربه (3) » . رواه البخاري، وأيضا رواه مسلم: «وشاب نشأ في عبادة الله (4) » .
وقسم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى، الشباب إلى ثلاثة أقسام:
1 - شاب مستقيم وهو شاب مؤمن بدينه، ومقتنع به، ومغتبط به، يرى الظفر به غنيمة، والحرمان منه خسرانا مبينا، وهو يعبد الله مخلصا له ومتبعا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: في القول والعمل والفعل، وهذا القسم مفخرة للأمة.
2 - شاب منحرف في عقيدته متهور في سلوكه، مغرور بنفسه لا يقبل الحق من غيره ولا يمتنع عن باطل.
__________
(1) صحيح مسلم، ص719.
(2) الزبيدي، مختصر صحيح البخاري ص 102.
(3) الزبيدي، مختصر صحيح البخاري ص 102.
(4) صحيح مسلم، ص 244.
(71/259)
3 - شاب حائر مشدود بين مفترق الطرق، عرف الحق واطمأن به، وعاش في مجتمع محافظ، إلا أنه انفتحت عليه أبواب الشر؛ تشكيك في العقيدة، وانحراف في السلوك، وفساد في العمل، وهذا القسم يكثر في شباب نالوا بعضا من الثقافة الإسلامية لكنهم درسوا كثيرا من العلوم الكونية الأخرى التي تعارض الدين، فوقفوا حيارى بين ثقافتين.
لذلك فإن الشباب المستقيم هو الذي يتصف بالإيمان والعبادة لله عز وجل متبعا الرسول صلى الله عليه وسلم في القول والعمل والفعل.
وإذا صح الشباب وهم أصل الأمة الذي يبنى عليه مستقبلها، وكان صلاحه مبنيا على دعائم قوية من الدين والأخلاق، فسيكون للأمة مستقبل زاهر إن شاء الله تعالى (1) .
ولا بد للشباب أن يدركوا الاستقامة علما وعملا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الاستقامة أن لا تشرك بالله شيئا. وقال عمر رضي الله عنه عن الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: الاستقامة: أي أخلص العمل لله، وقال علي رضي الله عنه:
__________
(1) العثيمين، من مشكلات الشباب ص4.
(71/260)
الاستقامة أداء الفرائض، وقال الحسن رضي الله عنه: الاستقامة أي استقاموا على أمر الله تعالى فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة: الاستقامة أي: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله (1) .
وإذا تحققت هذه الأمور التي قيلت عن الاستقامة، فإن الآثار لا تقتصر على الشاب أو الأسرة بل تصل إلى الأمة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) البغوي، مختصر تفسير البغوي، 2 \ 829
(71/261)
أولا: أهمية الدراسة
تتضح أهمية هذه الدراسة في النواحي التالية:
أولا: منهاج الإسلام في الحياة؛ منهاج واضح وكامل وشامل، مصدره القرآن الكريم والسنة النبوية.
وهذا المنهاج بحاجة إلى أن يدركه الشباب علما وسلوكا، قال الله تعالى في صفات المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) .
وكذلك يدرك الشباب توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما، الذي كان شابا قال: «كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (3) » .
هذا الهدي فيه فائدة كبيرة للمؤمنين عامة وللشباب خاصة في حل مشاكلهم وفي تحصينهم في هذه الحياة.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) الترمذي، الجامع الصحيح 4 \ 667.
(71/262)
ثانيا: مرحلة الشباب مرحلة هامة في حياة الإنسان، ينتقل فيها بأمر الله تعالى وقدرته من الطفولة إلى الرجولة، حيث تحدث فيها تغيرات جسمية وعقلية وانفعالية واجتماعية، والتي أفردت لها كتب علم نفس النمو فصولا عديدة لوصف هذه التغيرات، مثل: كتاب الأسس النفسية للنمو للدكتور فؤاد البهي السيد، وكتاب علم النفس التكويني للدكتور عبد الحميد الهاشمي.
وهذه المرحلة بحاجة إلى عناية واهتمام وإرشاد وتعليم، ولهذا يقول الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى عن الشباب: (هم رجال الغد، وهم الأصل الذي يبنى عليه مستقبل الأمة، ولذلك جاءت النصوص الشرعية بالحث على حسن رعايتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير والصلاح، فإذا صلح الشباب وهم أصل الأمة الذي يبنى عليه مستقبلها بعد توفيق الله سبحانه، وكان صلاحه مبنيا على دعائم قوية من الدين والأخلاق، فسيكون للأمة مستقبل زاهر، ولشيوخنا خلفاء صالحون إن شاء الله) (1) .
ثالثا: تعدد وتنوع المشكلات التي يتعرض لها الشباب باختلاف مصادرها، ومكانها، وزمانها، والتي لا يمكن حصرها في مجال أو نوع واحد تتطلب البحث عن حلول مناسبة.
__________
(1) ابن عثيمين، محمد صالح، مشكلات الشباب ص4.
(71/263)
رابعا: الانفتاح العالمي وظهور مخترعات كثيرة مثل الأقمار الصناعية، وأنواع البث المتعددة، وشبكة المعلومات والتي قد تكون موجهة لفئة الشباب، وبالتالي يعاني من أخطار محدقة به كثيرة.
خامسا: ظهور التعليم عن بعد، والتعليم بلا حدود، والتعليم بلا ورق والنشر الإلكتروني والجامعة المفتوحة وغيرها من أفكار حديثة في ميدان التربية والتعليم، بحاجة ماسة إلى الاستقامة في التعليم والتعلم.
وتهدف هذه الدراسة إلى: إبراز مفهوم الاستقامة وأثرها في تحصين الشباب.
(71/264)
ثانيا: مصطلحات الدراسة:
أ - الاستقامة:
في اللغة: استقامة، مصدر استقام، والاستقامة: الاعتدال (1) .
ويقال: استقام الطريق، أي اعتدل، واستقام الإنسان: اعتدل في سلوكه، وكانت أخلاقه فاضلة (2) .
وفي صحيح مسلم بشرح النووي التعريف التالي للاستقامة: قال أبو القاسم القشيري في رسالته: (الاستقامة درجة بها
__________
(1) الجوهري، الصحاح 2017.
(2) المعجم العربي الأساسي ص 1016.
(71/264)
كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه، وخاب جهده. قال: وقيل: الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله على حقيقة الصدق) (1) .
وعرف الواسطي الاستقامة بقوله: (الخصلة التي بها كملت المحاسن، وبفقدها قبحت المحاسن) (2) .
وقال القاضي عياض عن الاستقامة: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (3) أي وحدوا الله تعالى وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه وتعالى، إلى أن توفوا على ذلك (4) .
ومعنى جوامع الكلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعنى) (5) .
وورد في كتاب
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 9.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 9.
(3) سورة فصلت الآية 30
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 9.
(5) ابن حجر، فتح الباري 13 \ 247.
(71/265)
رياض الصالحين: أن الاستقامة هي لزوم طاعة الله تعالى، وهي نظام الأمور (1) .
وورد في كتاب شرح الأحاديث الأربعين النووية: أن الاستقامة هي: الاعتدال على طاعة الله عز وجل عقدا، وقولا، وفعلا، وداموا على ذلك (2) .
وعرفت الاستقامة بأنها: (توبة بلا إصرار، وعمل بلا فتور، وإخلاص بلا التفات، ويقين بلا تردد، وتفويض بلا تدبير) وكذلك عرفت بأنها: (اتباع الحق والقيام بالعدل، ولزوم المنهج القويم) (3) .
وأيضا عرفت الاستقامة بأنها: (المتابعة للطريقة المحمدية مع التخلق بالأخلاق المرضية، لا سير مع الهوى والابتداع، فإن السير مع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة، ولا يفرق بين الخير والشر، بل ينكسه ويعكسه، فيرى البدعة سنة والسنة بدعة، والضلالة هداية، والهداية ضلالة) (4) .
وعرف صلاح أحمد الطنوبي الاستقامة بأنها: (كلمة جامعة للخير، ولجميع السجايا الحميدة، والخلال الكريمة، وأسمى ما يطلبه
__________
(1) النووي، رياض الصالحين ص51.
(2) النووي، شرح الأربعين النووية ص64.
(3) محفوظ، علي: هداية المرشدين ص367.
(4) المرجع السابق، ص368.
(71/266)
الإنسان في هذه الحياة أن يوصف بأنه مستقيم (1) .
وعرف الشيخ صالح الفوزان الاستقامة بأنها: (كلمة جامعة وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات) (2) .
وتتفق التعريفات السابقة بأن الاستقامة هي: طاعة الله، واتباع هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لذا فإن الاستقامة هي: سلوك المسلم في حياته وجميع أحواله، وفق تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية.
__________
(1) الطنوبي، صلاح، الاستقامة والإحسان ص289 مجلة البحوث الإسلامية العدد (22) .
(2) الفوزان، صالح: الخطب المنبرية ص224.
(71/267)
ب: التربية الإسلامية:
ورد في لسان العرب: (ربيت فلانا أي غذوته) (1) .
وفي المعجم الوسيط: رباه: نمى قواه الجسدية والعقلية والخلقية (2) .
وورد أيضا أن التربية في اللغة: هذبه ونمى قواه العقلية والجسمية والخلقية (3) .
__________
(1) لسان العرب، 14 \ 306.
(2) المعجم الوسيط، 1 \ 326.
(3) المعجم العربى الأساسي ص 502.
(71/267)
وورد للتربية الإسلامية تعريفات عديدة في كتب التفسير وكتب التربية الإسلامية منها:
تعريف البيضاوي للتربية بأنها (تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا) (1) .
تعريف عز الدين التميمي: التربية الإسلامية هي: (تربية القيم، التي بها وحدها صلاح الحياة البشرية، وبها وحدها يتحقق التوازن الكامل في شخصية الفرد) (2) .
تعريف مقداد يالجن للتربية الإسلامية: هي (إعداد المسلم إعدادا كاملا من جميع النواحي في جميع مراحل نموه للحياة الدنيا والآخرة، في ضوء المبادئ والقيم، وفي ضوء أساليب وطرق التربية التي جاء بها الإسلام) (3) .
ويرى الباحث أن التربية الإسلامية هي: إعداد المسلم إعدادا كاملا من جميع النواحي والمراحل العمرية وفق تعاليم الدين الإسلامي.
__________
(1) البيضاوي، تفسير البيضاوي 1 \ 8.
(2) التميمي، عز الدين: نظرات في التربية الإسلامية ص37.
(3) مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية ص26.
(71/268)
ج: الأثر: وهو (ما بقي من رسم الشيء) (1) .
__________
(1) الجوهري، الصحاح، 2 \ 575، وابن منظور، لسان العرب 5 \ 4.
(71/268)
وقيل الأثر هو: بقية الشيء (1) .
وكذلك قيل: إن الأثر هو: (علامة أو رسم متخلف من شيء ما) (2) ، وبالتالي فإن المقصود بالأثر في هذه الدراسة هو: الأمر أو الحدث الذي يكون ناتجا من تحقيق الاستقامة.
__________
(1) الفيروز آبادي، القاموس المحيط 1 \ 275.
(2) المعجم العربي الأساسي ص69.
(71/269)
د: التحصين: في معاجم اللغة: التحصين مصدر حصن (والحصن كل موضع حصين لا يوصل إلى ما في جوفه، وحصنت القرية إذا بنيت حولها، وتحصن احتمى، وتحصن إذا دخل الحصن واحتمى به) (1) ، ويقال لكل ممنوع: محصن، ولكل امرأة عفيفة: محصنة، وكل امرأة متزوجة فهي محصنة (2) . التحصين: أي عمل أو فعل صالح يمنع الشر أو الضرر عن الشاب المسلم.
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب 13 \ 119.
(2) ابن فارس، مجمل اللغة ص237.
(71/269)
هـ الشباب: في اللغة: الشباب والشبان، جمع شاب، ويقال: شب الغلام كبر الغلام، والشبيبة يقصد بها الشباب (1) . وقيل: الشباب أول الشيء (2) .
__________
(1) ابن فارس، مجمل اللغة ص499.
(2) (الفيروز آبادي) القاموس المحيط 1 \ 88.
(71/269)
شب الغلام: أدرك طور الشباب، وتعدى مرحلة الطفولة (1) ، وقد عرف النووي الشباب بقوله: (الشباب عند أصحابنا هو من بلغ ولم يتجاوز ثلاثين سنة) (2) .
أما الثعالبي فقال: إن الشاب هو الذي (بين الثلاثين والأربعين) (3) ، وقال عبد الحميد الهاشمي: إن مرحلة الشباب هي التي تبدأ من 18 سنة إلى 25 سنة (4) .
وقال عمر الشيباني: (إن مرحلة الشباب تمتد من سن الثانية عشر إلى سن الخامسة والعشرين بالنسبة لغالبية أبناء المدن (5) . ويتضح أن الاختلاف في تحديد بداية الشباب منذ زمن، ولا زال إلى اليوم ويعود ذلك إلى العوامل التالية:
1 - تقسيم نمو الإنسان إلى مراحل مختلفة هو تقسيم اصطلاحي، فحياة الإنسان تعد وحدة متصلة لا يمكن تجزئتها إلى مراحل منفصلة بعضها عن بعض.
2 - وجود فروق فردية بين الناس في مراحل النمو، وفي درجة
__________
(1) المعجم العربي الأساسي ص 665.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 173.
(3) الثعالبي، فقه اللغة ص111.
(4) الهاشمي، عبد الحميد، علم النفس التكويني ص 237.
(5) الشيباني عمر، الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب ص39.
(71/270)
ومعدل النمو وطول وقصر مرحلة الشباب (1) .
وبالتالي يمكن تعريف الشاب بأنه الذي بلغ ولم يصل سن الأربعين، وتم تحديد البلوغ بداية لمرحلة الشباب؛ لأن بداية البلوغ تختلف من شاب إلى آخر لوجود فروق فردية، وعوامل أخرى تقدم أو تؤخر البلوغ بأمر الله تعالى وحكمته.
__________
(1) المرجع السابق، ص34.
(71/271)
ثالثا: الدراسات السابقة:
الدراسات السابقة التي تناولت مرحلة الشباب كثيرة ومتنوعة، حيث عقدت ندوات ومؤتمرات عن الشباب، وقدمت دراسات ميدانية ونظرية، ونوقشت رسائل علمية، وألفت كتب، ولكن في هذه الدراسة تم اختيار بعض الدراسات السابقة، التي تربط الشباب بالتربية الإسلامية، وقسمت هذه الدراسات إلى قسمين:
أ- دراسات تناولت الاستقامة ومنها:
1 - دراسة صالح بن سعود العلي (1403هـ) التمسك بالسنة وأثره في استقامة المسلم.
احتوت مقدمة الدراسة على بيان كمال الشريعة الإسلامية، والحث على التمسك بالسنة ونشرها، ثم أورد معنى السنة لغة واصطلاحا، وأمثلة لأنواع السنة، وأن التمسك بالسنة قولا كان أو فعلا هو دليل على اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى
(71/271)
محبة الله وشرعه، وأن الله عز وجل لا يقبل من عبد عملا ما لم يستن صاحبه فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم، فالعمل المقبول هو ما التزم فيه صاحبه بالإخلاص لله وحده، والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، الهادي إلى الصراط المستقيم (1) .
2 - دراسة صلاح أحمد الطنوبي (1408هـ) : الاستقامة والإحسان من مكارم الأخلاق في الإسلام.
ورد في الدراسة أن حسن الأخلاق هدف مهم من أهداف الدعوة الإسلامية، ركز عليها القرآن الكريم، وأيدها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
ثم عرف الاستقامة بأنها: كلمة جامعة للخير، ولجميع السجايا الحميدة، والخلال الكريمة، وأسمى ما يطلبه الإنسان في هذه الحياة أن يوصف بأنه مستقيم، وبعد أن أوضح الباحث خلق الاستقامة في الإسلام، انتقل إلى خلق الإحسان في الإسلام (2) .
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد 8، 1403هـ ص183.
(2) مجلة البحوث الإسلامية العدد 22، 1408هـ ص285.
(71/272)
ب- دراسات تناولت الشباب، ومنها:
1 - دراسة عبد الحميد حسن (1391هـ) بعنوان تربية الشباب على مبادئ الإسلام، وهدفت هذه الدراسة إلى إبراز دعائم تربية الشباب، والتي لها ثلاث مراحل:
(71/272)
المرحلة الأولى: بعنوان الصلات الروحية والاجتماعية.
المرحلة الثانية: بعنوان القوى الثلاث التي أودعها الله في الإنسان وهي العقل والإرادة والقلب.
المرحلة الثالثة: المجالات العامة التي توجه وترشد الشباب، وذكر منها المساجد، الإذاعة، التليفزيون، رجال العلم.
وفي ختام الدراسة يرى أن أقوى الدعائم في تربية الشباب على النهج الإسلامي هما: صلة الشباب بالله عز وجل، وتوفير القلب السليم لدى الشباب (مجمع البحوث الإسلامية، التوجيه الإسلامي للشباب. ص7) .
2 - دراسة محمد خلف الله (1391هـ) بعنوان: الدين وحماية الشباب من الانحراف السلوكي والفكري:
وفي هذه الدراسة لم يتم تقسيم الدراسة إلى فصول أو مباحث، وقد ورد فيها أن إعداد الفرد لحياة مستقيمة، صالحة، سالمة من الاعوجاج والانحراف، يبدأ منذ الصغر في السنوات الأولى من الطفولة، وأن يتعاون المنزل والمدرسة والمجتمع في ذلك.
وقد قسمت الدراسة الانحراف إلى درجات وهي: الزلة، النزوة، الخطأ، الذنب، الانحراف المرضي.
ثم أورد نماذج الانحراف المرضي:
(71/273)
النزوع إلى العدوان على الأموال والأنفس.
الاستهتار بالآداب العامة.
خيانة الأمانة.
ارتكاب المعصية.
وأوصت الدراسة على:
- العمل على توفير الطمأنينة الفكرية للشباب.
- ترسيخ الاعتقاد بأن دين الله يسر، وأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
- إعداد الفرد لحياة مستقيمة صالحة يجب أن يبدأ منذ الصغر (مجمع البحوث الإسلامية، التوجيه الإسلامي للشباب ص 185) .
3 - دراسة يوسف الكتاني (1423هـ) : منهج الإسلام في تربية الشباب وتوجيهه:
أكد في بداية دراسته أن الشباب هو الدعامة الأساسية في المجتمع الإسلامي، وأن مسؤولية رعاية الشباب في الإسلام تقوم بها كل من الأسرة والدولة.
كما أكد على أن التربية الدينية للشباب هي العاصم للمجتمع من الانحراف والزيغ والضلال والرفض، والتي تعاني منها المجتمعات المعاصرة.
(71/274)
وأكدت الدراسة أن الشباب المسلم يواجه تحديات العصر والتي حصرت في أمرين:
تحدي علمانية الحضارة الغربية وهيمنتها على مظاهر الحياة.
خلو المناهج لأكثر الدول العربية والإسلامية من التربية الإسلامية.
وتوصلت إلى أهمية الأمور التالية:
- ضرورة العناية بالتربية الدينية.
- تحبيب الشباب بالإيمان وتزيينه في قلوبهم، وتلقيهم أصول العقيدة الإسلامية.
- إبراز محاسن الإسلام وخصاله الحميدة.
- تحصين الشباب من التيارات المنحرفة عن طريق تدريس مادة الإسلام (الندوة العالمية للشباب الإسلامي، بحوث المؤتمر العالمي التاسع 2 \ 41) .
4 - دراسة الشيخ صالح بن غانم السدلان (1423هـ) بعنوان الشباب والانفتاح العالمي:
يقول فضليه الشيخ في بداية دراسته: الإسلام هو دين الله، الجامع لأصول شرائع الأنبياء والمرسلين، أقدر النظم التشريعية على تقديم العلاج الإسلامي لأمراض العالم، وأسقام الإنسانية، وشفائها
(71/275)
من سرطانات الحضارة المزعومة، ومعالجة المشكلات معتمدين في ذلك على هدي الكتاب والسنة، ويواجه الشباب العديد من ألوان الغزو الثقافي، مصدر الحروب الفكرية التي تتسرب إلى صفوفه وتنخر في كيانه، فالمبادئ المعروضة في سوق الأفكار كثيرة، والاتجاهات الفكرية يستخدم لها أساليب الدعاية لتزيينها وجعلها مقبولة، من هنا كان لزاما على الغيورين على مصلحة الشباب المسلم أن يبذلوا الجهد لتخطيط النشاط، وتوجيه الطاقات، وأن يعلموا على حماتيه بشتى الأساليب.
من أهم نتائج الدراسة:
- الدعوة إلى سبيل الله بالقلم واللسان هي الدعامة الأولى، والأصل الأول للجهاد في شريعة الإسلام.
- عالمية الإسلام تهدف إلى نشر القيم والآداب، وأساسها الوفاء بحاجات البشر.
- تقديم رسالة الإسلام في هذه الأيام يستدعي تخطيطا، وتنظيما، وتنسيقا، وتكاملا بين الهيئات والمؤسسات العاملة في حقل الدعوة، وفق الأسس الشرعية والضوابط العلمية (1) .
5 - دراسة سالم العوش (1423هـ) وعنوانها وسائل التقنية
__________
(1) الندوة العالمية للشباب الإسلامي، بحوث المؤتمر العالمي التاسع 2 \ 369.
(71/276)
وأثرها في الشباب وسبل استثمارها.
تؤكد هذه الدراسة بأن الشباب لا بد له من رعاية على أسس إسلامية، وهي روحية رئيسية، ومادية، تعكس المتطلبات الأساسية للشباب.
وأبرزت الدراسة أهمية وسائل التقنية في مجال التعليم والتربية، وأكدت الدراسة على القيم والمبادئ، والمصلحة الإيجابية للإنسان، ولن يفيد إلا التحصين الأخلاقي، والوازع الديني، وتعليم الشباب، وتثقيفهم، وإعانتهم، وتقديم الخبرة لهم، وتقويم سلوكهم، وتأمين عمل لهم، واحترامهم، والاعتراف بقدراتهم (1) .
وتتفق جميع الدراسات السابقة مع هذه الدراسة على أهمية الاستقامة في الحياة وأهمية مرحلة الشباب، غير أن هذه الدراسة تتميز عن الدراسات السابقة بأنها ربطت بين ثلاثة محاور رئيسة وهي: الاستقامة، والشباب، والتحصين.
__________
(1) الندوة العالمية للشباب الإسلامي، بحوث المؤتمر العالمي التاسع 1 \ 159.
(71/277)
رابعا: طريق الاستقامة:
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) .
قال البيضاوي في تفسيره (أي كما جعلناكم مهديين إلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(71/277)
الصراط المستقيم، جعلناكم أمة وسطا، أي خيارا أو عدولا، مزكين بالعلم والعمل،. . ثم استعير للخصال المحمودة، لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن (1) .
وقال ابن قيم الجوزية: (كلمة العدل هو الأخذ بالوسط) (2) . وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: أي (عدلا خيارا، وما عدا الوسط، فالأطراف داخلة تحت الخطر فجعل هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين) (3) ، فطريق الإسلام؛ هو طريق الوسط، هو طريق الاستقامة، طريق الصراط المستقيم، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (4) .
قال ابن جرير في تفسير الصراط المستقيم: " أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه " إلى أن يقول: " والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أن يكون معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل، وذلك هو
__________
(1) البيضاوي، تفسير البيضاوي 1 \ 91.
(2) ابن قيم الجوزية، الفوائد ص141.
(3) السعدي عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 1 \ 75.
(4) سورة الفاتحة الآية 6
(71/278)
الصراط المستقيم " (1) .
وورد في المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي: أن الهدى يجيء بمعنى الإيمان في القلب، والهداية هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال، والصراط هو الطريق الواضح، وقد قيل عن الصراط إنه القرآن الكريم، وقيل هو الإسلام، وقيل كذلك إنه دين الله سبحانه وتعالى، الذي لا يقبل من العباد غيره، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مع سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ووجوب الالتزام بأحكام الشرع، أما المستقيم فهو الذي لا انحراف فيه، مستقيما على الحق، والغاية هي الفلاح (2) .
وقال البيضاوي: إن تفسير قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) أنه يراد بالمستقيم طريق الحق، وقيل: ملة الإسلام (4) .
قال ابن قيم الجوزية: إن قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) يتضمن أن الإنسان لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، وأن لا سبيل له إلى الاستقامة إلا
__________
(1) الطبري، تفسير الطبري 1 \ 75.
(2) ابن عطية، المحرر الوجيز1 \ 73-75
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) البيضاوي، تفسير البيضاوي 1 \ 10.
(5) سورة الفاتحة الآية 6
(71/279)
بهداية ربه له (1) .
وقال أيضا: (وذكر الصراط المستقيم مفردا معرفا تعريفين: تعريفا بإعلام، وتعريفا بالإضافة، وذلك يفيد تعينه، واختصاصه، وأنه صراط واحد) (2) .
وقال: (ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، وقبله أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان هامتان هي مطلوبهم، توسل بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء (3) . وبالتالي فإن على المسلم لزوم الصراط المستقيم، حتى تتحقق له سعادته في الدنيا والآخرة، وطلب الهداية من الله عز وجل.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (4) (أي دلنا، وأرشدنا، ووفقنا إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وجنته، وهو معرفة الحق، والعمل به فاهدنا إلى الصراط،
__________
(1) ابن قيم الجوزية، الفوائد ص19.
(2) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين 1 \ 21.
(3) المرجع السابق ص31.
(4) سورة الفاتحة الآية 6
(71/280)
واهدنا في الصراط، فالهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا، فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك (1) .
لأن الاستقامة هي اتباع الصراط المستقيم دون زيادة أو نقص، فلا يتشدد الإنسان ولا يتساهل أو يتكاسل عن الطاعة، فإذا رأى الشيطان ذلك رغب في التساهل والتكاسل، حتى يتحلل من الدين، فيترك الواجبات، ويفعل المحرمات، حتى يقطع صلته بالدين، أما إذا رأى الشيطان حرص الإنسان على الدين رغبة بالجور على النفس، ومجاوزة الاعتدال، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاستقامة (2) .
والإنسان له جانبان: (جانب هو فيه منقاد بالفطرة من حيث حياته وموته وطوله ولونه، أو من حيث آيات الكون التي يحيا معها وتؤثر فيه من هواء، وسماء، وزرع، وثمار، وليل، ونهار، وإلى غير ذلك من مخلوقات يرتبط كيانه بوجودها، وتتوقف حياته على
__________
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن 10 \ 16.
(2) الفوزان، الخطب المنبرية ص 224.
(71/281)
قيامها. وجانب هو فيه مختار من حيث: سلوكه وعمله الذي هو نتيجة عزمه وإرادته، فإن التقى بسلوكه وعمله مع فطرته، أي إرادته تبعا لأمر ربه كان الصلاح، وإن انحرف بسلوكه وعمله عن فطرته، أي كانت إرادته تبعا لهواه كان الفساد (1) .
وقد وردت كلمة المستقيم في آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) والصراط المستقيم هو الإسلام (3) . وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) وهو الإسلام (5) . وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) أي الإسلام (7) .
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (8) وهو الإسلام (9) .
وقوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (10) (وهذا الذي أنت عليه يا محمد طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه، مستقيما لا عوج فيه، وهو الإسلام) (11) .
__________
(1) محمد الراوي، الدعوة الإسلامية ص 84.
(2) سورة يونس الآية 25
(3) سورة يونس، الآية 25، البغوي 1 \ 394.
(4) سورة الحج الآية 54
(5) سورة الحج، الآية 54، البغوي 2 \ 625.
(6) سورة المؤمنون الآية 73
(7) سورة المؤمنون، الآية 73، البغوي 2 \ 628.
(8) سورة الشورى الآية 52
(9) سورة الشورى، الآية 52، البغوي 2 \ 841.
(10) سورة الأنعام الآية 126
(11) سورة الأنعام، الآية 126، البغوي 1 \ 272.
(71/282)
وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
قال ابن جرير: " قل يا محمد لهم: إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة فوفقني له " (2) .
قال ابن عطية الأندلسي في تفسيره لهذه الآية: هذا أمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإعلان بشريعته، والانتباه من سواها من الأضاليل، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن، والفضل، والاستقامة (3) .
أما الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى فيقول في تفسيره لهذه الآية: (يأمر الله سبحانه وتعالى النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول ويعلن بما هو عليه من الهداية إلى الصراط المستقيم، الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة، والأعمال الصالحة، والأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح، الذي عليه الأنبياء والمرسلون، خصوصا إمام الحنفاء، ووالد من يعيش من بعد
__________
(1) سورة الأنعام الآية 161
(2) الطبري، تفسير الطبري 3 \ 392.
(3) ابن عطية، المحرر الوجيز 2 \ 368، 369.
(71/283)
موته من الأنبياء، خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو الدين الحنيف) (1) .
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .
الإشارة هنا بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (3) إلى الشرع الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم بجملته، وقال الطبري: الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت في سورة الأنعام (4) .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: (أي هذه الأحكام وما أشبهها مما بينه الله في كتابه ووضحه لعباده، صراط الله الموصل إليه وإلى دار كرامته المعتدل، السهل، المختصر، فاتبعوه لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح) (5) .
وفي الحديث: (عن عبد الله قال: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيما. قال: ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان
__________
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، 2 \ 237.
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) المرجع السابق، ص233.
(5) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 2 \ 233.
(71/284)
يدعو إليه. ثم قرأ: (2) » .
ومما تقدم يتضح الآتي:
1 - يتميز الدين الإسلامي بالوسطية في كل أموره فهذه ميزة خاصة بالإسلام.
2 - طريق الصراط المستقيم هو طريق الدين الإسلامي.
3 - طريق الصراط المستقيم هو طريق القرآن الكريم والسنة النبوية.
4 - سؤال الهداية من الله عز وجل من أجل المطالب؛ لذلك لا بد للمسلم أن يدعو ربه بأن يهديه إلى الصراط المستقيم.
5 - يجب على المسلم أن يكون على هدي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
6 - يجب على المسلم الالتزام بأحكام الشرع.
7 - طريق الصراط المستقيم هو طريق الاستقامة على الدين، وسلوك هذا الطريق لا يعد صعبا، إذا عزم الشاب وتوكل على الله، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم (3) » .
__________
(1) ابن حنبل 1 \ 465.
(2) سورة الأنعام الآية 153 (1) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}
(3) صحيح مسلم الإيمان (38) ، سنن الترمذي الزهد (2410) ، سنن ابن ماجه الفتن (3972) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي الرقاق (2710) .
(71/285)
خامسا: الأمر بالاستقامة
ورد الأمر بالاستقامة في القرآن الكريم، والسنة النبوية:
أ - من آيات القرآن الكريم:
ورد الأمر بالاستقامة بكلمات متعددة منها: أقم، واستقم، واتبع، بصيغة المفرد والجمع على النحو التالي:
1 - أقم: ورد الأمر بالاستقامة بكلمة: أقم في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي - فأقم وجهك للدين حنيفا - هو الدين الحق دون سائر الأديان غيره " (2) .
وقال البيضاوي في تفسير هذه الآية: (فقومه غير ملتفت، أو ملتفت عنه، وهو تمثيل للإقبال للاستقامة عليه والاهتمام به) (3) .
وكذلك ورد الأمر بالاستقامة بكلمة: أقيموا؛ قال الله تعالى:
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) الطبري، تفسير الطبري 6 \ 104.
(3) البيضاوي، تفسير البيضاوي 2 \ 220.
(71/286)
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) .
قال البغوي في تفسير هذه الآية: (بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين، والألفة، والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة) (2) .
قال الشيخ السعدي في تفسيره لهذه الآية: أي أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين، أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (3) .
2 - استقم: ورد الأمر بكلمة استقم بصيغة المفرد والجمع حيث ورد بصيغة المفرد في آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4) . قال ابن جرير: أي فاستقم أنت يا محمد، على أمر ربك، والدين الذي ابتعثك به والدعاء إليه كما أمرك ربك " (5) .
وهذا تأكيد بالأمر على طاعة الله عز وجل، واتباع الحلال
__________
(1) سورة الشورى الآية 13
(2) البغوي، مختصر البغوي 2 \ 835.
(3) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 96.
(4) سورة هود الآية 112
(5) الطبري، تفسير الطبري 4 \ 316.
(71/287)
واجتناب الحرام، والتحذير من الكفر أو العصيان. والاقتداء بحياة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي على الاستقامة، حيث أشار لذلك ابن عطية الأندلسي أن الأمر بالاستقامة للنبي صلى الله عليه وسلم هو للدوام والثبات على الاستقامة، قال ابن عطية في تفسيره لهذه الآية: (أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالاستقامة، وهو عليها، وإنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنسانا بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا عن الكفر، ولسائر أمته بالمعنى) (1) .
وبذلك يتضح أن الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم بالثبات والدوام على الاستقامة ولعموم المسلمين، قال البيضاوي في تفسيره لهذه الآية: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثلما أمر بها. وهي شاملة للاستقامة في العقائد والأعمال: من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط.
ولا تطغوا: أي ولا تخرجوا عما هو لكم، فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي، وفي الآية دليل على وجوب إتباع النصوص من غير انحراف (2) .
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز 3 \ 211.
(2) البيضاوي، أنوار التنزيل 1 \ 472.
(71/288)
وهذا تأكيد على، وأن هذه الوسطية هي الطريق المستقيم، طريق الاستقامة التي يجب على المسلم ألا يخرج أو ينحرف عنها.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (1) أمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويداوموا على ذلك؛ ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة (2) .
أما الآية الثانية التي فيها الأمر بالاستقامة بصيغة المفرد فهي: قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (3) .
خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وقد كان مستقيما أي مداوما على الاستقامة، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عيني النبي صلى الله عليه وسلم، ولها وقع شديد في نفسه؛ لأن
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 3 \ 218.
(3) سورة الشورى الآية 15
(71/289)
تحتها جميع الطاعات، وتكاليف النبوة (1) .
وقال البيضاوي في تفسير هذه الآية: ادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية، واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى، ولا تتبع أهواءهم الباطلة، وقل آمنت بجميع الكتب المنزلة، ليس كالكفار الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها (2) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ادع إلى الدين القويم والصراط المستقيم الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله، أو استقم بنفسك استقامة موافقة لأمر الله، لا تفريط ولا إفراط، بل امتثالا لأوامر الله واجتنابا لنواهيه (3) .
وورد الأمر بالاستقامة بصيغة الجمع قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (4) .
فاستقيموا إليه: (توجهوا إليه بالطاعة، ولا تميلوا عن سبيله) (5) . وأيضا: استقيموا على محجة الهدى، وطريق الشرع
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز 5 \ 30.
(2) البيضاوي، تفسير البيضاوي 2 \ 361.
(3) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 98.
(4) سورة فصلت الآية 6
(5) البغوي، مختصر البغوي، 2 \ 826.
(71/290)
والتوحيد (1) .
وقال البيضاوي في تفسير هذه الآية: لا أدعوكم لما تنبو عنه العقول والأسماع، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدل عليهما دلائل العقل وشواهد النقل، فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد، والإخلاص في العمل، واستغفروا مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل، ثم هددهم على ذلك فقال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (2) من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله فالاستقامة هي طاعة الله عز وجل، وعدم الخروج عن الصراط المستقيم.
أما الشيخ السعدي رحمه الله تعالى فقال: (أي اعترفوا بربوبية الله تعالى، واستسلموا لأمره، ثم استقاموا على الصراط المستقيم علما وعملا، فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (3) .
3 - اتبع: حيث ورد بصيغة الأمر، كقول الله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (4) ، قال ابن جرير " اتبع، يا محمد، ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، فأعمل به، وازجر عما
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز 5 \ 4.
(2) سورة فصلت الآية 6
(3) السعدي عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 84.
(4) سورة الأنعام الآية 106
(71/291)
زجرك عنه فيه " (1) .
وقال البغوي في تفسيره لهذه الآية: (يعني القرآن اعمل به) (2) .
أما صيغة الجمع في فعل: اتبع، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .
(قال ابن مسعود: إن الله جعل طريقا مستقيما، طرفه محمد عليه السلام، وشرعه، ونهايته الجنة، وتتشعب منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلي النار.
وقال أيضا: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال: هذا سبيل الله، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية (4) » .
وورد في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز أن سبب خلاف الفرق وأمثالهم هو عدولهم عن الصراط المستقيم، الذي أمرنا
__________
(1) الطبري، تفسير الطبري 3 \ 327.
(2) البغوي، مختصر تفسير البغوي 1 \ 266.
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) ابن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز 2 \ 364، ورد الحديث في مسند الإمام أحمد 1 \ 465.
(71/292)
الله باتباعه في هذه الآية، حيث وحد لفظ صراطه وسبيله وجمع السبل المخالفة له، ومن هنا اضطرار سؤال الله هداية الصراط المستقيم فوق كل ضرورة (1) .
وفي تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى لهذه الآية: أي هذه الأحكام مما بينه الله في كتابه ووضحه لعباده صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل، السهل، المختصر، فاتبعوه لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح، ولا تتبعوا الطرق المخالفة فتضلكم عنه، وتفرقكم يمينا وشمالا، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم (2) .
وفي صيغة الجمع: قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
قال ابن جرير أي " اتبعوا أيها الناس، ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى، واعملوا بما أمركم به ربكم، ولا تتبعوا شيئا من دونه " (4) .
وقال ابن عطية: هذا (أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية ص 525.
(2) السعدي، عبد الرحمن 2 \ 233.
(3) سورة الأعراف الآية 3
(4) الطبري، تفسير الطبري 3 \ 400.
(71/293)
وأمته، وقال القاضي أبو محمد: والظاهر أن يكون أمرا لجميع الناس، أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن) (1) .
وبذلك يتضح أن الأمر بالاستقامة ورد بصيغة المفرد والجمع بفعل الأمر اتبع.
وهذا الأمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالدوام والثبات على الاستقامة، وللمسلمين جميعا باتباع الاستقامة علما وعملا، مع التأكيد على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز 2 \ 373.
(71/294)
ب - من الحديث النبوي:
أما في الحديث النبوي: فقد ورد الأمر بالاستقامة بفعل استقم، في حديث سفيان بن عبيد الله الثقفي قال: «قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ قال: قل: آمنت بالله ثم استقم (1) » . رواه مسلم، وقد ورد في صحيح مسلم بشرح النووي لهذا الحديث أن القاضي عياضا رحمه الله قال: (هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (2) (أي وحدوا الله، وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه وتعالى
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، 1 \ 24، وابن حنبل 3 \ 413.
(2) سورة فصلت الآية 30
(71/294)
إلى أن توفوا على ذلك) (1) .
وورد في كتاب رياض الصالحين معنى استقم: أي استقم على عمل الطاعات (2) .
أما في كتاب شرح الأربعين حديثا النووية، فقد ورد أن معنى قوله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك أي علمني قولا جامعا لمعاني الإسلام، واضحا في نفسه، بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك، أعمل عليه، وأتقي به، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: «قل: آمنت بالله ثم استقم (3) » وهذا من جوامع الكلم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلها، فإنه أمره أن يجدد إيمانه بلسانه، متذكرا بقلبه، وأمر أن يستقيم على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات، إذ لا تتأتى الاستقامة مع شئ من الاعوجاج فإنها ضده (4) .
شرح الشيخ علي محفوظ هذا الحديث بقوله: إن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم تعني الإقرار بالتوحيد لله سبحانه وتعالى، ومعرفته بربه أولا، ثم الاستقامة على طريقة الدين، أوامره ونواهيه، وجمع معاني الإسلام إجمالا في أمور أربعة: عقائد، وعبادات، ومعاملات،
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 29.
(2) النووي، رياض الصالحين ص 5.
(3) صحيح البخاري كتاب المناقب (3615) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2009) .
(4) النووي، شرح الأربعين النووية ص 63.
(71/295)
وأخلاق كريمة (1) .
وورد أن أعضاء الإنسان تحث اللسان بالاستقامة، حيث روى أبو سعيد الخدري قال: إذا أصبح ابن آدم فإن أعضاءه تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا (2) .
والأمر بالاستقامة بصيغة الجمع ورد في الحديث التالي: عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (3) » .
وقال محمد شرف الدين الدمياطي في كتابه المتجر الرابح في شرح قوله (لن تحصوا) أي: (لن تحصوا ما لكم عند الله من الأجر والثواب إن استقمتم) (4) .
وعن الاستقامة أكد ابن تيمية رحمه الله تعالى على وجوب الاستقامة بقوله: (قاعدة في وجوب الاستقامة ومتابعة الكتاب والسنة، في باب أسماء الله وصفاته وتوحيده بالقول والاعتقاد
__________
(1) محفوظ، هداية المرشدين ص370
(2) ابن حنبل 3 \ 96
(3) ابن حنبل 5 \ 277
(4) الدمياطي، محمد شرف الدين، المتجر الرابح ص 45
(71/296)
وبيان اشتمال الكتاب والسنة على جميع الهدى، وأن التفرق والضلال إنما حصل بترك بعضه) (1) .
__________
(1) ابن تيمية، الاستقامة 1 / 3.
(71/297)
سادسا: أثر الاستقامة:
طريق الاستقامة يمثل خط العدل الذي لا انحراف فيه ولا شطط، وأثر الاستقامة لا ينحصر في الفرد المستقيم، بل يتعدى الأفراد إلى الأسرة، ويتجاوز الأسرة إلى المجتمع، بل يعم الأمة كلها.
فالشاب المسلم المستقيم الذي يخاف الله عز وجل في السر والعلن، لديه رقابة ذاتية قوية، هي بمثابة تحصين عال، تحصين ذاتي، أساسه الإيمان.
والإيمان والاستقامة بينهما ترابط، كل منهما يقوى ويزيد من التحصين الذاتي للشباب؛ ولكن بشرط توافر الإيمان أولا، فإذا ضعف الإيمان ضعفت الاستقامة وبالتالي ضعف التحصين، فالمطلوب هو الإيمان الصحيح الصادق الذي يظهر أثرا في الاستقامة، علما وعملا، وهذه الاستقامة تؤثر على التحصين قوة وضعفا، وفيما يلي أثر الاستقامة التي تزيد بعون الله وقدرته من التحصين.
(71/297)
1 - الثبات على الإيمان:
الإيمان أساس الاستقامة، وله أركان ستة هي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره
(71/297)
وشره، ولا يتم إيمان أحد إلا إذا آمن بها جميعا على ما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية (1) .
وقد ورد في شرح النووي لصحيح مسلم في باب جامع أوصاف الإسلام، أن القاضي عياضا رحمه الله تعالى شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «قل آمنت بالله ثم استقم (2) » . إن هذا الحديث مطابق لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (3) ، أي أنهم آمنوا، ووحدوا الله، ثم استقاموا، لم يحيدوا ويخرجوا عن طاعة الله، بل التزموا طاعة الله سبحانه وتعالى (4) .
وقال ابن عطية: إن الموحد المستقيم على طاعة الله عز وجل، أتم حالا وأكمل بشارة (5) .
والعلاقة بين الإيمان والاستقامة علاقة قوية؛ لأنه لا بد من الإيمان أولا، ثم الاستقامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم (6) » ، فالإيمان أساس الاستقامة ومن لا إيمان له لا استقامة له، والاستقامة مرتبطة بالإيمان، فإذا زاد الإيمان زادت
__________
(1) هراس، محمد خليل: شرح العقيدة الواسطية ص 17.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة فصلت الآية 30
(4) النووي، شرح صحيح مسلم 1 \ 9.
(5) ابن عطية، المحرر الوجيز 5 \ 15.
(6) صحيح مسلم الإيمان (38) ، سنن الترمذي الزهد (2410) ، سنن ابن ماجه الفتن (3972) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي الرقاق (2710) .
(71/298)
الاستقامة، وكذلك إذا نقص الإيمان نقصت الاستقامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه (1) » .
فوجود الإيمان أولا يشعر الشاب بأن الله سبحانه وتعالى يسمع ويرى، ويوضح ابن قيم الجوزية أثر الإيمان على الإنسان بقوله: (إذا علم الإنسان بتفرد الرب تعالى بالضرر، والنفع، والعطاء، والمنع، والرزق، والإحياء، والإماتة، يثمر له عبودية المتوكل عليه باطنا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرا، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين، وما تخفى الصدور، يثمر له حفظ لسانه، وجوارحه، وخطرات قلبه، عن كل ما لا يرضى الله) (2) .
__________
(1) حديث ابن حنبل، 3 \ 198.
(2) ابن القيم الجوزية، مفتاح دار السعادة 2 \ 90.
(71/299)
2 - جزاء الاستقامة:
استقامة المسلم في هذه الحياة له جزاء من الله عز وجل، وهذا الجزاء أثر ناتج عن اتباع الاستقامة، ويتضح ذلك في الآيتين الكريمتين، قال الله تعالى
(71/299)
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) . قال ابن جرير في تفسيره أي " إن الذين قالوا ربنا الله، وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد - ثم استقاموا - على توحيد الله ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به وانتهوا إلى طاعته فيما أمر به ونهى، تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم " (2) .
قال البيضاوي في تفسيره لهذه الآية: (فما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن، أو عند الموت أو الخروج من القبر) (3) . وهذه الآية هي وعد للمؤمنين وعد بالآثار الطيبة والجوائز الربانية من الله عز وجل، وكلما كان المرء أشد استعدادا كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى (4) .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (أي اعترفوا ونطقوا، ورضوا بربوبية الله تعالى، واستسلموا لأمره، ثم استقاموا على الصراط المستقيم علما، وعملا، فلهم البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة) (5)
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) الطبري تفسير الطبري 6 \ 465.
(3) البيضاوي، تفسير البيضاوي 2 \ 353.
(4) ابن عطية، المحرر الوجيز 5 \ 14.
(5) السعدي عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 84.
(71/300)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
قال ابن جرير في تفسيره " إن الذين قالوا ربنا الله - الذي لا إله غيره - ثم استقاموا - على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه - فلا خوف عليهم - من فزع يوم القيامة وأهواله - لا هم يحزنون - على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم " (3) .
وقال ابن عطية، في تفسير هذه الآية: (إن الله عز وجل أخبر عن حسن حال المسلمين، ورفع عنهم الخوف والحزن؛ لأنهم استقاموا بالطاعات، والأعمال الصالحة) (4) .
فهذا أثر واضح للاستقامة فالذين استقاموا بالأعمال الصالحة والطاعات، حالهم تكون حسنة، ويرفع عنهم الخوف والحزن.
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (أي إن الذين أقروا بربهم، وشهدوا بالوحدانية، والتزموا طاعته وداوموا
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 13
(2) سورة الأحقاف الآية 14
(3) الطبري، تفسير الطبري 7 \ 14.
(4) ابن عطية، المحرر الوجيز 5 \ 96.
(71/301)
على ذلك، ثم استقاموا مدة حياتهم، فلا خوف عليهم من كل شر أمامهم، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم، أولئك أصحاب الجنة، أي أهلها الملازمون لها، الذين لا يبغون عنها حولا ولا يريدون بها بدلا، {خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) من الإيمان بالله، المقتضي للأعمال الصالحة التي استقاموا عليها (2) .
وبذلك يتضح أن من جزاء الاستقامة ونتائجها الحسنة ما يلي:
- تنزل الملائكة - عدم الخوف - عدم الحزن - الجنة؛ وهذه آثار عظيمة وفوائد جليلة من أثر الاستقامة.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 14
(2) السعدي عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 153.
(71/302)
3 - العمل الصالح:
فروض الإسلام، وأركانه، وواجباته، وسننه، ونوافله، وأعمال الخير الأخرى، كلها أعمال صالحة، يقوم بها من اتبع طريق الاستقامة، وكل عمل من هذه الأعمال له أثر على حياة المسلم.
فالاستقامة (هي منتهى العمل) (1) ، والعمل الصالح هو أثر عمل الاستقامة، ويأتي بعد الإيمان، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (2) .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: (إن الذين
__________
(1) البيضاوي 2 \ 394.
(2) سورة فصلت الآية 8
(71/302)
آمنوا بهذا الكتاب، وما اشتمل عليه مما دعا من الإيمان، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، الجامعة للإخلاص، والمتابعة، لهم أجر عظيم) (1) .
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية " من عمل بطاعة الله، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مصدق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية " (3) . وتفسير الحياة ورد فيها عدة أقوال: قيل: إنها الرزق الحلال، وقيل: القناعة، وقيل: العيش في الطاعة، وقيل: حلاوة الطاعة وقيل: هي الجنة (4) .
قال البيضاوي: في الدنيا يعيش عيشا طيبا، وفي الآخرة الأجر العظيم (5) .
__________
(1) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 77.
(2) سورة النحل الآية 97
(3) الطبري تفسير الطبري 4 \ 555.
(4) البغوي، مختصر تفسير البغوي 1 \ 502.
(5) البيضاوي، تفسير البيضاوي 1 \ 556.
(71/303)
4 - حصول الأجر والثواب من الله عز وجل:
عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا (1) » .
قال الدمياطي في كتابه المتجر الرابح (أي: لن تحصوا ما لكم عند الله من الأجر والثواب إن استقمتم) (2) .
ولا شك أن من هذا الأجر تنزل الملائكة، وعدم الخوف، وعدم الحزن، والبشارة بالجنة.
قال الله تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) .
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (أي هذا الثواب الجزيل، والنعيم المقيم، نزل وضيافة من غفور غفر السيئات، رحيم حيث وفقكم لفعل الحسنات، ثم قبلها منكم، فبمغفرته أزال عنكم المحذور، وبرحمته أنالكم المطلوب) (4) .
__________
(1) ابن حنبل 5 \ 277.
(2) الدمياطي، المتجر الرابح ص.
(3) سورة فصلت الآية 32
(4) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن 7 \ 84.
(71/304)
5 - الرزق الواسع:
قال الله تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (1) .
__________
(1) سورة الجن الآية 16
(71/304)
قال ابن جرير في تفسيره: أي " لوسعنا عليهم في الرزق، وبسطناهم في الدنيا " (1) .
قال البغوي: وقيل في تفسير هذه الآية: (لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا، وأعطيناهم مالا كثيرا رغدا، وضرب الماء الغدق مثلا؛ لأن الخير والرزق كله في المطر) (2) .
وقال البيضاوي: (إن الشأن لو استقام الجن والإنس، أو كلاهما لوسعنا عليهم في الرزق، وتخصيص الماء الغدق، وهو الكثير، بالذكر؛ لأنه أصل المعاش والسعة، وكثرة وجوده بين العرب " (3) .
__________
(1) الطبري، تفسير الطبري 7 \ 388.
(2) البغوي، مختصر تفسير البغوي 2 \ 973.
(3) البيضاوي، تفسير البيضاوي 2 \ 535.
(71/305)
6 - التعلم الجيد:
المعلم والمتعلم، كلاهما يبحثان عن التعلم الجيد، والتعلم الجيد له شروط كثيرة حيث قال الدكتور إبراهيم وجيه محمود: إن شروط التعلم الجيد هي الدوافع والنضج والممارسة (1) .
وكذلك قال الدكتور عيسوي: إن شروط التعلم الجيد هي: التكرار، والدافع والتدريب، والطريقة الكلية والجزئية، والتسميع
__________
(1) محمود، إبراهيم، التعلم ص39.
(71/305)
الذاتي، والإرشاد، والتوجيه، ومعرفة النتائج (1) .
ولكن لم تتم الإشارة في هذه الكتب وغيرها إلى الاستقامة كشرط من شروط التعلم الجيد، لذا من الضروري جدا إضافة شرط الاستقامة حتى يكون التعلم جيدا بل تكون الاستقامة الشرط الأول من شروط التعلم الجيد.
لأن التعلم الجيد يتطلب عقلا صافيا، وقلبا سليما من كل إثم، وهذا لا يتحقق إلا إذا ابتعد المتعلم عن الشرور، ظاهرا وباطنا، متبعا الأوامر، ومجتنبا النواهي، (فالقلب الصحيح السليم يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع، الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين) (2) .
__________
(1) عيسوي، عبد الرحمن، علم النفس في المجال التربوي ص66.
(2) ابن العز، شرح العقيدة الطحاوية ص276.
(71/306)
سابعا: الخاتمة
1 - خلاصة:
عنوان الدراسة هو: الاستقامة في التربية الإسلامية وأثرها في تحصين الشباب، والتي احتوت على الآتي:
(71/306)
مقدمة:
والتي أوضحت أن الإسلام دين الله عز وجل، وأنه دين الفطرة، مع إبراز أهمية الاستقامة بالدليل، ووجوب استقامة الشاب على هدي القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
أ - أهمية الدراسة والتي اتضحت في الأمور التالية:
1 - ضرورة إدراك الشباب لمنهج الإسلام الواضح علما وسلوكا.
2 - مرحلة الشباب مرحلة هامة، وبحاجة إلى إرشاد وتعليم ورعاية.
3 - يتعرض الشباب لمشكلات مختلفة، تظهر مدى حاجة الشاب للتحصين.
4 - الانفتاح العالمي وظهور مخترعات متنوعة تشكل أخطارا محدقة بحاجة إلى تحصين الشباب.
5 - ظهور أفكار وطرائف متنوعة في ميدان التربية والتعليم تظهر مدى الحاجة إلى استقامة الشباب في التعليم والتعلم.
هذه الدراسة تهدف إلى إبراز مفهوم الاستقامة وأثرها في تحصين الشباب.
مصطلحات الدراسة وهي: الاستقامة والتي عرفت بأنها
(71/307)
سلوك المسلم في حياته وجميع أحواله، وفق تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية.
التربية الإسلامية وهي: إعداد المسلم إعدادا كاملا من جميع النواحي والمراحل العمرية وفق تعاليم الإسلام.
الأثر: الأمر أو الحدث الذي يكون ناتجا من تحقيق الاستقامة.
التحصين: وهو أي عمل أو فعل صالح يمنع الشر أو الضرر عن الشاب المسلم.
الشاب: وهو الذي بلغ ولم يصل سن الأربعين.
الدراسات السابقة: والتي قسمت إلى قسمين:
1 - دراسات تناولت الاستقامة، وهي: دراسة صالح بن سعود العلي (1403هـ) ، ودراسة محمد صلاح أحمد الطنوبي (1408هـ) .
2 - دراسات تناولت الشباب، وهي دراسة: عبد الحميد حسن (1391هـ) ، ودراسة محمد خلف الله (1391هـ) ، ودراسة: يوسف الكتاني (1423هـ) ، ودراسة الشيخ صالح بن غانم السدلان (1423هـ) ، ثم دراسة سالم العوش (1423هـ) .
وتتفق هذه الدراسات السابقة مع الدراسة الحالية على أهمية الاستقامة وأهمية مرحلة الشباب، غير أن هذه الدراسة تتميز بأنها ربطت بين ثلاثة محاور رئيسة وهي: الاستقامة، والشباب، والتحصين.
(71/308)
طريق الاستقامة وهو الطريق المستقيم، طريق الدين الإسلامي الحنيف.
- الأمر بالاستقامة، والذي اتضح من استعراض بعض آيات القرآن الكريم، وبعض الأحاديث النبوية التي تناولت الأمر بالاستقامة.
- أثر الاستقامة والتي تتضح في أمور كثيرة منها الثبات على الإيمان، جزاء الاستقامة، والعمل الصالح، حصول الأجر والثواب من الله عز وجل، الرزق الواسع، التعليم الجيد.
- النتائج:
- أهمية الاستقامة على الدين الإسلامي.
- التربية الإسلامية الصحيحة لها دور فعال في استقامة الشباب.
- تتعلق الاستقامة بجميع أمور المسلم في الدنيا والآخرة.
- وجوب اتباع طريق الاستقامة.
- توصلت الدراسة إلى تعريفات خاصة في الاستقامة، والتربية الإسلامية، والأثر، والتحصين، والشباب.
- تميزت هذه الدراسة عن الدراسات السابقة بأنها ربطت بين الاستقامة والشباب والتحصين.
- أوضحت الدراسة تميز الدين الإسلامي بالوسطية في كل أموره ومنها التوسط في تربية ورعاية الشباب.
- أكدت الدراسة أن الصراط المستقيم هو الدين الإسلامي،
(71/309)
وهذا الصراط بحاجة إلى سؤال من الله عز وجل بالهداية إليه والاستمرار والدوام عليه.
- ورد الأمر بالاستقامة في آيات من القرآن الكريم بصيغة الأمر والجمع في كلمات منها: أقم، استقم، اتبع، وكذلك ورد الأمر بالاستقامة بصيغة المفرد والجمع.
- الاستقامة لها أثر في تحصين الفرد ويتجاوز هذا الأثر إلى المجتمع والأمة.
- تعد الاستقامة شرطا أساسيا من شروط التعلم الجيد.
المقترحات:
1 - الرعاية والعناية بالشباب من جميع مؤسسات المجتمع.
2 - إبراز الاستقامة وأثرها في مناهج التعليم وخاصة في مرحلة التعليم الثانوي والجامعي.
3 - تقوية صلة الشباب بالدين من خلال عقد ندوات، وحلقات علمية، ليستفيد الشباب من وقت الفراغ لديهم.
هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
(71/310)
الوقاية الصحية في الإسلام
"دراسة حديثية"
لفضيلة الدكتور \ علي بن جابر وادع الثبيتي (1) .
المقدمة:
جاءت الشريعة الإسلامية بصلاح القلوب والأبدان ففروض الشريعة وسننها ومستحباتها وأوامرها ونواهيها أسس صحيحة يقول سان جيورجيو دوريلانو عنها: " إن الفروض والواجبات والسنن والمستحبات التي كلف بها المسلمون ترمي إلى إصابة هدفين وتحقيق غايتين في آن واحد: غاية دينية وغاية صحية ".
ويقول رونة ساند في كتابه نحو الطب الاجتماعي: " إن تعاليم الإسلام الدينية تحافظ على الصحة وتحسنها لأنها تدعو إلى الاعتدال في الأكل والشرب وتفرض النظافة والاغتسال بالماء الطاهر
__________
(1) أستاذ مساعد بقسم الدراسات الإسلامية، بكلية المعلمين بمكة المكرمة.
(71/311)
خمس مرات في اليوم وقبل كل صلاة ".
هذه الأسس والفوائد الصحية منها ما كشف الطب الحديث عنها ومنها ما زال بحاجة إلى بحث قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1) .
وليس هذا فحسب بل الإسلام وضع أسس الوقاية الصحية من الأمراض النفسية التي أشار إليها الإسلام وجالت في ساحات الغرب، وتولد عنها الانتحار والاكتئاب، الأمر الذي عجز عنه الطب الحديث قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) .
بيد أن الإسلام قد وضع العلاج لكثير من الأسقام منها ما يصيب الإنسان جراء العين فشرع الرقية وهي علاج لم يستطع الطب الحديث أن يعالج ذلك كله. أخرج ابن ماجه في سننه من طريق سفيان عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: «مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة. فما لبث أن لبط به فأتي به إلى النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة فصلت الآية 53
(2) سورة طه الآية 124
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب باب العين 2 \ 1160.
(71/312)
وسلم فقيل له: أدرك سهلا صريعا، قال: من تتهمون به قالوا: عامر بن ربيعة قال: علام يقتل أحدكم أخاه إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه، فليدع له بالبركة ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه (1) » اهـ.
فشفي منها سهل وكأن لم يصيبه أذى - وغيره كثير -. لهذا تناولت هذه الفوائد الصحية وقسمت البحث إلى مقدمة وفصلين تناولت في المقدمة شمولية الإسلام لجميع جوانب الحياة وصلاح القلوب والأبدان ثم تناولت في الفصل الأول العناية الصحية بالبدن واشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: العناية الصحية بالبدن.
المبحث الثاني: العناية الصحية بالوجه.
المبحث الثالث: العناية الصحية بالعينين.
المبحث الرابع: الأسس الصحية للعناية بالفم والأنف.
المبحث الخامس: العناية الصحية بالسبيلين.
المبحث السادس: العناية بالشعر.
المبحث السابع: العناية بالأذنين.
المبحث الثامن: العناية بالرجلين.
__________
(1) المخبأة: الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد (النهاية 2 \ 3) . (3)
(71/313)
وأما الفصل الثاني فتناولت فيه:
المبحث الأول: وقاية الماء من التلوث.
المبحث الثاني: وقاية الطعام من التلوث.
المبحث الثالث: الوقاية من العدوى.
والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(71/314)
الفصل الأول: العناية الصحية بالبدن:
خلق الله الخلق بحكمته وقدرته فهو أعلم بما يصلح لهم في حياتهم، فما شرعه من أحكام تعبدية تحقق الألوهية والعبودية لله سبحانه، وفي ذاتها منافع صحية كشف الطب الحديث عن بعض منها.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " كيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملة على صلاح الأبدان كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ودفع آفاتها بطرق كلية، قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه " (1) .
فالله خلق الإنسان وخلق له حواس وأعضاء لم يتركها من غير عناية بل شرع لها من العبادات ما هو تعبدي في ظاهره مشتمل في باطنه على أسرار العناية الصحية بهذه الأعضاء، فما من عضو من أعضاء الإنسان إلا ومن الأحكام التعبدية ما يحقق له السلامة والأداء الأمثل. نقف عليها على سبيل التمثيل للدلالة على سر الإعجاز الإلهي المبطن بالأوامر التعبدية ومن ذلك:
1 - الوضوء المحقق لغسل الأعضاء المعرضة للتلوث قال
__________
(1) زاد المعاد 2 \ 198.
(71/315)
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) .
فغسل الأعضاء المذكورة في الآية يحقق لها النظافة والتخلص من الجراثيم يقول الدكتور الطبيب حامد الغوابي: " الأمراض تنتقل للإنسان بإحدى طرق ثلاث إما عن طريق الفم أو الاستنشاق، أو عن طريق الجلد وما الوضوء إلا الطريق الذي يطهر هذه المواضع كلها " (2) .
ولهذا رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الوضوء فيما أخرجه البخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (3) » .
وكما رغبهم عليه السلام في الوضوء بين لهم صفته أخرج البخاري بسنده من طريق حمران مولى عثمان: أنه «رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) بين الطب والإسلام ص99.
(3) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء 1 \ 43.
(71/316)
المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار، إلى الكعبين ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » .
يقول الطبيب د. غريب جمعة: " غسل الوجه واليدين ومسح الأذنين من أهم أسباب وقايتها من الأمراض الجلدية حيث إن كثيرا من الميكروبات وطفيليات بعض الديدان والفطريات يصيب الإنسان عن طريق التسلخات الموجودة بالجلد الناجمة عن الهرش بسبب عدم النظافة " (2) وسنأتي إلى تفصيل ذلك وبيان الفائدة التي تتحقق لكل عضو من جراء الوضوء.
2 - الغسل: أوجب الإسلام الغسل في حال الجنابة يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا 1 \ 48.
(2) الطب في وضوء الإسلام، دكتور غريب جمعة ص50.
(3) سورة النساء الآية 43
(71/317)
كما أوجب الغسل من الحيض قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال يوم الجمعة أخرج مسلم بسنده من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (2) » .
وأخرج مسلم أيضا بسنده من طريق عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو قائم على المنبر: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل (3) » .
وكان للأمر بهذا الغسل أسباب بينتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهو ما ينتاب الناس من العرق والروائح.
أخرج ذلك مسلم في صحيحه بسنده من طريق عمرة رضي الله عنها عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان الناس أهل عمل، ولم يكن لهم كفاة. فكانوا يكون لهم تفل فقيل لهم: لو اغتسلتم
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة 2 \ 580.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة 2 \ 581.
(71/318)
يوم الجمعة (1) » .
ولم يقتصر الإسلام على ذلك بل أمر المسلم بالغسل في العيدين، فالغسل سياج منيع بإذن الله يحفظ للإنسان الوقاية من الميكروبات والطفيليات التي تعيش وتتواجد نتيجة العرق والغبار وغير ذلك، فالغسل يزيل ذلك كله بالإضافة إلى ما يحقق من شعور بالراحة وتنشيط للدورة الدموية يقول الطبيب الأستاذ الدكتور زكي سويدان: " تراكم القاذورات على الجلد من تماسك الأتربة والعرق وقشور الجلد وجزئيات الجراثيم الدقيقة والملابس بإفرازات الجلد الدهنية يؤدي إلى انسداد مسام العرق لهذا يجب إزالتها بالماء والصابون بعمل حمام على الأقل مرة يوميا في الجو الحار كما يجب غسل أجزاء الجسم المعرضة للأتربة وهي الوجه واليدان والقدمان عدة مرات يوميا وهو ما يشمله الوضوء " (2) .
لذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى خمس خصال عدها من الفطرة وذلك فيما أخرجه مسلم بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد، وتقليم الأظافر
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال 2 \ 581.
(2) الصلاة صحة ووقاية وعلاج ص47.
(71/319)
ونتف الإبط وقص الشارب (1) » .
هذا فيما يتلخص في العناية العامة بالبدن وتفصيل ذلك في المباحث التالية:
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة 1 \ 221.
(71/320)
المبحث الأول: العناية الصحية باليدين:
اليد أكثر الأعضاء ملامسة للأشياء فهي آلة الإنسان التي يمسك ويأكل ويحمل ويصافح بها فهي أكثر الأعضاء عرضة للجراثيم والغبار وكذلك الرجلان فهي آلة الإنسان في حركته وتنقله.
فالوضوء يحقق نظافتهما وطهارتهما وإزالة ما بهما قال تعالى في آية الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) .
وجاءت الأحاديث النبوية مؤكدة على هذا المعنى يقول عليه السلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط (2) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1 \ 182.
(71/320)
وبهذا الغسل المتمثل في الوضوء تتخلص الأطراف من الجراثيم والميكروبات بل إن غسلهما يساعد على تنشيط الدورة الدموية (1) .
كما أمر الإسلام بتقليم أظافرهما، فالظفر مجمع للأوساخ والجراثيم حيث تجد تلك الجراثيم طريقا سهلا إلى المعدة خاصة عن طريق أظافر اليد فعن طريقها تنتقل الجراثيم المسببة لالتهاب المعدة والنزلات المعوية الجرثومية وحمى التيفوئيد وغيرها.
لذا يقول عليه السلام فيما أخرجه مسلم بسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشرة من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، يعني: الاستنجاء قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة (2) » .
وخص الإسلام اليد بالغسل عند الأكل وقاية للإنسان من التلوث بل كان ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، أخرج الإمام أحمد في مسنده من طريق عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل أو يشرب قالت: يغسل يديه
__________
(1) الطب الوقائي بين العلم والدين د. نضال سميح عيسى ص 22.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة 1 \ 223، والأمام أحمد في مسنده 1 \ 137.
(71/321)
ثم يأكل ويشرب (1) » .
وأخرج ابن ماجه في سننه بسنده من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يكثر الله خير بيته فليتوضأ إذا حضر غداؤه وإذا رفع (2) » .
وخص النبي صلى الله عليه وسلم الأكل باليمين وقاية للإنسان أخرج البخاري ومسلم بسندهما عن طريق وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال: يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك (3) » .
يقول الطبيب الدكتور غريب جمعة: " إذ إن اليد اليسرى قد تكون ملوثة بالميكروبات أو بويضات بعض الطفيليات نتيجة ملامستها وقت الاستنجاء " (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب السواك من الفطرة 1 \ 61 من طريق عمار بن ياسر.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب الوضوء عند الطعام 2 \ 1085، والبيهقي في سننه 7 \ 275.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين 6 \ 196، ومسلم في صحيحه، كتاب (الأشربة) ، باب (آداب الطعام والشراب وأحكامهما) 3 \ 1599.
(4) الطب في ضوء الإسلام ص 53.
(71/322)
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل اليدين ثلاثا عند الاستيقاظ من النوم جاء ذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما فإنه لا يدري أين باتت يده (1) » .
كما أمر عليه السلام بغسل اليد بعد قضاء الحاجة جاء ذلك فيما أخرجه الترمذي بسنده من طريق بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ (2) » .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالغ في نظافة يده عند الغسل من الجنابة أخرج مسلم في صحيحه بسنده من طريق ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: «أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ثم أدخل يده في الإناء ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله ثم ضرب بشماله الأرض فدلكهما دلكا شديدا ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلهما ثلاثا 1 \ 193.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب (الطهارة) ، باب (الوضوء من مس الذكر) 1 \ 55.
(71/323)
أفرغ على رأسه ثلاث حفنات الحديث (1) » . وبهذا يتجلى لنا العناية الفائقة التي اختصت بها اليد كطريق من طرق الوقاية الصحية.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة 1 \ 210.
(71/324)
المبحث الثاني: العناية الصحية بالوجه:
الوجه أكثر أعضاء الجسم عرضة للأتربة والميكروبات فهو العضو الظاهر المعرض لكثير من المؤثرات إضافة إلى الإفرازات الدهنية والعرقية فتعهده بالغسل يزيل ما يعلق به قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) .
فالوضوء في الإسلام يحقق نظافة وسلامة الوجه إذ يغسل خمس عشرة مرة في حق من توضأ لكل صلاة، من أول منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من الذقن طولا ومن الأذنين عرضا إضافة إلى تخليل اللحية الكثيفة ليصل الماء إلى البشرة فهذا منتهى النظافة التي حرص الإسلام على تحقيقها لأفراده، فإفرازات العرق والدهون مجمع للأتربة والغبار وبيئة خصبة لنمو الميكروبات على سطح الجلد يقول الطبيب الدكتور عز الدين فراج: " المواد الدهنية وإفراز العرق يشجعان على نمو الميكروبات بصورة قد تكون مغلقة أو مرضية " (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) الإسلام والوقاية من الأمراض د \ عز الدين فرج ص 8.
(71/324)
وأخرج أبو داود في سننه حديث أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل (1) » .
وأخرج الترمذي في سننه من طريق عامر بن شفيق عن أبي وائل عن عثمان بن عفان: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته (2) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقال بهذا أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم رأوا تخليل اللحية وبه يقول الشافعي.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تخليل اللحية 1 \ 75.
(2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية 1 \ 34.
(71/325)
المبحث الثالث: العناية الصحية بالعينين:
غسل الوجه هو غسل للعينين وقد أثبت الطب أن الماء يعد من المواد المطهرة لكثير من الميكروبات التي تعلق بالعين (1) .
كما يرى الأطباء أن العينين قد تتلوث بالماء الملوث حيث تنتقل إليها الجراثيم.
كما أن الأطباء يؤكدون أن الماء يتلوث بمجرد غمس اليد فيه فإذا
__________
(1) الإسلام والوقاية من الأمراض للدكتور عز الدين فراج ص8.
(71/325)
غسلت العين به تسبب في تلوثها والتهابها وهذا من أسرار النهي النبوي في قوله عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده (1) » .
ومع أن شراح الحديث قد ذكروا كثيرا من التعليلات حول بيان سبب النهي في هذا الحديث إلا أنهم لم يصلوا إلى الحقيقة التي كشفها الطب الحديث يقول الطبيب محمد سعيد السيوطي: " إذا أدخل المستيقظ من النوم يده في إناء وضوئه بدون أن يغسلها ويطهرهما قبل ذلك وانتقلت الجراثيم للماء ثم اغترف منه وغسل وجهه وعينيه فربما تدخل تلك الجراثيم بعينه وينتج عنها الرمد العفني الخطر المسمى بالرمد " (2) .
ولهذا وجب غسل العينين في الوضوء كجزء من الوجه كما جاء الأمر النبوي بغسل المأقين لما يتراكم عليهما من إفرازات عينيه روى أبو داود بسنده من حديث أبي أمامه: «كان رسول الله صلى
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها 3 \ 153 من طريق عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) معجزات في الطب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ص 90.
(71/326)
الله عليه وسلم يمسح المأقين (2) » ،. كما أن الاكتحال من سننه صلى الله عليه وسلم وهو وقاية للعينين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب (الطهارة) ، باب (صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم) 1 \ 72.
(2) (1)
(71/327)
المبحث الرابع: الأسس الصحية للعناية بالفم والأنف.
الأنف والفم مدخلان رئيسان للجوف ويشكلان ممرا لدخول الهواء إلى الرئة، وعن طريقهما تنتقل الجراثيم إلى المعدة حيث يعد الفم مستقرا لكثير من الطفيليات الناجمة عن تخمر وتعفن بقايا الطعام بالفم.
كما يعد الأنف مكمنا للغبار والجراثيم العالقة بالشعيرات والإفرازات المخاطية الموجودة بالأنف. حيث تقوم تلك الشعيرات والإفرازات بوظائف هامة منها تنقية الهواء السالك لرئة الإنسان وهي في حقيقتها من نعم الله على الإنسان إذ تعمل على صد كثير من الجراثيم التي إن نفذت للجسم تسبب له في حدوث كثير من الأمراض.
لذا فقد أولى الإسلام هذين العضوين عناية فائقة تمثلت في
(71/327)
أمور تعبدية توصل الطب الحديث إلى كنهها (1) . وإليك بيانها في المطلب التالي:
__________
(1) معجزات في الطب للنبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، ص 41.
(71/328)
المطلب الأول: العناية الصحية بالفم:
تمثلت العناية في الإسلام بالفم في الأمور التالية:
1 - المضمضة المأمور بها في الوضوء لكل صلاة:
" المضمضة مأمور بها المسلم في كل وضوء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) الآية.
ومن الوجه المأمور بغسله في الآية الفم والأنف وغسلهما يكون بالمضمضة والاستنشاق، ولا تقبل صلاة العبد إلا بهذا الوضوء المأمور به في الآية قال عليه السلام فيما أخرجه البخاري في صححيه من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ (2) » . الحديث".
وجاءت صفة الوضوء بما اشتمل عليه من مضمضة واستنشاق فيما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس «أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور 1 \ 43.
(71/328)
ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ (1) » . وكتب السنة زاخرة بأحاديث صفة الوضوء.
حيث بينت صفة الوضوء وكيفية المضمضة المرادة وهي: إدخال الماء وإدارته بالفم ثم مجه، وبهذه الكيفية يتخلص المرء من كثير من الجراثيم والطفيليات يقول الدكتور محمد زكي سويدان: " وأن غسيل الفم بالماء يكفي جدا من جميع هذه العوامل والعواقب، وقد ثبت أن الغسيل بالماء لا يفوقه الغسيل بأي معجون أسنان إلا ما حوى مادة الفلورين التي تحمي الأسنان من التسوس " (2) .
هذه فوائد المضمضة التي أمر بها المسلم عند كل وضوء تساعد بفضل الله على التخلص من الجراثيم المسببة للروائح والمرض فوجب على المسلم الإتيان بها محققا صفتها كما جاءت تعبدا لله
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة 1 \ 44.
(2) الصلاة صحة ووقاية للدكتور زكي سويدان ص 58.
(71/329)
وتنفيذا وامتثالا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلامة لبدنه.
كما كان فعله صلى الله عليه وسلم المضمضة بعد تناول الطعام أخرج البخاري في صحيحه من طريق ابن عباس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فمضمض وقال: إن له دسما (1) » .
وأخرج ابن ماجه رضي الله عنه في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه وصلى (2) » . بل إنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق عبد المهيمن بن عباس الساعدي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مضمضوا من اللبن فإن له دسما (3) » .
2 - السواك:
للأسنان أهميه بالغة في مضغ الطعام كما أنها تمثل مظهرا لجمال الإنسان أو قبحه فهي من الأعضاء الظاهرة التي تعكس أهمية الإنسان بنفسه كما أنها تكون انطباع الآخرين عنه ولقد جاءت نصوص السنة النبوية بالحث على نظافتها لما لها من أثر هام على
__________
(1) أخرجه البخاري في صححيه كتاب (الأشربة) ، باب شرب اللبن برقم 5179.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب (66) 1 \ 164.
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها 1 \ 167.
(71/330)
صحة الفرد وسلامته.
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (1) » .
وجاءت السنة النبوية مبينة فوائد السواك يقول عليه السلام فيما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق عائشة رضي الله عنها.
«السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (2) » .
وأخرج البخاري بسنده من طريق شعيب بن الحبحاب عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثرت عليكم في السواك (3) » . واستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه صفرة الآسنان فقال: «مالي أراكم تأتوني قلحا استاكوا (5) » .
فالسواك يحقق طهارة الفم وسلامة اللثة ووقاية الأسنان يقول
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة 1 \ 214.
(2) أخرجه البخاري تعليقا، كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم 2 \ 234.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة 1 \ 214.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من طريق جعفر بن تمام بن عباس عن أبيه.
(5) القلح: صفرة تعلو الأسنان ووسخ يركبها. النهاية في غريب الحديث (4 \ 99) . (4)
(71/331)
ابن حجر في فتح الباري: " وفيه تأكيد على السواك، وأنه لا يختص بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطيب لا من باب إزالة القاذورات لكونه صلى الله عليه وسلم لم يكتف به، وبوبوا عليه استياك الإمام بحضرة الرعية " (1) .
ولهذا حرص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج ابن ماجه بسنده من طريق أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك حتى لقد خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي ولولا أني أخاف أن أشق على أمتي لفرضته لهم. وإني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي (2) » .
وكان عليه السلام يحرص على السواك في أوقات عدة منها:
عند قيامه من النوم أخرج البخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك (3) » .
وعند كل صلاة أخرج ابن ماجه بسنده من حديث ابن
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1 \ 356.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب السواك 1 \ 106.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب السواك 1 \ 66.
(71/332)
عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين، ثم ينصرف فيستاك (1) » .
وعند دخول المنزل أخرج ابن ماجه بسنده عن شريك عن المقدام بن شريح بن هانئ عن أبيه عن عائشة قال: قلت: «أخبرني بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل عليك! قالت: كان إذا دخل يبدأ بالسواك (2) » .
ويؤخذ السواك من شجرة الأراك التي تنبت في سواحل البحر بشبه الجزيرة العربية وأفريقيا وبلاد الهند وسوريا وإيران.
تقول الدكتورة عائدة عبد العظيم البنا: " توصل العالم الهندي شارما وهو متخصص في علم النبات إلى أن شجرة الأراك غنية بمادة الفلور، والسيليكون والكالسيوم والبوتاسيوم وغير ذلك " (3) .
وتقول أيضا: " جاء في الدراسة التي قام بها (فاروتي وسيرفيا ستافا) أن معجون الأسنان الذي يحتوى على مستخلصات من هذا النبات لديه القدرة على الاحتفاظ باللثة والأسنان في صحة جيدة وأنه يضفي على الأسنان بياضا ناصعا " (4) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب السواك 1 \ 105.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها 1 \ 106.
(3) الإسلام والتربية الصحية للدكتورة عائدة عبد العظيم البنا ص33.
(4) الإسلام والتربية الصحية للدكتورة عائدة عبد العظيم البنا ص34.
(71/333)
وجاء في نشرة تبنتها جامعة الملك سعود وقسم الكيمياء في جامعة إنديانا عن نبات الأراك " أثبتت المواد المستخلصة من نبات سلفادورا " الأراك " تأثيرها المضاد للبكتيريا. . . لهذا فإن استخدام نسبة كبيرة من السكان في المملكة العربية السعودية لهذا النبات كفرشاة للأسنان غير ضار بالتأكيد، بل قد يساهم نظرا لما يحتويه من المكونات البيولوجية الفعالة في حماية الأسنان من التسوس " (1) .
ونقل الدكتور عز الدين فراج عن نشرة معهد الميكروبات والأوبئة في جامعة رستوك بألمانيا الديمقراطية: " أن السواك الذي يستعمله المسلمون من عصر نبيهم من أرقى وسائل تنظيف الأسنان لاحتواء السواك على مادة فعالة مضعفة للميكروبات تشابه في مفعولها مفعول البنسلين " (2) .
هذه فوائد السواك التي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وكشف الطب الحديث عنها، وأن إهمال نظافة الفم والأسنان ينشأ عنها حالات مرضية يقول الدكتور محمد زكى سويدان: " إذا أهملت نظافة الأسنان تنشأ حالة مرضية (بيوريا - التهاب صديدي باللثة) تؤدى إلى أمراض مختلفة منها الضعف، وسوء الهضم، والروماتيزم " (3) .
__________
(1) الإسلام والتربية الصحية للدكتورة عائدة عبد العظيم البنا ص34.
(2) الإسلام والوقاية من الأمراض، للدكتور عز الدين فراج ص81.
(3) الصلاة صحة ووقاية، للدكتور محمد زكي سويدان (57) .
(71/334)
لقد أدرك الإسلام على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الأهمية البالغة لنظافة الأسنان فأرشد إلى السواك واتخذه عليه السلام عند نومه وصلاته وعند حديثه مع أصحابه وعند دخول المنزل وما ذلك إلا تأكيدا لأهميته البالغة. تقول الدكتورة عائدة البنا: " وبالرغم من أن الأحاديث لم تذكر أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم كان ينظف أسنانه عقب الأكل إلا أنه ورد النص صراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظف فمه بالماء عقب الطعام، وقد أعلن (فيشر وآخرون) أنه إذا لم يتسن غسل الأسنان بالفرشاة عقب تناول الطعام فإن شطف الفم بالماء بعناية. أمر له أهميته " (1) .
كما أمر الرسول بحف الشارب حفظا من التلوث قال عليه السلام: «وفروا اللحى وحفوا الشوارب (2) » .
فطهارة الفم نالت في الإسلام العناية الفائقة جاء ذلك على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم حيث كشف الطب الحديث عن أهمية تلك العناية والآثار الصحية المترتبة عليها.
__________
(1) الإسلام والتربية الصحية ص35.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى 7 \ 56 من طريق نافع عن ابن عمر.
(71/335)
المطلب الثاني: العناية الصحية بالأنف:
وكما أولى الإسلام الفم عنايته باعتباره مدخلا للجوف فكذلك
(71/335)
أولى الأنف عناية هامة تمثل في الاستنشاق والاستنثار المأمور به المسلم في الوضوء تطهيرا وتنظيفا لهذا الممر الهام يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) .
والمضمضة والاستنشاق جاءت في صفة الوضوء المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه من طريق عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان بن عفان «أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر (4) ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرافق ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كل رجل ثلاثا ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم: يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أخرجه البخاري في صححيه، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء 1 \ 49.
(3) المضمضة: تحريك الماء في الفم، لسان العرب لابن منظور 13 \ 128 مادة مضمض. (2)
(4) الاستنشاق: استنشقت الماء وغيره إذا أدخلته في الأنف، لسان العرب لابن منظور 14 \ 150 مادة نشق. (3)
(71/336)
يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .
فبالاستنشاق والاستنثار الذي يكررهما المسلم في وضوئه خمس مرات أو أكثر تتحقق نظافة هذا الممر الهام - الأنف - من الجراثيم التي علقت بشعر الأنف أو تجويفاته أو بالمادة المخاطية كما يتيح له الاستعداد للمهام القادمة أثناء الشهيق والزفير من صد كثير من الجراثيم عن طريق المادة المخاطية التي تستعيد قوتها عند كل استنشاق واستنثار. ولهذا أكد الرسول عليه السلام فيما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر (1) » وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم بنظافة هذا الممر الهام.
ويقول عليه السلام فيما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا (2) » .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فليستنثر ومن
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب (الطهارة) ، باب (في الاستنثار) 1 \ 35.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب (الطهارة) ، باب (في الاستنثار) 1 \ 35.
(71/337)
استجمر فليوتر (1) » .
قال ابن حجر في فتح الباري 1 \ 262: " المراد بالاستنثار في الوضوء التنظيف لما فيه من المعونة على القراءة؛ لأن بتنقية مجرى التنفس تصح مخارج الحروف ".
__________
(1) أخرجه البخاري في صححيه، ''فتح الباري''، كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء 1 / 262.
(71/338)
المبحث الخامس: العناية الصحية بالسبيلين:
السبيلان هما مخرجا البول والغائط وأكد الطب الحديث على أنهما أكثر الأسباب المؤدية لنقل العدوى والمرض وذلك عند إهمال نظافتها والعناية بهما.
فمعظم الأمراض الهضمية وغيرها تنتقل بسبب الغائط والبول ويؤكد الطب في عصرنا على أن البول والغائط هما الحاملان للجراثيم ولذا يعتمد على تحليلها في تحديد المرض وتشخيصه.
ولهذا أولى الإسلام السبيلين عناية فائقة وبين الطب أنها أساس صحي لا غنى للمرء عنه وذلك يتمثل فيما يلي:
1 - نظافتهما وإزالة ما يعلق بهما بعد كل مخرج وهذا يسمى عند الفقهاء بالاستنجاء ويتحقق بنظافة المخرج بالماء وحصول الإنقاء وهذا واجب على المسلم وقد جاء الحث عليه في
(71/338)
مواضع عدة منها:
ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي معاذ قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء. يعني يستنجي به (1) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءا قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقهه في الدين (2) » .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عويم بن ساعدة الأنصاري أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تبارك وتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا، وفي رواية: نتبع الحجارة بالماء، فقال: هو ذاك فعليكموه (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالماء 1 \ 250.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء 1 \ 244.
(3) مسند الإمام أحمد ج 3 \ 422.
(71/339)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإن استحييتم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله (1) » . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الترمذي: " وعليه العمل عند أهل العلم: يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الاستنجاء بالحجارة يجزئ عندهم فإنهم استحبوا الاستنجاء بالماء ورأوه أفضل وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق " (2) .
فإن عدم الماء وجب الاستجمار وهو تنظيف المخرج بالحجارة ونحوها شريطة الإنقاء وأن يكون وترا وأن يكون الاستجمار بكل شيء طاهر وتحريم الاستجمار بالروث وكل شيء نجس.
وأخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده (3) » .
__________
(1) أخرجه الإمام الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بالماء 1 \ 25.
(2) أخرجه الإمام الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بالماء.
(3) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا 1 \ 263.
(71/340)
بل يستحب اتباع الحجارة بالماء عند توفره، كما جاء في الحديث السابق. كما حرص الإسلام على نظافة اليدين بعد الاستنجاء بغسلهما أو تنقيتها بالتراب.
وروي «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فلما استنجى دلك يده في الأرض (1) » .
وأخرج النسائي من حديث جرير قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء فقضى حاجته ثم قال: يا جرير هات طهور فأتيته بماء فاستنجى وقال بيده فدلك بها الأرض (2) » .
وفي هذا تطهير لليد ومنع انتقال الجراثيم إلى الجسم.
ويعد التعقيم بالتراب من أقوى أمور التطهير.
وأخرج مسلم في صحيحه، من طريق ابن عباس قال: حدثتني خالتي ميمونة قالت: «أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ثم أدخل يده في الإناء ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات (3) » . ومن نظافة السبيلين ما يلي:
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة 1 \ 210 من طريق ابن عباس عن خالته ميمونة رضي الله عنها.
(2) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب دلك اليد بالأرض بعد الاستنجاء 1 \ 45.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة 1 \ 210.
(71/341)
أ - حلق العانة (1) :
تتميز منطقة العانة والشرج بوجود غدد تسمي " الغدد العرقية المفرزة " مفرزة للعرق لا تنمو إلا بسن البلوغ ولهذه الغدد رائحة خاصة مميزة تميز رائحة كل شخص فتكاثف الشعر وبقاؤه مع ما تفرزه الغدد من عرق يكون رائحة كريهة تكون سببا لنمو الجراثيم والميكروبات التي تفتك بالإنسان (2) .
كما أن عدم العناية بهذه المنطقة يؤدى إلى نمو جرثومة تحت الشعر تخترق الجلد وهي بحمد الله لا توجد لدى من يحلق الشعر أو يزيله كما أن عن طريق شعر العانة ينتقل التيفؤس الوبائي والذي ينتقل عن طريق قمل الجلد والعانة حيث تشرع القملة في تناول غذائها وتفرز فضلاتها على الموضع الذي وخزته فتسبب الأحياء الدقيقة المفرزة في تلوث الموضع حيث تبدو أعراض المرض بعد أسبوعين على شكل حمى وألم ثم تتبعها اندفاعات قرنفلية على الجذع (3) .
لهذا جاء الإسلام في الحث على حلق شعر العانة أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
__________
(1) العانة: هي الشعر الغليظ حول الفرج.
(2) الطب الوقائي بين العلم والدين للدكتور نضال سميح ص 22.
(3) الطب الوقائي في الإسلام، عادل دبور وآخرون ص 167.
(71/342)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب (1) » .
بل حدد الإسلام وقتا لحلقها أخرج مسلم بسنده من طريق جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك، قال: قال أنس: «وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (2) » .
ب - الختان:
الختان هو: قطع قلفة الذكر وهي الجلدة التي تستر الحشفة (رأس القضيب) ، والختان له أثر صحي أثبته الطب الحديث. من ذلك:
يتخلص المرء من الإفرازات وتراكمها على الحشفة التي تتسبب في تولد الجراثيم بسبب تخمر الإفرازات من البول وغيره.
إن سرطان القضيب نادر جدا فيمن يختتن وكذلك الإصابة بسلس البول الليلي (3) .
وقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم الختان من الفطرة كما جاء في الحديث السابق «خمس من الفطرة وذكر منها الختان (4) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب يقلم الأظفار 7 \ 56.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة 1 \ 222.
(3) الطب الوقائي في الإسلام، عادل دبور وآخرون ص 214.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة 1 \ 223.
(71/343)
هذا في حق الرجل أما في حق المرأة فيسمى خفضا وذلك بقطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك وهو ليس على الوجوب في حق النساء عند الإمام أحمد وفي وجه للشافعية، وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية بعدم وجوبه على النساء واستدلوا بحديث شداد بن أوس رفعه: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء (1) » .
وقد حذر الإسلام من عدم التحرز من البول أخرج البخاري في صحيحه من طريق مجاهد عن طاوس قال ابن عباس رضي الله عنهما: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله قال: ثم أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين. ثم غرز كل واحد منهما على قبره ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا (2) » .
وقد حرم الإسلام التقاء الختانين ببعضهما في حالة الحيض والنفاس وذلك لما تتأذى به المرأة وسيأتي الكلام عليه في مبحث العناية بالصحة الجنسية.
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 \ 340.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب عذاب القبر من الغيبة والبول (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) 3 \ 242.
(71/344)
المبحث السادس: العناية بالشعر:
جاءت نصوص السنة النبوية زاخرة بالحث على العناية بالشعر ودهنه وتسريحه، وتخليله أثناء الغسل، أخرج أبو داود بسنده من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له شعر فليكرمه (1) » . ولذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل الذي دخل عليه المسجد ثائر الرأس بإصلاح شعره، أخرج مالك في الموطأ بسنده مرسلا من طريق عطاء بن يسار قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن اخرج. كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هذا خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان (2) » . قال ابن حجر بعد أن ذكر هذا الحديث: " وهو مرسل صحيح السند وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن " (3) .
وعناية السنة بالشعر لها أهمية صحية فالجلد يتراكم عليه
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الترجل، باب إصلاح الشعر 4 \ 76.
(2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الشعر، باب إصلاح الشعر 2 \ 949.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 \ 367.
(71/345)
خليط الأتربة والعرق والقشور الجلدية والجزيئات الدقيقة فهو بحاجة إلى نظافة مستمرة وعناية فائقة خاصة إذا كان الشعر كثيفا. وكثافة الشعر في الجسد تنحصر في أربعة مواضع هي:
1 - شعر الرأس.
2 - شعر اللحية والشارب.
3 - شعر الإبط.
4 - شعر العانة.
وكل موضع من هذه المواضع نال بيانا نبويا في الاهتمام به ونظافته وإليك التفصيل:
(71/346)
أولا: شعر الرأس:
وقد جاءت نصوص السنة تؤكد العناية بنظافته ويتمثل ذلك فيما يلي:
أ - تخليل شعر الرأس عند الغسل: جاءت السنة النبوية بالأمر بتخليل شعر الرأس عند الغسل، أخرج البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (صحيح البخاري بشرح فتح الباري) ، كتاب الغسل، باب تخليل الشعر 1 \ 72.
(71/346)
وتخليل شعر الرأس غاية النظافة والإنقاء ليصل الماء إلى البشرة ويكون ذلك سببا في تنقيتها وإزالة ما بها لينحدر مع الماء إضافة إلى ما في التخليل من الدلك والإنقاء.
ب - تسريح الشعر: تكمن عناية الشعر في تسريحه فالتسريح يمنع تجعد الشعر ويساعد على نظافته وجماله، أخرج البخاري في صحيحه بسنده من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض (1) » .
وكان عليه السلام يدني رأسه لعائشة رضي الله عنها فترجله أخرج البخاري في صحيحه بسنده من طريق هشام عن عروة أنه سئل أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي جنب، فقال عروة: كل ذلك هين وكل ذلك تخدمني وليس على أحد في ذلك بأس أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض (2) .
بل كانت عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بسدل شعر الرأس، أخرج البخاري في صحيحه بسنده من طريق ابن عباس
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب غسل الحائض رأس زوجها 1 \ 77.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحيض، باب غسل الحائض زوجها وترجيله 1 \ 77.
(71/347)
رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رءوسهم. فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد (1) .
بل كان اتخاذ الفرق في الرأس آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر رأسه لما أخرج البخاري بسنده من طريق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم (2) » .
قال ابن حجر: قال ابن بطال الترجل تسريح شعر الرأس واللحية ودهنه وهو من النظافة وقد ندب الشرع إليها وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (3) . (4)
بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفارقه سواكه ومشطه، وكان عليه السلام يتعهد شعره بذلك، أخرج الطبراني بسنده من طريق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لا يفارق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه ومشطه (5) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب اللباس، باب الفرق 10 \ 361.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب اللباس، باب الفرق 10 \ 361.
(3) سورة الأعراف الآية 31
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 \ 367.
(5) أخرجه الطبراني في الأوسط 6 \ 264، والبيهقي في شعب الإيمان 5 \ 233.
(71/348)
وأخرج البيهقي من طريق أم المؤمنين أنها قالت: «خمس لم يفارقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضر ولا سفر المشط والمكحلة والمرآة والسواك والمدري (1) » .
هذا في حق الرجال وفي المرأة أعظم وأوجب؛ لأن شعرها هو جمالها وحلقه أو تقصيره مثلة، يحرمها الإسلام.
وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق عبد الله بن زيد قال: «مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله (2) » . وكيفية المسح هذه، تزيل ما يعلق بشعر الرأس من غبار أو نحوه بل إن الأمر يحتاج إلى دراسة طبية لمعرفة الفوائد الصحية الأخرى من مسح الرأس فإذا تعذر نظافة الشعر تعين الحلق في حق الرجل.
ويعد الحلق عناية بفروة الرأس وتجديدا لبصيلات الشعر خاصة إذا انتشر في الشعر القمل والقشر ونحوه ولهذا أذن الرسول للمحرم بحلق شعره أخرج مالك بسنده من طريق كعب بن عجرة أنه قال: «جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا. فأخذ بجبهتي. ثم قال: احلق هذا
__________
(1) شعب الإيمان للبيهقي 5 \ 233.
(2) صحيح ابن خزيمة، كتاب الوضوء، باب مسح جميع الرأس في الوضوء 1 \ 81.
(71/349)
الشعر وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين (1) » .
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة «أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم رآه وإنه يسقط على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك! قال: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاث أيام (2) » .
__________
(1) موطأ الإمام مالك، كتاب الحج، باب فدية من حلق أن ينحر 1 \ 417.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، صحيح البخاري بشرح فتح الباري 7 \ 444.
(71/350)
ثانيا: الشارب واللحية:
جاءت الأحاديث الصحيحة بقص الشارب، والشارب ما نبت على الشفة العليا. قال عليه السلام فيما أخرجه البخاري بسنده من طريق ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفو الشوارب (1) » .
قال ابن حجر: قال القرطبي: " وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع عليه الوسخ " (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب تقديم الأظفار10 \ 349.
(2) فتح الباري 10 \ 348.
(71/350)
وقال ابن حجر: أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفا فقال: " إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله وهو بإزاء حاسة شريفة؛ وهي الشم، فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به " (1) .
فتخفيف الشارب لمصلحة صحية تتمثل في منع تجمع الأوساخ عليه التي تخلط مع الطعام فتسبب ضررا بالصحة.
أما اللحية فالمسلم مأمور بإعفائها، كما جاء في الحديث السابق لكن السنة تمشيطها وتنظيفها وتخليلها بالماء عند الوضوء بما يحقق نظافتها، أخرج الترمذي في سننه بسنده من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية عن حسان بن بلال قال: رأيت عمار بن ياسر توضأ فخلل لحيته فقيل له - أو قال: فقلت له -: أتخلل لحيتك. قال: وما يمنعني ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته (2) .
وروي عن عطاء رضي الله عنه أنه قال: " اغسل أصول شعر اللحية " (3) .
وروي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه: (إيجاب تخليل اللحية في الوضوء والغسل) (4)
__________
(1) فتح الباري 10 \ 348
(2) سنن الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية 1 \ 44.
(3) المحلى لابن حزم 2 \ 34.
(4) المحلى لابن حزم 2 \ 34.
(71/351)
وروى البيهقي في سننه من طريق عامر بن شقيق بن حمزة عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان توضأ، فذكر الحديث. قال: فخلل لحيته ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت. قال البيهقي: بلغني عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه سئل عن هذا الحديث فقال: هو حسن، وقال: أصح شيء عندي في تخليل اللحية حديث عثمان (1) .
فتخليل اللحية يزيل ما علق بها من غبار كما أنه تنظيف للبشرة التي نبت فوقها شعر اللحية.
وروي البيهقي في سننه من طريق الوليد بن زوران عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل (2) » .
فهذه الأحاديث والآثار تؤكد ثبوت تخليل اللحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودالة على أن ذلك إمعان في النظافة والطهارة.
__________
(1) سنن البيهقي 1 \ 54.
(2) سنن البيهقي 1 \ 54
(71/352)
الموضع الثالث: نتف الإبط:
شعر الإبط مكمن الرائحة، ولهذا حث الرسول صلى الله عليه وسلم على نظافة الإبط، أخرج مسلم بسنده من طريق عائشة رضي الله عنها
(71/352)
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (1) » . . . الحديث.
ونقل ابن حجر عن الغزالي قوله: " هو في الابتداء موجع ولكن يسهل على من اعتاده - أي نتف الإبط - قال: والحلق كاف لأن المقصود النظافة، وتعقب بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به بخلاف الحلق فإنه يقوي الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة لذلك " (2) .
لذا فإن السنة جاءت بأساس صحي يكفل للإبط نظافته وذلك بنتف ما ينبت فيه من شعر.
حلق العانة:
وقد تحدثت عنه ضمن مبحث العناية بالسبيلين (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة 1 \ 223، والإمام أحمد في مسنده 1 \ 137.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 \ 344.
(3) ص338.
(71/353)
المبحث السابع: العناية بالأذنين:
يسمح تجويف الأذن بتجمع الغبار والأتربة على السطح
(71/353)
الخارجي للأذن، ولهذا جاءت السنة النبوية ببيان كيفية مسح الأذنين في الوضوء بما يحقق نظافتها، أخرج ابن ماجه بسنده من طريق ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه داخلهما بالسبابتين وخالف إبهامه إلى ظاهر أذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما (1) » .
وأخرج ابن ماجه بسنده أيضا من طريق الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: «توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل إصبعيه في حجري أذنيه (2) » .
وبهذه الكيفية المتمثلة في مسح الأذنين في كل وضوء تتحقق نظافتها من الصملاخ الذي يتراكم في مجرى الأذن.
قال ابن حجر: ". . . إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع " (3) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب السنن، باب الطهارة وسننها، باب ما جاء في مسح الأذنين 1 \ 151.
(2) الكتاب والباب السابقين 1 \ 151.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 \ 338.
(71/354)
المبحث الثامن: العناية بالرجلين:
تتعرض الرجلان إلى تراكم الغبار والأتربة فهي وسيلة الإنسان التي يخطو بها. فتتعرض الرجل من آثار السير إلى كثير من المؤثرات كالأتربة
(71/354)
والغبار وتراكم الأوساخ نتيجة العرق، إضافة إلى ما يعلق بها أثناء السير، ولهذا جاءت الآية الكريمة بالتنصيص بغسلهما في الوضوء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1)
وهذا الوضوء الذي يكرره المسلم خمس مرات في اليوم وقاية لهذا العضو مما يعتريه إضافة إلى الأمر بالغسل في يوم الجمعة والعيدين والجنابة وغيرهما من الأغسال المندوب إليها التي تحقق نظافة الرجلين وباقي الأعضاء، كما جاء الأمر النبوي بتخليل أصابعهما ليتتبع بذلك أثر الوسخ والعمل على إزالته. وتقليم أظافرهما، لما روى مسلم بسنده من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء؛ يعني الاستنجاء (2) » قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة (3) .
يقول الدكتور عز الدين فراج: " والقدم من مواضع الجسم
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة 1 \ 223.
(71/355)
التي تعرق كثيرا، وعرق القدمين ورائحته من جراء تخمر البكتريا على سطح الجلد وبين الأصابع عند عدم الاغتسال والنظافة يدعو إلى تهيج الجلد ونمو تلك الميكروبات وتعفنها على سطح الجلد، مما يقلق الإنسان ومخالطيه؛ نظرا لقذارة القدم ورائحة العرق. والفطريات تنمو بصورة خاصة بالقدم وتحدث أمراضا كثيرة أهمهما قدم الرياضي والالتهاب والأكزيما الفطرية. . . . إلخ " (1) .
__________
(1) الإسلام والوقاية من الأمراض د \ عز الدين فراج ص9.
(71/356)
الفصل الثاني: وقاية الماء والطعام من التلوث.
المبحث الأول: وقاية الماء من التلوث.
الماء عصب الحياة ولا يمكن أن تقوم حياة بدونه، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1) .
ولهذا حرص الإسلام على وقاية مصادره من التلوث حماية لصحة الإنسان، وهذه وقاية للمجتمع عامة؛ إذ حماية مصدر المياه وينابيعه هي حماية للمجتمع كافة، وتتلخص أوجه تلك الحماية فيما يلي:
النهي عن التبول والتبرز في موارد المياه:
يعد التبول والتغوط من أخطر وأشد مسببات تلوث الماء حيث تنتقل كثير من الأمراض بسبب ذلك كمرض الكوليرا، وحمى التيفوئيد، وشلل الأطفال، والتهاب الكبد، والتهاب الأمعاء والبلهارسيا، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق والظل (2) » .
ويؤكد الأطباء أن البول والغائط من أخطر مسببات التلوث
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 30
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها 1 \ 7 من طريق أبي سعيد الحميري عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، والإمام أحمد في مسنده من طريق ابنه هبيرة عن ابن عباس بنحوه.
(71/357)
ونقل الأمراض السالفة الذكر وخاصة الالتهاب الكبدي.
2 - النهي عن التبول في الماء الراكد:
تنتشر البلهارسيا عند تبول الآدمي في الماء حيث تنتقل طفيليات هذا المرض، وتنتشر في الماء وخاصة الماء الراكد الذي لا يجري حيث تكتمل أطوارها حتى تصبح يرقة ذات ذنب تسبح في الماء حتى تجد جسما فتخترقه وبمرور أربع وعشرين ساعة تكون قد وصلت إلى الدم منهية دورتها في الكبد حيث تبدأ حياتها وتتزاوج ثم تنتقل إلى المثانة أو الأمعاء فتبيض وتخرج مرة أخرى عن طريق البول متهيئة للانتقال إلى شخص آخر ومثلها أيضا الدوسنتاريا التي تنتقل عن طريق البراز والديدان الشصية " ديدان الأمعاء "، التي تطرح ديدانها عن طريق البراز أيضا (1) .
لهذا جاء النهي النبوي في قوله عليه السلام: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه (2) » .
__________
(1) الإسلام والوقاية من الأمراض د. عز الدين فراج ص85، وهل هناك طب نبوي للدكتور محمد علي البار.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب الماء الدائم 1 \ 65 من طريق عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد 1 \ 235 من طريق جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم '' نهى أن يبال في الماء الراكد''.
(71/358)
فيما سبق يتبين لنا الوقاية العامة لمصادر المياه. وكما أولى الإسلام المجتمع حماية عامة في هذا الشأن كذلك أولى الأفراد والأسرة حماية خاصة، يتمثل ذلك فيما يلي:
3 - نهي المستيقظ من النوم غمس يده في الماء:
ومن طرق وقاية الماء من التلوث، نهي المستيقظ من وضع يده في الإناء إلا بعد غسلها ثلاثا، أخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده حتى يغسلها فإنه لا يدري أين باتت يده (1) » .
وهذا النهي إجراء وقائي في منع اليد التي تتلوث بمجرد ملامستها لعضو من أعضاء الجسم أثناء النوم أو ملامستها للشرج فتسبب نقل الجراثيم أو الديدان الخيطية التي يقول عنها الدكتور محمد زكي سويدان: " هي ديدان رفيعة طولها سنتيمتر واحد تعيش في الأمعاء الغلاظ وتخرج منها كثيرا أثناء النوم فتطوف حول الشرج وتضع بويضتها الخاصة، ويظل المريض يعاني من الهرش في هذه المنطقة أثناء النوم. . . وعندما يهرش المصاب حول الشرج تعلق البويضات بأظافره فتدخل من جديد إلى أمعائه عند تناول الطعام، أو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا 1 \ 48.
(71/359)
قد يتلوث طعام الآخرين من يديه وبرازه فتصيبهم العدوى وقد يعدي الآخرين حتى بمصافحتهم " (1) .
4 - تغطية آنية الشرب:
حث الإسلام على تغطية الآنية حفظا لصحة وسلامة الإنسان من التلوث، أخرج مسلم في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن عبد الله عن يحيى بن سعيد عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن القعقاع بن حكيم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء (2) » .
قال ابن القيم: وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم وقد عرفه من عرفه من عقلاء الناس بالتجربة. قال الليث بن سعد أحد رواة الحديث: " الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة في كانون الأول منها " (3) .
وأخرج مسلم في صحيحه من طريق جابر بن عبد الله عن
__________
(1) الصلاة صحة ووقاية وعلاج (83) .
(2) صحيح مسلم في كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء 3 \ 1596.
(3) كتاب الطب النبوي للإمام ابن قيم الجوزية ص 181. صحيح مسلم بشرح النووي 13 \ 15.
(71/360)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب وأطفئوا السراج فإن الشيطان لا يحل سقاء ولا يفتح بابا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكر اسم الله، فليفعل (1) » . . . الحديث (2) .
وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم تغطية الإناء لاتقاء نزول الوباء الذي يمرض الإنسان والنهي عن الشرب إلا مما تمت تغطيته.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا إلا فيما أوكئ عليه (3) » .
5 - النهي عن التنفس في الإناء:
التنفس في إناء الشرب يتسبب في تلوثه وانتقال المرض، ولهذا جاء النهي النبوي عن التنفس في الإناء.
أخرج مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يتنفس في الإناء (4) » .
6 - النهي عن الشرب من في السقاء:
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2012) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3410) ، موطأ مالك الجامع (1727) .
(2) صحيح مسلم في كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء 3 \ 1596
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6 \ 72.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب كراهة التنفس في الإناء 3 \ 1602.
(71/361)
وهذا النهي لأسباب كشف الطب عنها في مقدمتها منع العدوى.
أخرج مسلم في صحيحه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية: أن يشرب من أفواهها (2) » .
وقد ذكر النووي من أسباب النهي فقال: " لأنه يقذره على غيره " وقيل: " أنه ينتنه، أو لأنه مستقذر" (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامها 3 \ 1600.
(2) اختناث الأسقية: خنث السقاء إذا ثنيت فمه إلى الخارج وشرب منه، النهاية في غريب الحديث 2 \ 82. (1)
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 13 \ 164.
(71/362)
المبحث الثاني: وقاية الطعام من التلوث.
المتأمل في نصوص القرآن والأحاديث النبوية يجد أن تحريم أكل الدم، والميتة، والجلالة، والخنزير، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع وغيرها، يدل على حرص الإسلام على سلامة صحة الإنسان، حيث بين الطب الحديث أضرار تلك المحرمات وخطرها على الصحة، وهذا بيانها:
أولا: تحريم أكل الميتة:
تطلق الميتة على كل حيوان فارق الحياة بغير ذكاة شرعية، وهذا مخصوص بالحيوان الذي يجوز أكله، فإذا فارق الحياة من غير
(71/362)
ذكاة حرم في الإسلام تناوله إلا للمضطر، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وبالذكاة يتخلص الجسم من الدم الحامل للميكروبات والجراثيم، ولهذا جاءت السنة النبوية مبينة كيفية الذبح بقطع أوداج الذبيحة بأداة حادة، ثم يترك الحيوان يدفق دمه حتى يتخلص منه بالكامل، فيقطع بعد ذلك نخاعه ويكون بهذا قد تخلص الحيوان من الدم الحامل للفيروسات الممرضة.
ويؤكد الطب الحديث الأضرار الناجمة عن أكل الميتة بسبب التغيرات التي تحدث بعد موت الحيوان من ترسب الدم في جسمه بما يسمى في الطب بـ " الزرقة الجيفية " وتكون أحماض بعدها تتكون الجراثيم الهوائية واللاهوائية التي تؤدي إلى تعفن الحيوان وتكون روائح كريهة وآثار سامة أضف إلى ذلك أحيانا أن موت الحيوان يكون بسبب مرض عانى منه الحيوان. هذه الأضرار التي أكدها الطب الحديث كفيلة ببيان حكم تحريم الميتة، كما جاءت الآيات الكريمة بتحريم أنواع أخرى جاءت في سياق قولة سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة المائدة الآية 3
(71/363)
فتحريم المنخنقة لانحباس الدم بها مما ينتج عنه تعفن وحدوث مركبات ضارة بالصحة، وكذلك الموقوذة، والمتردية (1) والنطيحة (2) وذلك لأجل الرضوخ التي تتسبب في انتشار الدم تحت الجلد وفي الأنسجة، مما يزيد من خطر ترسب الدم، وتكون مركبات سامة تضر بصحة الإنسان.
وأما ما أكل السبع فذلك خشية التلوث الناتج عن أكل السبع للميتة، بالإضافة إلى ما تخلفه من ترسب الدم فينتج عنه مركبات سامة كما سبق بيانها، والله أعلم (3) .
كما أن ذكاة الحيوان المأكول سبب في التخلص من دمه، فقطع أوداجه ثم الانتظار حتى يدفق دمه، ثم إكمال قطع النخاع سبب رئيسي لتخلص الحيوان من الدم الذي لو بقي لكان سببا في العديد من الأمراض، كما أن طبخ اللحم سبب في القضاء على ما تبقى من الفيروسات الممرضة المتبقية في اللحم.
__________
(1) والمتردية: وهي التي تتردي في ركية أو من جبل. معاني القرآن للنحاس 2 \ 257.
(2) والنطيحة: المنطوحة. معاني القرآن للنحاس 2 \ 257.
(3) الطب الوقائي في الإسلام عادل بربور وآخرون ص 92.
(71/364)
وما ذلك إلا حفظا لصحة الإنسان.
(71/365)
ثانيا: تحريم الدم:
حرم الإسلام الدم، قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) .
والدم يحمل في طياته السموم والفضلات التي يطرحها خارج الجسم إما عن طريق الكلية أو عن طريق العرق، ومن أهم هذه السموم مادة البولة، وحمض البول، وغاز الكربون الذي يتخلص منه الجسم عن طريق الرئتين، كما يعمل الدم على نقل بعض السموم من الأمعاء إلى الكبد لتعديلها فتناول الدم عن طريق الفم يسبب أمراضا من أهمها ارتفاع نسبة البولة الدموية، مما يؤدي إلى اعتلال دماغي (2) .
لهذا حرم الإسلام الدم حفظا للصحة، وقد تبين هذا بعد أن كشف الطب في عصرنا عن كثير من المضار التي تنتج بسبب تناول الدم، كما أن كثيرا من الأمراض كالحمى وغيرها تنتقل عن طريق دم الحيوان الحامل للمرض إلى جسم الإنسان.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) الطب الوقائي في الإسلام عادل بربور وآخرون ص94.
(71/365)
ثالثا: تحريم أكل الخنزير:
الخنزير هو: حيوان تجتمع فيه الصفات السبعية والبهيمية، يتغذى على القاذورات من القمامة والفضلات والفئران والقوارض والجيف والمزابل وغيرها (1) .
ولهذا جاء القرآن الكريم بتحريمه في قوله سبحانه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) .
والخنزير ناقل لأمراض كثيرة من أهمها:
- الأمراض الطفيلية: حيث ينقل الخنزير ما يزيد على ثلاثين مرضا طفيليا.
- ومنها الطفيليات وحيدة الخلية، والديدان الورقية، والشعرية، والشريطية، وطفيليات جلدية وغيرها.
- الأمراض الفيروسية: حيث ينقل الخنزير أربعة وثلاثين مرضا فيروسيا.
- الأمراض الفطرية: حيث ينقل ثلاثة أمراض فطرية إلى الإنسان.
- أمراض التغذية: حيث يصاب الإنسان بعشرة أمراض.
__________
(1) تحريم الخنزير في الإسلام د. فاروق مساهل ص3.
(2) سورة الأنعام الآية 145
(71/366)
نتيجة التغذية على لحم الخنزير.
- الالتهاب السحائي المخي وتسمم الدم الناتج عن الإصابة بميكروب السبحي الخنزيري.
وفي سنة 1968م اكتشف الميكروب الخنزيري الذي أدى إلى الفتك بأعداد كبيرة في هولندا والدانمارك وأدى إلى الوفاة (1) .
كما يتسبب أكل لحم الخنزير في نقل مرض " أنفلونزا الخنزير " والذي ينتشر على شكل وباء يحدث التهابا في المخ وتضخما للقلب وأدى في عام 1918 م إلى وفاة أكثر من عشرين مليون نسمة (2) .
إضافة إلى عشرات الأمراض الأخرى التي أعرضت عن ذكرها اختصارا في هذا المبحث.
__________
(1) تحريم الخنزير في الإسلام د. فاروق مساهل.
(2) تحريم الخنزير في الإسلام د. فاروق مساهل ص 16.
(71/367)
ثالثا: تحريم الجلالة:
الجلالة: كل حيوان مأكول يتغذى على فضلات الإنسان، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الجلالة، وعن شرب لبنها، فيما رواه أبو داود بسنده عن عثمان بن أبي شيبة عن عبدة عن محمد بن إسحاق عن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الجلالة وألبانها (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها 3 \ 351.
(71/367)
وله شاهد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن لبن الجلالة (1) » .
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب الجلالة.
أخرج أبو داود بسنده عن أحمد بن أبي سريح عن عبد الله بن جهم عن عروة بن أبي قيس عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها (2) » .
وأخرج الترمذي في سننه من طريق محمد بن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن المجثمة وعن لبن الجلالة وعن الشرب من في السقاء (3) » .
قال الترمذي: " قال محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ".
__________
(1) وأخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها 3 \ 351
(2) أخرجه أبو داود في الكتاب والباب السابقين 3 \ 351.
(3) سنن الترمذي، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها 3 \ 176.
(71/368)
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1) .
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها 3 \ 176.
(71/369)
المبحث الثالث: الوقاية من العدوى
العدوى هي: انتقال المرض من السقيم إلى الصحيح وهي اسم من الإعداء،. . . يقال: أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء (1) .
وقد حير العلماء وجود أصحاء في المناطق الموبوءة تزيد نسبتهم على 90% من السكان حاملين للفيروس دون أن يكون له أثر على صحتهم.
وتبادر إلى أذهان الأطباء أن الفيروس الحامل للمرض يختلف فيتأثر به البعض ويسلم منه البعض الآخر لكن تبين بالفحص الدقيق أن الفيروس هو ذاته. لا يختلف بل هو نوع واحد.
كما أرجع بعض الأطباء ذلك إلى مناعة الشخص لكن تبين أن المرض يفتك بالأصحاء ويسلم منه غيرهم (2) . كما أثبت الأطباء أن هذه الخاصية في انتقال الميكروب لا تختلف عن أي ميكروب أو فيروس آخر باختلاف نوع المرض بل هي في ذلك سواء، فلا فرق
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 3 \ 192 بتصرف.
(2) العدوى بين الطب وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (46) .
(71/369)
بين ميكروب الحمى الشوكية، وحمى التيفوئيد، وشلل الأطفال، والجذام وغيرها، فزاد ذلك الأطباء حيرة.
لكن المتأمل للأحاديث النبوية يجد سر ذلك الإعجاز الذي حير الأطباء حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «لا عدوى ولا صفر ولا هامة. فقال أعرابي يا رسول الله: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول (1) » .
ففي هذا الحديث يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن المرض لا ينتقل بذاته، جاء ذلك في جوابه صلى الله عليه وسلم على الأعرابي بقوله: «فمن أعدى الأول (2) » إشارة إلى أن العدوى لا تنتقل بذاتها وإنما بإرادة الله سبحانه.
فالكائن الدقيق من الفيروسات والميكروبات والفطريات والحيوانات ذات الخلية الواحدة مخلوقات من مخلوقات الله يسيرها سبحانه كيف شاء، يصيب بها من يشاء ويسلم منها من شاء سبحانه.
__________
(1) أخرجه البخاري صحيح البخاري بشرح فتح الباري في كتاب الطب، باب لا صفر ج 10 \ 210. ومسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة (4 \ 1742) من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
(2) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) .
(71/370)
فالإسلام لا ينفي العدوى، قال الحافظ ابن حجر: " أن المراد بنفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه، نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا وإن شاء أبقاها فأثرت " (1) .
ومن الطرق الوقائية من العدوى في السنة النبوية ما يلي:
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (10 \ 160) .
(71/371)
أولا: النهي عن الخروج من الأرض الموبوءة أو الدخول إليها:
يعرف هذا الإجراء في الطب الحديث بالحجر الصحي ويعد الحجر الصحي من طرق الوقاية التي سبق الإسلام إليها.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز وعذاب أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا كان بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحة، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة 8 \ 436 من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(71/371)
وقد توصل العلماء في الطب الحديث أن حصر المرض في مكان محدود يتحقق بإذن الله بمنع الخروج من الأرض الموبوءة.
فالنهي عن الخروج من الأرض الموبوءة يمثل حجرا صحيا سبق إليه الإسلام الطب بمئات السنين، كما أن منع الدخول إلى الأرض الموبوءة يعد إجراء وقائيا سبق إليه الإسلام.
(71/372)
ثانيا: النهي عن البصاق على الأرض:
البصاق: هو اللعاب الحامل لكثير من الجراثيم والميكروبات، ولهذا يعمد الأطباء إلى تحليله لتشخيص نوع المرض، مثل مرض السل مثلا فإن من طرق تشخيصه تحليل بصاق المريض.
لهذا جاء النهي عن البصاق في الأماكن التي يتخللها الناس كالمساجد وغيرها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها (1) » .
فقد نهى الرسول عن البصاق في الأماكن التي يباشرها المسلم بيديه عند سجوده وتلتصق بها ملابسه وأطرافه.
ولم يكن هذا فحسب بل نهى الإسلام عن كل أذى يسبب قذارة وتلوثا في طريق الناس وجلوسهم يقول عليه السلام: «من سل
__________
(1) أخرجه النسائي في سننه، كتاب المساجد، باب البصاق في المسجد 2 \ 38 من طريق قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام أحمد في مسنده 3 \ 173 من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(71/372)
سخيمة في طريق المسلمين فعليه لعنة الله (2) » كما منع اتخاذ الطرقات والظل مكانا لقضاء الحاجة.
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 5 / 320، وفي المعجم الصغير 2 / 77 من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل لأبي هريرة: قد أفتيتنا في كل شيء يوشك أن تفتينا في الخراءة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: '' من سل سخمية على طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ''.
(2) السخيمة: الغائط والنجو، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2 \ 351. (1)
(71/373)
ثالثا: منع التلوث بلعاب الكلب:
يحمل لعاب الكلب جراثيم ممرضة تفتك بالإنسان، لهذا جاء الإرشاد النبوي بتنظيف الوعاء الذي يلغ فيه الكلب بغسله سبع مرات إحداهن بالتراب يقول عليه السلام: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (1) » ، وجاء في رواية ابن المغفل عند مسلم: «وعفروه الثامنة في التراب (2) » وقد أثبت الطب الحديث أن الجراثيم والميكروبات التي يحملها لعاب الكلب ممرضة، ولا يمكن التخلص منها إلا بالتراب مهما وضع من المطهرات الحديثة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب 3 \ 156 من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، ولفظ رواية ابن المغفل: '' إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب ''.
(2) صحيح مسلم الطهارة (280) ، سنن أبو داود الطهارة (74) .
(71/373)
رابعا: هجر الأرض الموبوءة:
جاء ذلك في حديث فروة بن مسيك قال: «يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبئة أو قال: وباؤها شديد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها عنك فإن من القرف التلف (1) » .
قال ابن الأثير: القرف: ملابسة الداء ومداناة المرض، والتلف: الهلاك، وليس هذا من باب العدوى، وإنما هو من باب الطب فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب الطيرة 4 \ 19.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر 4 \ 64.
(71/374)
خامسا: قدوم المريض على الصحيح:
كما أن قدوم الصحيح الخارج من الأرض الموبوءة سبب لنقل المرض مع سلامة الخارج، فمن البديهي أن قدوم المريض على الأصحاء سبب لنقل المرض إذا شاء الله ذلك، لذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح (1) » وهذا أيضا تأكيد على
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى، صحيح البخاري بشرح فتح الباري 1 \ 298 من طريق أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(71/374)
أمرين هامين هما:
انتقال العدوى من المريض إلى الصحيح إذا شاء الله.
حصر المرض ومنع انتقاله إلى الآخرين.
وهذه القواعد هي المطبقة حاليا في الطب بل تعد من أهم الركائز الطبية الوقائية لمنع انتشار المرض بأمر الله عز وجل.
(71/375)
سادسا: الوقاية من التلوث وانتقال الجراثيم:
وقد جاءت السنة بنصوص كثيرة، كشف الطب الحديث عما احتوت عليه من قواعد طبية، ويتمثل ذلك فيما يلي:
الوقاية من انتشار العدوى من أمراض البرد وغيرها.
أثبت الطب الحديث أن أكثر الأمراض انتشارا هي أمراض البرد كالزكام والأنفلونزا، وأثبت الطب أنها تنتقل بالرذاذ إضافة إلى أمراض أخرى.
وإذا أمعنا النظر في الأحاديث النبوية نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرشدنا في قوله: «إذا عطس أحدكم فليضع يده على فمه (1) » إلى قاعدة صحية تتمثل في منع انتشار الرذاذ الذي يخرج بسبب العطاس الذي يكون سببا في تلوث الهواء والمكان، ويكون سببا في نقل المرض، وهذه الدول الصناعية تقوم الآن بمبدأ الحماية الشخصية لعمالها عند إصابة أحدهم بالزكام بوضع قناع
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2740) ، سنن أبو داود الأدب (5031) .
(71/375)
على وجه المريض ينتقل به ويزاول به عمله، حتى لا ينقل المرض للآخرين (1) .
مع أن الإسلام قد رسم هذه الحماية والعناية بالإنسان للحيلولة دون انتشار المرض بآداب نبوية وتوجيهات صحية وقف الطب الحديث عليها بعد أربع عشر قرنا من الزمان، يقول سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} (2) .
__________
(1) الطب الوقائي في الإسلام، الصحة الوقاية في الإسلام د. عبد العزيز محمد عثمان ص 55.
(2) سورة فصلت الآية 53
(71/376)
سابعا: وقاية الجهاز التناسلي:
حرص الإسلام على وقاية الجهاز التناسلي لضمان صحة الإنسان وصحة نسله.
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) .
واعتبر مخالفة ذلك إثما يعاقب علية المسلم فحرم الزنا واللواط، وحد لها حدودا تنكيلا بمن يفعلها وشدد على تحريمها، قال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (4) . وقال
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7
(4) سورة الإسراء الآية 32
(71/376)
سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (1) .
وقال سبحانه: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (2) .
فمن هذه النصوص يتبين عظم محافظة الإسلام على النسل عامة والجهاز التناسلي خاصة.
بل إن الزواج هو حصن للمسلم ووقاية لصحته وسلامة لبدنه رغب فيه الإسلام، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (4) » .
وأثبت الطب الحديث أن انتشار أمراض الجهاز التناسلي سببه هو ممارسة الطرق غير الشرعية فالزنا واللواط سبب لأمراض منها:
1 - الزهري: وهو داء ينتقل بسبب العلاقات الجنسية
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الأعراف الآية 81
(3) سورة النور الآية 32
(4) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح باب من لم يستطع الباءة فليصم، برقم (4678) ، ومسلم في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد برقم (2485) .
(71/377)
المحرمة، ويؤدي بالإنسان إذا أهمل إلى إصابة السحايا والدماغ بالشلل التام إضافة إلى أعراض أخرى تؤلم المصاب وتؤرقه من نومه.
2 - السيلان: وهو أيضا ينتقل بالعلاقات الجنسية المحرمة، وهو مرض يتسبب في العقم، إضافة إلى أنه يصيب ببؤر قيحية صديدية في أماكن مختلفة من الجهاز التناسلي.
3 - مرض الإيدز: وهو مرض العصر وهو ينتشر بسبب العلاقات الجنسية الزنا واللواط وأخطاره عظيمة جدا، يؤدى إلى الوفاة ويصيب الجنسين، ولم يجد له الطب الحديث علاجا حتى الآن (1) .
4 - القمل: وهو ما يسمى بقمل العانة وينتشر بين الشباب نتيجة العدوى من الاتصالات بين الجنسين (2) .
هذه لمحات عن وقاية الإسلام للجهاز التناسلي وقد كشف الطب الحديث أن مخالفة النص الإلهي والوقوع في رذيلة الزنا واللواط تؤدي بالإنسان إلى أمراض عديدة آثرت الاختصار خشية الإطالة.
__________
(1) مرض الإيدز الطاعون الجديد ص 245.
(2) الطب الوقائي بين العلم والدين محمد راتب النابلسي ص 126.
(71/378)
ثامنا: مجامعة الحائض والنفساء:
حرم الإسلام جماع الحائض قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(71/378)
وقد كشف لنا الطب الحديث عن بعض أسرار هذا النهي الإلهي.
حيث يتميز قبل المرأة " بوجود الوسط الحافظ وهي مادة تتكون بعد الحيضات والولادة أي في أوقات الطهر وذلك بفضل حمض اللبن الذي تركبه العصيات اللبنية الألفية والموجودة جبلة في مهبل المرأة يعمل على قتل الجراثيم إضافة إلى وجود السدادة المخاطية المتكونة من مخاط عنق الرحم فتغلق فوهة العنق في أوقات الطهر وتحول دون دخول الجراثيم بفعلها الميكانيكي " (1) .
" ففي أثناء الحيض والولادة يزول ذلك المخاط الذي يشكل سدا منيعا ضد الجراثيم حيث يزول مع الدم النازل إضافة إلى أن الدم السائل يحول وسط المهبل من حامض إلى قلوي فيعطل بدوره عمل العصيبات اللبنية وبالتالي تنخفض مقاومة الأعضاء التناسلية بشكل كبير.
إضافة إلى وجود جرح نازف في الرحم مكان الغشاء المخاطي المنسلخ يتصل مباشرة مع الدوران الدموي فيزيد من خطورة أي التهاب " (2) .
__________
(1) الطب الوقائي في الإسلام ص 149.
(2) الطب الوقائي في الإسلام ص 149.
(71/379)
لذا حرم الإسلام جماع الحائض والنفساء حفظا لصحة الإنسان، وجاء الطب الحديث ليكشف لنا مكنونات النهي الشرعي عن مجامعة الحائض والنفساء فسبحانه أرشد الإنسان إلى ما يصلح له في دنياه وآخرته.
(71/380)
حديث شريف
«عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، قال: أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس يوم النحر؟! قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة، قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (1) » .
(رواه البخاري)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (67) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(71/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1)
(سورة التوبة، الآية 32)
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(72/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر
(72/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
(72/3)
المحتويات
الافتتاحية
الملتقى الأول لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 31
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 43
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 67
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 79
(72/4)
البحوث
أهل السنة والجماعة لفضيلة الدكتور / عواد بن عبد الله المعتق 99
رسالة في التوحيد تحقيق لفضيلة الدكتور / يوسف بن محمد السعيد 191
الزيارة الشرعية والبدعية تحقيق لفضيلة الدكتور / علي بن عبد العزيز الشبل 213
منسك الإمام عطاء ابن أبي رباح المكي لفضيلة الدكتور / عصام بن عبد المحسن الحميدان 239
التأصيل الفقهي للتورق في ضوء الاحتياجات التمويلية المعاصرة لفضيلة الشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 351
(72/5)
صفحة فارغة
(72/6)
الملتقى الأول لدعوة الإمام
محمد بن عبد الوهاب
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. . وبعد:
فإن موضوعنا في افتتاحية هذا العدد المبارك سيكون بإذن الله حول الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وقبل البداءة بهذا نعلم أن الله جل وعلا فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلها خير الأمم وأفضل الأمم، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) . فبين الله لهذه الأمة مكانتها ومنزلتها وخصوصيتها، وهي: أنها خير أمة أخرجت للناس، فالأمة المحمدية خير الناس للناس، لها القيادة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(72/7)
والسيادة، ولها المكانة الرفيعة، دينها أكمل الأديان، وكتابها خير الكتب، ونبيها أفضل الأنبياء والمرسلين، وشريعتها أتم الشرائع وأكملها، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، أمة مرحومة، وأمة لا يزال الخير فيها باقيا، وأمة هي خاتم الأمم، وأمة سيظل دينها باقيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله (2) » ، أمة لا تجتمع على ضلالة، أمة الخير فيها لا يزال مستمرا كلما ضعف، هيأ الله لها من أبنائها من ينهض بها ومن يعيدها إلى الطريق المستقيم، ويهديها سواء السبيل، أمة أساس دينها هو التوحيد الذي دعت إليه جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد بعث الله أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين بعدما فشا الشرك في قوم نوح وحدث ما حدث، بعث الله نوحا عليه السلام، لتحذيرهم من الشرك، ودعوتهم إلى التوحيد، ثم تتابعت الرسل، كل رسول يمضي يعقبه رسول بعده، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} (3) ، هؤلاء الرسل مهمتهم البشارة والنذارة {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (4) ، ومهمتهم إقامة حجة الله على العباد، فلا حجة لأحد أشرك بالله بعد
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(3) سورة المؤمنون الآية 44
(4) سورة النساء الآية 165
(72/8)
إرسال الرسل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) هؤلاء الرسل صفوة الخلق وخير الخلق، وأفضل الخلق، كلفوا بحمل الرسالة فحملوها، وأدوا الأمانة ونصحوا لأممهم، بذلوا جهدهم في سبيل هداية أممهم، فهدى الله من شاء وأضل من شاء، ما من نبي بعث إلا وله أعداء يخاصمونه، ويجادلونه، ويكذبونه، ويقابلون دعوته بالتكذيب والإنكار، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (2) ، تلك العداوة للرسل ليست لهوان الرسل على الله، ولكن تلك العداوة للرسل فيها حكم عظيمة منها:
أولا: عظم ثواب الرسل بصبرهم وثباتهم.
ثانيا: ليتميز الحق من الباطل، فإذا وجد الأعداء والخصوم والمناوئون، وجد مقابلهم من يدافع عن الحق ويناضل عن الحق والهدى، رسل الله تفاوتوا في كثرة الاتباع، فمن رسل الله من يأتي وليس معه أحد، ومنهم من يأتي ومعه الرجل والرجلان، وليس ذلك لقصور في بيان الرسل، ولكن الله يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله، تتابعت الرسالات وعمت جميع الخلائق،
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الأنعام الآية 112
(72/9)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وهم متفقون على أن التوحيد هو مبدأ رسالتهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) والرسل متفاوتون في الفضل، فأولوا العزم أفضلهم {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (3) فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتمهم سيد الأولين والآخرين أولئك هم أولو العزم {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (4) ، وتميز الخليل إبراهيم ومحمد بأنهما أفضل أولي العزم، ثم اختار الله سيد الأولين والآخرين ليكون أفضل الجميع وسيد الجميع وإمام الجميع، «أنا سيد ولد آدم ولا فخر (5) » ، حقا إنه سيدهم وإنه إمامهم، وهو الشاهد على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم، ختمت أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، وقد بشر بمحمد صلى الله على وسلم لقرب عهده به، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (6) رفع الله عيسى إلى السماء واندرست بطول الزمن الملة الحنيفية، فما بين
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة البقرة الآية 253
(4) سورة الأحقاف الآية 35
(5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3148) ، سنن ابن ماجه الزهد (4308) .
(6) سورة الصف الآية 6
(72/10)
محمد صلى الله عليه وسلم، وعيسى عليه السلام زهاء ستة قرون لم يكن فيها نبي، وإنما بقايا على الملل السابقة، بقايا من أتباع عيسى ومن شريعته يقلون ويتناقصون شيئا فشيئا، حتى جاء زمن لم يبق على الأرض من يعرف الحق، فأظلمت الأرض بالجهالات والضلالات وأظلمت بالطغيان والفساد {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (1) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (2) » . أخرجه مسلم، فرحم الله الخليقة بهذا النبي الكريم محمد بن عبد الله، هذا النبي من ولد إسماعيل بن إبراهيم «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم فأنا خيركم حسبا ونسبا (3) »
أشرقت الأرض بعد ظلماتها، واستنارت واهتدت بعد الغواية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، بعث هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، واندراس من العلم، واختار الله له بلده مكة شرفها الله، التي كان مولده فيها وأسلافه إلى إسماعيل عليه السلام، كلهم ولدوا فيها، وترعرع فيها ونشأ فيها، وعاش بين أهلها لمدة أربعين عاما، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (4)
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(3) صحيح مسلم الفضائل (2276) ، سنن الترمذي المناقب (3605) ، مسند أحمد بن حنبل (4/107) .
(4) سورة الأنعام الآية 124
(72/11)
فاختاره الله بأن يكون النبي الخاتم للأنبياء والرسل، بعثه بما بعث به إخوانه الأنبياء، ليدعوا إلى توحيد الله، ليدعوا إلى إخلاص الدين لله، بعثه في زمن كانت الأرض تعج بملل متطاحنة، وآراء متباينة وملل مختلفة، يهودية ونصرانية ومجوسية ووثنية، هذه هي أصول الملل، ويدخل تحتها أنواع، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) ابتدأ النبي الكريم دعوته بمكة، يدعو العرب - عشيرته، وبني عمه، وأقاربه، وذوي رحمه، وأهل بيته - يدعوهم إلى لا إله إلا الله، ليقولوها، ويعملوا بمقتضاها، وينصروها، ويؤيدوها، ويحملوا لواءها، بدأ بهم؛ امتثالا لقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2) .
حين نزلت هذه الآية قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت
__________
(1) سورة البقرة الآية 62
(2) سورة الشعراء الآية 214
(72/12)
محمد سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا (1) » . . . أخرجه البخاري ومسلم بنحوه.
فلما ابتدأ الدعوة قوبل بالتكذيب والإنكار، وعورضت دعوته، وأوذي أتباعه، وجرى ما جرى وهو صابر محتسب يدعو إلى الله سرا وجهارا، وليلا ونهارا، يعرض نفسه على أندية العرب وملتقياتهم، وفي مواسمهم يدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم القرآن، فمن مستجيب وهم قليل، ومن صاد، ومن متوقف، ومن. . ومن. .، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم واصل دعوته، وهاجر إلى المدينة، وفرضت الفرائض وأوجبت الواجبات ودخل الناس في دين الله أفواجا فما توفي صلى الله عليه وسلم إلا وجزيرة العرب قد انقادت لدعوته واستجابت لطريقته، ودخلوا في دين الله أفواجا، فأقر الله عينه، وشرح صدره، فصلوات الله وسلامه عليه، توفي صلى الله عليه وسلم وقد ترك أمته على المحجة البيضاء الواضحة الجلية ليلها كنهارها، انحرف من انحرف من العرب، وارتد من ارتد من العرب، وكادت دولة الإسلام أن تذهب، ولكن ثبت الله قلوب أصحابه الكرام، ولا سيما الصديق رضي الله عنه، فظهر من قوة إيمانه، ويقينه، وقوة غيرته على دين الله ما تحققت به معجزة النبي حيث أشار بخلافته، فقام بالمهمة خير قيام إلى أن رد من ارتد من العرب إلى حظيرة الإسلام، وقضى على مدعي النبوة وعلى كل معرض عن دين الله أو
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (204) ، سنن النسائي الوصايا (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .
(72/13)
ممتنع عن شرائعه فعاد الناس إلى حظيرة الإسلام، ثم انطلقت تلك الجحافل المؤمنة شرقا وغربا، تفتح القلوب والبلاد، وتنير الطريق، وتهدي العباد، وتخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهدى، مضى على ذلك حقبة من الزمن، ولكن من حكمة الله أن يكون بين الحق وبين الباطل جدال ونزال، وأن الحق لا يمكن أن ينفرد وحده بل لا بد من باطل يقاومه؛ ليظهر الحق من الباطل {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (1) ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) ، فالحق لا بد أن يقاومه باطل حكمة من الله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (3) .
بدأت تلك الظاهرة متمثلة في فرقة الخوارج الذين خرجوا في آخر عهد عثمان، فقالوا في عثمان بآرائهم الباطلة، وأفهامهم الخاطئة ما قالوا، إلى أن قتل الخليفة ظلما وعدوانا، فسل السيف على أهل الإسلام وعاث الخوارج في دماء المسلمين، وخرجت الخوارج على علي لتكفر عليا والصحابة وتدعي أنهم كفار فارقوا الشرع وعصوا الرب، وهكذا إلى أن قاتلهم الصحابة، ولكن بقاياهم لا يزالون يتوالدون، ثم خرجت فرق شتى كلها شذت عن منهج الله القويم
__________
(1) سورة التغابن الآية 2
(2) سورة هود الآية 7
(3) سورة الفرقان الآية 31
(72/14)
وعن طريقه المستقيم، ونبينا قد قال لنا: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله (1) » الحديث، أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب، وأخرجه مسلم من وجه آخر ولفظه «وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله (2) » الحديث، لكن لما فرطت الأمة في هذا الاعتصام بكتاب الله وبدا الضعف، حصلت تلك المبادئ والبدع والآراء المتباينة الضالة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن خير الناس قرنه، ثم الذين يلونه، ثم الذين يلونه، فما مضى القرن الثالث إلا وقد لوث العالم الإسلامي ببدع وأفكار غريبة، وآراء باطلة هدامة، دبت إليها من أفكار غير المسلمين، ومن تراث اليونان وغيرهم من فلاسفة وغيرهم.
وما زال هذا الباطل ينمو حتى حورب أصل الإسلام، وشيد البناء على القبور، وطيف بها كما يطاف بالبيت العتيق، وحصل على الإسلام من النكبات والآلام ما الله به عليم، وتتابعت الفتن والمحن على هذه الأمة، ولكن مع كثرة الفتن والمحن فالشرع لا يزال قائما؛ لأن الله ضمن لهذا الدين البقاء، القرآن لا يزال محفوظا، والسنة لا تزال محفوظة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) ، وفي كل قرن يهيئ الله لهذه الأمة من يجدد لها معالم دينها، ومن يردها إلى الصواب ومن يهديها إلى الطريق المستقيم.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3788) ، مسند أحمد بن حنبل (3/17) .
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(3) سورة الحجر الآية 9
(72/15)
فما موقف أئمة الإسلام وعلماء الصحابة، ثم التابعين وتابعيهم، وما موقف الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة، والبخاري ومسلم وابن خزيمة وغيرهم من أئمة الإسلام، وما مواقف من جاء بعدهم ومن سار على نهجهم من علماء الأمة في شرق الأرض وغربها يناضلون عن هذه الشريعة، ويدافعون عنها، ويوضحون الحجة، ويدحضون بالحق الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1) .
وجاءت حرب التتار، وكم قتل من المسلمين من قتل، ودمر من مساجدهم، وأتلف من تراثهم ما أتلف، ومع هذا فقد عادت الأمة بعد جراحها قوية شديدة، وجاءت الحروب الصليبية إلى غير ذلك مما توالى على الأمة من محن وفتن، ومع هذا كله فشرع الله لا يزال عزيزا باقيا مهما حاول الأعداء القضاء عليه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
فشت البدع في الأمة: بدع الشرك، وتعظيم القبور، والطواف بها، والذبح لأهلها، والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، وضعف التمسك بالدين، وعادت بعض دول الإسلام إلى مشابهة الجاهلية في
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 18
(2) سورة التوبة الآية 32
(72/16)
عدم وجود الحق، وعدم من يقوم لهذا الدين بالدعوة والتوضيح، أما جزيرة العرب ما عدا الحرمين - وخاصة نجد - فقد عادت في القرون المتأخرة في جهالة وبعد عن الخير، فليس فيها مطامع لأحد، صحراء قاحلة، لا يأتيها إلا أفذاذ من الناس هاربين ولاجئين إليها عندما تضيق بهم الأمور في بلادهم، كانت نجد في غاية من التمزق والقلة والضعف، منذ حرب اليمامة في عهد الصديق ونجد أخبارها طويت أو ضعفت، وفي مطلع القرن الحادي عشر وفق الله بفضله رجلا من أبناء هذا البلد، هداه الله للطريق المستقيم، ومن عليه بفهم كتاب الله عز وجل وفهم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وفهم ما عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وخيار هذه الأمة، فقرأ كتاب الله وفهمه، وقرأ سنة رسول الله عليه وسلم، وعلمها، وتتلمذ على علماء عصره من ذوي الرأي والعلم في الأحساء والبصرة والمدينة ومكة وغيرها من البلدان، يتلقى العلم.
وقد فتح الله على قلبه فقارن بين واقع مجتمعه وما دل الكتاب والسنة عليه، فرأى أن هذا المجتمع مجتمع يعيش على أمور تخالف شرع الله، لا سيما في أصل الدين وأساسه، فأراد أن يدعو قومه إلى الله وأراد أن يبين منهج الله، وأراد أن يكشف لهم الحقيقة، ويريهم المنهج القويم، ويدلهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وهدي أئمة
(72/17)
الهدى من الصحابة ومن سار على نهجهم، لكن القوم قد أشربوا الباطل، ونشأوا وهرموا عليه، فعندما ابتدأ الدعوة إلى الله قوبل بالإنكار، وقوبل بالتكذيب، وقوبل بالعداء، وقيل له: جئت الناس بما لا يعرفه آباؤهم، وقيل له: إنك أتيت بمذهب خامس زائد على المذاهب الأربعة، وقيل، وقيل، لكنه لم يلتفت لتلك الأمور، بل حزم وعزم وقام لله قيام صدق وإخلاص، وعلم الله ذلك منه فوفقه وأعانه، وكان يعرض دعوته لمن يثق به ممن يرجو أن ينصرها ويؤيدها {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (1) .
فعندما ضاقت بالشيخ الحيل، وضاقت به الأرض بما رحبت ولم يجد ناصرا ولا مؤيدا لجأ إلى الله، وفوض أمره إلى الله، واستعان بمن هو على كل شيء قدير، فسخر الله له، وهيأ الله له إماما من أئمة المسلمين الأفذاذ في ذلك الزمان، ألا وهو الإمام محمد بن سعود بن مقرن آل سعود، فقبل هذه الدعوة، واقتنع بها، وارتضاها، واطمأن إليها، وشرح الله صدره لها، فآوى الشيخ، وأيده، ونصره، ودافع عنه، واتخذه إماما له يقتدي به، ويتأسى به، ويسمع ويطيع لتوجيهاته؛ لأنه يراها حقا وهدى، وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فهذا الإمام رحمه الله لما بين له الحق شرح الله صدره لقبوله، واطمأن لذلك، وعاهد الشيخ على القيام بالدعوة إلى الله، ونشر هذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 105
(72/18)
الدعوة في بلده الدرعية وما جاورها، فقام الإمامان بهذا الواجب، لكنهم قوبلوا بالعداء من قومهم، ولا سيما بعض المنتسبين إلى العلم الذين يرون أن انضواءهم تحت هذا الدعوة سلب لصلاحيتهم، وإذهاب لمكانتهم، وتحولهم من أئمة متبوعين إلى أناس تابعين، عند ذلك أوضح الشيخ طريقته بالتدريس والكتابة للعلماء والمسئولين في كل قطر، يعرض عليهم منهجه ودعوته، وأنه لم يأت الناس بأمر غريب، ولكن جاء بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويطلب من كل من وقف في وجه الدعوة أن يبدي اعتراضه، أو يوضح منهجه، أو يقدح في هذا المنهج الذي جاء به، حتى يتبين هل قدحه مبني على حق أم منطلق من هوى وتعصب باطل.
هذه الدعوة مضت في سبيلها: محمد بن سعود، محمد بن عبد الوهاب جاهدا في الله، وسارا يدعوان من حولهم إلى الانضواء تحت هذه الدعوة، وسماع الحق، والعمل به، وقبوله، والاطمئنان إليه، فيستجيب من يستجيب، ويناوئ من يناوئ، ولكن بتوفيق الله عز وجل ثم صبر أولئك على دعوتهم واستمرارهم عليها. مكن الله لهذه الدعوة، فوضح أمرها، واستبان للناس منهجها، واستفاد منها من أهل هذا البلد وغيره من العالم الإسلامي، وعرفوا أنها دعوة صالحة، ونهج إسلامي: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة.
(72/19)
أيها الإخوة: لكل داع إلى الله عدو، حتى يكون هذا العدو سببا في انتشار هذا الحق ووضوح هذا السبيل، وأعداء الشيخ قالوا عنه ما قالوا، وافتروا عليه من الأقاويل ما افتروا، ولكن ولله الحمد، ذهبت تلك الأباطيل، ووضح الحق، واستبان الهدي {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1) .
كانت نجد والجزيرة متفرقة في ولايتها فجمعهم الله على إمام واحد، وكان الفقر سائدا فأغناهم الله، وكان الجهل متمكنا فعلمهم الله، وكانت العصبية رافعة لواءها فأزالها الله بهذه الدعوة الصالحة التي جمعت القلوب على الخير والهدى والعلم النافع، والاتحاد على الكتاب والسنة، والأخوة الإيمانية الصادقة القائمة على هذا المنهج العظيم: دعوة أصلحت القلوب والبلاد، ودعوة جلبت الخير والرغد، ودعوة بصرت من العمى، وهدت من الجهل، إذ هي دعوة سارت في منهجها على منهج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لم تكن هذه الدعوة من تلقاء الشيخ من فكره ورأيه، ولا من كتاب قلده ولكنها دعوة من كتاب وسنة، وهو لا يدعي عصمة ولا كمالا ولكن يدعو من خالفه إلى أن يبينوا له إن رأوا في كلامه مخالفة للكتاب والسنة؛ ولهذا يخاطب بعض من يناوءونه قائلا: وإني أشهد الله وملائكته ومن حضرني من عباده المؤمنين أنكم لو قلتم في شيء
__________
(1) سورة الإسراء الآية 81
(72/20)
مما قلته إنه مخالف للكتاب والسنة لكنت أول الناس رجوعا عنه، ولكني ولله الحمد على طريق مستقيم، ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين.
لقد تنوع خصومه في عيبه، وفي ذمه، وفي القدح في دعوته بأمور عظيمة، وشبه باطلة، وسنأتي إن شاء الله على بيان بعض ذلك.
وهذه الدعوة الصالحة قامت على أمور:
أولا: قامت على توضيح الدين للأمة، وهداية الناس إلى طريق الله المستقيم، كانوا يعبدون الأشجار والأحجار، ويطوفون بالقبور ويتحكم فيهم الكهان والمشعوذون والسحرة وعلماء السوء، فأبدل الله ذلك بدين الإسلام الصحيح والشريعة الصافية فاعتنقوها عن إيمان وقناعة، كان الشرك ظاهرا، والتوحيد خفيا إلا عند نذر قليل من الناس، فجاءت هذه الدعوة لترفع لواء التوحيد: " لا إله إلا الله " بتوضيحها وبيانها، وبيان شروطها وأركانها، حتى تكون العبادة لله خالصة.
كان الناس يخضعون للأعراف الجاهلية، والقوانين الظالمة، فجاءت هذه الدعوة لتقول للناس: مرجعكم فيما تنازعتم فيه: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(72/21)
خالفتمونا في أنكم قلتم: الأولياء يعظمون، ويطلب الشفاعة منهم، وإلى غير ذلك، ونحن نقول: أولياء الله حقا هم المتقون، والشفاعة ملك لله لا تطلب من غيره، ولكن تطلب منه جل وعلا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (1) ، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (2) .
تنازعتم معنا في شرعية أعراف الجاهلية وأحكامها، ونحن نقول: ردوا التنازع إلى الكتاب والسنة ليحكم فيكم كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم تجدون أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، وأن المؤمن حقا لا يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، دعوة جاءت لتقول للناس: أيها الناس اتبعوا الكتاب والسنة ودعوا التعصب الباطل الذي حقيقته قبول الآراء بلا دليل، والجمود على آراء الناس بلا حجة، فكتاب الله واضح المعالم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة، فاعملوا بها، ودعوا التعصب للمشايخ وأرباب الطرق، وسيروا على المنهج القويم، جاءت هذه الدعوة لتقول للناس: الاجتهاد لم يغلق بابه، وكل عالم له أن يجتهد في البحث عن الحق من مصادره الأساسية، وأما أن نتمسك بعادة وتقليد لا أساس لها فذاك عين الباطل، جاءت هذه الدعوة لتقول للناس: انظروا ما دل الكتاب والسنة عليه وما أجمع
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الزمر الآية 44
(72/22)
عليه سلف الأمة فإن الله يقول {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
فنحن ندعوكم إلى ما أجمع عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وأجمعوا على أن العبادة بكل أنواعها حق لله، أجمعوا على أن من ذبح لغير الله، أو دعى غير الله فإنه بهذا قد أتى كفرا وضلالة، أجمعوا على وجوب اتباع الرسول والإيمان به وتحكيم سنته وتقديمها على كل الآراء والأقوال، أجمعوا على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، أجمعوا على أن مرجع الناس الكتاب والسنة ليس لهم مرجع سواه، جاءت هذه الدعوة لتقول لهم أيضا: يا أناس، دعوا تعظيم أرباب الطرق، وعظموا الرسول، واتباع الرسول، عظموا رسول الله بأي شيء؛ باتباع سنته، بتحكيم شريعته، بطاعة الله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) .
جاءت لتهذب العقيدة وتنقيها من أدران الشرك وأنواع البدع حتى عاد هذا المجتمع إلى صفاء العقيدة، وشابه في ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث صحة الاعتقاد والحرص على السنة، وإن لم يكن مثله في كمال الإيمان.
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) سورة آل عمران الآية 31
(72/23)
فالحمد لله رب العالمين، إن خصوم هذه الدعوة أرادوا تشويهها ونقلوها لغيرهم بصورة مشوهة كاذبة، فمنها: قالوا: إن أرباب هذه الدعوة حكموا على الناس بالكفر، وإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كفر عموم الأمة، وحكم عليهم بالكفر والخلود في النار {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1) .
والشيخ قد تبرأ منها فهو لم يأت ليكفر الناس، جاء ليدعو الناس ويهديهم سواء السبيل، ولم يقل للناس بأنهم كفار، هو لا يكفر إلا من كفر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ممن عرف الحق فحاد عنه كبرا وعنادا، قالوا: إن ابن عبد الوهاب كفر من لم يستجب له، وزعم أن المسلمين الذين لم يخضعوا لدعوته كفار، وقد رد هذا القول وتبرأ منه، وقال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (2) .
قالوا عن الشيخ: إن مذهبه مذهب الخوارج، لماذا؟ قالوا: لأنه يحكم على من عبد القبور وطاف بها بأنه حلال الدم، والشيخ بريء من مذهب الخوارج كله، الشيخ بريء من مذهب الخوارج، وبريء من كل المذاهب الضالة، وهو على منهج مستقيم يدعو إلى الله على علم وبصيرة.
وقالوا عن الدعوة أيضا: إنها مذهب خامس، والشيخ يتبرأ
__________
(1) سورة الكهف الآية 5
(2) سورة النور الآية 16
(72/24)
ويقول: نحن في الفروع على مذهب أحمد بن حنبل إلا أن يتبين لنا دليل بخلاف المذهب.
وقالوا: إن الشيخ ابن عبد الوهاب: لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن الشيخ يرى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ركن من أركانها.
وقالوا: إنهم يقولون: اللهم صل على محمد، يقصد ابن عبد الوهاب، وكل هذه من الأغاليط والأكاذيب.
وقالوا: وإنه يقول: لو أستطيع أن أهدم قبر النبي لفعلت، وإنه يقول: العصا التي أحملها أحب إلي من محمد.
وقالوا: وإنه كفر أهل القبلة، وإنه وإنه، وكل هذه آراء باطلة وأكاذيب، وتشويه للحقيقة، لكن ومع مرور الزمن استبان لكل ذي لب سليم أن هذه الدعوة، دعوة صادقة خالصة، وأن مناوئيها قد افتروا الكذب، والله جل وعلا حكيم عليم في ذلك.
أيها الإخوة: هذه الدعوة دعوة إلى الخير وما نعيشه في هذه البلاد من الأمن والرغد إنما هو آثار هذه الدعوة الصالحة بعد توفيق الله عز وجل، رحم الله من دعا ومن أعان ومن نصر وأيد، ووفق الله ولاة أمرنا للخير والصلاح، وجعلهم أئمة هدى وحماة لهذه العقيدة، ومدافعين عنها.
أيها الإخوة: تعلمون رحمكم الله، أن هذا البلد اليوم يعاني
(72/25)
حملات ضالة شرسة قائمة على الحقد والكراهية لهذا الدين وأهله، إعلام جائر، وقنوات مفسدة ضالة، ووسائل إعلام منحرفة، لا يهمها سوى الكذب والأباطيل، وتشويه الحقيقة، وتناسي الفضائل، علينا جميعا: أن نتمسك بدين الله، وأن نعتصم بحبل الله جميعا، وأن نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر فيما بيننا، وأن نحفظ شبابنا، ونسعى في جمع كلمتهم، ونسعى في تحذيرهم من دعاة السوء، ومن دعاة الفتنة، من الدعاة الذين يحبون أن يضلوا هذه الأمة بعد أن هداها الله، وأن يفرقوها بعد اجتماعها، وأن يلقوا بينهم العداوة والبغضاء؛ حسدا لما رأوا في هذا البلد من النعمة والفضل، نحن محسودون على ديننا الذي جمع الله به قلوبنا، إذ القلوب لا تجتمع إلا على هذا الدين، نحن محسودون على أمننا الذي نعيشه، والعالم في اضطراب وقلق وانقسامات سياسية وتناحرات حزبية، ونحن نعيش في هذا البلد في أمن واستقرار واجتماع كلمة، نحن محسودون على رغد العيش الذي تفضل الله به علينا، وعلى هذه القيادة التي نرجو من الله أن يأخذ بناصيتها إلى ما فيه الخير والصلاح للأمة في حاضرها ومستقبلها.
يا شباب الإسلام، تمسكوا بدينكم، وحافظوا على إسلامكم، واحذروا دعاة الضلال، احذروا دعاة الفتنة، احذروا ممن يريدون أن
(72/26)
يلقوا في قلوبكم شرا، أو يكرهوا إليكم بلادكم ودينكم، ويبغضوا إليكم علماءكم وولاة أمركم، أو يسخروكم لتنفيذ باطلهم وأغراضهم الدنيئة، فاستمسكوا بهذا الدين وتمسكوا به لعلكم تفلحون.
أسال الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجمع قلوب المسلمين على طاعته، ويولي عليهم خيارهم، وأن يصلح ولاة أمرنا، وأن يرزقهم الاستقامة على الهدى، وأن يعيذنا وإياهم من نزغات الشيطان، وصلى الله وبارك على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(72/27)
صفحة فارغة
(72/28)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(72/29)
صفحة فارغة
(72/30)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
إذا أقيمت الجمعة في مسجد آخر بغير إذن الإمام
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة رئيس مجلس الوزراء
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنبعث لجلالتكم بالأوراق المتعلقة بقضية نقل الجمعة من مسجد الجامع في قرية موقق إلى مسجد جديد في القرية أقترح تأسيسه المشتملة على خطاب فضيلة رئيس محكمة حائل، المتضمن أن هذا العمل من مندوبي وزارة الحج والأوقاف أحدث تشويشات بين الأهالي وشقاقا بينهم.
وتعرفون حفظكم الله أن نقل الجمعة من مسجد إلى آخر من الأمور الشرعية التي لا يجوز إجراء شيء منها إلا لجهة الاختصاص بموجب المسوغات الشرعية ذلك أن الجمعة لا تجوز إلا فيما يأذن
(72/31)
الإمام بإقامتها فيه، فإذا أقيمت في مسجد آخر بغير إذن الإمام فجمعة من صلى فيه غير صحيحة، وتصرفات مندوبي الأوقاف بنقل الجمعة من مسجد مأذون بإقامتها فيه من الإمام أو نائبه إلى مسجد آخر لم يؤذن فيه بإقامة الجمعة تصرفات في غير محلها، وفضلا عن أنها تدخل فيما لا يعني، مما أثار بين أهل تلك القرية التشويشات والشقاق بينهم، فهي تصرفات تعرض جمعة أهل هذه القرية للخلل.
لهذا نأمل جلالتكم تعميد وزارة الحج والأوقاف بملاحظة هذه الأمور وإرجاعها إلى جهة اختصاصها. والله يحفظكم.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ف - 1056 - 1 في 11-8-1384هـ)
(72/32)
س: إذا صلى العيد يوم الجمعة هل تسقط الجماعة في المسجد الظهر؟
ج: لم يرد في الحديث أنهم يجتمعون ويصلون في المسجد ويؤذن لهم ظهرا. والظاهر أنه لو فعل ذلك كان بدعة؛ لأنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل سقط الحضور وكفى مجمع عن مجمع. .
(72/32)
مشي المأموم إلى فرجة أمامه إذا لم يكن كثيرا فلا بأس
س: ما حكم مشي الرجل متقدما إلى فرجة في الصف الذي أمامه وهو في الصلاة؟
ج: إذا كان هناك فرجة ليس فيها أحد وتقدم لها الرجل فلا بأس بذلك ولو كان في الصلاة، وإذا قصد بذلك إتباع السنة وامتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «سدوا الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان (1) » ، فهو مثاب على قصده ونيته. ولا تبطل به الصلاة إذا لم يكن مشيه كثيرا، بدليل مشيه صلى الله عليه وسلم حين فتح الباب لعائشة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص - ف - 777 - 1 في 23-4-1383 هـ)
__________
(1) أخرجه النسائي وأبو داود، ولفظه عن ابن عمر مرفوعا: '' أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطعه قطعه الله''
(72/33)
وضع السجاجيد في المسجد الحرام ومنع الناس من الجلوس والصلاة عليها لا يجوز
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم: أحمد رمضاني سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلنا كتابكم تاريخ 23 - 9 الذي تذكرون فيه أن بعض الزمازمة والمطوفين يفرشون بسطا وحنابل في المسجد، ويمنعون الناس من الجلوس عليها والصلاة. ويتحجرونها لبعض الحجاج الذين يفدون عليهم.
فنفيدكم أن هذا لا يجوز؛ لأن المساجد لله سبحانه، والسابق أحق من المتأخر، والسبق والتقدم إلى المسجد يكون بالبدن لا بالفراش والوطاء، فمنع الناس والحالة هذه لا يجوز، بل هو ظلم وغصب لتلك البقعة من المسجد بدون حق، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوق به سبع أرضين يوم القيامة (1) » .
وأيضا: فعمارة المساجد بطاعة الله فيها من الذكر والقراءة والصلاة كما في حديث أبي سعيد: «إذا رأيتم الرجل يعتاد
__________
(1) عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ''من أخذ شبرا من أرض ظلما طوق يوم القيامة إلى سبع أرضين'' متفق عليه.
(72/34)
المسجد فاشهدوا له بالإيمان، ثم قرأ: (2) » رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب.
ومتحجر تلك البقعة مانع لتلك العمارة المعنوية المطلوبة شرعا والمرغب فيها، ولا يبعد دخوله تحت قوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (3) .
ثم إن واضع ذلك الوطاء والفراش ونحوه قد يحمله ذلك على التأني والتأخر عن إتيان المسجد في أول الوقت، ويفوت على نفسه بسبب ذلك خيرا كثيرا، وقد يأتي متأخرا ويتخطى رقاب الناس وهذا حرام، كما في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتخطى رقاب الناس فقال له: «اجلس فقد آذيت (4) » .
ولم يكن من عادة السلف الصالح وضع تلك الفرش وتحجر المساجد؛ بل أنكروا ذلك وعدوه بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة، كما يروى أن عبد الرحمن بن مهدي فرش مصلاه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر بحبسه، وقال: أما علمت أن هذا
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3093) .
(2) سورة التوبة الآية 18 (1) {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}
(3) سورة البقرة الآية 114
(4) وآنيت رواه ابن ماجه.
(72/35)
في مسجدنا بدعة.
فإذا علمت ما ذكر فلا شك أن فعل ذلك في المسجد الحرام أعظم تحريما وأشد منعا؛ لعظم حرمة ذلك المسجد، وقد صرحت الأدلة أن المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) .
قال ابن الحاج في (المدخل) : ليس للإنسان في المسجد إلا موضع قيامه وسجوده وجلوسه، وما زاد على ذلك فلسائر المسلمين، فإذا بسط لنفسه شيئا ليصلي عليه احتاج لأجل توسعة ثوبه شيئا كبيرا؛ ليعم ثوبه على سجادته. فيكون في سجادته اتساع خارج، فيمسك بسبب ذلك موضع رجلين أو نحوهما إن سلم من الكبر من أنه لا ينضم إلى سجادته أحد، فإن لم يسلم من ذلك وولى الناس عنه وتباعدوا منه، هيبة لكمه وثوبه وتركهم هو ولم يأمرهم بالقرب إليه فيمسك ما هو أكبر من ذلك، فيكون غاصبا لذلك القدر من المسجد، فيقع بسبب ذلك في المحرم المتفق عليه والمنصوص عن صاحب الشريعة حيث قال: «من غصب شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة (2) » وذلك الموضع الذي أمسكه بسبب قماشه وسجادته ليس للمسلمين به حاجة في الغالب
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3198) ، صحيح مسلم المساقاة (1610) ، سنن الترمذي الديات (1418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/190) ، سنن الدارمي البيوع (2606) .
(72/36)
إلا وقت الصلاة، وهو في وقت الصلاة غاصب له، فيقع في هذا الوعيد بسبب قماشه وسجادته، فإن بعث بسجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمتلئ المسجد بالناس ثم يأتي كان غاصبا لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه؛ إنه ليس له أن يحجزه، وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته، انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في (الفتاوى المصرية) (1) :
(وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم المفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابه إلى المسجد، فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين بل محرم.
وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟
فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد في فرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصليين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، ومن صلى في بقعة من المسجد مع منع غيره فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة؟ على وجهين، وفي الصلاة في الأرض المغصوبة قولان للعلماء، وهذا مستند من كره الصلاة في المقاصير التي تمنع صلاة عموم الناس، والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها. قالوا: وكيف تصف
__________
(1) ج2 ص 49.
(72/37)
الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول ويتراصون في الصف (1) » ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه (2) » ، والمأمور: أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر فقد خالف الشريعة من وجهين:
من وجه تأخره وهو مأمور بالتقدم
ومن وجهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنع السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه وأن يتموا الصف الأول فالأول.
ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا، وفي الحديث «الذي يتخطى رقاب الناس يتخذ جسرا إلى جهنم (3) » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «اجلس فقد آذيت (4) » ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟
فيه قولان: أحدهما ليس له ذلك؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه.
والثاني: وهو الصحيح أن لغيره رفعه والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في الصف المتقدم، وهو مأمور بذلك أيضا، ولا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء ذلك الحق إلا برفع ذلك المفروش، وما لا يتم
__________
(1) أخرجه النسائي في الإمامة.
(2) صحيح البخاري الأذان (615) ، صحيح مسلم الصلاة (437) ، سنن الترمذي الصلاة (225) ، سنن النسائي الأذان (671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) .
(3) '' من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم ''، أخرجه الترمذي عن معاذ بن أنس الجهني.
(4) سنن النسائي الجمعة (1399) ، سنن أبو داود الصلاة (1118) .
(72/38)
المأمور إلا به فهو مأمور به، وأيضا فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، لكن ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه (2) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(ص - ف - 131 في 30 - 10 - 1374 هـ)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) انتهى كلام شيخ الإسلام.
(72/39)
في مقدمة الصف وأمروه بالقيام
س: إنك ترى أناسا عندما يجدون أحد المصلين جالسا في مقدمة الصف في المسجد يأمرونه بالقيام من مكانه؛ بحجة أن هذا المكان لشخصية كبيرة، وتسأل هل هذا جائز؟
ج: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به، فإذا ثبت أحقيته بهذا المكان الذي سبق غيره إليه فلا يجوز إقامته عن مكانه، إلا أنه إذا لم يكن من أولي الأحلام والنهى كما أمر صلى الله عليه وسلم.
(ص - ف - 1036ـ 1 في 8ـ 4 - 1387 هـ)
(72/39)
تكلم الإمام على أولاد يلعبون وهو في الخطبة ونزل وضرب الصبيان
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة رئيس محكمة الدوادمي
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك رقم 1843 وتاريخ. 8 \ 8 \ 88 هـ، المرفق به استفتاء حسن الخطيب المدرس بكبشان عن مسألتين:
المسألة الأولى: عن إمام يخطب خطبة الجمعة، فجاء صبيان يلعبان، فتوقف عن الخطبة وتكلم على الأولاد. وقال: الله يقلعكم، ثم تكلم على الحاضرين، وقال: أنتم ما تعرفون تربون أولادكم، قوموا أخرجوهم فلم يقم أحد، ثم أكمل الخطبة الأولى وأخذ عصاه ونزل عن المنبر وضرب الصبيين وأخرجهما من المسجد، ويسأل عن حكم ذلك.
ج: ما كان ينبغي للإمام أن يفعل هذا، وإذا أراد أن يعلمهم، فيكون بطريقة الحكمة والموعظة الحسنة وتبيين كلام أهل العلم، وكأن الإمام وفقه الله لم يبلغه الحديث الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس إماما وهو حامل أمامة بنت بنته زينب على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها (1) » ، وقصة ركوب الحسين عليه في سجوده، وكلام العلماء
__________
(1) أخرجه الستة إلا الترمذي.
(72/40)
في هذا معروف، ومع هذا فلا تبطل الخطبة بمثل هذا الكلام؛ لأنه ليس بكلام محرم. وإنما هو مكروه لا يليق من مثل هذا الإمام في مثل هذا المقام، مع أن جنس الكلام من الإمام وهو يخطب جائز لا بأس به، فيجوز له أن يخاطب أحد المأمومين أو يخاطبه فيما كان فيه مصلحة عامة أو خاصة (1) .
(ص - ف - 379 - 1 في 19 - 12 - 1388 هـ)
__________
(1) المسألة الثانية تقدمت في سجود السهو.
(72/41)
مصافحة المأموم من على يمينه وشماله إذا دخل الخطيب
س: اعتاد بعض الناس في الجمعة إذا دخل الإمام يصافح من عن يمينه وشماله بعد جلوس الإمام على المنبر، وكذلك استعمال المروحة (المهفة) في وقت الحر في القرى.
ج: أما ما اعتاده بعض الناس من المصافحة إذا دخل الإمام يوم الجمعة فيصافح الذي عن يمينه والذي عن شماله فبدعة. وأما استعمال المهفة في وقت الحر والإمام يخطب فلا بأس به.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ف - 3026 - 1 في 30 - 7 - 1387 هـ)
(72/41)
صفحة فارغة
(72/42)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة السعودية سابقا "رحمه الله" (1)
إحضار القراء المشاهير للقراءة للميت بدعة
س: بعض الناس في قريتنا يقومون بإحضار مجموعة من المشائخ ممن لهم دراية بقراءة القرآن فيقرءون بحجة أن هذا القرآن ينفع الميت ويرحمه، والبعض الآخر يستدعي شيخا أو اثنين لقراءة القرآن على قبر هذا الميت، والبعض الآخر يقيمون محفلا كبيرا يدعون فيه واحدا من القراء المشاهير عبر مكبرات الصوت ليحيي الذكرى السنوية لوفاة عزيزه، فما حكم الدين في ذلك؟
وهل قراءة القرآن تنفع الميت على القبر أو غيره؟
وما هي الطريقة المثلى لمنفعة الميت؟
أفتونا جزاكم الله عنا خير الجزاء، ولكم منا جزيل الشكر والامتنان (2) .
ج: الحمد لله، وبعد: هذا العمل بدعة لا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
__________
(1) هذه الفتوى سبق نشرها في ج13 من مجموع الفتاوى لسماحته ص271 - 298.
(2) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1646) في 24 \ 2 \ 1419 هـ.
(72/43)
رد (1) » ، متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولم يكن من سنته صلى الله عليه مسلم ولا من سنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم القراءة على القبور، أو الاحتفال بالموتى وذكرى وفاتهم، والخير كله في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم، كما قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (4) » ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (5) » الأحاديث في هذا
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث العرباض بن سارية برقم (16695) وأبو داود في كتاب (السنة) باب لزوم السنة برقم 4607.
(5) رواه الإمام مسلم في كتاب (الجمعة) باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم 867.
(72/44)
المعنى كثيرة.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ما ينفع المسلم بعد موته فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » . خرجه مسلم في صحيحه، وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (2) » .
المراد بالعهد الوصية التي يوصي بها الميت، فمن بره إنفاذها إذا كانت موافقة للشرع المطهر، ومن بر الوالدين الصدقة عنهما، والدعاء لهما، والحج والعمرة عنهما.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) رواه الإمام أحمد في مسند (المكيين) حديث أبي أسيد الساعدي برقم 15639.
(72/45)
حكم قراءة الفاتحة للميت وذبح المواشي له
س: ما حكم قراءة الفاتحة للميت، وذبح المواشي، ودفع الفلوس إلى أهل الميت؟ .
(72/45)
ج: التقرب إلى الأموات بالذبائح أو بالفلوس أو بالنذور وغير ذلك من العبادات كطلب الشفاء منهم أو الغوث أو المدد شرك أكبر لا يجوز لأحد فعله؛ لأن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الجرائم؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ولقوله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) الآية، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالواجب إخلاص العبادة لله وحده سواء كانت ذبحا أو نذرا أو دعاء أو صلاة أو صوما أو غير ذلك من العبادات، ومن ذلك التقرب إلى أصحاب القبور بالنذور أو بالطعام للآيات السابقة ولقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) أما إهداء الفاتحة أو غيرها من القرآن إلى الأموات فليس عليه دليل فالواجب تركه؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، لكن يشرع الدعاء للأموات والصدقة عنهم وذلك بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، يتقرب العبد بذلك إلى الله سبحانه
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(72/46)
ويسأله أن يجعل ثواب ذلك لأبيه أو أمه أو غيرهما من الأموات أو الأحياء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » ؛ ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أن رجلا قال له: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها. قال: نعم (2) » متفق على صحته، وهكذا الحج عن الميت والعمرة عنه، وقضاء دينه كل ذلك ينفعه حسب ما ورد في الأدلة الشريعة، أما إن كان السائل يقصد الإحسان إلى أهل الميت والصدقة بالنقود والذبائح فهذا لا بأس به إذا كانوا فقراء، والأفضل أن يصنع الجيران والأقارب الطعام في بيوتهم ثم يهدوه إلى أهل الميت؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة أمر أهله أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما وقال؛ «لأنه قد أتاهم ما يشغلهم (3) » ، وأما كون أهل الميت يصنعون طعاما للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) رواه الإمام البخاري (الجنائز) باب موت الفجأة برقم (1388) ومسلم في (الزكاة) باب وصول ثواب الصدقة عن الميت برقم 1004.
(3) رواه الإمام أحمد في مسند (أهل البيت) حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب برقم 1754، وابن ماجه في (الجنائز) باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت برقم 1610.
(72/47)
يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة كل ذلك لا يجوز؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة (1) » أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاءوا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند عبد الله بن عمرو بن العاص) برقم (6866) ، وابن ماجه في (ما جاء في الجنائز) باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت برقم (1612) .
(72/48)
ليس هناك دليل يدل على استحباب قراءة القرآن للموتى
س: هل يصل ثواب قراءة القرآن إلى الميت، وما هو نص الحديث الذي فيه: يا رسول الله ماذا بقي من بر والدي بعد موتهما؟ .
(72/48)
ج: ليس على قراءة القرآن للموتى دليل يدل على استحبابها فيما نعلم، فالأحوط ترك ذلك والاكتفاء بما شرع الله من الدعاء لهم والصدقة عنهم وغير ذلك مما ثبت في الشرع المطهر كالحج والعمرة وقضاء الدين فإن هذا ينفعه، أما الحديث الذي سألت عنه فلفظه «إن رجلا قال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به. قال: نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » رواه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم (3) » .
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5142) ، سنن ابن ماجه الأدب (3664) .
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .
(72/49)
حكم إهداء قراءة القرآن الكريم لروح الرسول صلى الله عليه وسلم
س: ما حكم إهداء قراءة القرآن الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم أو لغيره؟ (1) .
__________
(1) نشرت في (جريدة عكاظ) العدد (11686) في 28 \ 4 \ 1419هـ.
(72/49)
ج: إهداء قراءة القرآن الكريم لروح الرسول صلى الله عليه وسلم والأموات لا أصل له وليس بمشروع، ولا فعله الصحابة رضي الله عنهم، والخير في اتباعهم؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطى مثل أجورنا عما فعلناه من الخير فله مثل أجورنا؛ لأنه الدال عليه، عليه الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » ، فهو الذي دل أمته على الخير وأرشدهم إليه، فإذا قرأ الإنسان أو صلى أو صام أو تصدق، فالرسول يعطى مثل أجور هؤلاء من أمته؛ لأنه هو الذي دلهم على الخير وأرشدهم إليه عليه الصلاة والسلام، فلا حاجة به إلى أن تهدى له القراءة أو غيرها؛ لأن ذلك ليس له أصل، كما تقدم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، وهكذا القراءة للأموات أيضا ليس لها أصل والواجب ترك ذلك.
أما الصدقة عن أموات المسلمين والدعاء لهم، فكل ذلك مشروع، كما قال الله عز وجل في صفة عباده الصالحين التابعين للسلف الصالح: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (3) ، وقد شرع الله صلاة الجنازة للدعاء والترحم عليهم، وهكذا الصدقة عن الميت تنفعه كما صحت
__________
(1) رواه مسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم (1893) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سورة الحشر الآية 10
(72/50)
بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا الحج عنهم والعمرة، وقضاء الدين، كل ذلك ينفع الميت المسلم.
(72/51)
حكم قراءة الفاتحة على جميع الأموات والأحياء بعد الصلاة
س: هل تجوز قراءة الفاتحة على جميع الأموات والأحياء - أعني الأنبياء والشهداء والأولياء وسائر المؤمنين والأقارب - بعد الانتهاء من الصلاة أو في أي وقت آخر؟ (1) .
ج: ليس لهذا أصل في الشرع المطهر، ولم تشرع قراءة الفاتحة لأحد؛ لأن هذا لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، فلا أصل له. وقال بعض أهل العلم لا مانع من تثويب القراءة للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ولكنه قول لا دليل عليه، والأحوط ترك ذلك؛ لأن العبادات توقيفية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . ولكن ينبغي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للوالدين والأقارب، فالدعاء ينفع.
أما قراءة الفاتحة أو غيرها من القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره فغير مشروعة في أصح قولي العلماء؛ للحديث
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(72/51)
المذكور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(72/52)
حكم قضاء الصلاة عن الميت
س: هل تجوز الصلاة عن الميت للفروض التي لم يصلها؟ (1) .
ج: الصلاة عن الميت لا تجوز، وليس لذلك أصل، وإنما جاء ذلك في الصيام والحج وقضاء الدين والصدقة والدعاء، أما الصلاة عنه فلا أصل لها.
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.
(72/52)
المصحف ينتفع به الميت إذا جعله وقفا
س: هل إذا ورث الميت مصحفا ينال أجرا عند تلاوة أبنائه فيه؟ (1) .
ج: المصحف إذا خلفه الميت فهو ينفعه إذا وقفه - أي جعله وقفا - ينفعه أجره، كما لو وقف كتبا للعلم المفيد؛ علم الشرع، أو علم مباح ينتفع به الناس، فإنه يؤجر على ذلك؛ لأنه إعانة على خير، كما لو وقف أرضا أو بيتا أو دكانا يتصدق بغلته على الفقراء أو
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد (11678) في 20 \ 4 \ 1419 هـ
(72/52)
تبرع للمساجد، كل هذا يؤجر عليه.
وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » .
فالصدقات الجارية تنفع الميت إذا كان مسلما، وينفعه دعاء أولاده ودعاء غيرهم، وينفعه الوقف الذي يوقفه بعده في سبيل الخير، من بيت أو أرض أو دكان أو نخيل، أو أشباه ذلك، فينتفع هو بهذا الوقف إذا انتفع به الناس، أكلوا من ثمرته وانتفعوا بثمرته، أو صرفت ثمرته في مساجد المسلمين لإصلاحها في فرشها، أو عمارتها.
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(72/53)
زيارة القبور ثلاثة أنواع
س: ما حكم الدين الإسلامي في زيارة القبور والتوسل بالأضرحة وأخذ خروف وأموال للتوسل بها كزيارة السيد البدوي والحسين والسيدة زينب؟ أفيدونا أفادكم الله (1) .
ج: زيارة القبور نوعان:
أحدهما: مشروع ومطلوب لأجل للأموات والترحم عليهم ولأجل تذكر الموت والإعداد للآخرة؛ لقول النبي صلى الله
__________
(1) سبق نشره في (الجزء الرابع) ، من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته رحمه الله، ص 344.
(72/53)
عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » ، وكان يزورها صلى الله عليه وسلم، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم، وهذا النوع للرجال خاصة لا للنساء، أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور، بل يجب نهيهن عن ذلك؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور من النساء، ولأن زيارتهن للقبور قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن مع قلة الصبر وكثرة الجزع الذي يغلب عليهن، وهكذا لا يشرع لهن اتباع (الجنائز) إلى المقبرة؛ لما ثبت في الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2) » ؛ فدل ذلك على أنهن ممنوعات من اتباع (الجنائز) إلى المقبرة؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة لهن وبهن، وقلة الصبر والأصل في النهي التحريم؛ لقول الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ، أما الصلاة على الميت فمشروعة للرجال والنساء، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) باقي مسند أبي هريرة برقم 9395، ومسلم في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (976) ، وابن ماجه في (ما جاء في الجنائز) باب ما جاء في زيارة القبور برقم (1569) واللفظ له.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند القبائل) برقم (26758) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1278) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (938) .
(3) سورة الحشر الآية 7
(72/54)
الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
أما قول أم عطية رضي الله عنها: «لم يعزم علينا (1) » فهذا لا يدل على جواز اتباع الجنائز للنساء؛ لأن صدور النهي عنه صلى الله عليه وسلم كاف في المنع، وأما قولها: «لم يعزم علينا (2) » فهو مبني على اجتهادها وظنها، واجتهادها لا يعارض بها السنة.
النوع الثاني: بدعي، وهو زيارة القبور لدعاء أهلها والاستغاثة بهم أو للذبح أو للنذر لهم، وهذا منكر وشرك أكبر - نسأل الله العافية - ويلتحق بذلك أن يزورها للدعاء عندها والصلاة عندها والقراءة عندها، وهذا بدعة غير مشروع ومن وسائل الشرك، فصارت في الحقيقة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مشروع، وهو أن يزورها للدعاء لأهلها أو لتذكر الآخرة.
النوع الثاني: أن تزار للقراءة عندها أو للصلاة عندها أو للذبح عندها فهذه بدعة ومن وسائل الشرك.
النوع الثالث: أن يزورها للذبح للميت والتقرب إليه بذلك، أو لدعاء الميت من دون الله، أو لطلب المدد منه أو الغوث أو النصر، فهذا شرك أكبر - نسأل الله العافية - فيجب الحذر من هذه الزيارات المبتدعة. ولا فرق بين كون المدعو نبيا أو صالحا أو غيرهما، ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1278) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1278) .
(72/55)
دعائه والاستغاثة به، أو عند قبر الحسين أو البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو غيرهم. والله المستعان.
(72/56)
حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فقد سئلت عن حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور، فأجبت بما يلي:
إذا كانت الزيارة لسؤال الموتى والتقرب إليهم بالذبائح والنذر لهم والاستغاثة بهم ودعوتهم من دون الله فهذا شرك أكبر، وهكذا ما يفعلونه مع من يسمونهم بالأولياء، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، حيث يعتقدون فيهم أنهم ينفعونهم أو يضرونهم أو يجيبون دعوتهم أو يشفون مرضاهم، كل هذا شرك أكبر والعياذ بالله، وهذا كعمل المشركين مع اللات والعزى ومناة، ومع أصنامهم وآلهتهم الأخرى.
والواجب على ولاة الأمر والعلماء في بلاد المسلمين أن ينكروا هذا العمل، وأن يعلموا الناس ما يجب عليهم من شرع الله، وأن يمنعوا هذا الشرك، وأن يحولوا بين العامة وبينه، وأن يهدموا
(72/56)
القباب التي على القبور ويزيلوها؛ لأنها فتنة، ولأنها من أسباب الشرك، ولأنها محرمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، وأن تجصص، وأن يقعد عليها، وأن يصلى إليها، ولعن من اتخذ عليها المساجد، فلا يجوز البناء عليها، لا مساجد ولا غيرها، بل يجب أن تكون بارزة ليس عليها بناء، كما كانت قبور المسلمين في المدينة المنورة، وفي كل بلد إسلامي لم يتأثر بالبدع والأهواء.
أما زيارة القبور للذكرى والدعاء للموتى والترحم عليهم فذلك سنة في حق الرجال من دون شد رحل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه، «وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (2) » ، وخرج الترمذي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) باقي مسند أبي هريرة برقم 9395، ومسلم في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة أمه برقم (976) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور برقم (974) .
(72/57)
الله لنا ولكم، انتم سلفنا ونحن بالأثر (1) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (2) » .
والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) رواه الترمذي في (الجنائز) باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر برقم (1053) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1189) ، وفي (الحج) باب حج النساء برقم (1864) ، ومسلم في (الحج) باب سفر المرأة مع محرم برقم (827) واللفظ له.
(72/58)
لا يجوز التبرك بالأموات
س: مات عندنا في البلد رجل وجاء خبر وفاته في النهار ورأينا نساء مسنات من البلد يذهبن إلى بيته وهو مسجى بعد تكفينه وسط النساء وهن حوله فسألناهن لم تذهبن عنده قلن نتبارك به. فما حكم عملهن هذا؟
وهل هو سنة؟ .
ج: هذا العمل لا يجوز، بل هو منكر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن
(72/58)
يتبرك بالأموات أو قبورهم، ولا أن يدعوهم من دون الله أو يسألهم قضاء حاجة أو شفاء مريض أو نحو ذلك؛ لأن العبادة حق الله وحده، ومنه تطلب البركة، وهو سبحانه الموصوف بالتبارك، كما قال عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) ، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (2) ، ومعنى ذلك أنه سبحانه بلغ النهاية في العظمة والبركة، أما العبد فهو مبارك، - بفتح الراء - إذا هداه الله وأصلحه ونفع به العباد، كما قال عز وجل عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (3) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (4) .
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) سورة الملك الآية 1
(3) سورة مريم الآية 30
(4) سورة مريم الآية 31
(72/59)
الزيارة الشرعية للقبور
س: سائل يسأل عن أولئك الذين يزورون القباب وقبور بعض الصالحين ما هو توجيهكم؟ (1) .
ج: يجب أن يعلموا الزيارة الشرعية؛ لأن النبي صلى الله عليه
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .
(72/59)
وسلم كان يعلم أصاحبه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية (1) » ، وفي حديث آخر قال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم أغفر لأهل بقيع الغرقد (2) » ، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر (3) » وبهذه الأحاديث وما جاء في معناها والأحاديث تعلم الزيارة الشرعية والمقصود منها أن يدعى للموتى، ويتذكر الزائر الموت والآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (4) »
__________
(1) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) ، وابن ماجه في كتاب (ما جاء في الجنائز) باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر برقم (1547) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (974) .
(3) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (974) والترمذي في (الجنائز) باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر برقم (1053) .
(4) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) باقي مسند أبي هريرة برقم (9395) ، ومسلم في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة أمه برقم (176) .
(72/60)
أما وضع القباب على القبور والمساجد فلا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، ولقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبر مشرفا إلا سويته (2) » ، وصح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث جابر رضي الله عنه أنه «نهى عليه الصلاة والسلام عن تجصيص القبور والقعود عليها والبناء عليها (3) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
فالقبور لا يجوز البناء عليها ولا يتخذ عليها مساجد ولا قباب ولا يجوز تجصيصها ولا القعود عليها كل هذا ممنوع ولا يجوز أن تكسى بالستور وإنما يرفع القبر قدر شبر ليعرف أنه قبر حتى لا يمتهن ولا يوطأ. فالواجب على كل من لديه علم أن يبلغ إخوانه ويعلمهم. وهذا هو واجب العلماء عليهم أن يعلموا الناس ما شرعه الله والمؤمن يتعلم من العلماء ويعلم من يأتي القبور يقول لهم: إن الزيارة الشرعية كذا وكذا وإن البناء على القبور أو سؤال الميت أو التبرك بتراب
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد برقم (1390) . ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور برقم (529) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب الأمر بتسوية القبر برقم (969) .
(3) رواه مسلم في (الجنائز) باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه برقم (970) .
(72/61)
القبر أو تقبيل القبر أو الصلاة عنده كل هذا من البدع فلا يصلى عند القبور ولا تتخذ محلا للدعاء أو القراءة عندها وكل هذا من البدع، أما طلب البركة منها أو الشفاعة منها أو الشفاء للمرضى فهذا من أنواع الشرك الأكبر، فإذا قال: يا سيدي فلان اشفع لي إلى الله أو يقول للميت: انصرني أو اشف مريضي ونحو ذلك هذا لا يجوز؛ لأن الميت انقطع عمله بعد موته إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. أما أن يطلب منه شفاء المرضى أو النصر على الأعداء أو الشفاعة إلى ربه بكذا فهذا من الشرك الأكبر ولا يجوز طلبه من الموتى وإنما يطلب ذلك من الله تعالى فيقول: اللهم اشفني، اللهم اعطني كذا، اللهم شفع في أنبياءك، اللهم شفع في نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم، اللهم شفع في الملائكة والمؤمنين فهذا لا بأس به، لأنه طلب من الله جل وعلا.
والخلاصة أن المسلمين ينصح بعضهم بعضا ويعلم بعضهم بعضا في أمر الشرع، والعلماء عليهم في ذلك التوجيه للعامة إلى شرع الله جل وعلا، ومن ذلك أن يعلموا الزيارة الشرعية للقبور التي جاءت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تقدم بيانها، ويعلموا أنه لا يجوز البناء على القبور ولا وضع القباب ولا المساجد عليها، وإنها لا تجصص ولا يقعد عليها ولا تتخذ محلا للدعاء عندها أو الصلاة عندها أو القراءة عندها كل هذه الأمور من البدع ومن وسائل الشرك الأكبر.
والله ولي التوفيق.
(72/62)
حديث: «من زار أهل بيتي بعد وفاتي كتبت له سبعون حجة» لا أصل له
س: زيارة القبور أمثال الإمام علي رضي الله عنه والحسين والعباس وغيرهم. وهل الزيارة إليهم تعدل سبعين حجة إلى بيت الله الحرام؟
وهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من زار أهل بيتي بعد وفاتي كتبت له سبعون حجة» ؟
نرجو أن تفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: زيارة القبور سنة، وفيها عظة وذكرى، وإذا كانت القبور من قبور المسلمين دعا لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور ويدعو للموتى، وكذا أصحابه رضي الله عنهم. ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » . وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) باقي مسند أبي هريرة برقم 9395، ومسلم في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة أمه برقم (176) .
(72/63)
بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (1) » . وفي حديث عائشة: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (2) » ، وفي حديث ابن عباس: «يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن في الأثر (3) » . فالدعاء لهم بهذا وأشباهه كله طيب، وفي الزيارة ذكرى وعظه؛ ليستعد المؤمن لما نزل به وهو الموت، فإنه سوف ينزل به ما نزل بهم، فليعد العدة ويجتهد في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتعد عما حرم الله ورسوله من سائر المعاصي، ويلزم التوبة عما سلف من التقصير، هكذا يستفيد المؤمن من الزيارة. أما ما ذكرت من زيارة القبور لعلي رضي الله عنه والحسن والحسين أو غيرهم إنها تعدل سبعين حجه - فهذا باطل ومكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس له أصل، وليست الزيارة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الجميع - تعدل حجة. الزيارة لها حالها وفضلها، لكن لا تعدل حجة، فكيف بزيارة غيره عليه الصلاة والسلام؟ هذا من الكذب، وهكذا قولهم: "من زار أهل بيتي بعد
__________
(1) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) وابن ماجه في كتاب ما جاء في (الجنائز) باب ما جاء في ما يقال إذا دخل المقابر برقم (1547) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) ما يقال عند دخول القبر برقم (974) .
(3) رواه الترمذي في (الجنائز) باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر برقم (1053) .
(72/64)
وفاتي كتبت له سبعون حجة" كل هذا لا أصل له، وكله باطل، وكله مما كذبه الكذابون. فيجب على المؤمن الحذر من هذه الأشياء الموضوعة المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإنما تسن الزيارة للقبور، سواء كانت قبور أهل البيت أو غيرهم من المسلمين، يزورهم ويدعو لهم ويترحم عليهم وينصرف.
أما إن كانت القبور للكفار فإن زيارتها للعظة والذكرى من دون أن يدعو لهم، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، ونهاه ربه سبحانه أن يستغفر لها، زارها للعظة والذكرى ولم يستغفر لها. وهكذا القبور الأخرى - قبور الكفرة - إذا زارها المؤمن للعظة والذكرى فلا بأس، ولكن لا يسلم علهم ولا يستغفر لهم، لأنهم ليسوا أهلا لذلك.
(72/65)
صفحة فارغة
(72/66)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
يقول السائل: ظهرت بعض المزاعم التي تقول إن التكفير في العالم اليوم هو نتاج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويزعمون أن بعض الكتب هي كتب تأصيل لمنهج التكفير، ككتاب كشف الشبهات والدرر السنية. فما رد فضيلتكم على هؤلاء وبارك الله فيكم؟
ج: دعوة الشيخ بريئة مما نسب إليها البعض من الغلو والأباطيل؛ والتكفير ليس هو المنهج في دعوة الشيخ، المنهج الدعوة إلى الخير، أما باب التكفير، فذاك باب دل الكتاب والسنة عليه، الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (1) ، فالقرآن كفر من خالف الحق والهدى، فالتكفير إنما هو بما دل الكتاب والسنة عليه أما أصل الدعوة فلم تقم إلا على توضيح الحق، والرجوع إلى
__________
(1) سورة النساء الآية 137
(72/67)
الكتاب والسنة فلا يكفر المسلمون إلا من كفر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما كتاب كشف الشبهات، فهو كتاب وضعه الشيخ لبيان شبه المشركين في زمانه وتنوعها بيان الحق في دحضها، ليبين فيها شبه المشركين قديما وحديثا ثم يردها بالأدلة من الكتاب والسنة، فمن تأمل كشف الشبهات التأمل الصحيح رأى العقيدة السليمة الواضحة فيه، أما الدرر السنية، فهي رسائل مشايخ نجد وأئمة الهدى كلها عدل، وكلها خير وكلها توضح الحق، وكل الدرر السنية وما فيها من رسائل لمن درسها صادقا خاليا من الهوى يرى فيها الحق الواضح، أما من عميت بصيرته فقد يقرأ القرآن ولا يفهمه {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 23
(72/68)
يقول السائل: فضيلة الشيخ إني أحبكم في الله ويقول: ما حكم إطلاق التكفير على أهل البدع ونأمل التكرم بالتفصيل لاشتباه الأمر على الشباب خاصة تكفير المعين. جزاكم الله خيرا.
ج: أقول للشباب لا يكن همكم التكفير، اجعلوا همكم فهم الحق، ومعرفة الحق، فإن قضايا التكفير قضايا خطيرة، لا يتحدث عنها إلا ذووا العلم، المتمسكون الراسخون في العلم، والفاهمون
(72/68)
المدركون للكتاب والسنة، العالمون بأدلة ذلك، المدركون متى يكون التكفير والتفسيق والتبديع، أما إنسان قليل العلم، مزجي البضاعة، صغير السن يهتم بالتكفير والتبديع والتفسيق هذا لا يجوز؛ على الشباب أن يتركوا أحكام التكفير لأهل العلم، المتمكنين الذين يعرفون الأمور، أما أن تكفر بهواك ورأيك فقد تقع في الباطل، كم من مكفر للناس بغير علم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما رجل قال: لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (1) » . يقول صلى الله عليه وسلم: «ومن دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه (2) » . فلنحذر إخواننا من ذلك ولنهتم أولا بتوضيح الحق، بالدعوة إلى الخير بتبيين الهدى، أما قضية التكفير ونحوه فدعوها لمن عنده عمق علم وبصيرة يتحدث فيها.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، سنن أبو داود السنة (4687) ، مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك الجامع (1844) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (61) ، مسند أحمد بن حنبل (5/166) .
(72/69)
يقول السائل: ما رأيكم فيمن يقول نحن موحدون فلا حاجة إلى دراسة كتاب التوحيد؟
ج: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب كشف الشبهات ذكر هذه الكلمة، عندما ذكر من يقول التوحيد عرفناه، يقول: هذا من أعظم الجهل، ومكائد إبليس، فإن التوحيد أصل الإسلام الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، أصل الدين وأساسه ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته؛ وفي آخر حياته
(72/69)
صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره (1) » . ويقول صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة (2) » هذا التوحيد إذا كشف وأعيد وأبدى فيه ثبت في القلوب واستنار به القلوب وتذكرت به القلوب الحق، أما إذا أهمل وغفل عنه انطلقت البدع والخرافات ووسائل الشرك على الإنسان من حيث لا يشعر.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) سنن أبو داود الجنائز (3116) ، سنن ابن ماجه الأدب (3796) ، مسند أحمد بن حنبل (5/233) .
(72/70)
يقول السائل: الذين يقومون بعمليات التفجير في هذه البلاد، بلاد التوحيد هل هم من الخوارج أم لا؟
ج: الذين يقومون بالتفجير ونحو ذلك إن كانوا غير مسلمين فلا شك في أنهم على غير هدى، وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام فالحقيقة أن فعلهم فعل قبيح لا أحد يشك ولا يرتاب في أن التفجيرات وتدمير الممتلكات وقتل الأبرياء والمعصومين لا يشك مسلم في أنه ضلال لا يشك في أنه محرم، ومن استباح هذا المنكر ورآه مباحا وحلالا مع علمه يوشك والعياذ بالله أن يقع في الكفر؛ لأن حرمة دماء المسلمين وحرمة أموالهم وأعراضهم أمر ظاهر الوجوب شرعا، بل هو مما أجمع عليه، فلو قال: قتل أولئك حلال، سفك دمائهم حلال، وتدمير ممتلكاتهم حلال وهو يعرف، لقيل هذا
(72/70)
قد يؤول إلى الكفر؛ لأن هذا استحلال لما حرم الله عز وجل، ولما استباح الخوارج قتل الصحابة كفرهم بعض المسلمين فإن هذا ضلال مبين، كون الشخص يأتي ويفجر ممتلكا أو يقتل مسلما بغير حق أو معاهدا بغير حق يدمر ممتلكات المسلمين يقول إن هذا حلال أعوذ بالله، صاحب هذه المقولة إن كان جاهلا فهو مخطئ بلا شك، لكن إن كان فعله والعياذ بالله مستحلا لهذا الأمر، فإني أخشى عليه في أن يقع في الكفر، وبعضهم قد يكون غرر به وخدع، وأوحي إليه الباطل وهو لا يشعر، صغير ما عنده إدراك ولا تصور، لبس عليه من لبس وخدعه من خدعه، أما إن أقدم عليه على أنه دين وأنه يرى حله فإني أخشى عليه والعياذ بالله أن يلقى الله على غير هدى، لأن من استباح محرما أجمع المسلمون على تحريمه معلوم تحريمه من الدين بالضرورة، فإن هذا كفر والعياذ بالله، فليحذر المسلم من استحلال دماء المسلمين وأموالهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم - قال الراوي: وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا (1) » . ويقول صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا (2) » أخرجه مسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1739) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد بن حنبل (2/304) .
(72/71)
يقول السائل: ما حكم من يسب الصحابة أو يسب بعضهم أو يكفر بعضهم، وهل الشيعة أو الرافضة مسلمون أم كفار؟
ج: الصحابة خيار الأمة على الإطلاق والله تعالى يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (1) فالصحابة نحبهم ونترضى عنهم ونواليهم، ونعتقد فضلهم ونسأل الله لهم التجاوز وأن يجزيهم عما قدموا للإسلام والمسلمين خيرا، ونتبرأ ممن يعاديهم أو يسبهم وينكر فضلهم، وينبغي أن تنصح من رأيت منهم ذلك تأمره وتدعوه إلى الله؛ لعل الله أن يهديه ويفتح على قلبه، فإن سب الصحابة رضي الله عنهم كبيرة، ومنكر عظيم نسأل الله السلامة والعافية.
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(72/72)
يقول السائل: ما حكم الإبلاغ عن الإرهابيين لأن بعض الناس يقول: إنهم على حق ولا يجوز الإبلاغ عنهم أرجو الإجابة وفقكم الله؟
ج: من يقول إنهم على حق؟ لا يعتقد هذا إلا إنسان غاو،
(72/72)
إذا علمت أن مفسدا يفجر أو نحو ذلك فلا يجوز أن تقره، هل ترضى للمسلمين بالضرر؟ لو فجر بيتك إيش كان موقفك؟
أنزل الناس منزلتك، وأحب للناس ما تحبه لنفسك، لو تعلم أن أحدا يريد أن يفجر بيتك هل ترضى بذلك؟
لو أن من يفعل هذا التفجير في بيتك، بيت ولدك لأقمت الدنيا وأقعدتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » ، هذه دماء المسلمين أموال المسلمين أعراض المسلمين، ما يجوز أن نقر الإجرام فيها، ولا أن نتستر على المجرمين نحن مسئولون أمام الله عز وجل عن أمن هذا البلد، أمن هذا البلد في أعناق كل فرد منا كبير أو صغير، المسئولية ليست خاصة بالكبار، المسئولون عليهم واجب وكل مسلم عليه واجب، أن يقوم لله بهذا الواجب.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(72/73)
يقول السائل: ما هي مراتب مناصحة أولي الأمر، وهل مناصحتهم على المنابر من منهج السلف؟
ج: المناصحة لولاة الأمر تكون بالاتصال بهم بالكتابة لهم بالتذكير بينك وبينهم، أما المنابر فإنها لم توضع للسباب والشتائم، المنابر وضعت للتوجيه والدعوة إلى الخير، الذين اتخذوا المنابر سبابا وشتاما وتجريحا خرجوا بالخطبة عن محورها ومنهجها إلى هذه الأمور المنكرة، نسأل الله للجميع الهداية.
(72/73)
يقول السائل: هل كان من منهج شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عندما كان ينكر على من يطوف بالقبور أن يطوف معهم مدع أن ذلك من الحكمة؟
ج: لا أعرف هذا، الذي أعرفه أنه مر بهم وهم يدعون زيد بن الخطاب وهو يقول: الله خير من زيد، الله خير من زيد، هذا في أول دعوته قبل أن تقوى الدعوة ويكون لها شوكة، فلما قويت أصبح ينكر الشرك ويهدم القباب استجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(72/74)
يقول السائل: ما حكم من أخر صلاة الفجر إلى طلوع الشمس معتذرا أن الدوام يبدأ متأخرا؟
ج: لا يجوز، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (622) ، سنن الترمذي الصلاة (160) ، سنن النسائي المواقيت (511) ، سنن أبو داود الصلاة (413) ، مسند أحمد بن حنبل (3/103) ، موطأ مالك النداء للصلاة (512) .
(72/74)
يقول السائل: هل يجوز أن نصلي صلاة واحدة بنية أكثر من سنة، كأن يصلي ركعتي الفجر بنية قيام الليل وبنية سنة الفجر في آن واحد؟
ج: قيام الليل ينتهي بطلوع الفجر، فإذا صليت ركعتي الفجر بالمسجد أجزأت عن تحية المسجد، أما قيام الليل، فإنه ينتهي بطلوع الفجر.
(72/74)
يقول السائل: ما حكم تارك الصلاة تهاونا وكسلا مع العلم أنه لم يجحد وجوبها؟
ج: نصوص السنة فيها وصف تارك الصلاة بالكفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (1) » .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك أو قال الكفر ترك الصلاة (2) » ، فنصوص السنة فيها وصف تاركها بالكفر، نسأل الله العافية.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(72/75)
يقول السائل: أشهد الله أني أحبكم في الله ويقول: لقد استقمت ولله الحمد في رمضان الماضي، وها أنا أرتع في روضة من رياض الجنة بعد أن حرمت منها سنين عديدة، أسأل الله الثبات، ثم أتمنى أن تدعو لي يا شيخ وتنصحني وتوصني وصايا أسير عليها بإذن الله خاصة أنني أعمل مترجما ومعي الكثير من النصارى؟
ج: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، أحمد الله على الهداية واسأل الله الثبات وأكثر من الطاعات، ونوافل العبادات، مع كثرة الاستغفار والندم، وتمسك بهذا الدين وأرجو الله أن يفتح على قلبك ويثبتنا وإياك على القول الثابت.
(72/75)
يقول السائل: هل كان هناك دعوات إصلاحية قبل أو بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟
ج: من المعلوم أن دين الله باق وأن الله يهيئ في كل زمان من يقوم لله بحججه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) » أخرجه مسلم، ويقول: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجهال» . رواه ابن عبد البر وحسنه.
فلا يخلو زمان من داع إلى الله على بصيرة والخير في هذه الأمة كثير ولله الحمد، ولكن بعض الدعاة إلى الله يهيأ لهم الظهور والنصر؛ لحكمة يعلمها الله، وقد كانت هناك دعوات إصلاحية قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وبعده في قطره وفي غيره من الأقطار لكن الأمر على ما ذكرنا في ظهور الدعوة أو عدم ظهورها.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه المقدمة (10) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(72/76)
يقول السائل: عن جماعة التبليغ يقول: هل أخرج معهم، مع أني لم ألحظ عليهم شيئا؟
ج: إن خرجت تعلمهم التوحيد والعلم الشرعي فلا بأس؛
(72/76)
لأنهم هداهم الله ما يهتمون بالعلم الشرعي، فإن خرجت تعلمهم وتفقههم لعل الله أن يرزقهم الإقبال على العلم والتعلم فهذا حسن والله أعلم.
(72/77)
صفحة فارغة
(72/78)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 1396
السؤال الأول: الصلاة خير من النوم في أذان الفجر، أهي في الأذان الأول أم الثاني؟ وسبب السؤال أن الإخوان بالخرطوم اطلعوا على ما ذكره صاحب كتاب سبل السلام أن الصلاة خير من النوم تقال في الأذان الأول خلاف ما عليه المسلمون الآن، وخاصة في هذه المملكة التي هي قبلة المسلمين في التمسك بالكتاب والسنة؟
ج: الأحاديث الواردة في هذا الباب منها ما ذكر علماء الجرح والتعديل أنه معلوم ومنها ما صححه بعضهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد ما يدل على أن التثويب في الأذان الأول، وورد ما يدل على أنه في الأذان الثاني، فروى السراج والطبراني
(72/79)
والبيهقي من حديث ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: كان الأذان الأول بعد حي على الصلاة حي على الفلاح (الصلاة خير من النوم) مرتين (1) ، قال ابن حجر: وسنده حسن، وقال اليعمري: وهذا إسناد صحيح.
وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال: من السنة إذا قال المؤذن في الفجر (حي على الفلاح) قال: (الصلاة خير من النوم) (2) قال اليعمري: وهو إسناد صحيح، وقال الإمام بقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا أبو بكر بن عياش حدثني عبد العزيز بن رفيع سمعت أبا محذورة قال: «كنت غلاما صبيا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين، فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: " ألحق فيها الصلاة خير من النوم» ورواه النسائي من وجه آخر عن أبي جعفر عن أبي سليمان، عن أبي محذورة وصححه ابن حزم.
ويمكن أن يقال بأن ما دل على أن التثويب يقال في الأذان الأول، وما دل على أنه يقال في الأذان الثاني وقع أولا في الأذان الأول، ثم استقر الأمر على أن يقال في الأذان الثاني؛ إعمالا لجميع
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 1 \ 423 ط دار الفكر.
(2) السنن الكبرى للبيهقي 1 \ 423 ط دار الفكر.
(72/80)
الأدلة في ذلك كل في وقته، ويحتمل أن المراد بالأذان الأول الذي ذكر فيه ذلك: الدالة على أن هذه الجملة تقال في الأذان لا في الإقامة؛ لأن الإقامة تسمى أذانا ثانيا، ولأنه يطلق عليها مع الأذان: الأذان الثاني؛ كما في الحديث «بين كل أذانين صلاة (1) » ، ويرشد إلى هذا حديث عائشة عند أبي داود فإنه ظاهر الدلالة على أن المراد بالأذان الأول هو أذان الفجر الأخير، وسمي أولا للفصل بينه وبين الإقامة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (627) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .
(72/81)
من الفتوى رقم 2678
السؤال الثالث: ما المانع من الإتيان بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في التثويب في الأذان الأول للفجر كما جاء في
(72/81)
سنن النسائي وابن خزيمة والبيهقي؟
ج: نعم ينبغي الإتيان بالتثويب في الأذان الأول للفجر؛ امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وواضح من الحديث أنه الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر الصادق، وسمي أولا بالنسبة للإقامة، فإنها أذان شرعا، كما في حديث «بين كل أذانين صلاة (1) » ، وليس المراد بالأذان الأول ما ينادى به قبل ظهور الفجر الصادق فإنه شرع ليلا؛ ليستيقظ النائم وليرجع القائم وليس أذانا للإعلام بالفجر، ومن تدبر أحاديث التثويب لم يفهم منها إلا أن التثويب في أذان الإعلام بوقت الفجر لا الأذان الذي يكون ليلا قبيل الفجر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (627) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .
(72/82)
من الفتوى رقم 4462
السؤال الرابع: عند أذان الصبح يقول المؤذن من ضمن الأذان (الصلاة خير من النوم) فإذا كنت لوحدي وليس في
(72/82)
جماعة هل أذكر (الصلاة خير من النوم) من ضمن الأذان أم لا؟
ج: نعم تذكرها؛ لأنه لا فرق في الأذان بين من يؤذن وحده أو يؤذن ومعه غيره، ولأنها من جملة ألفاظ الأذان الشرعي في أذان الصبح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/83)
من الفتوى رقم 4160
السؤال الثاني: ما حكم التطويل في الأذان؟
ج: التطويل في الأذان لا نعلم له أصلا، بل السنة أن يؤذن الأذان الشرعي بحيث يكون معتدلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/83)
من الفتوى رقم 3050
السؤال الثاني: إن أحد المؤذنين يزيد في الأذان في آخره بعد (الله أكبر الله أكبر) قوله (ولا إله إلا الله) يزيد حرف الواو، وهو كبير في السن، وابنه - وهو إمام ذلك المسجد الذي يؤذن فيه - أخبرني بأنه نصحه من زمن طويل أن يترك هذا الفعل؛ فيرفض ويمتنع حتى عن الأكل معه، وقد نصحناه جميعا وهو مصر على فعله، فطلب منا ابنه أن نطلب خلعه من هذا العمل فأجبناه: إننا نخشى أن توقع بينك وبين أبيك عداوة وبغضاء، فقال لا عليكم، فأفيدونا بارك الله فيكم هل يحق لنا أن نطلب خلعه من هذا العمل، وكيف ننصحه ونخبره بالحق؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكر فيبين له أن الواجب تركها؛ لأنها لم ترد في صفة الأذان الشرعي، ولكن لا تبطل الأذان لكونها لا تغير المعنى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/84)
من الفتوى رقم 3986
السؤال الثالث: إذا غلط المؤذن بالأذان كالنقص مثل التكبير أو (حي على الصلاة) وعلم المؤذن بذلك بعد نهاية الأذان من المصلين فهل يعيد الأذان أم ماذا؟
ج: نعم يعيد الأذان؛ لأن الأذان الذي وقع منه مخالف للمشروع من جهة نقصه لكن إذا انتبه للنقص أو نبه عليه في الحال قبل طول المدة أتى بما ترك وما بعده.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/85)
من الفتوى رقم 6914
السؤال الثاني: ماذا يفعل المؤذن إن لم يستطع إكمال الأذان لعذر شرعي كمرض أو وفاة أو غيبوبة وما شابه ذلك، فهل يكمل غيره من حيث توقف المؤذن أم يعيد الأذان من أوله؟
(72/85)
ج: يكمل غيره الأذان، وإن بدأه من أوله فلا حرج عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/86)
من الفتوى رقم 8897
السؤال الرابع: هل صح قول من قال: بعدم استحباب الأذان بمكبرات الأصوات باعتبارها المولدة لمضاعفات الأصوات عن الحجم الصغير يلقيه المؤذن في الأصل، ذلك لإلحاقه بالأذان بالراديو أو التلفاز؟
ج: الأذن بمكبرات الصوت لتبليغ من بعد وغيره لا حرج فيه؛ لما في ذلك من المصلحة العامة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/86)
من الفتوى رقم 4091
السؤال السادس: الأذان سنة للصلوات المفروضة، وما حكمه بآلة التسجيل إن كان المؤذنون لا يتقنونه؟
ج: الأذان فرض كفاية بالإضافة إلى كونه إعلاما بدخول وقت الصلاة ودعوة إليها، فلا يكفي عن إنشائه عند دخول وقت الصلاة إعلانه مما سجل به من قبل، وعلى المسلمين في كل جهة تقام فيها الصلاة أن يعينوا من بينهم من يحسن أداءه عند دخول وقت الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/87)
الفتوى رقم 10189
س: قد سمعت من بعض الناس في الدول الإسلامية أنهم يسجلون بالشريط المذياع أذان الحرمين الشريفين ويضعون المذيع أمام المكبر ويؤذن بدل المؤذن فهل تجوز الصلاة؟ مع ورود الدليل من الكتاب والسنة، ومع تعليق بسيط؟
(72/87)
ج: إنه لا يكفي في الأذان المشروع للصلوات المفروضة أن يؤذن من الشريط المسجل عليه الأذان، بل الواجب أن يؤذن المؤذن للصلاة بنفسه لما ثبت من أمره عليه الصلاة والسلام بالأذان، والأصل في الأمر الوجوب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/88)
من الفتوى رقم 8966
السؤال السابع: هل يجوز الأذان على غير وضوء وما حكم أذان الجنب؟
ج: يصح أذان المحدث حدثا أصغر أو أكبر، لكن الأفضل أن يكون متطهرا من الحدثين جميعا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/88)
الفتوى رقم 11141
س: إذا شك المسلم بأن إحدى ملابسه غير طاهرة، وهو لم ير أثرا على الثوب من نجاسة فما حكم ذلك، وإذا كان الواحد مؤذنا وعليه جنابة وقت أذان الفجر هل يذهب لأداء الأذان ثم يرجع للاغتسال في البيت؟
ج: أولا: متى تحقق طهارة أحد ملابسه وشك في نجاسته فإنه يبقى على الأصل وهو الطهارة، واليقين لا يزول بالشك.
ثانيا: لا يجوز المكث للجنب في المسجد لأداء الأذان أو غيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب (1) » أما الأذان فليس من شرطه الطهارة لكن إذا تطهر من الحدثين قبل الأذان فهو أفضل.
بالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الطهارة (232) .
(72/89)
من الفتوى رقم 3373
السؤال الثاني: مسجد القرية التي يسكن فيها بعيد عن القرية فهل يجوز لهم أن يؤذنوا وسط القرية أو يكون الأذان عند المسجد؟
ج: المشروع أن يؤدى الأذان من المسجد أو قريب منه كما هو الثابت من عمل رسول الله عليه وسلم ودرج عليه خلفاؤه رضي الله عنهم والمسلمون بعدهم، ولأنه إعلام بدخول وقت الصلاة ودعوة إلى أدائها في المسجد فلا ينبغي أن يعمل بعيدا عنه، لكن إذا كان الأذان من المسجد أو قريب منه لا يسمعه غالب السكان فلا مانع من أدائه في مكان يسمع الأكثرية منهم مراعاة للمصلحة العامة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/90)
من الفتوى رقم 3630
السؤال الثالث: هل من السنة أن يؤذن المؤذن خارج المسجد وليس في الداخل حيث لا يراه أحد ولا يكتفي المؤذن بالاستعانة بمكبر الصوت من الداخل بل عليه الخروج والاستعانة بمكبر الصوت في الخارج، وهل على المؤذن الذي صلى ركعتين وجلس في المسجد ثم خرج للأذان صلاة ركعتين قبل أن يجلس بعد فراغه من الأذان ودخوله المسجد أم لا؟ وإذا كان هناك عذر مؤقت أو دائم مثل فساد سلك أو حدوث خلل في آلة التكبير، أو عدم وجود سلك طويل يحول ويمنع بين الأذان من خارج المسجد مع استخدام آلة التكبير في نفس الوقت، فهل يؤذن المؤذن خارج المسجد بصوته فقط أم يؤذن داخل المسجد بالاستعانة بمكبر الصوت ليستطيع إعلام قدر أكبر من الناس وهل هناك فرق بين أذان الجمعة وأذان بقية الصلوات في مثل هذه الحالة؟
ج: أولا: الأذان في وقته المشروع شعار الإسلام، وإعلان بدخول وقت الصلاة ودعوة إليها فقد ثبت عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح،
(72/91)
فإذا سمع أذانا أمسك، وإذا لم يسمع أذانا أغار بعد أن يصبح (1) » . رواه أحمد والبخاري.
وإذ كان المقصود من الأذان ما ذكر من إعلان شعيرة الإسلام، والتعريف بدخول وقت الصلاة والدعوة إليها، فحيثما أذن المؤذن داخل المسجد أو عند بابه أو على سطحه، رآه الناس وقت الأذان أو لم يروه فقد أدى المطلوب شرعا، مع مراعاة أن يكون المؤذن صيتا ليكون ذلك أكمل في الإبلاغ ولو بواسطة المكبر للصوت، ولا فرق في ذلك بين الأذان لصلاة الجمعة وغيرها.
ثانيا: إذا صعد المؤذن إلى سطح المسجد، أو خرج إلى باب المسجد ليؤذن وقد صلى قبل ذلك تحية المسجد فليس عليه إعادتها؛ لان سطح المسجد وبابه وسائر مرافقه الداخلية تابعة له؛ ولكن يسن له أن يصلي ركعتين بين أذانه وإقامته؛ للحديث الصحيح: «بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة لمن شاء (2) » ويصلي السنة الراتبة القبلية للصلاة التي أذن لها، أما إذا لم يكن صلى تحية المسجد قبل الأذان فيشرع أن يصليها بعد انتهائه من الأذان وتجزئ عنها الراتبة.
__________
(1) البخاري 1 \ 151 ط إستانبول.
(2) البخاري 1 \ 154 ومسلم برقم 838 وأبو داود برقم 1267 والترمذي برقم 185 والنسائي 2 \ 23.
(72/92)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/93)
الفتوى رقم 11536
س: هل يجب الأذان في حالة الصلاة خارج المملكة علما بأنني في بلد تقام الصلاة فيه ولكن المسجد بعيد وبالتالي لا يسمع الأذان، أو تكفي الإقامة فقط. هل تجوز الصلاة في السابق؟
ج: يشرع الأذان للصلاة في أي مكان من الأرض سواء داخل البلدة أو خارجها، ويجزئ الأذان للصلاة في أي مكان من الأرض سواء داخل البلدة أو خارجها، ويجزئ الأذان ولو لم يسمعه بعض المصلين، لكن من فاتته صلاة الجماعة فإنه يقيم للصلاة فقط، وصلاتكم في السابق بدون سماع الأذان صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/93)
من الفتوى رقم 7339
السؤال الثاني: هل يجوز للمؤذن أن يؤذن دون إذن الإمام؟
ج: يجوز له أن يؤذن دون إذن الإمام؛ لأنه أملك بالأذان؛ ولأن المعتبر في ذلك معرفة المؤذن دخول الوقت سواء عرفه بنفسه أم بقول من حضر عنده، ولو لم يكن منهم الإمام، ولعدم وجود دليل على توقف الأذان على إذن الإمام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/94)
من الفتوى رقم 9895
السؤال الأول: هل من الواجب الأذان
في جميع المساجد بمكبرات الصوت في حي واحد مع العلم أن أذان مسجد واحد يسمعه جميع المسلمين؟ وهل يكفي الأذان في مسجد واحد من مساجد الحي؟
(72/94)
ج: الأذان فرض كفاية، فإذا أذن مؤذن في الحي وأسمع سكانه أجزأهم، ويشرع لأهل كل مسجد أن يؤذنوا لعموم الأدلة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/95)
من الفتوى رقم 565
السؤال الأول: إذا دخلت المسجد للصلاة مع الجماعة ووجدتهم قد صلوا وأنا لم أسمع الأذان هل أؤذن أم أصلي بإقامة فقط؟
ج: يكفي أذان مؤذن المسجد لتلك الصلاة؛ لأن الأذان من الواجبات الكفائية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وعليه فإنك تصلي بإقامة فقط.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
(72/95)
من الفتوى رقم 6895
س1: لو تركت الأذان وأقمت الصلاة هل صلاتي صحيحة؟
س2: إذا نسيت إقامة الصلاة ولم أذكرها إلا بعد تكبيرة الإحرام ماذا يجب علي أن أفعل؟
ج 1، 2: نعم صلاتك صحيحة، لكن ينبغي لك أن تؤذن بعد دخول الوقت قبل أن تصلي، وإذا نسيت الإقامة ودخلت في الصلاة فإنك لا تقطعها بل استمر في صلاتك وصلاتك صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/96)
من الفتوى رقم 6914
السؤال العاشر: هل الإقامة للصلاة المفروضة واجبة أو سنة، وما حكمها لصلاة السنة؟
ج: الإقامة للصلوات الخمس المفروضة فرض كفاية كالأذان، ولا إقامة لغيرها من الصلوات.
السؤال الحادي عشر: ما حكم من أذن للصلاة قبل دخول
(72/96)
وقتها وتأكد من دخول وقتها بعد ربع ساعة وأقام وصلى؟
ج: صلاته صحيحة لكنه أساء بتقديم الأذان عن الوقت إذا كان عالما بذلك وتعمد تقديمه، وتلزمه التوبة والاستغفار وعليه أن يعيد الأذان بعد الوقت ليعلم من سمع الأذان الأول.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/97)
من الفتوى رقم 11638
السؤال الثاني: هل تصح صلاة المنفرد بدون إقامة، وإذا كانت لا تصح فما حكم من صلى عدة صلوات وهو منفرد بدون إقامته هل عليه إعادة أم لا؟ أم ماذا عليه؟
ج: تشرع الإقامة قبل الصلاة ولو كان المصلي منفردا، لكن لو صليت بدون إقامة فإن صلاتك صحيحة ولا إعادة عليك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/97)
من الفتوى رقم 11636
السؤال الثالث: هل إقامة الصلاة جهرا أم سرا عندما يصلي منفردا؟
ج: المشروع في الإقامة أن تكون جهرا فمن أقام للصلاة فليجهر بها سواء كان منفردا أم غير منفرد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(72/98)
أهل السنة والجماعة
لفضيلة الدكتور \ عواد بن عبد الله المعتق
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فإن كل مؤمن عاقل يدرك أنه لا نجاة لهذه الأمة مما حل بها ولا نصر لها على عدوها ولا تمكين لها في الأرض إلا بالرجوع إلى دينها، ولا رجوع إلى الدين إذا لم تلتزم الطريق السوي الذي أخبر صلى الله عليه وسلم بنجاة أصحابه ونصرهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن هذه الأمة ستتفرق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة (1) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة (2) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب شرح السنة، وأحمد في المسند برقم 1024 وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث رقم 7489.
(2) رواه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الشام وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر: جامع الأصول حديث رقم 6778، المتن والحاشية.
(72/99)
ونظرا على أن البدع قد كثرت وأصبح كل صاحب اتجاه يزعم أنه على الحق وعلى إثر ذلك أخذ يغض من قيمة من سواه حتى راودت كثير من الشباب وبالذات الغرباء عن الإسلام بعض الحيرة.
لذا رأيت أن أكتب لمحة موجزة أذكر فيها بهذه الفرقة الناجية معرفا بها، وبمنهجها، وشيء من مصنفات أهلها، وأصولها، وخصائصها، وقد راعيت فيما كتبت الإيجاز تيسيرا للقارئ، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني وأستغفر الله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(72/100)
في ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة في الحث على السنة والجماعة وما ورد في افتراق هذه الأمة:
أولا: بعض ما ورد في الأمر بالسنة والجماعة:
أ: من الكتاب ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها الحث على السنة والجماعة منها ما يلي:
1 - قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) ، وسبيل المؤمنين لا شك أنه سبيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان وعليه فإنه سبيل أهل السنة، وحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم (2) فإن اتباع سبيلهم وهو السنة متعين بأمره تعالى.
2 - وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) ، ففي الآية - كما نرى - أمر صريح باتباع الصراط المستقيم وهو السنة، والتحذير مما سواه من السبل.
قال الشاطبي: " فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) انظر: الفتاوى ج 4: ص 2
(3) سورة الأنعام الآية 153
(72/101)
إليه وهو السنة، والسبل: هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع " (1) .
3 - وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) ، فقد أمر سبحانه وتعالى في هذه الآية أن نعتصم بحبله جميعا ولا نتفرق (3) ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات.
4 - فقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (5) .
والذين تفرقوا واختلفوا هم أهل البدع كما قال قتادة (6) .
والذين ابيضت وجوههم: هم أهل السنة والإتلاف، والذين اسودت وجوههم هم أهل البدعة والاختلاف كما قال ابن عباس وغيره (7) .
__________
(1) الاعتصام، ج1 ص 76.
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) انظر: الفتاوى ج 19: ص 115، وتفسير ابن كثير ج1 ص 389.
(4) سورة آل عمران الآية 105
(5) سورة آل عمران الآية 106
(6) انظر الاعتصام ج1 ص 75.
(7) انظر: الفتاوى ج3، ص 278.
(72/102)
قال الشاطبي: (في الآية الوعيد والتهديد لمن هذه صفته ونهي للمؤمنين أن يكونوا مثلهم) (1) .
وقال شيخ الإسلام (بين سبحانه أن المسودة وجوههم أهل التفرق والاختلاف يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم وهذا دليل على كفرهم وارتدادهم. . .) (2) .
5 - وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (3) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (4) ، يقول ابن كثير: (إن هذه الآية عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود) (5) .
ب - من السنة: كذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها الحث على السنة والجماعة - منها ما يلي:
1 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل على كل
__________
(1) الاعتصام ج1: ص 74، 75.
(2) الفتاوى ج19 ص 115.
(3) سورة الكهف الآية 103
(4) سورة الكهف الآية 104
(5) تفسير ابن كثير، ج3 ص 107.
(72/103)
سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (2) » .
2 - وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » .
3 - وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث يوما: اعلم يا بلال، قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: اعلم أن من أحيا سنة من سنتي أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم
__________
(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 80، 81، وأحمد في المسند ج1 ص 435 والدارمي في سننه برقم 208 والحاكم في المستدرك ج2 ص 318، وصححه، وابن أبي عاصم في السنة برقم 17.
(2) سورة الأنعام الآية 153 (1) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(3) أخرجه أبو داود في السنة باب لزوم السنة والترمذي في العلم باب 16 وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 67، (المتن والحاشية) .
(72/104)
شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا (1) » .
4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» . . . الحديث.
5 - وعن ابن عمر رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد (2) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في العلم باب ما جاء في الأخذ في السنة واجتناب البدع وقال: هذا حديث حسن، انظر: جامع الأصول حديث 7320 المتن والحاشية.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم في المستدرك ج1 ص 112 وذكره السيوطي في الأمر بالاتباع ص 39 وقال: رواه الترمذي وصححه.
(72/105)
ثانيا: ما ورد في افتراق هذه الأمة:
بالرغم من أن الله أمر الأمة بالسنة والجماعة ونهاهم عن التفرق والاختلاف - كما سبق الإشارة إليه آنفا - إلا أن أكثر
(72/105)
الناس أبو إلا أن يختلفوا ويتفرقوا - إلا من رحم الله - حتى أصبحوا شيعا وأحزابا.
وذلك مصداق ما أخبر الله به عنهم في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (1) .
قال ابن كثير: (يعني يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين، قال الوالبي عن ابن عباس: يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد وغير واحد) (2) .
وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (3) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (4) .
قال ابن كثير: (ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم. .) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (5) أي المرحومين من اتباع الرسل. .؛ لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث. . .) (6) .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 65
(2) تفسير ابن كثير ج2 ص 143.
(3) سورة هود الآية 118
(4) سورة هود الآية 119
(5) سورة هود الآية 119
(6) تفسير ابن كثير ج2 ص 465.
(72/106)
ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة - زاد في رواية - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله (2) » .
وفي رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص «. . . قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (3) » .
مما ذكرت اتضح أن الله أمر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالسنة والجماعة ونهى عن الاختلاف والفرقة إلا أن هذه الأمة اختلفت كغيرها من الأمم السابقة، وأن اختلافهم سيصل إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
والآن لنعرف من هذه الفرقة الناجية، وما منهجهم وأصولهم وخصائصهم؟
فنقول وبالله التوفيق،،،
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب شرح السنة، وأحمد في المسند برقم 1042 وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 7489 وحاشيته.
(2) داء يعرض للإنسان من عض الكلب المجنون، انظر: بذل المجهود ج 18 ص 118. (1)
(3) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة وقال: هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، انظر: جامع الأصول حديث 7491وحاشيته.
(72/107)
المبحث الأول: في التعريف بأهل السنة والجماعة:
أولا: المراد بأهل السنة والجماعة:
السنة: لغة: الطريقة والسيرة حسنة كانت أو قبيحة.
قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها (1) » . . الحديث، وقال ابن منظور (والسنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجز عن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وكل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده قيل هو الذي سنه، والأصل فيه الطريقة والسيرة) (2) ، والمراد بها هنا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم (3) .
الجماعة: لغة: اسم للقوم. إذا جمعوا أو اجتمعوا أو أجمعوا على أمر ما، وهو مأخوذ من الجميع: - وهو تأليف المتفرق - يقال
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة باب الحث على الصدقة، والنسائي في الزكاة باب التحريض على الصدقة. وانظر: جامع الأصول حديث 4663 (المتن والحاشية) .
(2) انظر: لسان العرب مادة سنن ج 6 ص 399.
(3) شرح الطحاوية ص 430.
(72/108)
جمعت القوم: ألفت بينهم وضممت بعضهم إلى بعض قال الفراء: (إذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم) (1) ، ومن الاجتماع: وهو نقيض الفرقة - يقال اجتمع القوم: بمعنى تجمعوا وانضم بعضهم إلى بعض، ومن الإجماع وهو الاتفاق - يقال أجمعوا على الأمر - اتفقوا عليه.
والمراد بها هناك: الذين اجتمعوا على الحق - وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين (2) .
المراد بأهل السنة والجماعة: هم الذين تمسكوا بالإسلام المحض الخالص عن الشوب حيث التزموا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الإيمان والعمل واجتمعوا على الحق المعنيون يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة - وهي الجماعة (3) » ، وفي
__________
(1) لسان العرب ج 2 ص 358.
(2) انظر: شرح الطحاوية ص 430
(3) سبق تخريجه.
(72/109)
رواية «قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (1) » (2) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: الفتاوى ج3 ص159 ولوامع الأنوار البهية ج1 ص 73 الحاشية.
(72/110)
ثانيا: نشأة مصطلح أهل السنة، وتاريخ إطلاق السلف له، ولم سموا به؟
من المعلوم أن مذهب أهل السنة امتداد لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو إذا ليس ببدعة جديدة.
يقول ابن تيمية: (ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم. . .) (1) .
لذا قلنا نشأة مصطلح أهل السنة ولم نقل نشأة أهل السنة ونظرا إلى أن المجتمع المسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم في أول عهد الصحابة لم يتفرق، لذا لم يكن هناك اسم يتميز به بعض المجتمع المسلم عن بعضه؛ لأنهم كلهم قد التزموا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على الحق. لكن لما ظهرت البدع ابتداء بظهور التشيع ثم الخوارج، ثم المرجئة، فالقدرية والجبرية، فالمعطلة والمشبهة.
__________
(1) منهاج السنة ج2 ص 482.
(72/110)
أصبح لمن التزم طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه اسم يميزهم عن غيرهم من المبتدعة فاشتهرت تسميتهم بأهل السنة والجماعة، وأول ما برز هذا الاسم في أواخر عهد الصحابة، فقد أخرج اللالكائي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (1) ، (فأما الذين ابيضت وجوههم: فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة) (2) ، وقد اشتهر إطلاق هذا الاسم عليهم لأمور، منها:
1 - لزومهم طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
2 - تحريهم الصدق فيما ينقلونه من السنة، واعتمادها مصدرا للعقيدة بعد كتاب الله وتقديمها على العقل، على خلاف من سواهم من المبتدعة.
3 - حرصهم على الاجتماع ونبذ الفرقة (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 106
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص72.
(3) انظر: أهل السنة، محمد عبد الهادي ص57ـ60، ووسطية أهل السنة ص41.
(72/111)
ثالثا: أسماؤهم وعلة تلقيبهم بها:
تمهيد: لأهل السنة أسماء مرضية، وأسماء غير مرضية
(72/111)
نبزهم بها خصومهم، إما لقولهم بسنة لا يراها المبتدع، وإما بدافع العداء ومحاولة تنفير الناس منهم. وتجنبا للإطالة نقتصر على الأسماء المرضية فنقول وبالله التوفيق.
من أسماء أهل السنة المرضية ما يلي:
1 - أهل السنة والجماعة (1) : وقد أشرت آنفا (2) ، إلى سبب التسمية به.
2 - أهل السنة (3) : من دون إضافة الجماعة: سموا بذلك؛ لانتسابهم لسنته (4) صلى الله عليه وسلم ولأنهم أكثر الناس عناية بها، واتباعا لها في الاعتقاد والقول والعمل، امتثالا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (5) ، وقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي. . . (6) » الحديث.
__________
(1) انظر: شرح الطحاوية ص109، والفتاوى ج3 ص 129ـ 159.
(2) انظر ص 109، 110.
(3) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 179، وعقيدة السلف أصحاب الحديث ص 4.
(4) انظر: التنبيهات السنية ص 15.
(5) سورة الأحزاب الآية 21
(6) جزء من حديث رواه أبو داود في السنة باب لزوم السنة، والترمذي في العلم باب 16 وابن ماجة في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 67، وحاشيته.
(72/112)
3 - الجماعة، أهل الجماعة (1) : سموا بذلك لاجتماعهم على الحق متبعين في ذلك ما أجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين، ولزومهم جماعة المسلمين، وأخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان الفرقة الناجية «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة (2) » .
إذ المراد بالجماعة - هنا - من اتصف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأوصاف أصحابه - بدليل الرواية الأخرى «. . قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (3) » ، وهذه الصفة إنما تنطبق على أهل السنة؛ إذ هم المتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه بعده (4) .
قال السهارنفوري في شرح هذا الحديث: (وهي الجماعة
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص157، 158، ودرء تعارض العقل والنقل ج7 ص350، 351.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر: الاعتصام ج2 ص 470، وبذل المجهود ج18 ص118 والحلية ج9 ص 239.
(72/113)
أي وهي أهل السنة والجماعة) (1) .
4 - السلف (2) ، أو السلفيون (3) نسبة إلى السلف. سموا بذلك لسلوكهم نهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعوتهم إلى ذلك.
والسلف: لغة: جمع سالف كخادم وخدم وهو يأتي لمعان منها:
القوم المتقدمون في السير؛ ولذا قيل سلف الإنسان: من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} (4) ، أي جمعا قد مضى (5) ، والمراد بالسلف - قيل - هم الصحابة (6) ، وقيل: هم الصحابة والتابعون (7) ، وقيل: هم أهل القرون الثلاثة المفضلة التي أثنى عليها الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، - قال عمران: فلا أدري
__________
(1) بذل المجهود ج18، ص118.
(2) انظر: درء تعارض العقل والنقل ج1ص203، ونجاة الخلف ص34، وعقيدة السلف أصحاب الحديث. ص1.
(3) الفتاوى ج4ص149، وقواعد المنهج السلفي ص 26.
(4) سورة الزخرف الآية 56
(5) انظر: لسان العرب ج2 ص 184، 185، والقاموس المحيط ج3ص153، وتفسير النسفي ج3ص317.
(6) تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة ص372.
(7) إلجام العوام عن علم الكلام ص53.
(72/114)
أذكر قرنين أو ثلاثة. . . (1) » الحديث،، ولعل الأولى أن يقال السلف: هم أصحاب رسول الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة ممن قدموا النقل على العقل؛ ليخرج بذلك أهل البدع، كالخوارج، والروافض، والجهمية، والمرجئة، والمعتزلة وغيرهم من فرق الضلال التي وجدت في القرون الثلاثة (2) .
وبذلك يتضح أن أئمة أهل السنة الذين أدركوا القرون الثلاثة يتناولهم اسم السلف، لأنهم ساروا على نهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من أتى بعدهم فيقال لهم السلفيون؛ لأنهم ساروا على نهج السلف ودعوا إليه. قال شيخ الإسلام: (لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا. . .) (3) .
__________
(1) رواه البخاري في فضائل الصحابة باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، والترمذي في الفتن باب مما جاء في القرن الثالث، وانظر: جامع الأصول حديث 6355 وحاشيته.
(2) انظر: لوامع الأنوار البهية ج1 ص20 والعقائد السلفية ص16.
(3) الفتاوى ج4ص149.
(72/115)
5 - أهل الحديث (1) : سموا بذلك لعنايتهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية وإتباعه ظاهرا وباطنا، وتقديمه على العقل. قال شيخ الإسلام (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته وروايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه، وإتباعه باطنا وظاهرا. . .) (2) .
وقال الشهرستاني: (سموا أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا) (3) .
6 - أهل الأثر (4) : سموا بذلك لأخذهم عقيدتهم من الكتاب أو السنة الصحيحة أو ما صح عن السلف الصالح. قال السفاريني: في بيان معنى أهل الأثر - (أي الذين إنما يأخذون عقيدتهم من المأثور عن الله عز وجل شأنه في كتابه أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو ما ثبت وصح عن السلف الصالح. . .) (5) .
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل ج1 ص203، وعقيدة السلف أصحاب الحديث ص3.
(2) الفتاوى ج4 ص95.
(3) الملل والنحل ج2 ص 45.
(4) انظر: قواعد المنهج السلفي ص23، ولوامع الأنوار البهية ج1 ص 64.
(5) انظر: لوامع الأنوار البهية ج1 ص64.
(72/116)
7 - الطائفة المنصورة (1) : سموا بذلك أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «. . . ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة (2) » .
ذلك أن المراد بالطائفة المنصورة المذكورة في الحديث هم أهل السنة، قال ابن المديني: (هم أصحاب الحديث) (3) ، وقال الإمام أحمد: (إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم) (4) وقال القاضي عياض - عقب قول الإمام أحمد (إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث) (5) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "ـ وهم - أي أهل السنة - الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة (6) » (7)
__________
(1) انظر الفتاوى، ج3 ص129، 159.
(2) رواه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الشام وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر: جامع الأصول حديث 6778 (المتن والحاشية) .
(3) جامع الترمذي (المطبوع مع تحفة الأحوذي) ج 6، ص360.
(4) انظر: تحفة الأحوذي ج6، ص360، وتلبيس إبليس ص 400.
(5) انظر: تحفة الأحوذي ج6، ص 360.
(6) سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .
(7) الفتاوى، ج3، ص 159.
(72/117)
8 - الفرقة الناجية (1) : سموا بذلك أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي على ثلاث وسعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (2) » ، وهذا الوصف لا ينطبق إلا على أهل السنة فهم الذين على ما كان عليه رسول صلى الله وسلم وأصحابه (3) .
قال الإمام أحمد: - بعد أن ذكر حديث الافتراق - " إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم " (4) . وقال: عبد القاهر ابن طاهر التميمي - في شرح حديث الافتراق ت (. . . والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة وهي الفرقة الناجية) (5) . وقال المباركفوري - في شرح هذا الحديث - (. . . والفرقة الناجية هم أهل السنة البيضاء المحمدية. . .) (6) .
9 - أهل الاتباع: سموا بذلك لاتباعهم الكتاب وصحيح السنة
__________
(1) انظر الفتاوى، ج3 ص 129.
(2) سبق تخريجه.
(3) وسطية أهل السنة ص 121.
(4) شرف أصحاب الحديث ص 25.
(5) تحفة الأحوذي ج7، ص 332
(6) تحفة الأحوذي ج7، ص 334.
(72/118)
وآثار السلف الصالح وتركهم الابتداع، أخذا بوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » .
10 - أهل الحق: سموا بذلك؛ لأنهم أخذوا بالمذهب الحق (2) ، الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال ابن قدامة: - بعد أن حكى خلاف المبتدعة في الصفات - قال: " وأهل الحق سلكوا طريقا مستقيما بين الطريقين آمنوا فأمنوا وأسلموا فسلموا. . . " (3) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: درء تعارض العقل والنقل ج1 ص 203، ولوامع الأنوار البهية ج1، ص 21.
(3) عقيدة ابن قدامة، ص48 (مع الفرقة الناجية) .
(72/119)
المبحث الثاني: منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقيدة الإسلامية وشيء من مؤلفاتهم:
أولا: منهج أهل السنة:
يقوم على أسس منها:
1 - الاقتصار على الكتاب والسنة الصحيحة فهما المصدر
(72/119)
الأساسي للعقيدة الإسلامية عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (1) » ، والإجماع المعتبر عند أهل السنة في تقرير العقيدة إنما هو إجماع مبني على الكتاب والسنة أو أحدهما والعقل والفطرة: إنما يأخذ بهما أهل السنة مؤيدان لا مصدران بشرط موافقتهما الكتاب والسنة الصحيحة.
قال شيخ الإسلام: " ثم من طريق أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا. . . ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه ويسلم على هدي كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة " (2) ، وقال أيضا: " ولا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل يجعلون ما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه؛ وما تنازع فيه الناس. . يردونه إلى الله ورسوله. . . فما كان من معانيها موافقا للكتاب
__________
(1) أخرجه مالك في القدر باب النهي عن القول في القدر بلاغا. لكن يشهد له حديث ابن عباس عند الحاكم ج1 ص 93 بسند جيد فيتقوى به. انظر: جامع الأصول حديث 64 (المتن والحاشية) وكنز العمال حديث 876.
(2) الفتاوى ج3 ص157.
(72/120)
والسنة أثبتوه وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه " (1) .
وقال أيضا وهو يتكلم عن أهل السنة: ". . . وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة " (2) .
2 - تقديم النقل - وهو الكتاب والسنة الصحيحة - على العقل وبيان ذلك: أنه إذا حصل ما يوهم التعارض بين العقل والنقل قدموا النقل. عملا بقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) .
يقول شيخ الإسلام - بعد أن أورد هذه الآية -: (فإن هذا أمر للمؤمنين بما وصف به الملائكة كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (4) {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (5) ، فوصفهم سبحانه بأنهم لا يسبقونه بالقول وأنهم بأمره يعملون، فلا يخبرون عن شيء من صفاته ولا غير صفاته إلا بعد أن يخبر سبحانه بما يخبر به، فيكون خبرهم وقولهم تبعا لخبره وقوله، كما قال: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} (6) وأعمالهم تابعة لأمره، فلا يعملون إلا ما أمرهم هو أن يعملوا به فهم مطيعون لأمره
__________
(1) الفتاوى ج3 ص 347، 348.
(2) الفتاوى ج3 ص 159.
(3) سورة الحجرات الآية 1
(4) سورة الأنبياء الآية 26
(5) سورة الأنبياء الآية 27
(6) سورة الأنبياء الآية 27
(72/121)
سبحانه. . . وقد أمر المؤمنين أن يكونوا مع الله ورسوله كذلك. . . فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول ولا يتقدم بين يديه بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعا لقوله، وعلمه تبعا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين ولهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله. . . وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول. . . فهذا أصل السنة) (1) .
وهناك دليل عقلي للبرهنة على ضرورة تقديم النقل على العقل يستخلصه ابن تيمية بعد ضرب الأمثال.
فيذكر أنه إذا حدث نزاع بين أصحاب المهن المختلفة. . احتكم المتنازعون إلى الأعلم منهم ثم يقول: (ومن المعلوم أن مباينة الرسول صلى الله عليه وسلم لذوي العقول أعظم من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الاجتهادية كالطب. . . لسائر الناس. فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالما بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها، ولا يمكن من لم يجعله الله رسولا إلى الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله تعالى رسولا إلى الناس، فإن النبوة لا تنال بالاجتهاد كما هو مذهب أهل الملل. .
__________
(1) الفتاوى ج13 ص60 ـ 63 (بتصرف) .
(72/122)
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا علم الرجل بالعقل أن هذا رسول الله وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه وألا يقدم رأيه على قوله ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب. . .) .
ثم في النهاية يقول ابن تيمية: (فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والتسليم والرسل صادقون مصدقون لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط، وأن الذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما يصب في معارضة له قط؟ !) .
3 - عدم رد شيء من الكتاب والسنة الصحيحة ولو كانت آحادا أو تحريفه أو تأويله بل التسليم والانقياد لهما - عملا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(72/123)
وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، ونحوهما من الآيات التي فيها الأمر بالتسليم والانقياد للكتاب والسنة.
يقول ابن تيمية: (وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم (2) اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده. فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم) (3) .
ويقول ابن القيم: (وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ولا يقرون على ذلك) (4) .
وقال أبو الحسن الأشعري: (جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا. . .) (5) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) يعني أهل السنة.
(3) الفتاوى ج13 ص 28.
(4) مختصر الصواعق ص 146.
(5) المقالات انظر: حادي الأرواح ص 28.
(72/124)
وعلى العكس من أهل الكلام الذين اعتمدوا على ما رواه ثم نظروا في الكتاب والسنة، فإن وجدوا النصوص توافقه أخذوا بها وإن وجدوها تخالفه، فإن كانت قرآنا حرفوا في اللفظ أو المعنى باسم التأويل، وإذا لم يستطيعوا قالوا متشابه. وإن كانت من السنة: فإما أن تكون متواترة أو لا، إذا لم تكن متواترة ردوها من البداية، وإن كانت متواترة حرفوا في اللفظ أو المعنى باسم التأويل وإذا لم يستطيعوا طعنوا في صحتها، وبذلك تخلصوا من دلالتها (1) .
4 - الالتزام بما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم (2) ، والأخذ بما ورد عنهم في بيان القضايا الإسلامية عامة وفي قضايا العقيدة خاصة وتقديمها على أقوال من بعدهم عملا بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال:. . . «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ. . (3) » الحديث.
وإقتداء بالسلف من بعده. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه
__________
(1) انظر: الفرقان بين الحق والباطل ص 41، 42 والفتاوى ج13 ص63.
(2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ج1 ص 6 (المدخل) .
(3) أخرجه أبو داود في السنة باب لزوم السنة، والترمذي في العلم باب 16، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 67 (المتن والحاشية) .
(72/125)
وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) (1) .
وروي أن الحسن كان في مجلس فذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم) (2) .
وقال الإمام أحمد: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم. . .) (3) .
ولأن الوحي نزل بين أظهرهم فهم أعلم بتأويله ممن أتى بعدهم كما أن أذهانهم صافية مما جد من البدع الضالة، فقد كانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه إلى جانب ما يتمتعون به من الفهم اللغوي للنصوص الشرعية (4) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص97، وانظر: جامع الأصول ج1 ص 292.
(2) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص 97.
(3) طبقات الحنابلة ج1 ص 241، وانظر: الفتاوى ج10 ص363.
(4) انظر: الرد الجهمية للدارمي ص108، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 55 (المدخل) .
(72/126)
5 - عدم الخوض في المسائل الاعتقادية مما لا مجال للعقل فيه من الأمور الغيبية. عملا بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين - «الله أعلم بما كانوا عاملين (3) » .
ولإدراكهم أيضا بأن العقل البشري عاجز عن معرفة الأمور الغيبية بنفسه استقلالا وأن دور العقل هو الفهم والاتباع والاعتقاد لما جاء به الوحي (4) .
قال الإمام أحمد: (ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك. . . فعليه الإيمان به والتسليم له. . .) (5) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة الإسراء الآية 36
(3) أخرجه البخاري في القدر باب الله أعلم بما كانوا عاملين، ومسلم في القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، والنسائي في الجنائز باب أولاد المشركين، وانظر: جامع الأصول حديث 7597.
(4) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ج1 ص 56 (المدخل) .
(5) طبقات الحنابلة ج1 ص 241.
(72/127)
وقال الإمام الطحاوي - وهو يتكلم عن عقيدة أهل السنة - (. . . ولا نخوض في الله. . . ونقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه. .) (1) .
6 - الاهتمام بالغاية المحبوبة لله المرضية له التي خلق الخلق لها، وهي إقامة العباد على منهج العبودية الحقة لله رب العالمين؛ ذلك أنها أول دعوة الرسل وأول مقام يقوم به السالك إلى الله، ولأجلها خلق البشر وأنزلت الكتب وبعث الرسل.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) ، ولذلك حرصوا كل الحرص على تصحيحه والتحذير مما يناقضه من الشرك والكفر والنفاق، ومن كل
__________
(1) العقيدة الطحاوية، انظر: عقيدة الفرقة الناجية ص 101 ـ107.
(2) سورة الأعراف الآية 59
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة النحل الآية 36
(72/128)
وسيلة قد تؤدي إلى ناقض من تلك النواقض أسوة بالرسل جميعا وبخاتمهم عليه أفضل الصلاة والسلام (1) .
7 - الاتباع وترك الابتداع. عملا بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) .
قال الشاطبي: (الصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة، والسبل: هي سبل أهل الاختلاف. . وهم أهل البدع) (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (4) » .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعو آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم (5) ، قال شيخ الإسلام: (وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة) (6) .
وعلى إثر ذلك كان منهم الحرص الشديد على إحياء سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم في عباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم
__________
(1) انظر: تهذيب شرح الطحاوية ص 35، وأهل السنة للأشقر ص60، 61، ومنهاج الفرقة الناجية ص 9.
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) الاعتصام، ج1 ص 76.
(4) جزء من حديث سبق تخريجه.
(5) انظر: الاعتصام ج1 ص 107.
(6) الفتاوى ج3 ص 279.
(72/129)
وفي كل جانب من جوانب حياتهم وترك الابتداع بل ومحاربة البدع وأهلها لإيمانهم أن الدين كامل وأن كل بدعة مردودة.
قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » ، ولذا نهوا عن مناظرة أهل البدع إلا لضرورة من عالم لا يخشى عليه أو الجلوس معهم أو سماع كلامهم خوفا من التلبيس على المناظر وهم لا يرجعون، أو التأثير على الجليس أو السامع لكلامهم، بل وينهون عن نقل شبهاتهم خوفا من ضعف الناقل فيعجز عن إبطالها، ومن ثم يفتتن بها بعض من سمعها أو قرأها، زيادة على كون ذلك فيه إهانة للمبتدعة ومحاصرة لأفكارهم وعدم جعل الكتب السلفية جسورا تعبر عليها تلك الآراء المنحرفة (3) .
ومما ورد عن السلف في ذلك ما رواه البغوي عن سفيان الثوري (من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه لا يلقيها في قلوبهم) (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) أخرجه البخاري في البيوع باب النجش، ومسلم في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة، وأبو داود في السنة باب لزم السنة، وانظر: جامع الأصول حديث 75 (المتن والحاشية) .
(3) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ج1 ص56 (المدخل) .
(4) شرح السنة للبغوي ج1، ص 227.
(72/130)
وعن أبي قلابة قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون) (1) .
وروي عن عبد الله بن السري: (ليس السنة عندنا أن يرد على أهل الأهواء ولكن السنة عندنا أن لا نكلم أحدا منهم) (2) .
وروي عن حنبل بن إسحاق بن حنبل أنه قال: (كتب رجل إلى أبي عبد الله رحمه الله كتابا يستأذن فيه أن يضع كتابا يشرح فيه الرد على أهل البدع وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتج عليهم فكتب إليه أبو عبد الله كتابا فيه (الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم فإنهم يلبسون عليك وهم لا يرجعون فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم. .) (3) .
8 - الحرص على جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم (4) .
__________
(1) الاعتصام ج1 ص 112، والشريعة ص56، وشرح السنة ج1 ص 227.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 56 (المدخل) .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص56، 57، (المدخل) .
(4) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 53 (المدخل) .
(72/131)
والمراد بذلك الحرص على الحق وأهله والبعد عن الفرقة والخلاف سواء في أمر الدين أو الدنيا؛ امتثالا لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «. . . عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة. . . (3) » الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال أمة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار (4) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «. . . وأنا آمركم بخمس الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) أخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة بإسناد حسن صحيح، ورواه أحمد في المسند برقم 114، 177، والحاكم في الإيمان من طرق صحيحة فالحديث صحيح. انظر: جامع الأصول حديث رقم 4972. (المتن والحاشية) .
(4) أخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة وقال غريب من هذا الوجه، وللحديث شواهد بمعناه، انظر: جامع الأصول حديث 6761 (المتن والحاشية) ، وأورده اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم 154 وقال محققه الحمدان: سنده حسن. انظر: ج1 ص 106 (الحاشية) .
(72/132)
أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع (1) » . . . الحديث.
ومن المعلوم أن لزوم الجماعة هو الحق والاجتماع هو سبيل القوة، وأن الاجتماع على الحق هو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، والتفرق هو سبيل الضلال والهلاك في الدنيا والآخرة.
قال الإمام الطحاوي: - وهو يتكلم عن عقيدة أهل السنة - (ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا) (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم 7139 وبرقم 1766، والترمذي في الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة. وقال: حديث حسن صحيح غريب، وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في المستدرك وصححه. انظر: جامع الأصول ج9 ص547 (المتن والحاشية) .
(2) شرح الطحاوية ص577.
(72/133)
ثانيا: في ذكر شيء من المؤلفات في باب الاعتقاد على منهج أهل السنة:
لقد دون أئمة أهل السنة المؤلفات الكثيرة في تقرير العقيدة الصحيحة والرد على المنحرفين عنها.
في بعضها اقتصروا على العقيدة مدللين على صحتها بالكتاب والسنة الصحيحة.
(72/133)
وفي بعضها اقتصروا على إيراد بدع المنحرفين وشبههم ثم نقضها بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وفي بعضها جمعوا بين المنهجين.
ومما يلاحظ أن الكثير من مؤلفات أهل السنة لم تتجه إلى تجلية كل أصول الاعتقاد بتفرعاتها من الكتاب والسنة وإنما ركزت على إبراز الأصول التي خالفت فيها الفرق وبيان الحق في ذلك مع بيان بطلان مذهب المخالفين لأهل السنة فيها.
وإليك شيئا من مؤلفاتهم في ذلك:
1 - الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ.
2 - الرد على الجهمية لعبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي المتوفى سنة 229هـ.
3 - الإيمان لابن أبي شيبة المتوفى 235هـ.
4 - الحيدة في الرد على الجهمية - عبد العزيز بن يحيى المكي المتوفى سنة 240 هـ.
5 - السنة للإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ، برواية الإصطخري.
6 - الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد.
7 - التوحيد في صحيح البخاري للإمام ابن إسماعيل البخاري
(72/134)
المتوفى سنة 256هـ.
8 - الرد على الجهمية. للإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
9 - السنة لأبي بكر الأثرم المتوفى سنة 272هـ.
10 - السنة لأبي علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال تلميذ الإمام أحمد المتوفى سنة 273هـ.
11 - السنة لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ.
12 - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لعبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ.
13 - الرد على الجهمية - لعثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 280هـ.
14 - الرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 280هـ.
15 - إنكار البدع والحوادث لمحمد بن وضاح المتوفى سنة 286هـ.
16 - السنة لأبي بكر عمرو بن أبي عاصم المتوفى سنة 287هـ.
17 - السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل المتوفى سنة 290 هـ.
18 - السنة لأبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي
(72/135)
المتوفى سنة 292هـ.
19 - السنة لمحمد بن نصر المروزي المتوفى سنة 294هـ.
20 - السنة لأحمد بن محمد بن هارون الخلال المتوفى سنة 311هـ.
21 - التوحيد لابن خزيمة المتوفى سنة 311 هـ.
22 - العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر الطحاوي المتوفى سنة 321هـ.
23 - الرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم المتوفى سنة 327هـ.
24 - شرح كتاب السنة للحسن بن علي البربهاري المتوفى سنة 329هـ.
25 - السنة لأبي أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصفهاني العسال المتوفى سنة 349هـ.
26 - السنة لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني المتوفى سنة 360هـ.
27 - الشريعة لأبي بكر الآجري المتوفى سنة 360 هـ.
28 - السنة لعبد الله بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة 369هـ.
29 - السنة لعمر بن أحمد بن عثمان البغدادي (ابن شاهين) المتوفى سنة 385هـ.
(72/136)
30 - مقدمة في العقيدة لابن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة 386هـ.
31 - الإبانة لابن بطة المتوفى سنة 387هـ.
32 - التوحيد لمحمد بن إسحاق بن مندة المتوفى سنة 395هـ.
33 - الرد على الجهمية لمحمد بن إسحاق بن مندة المتوفى سنة 395 هـ.
34 - شرح السنة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المتوفى سنة 399 هـ.
35 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي المتوفى سنة 418هـ.
36 - الأصول لأبي عمر الطلمنكي المتوفى سنة 429هـ.
37 - السنة والصفات لأبي ذر عبد الله بن أحمد بن محمد الأنصاري الهروي المتوفى سنة 434هـ.
38 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث لإسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني المتوفى سنة 449هـ.
39 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقي المتوفى سنة 458هـ.
40 - الأسماء والصفات للبيهقي المتوفى سنة 458هـ.
41 - الحوادث والبدع لمحمد بن الوليد الطرطوشي المتوفى
(72/137)
سنة 520 هـ.
42 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لعبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى سنة 620هـ.
43 - الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المتوفى سنة 665هـ.
44 - رسالة في ذم البدعة لأبي الحسن الصغير الفاسي المتوفى سنة 719هـ.
45 - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فيها أجزاء كثيرة في تقرير العقيدة الصحيحة ومحاربة البدع وبعضها مطبوع مستقل كالعقيدة الواسطية وعليها شروح لبعض العلماء، والفتوى الحموية والرسالة التدمرية.
46 - مؤلفات الإمام ابن القيم المتوفى سنة 751هـ، في الاعتقاد والرد على أهل البدع، كاجتماع الجيوش الإسلامية والكافية الشافية والصواعق المرسلة، وشفاء العليل، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
47 - الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790هـ.
48 - تطهير الاعتقاد عن أدران الشرك والإلحاد لمحمد بن
(72/138)
إسماعيل الشهير بالصنعاني المتوفى سنة 1182هـ.
49 - لوامع الأنوار البهية للإمام محمد بن أحمد السفاريني المتوفى سنة 1188هـ.
50 - مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ في الاعتقاد مثل كتاب التوحيد وعليه شروح، كتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وكشف الشبهات، وأصول الإيمان.
51 - الدين الخالص محمد صديق حسن خان المتوفى سنة 1307هـ.
52 - قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر محمد صديق حسن خان المتوفى سنة 1307 هـ.
53 - مؤلفات كثيرة في الاعتقاد على منهج أهل السنة لعلماء معاصرين وإنما اكتفيت بما ذكرت إيثارا للاختصار.
(72/139)
المبحث الثالث: أصول أهل السنة والجماعة:
المراد بأصول أهل السنة والجماعة - هنا - هي ضوابط وضعها علماء أهل السنة في بعض مسائل العقيدة التي خالف فيها
(72/139)
المبتدعة لتمييز المعتقد الصحيح من غيره.
ولم يقصدوا تجلية جميع الأصول الاعتقادية وإنما عرضوا لما وقع فيه الخلاف من الفرق الأخرى لتمييز معتقد أهل السنة حماية له من أن يلتبس بغيره.
ومخافة أن ينحرف المسار بأهل الإسلام فيقعوا فيما وقع المخالفون.
وإليك شيئا من هذه الأصول التي أصبحت علما على أهل السنة (1) ، بشيء من الإيجاز فأقول وبالله التوفيق.
__________
(1) انظر: أهل السنة والجماعة ص 36، 46.
(72/140)
ولا: في تحديد دائرة الإيمان: من أصول أهل السنة: أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل قاعدته الاعتقاد (1) ، لكنه لا يكفي دول القول والعمل، بدليل وجود من يصدق بقلبه ومع ذلك يسمى كافرا؛ لأنه رفض القول والعمل استكبارا كفرعون ومن على شاكلته، كما أن القول والعمل بدون الاعتقاد لا يكفي بدليل وجود من يقول بلسانه ويعمل بجوارحه ومع ذلك يسمى منافقا؛ لأنه لم يصدق بقلبه.
فلا بد إذن من الاعتقاد والقول والعمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب
__________
(1) انظر: أهل السنة والجماعة ص47.
(72/140)
واللسان والجوارح. . .) (1) .
وقال ابن أبي العز الحنفي: (ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة. . إلى أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. . .) (2) .
وقال الصابوني: (ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة. . .) (3)
__________
(1) انظر الفتاوى ج3 ص151.
(2) شرح الطحاوية ص373.
(3) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 67.
(72/141)
ثانيا: من أصول أهل السنة:
أن الإيمان - يضم أصولا وفروعا وأنه لا يزول إلا بزوال شيء من الأصول، أما الفروع فإنه لا يزول بزوال شيء منها كمن ارتكب محذورا أو ترك واجبا لا يخرج من الملة، وإنما ينقص. وعليه فالإيمان - عند أهل السنة - يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وبناء على ذلك فإنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما تفعله الخوارج. ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه بالنار كما تفعله المعتزلة.
وإنما يقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم (1)
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص151، 152، ـ ج12 ص 471ـ 475، وعقيدة السلف أصحاب الحديث ص 67ـ 71.
(72/141)
ثالثا: في الأسماء والصفات:
من أصول أهل السنة:
أن من الإيمان بالله: إثبات كل ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته وتنزيهه تعالى عن العيوب والنقائص إثباتا بلا تشبيه (1) ، أو تكييف (2) ، وتنزيها بلا تحريف (3) ، أو تعطيل (4) ، كما قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) .
والإيمان بالآيات والأخبار المتضمنة لهذه الأسماء والصفات - كما وردت - وعدم التأويل (6) ، المخالف لظاهر اللفظ، وهو التحريف.
فأهل السنة - كما نرى - يقتصرون في الإثبات والنفي على ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الأسماء والصفات - وعدم التعرض لشيء منها بتشبيه أو تكييف أو تحريف أو تعطيل - وإنما يمرونها كما جاءت في الكتاب والسنة، ويردون علمها إلى قائلها.
__________
(1) وهو تشبيه صفات الله بصفات شيء من المخلوقين ـ كأن يقال: لله يد كأيدينا.
(2) هو تعيين كيفية الصفة.
(3) وهو التغيير لألفاظ الأسماء والصفات أو معانيها.
(4) وهو جحد الأسماء والصفات أو شيء منها وإنكار قيامها بذاته تعالى، انظر: التنبيهات ص23.
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية مع بيان موقف ابن القيم ج1 ص54.
(72/142)
قال شيخ الإسلام: (. . . وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . . . . فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2)) (3) .
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات عامة.
ونظرا إلى بعض فرق الضلال قد خالفت في بعض الصفات خلافا بينا فأفردوها بالكلام؛ لذا أفردها أهل السنة بالكلام مبينين المذهب الحق.
ومن ذلك: القرآن باعتباره كلام الله، والإرادة، والسمع
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) الفتاوى ج3 ص 3، 4.
(72/143)
والبصر، والاستواء، والمجيء، والوجه، واليد، والعين.
أ - القرآن: نظرا إلى أن القرآن من كلام الله. فإني سأبين - إن شاء الله - رأي أهل السنة في الكلام عامة - والقرآن - خاصة.
أما رأيهم في الكلام عامة فإنهم يرون أن كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد، وأنه تعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء وأن كلامه غير مخلوق.
أما القرآن: فإنه كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود (1) .
ب - الإرادة: يرى أهل السنة إثبات هذه الصفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وهي قديمة أزلية.
وأنها نوعان: إرادة كونية: يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله.
وإرادة شرعية: يلزم أن يكون المراد فيها محبوبا لله ولا يلزم وقوعه (2) .
ج - السمع والبصر: يرى أهل السنة - إثباتهما قائمتين بذاته تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تكييف، وأنهما
__________
(1) انظر: شرح الطحاوية ص179 (المتن) ، ص 180، (الشرح) ، والفتاوى ج3 ص 401، 402.
(2) انظر لوامع الأنوار البهية ج1 ص 132ـ145، وشرح لمعة الاعتقاد ص 56.
(72/144)
زائدتان على الذات (1) .
د - الاستواء، والمجيء، والوجه، واليد، والعين:
يروي شيخ الإسلام رأي أهل السنة في هذه المسائل - فيقول: (وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله لا يشبه الأشياء، وأنه على العرش كما قال عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ولا نقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول: استوى بلا كيف. . وأن له وجها كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3) ، وأن له يدين كما قال تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4) ، وأن له عينين كما قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (5) وأنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (6) .
ولم يقولوا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7))
__________
(1) انظر: بيان تلبيس الجهمية ج1 ص100 ولوامع الأنوار البهية ج1 ص 129 ـ 144.
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الرحمن الآية 27
(4) سورة ص الآية 75
(5) سورة القمر الآية 14
(6) سورة الفجر الآية 22
(7) بيان تلبيس الجهمية ج1 ص 401.
(72/145)
من كلام شيخ الإسلام اتضح أن أهل السنة يثبتون الاستواء والمجيء والوجه واليد والعين، كما وردت في الكتاب والسنة من غير تشبيه ولا تكييف (1) .
__________
(1) انظر: المعتزلة ص 125، 126، 148.
(72/146)
رابعا: في الرؤية:
قال شيخ الإسلام: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه تعالى يوم القيامة عيانا بأبصارهم، كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهم عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى) (1) .
وقال أيضا: (. . . وكل من ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطل باتفاق أهل السنة والجماعة. . .) (2) .
وقال ابن أبي العز: (وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة) (3) .
من كلام شيخ الإسلام وابن أبي العز اتضح أن أهل السنة
__________
(1) الفتاوى ج3 ص 144.
(2) الفتاوى ج3 ص389، وانظر: ص 387 من نفس الجزء.
(3) شرح الطحاوية ص 204، وانظر: حادي الأرواح ص 269.
(72/146)
يرون أن الله لا يراه أحد في الحياة الدنيا لا نبي ولا غيره وكل من ادعى أنه رآه بعينيه قبل الموت فدعواه باطل. وإنما يراه المؤمنون يوم القيامة بأبصارهم - في عرصات القيامة وفي الجنة من غير كيف ولا إحاطة، كما يشاء الله سبحانه وتعالى.
(72/147)
خامسا: في اليوم الآخر:
من أصول أهل السنة: الإيمان باليوم الآخر وأن من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بمقدمات الساعة الصغرى والكبرى وبكل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت كفتنة القبر وعذابه ونعيمه إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد، ويقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا، وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق، وبكل ما يكون بعد ذلك من الحساب والميزان ونشر الصحف، والحوض، والكوثر، والصراط، والقنطرة، والجنة والنار، وأنهما مخلوقتان.
والشفاعة بأنواعها، منها الشفاعة لأهل الكبائر من الموحدين على النحو الذي جاءت به النصوص. ولا يكذبون بشيء من ذلك خلافا للخوارج والمعتزلة ونحوهم من أهل البدع الذين ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر.
(72/147)
قال شيخ الإسلام: (ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان. . .) (1) .
وقال الصابوني: (ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمذنبي أهل التوحيد ومرتكبي الكبائر كما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) .
__________
(1) الفتاوى ج1 ص318.
(2) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 61
(72/148)
سادسا: في الوعد والوعيد:
أ - الوعد: يرى أهل السنة أن العبد لا يستوجب بسعيه نجاة ولا فلاحا، ولا يدخل أحدا عمله الجنة، ولا ينجيه من النار وإنما الله تعالى بفضله ومحض جوده أكد إحسانه بأن أوجب لعبده عليه سبحانه وتعالى حقا بمقتضى الوعد والله لا يخلف الوعد، وعليه فإن الله إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا عليه بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق (1) .
__________
(1) انظر: المنتقى من منهاج الاعتدال ص 50، ومدارج السالكين ج2 ص 338، 339.
(72/148)
قال شيخ الإسلام: - وهو يروي ما اتفق عليه أهل السنة - (واتفقوا على أن الله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا عليه بحكم وعده، فإنه الصادق في خبره الذي لا يخلف الميعاد) (1) .
ب - الوعيد:
مذهب أهل السنة أن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة لأهل الكبائر قد بين الله في كتابه أنه بشروط - بأن لا يتوب فإن تاب تاب الله عليه، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (2) أي لمن تاب.
وبأن لا تكون له حسنات تمحو ذنوبه فإن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (3) .
وبأن لا يشاء الله أن يغفر له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) .
وعليه فإن مرتكب الكبيرة مما دون الشرك إذا لم يتب ولم تكن له حسنات تمحو سيئاته فإنه تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم أخرجه من النار فلا يخلد فيها.
__________
(1) منهاج السنة النبوية ج1 ص315.
(2) سورة الزمر الآية 53
(3) سورة هود الآية 114
(4) سورة النساء الآية 48
(72/149)
فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (1) ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم (2) .
وأما الكفار فقد أخبر سبحانه بأنه لا يغفر لمن مات على كفره. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (3) .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (4) .
وقال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} (5) إلى قوله: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} (6) {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (7) .
وقال شيخ الإسلام: (والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد بين سبحانه أنه بشروط: بأن لا يتوب فإن تاب تاب الله عليه، وبأن لا تكون له حسنات تمحو ذنوبه فإن الحسنات يذهبن السيئات، وبأن لا يشاء الله أن يغفر له، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} (8) .
__________
(1) انظر: الفتاوى ج8 ص270، 271، ج11 ص 648، 649، وشرح صحيح مسلم ج 2 ص97.
(2) انظر: جامع الأصول حديث 8116.
(3) سورة النساء الآية 48
(4) سورة محمد الآية 34
(5) سورة ق الآية 24
(6) سورة ق الآية 28
(7) سورة ق الآية 29
(8) سورة النساء الآية 48
(72/150)
ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا كان في النار. . . ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار. . . بل لا بد أن يدخل الجنة فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذره من إيمان) (1) .
وقال ابن القيم: (وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تبارك وتعالى به ويثنى عليه به فإنه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه. والكريم لا يستوفي حقه فكيف بأكرم الأكرمين؟) (2) .
وقال النووي: (وأما حكمه صلى الله عليه وسلم على من مات مشركا بدخول النار ومن مات غير مشرك بدخوله الجنة، فقد أجمع عليه المسلمون، فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها) (3) .
__________
(1) الفتاوى ج 8 ص271،.
(2) حادي الأرواح ص 308.
(3) شرح مسلم للنووي ج2ص97.
(72/151)
سابعا: في القدر:
من أصول أهل السنة: الإيمان بالقدر خيره وشره.
(72/151)
وهو يتضمن: - الإيمان بأن الله قد علم في الأزل كل ما سيكون، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن - فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه خالق كل شيء. وأن العبد له قدرته ومشيئته وعمل وأنه مختار فيما يفعله، والله خالقه وخالق قدرته ومشيئته وعمله واختياره. فعمل العبد فعل له حقيقة ومفعول لله تعالى فهو يضاف إلى العبد إضافة المسبب إلى السبب ويضاف على الله إضافة المخلوق إلى الخالق.
خلافا للقدرية الذين غلو في إثبات قدرة العبد حتى جعلوا العباد خالقين مع الله.
وخلاف للجبرية الذين غلو في إثبات قدرة الله حتى نفوا قدرة العبد وفعله.
وأن الله أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته ولا يجوز لهم القعود عن الطاعة احتجاجا بالقدر، كما لا يجوز لهم الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية (1) .
قال شيخ الإسلام: (وتؤمن الفرقة الناجية - أهل السنة
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص 149، وأهل السنة والجماعة ص 53.
(72/152)
والجماعة - بالقدر خيره وشره والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين.
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. . . لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره، ولا رب سواه.
ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته. . . ونهاهم عن معصيته. . . والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم. . . وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم وهذه الدرجة يكذب بها عامة القدرية، ويغلوا فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته. .) (1) .
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص 148 ـ 150 (بتصرف) .
(72/153)
ثامنا: في الأولياء والكرامات:
ومن أصول أهل السنة - أنهم لا يفضلون أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء خلافا لغلاة الصوفية، بل يقولون نبي واحد أفضل من جميع الأولياء ويصدقون بكرامات الأولياء وما يجري الله
(72/153)
على أيديهم من خوارق العادات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة خلافا للمعتزلة: فإنهم ينكرون كرامات الأولياء.
كما لا يرى أهل السنة كل خارقة كرامة، ذلك أن الكرامةـ عندهم - مختصة بأهل الاستقامة (1) .
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص156، وشرح الطحاوية ص 555 ـ 558، 562 وتيسير العزيز الحميد ص 347، 348.
(72/154)
تاسعا: الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من مذهب أهل السنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة. باليد من دون استعمال السيف، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب. وفق توجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » .
خلافا للمعتزلة الذين يبدءون باللسان ثم اليد ثم السيف (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، انظر: صحيح مسلم ج1 ص 32.
(2) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 18، وإعلام الموقعين ج2 ص 176، والمقالات ج1 ص 278.
(72/154)
عاشرا: في لزوم الجماعة والطاعة:
من أصول أهل السنة لزوم الجماعة وطاعة ولاة الأمر ما لم يأمروا بمعصية وترك قتالهم ما داموا مقيمين للصلاة، وإقامة الحج والجمع والعيدين وغيرها من الصلوات خلفهم، وجهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة فجرة.
قال شيخ الإسلام: (ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة. . ثم قال: من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة) (1) .
وقال أيضا: (ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر. .) (2) . وقال أيضا - وهو يتكلم عن أهل السنة - (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا. .) (3) .
خلافا للمعتزلة حيث يرون قتال المخالف لهم سواء كان
__________
(1) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 20.
(2) انظر الفتاوى ج 28 ص 506.
(3) انظر الواسطية ص 30.
(72/155)
سلطانا أو غيره (1)
__________
(1) انظر: المقالات ج1 ص 274.
(72/156)
الحادي عشر:
أهل السنة مجمعون على قتال من خرج من أهل القبلة عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين وأدى بعض فرائض الإسلام (1) .
قال شيخ الإسلام: (فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين) (2) .
وعلى هذا مضى الصحابة في قتال المرتدين.
__________
(1) انظر: الفتاوى ج 28ص 357ـ 359.
(2) انظر: الفتاوى ج28 ص 357ـ 358.
(72/156)
الثاني عشر: في الصحابة:
ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يحبونهم بعد محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترضون عنهم، ويرتبونهم في الفضل وفق ما جاء في النصوص، فيفضلون من أنفق قبل الفتح - وهو صلح الحديبية - وقاتل على من أنفق بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار ونحو ذلك، ويشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم وأن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة، وأن الخليفة بعد رسول الله
(72/156)
صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويستوصون بهم خيرا كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون إفراط أو تفريط، ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة.
ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون هم معذورون؛ لأنهم مجتهدون، والمجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر. وهم مع ذلك لا يعتقدون عصمتهم بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة.
وإذا صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته أو أبتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، أضف إلى ذلك أن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر في جنب فضائل القوم ومحاسنهم
(72/157)
المبحث الرابع: خصائص أهل السنة والجماعة
من خصائص أهل السنة ما يلي:
1 الالتزام بالكتاب وصحيح السنة في كل مسألة من مسائل العقيدة، وعدم رد شيء منهما أو تحريفه أو تأويله. وتقديمها على العقل.
فالمصدر الوحيد للعقيدة - عندهم - إنما هو كتاب الله وما صح من السنة، سواء كان متواترا أو آحادا. وما سواهما إن وافقهما أخذوا به مؤيدا، وإن خالفهما أو أحدهما ردوه على قائله كائنا من كان.
ذلك أن العقيدة الإسلامية غيبية، فكل مصدر سوى الكتاب والسنة يمكن أن يخطئ ويصيب، بخلاف الكتاب والسنة (1) .
__________
(1) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص6، والفتاوى ج3 ص347، 348، 375.
(72/158)
2 - التمسك بالإسلام المحض الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وحفظه عنه أصحابه (1) رضي الله عنه؛ إذ هم المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، وسبيل أصحابه من بعده.
قال شيخ الإسلام: (وهذا الصراط المستقيم هو دين
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص 159.
(72/158)
الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو "السنة والجماعة"؛ فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه من وجوه متعددة. . أنه قال: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة (1) » ، وفي رواية: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(2) انظر: الفتاوى ج3 ص 369، 370.
(72/159)
3 عدم الابتداع في الدين، بل والتحذير من البدع وأهلها، وإبعادهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم أو مجالستهم أو مجادلتهم أو عرض شبههم، إلا على سبيل التفنيد لها من عالم قادر؛ ذلك أن مجالستهم أو مجادلتهم أو عرض شبههم قد تكون سببا لاستحسان شيء من أقوالهم أو أفعالهم؛ ومن ثم الوقوع فيما وقعوا فيه من البدع.
(72/159)
4- ليس لهم إمام يأخذون كلامه كله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما سواه فيؤخذ من كلامه ما وافق الكتاب والسنة ويترك ما خالفهما أو أحدهما.
قال شيخ الإسلام: (فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . فهو الذي يجب تصديقه في كل
(72/159)
ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) .
وقال أيضا: (. . . وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) .
وقال اللالكائي: (ثم كل من اعتقد مذهبا فإلى صاحب مقالته التي أحدثها ينتسب، وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث؛ فإن صاحب مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون. .) (3) .
__________
(1) الفتاوى ج3 ص 346، 347.
(2) الفتاوى ج3 ص 347.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 23، 24.
(72/160)
5 - أنهم أعلم الناس بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله، لذلك كانوا أشد الناس حبا للسنة وأحرصهم على اتباعها، وموالاة من والاها، ومعاداة من عاداها.
قال شيخ الإسلام وهو يتكلم عن أهل السنة: (. . . وهم أعلم الناس بأقواله صلى الله عليه وسلم وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها واتباعا
(72/160)
لها. . . وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها. . .) (1) .
__________
(1) الفتاوى ج3 ص 347.
(72/161)
6 - اتفاقهم في أمور العقيدة رغم اختلاف الزمان والمكان.
يصف قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني هذا الأمر فيقول: (ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة. . قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار. . وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا ولا تفرقا في شيء ما، وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟) (1) .
__________
(1) الحجة في بيان المحجة للأصبهاني ج2 / 224، 225.
(72/161)
7 - الواسطية: وهي الاعتدال بين الإفراط والتفريط، فلم يغلوا ولم يقصروا في أي مسألة من مسائل الدين، وذلك لاعتصامهم بالكتاب والسنة واتباعهم طرق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
قال شيخ الإسلام - بعد أن بين أن ملة الإسلام وسط بين
(72/161)
الملل، قال: (. . . وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق) (1) .
وقال أيضا: (. . . وكذلك في سائر " أبواب السنة" هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) (2) .
ومن مظاهر (3) وسطيتهم ما يلي:
أ - وسط في باب الأسماء والصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، فلم ينفوا الأسماء والصفات ولم يشبهوا الله بالمخلوقات، بل قالوا: لله أسماء وصفات على ما يليق بجلاله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) .
ب - وسط في باب القدر بين القدرية الذين لا يؤمنون بقدرة الله الكاملة ومشيئته الشاملة، فالله تعالى غير خالق لأفعال العباد وإنما العباد هم المحدثون لأفعالهم (5) ، وبين الجبرية الذين يزعمون أن العبد
__________
(1) الفتاوى ج3 ص 373.
(2) الفتاوى ج3 ص 375.
(3) الفتاوى ج3 ص 373 - 375، بتصرف. وشرح الطحاوية ص 528، 587، 588.
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) انظر: شرح الأصول الخمسة ص 323 والفرق بين الفرق ص 104.
(72/162)
ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فلا فعل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأفعال إلى العباد مجازا (1) ، فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويؤمنون بأن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار فيما يفعله، لكن قدرة الخالق فوق قدرة المخلوق، ذلك أن الله هو الذي خلق العبد وخلق قدرته ومشيئته وعمله واختياره، فعمل العبد فعل له حقيقة ومفعول لله تعالى، فهو يضاف إلى العبد إضافة المسبب إلى السبب، ويضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق (2) .
ج - وسط في الأسماء والأحكام والوعد والوعيد: بين الوعيدية (3) والمرجئة.
أولا: في الأسماء والأحكام. والمراد بها أسماء الدين مثل - مسلم، مؤمن، كافر، فاسق - وأحكام أصحابه في الدنيا والآخرة (4) .
فالخوارج والمعتزلة قالوا: لا يسمى مؤمنا إلا من فعل كل مأمور وترك كل محظور؛ إذ الإيمان عندهم لا يتجزأ، فمتى ذهب بعضه بارتكاب شيء من المنهيات ذهب كله. ولهذا قالوا بسلب اسم الإيمان عن مرتكب الكبيرة، لكنهم اختلفوا: فالخوارج سموه
__________
(1) انظر: الفرق بين الفرق ص 186، والملل والنحل ج1 ص110، 111.
(2) انظر: الفتاوى ج3 ص373، 374، ج8 ص117، 118، 487، 488.
(3) الوعيدية: هم الخوارج والمعتزلة ومن قال بقولهم.
(4) انظر: الفتاوى ج13 ص38.
(72/163)
كافرا، وحكمه حكم الكافر في الدنيا.
والمعتزلة قالوا: لا نسميه مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وحكمه في الدنيا حكم باقي المسلمين في "حرمة الدم والمال والعرض والتوارث ونحو ذلك. أما في الآخرة، فاتفق الخوارج والمعتزلة على أن من مات على كبيرة ولم يتب منها أنه مخلد في النار.
أما المرجئة فقالوا: مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وارتكاب الكبائر لا يؤثر فيه؛ إذ الأعمال عندهم لا تدخل في الإيمان. وفي الآخرة من أهل الجنة إذا مات موحدا؛ ولذا قالت المرجئة الخالصة: (لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة) .
أما أهل السنة فتوسطوا؛ حيث قالوا: مرتكب الكبيرة مما دون الشرك مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته - فلا يعطى الاسم على الإطلاق ولا يسلبه على الإطلاق. وأما حكمه في الآخرة فهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم أخرجه من النار فلا يخلد فيها.
ثانيا: في الوعد والوعيد. والمراد بها نصوص الوعد والوعيد.
فالخوارج والمعتزلة غلوا في نصوص الوعيد؛ حيث قالوا: يجب
(72/164)
على الله عقلا أن يعذب العاصي كما يجب عليه أن يثيب المطيع، فمن مات على كبيرة ولم يتب منها فلا يجوز عندهم أن يغفر الله له.
والمرجئة غلوا في نصوص الوعد وأغفلوا نصوص الوعيد، فقالوا: كل ذنب سوى الشرك فهو مغفور؛ أخذا بنصوص الوعد مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، ولذا قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
أما أهل السنة فتوسطوا؛ حيث جمعوا بين نصوص الوعد والوعيد بدون إفراط أو تفريط، فقالو في الوعيد: إذا لم يتب المذنب ولم تكن له حسنات تمحو سيئاته فإنه تحت مشيئة الله. وعليه فإنه يجوز أن يعفو الله عن المذنب فلا يدخله النار، ومن دخلها من أهل الكبائر مما دون الشرك فلا بد أن يخرج منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين.
وقالوا في الوعد: إن الله إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا عليه بحكم وعده، لا بحكم الاستحقاق؛ فإن العبد لا يستحق بنفسه على الله شيئا.
وعليه فإن الله لا بد أن يثيب أهل طاعته، لكن لا يلزم منه
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(72/165)
مغفرة كل ذنب سوى الشرك كما قالت المرجئة.
د - وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بين الخوارج والرافضة.
فالخوارج نظرا لأنهم يكفرون بالذنوب وقد يعدون ما ليس بذنب ذنبا، لذا كفروا عليا رضي الله عنه وطائفة كبيرة من الصحابة واستحلوا دماءهم؛ لأنهم رضوا بالتحكيم الذي كان بين علي ومعاوية إذ هو - عند الخوارج - ذنب يوجب كفر كل من رضي به.
والرافضة غلوا في علي وأهل بيته، ففضلوه على أبي بكر وعمر وسائر الصحابة، وقالوا بعصمته وأبنائه من بعده، بل زعموا أنهم يعلمون الغيب، وبعض فرقهم فضلت الأئمة على الأنبياء والملائكة، وبعضهم قالوا بألوهية علي رضي الله عنه. ومن آثار هذا الغلو سبهم لكثير من الصحابة، وتبرؤهم منهم، بل تكفيرهم لبعضهم كأبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
أما أهل السنة فقد توسطوا فلم يكفروا أحدا من الصحابة أو يتبرءوا من أحد منهم، بل ترضوا عن جميع الصحابة وأنزلوهم منازلهم
(72/166)
التي يستحقونها واعتقدوا أنهم خير خلق الله بعد الأنبياء، وأن خيرهم الخلفاء الأربعة، ولم يغلوا في علي أو غيره، أو يعتقدوا العصمة لأحد من الصحابة (1)
__________
(1) انظر: شرح الواسطية للرشيد ص202-204. ووسطية أهل السنة ص399، 406، 407 -425.
(72/167)
8 - لا يكفر بعضهم بعضا لعدم وجود ما يوجب ذلك؛ إذ الحق يجمعهم ومصدر عقيدتهم الكتاب وصحيح السنة وليس فيهما تناقض حتى يحصل الاختلاف المؤدي إلى التكفير.
أضف إلى ذلك أنهم القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله بخلاف من سواهم من المبتدعة الذين يكثر فيهم الاختلاف المؤدي إلى التكفير؛ لأن مصدر العقيدة عندهم ليس محصورا في الكتاب والسنة.
قال البغدادي:) أهل السنة لا يكفر بعضهم بعضا، وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتكفير، فهم إذن أهل الجماعة القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، فلا يقعون في تنابذ وتناقض، وليس فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير بعضهم لبعض، وتبري بعضهم من بعض كالخوارج، والروافض، والقدرية، حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد فافترقوا عن تكفير بعضهم بعضا) (1) .
__________
(1) الفرق بين الفرق ص312.
(72/167)
9 أنهم لا يتسمون بغير الإسلام والسنة والجماعة.
نقل القاضي عياض عن الإمام مالك، قال: (وسأل رجل مالكا: من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ قال: الذين ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا رافضي ولا قدري) (1) .
وقال ابن القيم:) وقد سئل بعض الأئمة عن السنة، فقال: ما لا اسم له سوى (السنة) . يعني: أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها) (2) .
وقد يتسمون بأسماء أخرى لكن يراد بها أهل السنة، إما باسم مرادف لأهل السنة كأن يقول، من أهل الحديث، من الجماعة، ونحو ذلك.
أو باسم علم من أعلام أهل السنة المشهورين، وذلك كناية عن التزامه بالسنة، مثل أن يقول: من أصحاب الإمام أحمد، أو قائل بما قال الإمام أحمد ونحو ذلك.
__________
(1) ترتيب المدارك ج1 ص172.
(2) مدارج السالكين ج 3 ص 176.
(72/168)
10 - أنهم الغرباء حين يفسد الناس.
لأنهم فرقة بين فرق كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم:
(72/168)
«بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء (1) » . وفي رواية: «فطوبى يومئذ للغرباء إذ افسد الناس (2) » . . . الحديث. وفي رواية لابن وهب: قال عليه الصلاة والسلام: «طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفى (3) » . وفي رواية: «طوبى للغرباء، أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (4) » . وقال سفيان الثوري: (استوصوا بأهل السنة خيرا؛ فإنهم غرباء) (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا. وانظر: جامع الأصول حديث 62.
(2) أورده الشاطبي في الاعتصام ج1 ص 21، والهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، انظر: مجمع الزوائد ج7 ص280.
(3) أخرجه من طريقة ابن وضاح في البدع والنهي عنها: ص 65 عن عقبة بن نافع عن بكر بن عمرو المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكره، وأورده الشاطبي في الاعتصام ج1 ص 21.
(4) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص 281، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط. وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 3816، وقال: حديث صحيح.
(5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص64.
(72/169)
11 - أنهم الفرقة الناجية التي تنجو من عذاب الله يوم القيامة والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة (1) .
__________
(1) انظر: الفتاوى ج3 ص 129، 148، 159، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 24.
(72/169)
قال صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (1) » . وهذه الصفة إنما تنطبق على أهل السنة، فهي الفرقة الوحيدة التي التزمت بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال الإمام أحمد بعد أن ذكر حديث الافتراق: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم:. . . «لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة (3) » .
قال شيخ الإسلام:. . . وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي (4) » . . . الحديث (5) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) شرح صحيح مسلم ج13 ص67.
(3) سبق تخريجه.
(4) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه المقدمة (10) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(5) الفتاوى ج3 ص159.
(72/170)
12 - تعظيم الأمة لهم، ويظهر ذلك بمحبتهم في الحياة والحزن عليهم بعد الوفاة.
قال سفيان الثوري: (إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة، وآخر بالمغرب، فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل
(72/170)
السنة والجماعة!) (1) .
وقال أيوب السختياني: (إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي) (2) .
وقال شيخ الإسلام: (فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، فهذا أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به.
ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه، كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم، حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقر بذلك كما قال الإمام أحمد: (آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز) .
فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفتة، فأما وقت الموت فلا بد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق، ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازة الإمام أحمد، مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف سوى من صلى في الحانات والبيوت. . . وهو إنما نبل عند الأمة باتباع الحديث والسنة، وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما، وإنما نبلوا في الإسلام باتباع الحديث والسنة. . .) (3) .
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 64.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 60
(3) الفتاوى ج4 ص 10، 11.
(72/171)
من كلام شيخ الإسلام اتضح أن التقدير العادل من الأمة للعلماء بقدر موافقتهم للسنة؛ ولذلك نال أهل السنة أكبر تقدير بسبب موافقتهم لها.
(72/172)
13 - الاستمرارية: أي أن أهل السنة والجماعة مستمر وجودها من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) .
ففي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} (2) إشارة إلى تاريخ بدء هذه الجماعة.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (3) إشارة إلى استمرارية هذا الوجود وأن قوام هذا الاستمرار هو الاتباع.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (4) » .
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال دلالة واضحة
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة التوبة الآية 100
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) رواه مسلم في الإمارة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)) . وانظر: جامع الأصول حديث 6776 (المتن والحاشية) .
(72/172)
على صفة الاستمرارية لأهل السنة.
وقال شيخ الإسلام: (لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم) (1) (2) . وقال اللالكائي: (ولم يزل من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قوم يحفظون هذه الطريقة ويتدينون بها، وإنما هلك من حاد عن هذه الطريقة لجهله طرق الاتباع) (3) .
وهذه الصفة من أبرز الصفات التي تميز أهل السنة عمن سواهم؛ ذلك أن أي فرقة أخرى تفقد هذه الصفة لأنها محدثة، وكل محدث غير موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة إنما نالوا هذه الصفة بالاتباع على الحق، وما سواهم يفقد هذا الشرط، وعليه فلن يستمروا مثل أهل السنة.
__________
(1) الفتاوى ج28 ص38.
(2) انظر: صفات الطائفة المنصورة ص13-16.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص27.
(72/173)
14 - ثباتهم على الحق وعدم تقلبهم كما هي عادة أهل الأهواء، وذلك لما لديهم من اليقين بأن ما هم عليه هو الحق. كما أنهم أعظم الناس صبرا على أقوالهم ومعتقداتهم؛ لأنها حق والحق إذا خالطت بشاشته القلوب لا تسخطه، ومن الأدلة على ذلك موقف الإمام أحمد من المعتزلة القائلين بخلق القرآن، فلقد عذب بأنواع
(72/173)
العذاب ليرجع عن السنة ويوافقهم على البدعة فما رجع، ومثله شيخ الإسلام ابن تيمية عذب وسجن وغرب فما رجع عن السنة ومحاربة البدعة وغيرهما الكثير.
قال شيخ الإسلام: (. . . وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك وإن امتحنوا بأنواع المحن. . وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحدا لم يصبه في هذا الأمر بلاء. . ومن صبر من أهل الأهواء على قوله فذلك لما فيه من الحق؛ إذ لا بد في كل بدعة - عليها طائفة كبيرة - من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. . . ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض لا يقبل بحال. وبالجملة فالثبات والاستقرار عند أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف مما هو عند أهل الكلام والفلسفة. . .) (1) .
__________
(1) الفتاوى ج4 ص 50، 51.
(72/174)
15- تورعهم في الفتوى (1) اقتداء بالصحابة وإيثارا للسلامة، وخوفا من القول على الله بلا علم.
__________
(1) خصائص أهل السنة ص 85.
(72/174)
قال ابن رجب رحمه الله: (ومن هذا القبيل كراهة السلف الصالح الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها والإكثار منها) .
قال علقمة: (كانوا يقولون: أجرؤكم على فتيا أقلكم علما) .
وعن ابن أبي ليلى قال: (أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة ما منهم من رجل إلا ود أن أخاه كفاه. . . وسئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة فقال: ما أنا على الفتيا بجريء) .
وقال سفيان الثوري: أدركنا الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا، وإذا أعفوا منها كان أحب إليهم (1) .
__________
(1) شرح حديث ما ذئبان جائعان ص55، 56 (بتصرف) .
(72/175)
16- الأمانة العلمية (1) .
ومن مظاهر ذلك أمانتهم في النقل ابتداء من الكتاب والسنة وانتهاء بأقوال العلماء؛ وذلك لما يلي:
1 - شدة ورعهم وخوفهم من الله، فلا يتجرؤون على شيء من ذلك خوفا من الله ورجاء له.
__________
(1) انظر: عقيدة أهل السنة ص53، وتحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء ص 5 - 7.
(72/175)
2 أنه لا حاجة تضطرهم إلى شيء من ذلك.
وبيان ذلك: أن الكتاب والسنة مصدر عقيدتهم، فهم حريصون على وصوله إلى المجتمع المسلم بدون زيادة أو نقص لتصل العقيدة الإسلامية سليمة، وأما أقوال العلماء فإن وافقت الكتاب والسنة أخذوا بها مؤيدة، وإن خالفت ردوها على قائلها كائنا من كان. وإن كان فيها حق وباطل أخذوا بالحق وردوا الباطل بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، ولم يحتاجوا في كل الحالات الثلاث إلى زيادة أو نقص، لما ذكرت نراهم في القمة في هذه الصفة.
أما المبتدعة فلكون بدعهم استنبطوها من أدلة عقلية، أو من أقوال أئمتهم، فلا بد أن يوجد في الكتاب والسنة وأقوال العلماء ما يخالفها، فيحتاجون إلى التحريف وإلى الزيادة والنقص، فنراهم في الكتاب يحرفون لفظه أو معناه.
وإذا لم يستطعيوا قالوا: متشابه. وبذلك تخلصوا من دلالته.
وأما السنة فإن وافقت أهواءهم أخذوا بها، وإن خالفت حرفوا فيها، وإذا لم يستطعيوا طعنوا في صحتها.
أما ما سواهما من أقوال الأئمة فيأخذون ما يوافق أهواءهم، وإن لم توافق زادوا فيها ونقصوا لتؤيد بدعهم، وإذا لم يستطعيوا تركوها، وبذلك قلت الأمانة العلمية عندهم.
(72/176)
يقول ابن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) .
وقال علي بن حرب: (من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة، فإنهم يكذبون كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي) (1) .
__________
(1) شرح علل الترمذي ج1 ص 54.
(72/177)
17- ترك الخصام والجدال والمراء في الدين ومجانبة أهله.
ذلك أنه مدعاة للفرقة واتباع الهوى والقول على الله بغير علم (1) .
أخرج اللالكائي بسنده عن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم، يعني ابن عتبة: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات (2) .
وقال ابن رجب: (ومما أنكر أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضا، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام وإنما أحدث ذلك بعدهم. . وقد أنكر ذلك السلف. . .) (3) .
__________
(1) عقيدة أهل السنة ص72، وخصائص أهل السنة ص 76.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 128.
(3) فضل علم السلف على الخلف لابن رجب ص 31، 32.
(72/177)
وقال الإمام الطحاوي: (. . . ولا نماري في دين الله. . .) (1) .
وقال الآجري - بعد أن ذكر بعض الأدلة في النهي عن الجدال والخصام في الدين - قال: لما سمع هذا أهل العلم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين لم يتماروا في الدين. . وحذروا المسلمين المراء والجدال. . . وهذا طريق أهل الحق ممن وفقه الله عز وجل (2) .
__________
(1) شرح الطحاوية ص351.
(2) الشريعة للآجري ص55، 56.
(72/178)
18- أنهم خيار الأمة الذين يدعون إلى إحياء السنة وإماتة البدعة. يقول الفضيل بن عياض: (أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وينهون عن أصحاب البدع) (1) .
وقال أيضا: (إن لله عبادا يحيي بهم البلاد وهم أصحاب السنة. . .) (2) .
وقيل لأبي بكر بن عياش: من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يتعصب لشيء منها (3) .
ولو نظرنا إلى المجددين في تاريخ الإسلام الذين دعوا إلى إحياء
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 138.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 65.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 65.
(72/178)
السنة وإماتة البدع لوجدنا أنهم من أهل السنة؛ كعمر بن عبد العزيز والأئمة الأربعة وشيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم والإيمان (1) .
__________
(1) انظر: عقيدة أهل السنة ص84، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 62 - 65.
(72/179)
19 - محبتهم للسلف الصالح وتعظيمهم لهم، والاقتداء بهديهم؛ إذ يرون أن طريقتهم أسلم وأعلم وأحكم (1) . وهذا إضافة إلى أنه خصيصة فإنه من الدلائل الظاهرة التي تميزهم عن غيرهم من المبتدعة.
قال الإمام الصابوني: (أخبرنا الحاكم أبو عبد الله، حدثنا محمد بن إبراهيم المزكي، حدثنا أحمد بن سلمة قال: قرأ علينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد كتاب الإيمان له، فكان في آخره: فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة، وابن المبارك. . . فاعلم أنه صاحب سنة. . .) (2) .
وقال الإمام الطحاوي: (. . . وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين. . . لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم
__________
(1) حكم مخالفة أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد ص 36، وعقيدة أهل السنة 46.
(2) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 109.
(72/179)
بسوء فهو على غير السبيل) (1) .
__________
(1) شرح الطحاوية ص554 (المتن) .
(72/180)
20 - أن أهل الصلاح والاستقامة والمجاهدين في سبيل الله في أهل السنة أكثر من غيرهم.
قال اللالكائي: (وهم أصحاب الجمعات والجماعات والمساجد، والحج والجهاد، وباذلو المعروف. . وحماة الثغور والقناطر الذين جاهدوا في الله حق جهاده واتبعوا رسوله على منهاجه. .) (1) .
وقال شيخ الإسلام: (ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين) (2) .
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص 25.
(2) الفتاوى ج3 ص376.
(72/180)
21 الجمع بين العلم والعبادة، وبين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، وبين التوسع في الدنيا والزهد فيها، وبين الخوف والمحبة والرجاء، وبين الرحمة والشدة، وبين العقل والعاطفة.
فلم ينشغلوا بالعلم عن العبادة كحال المتكلمين ونحوهم، أو بالعبادة عن العلم كحال الصوفية (1) ، ولم يركنوا إلى الأسباب ويتركوا التوكل على الله؛ إذ هو شرك، أو يتركوا الأخذ بالأسباب ظنا منهم أنها تنافي التوكل كحال بعض الفرق (2) ؛ إذ هو مناف
__________
(1) انظر: تلبيس إبليس ص399، 400
(2) كالصوفية.
(72/180)
للشرع (1) .
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل (3) » ، فأمره ببذل السبب مع التوكل على الله.
ولم ينكروا على من سعى لكسب المال الحلال بالطرق المشروعه، سواء كان كثيرا أو قليلا، وجعله في يده، لا في قلبه، يستعين بالله ثم به، ويعين على نوائب الحق، بل يرون أنه ينبغي للإنسان أن يكفي نفسه ومن يعول، وأن لا يكون عالة على غيره؛ لأنهم يرون أن الزهد إنما هو زهد القلب، وهذا الزهد لا ينافي الكسب، سواء كان كثيرا أو قليلا، بخلاف غيرهم ممن انشغل بالدنيا، ولم يبال من أي طريق اكتسبها فهي شغله الشاغل وأساس علاقته بالقريب والبعيد.
أو عاش عالة على المجتمع ظنا منه أن الاشتغال بطلب الرزق الحلال ينافي الزهد كحال المتأكلين من الصوفية ونحوهم (4) .
كما أن أهل السنة جمعوا بين الخوف والرجاء والمحبة، فلم يغلوا
__________
(1) انظر: الجواب الكافي 14، 15 وشرح الطحاوية ص520.
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) أخرجه الترمذي في صفة القيامة باب 61 وهو حديث حسن بشواهده، انظر: جامع الأصول حديث 9505 (المتن والحاشية) .
(4) انظر: تلبيس إبليس ص 178، 179.
(72/181)
بواحد منها على حسب الآخر، بخلاف من سواهم من المبتدعة.
فمثلا: الخوارج غلبوا جانب الخوف، حتى كفروا أصحاب الكبائر.
والمرجئة: غلبوا جانب الرجاء، حتى أقدموا على فعل الكبائر.
والصوفية: غلبوا جانب الحب، حتى تزندقوا وقالوا بالحلول والإتحاد.
قال بعض السلف: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد) (1) .
كما جمع أهل السنة بين الرحمة والشدة؛ اقتداء بالسلف من الصحابة وغيرهم. قال تعالى في وصف الصحابة رضي الله عنهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (2) .
وجمع أهل السنة بين العقل والعاطفة على أكمل وجه، فلم يغلبوا جانب العقل كحال المتكلمين من المعتزلة وغيرهم حتى قدموه على النقل، ولم يغلبوا جانب العاطفة كالرافضة الذين قادتهم عاطفة الحب لآل البيت إلى أن عبدوهم.
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص 128.
(2) سورة الفتح الآية 29
(72/182)
أو الخوارج الذين قادتهم عاطفة الكرة لمرتكب الخطايا - في نظرهم - إلى أن كفروا عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة.
فأهل السنة مع أن عواطفهم قوية إلى أنها تضبط بالعقل، وذلك العقل يضبط بالشرع.
فمثلا: محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصحابة والتابعين لم تجعلهم يرفعونهم عن منزلتهم التي نزلهم الله إياها، وبغضهم للكفار والمبتدعة لم يكن دافعا لظلمهم والتقول عليهم (1) .
__________
(1) انظر: عقيدة أهل السنة ص 46 - 53
(72/183)
الخاتمة:
بسم الله بدأنا وبحمده والشكر له ختمنا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: إنه من خلال كتابتي لهذا البحث المتواضع توصلت إلى نتائج هامة، منها ما يلي:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالسنة والجماعة وحذر من البدعة والفرقة.
الثانية: أن هذه الأمة اختلفت كغيرها من الأمم السابقة، وأن اختلافهم سيصل إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
(72/183)
وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الثالثة: أن أهل السنة والجماعة هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص من كل شائبة.
الرابعة: أن مذهب أهل السنة هو مذهب الصحابة الذي تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم.
الخامسة: أن مصطلح أهل السنة اشتهر إطلاقه في أواخر عهد الصحابة على من التزم طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
السادسة: أن لأهل السنة والجماعة أسماء مرضية، مثل أهل السنة والجماعة، وأهل السنة، والجماعة، وأهل الجماعة، والسلف، والسلفيين، وأهل الحديث، وأهل الأثر، والطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وأهل الاتباع، وأهل الحق.
كما أن لهم أسماء غير مرضية نبزهم بها خصومهم إما لقولهم بسنة لا يراها المبتدع، وأما بدافع العداء ومحاولة تنفير الناس منهم ولم يلحقهم منها شيء، وذلك فضل من الله ومنة.
السابعة: أن منهج أهل السنة في تقرير العقيدة الإسلامية يقوم على أسس منها:
1 - الاقتصار على الكتاب والسنة الصحيحة، أما الإجماع
(72/184)
المعتبر عندهم في تقرير العقيدة فإنما هو إجماع مبني على الكتاب والسنة أو أحدهما، والعقل والفطرة يؤخذ بهما مؤيدان بشرط موافقتهما الكتاب والسنة الصحيحة.
2 تقديم النقل على العقل.
3 عدم رد شيء من الكتاب والسنة الصحيحة ولو كانت آحادا أو تحريفه أو تأويله.
4 الالتزام بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بما ورد عنهم في بيان القضايا الإسلامية عامة، وفي قضايا العقيدة خاصة وتقديمها على أقوال من بعدهم.
5 - عدم الخوض في المسائل الاعتقادية مما لا مجال للعقل فيه من الأمور الغيبية.
6 الاهتمام بالغاية التي خلق الخلق لها وهي إقامة العباد على منهج العبودية الحقة لله رب العالمين.
7 الاتباع وترك الابتداع.
8 الحرص على جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم.
الثامنة: أن أهل السنة دونوا المؤلفات الكثيرة في تقرير العقيدة الصحيحة والرد على المنحرفين عنها، في بعضها اقتصروا على عرض العقيدة الصحيحة، وفي بعضها على الرد على المنحرفين عنها،
(72/185)
وفي بعضها جمعوا بين المنهجين، وقد ركزوا على الأصول التي خالف فيها المبتدعة.
التاسعة: أن أئمة أهل السنة وضعوا ضوابط في بعض مسائل العقيدة التي خالف فيها المبتدعة لتمييز المعتقد الصحيح من غيره، أطلق عليها أصول أهل السنة، منها:
1، 2 - أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
3 - أن من الإيمان بالله إثبات كل ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته وتنزيهه عن العيوب والنقائص إثباتا بلا تشبيه أو تكييف، وتنزيها بلا تحريف أو تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
4 - إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وأنه تعالى يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
5 - الإيمان بأن المؤمنين يرونه تعالى يوم القيامة عيانا بأبصارهم، يرونه وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخولهم الجنة كما يشاء سبحانه، أما في الحياة الدنيا فإنه لا يراه أحد سبحانه وتعالى لا نبي ولا غيره.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(72/186)
6 - أن من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بمقدمات الساعة الصغرى والكبرى، وبكل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، حتى استقرار الإنسان في الجنة أو في النار.
7 الإيمان بالوعد والوعيد، وأن الله إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا عليه بحكم الوعد، لا بحكم الاستحقاق.
وأما الوعيد: فإن كان لمرتكب كبيرة مما دون الشرك ولم يتب صاحبه، ولم تكن له حسنات تمحوا سيئاته، فإنه تحت مشيئة الله؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على قدر ذنبه، ثم أخرجه من النار فلا يخلد فيها.
وإن كان الوعيد لكافر: فإنه على عمومه، يدخل النار ويخلد فيها.
8 - وأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بأن الله قد علم في الأزل كل ما سيكون، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وأن العبد له قدرة ومشيئة وعمل واختيار، والله خالقه وخالق قدرته ومشيئته وعمله واختياره. وأن الله أمر العباد بالطاعة ونهاهم عن المعصية، ولا يجوز لهم القعود عن الطاعة احتجاجا بالقدر، كما لا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية.
(72/187)
9 - أنه لا يفضل أحد من الأولياء على أحد من الأنبياء، والتصديق بكراماتهم، وعدم اعتبار كل خارقة كرامة.
10 - إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - حسب الاستطاعة - باليد من دون استعمال السيف، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب كما أمر صلى الله عليه وسلم.
11 - لزوم الجماعة، وطاعة ولاة الأمر ما لم يأمروا بمعصية، وترك قتالهم ما داموا مقيمين للصلاة.
12 - قتال من خرج من أهل القبلة عن شريعة الإسلام، وإن تكلم بالشهادتين وأدى بعض فرائض الإسلام.
13 - محبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وترتيبهم في الفضل وفق ما جاء في النصوص، ومحبة أهل بيت رسول الله والاستيصاء بهم خيرا - من دون إفراط أو تفريط - والإمساك عما حصل بين الصحابة، والقول بأنهم معذورون؛ لأنهم مجتهدون.
العاشرة: أن لأهل السنة خصائص كثيرة، منها ما يلي:
1 - الالتزام بالكتاب وصحيح السنة في كل مسألة من مسائل العقيدة وعدم رد شيء منها أو تحريفه أو تأويله وتقديمها على العقل.
2 - التمسك بالإسلام المحض.
(72/188)
3 - عدم الابتداع في الدين، والتحذير من البدع وأهلها.
4 - ليس لهم إمام يؤخذ كلامه كله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما سواه فيؤخذ منه ما وافق الكتاب والسنة ويترك ما خالفهما أو أحدهما.
5 - أنهم أعلم الناس بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله.
6 - اتفاقهم في أمور العقيدة رغم اختلاف الزمان والمكان.
7 - الوسطية في جميع مسائل الدين الإسلامي، ومن ذلك وسطيتهم في الأسماء والصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وفي القدر بين الجبرية والقدرية، وفي الأسماء والأحكام والوعد والوعيد بين الوعيدية والمرجئة. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالية والجافية.
8 - لا يكفر بعضهم بعضا.
9 - لا يتسمون بغير الإسلام والسنة والجماعة.
10 - أنهم الغرباء حين يفسد الناس.
11 - أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.
12 - تعظيم الأمة لهم.
13 - الاستمرارية.
14 - ثباتهم على الحق، كما أنهم أعظم الناس صبرا على
(72/189)
أقوالهم ومعتقداتهم.
15 - تورعهم في الفتوى.
16 - الأمانة العلمية.
17 - ترك الخصام والجدال والمراء في الدين ومجانبة أهله.
18 - أنهم خيار الأمة الذين يدعون إلى إحياء السنة وإماتة البدعة.
19 - محبتهم للسلف وتعظيمهم والاقتداء بهديهم.
20 - أن أهل الصلاح والاستقامة والمجاهدين في سبيل الله فيهم أكثر من غيرهم.
21 - الجمع بين العلم والعبادة، وبين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، وبين التوسع في الدنيا والزهد فيها، وبين الخوف والمحبة والرجاء، وبين الرحمة والشدة، وبين العقل والعاطفة.
والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(72/190)
رسالة في التوحيد
للشيخ سليمان بن عبد الرحمن العمري "رحمه الله"
تحقيق الدكتور يوسف بن محمد السعيد
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن من فضل الله تعالى على هذه البلاد وأهلها: وحدتهم على يد صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله رحمة واسعة - بعد فرقة وشتات، واختلاف في العقائد: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
وقد حرص الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - على سلامة العقيدة من أي شائبة تشوبها، وبذل في ذلك كل ما يملك (2) .
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(2) انظر: عناية الملك عبد العزيز بالعقيدة السلفية ودفاعه عنها، للدكتور محمد الخميس.
(72/191)
وكان مما قام به في سبيل ذلك: تعيين القضاة والدعاة والمرشدين والأئمة المعروفين بسلامة المعتقد والغيرة على الدين؛ ليبينوا للناس الحق من الباطل، ويأطروهم على الحق - بما مكن الله تعالى لهم على يد الملك - أطرا.
فكان العلماء والقضاة مما يعرفونه من منهج جلالته يبينون للناس ما إمامهم حريص عليه، ويبينون لهم دعوته التي يدعو الناس إليها.
وما من قطر من أقطار المملكة إلا وكان فيها من رسل الملك عبد العزيز من يدعو إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى دينه، فنتج عن هذا ما تعيشه هذه البلاد من رغد في العيش، وأمن في البلاد.
ومن هؤلاء العلماء الذين كان لهم قدم صدق في ذلك: العالم الجليل والقاضي العدل: الشيخ سليمان بن عبد الرحمن العمري، فقد قام بدور عظيم في بيان الحق من الباطل، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة.
وقد كتب الشيخ - رحمه الله تعالى - رسالة إلى علماء المدينة النبوية يبين لهم فيها ما يجب عليهم أن يقوموا به تجاه التوحيد، ويحثهم على الأمر به، والنهي عن ضده، وهو الشرك، وبين لهم
(72/192)
مقاصد الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بدعوته، وحثهم على تبيينها للناس.
وهذه الرسالة تعد من الوثائق التي حفظت لنا، وبينت شيئا من جهود الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - في الدعوة إلى التوحيد، وأنه ليس رجل سياسة فحسب، بل قبل هذا كله رجل دعوة وإرشاد وإصلاح.
ولما لهذه الرسالة من الأهمية، فقد أحببت نشرها.
وهذه الرسالة موجودة في قسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان (رسالة في التوحيد) برقم (833) .
وقد قمت بقراءتها، والتعليق عليها، بعد أن قدمت لها بهذه المقدمة، وبعد أن ذكرت ترجمة موجزة للمؤلف.
اسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(72/193)
ترجمة المؤلف:
اسمه ونسبه: هو العالم الجليل الورع الزاهد الشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر العمري، يكنى بأبي عبد الرحمن.
ولد الشيخ سليمان في شهر ربيع الآخر سنة 1298هـ على قول القاضي، وسنة 1300 هـ على قول آل الشيخ والبسام، بمدينة عنيزة من أعمال القصيم، وقد عني به والده عناية حسنة كريمة ظهرت آثارها عليه، حيث قرأ القرآن في سن مبكرة جدا، وحفظه عن ظهر قلب، ثم شرع في طلب العلم بهمة ومثابرة عظيمة.
(72/194)
أشهر شيوخه:
أخذ الشيخ سليمان عن علماء أجلاء كثر، في القصيم وفي الرياض، حيث إنه رحل إلى الرياض لأخذ العلم من علمائها من آل الشيخ وغيرهم، وسأذكر هنا بعضا منهم:
أولا: أشهر مشايخه في القصيم:
1 - الشيخ العلامة صالح بن عثمان القاضي (ت1351هـ) ، وهو أكثر مشايخه ملازمة له، حيث كانت لا تفوته جلسة من جلساته، وقد قرأ عليه في التوحيد والفقه والحديث والتفسير والعربية.
2 - الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم (ت 1351هـ) ، حيث قرأ عليه في أصول الدين وفي الحديث.
3 الشيخ عبد الله المانع (ت1360هـ) . فقد قرأ عليه أصول
(72/194)
الدين والفرائض.
ثانيا: مشايخه في الرياض:
1 - الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ.
2 الشيخ سعد بن حمد بن عتيق (ت 1349هـ) .
الشيخ سليمان بن سحمان (ت 1349هـ) .
(72/195)
أعماله:
تولى الشيخ سليمان - رحمه الله تعالى - بعض الأعمال، منها:
1. في عام 1342هـ، تعين إماما بمسجد القاع بعنيزة، وجلس للطلبة فيه.
وفي عام 1345هـ (1) تعين قاضيا في المدينة النبوية، وإماما بالمسجد النبوي، ومدرسا، ورئيسا للإشراف الديني.
وفي عام 1359هـ تعين قاضيا في حريملاء.
وفي آخر عام 1360هـ تعين قاضيا بالأحساء، وبقي بها إلى عام 1373هـ حيث طلب الإعفاء من القضاء؛ نظرا لضعفه وشيخوخته.
__________
(1) ذكر القاضي أن ذلك عام 1346 هـ.
(72/195)
تلامذته:
قرأ على الشيخ سليمان - رحمه الله تعالى - عدد كبير من
(72/195)
طلبة العلم في عنيزة والمدينة النبوية والأحساء، وأفادوا منه كثيرا، ومن هؤلاء الطلبة:
الشيخ عبد الله المطلق الفهيد (ت 1375هـ) .
الشيخ عبد الله المحمد المطرودي (ت 1361هـ) .
الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع (ت1387هـ) .
الشيخ محمد بن علي الحركان وزير العدل سابقا، وأمين عام رابطة العالم الإسلامي.
الشيخ عبد المجيد حسن، إمام المسجد النبوي، وعضو هيئة كبار العلماء سابقا.
الشيخ عبد الله بن سليمان العمري.
الشيخ عبد الرحمن بن سليمان العمري.
(72/196)
مؤلفاته:
ألف الشيخ سليمان مؤلفاته بعض الرسائل والكتب، ومنها:
رسالة في التوسل والوسيلة (مطبوعة) .
وظائف رمضان (مطبوعة) .
رسالة في النهي عن التفرق (مطبوعة) .
حاشية على كتاب التوحيد.
البركان في تحريم الدخان.
(72/196)
رسالة في التوحيد (وهي هذه الرسالة) .
كما كان للشيخ - رحمه الله تعالى - عناية بنسخ الكتب، فقد نسخ كتبا كثيرة.
(72/197)
وفاته:
توفي الشيخ سليمان وفاته - رحمه الله تعالى - في 26 من شهر ذي القعدة من عام 1374هـ (1) بعد أن ضعف بصره، وتوالت عليه الأمراض.
فرحمه الله رحمة واسعة، وأجزله الأجر والمثوبة.
__________
(1) هكذا ذكر القاضي، وعلى قول البسام توفي سنة 1373هـ، وعلى قول آل الشيخ والعمري سنة 1375هـ
(72/197)
مصادر ترجمته:
روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين، للشيخ محمد بن عثمان القاضي (1 \ 147-149) .
علماء نجد خلال ستة قرون، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام (1 \ 288، 289) .
مشاهير علماء نجد، للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (ص391) .
علماء آل سليم وتلامذتهم وعلماء القصيم، للشيخ صالح السليمان المحمد العمري (2 \ 299245) .
الأعلام للزركلي (2 \ 127) .
(72/197)
نماذج من صورة المخطوطة
الصحيفة الأولى
(72/198)
الصحيفة الأخيرة
(72/199)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
من سليمان بن عبد الرحمن العمري إلى علماء المدينة الكرام المدرسين في مسجد أفضل الرسل الكرام محمد، صلى الله عليه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أما بعد، فأهنئكم ونفسي بما من الله علينا وخصنا به من نشر هذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية، وهي الدعوة إلى توحيد رب العالمين، التي هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (3) .
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة النحل الآية 2
(72/200)
وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، يأمرون أممهم بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحدة، وينذرون عن عبادة الطواغيت. وكما ورد في الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، أبونا واحد - يعني التوحيد - وأمهاتنا شتى (1) » يعني الشرائع كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) .
وكل هذا - ولله الحمد - تعرفونه، وتفهمونه، فاحمدوا الله تعالى على ما من علينا وعليكم بهذا الإمام الذي غرز الله في قلبه محبة التوحيد ومحبة من يدعو إليه في آخر هذا الزمان.
ولقد علمتم ما سلف في هذه البلدان من المنكرات التي لا تعد ولا تحصى، ومن ظهور الشرك والبدع التي لا تخفى.
واعلموا - وفقني الله وإياكم - أن أجل مقاصد إمامنا وملكنا في هذه التعليمات ثلاثة أمور:
الأول: تفهيم عوام المسلمين قواعد الدين المشتملة على التوحيد الذي تضمنته (الثلاثة الأصول و (الأربع القواعد) و (كتاب التوحيد) لإمام هذه الدعوة النجدية، وتفهيم الناس أنواع
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3 \ 1270) رقم (3259) ، ومسلم في صحيحه (4 \ 1837) رقم (2365) .
(2) سورة المائدة الآية 48
(72/201)
التوحيد الثلاثة كما قد علمتم:
الأول: توحيد الربوبية، الذي هو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شي ومليكه، وأنه النافع الضار، الخالق الرازق.
وهذا التوحيد أقر به المشركون، كما قد علمتم.
(72/202)
النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو الإقرار بأن الله بكل شيء عليم، وأنه الحي القيوم، وأنه سميع عليم، رءوف رحيم، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وهذان النوعان لا يكفيان في حصول الإسلام؛ لأن النوع الأول أقر به المشركون، وهو توحيد الربوبية.
والنوع الثاني: منهم من أقر به، ومنهم من جحده.
(72/203)
النوع الثالث: توحيد الألوهية، المبني على إخلاص التأله لله تعالى من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة، والدعاء لله وحده.
وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها: ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، ولا يجعل فيها شيئا لغيره، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما.
وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وهو
(72/204)
أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية، والإجلال والتعظيم، وجميع أنواع العبادات
ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليفة (1) ، وأرسلت الرسل (2) ، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار.
واعلموا - وفقني الله وإياكم - أن المقصود الأعظم لإمامنا - وفقه الله - هو تقرير هذا النوع، وهو الزبدة في ذلك، فإن الناس كما علمتم أحوالهم فيما مضى (3) وكان المتكلم بهذا ممقوتا عند الملوك، معاقبا بالحبس والعزل عن المناصب، وعند العامة لا يسمعون منه، ويقولون: هذا تنقص للرسل وللأولياء والصالحين.
__________
(1) كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات، الآية 56] .
(2) كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل، الآية 36] .
(3) قبل حكمه. عليه رحمة الله تعالى.
(72/205)
فاحمدوا الله تعالى أن ولى عليكم ملكا يحضكم على هذه الدعوة، ويوالي على ذلك، ويعادي من خالفها. فعليكم بالحد والاجتهاد، وتصحيح النية والقصد لله تعالى والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم.
(72/206)
الأمر الثاني: من مقصود إمام المسلمين وملكهم: تعليم الناس دينهم عن الألفاظ التي اعتادوها، مما هو من الشرك الأكبر، وما هو من الشرك الأصغر، وما هو من المحرم التي نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير.
فمن الشرك الأكبر: الاستغاثة بغير الله، والطلب من الأموات والغائبين، كقول القائل عند قيامه وقعوده: يا رسول الله، أو عثر، أو فوجئ بأمر يروعه أو نحو ذلك.
فهذا دعاء واستعانة بغير الله.
وكذلك الطلب من الغائبين والأموات، كقول: يا رسول الله، اشفني، أو ارزقني، واجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو ذلك.
ومن الشرك الأصغر: كالحلف بغير الله، كقول: بالنبي والنبي، أو بابن عباس، ونحو ذلك من الألفاظ المحرمة، كالحلف بالأمانة، والسؤال بجاه النبي أو غيره، فإن هذا بدعة محرمة.
(72/206)
وهذه الأمور مما يجب علينا معاشر العلماء التنبيه عليها، وتعليم الجاهل، ولا يحل لنا السكوت عن هذا الأمر العظيم.
الأمر الثالث: الذي من مقصود ملكنا: تفهيم الناس وتعليمهم ألفاظ الزيارة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، كما قد علمتم، وأن المقصود من الزيارة، الدعاء للميت بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجة، لا دعاؤه ولا التمسح بقبره، ولا الطواف حوله؛ فإن دعاءه والسؤال منه من الشرك الأكبر.
والتمسح بقبره، والطواف به حرام لا يحل، فيجب علينا وعليكم القيام بأمر الله، وإبطال هذه المنكرات، وتفهيم الناس ذلك؛ لأنه لا عذر لنا في ذلك، كيف وملكنا ونوابه يحضون على إبطال ذلك؟
وكذلك ينبغي لكم أن تبينوا للناس أن تكرار الزيارة كل يوم، وربما كررت في اليوم الواحد مرارا، وهذا ليس بمشروع.
قال في المبسوط عن مالك إمام هذه البلدة (1) : (لا بأس لمن قدم من السفر أو خرج إليه أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي ويسلم عليه، ويدعوا له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، وهم
__________
(1) يعني المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
(72/207)
يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، يأتون عند القبر، ويسلمون عليه، ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه في بلدنا، لا من الصحابة ولا من غيرهم، ولا يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكررون المجيء إلى القبر، بل كانوا يكرهونه إلا لمن جاء من سفر، أو أراده) انتهى.
وكذلك - وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه - بعضنا في حال التدريس يحيد عن الكلام الذي قصده وأراده المصنف. ربما يقرر على الحديث أو الآية ما ليس له مناسبة بما قصده، وأراده بالترجمة، وهذا لا يفيد طالب العلم ولا مستمعه، وربما يأتي بالمناسبة، ثم يأتي بمناسبة للمناسبة، وهلم جرا، حتى يخرج عن الموضوع الذي قصده المصنف، وقصده طالب العلم من العلم بهذا الموضوع، فتفطنوا لذلك. وفقني الله وإياكم.
وسبب هذه التهنئة والباعث لهذا الكتاب: وصيتكم بلزوم ما من الله به عليكم من هذا الدين الذي أكرم الله به من أكرم في هذا الزمان، بعدما اشتدت به غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا
(72/208)
والمنكر معروفا والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وصار هذا الدين لا يعرف، حتى صار العلماء أجهل به من العامة، حتى من الله على عباده بإمام ألهمه الله ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، فأخذه من الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين قبل حدوث ما حدث، فجدد الله به ما درس، والحمد لله الذي جعل أكثركم اليوم يميز الحق من الباطل، وغيركم من الأمصار لا يخفى عليكم حالهم، أكثرهم جمع بين البدعة والشرك واتخذه دينا يظن أنه يقربه إلى الله، وهو يبعده منه ومن رحمته وجنته.
وأعطاكم الله من الكتب التي فيها من الأدلة والبيان ما فيه الغنية، فاعرفوا قدر هذه النعمة، وأنها عظيمة لا يماثلها شيء، كما قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
وفضل الله الإسلام أن جعلكم من أهله.
ومن فسره بالإسلام والقرآن فالمعنى واحد؛ لأن الإسلام هو العمل بالقرآن، فاشكروا الله - سبحانه وبحمده - على هذه النعمة، وتجردوا لله في الدعوة إلى ذلك، والعمل به، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل.
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(72/209)
وكل شبهة أوردها مبطل على هذا الدين من جهمي أو مشرك أو مبتدع، أبطلها الله بالأدلة من الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1) .
فلا يقدر أحد أن يأتي بحجة على أن الله يدعى ويدعى معه غيره، بل دل الكتاب والسنة على النهي عن ذلك، وتغليظ أمره، وأنه من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.
وفي القرآن من الأدلة على ذلك ما يفوت العد، كما قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (2) .
وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (3) .
وهذا عام يتناول كل ما دعاه أكثر المشركين مع الله من ميت أو غائب أو غير ذلك.
وأمثال هذه الآيات جملة وتفصيلا أكثر من أن تحصى، وقد قصر العبادة بجميع أنواعها على نفسه، كما في فاتحة الكتاب وغيرها.
فلا يصير لكم تنافس إلا في العلم بالتوحيد ومعرفة ما يعارضه
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33
(2) سورة لقمان الآية 30
(3) سورة الحج الآية 73
(72/210)
من الشبهات، وردها، حتى يمن الله عليكم بالعمل الصالح؛ لأن صحة العمل ترتبت على هذا، إذا كان عن قبول ومحبة ورغبة ومعرفة، وبحسب قوة العلم بهذا التوحيد يصلح العمل ويكثر فضله وثوابه وتكفيره الذنوب، وتفريجه الكروب.
وتمام هذا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد من خرج ومرق بالحجة والبيان، وبالله التوفيق.
ولا يخفى عليكم أن تفصيل هذه النبذة يحتاج لمجلد ضخم، فمن عثر على زلة أو عرض له شبهة، فلينبهني على ذلك؛ لأن الحق ضالة المؤمن.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يجعلنا وإياكم ممن يتعاونون على البر والتقوى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبالله التوفيق.
(72/211)
صفحة فارغة
(72/212)
الزيارة الشرعية والبدعية
لشيخ الإسلام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية
تحقيق وتعليق الدكتور \ علي بن عبد العزيز الشبل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد:
فهذه فتيا مختصرة جامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الزيارة: شرعيها وبدعيها، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وحكم قصر الصلاة في ذلك السفر. كتبها بخطه جوابا لسؤال ورد إليه.
وقد عثر عليها خصومة في العقيدة ولم توافق هواهم، فأشغبوا وشنعوا عليه جدا، فحصل من ذلك فتنة وشدة على الشيخ ومن كان على منهاجه، طار شررها في الآفاق، حتى كتب القضاة - من مناوئيه - كتابا إلى السلطان بمصر يشهدون أن الخط خطه، وحرفوا على
(72/213)
الشيخ، وزادوا ونقصوا، فورد الأمر السلطاني بحبس الشيخ في القلعة بدمشق ومنعه من الفتيا، وذلك من 6 \ 7 \ 726 هـ إلى أن مات - غفر الله له، ومأسوفا على فقده - في القلعة في ليلة 20 \ 11 \ 728 هـ.
(72/214)
نسبة المخطوطة للمؤلف:
وهذا التقرير الوافي لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع الزيارة الشرعية والبدعية لمما يقطع المطالع لكتب الشيخ وفتاويه وقواعده بنسبته إليه.
ولا سيما وهذه الفتيا أنها سبب سجن الشيخ في حبسه الأخير في قلعة دمشق.
وقد جاءت هذه الفتوى منصوصة في كتبه رحمه الله، وكتب أخص أصحابه وتلاميذه، مما تراه مقابلا عليها، في حواشي الرسالة - إن شاء الله - ومن هذه التآليف:
1 - كتاب الرد على الأخنائي لشيخ الإسلام ابن تيمية من (44 - 49)
2 - مجلد الزيارة من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج 27 \ (182 - 192) .
3 - وفي الكتاب المشهور بالعقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه المختص به محمد بن عبد الهادي المقدسي (744 هـ) من ص (219- 226) فهي فيه بتمامها.
(72/214)
4 - وهو أيضا في كتابه الآخر الشهير الصارم المنكي في الرد على السبكي، في مواضع متعددة منها:
كما ضمنها مرعي الكرمي الحنبلي (1033هـ) في ترجمة شيخ الإسلام، الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية من 150 - 158.
كما جاءت مضامين هذه الفتوى في مطولات كتب الشيخ ابن تيمية الأخرى في الرد على البكري "وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة " وضمن فتاوى متعددة، مجلد الزيارة من مجموع الفتاوى.
كما جاءت الفتوى منسوبة للشيخ في طرة المخطوطة المعتمدة في التحقيق.
(72/215)
وصف الأصل:
وكانت هذه الفتيا مطوية في مطولات كتب الشيخ، وفي العقود الدرية، ومواطن من الصارم المنكي لتلميذه محمد بن عبد الهادي (744 هـ) - انظر مواضعها في آخر حاشية الفتيا - مع وقوفي على أصل خطي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ذي الرقم (5607 \ 1 خ) حول محنة الشيخ، متضمن لها، وهي منسوخة بخط نسخي تعليق سالم من الأغلاط، في كل صفحة 19 سطرا متوسطا في كل سطر 12 كلمة، مكتوب بالمداد الأسود،
(72/215)
وفصولها بالأحمر، وهي ضمن مجموع مخطوط أصلي محفوظ أصله وصورة بجامعة الإمام، ويقع في 80 ورقة، لكنه مخروم من آخره.
أولها محنة شيخ الإسلام وخروجه من الشام إلى مصر في سنة (705 هـ) ، وهو قطعه من ترجمة مرعي الكرمي (1033 هـ) لشيخ الإسلام في كتابه الكواكب الدرية، من ورقة (1 - 11) .
قطعه في الأدب لمؤلف مجهول من ورقة (12 - 15) .
كتاب في الحديث منسوب لأبي محمد بن حزم من ورقة (15 - 79) .
وهذه النسخة مجهولة اسم الناسخ ومكان النسخ. والله أعلم.
وحيث رغب الإخوان في نشرها مستقلة، لكونها مختصرة لعل الله أن ينفع بها، فكان هذا التحقيق لأصلها المخطوط على النسخ الأخرى التي تضمنت السؤال وجواب الشيخ ابن تيمية عليه، في نسختي: الرد على الأخنائي، والعقود الدرية، سالفة التنويه، وتفصيل فقراتها ورسمها بالرسم الإملائي المعاصر، مع التعليق عليها بما فتح الله به في حواشيها مما يحقق مقصود تقرير الشيخ رحمه الله، ويكمل فوائدها، والله ولي التوفيق، وجزى الله من أعان على نشرها خيرا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(72/216)
نماذج من الأصل المخطوط
(72/217)
نموذج من صور المخطوطة
(72/218)
نموذج من صور المخطوطة
(72/219)
نموذج من صور المخطوطة
(72/220)
وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه:
ما تقول السادة أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين: مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟
وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني، ومن زارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» .
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » ، أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:
أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية كأبي عبد الله ابن بطة، وأبي الوفاء ابن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين أنه: لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهي عنه (2) في الشريعة فلا يقصر فيه.
والقول الثاني: أن يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) في العقود الدرية 220: ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه.
(72/221)
السفر المحرم: كأبي حنيفة، ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين: كأبي حامد الغزالي، وأبي الحسن بن عبدوس الحراني، وأبي محمد بن قدامة المقدسي.
وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور (1) » .
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي آخره: ((فإنها تذكر الآخرة)) . رواه في كتاب الجنائز - باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (976) .
(72/222)
وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: «من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على
(72/223)
الله الجنة (1) » فإن هذا أيضا باطل باتفاق العلماء، ولم يروه أحد ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني.
وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء.
وأجاب عن حديث «لا تشد الرحال (2) » ، بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
__________
(1) نص الشيخ ابن تيمية على أنه كذب موضوع باتفاق أهل العلم في مواضع من كتبه: في '' أحاديث القصاص '' من الفتاوى 18 \ 125 و378 و342 و 24 \ 357 و27 \ 16 و25 - 29 و 35 و165، 166 و216، 217، '' والفتاوى المصرية '' 2 \ 64، 65 و'' الرد على الأخنائي '' 43، 44، كما نص على بطلانه النووي في المجموع 8 \ 277 وأنه لا أصل له. وكذلك ابن عبد الهادي في ''الصارم المنكي''. والسخاوي في ''المقاصد الحسنة'' (413) والعجلوني في ''كشف الخفاء'' 2 \ 251، والفتني في ''تذكرة الموضوعات'' (75) والقاري'' في '' الأسرار المرفوعة '' 344 (909) ، وابن عراق في ''تنزيه الشريعة'' 2 \ 176، ومرعى الحنبلي في '' الفوائد '' (16) والسيوطي في ''الدرر المنتثرة'' (389) ، والألباني في ''السلسلة الضعيفة'' (46) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(72/224)
وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » . وهذا الحديث اتفق على صحته والعمل به.
فلو نذر بشده الرحال أن يصلى بمسجد، أو بمشهد، أو يعتكف فيه، ويسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.
ولو نذر أن يسافر ويأتي إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة، وجب عليه ذلك باتفاق العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف، وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، ولم يجب عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجبا (2) .
وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) » . والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به.
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذروه، حتى نص العلماء أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/7) .
(2) زاد ابن عبد الهادي في العقود الدرية 222. ((بالشرع))
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(72/225)
لمن كان يجيء المدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح: «من تطهر في بيته، ثم أتى إلى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة (1) » ، قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يعطها (2) أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة
__________
(1) الحديث أخرجه الإمام أحمد في'' مسند '' 3 \ 487 من حديث محمد الكرماني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه يرفعه فذكره، وكذا رواه النسائي في '' السنن الصغرى'' 1 \ 80 في كتاب المساجد باب فضل مسجد قباء والصلاة فيه. وابن ماجه في ''السنن'' (1412) والطبراني في '' الكبير'' 6 \ 90. وقد تابع محمد بن سليمان الكرماني، يوسف بن طهمان عن أبي أمامة به، رواه عنه ابن أبي شيبة في ''مصنفه'' 2 \ 373 ووكيع في ''الزهد'' (3920) والطبراني في '' الكبير '' 6 \ 91 وانظر المجمع 4 \ 11. وفي باب عن أسيد بن حضير رضي الله عنه مرفوعا: ((صلاة في مسجد قباء كعمرة)) أخرجه الترمذي في ''جامعه'' 2 \ 146 في كتاب الصلاة باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء من حديث أبي الأبرد عن أسيد بن حضير يرفعه حسنه. وأخرجه ابن ماجه في '' سننه '' (1411) والحاكم في ''المستدرك'' 1 \ 487 وصححه البيهقي في ''الكبرى'' 5 \ 248'' كلهم من طريق أبي الأبرد به.
(2) كذا، وفي الرد على الأخنائي ''45'' و''العقود الدرية'' 222: ((لم يفعلها)) وهو الأصوب.
(72/226)
ولإجماع الأئمة.
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة والإجماع.
وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم يكن بشد رحل، وأن السفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله: «لا تشد الرحال (1) » محمول على نفي الاستحباب، عنه جوابان:
أحدهما: أن هذا إن سلم فيه أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح، فهذا جائز وليس من هذا الباب
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(72/227)
الوجه الثاني: أن الحديث يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، بل مالك إمام أهل المدينة (1) ، الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة، كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا، أو مأثورا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكرهه عالم أهل المدينة.
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة، لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث، إلا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه.
__________
(1) في '' الرد على الأخنائي '' 46 و''العقود الدرية'' 223: المدينة النبوية
(72/228)
وكذلك مالك في الموطأ، روى عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف".
(72/229)
وفي سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم (1) » .
وفى سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم» . فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه في كتاب المناسك'' ـ باب زيارة القبور (2041) ، والإمام أحمد في '' مسنده 2 \ 367 وعبد الرازق في المصنف'' (6726) والطبراني في '' الأوسط '' (8026) وحسن الشيخ إسناد الحديث، وقال: إن رواته مشاهير، وتكلم على حال عبد الله بن نافع فيه وبشواهده في '' الاقتضاء'' 1 \ 296 ـ 299 و2 \ 654 ـ 660، وكذا في '' الرد على الأخنائي'' 145 ـ 148 فأطال عليه وعلى الحديث الأتي بعده. وصححه النووي في '' الأذكار ص173 في كتاب الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن شواهده مما لم يذكره - رحمه الله - عن علي - رضي الله عنه - رواه أبو يعلى في '' مسنده (3116) والقاضي إسماعيل في '' فضل الصلاة على النبي '' (20) . وعن ابن مسعود في'' المسند '' 1 \ 387 و''سنن النسائي '' 3 \ 43 وعبد الرازق في '' مصنفه '' (3116) وغيرهم. وانظر: إلى '' المطالب العالية '' 1 \ 372 و''مجمع الزوائد '' 3 \ 4.
(72/230)
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا (1) » .
وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره، ويتخذه مسجدا، فيتخذ قبره وثنا.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته (4441) ، ورواه مسلم في كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (19) .
(72/231)
وكان الصحابة والتابعون - لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك - لا يدخل أحد إليه، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد، وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه، وأرادوا الدعاء دعوا استقبال القبلة، ولم يستقبلوا القبر.
وأما الوقوف للسلام عليه، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضا، ولا يستقبل القبر، وقال أكثر الأئمة بل يستقبل القبر عند السلام خاصة.
ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء، وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها.
(72/232)
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبله.
وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) .
قالوا: " هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ".
وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا المعني عن ابن عباس.
وذكر محمد بن جرير الطبري، وغيره في التفسير عن واحد من السلف وذكره وثيمة.
وغيره في قصص الأنبياء، من عدة طرق
__________
(1) سورة نوح الآية 23
(72/233)
وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع.
وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور: أهل البدع من الرافضة.
ونحوهم، الذين يعطلون المساجد، ويعظمون المشاهد، يدعون بيوت الله التي أمر الله أن يذكر
(72/234)
اسمه ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد (1) .
التي يشرك فيها ويكذب ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا، فإن الكتاب والسنة، إنما فيهما ذكر المساجد، دون المشاهد، كما قال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3) . .
وقال تعالى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (4) .
وقال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) .
وقال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (6) .
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: أنه كان يقول: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (7) » .
__________
(1) في الكواكب 156: '' من الرافضة ونحوهم الذي يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد ''
(2) سورة الأعراف الآية 29
(3) سورة التوبة الآية 18
(4) سورة البقرة الآية 187
(5) سورة الجن الآية 18
(6) سورة البقرة الآية 114
(7) رواه مسلم في '' صحيحه '' في كتاب المساجد ـ باب النهي عن بناء المساجد على القبور (532) من حديث جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: '' إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا. . . الحديث
(72/235)
ثم قال ابن عبد الهادي: هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم.
وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب.
ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضي الشافعية:
قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح - إلى أن قال: وإنما المخرف.
جعله: زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
(72/236)
وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها. هذا كلامه، فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام.
والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور وزيارة القبور من غير شد الرحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشيخ لا يمانع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها، ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية.
ولما وصل خط القاضي المذكور إلى الديار المصرية، كثر الكلام وعظمة الفتنة وطلب القضاة بها، فاجتمعوا وتكلموا وأشار بعضهم بحبس الشيخ. فرسم السلطان به وجرى ما تقدم ذكره. ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع.
ثم ذكر ابن عبد الهادي انتصار العلماء للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور من 227 - 240 في كتابة العقود الدرية.
(72/237)
صفحة فارغة
(72/238)
منسك الإمام عطاء بن أبي رباح المكي رحمه الله
لفضيلة الدكتور عصام بن عبد المحسن الحميدان (1) .
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان أما بعد:
فإن فقه مناسك الحج من أهم أقسام الفقه الإسلامي، ذلك أنه يتناول ركنا من أركان الإسلام، يجب على كل مسلم ومسلمة مستطيع في العمر مرة: لقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) .
والحج شعيرة إسلامية، ومجمع إسلامي عظيم، يظهر فيه جلال الإسلام، وقوته، وتلاحم أفراده، ووحدتهم في مشعر واحد، وهدف واحد، ونظام متقن، وهتاف مجيد: لبيك اللهم لبيك. . لبيك لا شريك لك لبيك.
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية بجامعه الملك فهد للبترول والمعادن
(2) سورة آل عمران الآية 97
(72/239)
فحسبك بهذه الشعيرة من فخر، وحسبك بالبحث فيها من أهمية.
ولأهمية هذا المنسك سمى الله تعالى سورة من كتابه العزيز باسمه، وهي سورة الحج، مكية في نزولها، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي تتضمن سجدتين؛ تعظيما لهذا المنسك وأنزل الله تعالى على رسوله قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .
فمن أجل أن يبين للناس كيفية الحج، حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة واحده بعد هجرته.
وحج بعده خلفاؤه الراشدون - رضي الله عنهم -، والمسلمون، وسيظل الحج إلى أن يأذن الله تعالى.
وقد يتساءل بعض الناس: لماذا أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج - هذا المنسك العظيم - إلى آخر عمره، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «تعجلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له (2) » ؟ !
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وحسنه الألباني (إرواء الغليل (: 4 \ 168) .
(72/240)
والجواب كما قال العلماء في عده احتمالات (1) :
الأول أنه لم يرد أن يحج مع المشركين. فأذن أبو بكر في الناس سنة تسع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (2) » .
والثاني: أنه أخره حتى تكون حجته في السنه التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، ويصادف وقفته يوم الجمعة التي أكمل الله فيها الخلق.
والثالث: أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة.
دور الفقهاء:
وفقهاء المسلمين هم الموقعون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمبينون للناس كيف السنة في الحج، فلم يزالوا منذ عهد الصحابة - رضي الله عنهم - يفتون بما يعتقدون أنه موافق للسنة التي جاء فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم (3) » .
__________
(1) المغني (5 \ 37)
(2) رواه البخاري (الحج / لا يطوف بالبيت عريان: 3 \ 483 ـ ح: 1622) ومسلم (الحج \ لا يحج البيت مشرك: 2 \ 982 ـ ح: 1347) عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
(3) رواه البيهقي بهذا اللفظ عن جابر - رضي الله عنه - (5 \ 125) ، وهو في (صحيح مسلم) (الحج \ استحباب رمي جمرة العقبة: 2 \ 943 ـ ح: 1297) (وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ومسند أحمد) عنه بلفظ '' لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذة ''. (الهداية بتخريج أحاديث البداية) للمعماري: 3 \ 14، (وإرواء الغليل بتخريج أحاديث منار السبيل) للألباني (4 \ 271) .
(72/241)
فمن أبرز من كان الناس يرجعون إليه في الفتوى في الحج عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، حيث قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: هو أعلم الناس بالحج.
وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وقد سئل في الحج: سل ابن عباس، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وليس هذا بغريب، حيث كان ابن عباس - رضي الله عنهما - إمام أهل مكة، وصاحب المدرسة العلمية المعروفة فيها.
وبعد عهد الصحابة كان عهد التابعين، وهم من خير القرون، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2) » .
وبرز من التابعين جماعة كانوا أعلم من غيرهم بمناسك الحج
__________
(1) الأثران في: (أخبار مكة) للفاكهي (2 \ 341) .
(2) رواه البخاري (فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - \ باب فضائل الصحابة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: 7 \ 3 ـ ح: 3650) ومسلم (فضائل الصحابة \ فضل الصحابة: 4 \ 1964 ـ ح: 2535) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -.
(72/242)
وهم تلاميذ ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال ابن القيم: أهل مكة علمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس (1) .
فلا غرو أن تنصرف الهمة إلى التعرف على أقوال أئمة الفقه السلفي، وتأصيل فقههم، في هذا المنسك العظيم.
وقد اخترت الإمام عطاء - رحمه الله - ليكون موضع هذه الدراسة؛ لما يأتي:
1 - أنه من أقرب تلاميذ ابن عباس - رضي الله عنهما - إليه، وقد كان خليفته في الإفتاء في مناسك الحج.
2 - أنه المفتي الرسمي للدولة الأموية في موسم الحج.
3 - أنه يتميز بالتقوى، وحسن العلاقة مع الله تعالى.
4 - أنه كان شديد الاتباع للسنة، والسلف الصالح في أقواله وأفعاله.
وأحتسب على الله تعالى أن يكون في هذه الدراسة الفائدة المرجوة.
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 21) .
(72/243)
ومن الثمرات التي تستفاد من كتابة هذه الدراسة:
1 - أنه أول جمع لفتاوى الإمام عطاء في باب المناسك، مع مقارنة الأقوال. مما يعين الباحثين في هذا المجال، وييسر لهم الوصول إلى المعلومات المتعلقة بهذا الباب.
(72/243)
2 - أنه يوضح منهج التابعين في الفتوى. وقد قال الفقهاء: إن الرجل لا يكون فقيها حتى يعلم الخلاف عن السلف في المسائل، وذلك لئلا يظن مسألة ما من المجمع عليه، وقد تقدم فيها الخلاف (1) .
3 - أنه يوضح ما كان يتبعه المسلمون من الفقه أثناء مناسك الحج، في زمن الدولة الأموية القريبة من زمن الخلافة الراشدة.
4 - أنه يبين قيمة هذا الإمام، وسعة علمه ومنزلته بين الفقهاء المجتهدين من الأمة.
5 - أنه يؤصل ويوثق التيسير في فتاوى الحج الذي يحتاجه الناس في موسم الحج، خصوصا في هذا الزمان الذي أصبح الزحام في الحج فيه مشكلة تحتاج إلى كثير من النظر، ومنه النظر الشرعي وممن يمثل منهج التيسير، منهج الإمام عطاء - رحمه الله -.
وفيما يلي أذكر خطة الدراسة التي ستكون منهجا لي:
1 - أذكر ما ورد عنه من كتب السنة الأصلية المسندة، مع تخريجها، دون النقل عن الكتب المتأخرة غير المسندة. .
2 - أوضح ما ورد عنه في كتاب " المغني " لابن قدامة الحنبلي - رحمه الله -؛ وذلك لقيمته العلمية، ولأنه موسوعة فقهية موثقة ومخدومة.
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 45، 46) .
(72/244)
3 - إذا ورد عنه في مسألة روايتان أثبتهما، وقد أرجح إحداهما إذا ظهر لي الترجيح، أو أثبتهما دون ترجيح؛ لبيان الخلاف عنه فيها.
4 - أرتب المسائل على ترتيب مباحث الحج في كتب الفقه. والله تعالى أسأل أن يكون فيها النفع للباحثين، والتوعية لعموم المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
(72/245)
المدخل:
قبل أن ندخل إلى الدراسة لا بد أن نتعرف على الإمام عطاء بن أبي رباح المكي - رحمه الله - الذي نقوم بدراسة منهجه في فتاوى الحج:
(72/246)
ترجمه عطاء: اسمه ونسبه:
عطاء بن أبي رباح - واسم أبي رباح: أسلم - القرشي مولاهم الفهري، أبو محمد، من مولدي منطقة الجند باليمن.
ولد في أواخر خلافة عثمان - رضي الله عنه - (1) .
__________
(1) طبقات ابن سعد (5 \ 468) .
(72/246)
أخذة عن الصحابة رضوان الله عليهم:
تلقى العلم عن جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأسامة بن زيد، وابن الزبير، ومعاوية، وجابر، وأبو الدرداء، وأم سلمة، وعائشة، وأم هانئ وغيرهم - رضي الله عنهم - (1) .
__________
(1) تذكرة الحفاظ للذهبي (1 \ 98) وتهذيب التهذيب لابن حجر (7 \ 199) .
(72/246)
وورد عنه قوله: أدركت مائتين من الصحابة (1) .
ولكن أكثر فتواه عن شيخه ابن عباس - رضي الله عنهما -.
وقد وافقه في أغلب الفتاوى في مناسك الحج، فكانت موافقته لشيخه في 105 مسألة، في حين خالفه في 14 مسألة، كما هو موضح تفصيلا في الدراسة. وأحيانا يقول: لم أسمع من ابن عباس في هذه المسألة شيئا (2) .
__________
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 631) وتهذيب التهذيب (7 \ 200) .
(2) مصنف عبد الرازق (6 \ 447 ـ رقم: 11610) .
(72/247)
رواته في باب المناسك:
روى عن عطاء أمم كثير، ولكن من روى عنه في باب المناسك هم:
إبراهيم بن ميمون الصائغ، وإبراهيم بن المهاجر البجلي، وإبراهيم بن يزيد الخوزي الأموي، وإبراهيم بن نافع المخزومي، وأشعث
(72/247)
والأجلح بن عبد الله الكندي، وأسلم المنقري، وإسماعيل بن مسلم المكي، والأوزاعي عبد الرحمن بن يحمد، وبرد بن سنان، وجابر بن يزيد الجعفي، وجبيب المعلم، وحميد الأعرج، وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي، وحفص بن غياث التخعي، وحبيب بن الزبير الهلالي، وحبيب بن أبي مرزوق الرقي، وحجاج بن فرافضة، وخصيف الجزري، وخالد بن دينار، وداود بن شابور المكي، والربيع بن صبيح السعدي، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وسفيان الثوري، وطلحة بن عمر الحضرمي، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أحد الفقهاء السبعة، وعبيد الله بن أبي زياد القداح، وعثمان بن الأسود المكي، وعبد الكريم بن مالك الجزري، وعبد الله بن محرر الجزري، وعثمان بن عطاء الخراساني، وعكرمة بن عمار العجلي، وعمر بن ذر الهمداني، وعمرو بن أبي سفيان الجمحي، والعلاء بن المسيب، وعمر بن قيس المكي، وعمرو بن قتادة اليمامي، وقتادة بن دعامة السدوسي، وكثير بن شنظير، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن عقبة الأسدي، ومبارك بن حسان السلمي، ومثنى بن الصباح اليماني، ومالك بن دينار، ومطر الوراق، ومغيرة بن زياد، ومحمد بن شريك، ومسعر بن كدام العامري، والنهاس بن قهم القيسي، ومعمر بن قيس
(72/248)
السلمي، وقيس بن سعد المكي، وليث بن أبي سليم، وهشام بن عروة، والهذيل بن بلال الفزاري، وهشام بن الغاز الجرشي، وهشام بن حسان الأزدي، وهمام بن يحيى العوذي، وواقد، ويحيى بن سعيد الأموي، ويوسف بن ماهك، ويزيد مولى عطاء، ويعقوب بن عطاء بن أبي رباح، ويونس بن مسمار الخزاز، وعبد الله بن أبي نجيح الثقفي، وعبد العزيز بن أبي رواد المكي، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو بشر جعفر بن إياس اليشكري.
والمكثرون منهم: ابن جريج وهو حامل علمه وملازمه، وليث، وحجاج، وابن أبي نجيح.
(72/249)
صفاته الخلقية:
اتفق العلماء على الثناء على الإمام عطاء - رحمه الله -، ومن ذلك: قول أبو حنيفة: ما رأيت رجلا أفضل من عطاء (1) .
وفي شأن عبادته: قال ابن جريج: أقام أربعين سنة في المسجد الحرام، يصلي بالليل ويطوف (2) .
وقال أيضا: لزمته ثماني عشرة سنة، وكان بعدما كبر
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 321ـ رقم: 1590) وابن عساكر (تاريخ دمشق: 11 \ 641) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 321 ـ رقم: 1593) .
(72/249)
وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك (1) .
وقال أيضا: كان المسجد فراشه عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة (2) .
وقال أبو معاوية المغربي: رأيت عطاء بن أبي رباح بين عينيه أثر السجود (3) .
وقال عبد الرزاق الصنعاني: أخذ أهل مكة الصلاة من عطاء، ثم ابن جريج بعده (4) .
وما رأيت أحدا أحسن صلاة من ابن جريج كان يصلي كأنه أسطوانة (5) .
وفي شأن إخلاصه، ونيته لله: قال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله غير هؤلاء الثلاثة: عطاء، وطاوس، ومجاهد (6) .
__________
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 636) وسير أعلام النبلاء (5 \ 87) .
(2) تاريخ دمشق لابن عسكر (11 \ 643) وتذكرة الحفاظ للذهبي (1 \ 98) وتهذيب التهذيب (7 \ 202)
(3) أخرجه ابن سعد (الطبقات الكبرى: 5 \ 469)
(4) أخبار مكة للفاكهي (1 \ 182ـ رقم: 282) .
(5) تاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 635)
(6) أخرجه ابن سعد (الطبقات الكبرى: 2 \ 386، 5 \ 468) وابن عساكر (تاريخ دمشق: 11 \ 642) .
(72/250)
وفي بره بوالديه: كان يطعم عن أبويه صدقة الفطر وهما ميتان حتى مات (1) .
صفاته الخلقية:
كان عطاء أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمي آخر عمره، وقطعت يده في القتال مع عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - (2) .
__________
(1) أخرجه ابن سعد (الطبقات الكبرى: 5 \ 469) .
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد (5 \ 470) وتهذيب التهذيب (7 \ 200) .
(72/251)
اتباعه السنة:
يحرص الإمام عطاء - رحمه الله - على اتباع السنة في علمه وعمله؛ ولذا كان يثق عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في فتاواه، ويطمئن إليها لعلمه بحرص عطاء على اتباع السنة، كما يأتي:
ومن ذلك: أنه كان لا يرفع حديثا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - حتى يتوثق من رفعه، فقد صحح بأن الأثر الوارد بأن " الحاج يستقبل العمل بعد الحج " إنما هو موقوف على عمر وأبي ذر - رضي الله عنهما -، وليس حديثا مرفوعا بهذا اللفظ (1) .
وإن كان معناه واردا في أحاديث صحيحة بأن الحاج يغفر له ذنبه كله.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 121ـ رقم 12648) .
(72/251)
ومن ذلك: أنه كان غالبا لا يفتي إلا وله إمام في فتواه، فقد سئل عن مسائل كثيرة، فتورع أن يفتي فيها؛ لأنه لم يسمع أحدا من الصحابة أفتى بها، أو أنه لم يبلغه فيها شيء. وربما أفتى بعد أن يبين أن هذا رأيه ولم يتبع فيه أحدا.
فقد سئل عن قتل اليربوع في الإحرام (1) .
وسئل عن الضربة تذهب بالصوت ما ديته (2) ، وسئل عن الحاجب يقطع ما ديته (3) .
وسئل عن القنوت في المكتوبة (4) ، وسئل عن الحائض يصيبها زوجها ما كفارته (5) .
وسئل عن الدعاء على الصفا والمروة (6) .
وسئل عن الثيب تستكره نفسها (7) ، فأجاب في ذلك بأنه لم يسمع فيها شيئا.
كما سئل عن الفأرة تقع في الودك غير الجامد (8) ، وسئل عن التهليل والتحميد بين تكبيرات صلاة العيد (9) ، وسئل عن الاستنان (السواك)
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (4 \ 402ـ رقم 8219) .
(2) مصنف عبد الرزاق (9 \ 360ـ رقم: 17569) .
(3) مصنف عبد الرزاق (9 \ 321ـ رقم 17378) .
(4) مصنف عبد الرزاق (3 \ 194ـ رقم: 5288)
(5) مصنف عبد الرزاق (1 \ 329ـ رقم: 1269) .
(6) مصنف ابن أبي شيبة (3 \ 310ـ رقم: 14498) .
(7) مصنف عبد الرزاق (7 \ 408 ـ رقم: 13655) .
(8) مصنف عبد الرزاق (1 \ 85 ـ رقم: 284) .
(9) مصنف عبد الرزاق (3 \ 297ـ رقم 5698) .
(72/252)
يوم الفطر (1) ، وسئل عن الحلف بالعتاقة (2) ، وسئل عن ذهاب السمع ما ديته (3) ، فأجاب فيها بأنه لم يبلغه في ذلك شيء (4) .
ومن ذلك: أنه إذا بلغه الخلاف عن الصحابة في أمر تورع أن يفتي فيه، كما سئل عن تغطية رأس المحرم الميت، فقال: الأمر فيه خلاف (5) .
ومن ذلك: أنه كان يحرص على تطبيق السنن العملية في مناسك الحج، كما أفتى بأن من فاته الرمل في الأشواط الأولى رمل في الأشواط التالية، ولو شوطا واحدا، حرصا على عدم فوات السنة (6) .
وأفتى بعدم مشروعية الوقوف بعد رمي جمرة العقبة؛ لأنه لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عندها (7) .
وأن السنة أن يصلي الظهر بالأبطح؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (8) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (3 \ 308ـ رقم: 5746) .
(2) مصنف عبد الرزاق (8 \ 482ـ رقم: 15983) .
(3) مصنف عبد الرزاق (9 \ 325ـ رقم: 17402) .
(4) انظر أمثلة أخرى في مصنف عبد الرزاق (1 \ 319ـ رقم: 1222، 2 \ 263ـ رقم: 3296) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة: (3 \ 304ــ رقم: 14439) .
(6) أخرجه ابن أبي شيبة: (3 \ 304ــ رقم: 15427) .
(7) أخرجه ابن أبي شيبة: (3 \ 198ــ رقم: 13406) .
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 370ـــ رقم: 15026)
(72/253)
ومن ذلك: نهيه عن وسائل الشرك، والبدع، كما أفتى بأنه لا يجوز الطواف حول مقام إبراهيم، ولا التمسح به، ولا تقبيله (1) . وأن تراب الحرم لا يخرج منه إلى الحل؛ قطعا لمادة الشرك (2) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 49ـ رقم: 8957) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 294ـ رقم: 14348) .
(72/254)
علمه:
أثنى على علم عطاء الصحابة قبل التابعين؛ فقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: يا أهل مكة، تجتمعون إلي وعندكم عطاء؟ (1) .
وروي نحوه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - (2) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان فقيه أهل مكة عطاء ابن أبي رباح بعد العبادلة الأربعة.
وقال إسماعيل بن أبي أمية: إذا تكلم يخيل إلينا أنه يؤيد.
__________
(1) تاريخ دمشق لابن عسكر (11 \ 637) وتذكرة الحفاظ (1 \ 98) وتهذيب التهذيب (7 \ 201) .
(2) تاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 637) وتذكرة الحفاظ (1 \ 98)
(72/254)
وقال محمد بن سعد: قال بعض أهل العلم: انتهت فتوى أهل مكة إليه، وإلى مجاهد، وأكثر ذلك إلى عطاء (1) .
وقال ربيعة: فاق عطاء أهل مكة في الفتوى (2) .
__________
(1) الطبقات الكبرى (5 \ 470) وتاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 631)
(2) تهذيب التهذيب (7 \ 201) .
(72/255)
عطاء وعلم المناسك:
كان الإمام عطاء - رحمه الله - مقدما في علم المناسك؛ كما قال أبو جعفر الباقر: ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء.
وقال قتادة: كان عطاء من أعلم الناس بالمناسك (1) .
وقال ابن أبي ليلى: كان عالما بالحج (2) .
وقال أبو حازم: ما أدركت أحدا أعلم بالحج من عطاء (3) .
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو أحد الصحابة الأجلاء
__________
(1) أخرجه ابن سعد (الطبقات الكبرى: 5 \ 468) وابن عساكر (تاريخ دمشق: 11 \ 638) .
(2) تهذيب التهذيب (7 \ 201) .
(3) تاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 638) وسير أعلام النبلاء (5 \ 81) .
(72/255)
المشهورين باتباع السنن، والمشهورين أيضا بعلم المناسك (1) .
يحيل عليه في مسائل الحج (2) .
وكان أئمة التابعين كمجاهد وسعيد بن جبير يحرصان على معرفة رأيه في مسائل الحج (3) .
وكان بنو أمية يأمرون ألا يفتي أحد غير عطاء في موسم الحج.
وكان يجلس إليه سليمان بن عبد الملك وابناه يسألون عن مناسك الحج (4) .
فانظر إلى ذلك العهد الأموي الزاخر بالعلماء المجتهدين، والأئمة المتبوعين، كيف اطمأنوا إلى فتاوى الإمام عطاء - رحمه الله -، فكان فتاواه هي المعمول بها عن رضى جميع علماء عصره الكبار، بأمر خليفة المسلمين حتى كأنهم أجمعوا على صحتها، وقوة دليلها.
ولنتصور الحجيج في ذلك العصر (سنة مائة هجرية تقريبا) وقد قدموا للحج، بمن فيهم من مجتهدين وعلماء وأمراء وعامة وتجار قدموا من كل فج ليؤدوا فريضة عمرهم، فلا يصدرون إلا
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم (1 \ 18) .
(2) أخبار مكة للفاكهي (2 \ 343 ـ رقم 1634) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة (3 \ 166 ـ رقم: 13102) .
(4) تاريخ دمشق لابن عساكر (11 \ 633)
(72/256)
عن رأي رجل واحد، يوجههم إلى السنة في حجهم، ويفتيهم في ما يجوز لهم، وما لا يجوز، وما يعرض لهم أثناء نسكهم من عوارض ومخالفات. فهل يمكن أن يكون هذا الرجل إلا من وسع العلم في مناسك الحج، حتى يطمئن له كل من حج من أمة محمد؟ إنه الإمام عطاء رحمه الله.
(72/257)
تيسيره وعدم تشدده:
يميل الإمام عطاء - رحمه الله - إلى التيسير في فتاواه في الحج، وذلك من فقهه، كما قيل: إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد (1) .
فكلما اتسع علم العالم، زادت رحمته بالخلق، وظهر التيسير في فتاواه.
وقد قال عطاء بعد أن أفتى أحد الناس عن سؤاله: الدين سمح سهل (2) .
ومن هنا فإن فتاواه تتميز بالتيسير عموما، ويظهر ذلك في أغلب أبواب الحج، كما يلي (3) .
__________
(1) رواه ابن عبد البر في ''جامع بيان العلم وفضله '' عن معمر (1 \ 785) وسفيان الثوري (1 \ 784)
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة 2 \ 125ـ رقم: 1280) .
(3) سيأتي إسناد هذه الأحكام مفصلا
(72/257)
العمرة:
يجوز تكرار العمرة في الشهر الواحد.
من يجب عليه الحج:
التاجر والأجير يحجان مع القوم يجزيهما عن حجة الفرض.
ليس على الرجل أن يحجج امرأته.
من حج من الأعراب أجزأته عن حجة الإسلام.
يحج بالصبي، ويحرم عنه.
الإحرام:
يجوز أخذ الشعر في عشر ذي الحجة.
يجزئ الإحرام قبل الميقات.
إن أخطا في التلبية فالحكم للنية.
تجوز التلبية لغير الحاج للتعليم.
من كبر بدل التلبية أجزأه.
إن نسي أن يسمي من يحج عنه أجزأه.
تقليد الهدي:
يجوز فطر البدنة.
يجوز ركوب الهدي.
ما يفسد الحج:
إذا كرر الجماع ففدية واحدة، سواء كفر عن الأول أم لا.
(72/258)
ما لابأس به في الإحرام:
يجوز حمل المرأة في الإحرام إن دعت الحاجة.
يجوز نظر المحرم في المرآة.
يجوز الزواج للمحرم.
يجوز عصب الرأس لصداع.
يجوز لبس الطيلسان، والهميان، والقميص.
الإحصار:
الإحصار من كل شيء يحبسه.
الطواف:
لا تشترط الطهارة للطواف.
يجوز الطواف على الراحلة.
يجوز الطواف بالنعال.
لا يزاحم على الحجر الأسود.
يجوز الشرب أثناء الطواف، والاستراحة.
تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف.
يجوز صلاة ركعتي الطواف في بيته، ولو بعد حين.
يجوز أن يستأجر الرجل من يطوف عنه تطوعا.
يجوز تعدد الطواف قبل السعي.
(72/259)
السعي:
السعي بين الصفا والمروة سنة.
يجوز الاستراحة أثناء السعي.
يوم عرفة:
يجوز أن يتأخر الحاج في النفر من عرفة حتى يذهب الزحام.
يجزئ المغمى عليه الوقوف بعرفة.
يجوز للمنفرد أن يجمع بين الصلاتين بعرفة.
المبيت بمزدلفة:
لا يلزم أن يصلي المغرب والعشاء بمزدلفة.
يجوز التفريق بين المغرب والعشاء ليلة مزدلفة.
رمي الجمار:
يجوز أخذ حصى الجمار من حيث شاء.
يجوز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.
يجوز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال (في رواية) .
لا يجب الترتيب في رمي الجمرات.
يجوز الرمي بحصى قد رمي به.
يجوز النيابة في الرمي.
النحر:
يجوز إعطاء الجزار الجلد.
(72/260)
يجوز أن يكون الهدي ذكرا.
يجوز التزود من طعام الهدي.
لا يجب شراء الهدي قبل رمي العقبة.
الحلق:
يجوز غسل الرأس قبل الحلق.
يجوز لمن لم يحلق أن يحلق لغيره.
يجوز تأخير الحلق إلى آخر أيام النحر.
طواف الإفاضة:
يجوز تأخير طواف الزيارة إلى طواف الوداع.
الفدية:
من ترك المبيت بمنى تصدق بدرهم.
إذا اشترك جماعة في صيد فجزاء واحد.
صيام المتمتع:
يجوز صيام السبعة الأيام الباقية من العشر في الطريق.
ونحن اليوم في حاجة إلى التيسير في أعمال الحج، نظرا للأعداد الكبيرة من الحجاج، في منطقة صغيرة نسبيا، مما يستدعي التيسير عليهم، إضافة لضعف دين الناس، مما لا يقويهم على فعل العزائم.
وفاته: توفي - رحمه الله - بمكة حرسها الله سنة 115 هـ (1) . .
وقيل:
__________
(1) الطبقات الكبرى (5 \ 470) وسير أعلام النبلاء (5 \ 88) وتهذيب التهذيب (7 \ 202) .
(72/261)
114 هـ (1) .
__________
(1) تذكرة الحفاظ (1 \ 98) وتهذيب التهذيب (7 \ 202) .
(72/262)
منسك الإمام عطاء رحمة الله
أحكام العمرة:
العمرة واجبة.
_ من تمتع أجزأه عن العمرة؛ لأن حج التمتع يتضمن عمرة.
_ ليس على أهل مكة عمرة، إنما العمرة لمن زار البيت ليطوف به، وأهل مكة يطوفون متى شاءوا.
(وورد عن عطاء أنه كان يعتمر في رمضان، مع أنه من أهل
(72/262)
مكة (1) .
ولعله فعل ذلك لفضيلة الشهر) .
- يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة في الشهر الواحد (2) .
- من اعتمر في أشهر الحج، ولم يخرج من مكة إلى بلده، وحج فهو متمتع.
- الطواف بالبيت لأهل مكة والمقيمين بها أفضل من الاعتمار من التنعيم (3) . أو الخروج إلى المدينة، ثم القدوم معتمرا (4) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 159 ـ رقم: 13031) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 129ـ رقم: 12732) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 16، 17) .
(3) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 285 ـ رقم 1538) .
(4) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 284ـ رقما: 1533، 1534) .
(72/263)
أشهر الحج:
- قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) .
هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(72/263)
(وروي عن عطاء: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
- قوله تعالى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (1) .
وفرض الحج فيها هو: التلبية أي: الإحرام.
- لا يجزئ الإحرام بالحج إلا في أشهره.
ومن أحرم في غيرها للحج جعلها عمرة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(72/264)
ومن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى بها في أشهر الحج فهي في الشهر الذي يحل فيه (1) .
__________
(1) المغني (5 \ 353) .
(72/265)
من يجب عليه الحج:
- من نذر الحج، ولم يكن حج حجة الإسلام فعليه أن يقدم حجة الإسلام أولا.
- من نذر المشي إلى بيت الله، فمشى بعض الطريق وركب البعض، فلينظر ما ركب، فيقوم جزاءه، فإن بلغ بدنة أهداها، وإلا تصدق. بما قوم على المساكين.
- من لم يستطع المشي فليركب، ويهدي بدنة.
(72/265)
المشي في الذهاب إلى الحج أفضل من الركوب إن خلصت النية لله تعالى (1) .
؛ لأن الله تعالى بدأ بالمشاة قبل الركبان، في قوله سبحانه: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (2) فقد قال عطاء: ما أسفت على شيء ما أسفت على أني قد بدنت ولم أحج ما شيا، فاخرجوا يا بني حاجين من مكة مشاة حتى ترجعوا إلى مكة مشاة.
- من نذر أن يحج ولم يحدد مكانا، فمن ميقاته (3) .
- من مات ولم يحج أقيم عنه من يحج، وإن لم يوص.
- التاجر، والأجير على العمل يحجان مع القوم يجزيهما عن حج الفرض.
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 396ـ رقم: 842) وهو قول شيخه ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) سورة الحج الآية 27
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 39) .
(72/266)
من وجد زادا وراحلة وجب عليه الحج؛ لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) .
- (وعن عطاء: الاستطاعة على قدر القوة (2) .
) - المرأة لا يشترط لها المحرم للحج.
- من خرج إلى مكة، ثم بدا له أن يعود، فإن شاء رجع ما لم يحرم (3) .
- ليس على الرجل أن يحجج امرأته، إلا أن يشاء (4) .
- يجوز للمطلقة ثلاثا، والمتوفى عنها أن تحجا في عدتهما.
- من حج من الأعراب - وإن لم يهاجر - أجزأته عن حجة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) معجم فقه السلف لمحمد المنتصر الكتاني (4 \ 10) والأول أصح.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 267ـ رقم: 14084)
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 211ـ رقم: 13531) .
(72/267)
الإسلام (1) .
- يحج بالصبي ولا يصلي عنه، ويحرم عنه وليه إن كان غير مميز، ويصح حجه (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 354ـ رقما: 14870، 14873) وهو قول مجاهد.
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 50) .
(72/268)
الإحرام:
- لا بأس أن يأخذ الرجل من شعره في العشر، وهو يريد الحج.
- (وروي عنه كراهته لفعل ذلك (1) .
) - يكره الإحرام قبل الميقات، فإن فعل أجزأه (2) . وذلك أن المعصية في الإحرام أعظم منها في التحلل، فتأخير الإحرام إلى الميقات أفضل للرخصة (3) .
- لا يجوز تجاوز الميقات دون إحرام، فان فعل وشق عليه الرجوع أهل من مكانه وعليه دم (4) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 344) ولعل ذلك تورعا منه.
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 66) .
(3) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 67)
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 279ـ رقم: 14189)
(72/268)
- (وروي عنه: لا شيء عليه (1)) .
- يستحب الاغتسال عند الإحرام.
لا يتطيب عند إحرامه، ويغسل ما به من الطيب.
ويخلع ما عليه من قميص (2) .
يشعر الحاج هديه قبل أن يحرم، ثم يحرم (3) .
- من أحرم في شهر، ثم دخل شهر آخر فطاف فيه، اعتبرت عمرته في الشهر الذي أهل فيه بالإحرام (4) .
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور (المحلى لابن حزم: 7 \ 74، والمغني: 5 \ 69)
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 109)
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 215ـ رقم: 13569)
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 241ـ رقم: 13831) وهو قول قتادة، والنخعي.
(72/269)
(وعنه رواية أخرى أن عمرته في الشهر الذي طاف فيه، وهو قول الحسن، والحكم (1) .
- إذا أحرمت المرأة بالعمرة، ثم حاضت، وخشيت فوت الحج، أهلت بالحج، وقضت العمرة إذا طهرت (2) .
- إذا كانت المرأة حائضا وقد أهلت بالعمرة، ولم تطهر حتى يوم عرفة، جعلت نيتها بالعمرة حجا، وحجت قارنة (3) .
- التمتع أفضل الأنساك.
وسمي متعة؛ لأنهم يتمتعون بالنساء والثياب (4) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 240ـ رقم: 13829) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 353)
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 406ـ رقم: 15411) وهو قول مجاهد، والنخعي. (المصدر السابق: 3 \ 406)
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 338ـ رقم: 14714) وهو قول الحسن.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 446ـ رقم: 15840)
(72/270)
الإهلال والتلبية:
- إن شاء المحرم أهل بالنسك يعبر عطاء عن الإهلال
(72/270)
بالتلبية في دبر الصلاة، وإن شاء فإذا سعت به الناقة حين يركب (1) .
- فإن لم يكن وقت صلاة مكتوبة، صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما (2) .
- فإن أخطأ فلبى بالعمرة بدل من الحج، فالحكم لنيته لا للفظه.
- ثم يلبي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ويستمر في التلبية حتى يدخل مكة إن كانت عمرة.
(ونقل عنه أنه يلبي حتى يستلم الحجر الأسود.
- تلبي المرأة، ولا تجهر بالتلبية.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 131 ـ رقم: 12751) .
(2) ذكره ابن قدامة، ونسبه لابن عباس. (المغني: 5 \ 81، وموسوعة فقه ابن عباس: 1 \ 72) .
(72/271)
- يجوز لغير الحاج أن يلبي للتعليم.
تجوز التلبية حال الجنابة (1) .
- من كبر بدل التلبية أجزأه (2) .
- من كان أهله دون الميقات أهل من بيته.
- الذين يهلون من بيوتهم حاضرو المسجد الحرام، وهم: أهل عرنة، ومر الظهران، والرجيع، وضجنان، وعرفة، والنخلتين اليمانية والشامية (3) .
- (ونقل عنه: إن حاضري المسجد الحرام: من بينه وبين مكة دون مسافة القصر (4)) .
- أهل مكة يهلون يوم التروية.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 448 ـ رقم 15862) وهو قول أبي جعفر الباقر.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 338 ـ رقما: 14716، 14717) وهو قول طاوس.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 408 ـ رقم: 15431) والطبري (4 \ 112 ـ الأرقام: 3512، 3513، 3516) .
(4) المحلى (7 \ 146) والمغني (5 \ 356) .
(72/272)
- من أهل بحجتين فهو متمتع (1) .
- من لم يهل بشيء فلا حج له (2) .
- من كان يهل عن شخص آخر فيكفيه أن يذكر اسمه عند الإحرام أول مرة (3) .
- فإن نسي أن يسميه فحجه صحيح، فإن الله يعلم عمن يحج (4) .
- يجوز الحج عن الميت وإن لم يوص به (5) .
- من كان معه أخرس أو صبي أهل عنه (6) .
- فإن بلغ الصبي بعد الميقات، أو أسلم الكافر، أو عتق العبد، أحرموا من مكانهما، ولا دم عليهم (7) .
- من أغمي عليه عند الميقات أهل عنه (8) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 386 ـ رقم: 15179) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 413ـ رقم: 15483) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 212 ـ رقم: 13545) وهو قول الحسن. (المصدر السابق: 3 \ 212) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 212 ـ رقم: 13547) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 380، رقم: 15121) .
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 338 ـ رقم: 14712، 3 \ 242 ـ رقم: 13844) .
(7) ذكره ابن قدامة في المغني (5 \ 71) .
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 353 ـ رقم: 14861) وهو قول النخعي.
(72/273)
يجوز إدخال العمرة على الحج، فيقلب المفرد نيته إلى قران، ويكون عليه الهدي.
- يجوز إدخال الحج على العمرة للتمتع، فيقلب نيتة فيصير قارنا، إذا لم يطف، وبعد الطواف لا يصح (1) .
- من اشترط في الإحرام فله شرطه (2) .
- من كان من أهل مكة، فمر بالميقات فاعتمر منه، فليس متمتعا (3) .
ومن أحرم متمتعا، فاعتمر، ثم خرج مسافة قصر، فليس متمتعا حتى يعتمر ثم يبقى بمكة (4) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 371) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 341 ـ رقم: 14737) وذكره ابن قدامة (المغني 5 \ 39) وهو قول الحسن.
(3) أخرجه ابن حزم من طريق عبد الرازق (المحلى 7 \ 157) .
(4) أخرجه ابن حزم من طريق عبد الرازق (المحلى: 7 \ 159) .
(72/274)
تقليد الهدي (1) .
- إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم إلا أن يشاء تأخير الإحرام لعلة، يوما أو يومين.
__________
(1) تعليق قلادة في عنق الهدي، ليعلم أنها هدي، فيكف الناس عنه. (المصباح المنير: 2 \ 512) .
(72/274)
الإشعار ليس بواجب.
- يجوز فطر (1) وخطم البدنة إذا خاف عليها أن تهلك (2) .
- إذا وصل الهدي الحرم فقد وفى عن صاحبه يذبحه في أي وقت، إلا هدي المتعة، فلا بد من نسكه يوم النحر (3) .
- إذا أضل الرجل بدنته فاشترى أخرى، فإن كان قلد الثانية نحرهما جميعا، وإلا باعها إن شاء أو تصرف بها.
- يجوز ركوب الهدي من البدن والحمل عليها، إن احتاج لذلك.
__________
(1) الفطر: الشق (لسان العرب \: 5 \ 55) . والمراد: شق أنف الناقة لقيادها.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 231 ـ رقم: 13732) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 276 ـ رقم: 14161) وهو قول طاوس.
(72/275)
محظورات الإحرام:
هناك محرمات في حال الإحرام، ومكروهات؛ فالمحرمات هي:
1. تقبيل المرأة.
2. الرفث - وهو: الجماع، وما دونه من قول الفحش -.
3. الفسوق - وهي: المعاصي -.
4. الجدال: وهو أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك. .
وهذا ماورد في قوله سبحانه {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) {البقرة: 197} .
5. ـ9ـ نتف الإبط، وتقليم الأظافر، وأخذ الشعر، وتغطية الرأس. بملاصق، ولبس النعل الذي له سير من الخلف (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) أنظر تخريج هذه المحظورات في فصل الفدية.
(72/276)
10 - لا يجوز للمرأة أن تلبس القفازين، والبرقع، وتلبس ما شاءت من الثياب سواهما.
(وروي عنه الترخيص في لبس القفازين) .
11 - وضع الطيب للرجل، ويجنب الطفل الطيب والزينة (1) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 355 ـ رقم: 14884) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 53) .
(72/277)
واما المكروهات فهي:
1. التعريب، وهو التعريض بذكر الجماع.
2. لبس المعصفر والعروق (1) للمحرم. فإن غسل
__________
(1) العروق: جمع عرق؛ وهو نبات أصفر فيه عروق حمر يصبغ به. (لسان العرب: 10 \ 242) .
(72/277)
الثوب بعد صبغه فلا بأس بلبسه. (وروي عنه جواز المعصفر (1)) .
3 - أكل الطعام الذي فيه الزعفران (2) .
4 - وأكل الخشكنانج، والخبيص الأصفر (3) .
(ونقل عنه جواز أكل الخشكنانج، دون كراهة (4)) .
5 - الاختضاب بالحنا (5) .
6 - دهن رأسه (6) .
7 - الاكتحال بالإثمد (7) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة من رواية هشام عنه (3 \ 144) والاكثرون على خلافه.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 166ـ رقم: 13102) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 166 ـ رقم: 13103) وهو قول مجاهد.
(4) المغني (5 \ 148) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 322 ـ رقم: 14614) وهو قول مجاهد.
(6) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 149) .
(7) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 156) .
(72/278)
8 - دخول الحمام (الحمام الجماعي المشهور قديما) .
9 - يكره للمحرمة لبس الحلي، إلا المشهور منه كالعقد.
- من مات محرما لا يدهن بالطيب (1) وأما تغطية رأسه فالأمر فيه خلاف (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 304 ـ رقم: 14439) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 303 ـ رقم: 14431) .
(72/279)
ما يفسد الحج:
- لا يفسد الحج إلا بالجماع وحده قبل رمي جمرة العقبة ويوجب الفدية.
- يلحق بالجماع المباشرة دون الفرج مع الإنزال، فيفسد الحج به (1) .
- فإن كرر الجماع ففدية واحدة عن الأول، سوي جماع بعد
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 170) .
(72/279)
الكفارة أم قبلها (1) .
- فإذا أفسد الرجل حجه بالجماع، وأراد الحج من قابل، أحرم من حيث أفسد حجه. فإن كانت معه امرأته تفرق من الموضع الذي أفسد فيه حتى يقضيا حجهما (2) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 169) .
(2) ذكره ابن قدامة، ونسبه لابن عباس. (المغني: 5 \ 207) .
(72/280)
ما لابأس به في الإحرام:
1 - يجوز قطع الظفر إذا انكسر من المحرم من حيث انكسر، وليس عليه شيء، لا من موضع قبله، وإلا فعلية دم.
2 - قلع القرحة.
3 - إماطة القراد والقمل.
(72/280)
4 - قلع المحرم ضرسه إذا اشتكى منه.
5 - مس المرأة من وراء الثوب (1) .
6 - حملها إن دعت الحاجة ما لم يمس جلده جلدها.
7 - نظر المحرم في المرآة، يميط عنه الأذى.
8 - الاغتسال لكن لا يدلك رأسه. فإن وقع شعر أثناء الوضوء، أو الاغتسال فليس عليه شيء (2) .
9 - حك الرأس حكا خفيفا.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 139 ـ رقم: 12834) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 249 ـ رقم: 13917) وهو قول مجاهد.
(72/281)
(وري عنه النهي عن الحك، ويحمل على الحك الشديد توفيقا بين الروايتين) .
10 - حمل المكتل والطبق ونحوهما (1) .
11 - تبديل ثيابه. وغسلها.
12 - تقلد السيف إن احتاج له (2) .
13 - أن يتداوى بالزيت والسمن، والحناء.
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 152) .
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 128) .
(72/282)
14 - أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن (1) .
15 - الزواج؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تزوج وهو محرم.
16 - السواك سنة للمحرم (2) .
17 - أكل الملح الذي فيه الزعفران (3) (وروي عنه كراهته (4) .
18 - حش العشب (5) .
19 - لبس الخاتم.
__________
(1) ذكره ابن قدامة، ونقله عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (المغني: 5 \ 149) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 132، 133 ـ الأرقام: 12764، 12765، 12766، 12768) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 167 ـ رقم: 13116) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 167) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 337 ـ رقم: 14709) وهو قول الحسن.
(72/283)
20 - لبس الطيلسان، ما لم يزرره عليه.
21 - لبس الهميان.
22 - لبس القميص للرجل (1) .
(وسيأتي عنه في مبحث الفدية وجوب الفدية على من لبس القميص، فلعله أراد من لم يجد لباسا غيره، والله أعلم) .
23 - لبس القميص للطفل (2) .
24 - لبس السراويل، إذ لم يجد إزارا.
25 - لبس الخفين، إذ لم يجد النعلين، ولا يقطعهما أسفل الكعبين.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 435 ـ رقم: 15730) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 355 ـ رقم: 14881) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 53) .
(72/284)
26 - لبس القباء، دون إدخال منكبيه فيه.
27 - تغطية المحرم وجهه إلى حاجبيه.
28 - وضع ثوبه على أنفه إذا مر بريح منتنة.
29 - تغطية المرأة وجهها بثوبها وشده (1) .
30 - يجوز لها لبس السراويل.
31 - استظلال المحرم بالعود وباليد (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 284ـ رقم 14243) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 154) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 286ـ رقم: 14257) .
(72/285)
32 - إذا اشتكى عينه أن يكحلهما بالصبر والحضض، لا بكحل فيه طيب.
33 - أن يعصب رأسه إذا احتاج لذلك من صداع ونحوه.
34 - أن يعصب على الجرح.
35 - الحجامة دون حلق الشعر.
36 - من أصابه من طيب الكعبة فلا بأس، وليس عليه أن يغسله.
(72/286)
37 - له شم طيب الأرض، كالإذخر، والريحان.
38 - الغناء، والحداء، ما لم يكن فحشا.
39 - أن يأكل المحرم ما صاد الحلال، ما لم يصده لأجله، أو أعانه بآلته.
40 - أن يذبح ما ليس بصيد.
(وروي عنه أن ذبيحة المحرم للصيد وغيره ميتة، وهو قول الحسن (1) .
41 - أن يقرد بعيره ينزع عنه القراد.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3| 313) .
(72/287)
42 - يجوز للمستحاضة أن تطوف بالبيت بعد أن تستثفر.
(72/288)
دخول مكة:
- يكره دخول مكة بغير إحرام.
- يجوز دخولها ليلا أو نهارا.
- يكره دخولها بالسلاح، إلا لخائف (1) ؛ لأنها بلد آمن.
(وروي عنه: لابأس أن يدخلها بالسلاح (2) ؛ ولعل ذلك للحاجة، والله أعلم) .
- يستحب الاغتسال عند دخولها.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 298 ـ الأرقام: 14385، 14386، 14388) وهو قول مجاهد
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 351 ـ رقم 1650) .
(72/288)
الأفضل: أن يبدأ بالطواف، ولا يدخل بيتا (1) .
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 220 ـ رقم 1394) .
(72/289)
الإحصار:
- الإحصار: كل شيء يحبسه (1) ، من مرض، أو عدو، أو أمر حابس.
- ومن أحصر ذبح هديه؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) وحل له كل شيء، فرجع حلالا، والهدي شاة، ويجزئ أن يشترك المحصورون كل سبعة
__________
(1) أخرجه الطبري (4 \ 22 ـ رقم: 3229) وهو قول عروة.
(2) سورة البقرة الآية 196
(72/289)
في بدنة أو بقرة.
- من حل قبل أن يذبح هديه، فعليه هدي آخر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) .
- من كان معتمرا فحصر بعث هديه فاعترض له، تصدق بشيء أو صام (2) .
- من لم يكن له هدي صام عشرة أيام (3) .
- من أحصر عن العمرة والحج - وكان جمع بينهما - كفاه هدي واحد.
- من أحصر وعليه حج، فعليه حج أو عمرة، ومن لم يحج من قبل فعليه الحج (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) أخرجه الطبري (4 \ 44 ـ رقما: 3303، 3304) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 277 ـ رقم: 14169) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 163ـ رقم: 13074) .
(72/290)
الطواف:
- شروطه:
1 - أن يحيط بالكعبة كلها، فلا يجزئ إذا طاف داخل حجر إسماعيل؛ لأنه من البيت (1) .
2 - أن يأتي به كاملا، فمن نسي شوطا، وصلى ركعتين، فعليه إعادة الطواف والصلاة (2) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 83 ـ رقم: 9072) وهو قول مجاهد.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 441 ـ رقم: 15793) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 346) .
(72/291)
- ما يستحب فيه:
1 - الطهارة. والغلام يفضل أن يوضأ (1) .
وإذا أحدث الرجل أو حاضت المرأة أثناء الطواف، فالأفضل: أن يعيدا ما سبق، وإن أكملا فلا بأس. وإذا طافت أكثر من ثلاثة أشواط قبل حيضها أجزأ عنها (2) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 70 ـ رقم: 9024) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 200 ـ رقما: 13426، 13429، 3 \ 295 ـ رقم: 14351) .
(72/291)
(وروي عنه اشتراط الطهارة، ولكن فتواه في الحيض تدل على أنه لا يشترطها، ويمكن أن تحمل رواية الوجوب على الاستحباب، بدليل قوله: يكره أن يطوف الرجل على غير طهارة، فلم ينص على عدم الإجزاء؛ ولذا نقل عنه الإمام أحمد وابن تيمية أنه لا يشترط الطهارة) . .
2 - الطواف بين البيت والمقام لا خلف المقام.
3 - ذكر الله تعالى، والدعاء أفضل من قراءة القرآن، وإن كانت القراءة جائزة. فإذا مر بسجدة أومأ (1) ، ويدع الطائف
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 283 ـ رقم: 576)
(72/292)
الحديث فيما سواهما.
(وروي عنه: أن القراءة في الطواف محدث (1) ، والأول أشهر؛ لأنه كان يفعله، وربما أتى على السجدة في قراءته فسجد (2) ، وربما أراد من إنكار القراءة أسلوب بعض القرأة في الطواف، وحيث قال: ذكر الله في الطواف أحب إلي من إعلان القرآن (3) ، فكان بعضهم يعلن القراءة، فأنكره عطاء) .
(كما روي عنه أنه كان يتكلم في الطواف (4) ، ولعل هذا لحاجة أو سؤال، والله أعلم) .
أما قول الناس: (اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك) في بداية الطواف؛ فهو دعاء أحدثه أهل العراق، ولم يرد في السنة (5) .
4 - التكبير عند محاذاة الحجر الأسود، دون رفع اليدين (6) .
__________
(1) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 12) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 224ـ رقم: 401، 402.
(2) أخبار مكة للفاكهي (1 \ 225ـ رقم: 406)
(3) أخبار مكة للفاكهي (1 \ 225 ـ رقم: 405)
(4) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 207ـ رقم: 346) .
(5) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 100 ـ رقم: 43)
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 171ـ رقم: 13157) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 104ـ رقم: 51) .
(72/293)
5 - تقبيل الحجر الأسود، إن استطاع، وإلا استلمه بيده وقبلها. ويكبر حين استلامه (1) .
- فإن لم يستطع استلامه في كل طواف ففي الأوتار (2) .
فإن لم يستطع ففي الافتتاح والاختتام.
(وروي عنه أن استلامه مرة واحدة تكفي، فقال: إذا نالت يدك، فقد تم سبعك (3) .
) - وذلك أن الحجر الأسود من حجارة الجنة، ولولا ما مسه من الأنجاس لكان كما نزل به جبريل عليه السلام (4) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 33ـ رقم: 8893) وهو قول ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 144ـ رقم: 167) .
(3) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 124ـ رقم: 116) .
(4) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 1 \ 323) .
(72/294)
فإن كان على الحجر زحام لم يدافع ولم يزاحم.
- من كان أقطع اليد اليمنى يكبر، ولا يستلم بشماله (1) .
- يستحسن استلام الحجر الأسود وإن كان في غير طواف (2) .
- لا تستلم المرأة الحجر الأسود بحضرة الرجال؛ لأنه يؤدي إلى كشف يديها.
6 - استلام الركن اليماني.
7 - الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى، لكن لا يرمل بين الركنين (3) .
ولا بأس بتركه ذاكرا أو ناسيا.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 44 ـ رقم: 8939) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 102ـ رقم: 48) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 134ـ رقم: 143) .
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 218) .
(72/295)
فإن نسي الرمل في الأشواط الأولى، رمل في الأشواط التالية، ولو لم يبق إلا شوط واحد رمل فيه (1) .
- ليس على أهل مكة المقيمين بها رمل.
- وبقية الأشواط يمشي الطائف فيها مشيه الاعتيادي (2) .
- لا ترمل المرأة في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة.
8 - صلاة ركعتي الطواف بعده، ولا يستحب الزيادة على ركعتين، فإن زاد فلا بأس (3) .
- فإن حضرت مكتوبة بعد الطواف أجزأت عن ركعتي
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 408ـ رقم: 15427) .
(2) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 10) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 215 ـ رقم: 372) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 210ـ رقم: 13529)
(72/296)
الطواف.
- تجزئ ركعتا الفجر بعد الطواف عن ركعتي الطواف (1) .
- فإن نسي ركعتي الطواف صلاهما حين يذكر، ولا شيء عليه (2) .
- ويجوز له أن يصليهما في أي مكان، ولو في بيته.
9 - التزام البيت بين الحجر الأسود والباب.
10 - الدعاء تحت ميزاب الكعبة؛ لأنه يستجاب (3) .
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 270) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 317ـ رقم: 14562) .
(3) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 1 \ 318) .
(72/297)
- ما يجوز فيه:
1 - الطواف على الراحلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على راحلته توسيعا على أمته (1) .
2 - الطواف بالنعال.
3 - الطواف بعد الصبح، والعصر، وصلاة ركعتين بعده.
4 - الشرب أثناء الطواف.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 170 ـ رقم: 13141) .
(72/298)
5 - الاستراحة إن احتاج.
6 - بعد صلاة الركعتين، إن شاء رجع فاستلم الحجر، وإلا تركه (1) .
7 - استئجار من يطوف عنه إن لم يطق الطواف (2) ، أو يحمل، فإذا أتى على الحجر كبر.
8 - النيابة في طواف التطوع للقادر، فيأمر غيره أن يطوف عنه ويهدي ثوابه لمن وكله (3) .
(وروي عنه: لا يطوف أحد عن أحد إلا لمن حج عن غيره (4) .
قال الفاكهي: والأول أحب إلى المكيين)
9 - الإقران بين الطوافات، بحيث يطوف أربعة عشر شوطا، أو واحدا وعشرين، بنية تعدد الطوافات، ثم يصلي لكل طواف
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 367ـ رقم: 15005) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 241ـ رقم: 13839) .
(3) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 289، 290ـ والأرقام: 594، 595، 596، 597) .
(4) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1: 291ـ رقم: 599) .
(72/299)
ركعتين.
(وروي عنه أنه محدث، لم يفعله أحد من الماضين (1) ، ولكنه استقر على إقراره، فقال: بلغني ذلك عن المسور بن مخرمة، وطاوس، وما أظن ذلك إلا شيئا بلغهما (2) .
) - إذا أراد أن يطوف أكثر من طواف فالأفضل أن يجعلها وترا (3) .
- لا بأس بتعدد الطواف قبل السعي (4) .
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 216ـ رقم: 377) .
(2) أخبار مكة للفاكهي (1 \ 223) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 407ـ رقما: 15419، 15425) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 272 ـ رقم: 549) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 415 ـ رقم: 15509) .
(72/300)
- ما يكره فيه:
- التلثم للرجل (1) .
والتنقب للمرأة؛ لأن الطواف صلاة، إلا إن كانت غير محرمة، وتطوف بحضرة الرجال فلا بأس أن
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 234ـ رقم: 433) .
(72/300)
تنتقب (1) وأما إن كان الطواف ليلا بحيث لا يراها الرجال فلا تنتقب. وأن كانت محرمة فلا تنتقب ليلا ولا نهارا (2) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 155) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 235ـ رقم: 435) .
(72/301)
- أحكام متفرقة تتعلق بالطواف:
- الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
- فإن مكث في مكة أربعين يوما، فالصلاة أفضل (1) .
- الطواف أفضل من الذهاب للمدينة.
- لا يستلم شيئا من الكعبة إن كان غير متوضئ (2) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 71ـ رقم: 9030) وهو قول الحسن.
(2) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 43ـ رقم: 8938) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 103، 299ـ رقم: 617) .
(72/301)
تجوز الصلاة داخل الكعبة في أي نواحيها شاء.،
ولكن دخولها ليس من مناسك الحج.
- فإن أراد دخولها نزع خفه، وحذاءه، وسلاحه (1) .
- لكن لا يصلي فيها المكتوبة، ولا في حجر إسماعيل (2) .
- تكره الصلاة فوق الكعبة (3) .
- من طاف أشواطا ثم أقيمت الصلاة، أتم ما بقي عليه، ولا يعتد بالشوط الذي قطع (4) ولا ينتظر بعد الصلاة التي قطعت طوافه، بل يبادر لإكمال الطواف (5) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 83ـ رقم: 9072) وهو قول طاوس، ومجاهد. (مصنف عبد الرزاق: 5 \ 83) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 337 ـ رقم: 691) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 85ـ رقم: 9078) وهو قول الزهري.
(4) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 53ـ رقم 8971) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 294ـ رقم: 610) .
(5) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 54ـ رقم: 8973) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 295) .
(72/302)
فإن كان طوافه تطوعا فله أن ينصرف إن قطع طوافه، ولو لم يتمه، إن كان قد طاف وترا (1) .
- إذا احتاج للبول، أو الغائط قطع الطواف، فقضى حاجته، ثم توضأ، أكمل ما تبقى من طوافه.
- إذا حضرت جنازة لم يقطع طوافه للصلاة عليها (2) .
(وفي رواية عنه: يصلي عليها، ثم يتم (3)) .
- من طاف ثمانية أشواط فإن كان لم يصل ركعتين طاف ستة أشواط وصلى أربع ركعات، وإن كان قد صلى ركعتين طاف ستة أشواط ثم صلى ركعتين، وإن شاء لم يعتد بما زاد على السبعة (4) .
- إذا شك أحد في عدد الطواف بنى على الأقل، واستدرك
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 54ـ رقم: 8975) وهو قول شيخه ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(2) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 54 ـ رقم: 8973) .
(3) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1 \ 275ـ رقم \ 552) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 440 ـ رقم: 15789) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 292ـ 603) وهو قول طاوس
(72/303)
ما شك فيه (1) .
- لا يجوز الطواف حول مقام إبراهيم (2) . ولا يشرع تقبيله، ولا مسه (3) .
- الأفضل أن يقول: طوف ولا يقول: دور أو شوط (4) .
- يكره النظر إلى الجواري اللائي يطاف بهن حول البيت للبيع، إلا لمن أراد أن يشتري (5) .
- لا يشرع الوقوف مقابل البيت بعد انتهاء الطواف والدعاء (6) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 192ـ رقم: 13358) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 292ـ رقم: 603) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 448 ـ رقم: 15856) وهو قول طاوس، ومجاهد. (المصدر السابق: 3 \ 448) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 49 ـ رقم: 8957) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 458ـ رقما: 1005، 1006) .
(4) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 55) والفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 300ـ رقم: 620) وهو قول مجاهد.
(5) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 1 \ 317ـ رقم: 648) .
(6) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 127ـ رقم: 1284) وهو قول مجاهد.
(72/304)
السعي بين الصفا والمروة:
- إذا قضى الطائف خرج إلى الصفا من أي باب شاء (1) .
- يجب أن يكون السعي بعد الطواف، فمن قدم السعي على
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 192 ـ رقم: 13356) وهو قول الحسن. (المصدر السابق: 3 \ 192) .
(72/304)
الطواف فعليه أن يعيد السعي (1) .
(ونقل عنه إجزاء السعي قبل الطواف (2) .
- من ترك السعي بين الصفا والمروة فلا شيء عليه) .
(وروي عنه أن على من ترك السعي دما (3) ، والأول أظهر قوليه، قال ابن حزم: كان عطاء لا يرى السعي بين الصفا والمروة من فرائض الحج (4)) .
- لا تشترط الطهارة له، فلو طافت امرأة ثم حاضت، فإنها تسعى.
- يكره ركوب الدواب بين الصفا والمروة، إلا من عذر.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 251ـ رقم: 13928) وهو قول الحسن.
(2) المغني لابن قدامة (5 \ 240) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (281ـ رقم: 14204) .
(4) المحلى (7 \ 176) .
(72/305)
(وروي عنه أنه ركب بينهما، وقال: لا بأس به (1) .
) . - ليس للدعاء على الصفا والمروة شيء مؤقت، بل يدعو بما أحب.
- يجب استقبال البيت على الصفا، وعلى المروة (2) .
- يجوز السعي الهرولة في الوادي - بين العلمين - وترك ذلك (3) .
وإن كان السعي أفضل (4) .
- تجوز الاستراحة أثناء السعي.
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 239) وهو قول أسن بن مالك - رضي الله عنه -.
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 228، 234) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 251ـ 13934) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 252ـ 13938) .
(72/306)
زمزم:
- يشرع شرب ماء زمزم، والتداوي به (1) . والوضوء منه.
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 64ـ رقم: 1157) .
(72/306)
التحلل:
- يجوز التحلل للمتمتع وإن ساق الهدي بالتقصير من شعره خاصة، دون أخذ الظفر والشارب (1) . وهذا إذا كان قبل العشر من ذي الحجة، وأما في العشر فلا يحل (2) .
- من حل من عمرته، جاز له إتيان النساء، ولو كان يوم عرفة ما لم يكن محرما (3) .
- تأخذ المرأة من شعرها شيئا يسيرا، فإنما هو تحليل. (وكأنه يرى أن التقصير ليس نسكا في حد ذاته) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 241) .
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 242) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 274- رقم: 14143) .
(72/307)
يوم التروية:
- إذا كان يوم التروية فمن شاء صلى الظهر بمكة ثم ذهب إلى منى، ومن شاء صلى بمنى الظهر (1) .
- لا يحرم بالحج حتى يتوجه إلى منى.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 315- رقم: 14544) .
(72/307)
- يستحب أن يغتسل ويطوف ويصلي ركعتين، ثم يحرم عقيبهما في منى (1) .
- ولا يشرع له أن يطوف بعد إحرامه (2) .
- ثم يبدأ بالتلبية ويستمر حتى يرمي جمرة العقبة (3) .
- إذا خرج أهل مكة إلى منى وهم حجاج لم يقصروا الصلاة (4) .
(ورد عن عطاء أنه كان يقصر الصلاة بمنى - وهو من أهل مكة -) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 261) .
(2) ذكره ابن قدامة، ونقله عن ابن عباس. (المغني: 5 \ 261) .
(3) ذكره ابن قدامة، ونقله عن ابن عباس. (المغني: 5 \ 297، وموسوعة فقه ابن عباس: 1 \ 294) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 213 - رقما: 13549، 13552) وهو قول الزهري، ومجاهد.
(72/308)
يوم عرفة:
- سميت عرفات؛ لأن جبريل كان يري إبراهيم المناسك فيقول: عرفت؟ ثم يريه، فيقول: عرفت؟ .
(72/308)
- يتوجه الحاج إلى عرفة بعد طلوع الشمس.
- لا بأس أن يتأخر الحاج في النفر من عرفة حتى يذهب الزحام (1) . لكن لا يتقدم فينفر قبل الإمام (2) .
- فإن نفر قبل غروب الشمس فعليه دم (3) .
- لا بأس أن يأخذ الحاج غير طريق منى إذا أفاض من عرفات (4) .
- من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر ليلة النحر، فقد أدرك الحج، وإن لم يدرك الناس بجمع - مزدلفة -.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 197 - رقم: 13400) وهو قول الحسن (أخرجه ابن أبي شيبة: 3 \ 197) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 391 - رقم: 15229) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 394) .
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 273) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 217 - رقم: 13588) وهو قول سعيد بن جبير.
(72/309)
فلو أعتق العبد، أو بلغ الغلام أو الجارية فأدركوا عرفة قبل طلوع الفجر، فقد أجزأت عنهم حجة الإسلام (1) .
- المغمى عليه يجزئه الوقوف بعرفة (2) .
(ونقل عنه: إذا لم يعقل الوقوف حتى طلع الفجر فلا حج له (3))
- إذا جمع بين الصلاتين بعرفة لم يتطوع بينهما. ويجوز للمنفرد أن يجمع بين الصلاتين، ولا يشترط كونه مع الإمام (4) .
- أهل مكة يجمعون ولا يقصرون الصلاة (5) .
- لا يجهر بالقراءة في الصلاتين يوم عرفة، إلا إن وافق جمعة، جهر فيهما (6) .
- يجوز أخذ العمرة يوم عرفة (7) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 342 - رقم: 14747) وهو قول الحسن.
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 275) .
(3) مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (2 \ 111) .
(4) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 263) .
(5) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 265) .
(6) أخرجه ابن حزم (المحلى: 7 \ 272) .
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 434 - رقم: 15719) .
(72/310)
- من فاته الوقوف بعرفة جعل إحرامه عمرة (1) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 426) .
(72/311)
مزدلفة:
- مزدلفة هي المشعر الحرام. بين مأزمي عرفة ومحسر.
- من ترك النزول بها فعليه دم.
- لا يلزم أن يصلي المغرب والعشاء بمزدلفة، بل إن صلاهما في الطريق فلا بأس، وإن صلى المغرب في الطريق والعشاء بمزدلفة فلا بأس.
- إن صلاهما بعرفة فإن شاء فرق بينهما كل صلاة لوقتها، وإن شاء جمع (1) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 263 - رقم 14039) .
(72/311)
- إذا جمع بينهما بمزدلفة جعل لكل صلاة إقامة (1) . وأذن واحدة (2) .
- يجوز للمريض والحبلى ومن به علة أن يفيض من جمع بليل - قبل الصبح -.
(ونقل عنه أنه يجوز تقديم النساء مطلقا (3)) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 264 - رقم: 14058) والفاكهي (أخبار مكة: 5 \ 47) .
(2) ذكره ابن حزم، وصححه (المحلى: 7 \ 128) .
(3) المغني لابن قدامة (5 \ 286) .
(72/312)
رمي الجمار:
- يجوز للحاج أن يأخذ حصى الجمار من حيث شاء، من مزدلفة أو منى أو غيرهما.
- يكون الجمار مثل حصى الخذف، حصى بين الحصاتين.
(72/312)
ولا يستحب غسله.
- يذهب لرمي الجمار ماشيا، إلا من حاجة.
(وروي عن عطاء ركوب يومين ومشي يومين، ولعل ذلك للحاجة (1)) .
- يستحب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي. ويكبر مع كل حصاة يكون التكبير أثناء الرمي لا بعده (2) .
- فإن كان الزحام جاز أن يرميها من أي مكان (3) .
__________
(1) (مصنف ابن أبي شيبة: 3 \ 233) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 4 \ 295 - رقم: 2660، 4 \ 297)
(3) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 178) والفاكهي (أخبار مكة: 4 \ 296 - رقم: 2662) .
(72/313)
- يجوز رميها قبل طلوع الشمس يوم النحر، أو متى قدم إلى منى.
(ونقل ابن قدامة عن عطاء أنه يرى جواز الرمي ابتداء من نصف الليل من ليلة النحر (1) ، ولعله استنبط هذا من فعله، حيث كان يفيض قبل الفجر، فيرمي (2)) .
(وروي عن عطاء أنه لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، لكن الرواية الأولى عنه أشهر، وفيها تصريح بفعله ذلك) .
- لا يقف الحاج عند جمرة العقبة بعد ما يرميها.
- لا يجوز تأخير رمي جمرة العقبة إلى الليل، فإن فعل فعليه دم، ويرميها من الغد (3) .
__________
(1) المغني (5 \ 295) .
(2) (أخبار مكة للفاكهي: 5 \ 49) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 201 - رقم: 13437) وهو قول النخعي (مصنف ابن أبي شيبة: 3 \ 201) .
(72/314)
- وقت رمي الجمار أيام التشريق بعد زوال الشمس (1) . فإن رمى قبله أعاد (2) .
(وروي عنه يرمي قبل الزوال مطلقا، والصحيح الأول) .
- يرمي الجمرتين الأخريين من فوقهما استحبابا، ويقف طويلا عندهما للدعاء بقدر سورة الحج. وليس هناك دعاء مخصوص
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 319 - رقم: 14582) وذكره النووي (8 \ 282) .
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 328) .
(72/315)
لهذا الموضع (1) .
- لا يقف للدعاء يوم النفر عند أي من الجمرات (2) .
- لا يجب الترتيب في رمي الجمرات، فلو رمى الكبري ثم الوسطى ثم الصغرى أجزأه (3) .
- يجوز رمي الجمار ليلا للرعاة (4) .
من رمى بخمس حصيات، استدرك ذلك في الأيام التالية، فإن كانت أيام التشريق انتهت فعليه الفدية (5) .
- من سقطت منه حصيات أخذ من تحت رجله أو مما قرب منه حصيات فرمى بها (6) . بل يجيز عطاء أن يأخذ من حصى الجمرة الذي في الحوض فيرمي به إن سقط منه شيء (7) .
- يجزئه أن يرمي سبع حصيات دفعة واحدة، ويكبر بعد ذلك لكل حصاة (8) . ولا يعتمد ذلك؛ لأنه مخالف للسنة (9) .
__________
(1) أخرجه الأزرقي في (أخبار مكة: 2 \ 178) .
(2) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 178) والفاكهي (أخبار مكة: 4 \ 303) .
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 329) .
(4) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 378) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 201 - رقم: 13443) .
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 202 - رقم: 13448) .
(7) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 4 \ 298) .
(8) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 297) .
(9) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 4 \ 297) .
(72/316)
- من لم يستطع الرمي رمى عنه غيره.
- رمي الجمار واجب (1) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 380) .
(72/317)
النحر:
- قول الله عز وجل {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1) هي الإبل، والبقر.
- تنحر البدن في أي مكان تيسر من منى.
- يعقل من البدنه أي اليدين شاء (2) .
- ينزع جلالها؛ لئلا تتمرغ فيه (3) .
- فإن استعصت عليه أثناء النحر، فله أن يعرقبها (4) .
__________
(1) سورة الحج الآية 36
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 214 - رقم: 13560) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 217 - رقم: 13590) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 408 - رقما: 15432، 15433) .
(72/317)
- وله نحرها قائمة أو باركة (1) .
(ونقل عنه أنه يستحب نحرها باركة (2) ، والصحيح: الأول؛ لأنه نص عليه) .
- إذا ذبح البدنة ولها ولد، ذبح ولدها معها (3) .
- فإن ذبحه قبل ذلك ذبح مكانه كبشا.
- يجوز إعطاء الجزار جلد الهدي (4) .
- يجوز أن يكون الهدي جملا ذكرا، والأنثي أفضل.
- يجزئ الجذع من الضأن والبقر والإبل إلا المعز (5) .
- يجب أن تكون خالية من العيوب كالأضحية (6) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 428 - رقم: 15659) .
(2) المغني لابن قدامة (5 \ 298) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 390 - رقما: 15226، 15227) وهو قول النخعي.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 218 - رقم: 13594) .
(5) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 460) .
(6) ذكره ابن أبي قدامة (المغني: 5 \ 461) .
(72/318)
- يجوز الاشتراك في الهدي للحاج في بدنة أو بقرة تكفي عن سبعة.
- يجوز التزود من طعام الهدي إلى بلده للمتمتع وغيره (1) .
- لا يجب الأكل من طعام الهدي (2) .
- العبد إن كان متمتعا يذبح عنه مولاه (3) .
- وقت وجوب الهدي رمي الجمرة، فلا يجب على المتمتع قبلها أن يشتري الهدي (4) .
- يستمر ذبح الهدي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 413 - رقم: 15490) وقول جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه الطبري (تفسيره وبحاشيته غرائب القرآن، النيسابوري: 17 \ 109) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 447 - رقم: 15855) .
(4) ذكره ابن أبي قدامة (المغني: 5 \ 359) .
(72/319)
- من عطب هديه التطوع فلينحره، ثم ليغمس نعله حافره في دمه، ثم ليضرب بالنعل صفحته، ولا يأكل منه فإن أكل غرم، وإن كان الهدي واجبا، فعل مثل ذلك، وجاز له أن يأكل منه أو يهدي (1) .
- لا صلاة للعيد بمنى قبل النحر، وإنما ذلك لأهل الآفاق.
__________
(1) ذكره ابن حزم (المحلى: 7 \ 268) وهو قول ابن أبي عباس رضي الله عنهما. (المحلى: 7 \ 268) .
(72/320)
الحلق والتقصير:
- السنة: أن يبلغ بالحلق إلى العظمين.
- من كان أصلع، فإنه يمر الموسى على رأسه.
- يجوز غسل الرأس قبل الحلق، ولو وضع عليه خطمي ونحوه.
(72/320)
(وروي عنه كراهته (1) ، والأكثرون على الأول، وفي روايه ليث: سألته فقال: نعم. والروايه الأولى صرح فيها فقال: اغسل رأسك بما شئت. فهاتان الروايتان أرجح من الكراهة، لأنها حكاية عنه لا تصريح) .
- يجوز لمن لم يحلق أن يحلق لغيره (2) .
- يكره للحاج بيع شعره (3) .
- يستحب له أخذ شيء من لحيته إن كانت طويلة (4) .
- يجوز تأخير الحلق إلى آخر أيام النحر، ولا دم عليه (5) .
- التفث في قوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (6) وهو الحلق، والذبح وتقليم الأظافر ومناسك الحج (7) .
__________
(1) (مصنف ابن أبي شيبة: 3 \ 358) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 451 - رقم 15891) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 386) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 451 - رقم: 15892) .
(4) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 307) .
(5) ذكره ابن أبي قدامة (المغني 5 \ 306) .
(6) سورة الحج الآية 29
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 429 - رقم: 15670) .
(72/321)
التحلل الأول:
- إذا قضى الحاج مناسك يوم النحر كلها، فقد حل له كل
(72/321)
شيء إلا النساء والصيد (1) .
(ونقل عنه أن التحلل يحصل بالرمي (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 239 - رقم: 13813) .
(2) المحلى لابن حزم (7 \ 139) والمغني لابن قدامة (5 \ 310)
(72/322)
طواف الزيارة (الإفاضة) :
- ركن من أركان الحج، من تركه بقي على إحرامه حتى يأتي به (1) .
- يجوز تأخيره إلى يوم النفر (2) .
- الطواف في حق القارن والمتمتع سواء (3) .
- القارن يكفيه طواف واحد عن حجه وعمرته.
- ليس في طواف الزيارة رمل.
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 345) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 161 - رقم: 13057) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 276 - رقم: 14162) وهو قول طاوس، ومجاهد.
(72/322)
- أعمال يوم النحر: الرمي، والنحر، والحلق، والطواف من أخل بترتيبها فلا شيء عليه (1) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 320) .
(72/323)
المبيت بمنى:
- حدود منى ما بين جمرة العقبة إلى وادي محسر.
- من ترك المبيت بمنى تصدق بدرهم ونحوه (1) ، إلا من كان له دار بمكة فلا بأس أن يبيت بها.
- لا جمعة على أهل منى من الحجاج إذا حضرت الجمعة؛ لأنهم مسافرون (2) .
- يستحب الصلاة في مسجد الخيف بمنى؛ لما له من فضل (3) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 297 - رقم: 14375) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 253 - 13944) .
(3) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 4 \ 270 - رقم: 2606) .
(72/323)
أيام التشريق:
- هي التي ذكر الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(72/323)
[البقرة: 203] . وهي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
- الصلوات بمنى تقصر في أيام التشريق.
- زيارة البيت أيام التشريق كل يوم أفضل (1) .
- لمن أراد التعجل أن يخرج من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن بقي بعد الغروب في منى، لم يجز له الخروج (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 288 - رقم: 14286) .
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 332) .
(72/324)
التحصيب:
- من السنة أن يصلي الظهر بالأبطح (1) يوم النفر (2) .
__________
(1) هو من مسجد الجن حتى الخرمانية موضع أمانه العاصمة المقدسة. (أخبار مكة للفاكهي: حاشية 3 \ 79) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 370 - - رقم: 15026) .
(72/324)
- ثم ينفر إلى البيت ولا يستحب المكث في المحصب، وإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم للحاجة.
(72/325)
طواف الوداع:
- يجب أن يكون بعد الفراغ من أعمال الحج أو أعماله بمكة (1) .
- فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة أعاده (2) .
- من خرج قبل أن يودع فعليه الرجوع إن كان قريبا (3) . وإلا فعليه دم.
- فإن ودع وخرج إلى الأبطح فلا بأس أن يقيم (4) .
- أهل مكة يودعون إذا أرادوا الخروج إلى بواديهم (5) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 378 - رقم: 15103، 3 \ 442 - رقم: 15808) .
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 339) .
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 339) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 442 - رقم: 15808) .
(5) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 337 - رقم: 1618) .
(72/325)
العمرة بعد الحج:
- تكره العمرة بعد الحج، والطواف أفضل؛ لأن العمرة المشروعة ما ابتدأتها من أهلك، لا من مكة.
(72/326)
صيام المتمتع:
- إذ لم يجد المتمتع هديا فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (1) ولا بد أن تكون في العشر الأول من ذي الحجة. وآخرها يوم عرفة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(72/326)
- من صام ثلاثة أيام في الحج، ثم وجد الهدي، فعليه الهدي ما دام بمكة (1) .
- فإذا لم يصم فعليه هدي إذا عاد لأهله.
- وأما السبعة الأيام الباقية من العشر، فيجوز أن يصومها في مكة أو في الطريق وهو عائد إلى بلده.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 237 - رقم: 13793) .
(72/327)
الفدية وحيوان الحرم:
- من قبل امرأته في الإحرام فعليه دم.
(72/327)
(وروى عنه عبد الملك: يستغفر الله (1) . وظاهر هذه الرواية أنه ليس على المحرم شيء في القبلة. ولكن رواية الأكثرين أولى) .
- هذا إذ لم ينزل، فإذا أنزل من قبلة أو لمسة أو مباشرة بطل حجه، وعليه الحج من قابل، مع الفدية (2) .
(ونقل عنه فيمن نظر إلى إمرأته فأنزل فعنه قولان: فساد الحج، والفدية (3) .
- إذا جامع الرجل إمرأته في الحج، فعلى كل واحد منهما دم، ويجزئهما الاشتراك في بدنة.
- فإن كانت مكرهة دفع كفارتها الزوج، وحججها من ماله.
- فإن كرر الجماع ولم يفد عن الأول، فعليه هدي واحد -
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 138 - رقم: 12828) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 139 - رقما: 12837، 12838) .
(3) مسائل الإمام أحمد لابن هانئ النيسابوري (1 \ 173) .
(72/328)
يعبر عطاء عن الفدية بالهدي - (1) .
- من جامع امرأته بعد إحرامه وقبل طوافه بالبيت، فعليهما أن يرجعا إلى الميقات، فيحرم بعمرة، ويفدي بدم.
- من جامع بعد العمرة وقبل الحلق أو التقصير، يستغفر الله تعالى، ولا فدية عليه.
- من جامع قبل طواف الإفاضة، فعليه بدنة وحجه صحيح.
- من نتف إبطه، أو قلم أظفاره فعليه الفدية.
- من أخذ من شعره لعلة أو أذى كقمل أو صداع ونحوهما (2) ففدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة ستة مساكين،
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 195 - رقم: 13378) وهو قول الحسن (أخرجه ابن أبي شيبة: 3 \ 195) .
(2) أخرجه الطبري (4 \ 54 - رقم: 3323) .
(72/329)
أو نسك شاة؛ لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) وهو مخير في أيتها شاء (2) .
- من غطى رأسه وهو محرم بملاصق ففدية من صيام أو نسك (3) .
- من لبس نعلا له سير من خلفه عمدا فعليه دم (4) .
- من أخذ ثلاث شعرات فصاعدا فعليه دم، عامدا أو ناسيا (5) .
- وفي الشعرة الواحدة قبضة من طعام (6) .
- من لبس رداء وقميصا في آن واحد ففدية واحدة، وإن لبسهما متفرقين فدمان.
- من حلق، ثم وضع طيبا، أو لبس قلنسوة ففدية واحدة (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) أخرجه الطبري (4 \ 75 - رقم 3382) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 286 - رقم: 14264) .
(4) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 123) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 217 - رقم: 13589) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 382) وهو قول الحسن.
(6) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 387) .
(7) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 391) .
(72/330)
- من شم طيبا، أو وضعه عليه فعليه الكفارة (1) .
- من نسي من نسكه شيئا حتى رجع إلى أهله، فعليه دم (2) .
- من ترك الرمي ولو جمرة واحدة فعليه دم (3) .
(ونقل عنه: من ترك رمي يوم تصدق بدرهم، ومن ترك الرمي كله فعليه دم (4)) .
- من قطع من شجر الحرم، ففي القضيب درهم، وفي الدوحة (5) بقرة.
- أما الثمار فيجوز أكلها كالنبق، والعشرق (6) .
- يجوز أخذ السواك، والقضيب، والسنا (7) من الحرم.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 322 - رقما: 14612، 14613) .
(2) ذكره ابن قدامة، ونقله عن ابن عباس. (المغني: 5 \ 324) .
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 380) .
(4) المحلى لابن حزم (7 \ 134) .
(5) الشجرة الكبيرة. (المصباح المنير: 1 \ 202) .
(6) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 143، 144) والفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 368 - رقم: 2221) .
(7) نبت من الفصيلة القرنية، زهره مصفر، وحبه مفلطح رقيق، يتداوى به. (المعجم الوسيط: 1 \ 457) .
(72/331)
(وفي رواية عنه كراهته) (1) .
- يجوز قطع الشوك، والعوسج (2) .
- ويجوز وضع البساط على نبت الحرم يجلس عليه (3) .
- لا يقطع لدوابه من شجر الحرم (4) ، أما إذا سقط من الشجر شيء فلا بأس بأخذه.
- يجوز أن يرعى دوابه فتأكل من حشيش الحرم (5) .
- من قتل طيرا في الحرم فعليه شاة. أول من فعله عثمان
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (5 \ 143) .
(2) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 186) .
(3) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 144) والفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 369 - رقم: 2223) .
(4) أخرجه عبد الرزاق (5 \ 145 - رقم: 9203) والفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 369 - رقم: 2223) .
(5) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 188) .
(72/332)
رضي الله عنه (1) .
- حمام الحرم إن خرج إلى الحل جاز صيده (2) .
لا بأس بطرده في الحرم بسعفة ونحوها.
- من قتل من حمام الحرم خطأ، وهو يريد علاجها، أو تخليصها، فلا شيء عليه (3) .
- لو أصاب الصيد في الحل فدخل الحرم فمات لا يؤكل؛ لأنه مات في الحرم، ولا جزاء فيه لأنه صيد في الحل (4) .
- لو رماه وهو في الحل فأصابه والصيد في الحرم كفر، ولو رماه وهو في الحرم فأصابه والصيد في الحل كفر.
- لو أدخل الصيد إلى الحرم حيا، لم يجز أن يأكله في الحرم.
__________
(1) رواه عطاء عنه (أخرجه ابن أبي شيبة: 3 \ 178 - رقم: 13222) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 440 - رقم: 15787) وهو قول عروة.
(3) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 142) والفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 375 - رقم: 2239، 3 \ 387) .
(4) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 440 - رقم: 8368) وابن أبي شيبة (3 \ 423 - رقم: 15595) .
(72/333)
(وروي عن عطاء إباحته (1) . والأول آخر قوليه، كما تفيد روايتي الأزرقي والفاكهي) .
- في بيض حمام مكة نصف درهم، فإن كان فيها فرخ فدرهم. وفي فرخ حمام مكة شاة (2) .
- لا يأكل الحاج من طعام الفدية، ولا من جزاء الصيد، ولا من النذر.
__________
(1) أخبار مكة للأزرقي (2 \ 140) وللفاكهي (3 \ 378، 381) وهو قول مجاهد، وعمرو بن دينار.
(2) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 419 - رقم: 8289) وهو قول شيخه ابن عباس رضي الله عنهما، وعبيد بن عمير.
(72/334)
(ونقل عنه أن الأكل يمنع من المنذور وجزاء الصيد، دون سواهما (1)) .
- يجب ذبح الفدية وتوزيعها بمكة، وأما الصيام والصدقة الإطعام فبأي مكان.
(وروي عنه أن النسك والإطعام يجب أن يكونا بمكة؛ لأن الطعام بمنزلة الهدي) .
__________
(1) المغني لابن قدامة (5 \ 445) .
(72/335)
أحكام الصيد في الإحرام وجزائه:
- لا يجوز للمحرم أن يدل حلالا على الصيد، فإن فعل ولم يصده الحلال، فليس على المحرم سوى الاستغفار (1) . أما إن قتله فعلى المحرم الجزاء.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 324 - رقم: 14630) .
(72/335)
- وكذا لو أشار المحرم إلى صيد فصاده محرم، فعلى كل منهما الجزاء (1) .
(وفي رواية عن عطاء: عليهما كفارة واحدة (2) ، وهو الموافق لقوله بأن المشتركين في الصيد عليهم جزاء واحد) .
- ما حكم الصحابة فيه من الصيد اتبع حكمهم (3) .
تفصيل جزاء الصيد:
في البقر الوحشية بقرة.
- في الحمار الوحشي بقرة (4) .
(ونقل عنه: فيه بدنة (5)) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 416 - رقم: 15518) وهو قول الحسن.
(2) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 435 - رقم: 8351) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 133) .
(3) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 402) .
(4) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 399 - رقم: 8206) وابن أبي شيبة (3 \ 303 - رقم 14428) وهو قول مجاهد.
(5) المغني لابن قدامة (5 \ 403) .
(72/336)
- في الأروى بقرة.
- في الغزال شاة.
- في الثعلب شاة.
- في الأرنب شاة.
- في الوبر شاة (1) .
- في القطاة شاة.
- في الضب شاة.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 405 - رقم: 8237) وهو قول مجاهد.
(72/337)
- في اليربوع جفرة (1) .
- في النعامة جزور.
- في بيضها درهمان لكل بيضة، فإن كان للمتلف لها إبل فعليه جنين ناقة (2) .
- في الحمامة، والحبارى، والكروان فصاعدا من الطير شاة.
- في الفرخ الصغير الذي لم يطر جفرة (3) .
- الدجاجة السندية من الصيد (4) . وفيها حكم عدلين (5) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 404) .
(2) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 423 - رقم: 8301) وهو قول علي، وابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 142) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 337 - رقم: 14707) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 447 - رقم: 15854) .
(72/338)
- في الحمام الشامي ثمنه (1) .
- في بغاث الطير مد (2) .
- في الهدهد درهم.
- في الوطواط ثلثا درهم.
- كل طير دون الحمامة وفوق العصفور درهم (3) .
- في العصفور نصف درهم (4) .
(وروي عنه فيه شاة، والأول أصح؛ لأنه نص عليه، ورواه أكثر أصحابه) .
- القردة من الصيد ويحكم بها عدلان (5) .
(وفي رواية عنه: لا غرم عليه (6)) .
- الحيوان الذي يعيش في البر والبحر فيه الجزاء إذا صيد (7) ،
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 416 - رقم: 8275) .
(2) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 417 - رقم: 8279) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 417 - رقم 8280) .
(4) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 418 - رقم: 8283) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 418) .
(5) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 455 - رقم: 8432) وابن أبي شيبة (3 \ 444 - رقم: 15824) .
(6) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 455) .
(7) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 453 - رقم: 8423) والطبري (11 \ 87 - رقم: 12775) .
(72/339)
كالسلحفاة، والسرطان، والضفدع (1) .
- فإن اشتبه فحيث كان أكثر عيشه فهو من صيده.
- صغير الصيد فديته صغير من الضأن أو الشاة، ومعيبه معيبة (2) .
- في الظبية الوالد شاة والد، وفي الحمارة الوحش النتوج بقرة نتوج (3) ؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (4) .
- من قتل في الإحرام نملا أو جنادب أو قطا أو جرادا عمدا فداه بشيء من طعام. وإن كان خطأ فليس عليه شيء.
__________
(1) أخرجه الطبري (11 \ 87 - رقم: 12774) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 178، 400) .
(2) أخرجه الطبري (11 \ 15، 18 - رقما: 12567، 12579) .
(3) أخرجه ابن حزم (المحلى: 7 \ 232) .
(4) سورة المائدة الآية 95
(72/340)
- أما البعوض، والذباب فلا بأس بقتله. وكذا الضبع (1) ، (ونقل عنه ابن قدامة عنه فيه كبش) (2) ، وما عدا عليه من الحيوان (3) ، والغراب، والعقاب، والصقر (4) ، والحدأة، (5) ، والزنبور (6) ، والذئب، والأسد، وكل عدو. والوزغ إذا آذى (7) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 425 - رقم - 15624) .
(2) المغني (5 \ 403) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 444 - رقم: 8387) وابن أبي شيبة (3 \ 350 - رقم: 14828) وهو قول النخعي.
(4) أخرجه الأزرقي (أخبار مكة: 2 \ 149) والفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 397) .
(5) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 399 - رقم: 2295) .
(6) أخرجه ابن حزم (المحلى: 7 \ 244) .
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 447 - رقم: 15849) .
(72/341)
(وفي رواية عنه يقتل وإن لم يؤذ؛ لما ورد في الأمر بقتله. ولعل الأخير هذا الأصح عنه؛ لما يؤيده من السنة النبوية في الأمر بقتله) .
- يكره أن يدخل الصيد من الحل إلى الحرم، ثم يذبح فيه فإن فعل فعليه الجزاء (1) ، ويكره أكله (2) .
(وكان عطاء يقول بجواز أكله ثم رجع عنه (3)) .
- من أرسل كلبه على صيد، فدخل الحرم، فدخل الكلب خلفه، فقتله، فعليه الجزاء (4) .
__________
(1) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 180) .
(2) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 424 - رقم 8309) وهو قول شيخه ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) مصنف عبد الرزاق (4 \ 424) .
(4) ذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 183) .
(72/342)
- من أحرم وخلف صيدا في بيته، فهلك، ضمنه (1) .
- إذا اشترك جماعة في الصيد فجزاء واحد، فإن أكلوا منه فعلى كل واحد منهم جزاء.
- من قتل صيدا فعليه ثمنه يشتري به دما، أو يقوم الثمن طعاما يتصدق به، لكل مسكين نصف صاع: أو يصوم لكل صاع يومين، وفي رواية عن عطاء لكل صاع أربعة أيام، أي: لكل مد يوما (2) وهو تفسير قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (3) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 353 - رقم: 14865) .
(2) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 396) والطبري (11 \ 36، 45) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 417) .
(3) سورة المائدة الآية 95
(72/343)
(روي عن عطاء التخيير بين الثلاثة الأشياء المذكورة في الآية، وروي عن عطاء أن الانتقال إلى الإطعام لمن لم يجد الهدي، والأول أشهر) .
- لا توقيت في الجزاء، أو الصيام، فمتى فعله أجزأ (1) .
- يجب أن يكون الدم والطعام بمكة، أما الصيام فحيث شاء (2) .
- من قتل صيدا ثم أكل منه، فعليه مع الجزاء قيمة ما أكل (3) .
(وفي رواية عن عطاء: عليه كفارتان (4)) .
- المضطر للصيد له أن يصيد، ولا جزاء عليه (5) .
- إذا ذبح المحرم صيدا لم يحل أكله لأحد، لا هو ولا غيره.
__________
(1) أخرجه الطبري (11 \ 41 - رقما: 12626، 12627) .
(2) أخرجه الطبري (11 \ 40 - الأرقام: 12623، 12624، 12625) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 428 - رقم: 8332) وابن أبي شيبة (3 \ 448 - رقم: 15864) .
(4) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 439) وذكره ابن قدامة (المغني: 5 \ 139) .
(5) أخرجه عبد الرزاق (4 \ 429 - رقم: 8334) .
(72/344)
- القارن كغيره في جزاء الصيد (1) .
- لا يختلف جزاء الصيد في العمد، والخطأ، والنسيان.
- يحكم على الصائد كلما صاد، وليس في المرة الأولى فقط.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3 \ 195 - رقم: 13377) .
(72/345)
متفرقات:
- يكره إخراج تراب الحرم، أو شجره، أو غيره إلى الحل.
(72/345)
- لكن يجوز أخذ الكمأة من الحرم (1) .
- يكره كراء (تأجير) بيوت مكة، وبيع شيء من رباعها.
- لا يجوز أخذ الطيب والكسوة من الكعبة إلا أن يوهب له، ويجوز أن يمسح الرجل بطيب يجلبه معه بالحجر الأسود ويأخذه للاستشفاء.
- يشرع شد الرحال إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى (2) .
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 3 \ 392 - رقم: 2281) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 104 - رقم: 1220) .
(72/346)
- يجوز تعدد صلاة الجماعة في المسجد الحرام، بعد صلاة الإمام (1) .
- يجوز النوم في المسجد الحرام. والوضوء فيه.
أجر التضعيف خاص بالمسجد الحرام، وليس كل مكة (2) .
__________
(1) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 113 - رقم: 1243) .
(2) أخرجه الفاكهي (أخبار مكة: 2 \ 134 - رقم: 1304) .
(72/347)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
فبعد أن قضينا هذه الجلسة العلمية بين يدي عالم كبير، هو إمام أهل مكة في زمن التابعين، وفقيههم، نهلنا من علمه الواسع في فقه المناسك، أرجو أن تكون هذه الدراسة قد حققت الفوائد المرجوة منها، وأن أكون قد وفقت في عرض ما وصل إلى علمه من مسائل عن الإمام عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى، بطريق مسند، مع ذكر الاختلاف عنه في بعض المسائل إن وجد.
(72/347)
وفي العصر الحاضر تشتد الحاجة إلى التعرف على آراء فقهاء السلف في مناسك الحج؛ وذلك لما تجدد من ظروف وطبيعة تستوجب النظر الدقيق من الفقهاء فيها، وقد اختلفت طبيعة الحج عما كان أيام السلف، من ضيق في الأمكنة نتيجة الزحام، مما ترتب عليه عدم كفاية بعض المشاعر لأعداد الحجيج، ومن ظروف السفر بالطائرة مكانا وزمانا، مما يترتب عليه وجوب النظر في درجة مشروعية الإحرام من المواقيت المكانية السابقة، ووقت الرمي ثاني أيام التشريق، ومن حج جماعات النساء وحدهن مع مشرفين عليهن غير محارم، ونحو ذلك من المسائل المتجددة.
وإذا كانت هذه القضايا لم تحدث في زمن التابعين، فإننا نجد في آرائهم الفقهية ما يمكن أن يستأنس به الباحث والفقيه، في الاجتهاد المعاصر.
ومن ذلك عن عطاء: عدم اشتراط الطهارة للطواف، وجواز صلاة ركعتي الطواف في البيت أو أي مكان، وعدم اشتراط السعي، والتوكيل في الرمي، والرمي قبل الزوال في رواية، والتيسير في ترك المبيت بمنى، ونحو ذلك.
وليس بالضرورة أن تكون هذه الآراء راجحة، ولكنها تتقوى إن عضدها أقوال فقهاء آخرين، أو دعت الحاجة الماسة إليها، بعموم
(72/348)
البلوى، أو بحصول الحرج.
وأخيرا أقترح أن تتم هذه الدراسة بما يلي:
أولا: أن تستوعب أقوال الإمام عطاء بن أبي رباح في موسوعة فقهية، على غرار ما قام به الباحث الدكتور \ محمد رواس قلعجي في موسوعاته المشهورة القيمة.
ثانيا: أن تستكمل هذه الدراسة بتنقيح أقوال الإمام عطاء في مناسك الحج، ثم ترفع للهيئات العلمية للنظر فيها فيما يناسب العصر، كهيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه الإسلامي ومركز الملك فهد لأبحاث الحج.
ثالثا: أن يتبع هذا البحث ببحث آخر حول فقه ابن عباس رضي الله عنهما في أبواب الحج، بعنوان: منسك ابن عباس، حيث إنه أعلم الأمة بالمناسك، بشهادة الصحابة رضي الله عنهم.
والله تعالى أسأل أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح وأن يصلح أحوال المسلمين، ويرفع رايتهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
(72/349)
صفحة فارغة
(72/350)
التأصيل الفقهي للتورق في ضوء الاحتياجات التمويلية المعاصرة
لفضيلة الشيخ \ عبد الله بن سليمان المنيع (1)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله ولو كره المشركون، والشكر لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فهذا بحث عن التأصيل الفقهي للتورق في ضوء الاحتياجات التمويلية المعاصرة وتشمل على العناصر التالية:
1 - مفهوم التورق والفرق بينه وبين المصطلحات ذات الصلة - العينة.
2 - حكم التورق في الاجتهاد القديم والمعاصر، الفردي والجماعي.
3 - حاجة الحياة الاقتصادية المعاصرة إلى السيولة وأثرها في
__________
(1) عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
(72/351)
حكم التورق جوازا توسعا.
4 - التواطؤ - التفاهم - على التورق في معاملة واحدة، أو معاملة تالية لإطفاء مديونية معاملة سابقة مماثلة وأثره في حكمه.
5 - التفاهم على عملية جديدة كالمضاربة بين البائع بالأجل والمتورق لاستخدام حصيلة التورق وأثره في حكمه.
6 - توكيل عميل للمصرف الإسلامي بالبيع النهائي - بيع التورق.
7 - التورق بالبيع لمن ابتاع منه البائع بالأجل وأثره على مفهومه وحكمه.
تطبيقات التورق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي:
1 - الآليات العملية للتورق ومدى انضباطها.
2 - التورق في مرابحات السلع الدولية مع المؤسسات المالية.
3 - التورق عند تعذر التمويل بصيغة أخرى.
4 - التورق لتمكين العملاء في سداد مديونياتهم لدى المصارف التقليدية والانتقال منها إلى التعامل مع المصاريف الإسلامية.
5 - التورق لتشجيع العملاء على الاستثمار لدى المصارف الإسلامية - في الصناديق الاستثمارية وغيرها.
6 - التورق كصيغة تمويل عامة تقوم إلى جانب الصيغ الأخرى.
(72/352)
7 - أثر التوسع في التورق على الصيغ الأخرى من حيث الاستخدام والابتكار.
8 - أثر التوسع في التورق على فلسفة المصارف الإسلامية ومستقبلها.
أسال الله أن يمدني بعونه ورعايته وتوفيقه والفهم في خصائص هذا البحث وعناصره فهو حسبي فنعم المولى ونعم النصير:
(72/353)
1 - مفهوم التورق والفرق بينه وبين العينة:
التورق طلب الورق، ومثله في الطلب التفقه والتعلم والترفق والورق هو النقد من الفضة.
قال في تاج العروس: ((الورق الدراهم المضروبة كما في الصحاح. وقال أبو عبيدة: الورق الفضة كانت مضروبة كالدراهم أو لا ومن ذلك قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} (1) أي: بدراهمكم)) اهـ.
فأصل التورق طلب النقود من الفضة، ثم تحول المفهوم إلى طلب النقد سواء أكان فضة أو ذهبا أو عملة ورقية، فبقي أصل اللفظ، وصار التوسع في مدلوله تبعا للتوسع في مفهوم النقد.
أما المفهوم الاصطلاحي: فهو تصرف المحتاج للنقد تصرفا
__________
(1) سورة الكهف الآية 19
(72/353)
يبعده من الصيغ الربوية، ويمكنه من تغطية حاجته النقدية وذلك يشتري سلعة قيمتها مقاربة لمقدار حاجته النقدية مع زيادة في ثمنها لقاء تأجيل دفع قيمتها، ثم يقوم ببيعها بثمن حال ليغطي بذلك الثمن حاجته القائمة، وبشرط ألا يبيعها على من اشتراها منه.
وقد عرفه مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بقراره الخامس في دورته الخامسة عشرة المنعقدة ابتداء من يوم السبت 11 رجب 1419هـ - بقوله: ((إن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيع المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد " الورق ")) اهـ.
ولم يعرف التورق في الاصطلاح الفقهي بهذا الاسم إلا عند الحنابلة. قال في كشاف القناع للبهوتي: ((ولو احتاج إنسان إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين مثلا فلا بأس بذلك نص عليه وهي أي هذه المسألة تسمى مسألة التورق من الورق وهي الفضة)) (1) اهـ.
أما لدى المذاهب الأخرى فتبحث مسألة التورق في مسألة العينة.
ويسميه الشافعية بالزرنقة.
والفرق بين التورق والعينة هو أن بيع العينة هو أن يشتري
__________
(1) الجزء الثالث، ص 186.
(72/354)
محتاج النقد سلعة من أحد الناس بثمن مؤجل ثم يبيعها بثمن حال أقل من ثمنها المؤجل على من اشتراها منه، وسميت بالعينة؛ لأن عين السلعة التي باعها رجعت إليه بعينها فهي محرمة؛ لأنه يغلب على الظن أنها اتخذت حيلة للتوصل بها إلى الربا فصارت بذلك محرمة لدى كثير من أهل العلم.
وأما التورق فهو أن يشتري محتاج النقد سلعة من أحد الناس بثمن مؤجل ثم يبيعها بثمن حال، الغالب أنه أقل من ثمنها المؤجل وذلك على غير من اشتراها منه لينتفي بذلك غلبة الظن بالتحيل بهذا البيع إلى الربا فصار بذلك بيعا صحيحا جائزا. حيث إن السلعة لم تعد إلى بائعها وإنما اشتراها طرف ثالث.
(72/355)
2 - حكم التورق:
اختلف العلماء رحمهم الله في حكم التورق فذهب جمهورهم إلى جوازه لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ووجه الاستدلال بذلك أن الله تعالى أحل جميع صور البيع إلا ما دل دليل على تحريمه حيث جاءت الآية الكريمة بلفظ العموم في كلمة البيع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) والعموم في ذلك مستفاد من الألف واللام الدالة على استغراق جميع أنواع البيع وصيغه إلا ما دل الدليل على تخصيصه من العموم بتحريم أو كراهة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(72/355)
والتورق من البيوع المشمولة بالعموم في الحل فيبقى على أصل الإباحة والحل وأنه نوع من البيوع المباحة بنص الآية الكريمة، إذ لا دليل على تحريمه من نص صريح من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم.
كما استدلوا على الإباحة والجواز بما في الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (1) » .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث إجازة هذا المخرج للابتعاد بواسطته عن حقيقة الربا وصورته إلى طريقة ليس فيها قصد الربا ولا صورته وإنما هي عقد بيع صحيح مشتمل على تحقق شروط البيع وأركانه وانتفاء موانع بطلانه أو فساده ولم يكن قصد الحصول على التمر الجنيب والأخذ بالمخرج إلى ذلك مانعا من اعتبار الإجراء الذي وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على جواز البيوع التي يتوصل بها تحقق المطالب والغايات من البيوع إذا
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(72/356)
كانت بصيغ شرعية معتبرة بعيدة عن صيغ الربا وصوره ولو كان الغرض منها الحصول على السيولة للحاجة إليها.
كما استدلوا على جواز ذلك بما أخذ به جمهور أهل العلم في أن الأصل في المعاملات الحل، وأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل دليل على حرمته. ومما يدخل في ذلك بيوع التورق وهذا يعني أن القائل بجواز التورق لا يطالب بدليل على قوله؛ لأن الأصل معه، وإنما المطالب بالدليل من يقول بحرمة التورق؛ وحيث إنه يقول بخلاف الأصل فعليه الدليل على تخصيص عموم الجواز بالتحريم.
وقد قال بجوازه مجموعة من أهل العلم.
قال في الإنصاف: ((وهو المذهب وعليه الأصحاب)) (1) . اهـ.
وقال في الروض المربع: ((ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس وتسمى مسألة التورق)) (2) اهـ.
وقال في كشاف القناع: ((ولو احتاج إنسان إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين مثلا فلا بأس بذلك نص عليه وهي أي هذه المسألة تسمى مسألة التورق من الورق وهي الفضة)) (3) اهـ.
__________
(1) الجزء الرابع، ص 237.
(2) الجزء الرابع، ص 388 مع حاشية ابن القاسم.
(3) الجزء الثالث، ص 186.
(72/357)
وصدر بجوازه قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة ابتداء من يوم السبت 11رجب 1419هـ - جاء فيه ما نصه ((إن بيع التورق هذا جائز شرعا وبه قال جمهور العلماء؛ لأن الأصل في البيوع الإباحة؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ولم يظهر في هذا البيع ربا لا قصد ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو زواج أو غيره) . اهـ.
وجاء فيه ((جواز هذا البيع مشروط بأنه لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول مباشرة ولا بواسطة فإن فعل فقد وقع في بيع العينة المحرم شرعا لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدا محرما)) اهـ.
وصدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية - وبعد أن ذكر في الفتوى صورة المسألة - جاء فيها ما نصه: " وهذا العمل لا بأس به عند جمهور العلماء " اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما نصه: " جمهور العلماء على إباحته سواء من سماه تورقا وهم الحنابلة، أو لم يسمه بهذا الاسم وهم من عدا الحنابلة؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) «ولقوله صلى الله عليه وسلم لعامله على خيبر: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (3) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، سنن ابن ماجه التجارات (2256) ، موطأ مالك البيوع (1314) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(72/358)
ولأنه لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته. وكرهه عمر بن عبد العزيز ومحمد بن الحسن الشيباني. وقال ابن الهمام: هو خلاف الأولى. واختار تحريمه ابن تيمية وابن القيم لأنه بيع المضطر والمذهب عند الحنابلة إباحته)) اهـ.
وقال شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله جوابا منه لمن سأله عن حكم التورق قال: ((هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها - ثم قال بعد أن ذكر خلاف من خالف في الجواز - والمشهور من المذهب جوازها وهو الصواب)) (1) . اهـ.
وقال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه: لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه، وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها، فهذا المعاملة تسمى مسألة (تورق) ويسميها بعض العامة (الوعده) ، وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين: أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة؛ لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها؛ لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه.
__________
(1) فتاوى ورسائل، الجزء السابع، ص 61.
(72/359)
بدون ربا؛ لدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة. فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا. اهـ.
ثم قال: أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع اهـ (3) .
وقال في مجموع الفتاوى ما نصه: أما إذا كان المشتري اشترى السلعة إلى أجل ليبيعها بنقد بسبب حاجته إلى النقد في قضاء الدين أو لتعمير مسكن أو للتزويج ونحو ذلك، فهذه المعاملة إذا كانت من المشتري بهذا القصد ففي جوازها خلاف بين العلماء. وتسمى عند الفقهاء مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة (الوعدة) والأرجح فيها الجواز وهو الذي نفتي
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) مجموع مقالات وفتاوى 19 \ 50، 51.
(72/360)
به، لعموم الأدلة السابقة، ولأن الأصل في المعاملة الجواز والإباحة إلا ما خصه الدليل بالمنع، الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا؛ لأن المحتاج في الأغلب لا يجد من يساعده في قضاء حاجته بالتبرع ولا بالقرض فحينئذ تشتد حاجته إلى هذه المعاملة حتى يتخلص مما قد شق عليه في قضاء دين ونحوه اهـ (1) . وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى في فتواه بين التفريق بين صور من الربا ومن ذلك العينة ومسألة الورق قال: وأما مسألة التورق فليست من هذا الباب وهي أخذ سلعة بدراهم إلى أجل ثم يبيعها هو بنقد في يومه أو غده أو بعد ذلك على غير من اشتراها منه.
والصواب حلها؛ لعموم الأدلة ولما فيها من التفريج والتيسير وقضاء الحاجة الحاضرة. أما من باعها على من اشتراها منه فهذا لا يجوز بل من أعمال الربا وتسمى مسألة العينة وهي محرمة، لأنها تحيل على الربا. وهو بيع جنس بجنسه متفاضلا نسيئة أو نقدا، وأما التورق فلا بأس به كما تقدم وهو شراء سلعة من طعام أو سيارة أو أرض أو غير ذلك بدراهم معدودة إلى أجل معلوم ثم بيعها على غير من اشتراها منه بنقد ليقضي حاجته من زواج أو غيره اهـ (2) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن التورق لا يجوز؛ لأن القصد
__________
(1) مجموع مقالات وفتاوى، 19 \ 99.
(2) مجموع مقالات وفتاوى لسماحة الشيخ 19 \ 245، 246.
(72/361)
من التعامل به الحصول على النقد حيث إنه يئول إلى شراء دراهم بدراهم زائدة وأن السلعة واسطة غير مقصودة. وممن قال بعدم جوازه: عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن الحسن الشيباني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - نقلا من الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فيما جاء في فتواه -: ((إذا لم يكن للمشتري حاجة في السلعة، بل حاجته إلى الذهب والورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين الذي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا شك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق. وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول: التورق أخو الربا، وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد روايتان)) اهـ. وقال ابن القيم عن التورق: ((هو كمسألة العينة سواء ولأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا)) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في موضع آخر: ((وعن أحمد فيه روايتان. وأشار في رواية إلى أنه مضطر وكان شيخنا رحمه الله - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يمنع من مسألة التورق وروجع فيه مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينة مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه)) (1) اهـ.
__________
(1) إعلام الموقعين: الجزء الثالث، ص22.
(72/362)
ويستخلص من حجج القائلين بتحريم التورق ما يلي:
أولا: أنه مسلك اضطراري لا يأخذ به إلا مكره عليه، أو مضطر إليه وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (1) » . رواه أبو داود.
ثانيا: حقيقته وأيلولته إلى الربا حيث إن غرض طرفي التعامل به الحصول على نقد بنقد زائد مؤجل والسلعة بين النقدين وسيلة لا غاية فهو منطبق على قول بعض الفقهاء درهم بدرهمين بينهما حريرة.
ثالثا: أن الغرض من التعامل به الحصول على النقد والسلعة وسيلة وليست غاية. فهو يشبه العينة التي قال جمهور أهل العلم بتحريمها حيث إن الغرض والوسيلة إليه فيهما واحدة.
ويمكن مناقشة هذه الحجج بما يلي:
أولا: القول بأن التورق لا يأخذ به إلا مضطر وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (2) » . قول فيه نظر ولا تظهر وجاهة الاستدال عليه بحديث النهى عن بيع المضطر؛ لأن الاستدال به استدال في غير محله؛ حيث إن حقيقة التورق ظهور الرغبة من صاحبها في الحصول على نقد يغطي به حاجته إليه سواء أكانت الحاجة مما تقتضيها مصلحته في الاكتساب أم مما تقتضيها حاجته في شئون حياته من شراء مسكن أو سيارة أو زواج أو غير
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(72/363)
ذلك وهذا لا يعد اضطرارا إلى الحصول على النقد وإنما الرغبة في الحصول عليه لسداد حاجته، والرغبة حاجة وليست ضرورة، وحصوله على النقد لا يتصور إلا بإحدى طرق أربع هي:
أ - حصوله على من يهب له ذلك المبلغ. والحصول عليه بهذه الطريقة أمر مستبعد.
ب - وجود من يقرضه ذلك المبلغ قرضا حسنا. وهذا كذلك غير متيسر في الغالب لا سيما إذا كان محتاجا إلى مبلغ كبير لتوسع نشاطه التجاري أو مضاعفة نشاطه الصناعي أو الزراعي أو نحو ذلك.
ج - لجوءه إلى المصارف الربوية لأخذ حاجته من النقود بالتعامل الربوي وهذا محرم ولا يجوز.
د - تحصيله حاجته من النقود بطريقة بيع التورق. وهذا أمر متيسر وقد قال جمهور أهل العلم بجوازه ولم نر أحدا منهم قال بتقييد الجواز بحاجة ملحة أو اضطرار أو تخصيصه لفئة معينة دون الأخرى أو لأحوال خاصة. فرغبته في الحصول على المبلغ حاجة وليست ضرورة فلا يشمله النهى عن بيع المضطر. وفي نفس الأمر بالرجوع إلى شراح هذا الحديث لم نر أحدا منهم ذكر أن بيع التورق من بيوع الاضطرار، وأن النهي يشمله، فسقط بهذا القول بأن بيع التورق من بيوع الاضطرار المنهي عنها.
ثانيا: القول بأن حقيقة التورق أيلولته إلى الربا حيث إن
(72/364)
غرض طرفي التعامل الحصول على نقد بنقد مؤجل والسلعة واسطة بين النقدين وهو منطبق على قول بعض أهل العلم: درهم بدرهمين وبينهما حريرة.
هذا القول فيه نظر ولو أردنا أن نطبق حال من احتاج إلى نقد وسلك في سبيل تحصيله مسالك الحصول عليه في بيوع المرابحة أو المشاركة المتناقصة، أو بيوع السلم، أو غير ذلك من وسائل الحصول على الاستزادة من النقود مما هو جائز شرعا لقلنا بمنع ذلك؛ لأن قصده الحصول على النقد بواسطة شراء السلع ثم بيعها.
وهذا لا يقول به أحد، ثم إن تطبيق بيع التورق على مسألة: درهم بدرهمين وبينهما حريرة تطبيق مع الفارق ذلك أن الحريرة لا تساوي قيمتها الدرهم الزائد وإنما جيء بها للتحليل، أما التورق فالرعب في النقد يشتري سلعة بثمن مؤجل هو مثل ثمن من يبيعها على آخر بيعا مؤجلا، ثم إن مشتريها يبيعها في السوق بثمن مثلها فظهر بهذا الفرق بين المسألتين.
ثالثا: أما القول بأن الغرض من التعامل بالتورق الحصول على النقد.
والسلعة وسيلة وليست غاية. فهو يشبه العينة التي قال الجمهور بتحريمها، فلا يخفى أن جميع وسائل التجارة من بيع وشراء ومشاركة ومرابحة وغير ذلك من آليات الاستثمار الغرض من استخدامها وممارسة التجارة عن طريقها الحصول على النقود والاستزادة منها.
(72/365)
وجميع هذه الآليات وسيلة ذلك، كما لا يخفى أن التورق يختلف عن العينة، حيث إن العينة معناها رجوع السلعة إلى من باعها حيث إنه لم يبعها إلا باعتبار رجوعها إليه وحصوله على رغبته في أن تكون المائة مائة وعشرين دون فوات سلعته عليه، فضلا عن أن هاتين البيعتين - بيعة البائع على المشتري، وبيعة المشتري على البائع - بيعتان في بيعة واحدة وقد «نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (1) » واحدة وفسرها بعض المحققين من أهل العلم ومنهم ابن القيم - رحمه الله - بأنها العينة بخلاف التورق، فإن السلعة التي باعها البائع على الراغب في الشراء تورقا لن ترجع للبائع حيث إن شرط بيع التورق ألا يبيع المشتري السلعة على من باعها عليه فإن باعها عليه فهي العينة المحرمة.
فلم يبق من حجج القول بتحريم التورق إلا القصد - قصد المشتري النقد دون السلعة - وهذا القصد لا يعتبر سببا في القول بالتحريم فقد وجه صلى الله عليه وسلم عامله لتحقيق قصد الحصول على الجنيب من التمر بأن يبيع الجمع ويشتري بثمنه جنينا ولم يكن هذا القصد مانعا من صحة هذا التصرف والأخذ بهذا المخرج الصحيح.
وقد وجد من بعض فقهاء عصرنا هاجس حذر من التوسع في الأخذ بالتورق من قبل المصارف الإسلامية ويظهر لي أنه هاجس
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(72/366)
وسواس وإن اعتقد أهله أنه هاجس تقوى وورع.
فما هو المحذور من توسع البنوك الإسلامية في ممارسة الاستثمار عن طريق بيوع التورق، والحال أنها بيوع توفر لذوي الحاجات بها تأمين حاجتهم من النقود، وتقيهم من بلاوي الربا ومضاعفاته، وتيسر لهم الحصول على ما يحتاجونه من سلع ومنافع وخدمات وهم بذلك في الغالب يختارون التورق طريقا للحصول على النقد محض الإرادة والاختيار، لا على سبيل الاضطرار.
وإني لأعجب حتى نهاية العجب من قول بعضهم: إن قلنا بجواز بيع التورق للأفراد ومن الأفراد لتغطية حاجاتهم فلن نقول بذلك للبنوك؛ لأن ذلك هو غايتهم من تكثير نقودهم وليس لهم غاية في السلع وتداولها.
والرد على هؤلاء أليست البنوك شخصيات اعتبارية لها حكم الأشخاص الطبيعيين في مخاطبتهم بأحكام الإسلام في المعاملات المالية؟ والإسلام لا ينظر في تشريعاته من وجوب وحظر واستحباب وكراهة وإباحة إلى الأشخاص فيفرق بينهم في الحكم فهذا يجوز له ما لا يجوز لأخيه وهذا يحرم عليه ما يصح لأخيه وإنما أحكامه مبينة من حيث الحظر والإباحة والتصحيح والبطلان على وجود مقتضى الحكم فإن كانت المصالح غالبة كان الحكم بالإباحة، وإن كانت المضار غالبة كان الحكم بالحظر. ومتى كان الحكم جائزا فهو جائز
(72/367)
في حق الأفراد والجماعات بغض النظر عن حال من تعلق به الحكم، وقد صحت مجموعة من المعاملات بين المسلمين وغيرهم ولم يكن اختلاف المتعاملين في العقيدة أو الاتجاه أو المسلك سببا في تغير الحكم من جواز إلى حظر أو صحة إلى فساد أو بطلان ما دام الحكم متفقا مع أصول الإسلام وقواعده ونصوصه.
فالتورق مادام جائزا في حكم الأفراد ومن الأفراد لتغطية حاجاتهم من النقود فلماذا لا يجوز في حق البنوك والمؤسسات المالية، بل قد يكون جوازه في حق البنوك آكد؛ لأنه بديل عن الربا الذي هو محل نشاطهم ومثار قلق بعضهم من ممارسته وتشوفهم إلى بديل عنه وفي نفس الأمر بيع التورق بيع صحيح مستكمل جميع أركانه وشروطه ومنتفية عنه موانع فساده أو بطلانه والقول بأن غرض البنوك منه تحصيل النقود وتنميتها وليس لهم غرض في السلع وتداولها يرد عليه بأن طريق بيوع التورق هو شراء السلع وبيعها واستقرار أثمانها في الذمم دون زيادة بعد إبرام العقود بها. ويمكن أن يرد على هذا القول أيضا بما جاء في فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بجواز بيع التورق من قوله: وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، إنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع
(72/368)
والشراء من شخص واحد كمسألة العينة اهـ. مجموع فتاوى ج19 ص50.
الترجيح:
الذي يظهر لي - والله أعلم - جواز بيع التورق؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ولأن العين المشتراة لم ترجع إلى البائع الأول حتى يقال بأنه من العينة، وكذلك فإن تقتضيه؛ حيث إن محتاج النقد لا يستطيع تأمين حاجته في الغالب إلا بإحدى طرق أربع:
إحداها: الاقتراض من غيره قرضا حسنا، وهذا الغالب عدم تيسره، فإن تيسر القرض الحسن لبعض الناس فغالبهم لا يتيسر له ذلك.
الثانية: أن يقترض قرضا ربويا وهذا ممنوع بإجماع أهل العلم ممن يعتد به.
الثالثة: الحصول على ذلك بطريقة الهبة وهذه كالطريقة الأولى، الغالب عدم تيسرها، فإن تيسرت لبعض الناس وما أقلهم فغالبهم لا تتيسر له.
الرابعة: الحصول على النقد بطريق بيوع التورق.
ونظرا إلى أن بيع التورق بيع صحيح حيث تتحقق فيه شروط البيع، وأركانه، واعتبار صحته، وانتفاء موانعه، فليس القصد منه الربا، ولا أنه صورة من صوره، ولأنه يغطي حاجة يقتضيها عنصر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(72/369)
التيسير والسماحة فهو بدل شرعي عن التمويلات الربوية المحرمة.
ولأن الأصل في المعاملات الإباحة فلا يحرم منها إلا ما دل الدليل على تحريمه ولا دليل على ذلك. ولانتفاء النص من الكتاب أو السنة أو عمل الصحابة على تحريمه. وما ذكره القائلون بتحريمه فقد تقدمت مناقشته والإجابة عنه بما أسقط الاستدال به على التحريم أو الكراهة والله تعالى أعلم.
(72/370)
3 - حاجة الحياة الاقتصادية المعاصرة إلى السيولة وأثرها في حكم التورق جوازا أو توسعا.
لا شك أن الحياة الاقتصادية بوضعها المعاصر والمتجدد تقتضي الحصول على السيولة الكافية لمتطلبات السوق والعمل والإنتاج.
ولا يخفى أن الحاجة إلى السيولة لتغطية متطلبات الاقتضاء الاقتصادي المعاصر ليست كالحاجة إليها فيما مضى من حيث الحجم ومن حيث الطلب ومن حيث تتابع وتطور المستجدات، وقد أوجدت الحاجة إلى السيولة مؤسسات مالية نشاطها الأساسي توفير السيولة لمريديها بأي صيغة من صيغ التعامل، والغالب أن يتكون صيغة ربوية وقد تحرج من الأخذ بهذه الصيغة الربوية كثير من أهل التقوى والصلاح والإيمان بالله ربا ومشرعا ومحاسبا سواء أكان ذلك التحرج من الآخذ أو من المعطي - المقرض أو المقترض فنشأت المؤسسات الإسلامية المالية، وقامت بإيجاد صيغ للتمويل.
(72/370)
وباستخدام صيغ أخرى معروفة لدى فقهائنا الأقدمين ومنها بيع التورق فاتجه إليه مجموعة من الأفراد والشركات والمؤسسات واستعاضوا به عن القروض الربوية.
ولا شك أن هذه الصيغة غطت الكثير من الاحتياج ووفرت السيولة الكافية بطريقة شرعية تتصف بالحل والإباحة على سبيل الجواز الاختياري لا على سبيل الجواز الاضطراري فالحمد لله الذي هدانا لدين تتصف تشريعاته بالعدل والقناعة العقلية وبالاستقصاء والشمول بما في أصوله وقواعده من حل لكل مشكلة في كل زمان ومكان.
(72/371)
4 - التواطؤ على التورق في معاملة واحدة أو في معاملة تالية لإطفاء مديونية سابقة مماثلة وأثره في الحكم.
لعل مفهوم من التواطؤ على التورق في معاملة واحدة أن يشتري أحد الناس سلعة من آخر بثمن مؤجل لغرض بيعها والانتفاع بثمنها دون أن يكون له غرض في سداد مديونية عليه لمن باعه فإذا كان هذا هو المفهوم فلا يظهر لي مانع في إجازة هذا البيع ولو كان غرض المشتري الانتفاع بالثمن ولكن بشرط ألا يبيع السلعة على من باعه إياها بحيث تكون من بيوع العينة.
وسواء أكان ذلك عن طريق تواطؤ بين الطرفين وذلك بإفصاح المشتري عن رغبته إلى البائع للانتفاع بثمن ما اشتراه منه أو
(72/371)
لم يكن عن طريق تواطؤ حيث إن هذا البيع لا يخرج عن مسمى البيع الحلال لانتفاع القصد والتحيل به إلى الربا ولانتفاع صورة الربا في ذلك.
وأما إذا كان الغرض من التورق إطفاء مديونية سابقة للبائع على المشتري فهذا ما يسمى بقلب الدين على المدين، وقد أفتى مجموعة من أهل العلم بمنع ذلك لما يفضي إليه من نتيجة ما يفضي إليه المسلك الجاهلي من أخذهم بمقتضى: أتربي أم تقضي؟
ولما في ذلك من مخالفة صريحة لأمر الله بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) فالأمر في الإنظار يقتضي الوجوب.
وممن قال بمنع ذلك مجموعة من علماء السلف ومنهم الإمام مالك رحمه الله، فقد سئل الشيخ عبد الله أبابطين عن حكم قلب الدين فأجاب بإجابات متعددة ومن إجاباته رحمه الله ما نصه: ((ونذكر لكم صورة من صور قلب الدين ذكرها الإمام مالك في الموطأ يفعلها بعض الناس إذا صار له على آخر مائة مثلا وطلبها منه قال: ما عندي نقد لكن بعني سلعة بثمن مؤجل كما يقول بعضهم العشر اثني عشر فيبيعه سلعة بمائة وعشرين مؤجلة تساوي مائة نقدا ثم يبيعها المشتري ويعطيه ثمنها مائة. قال مالك رحمه الله: في الرجل يكون له على الرجل مائة
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(72/372)
دينار إلى أجل فإذا حلت قال الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل))
قال مالك: هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه.
قال إنما كره ذلك، لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره له آخر مدة ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه. فهذا مكروه ولا يصلح وهو يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا للذي عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي " فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل " اهـ.
ثم ذكر الشيخ عبد الله أبابطين " أن السلف يعبرون كثيرا بالكراهية فيما هو محرم عندهم " (1) اهـ.
وقد قال بمثل هذا القول مجموعة من علماء نجد وغيرهم لما يترتب على ذلك من أيلولة هذه الصورة إلى ربات الجاهلية المشتمل على الظلم والعدوان واستغلال الاضطرار والإكراه والضعف ويمكن أن يخص هذا الحكم بقلب الدين على المدين المعسر.
أما إذا كان الدين على مليء إلا أنه في حاجة إلى الاستزادة من التمويل لتوسيع نشاطه الاستثماري فهذه الحال محل نظر واجتهاد. وقد أجاز هذه الصورة مجموعة من الهيئات الرقابية
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية: الجزء الخامس، ص 68.
(72/373)
الشريعة للمؤسسات المالية لانتفاء المحاذير الشريعة في الاضطرار وفي استغلال الضعف والحاجة ولانتفاء صورة الربا وحقيقة.
(72/374)
5 - التفاهم على عملية جديدة كالمضاربة بين البائع بالأجل والمتورق لاستخدام حصيلة التورق وأثر ذلك على جواز التورق.
صورة هذا التفاهم أن يرغب أحد الناس الدخول مع مضارب في مضاربة إلا أنه ليس لديه مبلغ ليضارب به فيطلب من المضارب أن يبيعه سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها المشتري بثمن حال على غير البائع - المضارب - ثم يعطيه ثمنها ليكون رأس مال مضاربة معه.
هذه الصورة لا يظهر لي فيها ما يؤثر على جواز التورق لهذا الغرض لانتفاء المحاذير الشرعية من أيلولتها إلى الربا إذ لا إكراه ولا اضطرار ولا استغلال ضعف ولا حاجة وإنما تستخدم هذه الصورة على سبيل الاختيار واعتبار المصلحة، والناس أحرار في مسالكهم فيما يتعلق بتحقيق مصالحهم لذا لم يكن في ذلك إثم بمخالفة شرعية لنص أو إجماع.
(72/374)
6 - توكيل العميل للمصرف الإسلامي بالبيع النهائي - ببيع التورق -:
لا يخفى أن الأصل في الوكالة الجواز وحيث إن العميل قد ملك السلعة التي اشتراها لغرض التورق ملكا تاما فله حق التصرف فيها. إما باستخدامها أو بمباشرته بيعها أو بتوكيل البنك الذي
(72/374)
اشتراها منه ليبيعها له أو بتوكيل من شاء غير البنك على بيعها وعليه فلا يظهر لي مانع من جواز توكيل العميل البنك في بيعه السلعة ولا محذور في ذلك شرعا غير أنه يجب ألا تباع السلعة على من اشتريت منه لكون ذلك من بيوع العينة المحرمة.
(72/375)
7 - التورق بالبيع لمن ابتاع من البائع بالأجل وأثره على مفهومه وحكمه.
هذه الصورة مثالها أن يشتري زيد من الناس سيارة بثمن معين يجري سداده للبائع خالد، ثم يبيع زيد هذه السيارة على بكر بثمن مؤجل وعلى سبيل التورق، ثم يبيع بكر هذه السيارة على خالد البائع الأول بحيث ترجع السيارة إلى بائعها الأول خالد، هذه الصورة لا يظهر لي مانع جوازها وليست من بيوع العينة حيث إن بيع العينة أن ترجع السلعة إلى بائعها بالأجل ببيع حال من قبل مشتريها منه بالأجل، وليس لهذه الصورة المذكورة أعلاه والتي هي مسألتنا أثر على صحة التورق بالتعامل بها، إلا أن يكون هناك تواطؤ واشتراط من قبل البائع الأول على طرفي بيع التورق أن تعاد إليه سلعته التي باعها على سبيل الشراء فهذا محل نظر واشتباه في أن تكون المعاملة من صور العينة وأن السلعة اتخذت وسيلة لتحقيق المديونية بما يشبه الربا فأرى منعها لذلك.
(72/375)
وهناك مجموعة استفسارات على تطبيقات التورق واستخدامه في العمل المصرفي منها ما يلي:
1 - الآليات العملية للتورق ومدى انضباطها:
سبق وأن ظهر لنا من تعريف التورق بأنه صورة يتوصل بها إلى الحصول على سيولة تغطي الحاجة إليها سواء أكانت الحاجة من فرد أو مؤسسة أو شركة وذلك عن طريق الشراء بالأجل والبيع بالعاجل مع شرط عدم البيع على البائع الأول لئلا تعود إليه سلعته فتكون من بيوع العينة المحرمة.
وعليه فلا يظهر لي أن للتورق آليات يحتاج الأمر فيها إلى الانضباط وإنما هي صورة واحدة يكون أطرافها أفرادا أو مؤسسات وقد تكون الحاجة إليه ملجئة كالاضطرار لسداد مديونية سابقة، وقد تكون الحاجة إليه اختيارية غير ملجئة كالحاجة إلى الاستزادة من السيولة للتوسع في استخدامها، وقد سبق فيما مضى في البحث أن تحدثنا عن هذه الأحوال وحكمها وأثرها على جواز بيع التورق.
(72/376)
2 - التورق في مرابحات السلع الدولية مع المؤسسات المالية:
لا يخفى أن التورق وسيلة شرعية للحصول على السيولة المطلوبة بصيغة بعيدة عن التسهيلات الربوية، ولعل المقصود بالتورق في المرابحات أن يكون البيع بالأجل على سبيل المرابحة بحيث يشتري طالب التمويل البضاعة بما قامت به من ثمن وبزيادة ربح يتفق عليه
(72/376)
بين الطرفين ثم يبيعها مشتريها بثمن حال على غير من اشتراها منه ليستفيد من ثمنها.
هذا النوع من التورق لا يظهر فيه مانع من اعتباره وجوازه سواء أكان على مستوى فردي أو محلي أو دولي وسواء أكان ذلك بين الأفراد أو بين المؤسسات المالية إذا كان البيع مما توافرت فيه أسباب اعتباره من أركان وشروط وانتفاء موانع بطلانه أو فساده.
(72/377)
3 - حكم التورق عند تعذر التمويل بصيغة شرعية أخرى:
من المعلوم أن التورق صيغة شرعية بديلة عن الاقتراض من البنوك بفائدة وهي صيغة يتحقق بواسطتها الحصول على التسهيلات النقدية، ومن المعلوم أيضا أن للتمويل صيغا شرعية متعددة تغطي الحاجة إليه مثل عقود المشاركات والتأجير وبيوع السلم وعقود الاستصناع وبيوع المرابحة بالإضافة إلى بيوع التورق فأي صيغة من هذه الصيغ الشرعية يجوز التمويل عن طريقها وليست أي صيغة من هذه الصيغ أولى من الأخرى بل كل صيغة يجوز التعامل بها وفق ما تقتضيه مصلحة طالب التمويل.
وبهذا لا يظهر لي القول بأن التورق بديل عن صيغ شرعية متعذرة وإنما هو قرين لصيغ شرعية معتبرة ومتيسرة.
(72/377)
4 - حكم التورق لتمكن العملاء من سداد مديونياتهم
(72/377)
لدى المصارف التقليدية والانتقال إلى التعامل مع المصارف الإسلامية:
الذي يظهر لي أن هذا التورق من صور قلب الدين وسبق في البحث الحديث عن حكم قلب الدين وأنه لا يجوز إذا كان المدين معسرا ولكن نظرا إلى أن القصد من ذلك هو التحول من التعامل مع البنوك الربوية إلى البنوك الإسلامية وأن في الأخذ بالتورق طريقا للتخلص من هذه البنوك الربوية ومديونياتها فقد لا يظهر لي مانع من الأخذ بالتورق للتخلص من هذه الديون الربوية والتمكن من الانتقال عنها إلى المؤسسات الإسلامية وقد يكون من تبرير ذلك الأخذ بقاعدة: ارتكاب ادني المفسدتين لتفويت أعلاهما.
(72/378)
5 - حكم التورق لتشجيع العملاء على الاستثمار لدى المصارف الإسلامية:
لا يظهر لي ما يؤثر على جواز التورق لتشجيع العملاء على الاستثمار في الصناديق الاستثمارية الإسلامية لانتفاء المانع الشرعي من ذلك، حيث إن الهدف من التورق تحقيق المصلحة بحيث يتوفر لطالب التورق السيولة التي يستطيع استثمارها دون أن يكون وراء ذلك إكراه أو اضطرار أو استغلال لضعف أو حاجة.
(72/378)
6 - التورق كصيغة تمويل عامة تقوم إلى جانب الصيغ الأخرى:
سبق الحديث عن هذا العنصر وأن التورق صيغة من صيغ
(72/378)
التمويل والحصول على السيولة ذات الاحتياج وأنه جائز إلا أن يستخدم لقلب الدين على المدين المعسر، فهذا لا يجوز لتعارضه مع الأمر بإنظار المعسر إلى ميسرة قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(72/379)
7 - أثر التورق والتوسع في الأخذ به على الصيغ الأخرى من حيث الاستخدام والابتكار.
الواقع أن التورق يعتبر من صيغ الاستثمار من حيث قدرته على التمكن من توفير السيولة وقد يكون التورق بطريقة المرابحة، وقد يكون بطريقة المساومة إلا أنه صيغة شرعية استطاع به أهل الصلاح والتقوى أن يجدوا فيه بديلا عن القروض الربوية وقد كان للأخذ به أثر محسوس على تقلص القروض الربوية سواء أكانت قروضا شخصية أم قروض شركات أو مؤسسات، وقد كان لأحد البنوك السعودية توسع في استخدمه كوسيلة تمويل وتسهيل وذلك من خلال برنامجه " المطروح " فكان لاستخدامه أثر كبير في تقلص القروض الربوية في البنك حيث انحسرت نسبة نشاطها بمقارنتها بنسبة استخدام التورق إلى 70% بحيث استحوذ التورق على 70% من القروض الشخصية الربوية وبزيادة مستمرة.
وأما صيغ الاستثمار الأخرى من مرابحة أو مشاركة أو عقود سلم أو استصناع أو غير ذلك من الصيغ الشرعية مما يتعلق بالنشاط
(72/379)
الاستثماري فلم يكن لبيوع التورق أثر على هذه الصيغ حيث إنها صيغ توفر لأصحابها ما يريدونه من التورق نفسه وقد يكون لإيثارها على التورق أهداف الاشتراك في المسئولية تجاه الاستثمار مشاركة أو تيسيرا.
ولهذا لا يظهر لي أن للتورق آثارا على هذه الصيغ لا في الحال ولا في المستقبل وإنما أثره منحصر على القروض الربوية بتقليصها أو القضاء عليها إن شاء الله.
(72/380)
8 - أثر التوسع في التورق على فلسفة المصارف الإسلامية ومستقبلها.
لعل الحديث عن الفقرة السابقة قد تناول هذه الفقرة بشيء من الإجمال. وبسط ذلك أن المصارف الإسلامية تقوم على تحريك الأسواق التجارية بتقليب السلع وتوفيرها والمساهمة في إنتاجها مشاركة أو تمويلا شرعيا أو استقلالا في الاستثمار.
ومن المعلوم أن النقد عنصر هذه الفلسفة وأساس اعتبارها والتورق وسيلة من وسائل توفير النقد وتحصيله تحقيقا للفلسفة الاقتصادية للمصارف الإسلامية.
ومن المعلوم أيضا أن المصارف الإسلامية كانت في موقف عائق لقدرتها على الانطلاق بقوة لمزاحمة نشاط المصارف التقليدية
(72/380)
فجاء التورق محطما هذا العائق ليكون للمصارف الإسلامية القدرة على المزاحمة بل التفوق على نشاط المصارف التقليدية ذلك أن المجتمعات الإسلامية ذات إيمان بالله يدعوها إلى التطلع إلى تعامل إسلامي يبعدها عن آفات الربا وآثامه ظهر هذا جليا في تجربة أحد البنوك السعودية حيث استحوذت بيوع التورق على نسبة كبيرة من القروض الشخصية لدى القسم الربوي في البنك. وكان لتجربة البنك في التوسع بالأخذ ببيوع التورق ريادة للمصارف الأخرى فاتجهت بالأخذ به كصيغة استثمارية مطلوبة لمجموعة من شرائح المجتمع الإسلامي.
وخلاصة القول أن التورق يعتبر آلية ذات أثر فعال في سبيل تحقيق الفلسفة الاقتصادية لتوفير النقد وتحصيله وهو في نفس الأمر صيغة شرعية موفرة القدرة على الانطلاق بالاستثمارات الإسلامية إلى ما فيه تحقيق مصالح الكسب والنماء للمدخرات النقدية من أفراد ومؤسسات كما أنه صيغة بديلة بل هي بديل عن سندات الخزينة الحكومية إذ تحقق به تغطية الحاجة إلى السيولة النقدية وبصيغة شرعية تنتفي معها المحاذير الشرعية في إصدار السندات وتبادلها وبه تطيب نفوس كثير من أهل التورع والتقوى في جمعهم بين تحصيل السيولة بطريقة لا إثم فيها ولا عدوان وبين تمكنهم من الدخول بما توفره لهم
(72/381)
بيوع التورق من سيولة يستطيعون بها المشاركة في الاستثمارات والتجارة.
هذا ما تيسر إعداده والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(72/382)
حديث شريف
حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن عمير بن هانئ حدثه، قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس (1) » .
(متفق عليه واللفظ للإمام مسلم) .
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد بن حنبل (4/99) .
(72/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1)
(سورة الجمعة، الآية 2)
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(73/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر
(73/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
(73/3)
المحتويات
الافتتاحية
أخي المعلم ... أختي المعلمة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 29
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 39
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 49
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67
(73/4)
البحوث
أثر الالتزام في عقد الهبة لفضيلة الدكتور / سليمان بن عبد الله أبا الخيل 81
العناصر المكونة لصفة المالية عند الفقهاء لفضيلة الدكتور / صالح بن عبد الله اللحيدان 163
التورق المصرفي عن طريق بيع المعادن لفضيلة الدكتور / خالد بن علي المشيقح 235
الثبات للدكتورة / منيرة بنت محمد المطلق 329
(73/5)
صفحة فارغة
(73/6)
أخي المعلم. . أختي المعلمة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
من عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ إلى عموم إخوانه وأخواته من المعلمين والمعلمات: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . . أما بعد:
ففي هذه الأيام نستقبل عاما دراسيا جديدا نسأل الله عز وجل أن يجعله عام خير وبركة وعز للإسلام وأهله؛ وبهذه المناسبة أحببت أن أشارك إخواني وأخواتي المعلمين والمعلمات همهم وأتعاون معهم على تأدية رسالة التعليم على الوجه الذي يرضى رب العالمين، وذلك من خلال كلمات أبثها لإخواني وأخواتي نصيحة لوجه الله عز وجل، وتذكيرا لهم ببعض الجوانب التي رأيت أهمية التذكير بها؛ أسأل الله عز وجل أن ينفع بها ويجعلها خالصة لوجهه الكريم نافعة لعباده المؤمنين إنه سبحانه بر رؤوف رحيم.
(73/7)
أهمية العلم وفضله وفضل أهله:
يقول الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (3) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (4) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (5) .
ويقول سبحانه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (6) .
ويقول عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (7) .
ويقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (8) .
ويقول سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (9) .
ويقول عز من قائل سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (10) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (11) » أخرجه مسلم.
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2
(3) سورة العلق الآية 3
(4) سورة العلق الآية 4
(5) سورة العلق الآية 5
(6) سورة القلم الآية 1
(7) سورة طه الآية 114
(8) سورة المجادلة الآية 11
(9) سورة الزمر الآية 9
(10) سورة فاطر الآية 28
(11) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(73/8)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (1) » أخرجه مسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير (2) » .
وجاء في بعض السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر (3) » .
ومقام الأنبياء في أممهم مقام تعليم وإرشاد ودعوة ونبينا صلى الله عليه وسلم هو سيد المعلمين يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) .
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) سنن الترمذي العلم (2685) ، سنن الدارمي المقدمة (289) .
(3) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) .
(4) سورة الجمعة الآية 2
(73/9)
ويقول سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (1) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا (2) » أخرجه الإمام أحمد والإمام مسلم ولفظه «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا (3) » .
فهنيئا لكم إخواني وأخواتي هذا الطريق تسلكونه وهذا الفضل تحوزونه وهذه الرفقة في هذا الدرب تسيرون معهم وتنسبون إليهم وتأخذون ميراثهم صلوات ربي وسلامه عليهم.
فعليكم واجب شكر هذه النعمة وعليكم واجب الجد في أداء حقها والتخلص من تبعاتها وفقكم الله لكل خير.
__________
(1) سورة البقرة الآية 151
(2) صحيح مسلم الطلاق (1478) .
(3) صحيح مسلم الطلاق (1478) .
(73/10)
وطلب العلم المنوه بفضله قسمان:
ا- قسم يكون فرض عين على كل مسلم ومسلمة: وهو ما لا يسع المسلم جهله في أمور دينه من العقيدة الصحيحة وما يصحح به عبادته، وما يحتاج إليه في معاملته فما يجب على التاجر في تجارته ليس واجبا على غيره عينا وكذلك ما يجب على المزارع من العلم ليس كمثل غيره.
(73/10)
2 - وقسم يكون الأخذ به فرض كفاية وهو الزيادة من الفقه في الدين بنية رفع الجهل عن نفسه وتعليم إخوانه المسلمين والله تعالى يقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1) . ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » .
ومن العلوم التي يجب على الأمة بعمومها الأخذ بها ولا تجب وجوبا عينيا على كل مسلم، العلوم العصرية والدنيوية التي بها قوام الأمم في أمور معيشتهم وبها يكون النهوض والقوة من علوم تقنية أو اقتصادية أو عسكرية أو سياسية وغير ذلك والأخذ بها عند الحاجة إليها نوع من الإعداد للعدو والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (3) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان (4) » أخرجه مسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 122
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(73/11)
فالأخذ بالعلوم العصرية ومقارعة الأمم فيها والنهوض بأمة الإسلام حتى تأخذ مكانها القيادي للأمم هذا من فروض الكفايات مع التأكيد على العلوم الشرعية وأنها هي الأساس وإليها المرجع وعدم قبول أي شيء يتعارض مع مقتضى النصوص الشرعية، هذا هو الميزان في ديننا فديننا دين العلم والعمل دين القوة دين عمارة الأرض بالخيرات لا يمنع المسلم من الأخذ بما أطلع الله عليه عباده من علوم مستجدة أو ظواهر كونية للاستفادة منها، والله تعالى يقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (1) إخواني. . . وأخواتي: إن العلم والتعليم في ديننا له غايات نبيلة وأهداف عظيمة تكفل لمن سعى فيه بنور الله السعادة في الدنيا والآخرة.
نحن المسلمون أمة مختارة. . أمة أراد لها الله الخير والفضل والرفعة قامت أمتكم على الدين والعقيدة قامت على رسالة ربانية تدعو إلى توحيد الخالق والإحسان إلى الخلق. تدعو إلى تحكيم الشريعة في جميع نواحي الحياة.
إن تطبيق الإسلام والالتزام به ونشر مبادئه وتربية أبنائنا على الإسلام الحقيقي سبب لسعادة البشرية بل والمجتمع والبيئة المحيطة فالإسلام كله خير، ولا تستقيم الأحوال على التمام إلا بتطبيقه،
__________
(1) سورة الجاثية الآية 13
(73/12)
فاحرصوا على غرس الإسلام الحقيقي في قلوب أبنائنا وبناتنا وفقكم الله لكل خير.
(73/13)
أول ذلك الإخلاص لله عز وجل: فإن الإخلاص شرط في قبول العبادة وأي عبادة أنفع من تعليم العلم، ثم إن الإخلاص في التعليم يعود بالبركة والنفع العميم على المتلقين فبركة الإخلاص متعدية، ومما يدل على وجوب الإخلاص قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » متفق عليه.
ثانيا: مما يجب على المعلم والمعلمة مراعاته: التقيد بالسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم بأن يحرص أن يكون سمته وتعليمه وما يطرحه للطلاب موافقا للشرع فلا يقرر لهم ما لا يعلم ثبوته شرعا ولا ما يكون محدثا مبتدعا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » .
ثالثا: أخي المعلم أختي المعلمة: ليكن معلوما لديكم أن مقام التعليم مقام تأس واقتداء، فيجب أن يكون المعلم والمعلمة قدوة حسنة للطلاب والطالبات، وليكن الواحد منكم متذكرا في كل
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(73/13)
وقت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة فإن عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا (1) » أخرجه الإمام مسلم.
فالمعلم والمعلمة قدوة في ألفاظهم فلا يقولون فحشا ويبتعدون عن سقط الكلام وهم قدوة في لباسهم الموافق للشرع فلا يكون والمعلمة قدوة في الفاظهم وفى لباسهم الموافق للشرع مسبلا ثوبه ولا متشبها بالفسقة والكفرة في مظهره.
كما لا تكون المعلمة في لباس ضيق ولا شفاف ولا قصير بل هو اللباس الضافي الساتر الفضفاض يستر جسمها ويظهر حشمتها ويجعلها قدوة صالحة لبناتنا.
ومن ابتلي بذلك فليسأل الله العافية وليحرص على تركه، ويجب عليه الاستتار حال معصيته فلا يجاهر به أمام تلاميذه ولا يرونه في يده ولا جيبه يقول صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون (2) » .
والمعلمة لا تأتي إلى مدرستها وهي نامصة ولا فالجة ولا مغيرة خلق الله عز وجل أو متشبهة بالفاسقات أو الكافرات.
فكونوا قدوة صالحة فإن الخطب جسيم وأنتم في مقام اقتداء وتأس وما تفعلونه أو تقولونه يؤخذ عنكم ويقتدي بكم فيه فكونوا
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6069) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2990) .
(73/14)
لأبواب الخير مفاتيح ولأبواب الشر والفتنة مغاليق.
رابعا: يجب على المعلم والمعلمة أن يكونوا دعاة إلى الله بحسب علمهم إبراء للذمة ونصحا للأمة وتوجيها لأبنائنا وبناتنا وامتثالا لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ويقول صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (2) » .
خامسا: يجب عليكم تربية أبنائنا وبناتنا على الاعتزاز بدينهم والفرح والغبطة به وتحبيبهم في دينهم وغرسه في قلوبهم ببث تعاليمه السمحة بصورة صحيحة.
كما يجب عليكم وأنتم تشاهدون أوضاع الأمة الآن وما آلت إليه من ضعف، أن تبعثوا الأمل في قلوب أبنائنا وبناتنا وأن تطردوا اليأس منهم وتذكروهم بأن ما حل بنا ما هو إلا بسبب بعدنا عن ديننا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) .
وهو ابتلاء لصبر المؤمنين وامتحان لقوة ثباتهم على دينهم والنصر من عند الله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (4) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(3) سورة الشورى الآية 30
(4) سورة البقرة الآية 214
(73/15)
فالفرج قريب والباطل مهما تعاظم فإنه لا يقاوم الحق وسيجعل الله بعد عسر يسرا؛ وإنما الشأن في توعية الأبناء والبنات بل والمجتمع وحثهم على ترك الذنوب والمعاصي والالتزام بشرع الله عز وجل.
سادسا: مما يجب مراعاته خصوصا في هذا الزمان: تبصير الطلاب والطالبات بما يحاك لأمتهم من مكائد في الداخل والخارج وما يريده الأعداء من تفرق الأمة وتشتيت المجتمع وتحطيم كيانه بزرع بذور الفتنة فيه، وإبعاد المسلمين عن دينهم وذلك من طريقين إما البعد عن الدين والطعن فيه والسخرية به وبالمنتسبين إليه والمتمسكين به والتشكيك في تشريعاته واتهام العلوم الشرعية بما هي منه براء من أنها تدعو إلى الإرهاب والعدوان وسفك الدماء، والمطالبة بتحجيمها أو إقصائها أو تفريغها من محتواها حتى تكون مواد سامجة ممجوجة لا خير فيها إنما هي ثقافات بشرية بعيدة عن نور الوحي.
والطريق الأخرى لأعداء الله في تمزيق شمل الأمة بعث روح الغلو ومجاوزة الحد في التدين حتى يرى غيره هلكى لا خير فيهم
(73/16)
وينشأ من هذا رغبة في التغيير بالقوة وتوجيه المجتمع بالقوة إلى ما يظنه الحق وإنما هو الهوى -والعياذ بالله - والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والغلو في الدين (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق (2) » .
والحق ظاهر لمن أراده {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (3) ولم يقل الله عز وجل: (فاستقم كما تهوى) فالاستقامة حقا هي الموافقة لأمر الله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (6) .
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/199) .
(3) سورة هود الآية 112
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الفاتحة الآية 6
(6) سورة الفاتحة الآية 7
(73/17)
من آداب المعلم والمعلمة:
1 - التواضع: فلا بد أن يكون المعلم والمعلمة متواضعا للعلم طلبا وتحصيلا وبذلا وتعليما، متواضعا للطلاب، فلا يرى في نفسه أنه أعلى منهم وأنه يستحق كذا وكذا بل يكون متطامنا متواضعا لله عز وجل، ومن تواضع لله رفعه، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان متواضعا مع الناس في تعليمهم ودعوتهم وفي سائر أحواله، تقف معه امرأة في عقلها شيء في بعض سكك المدينة فيقوم معها حتى يقضى حاجتها، ويأتي للصغير فيداعبه ويسليه ويمشي بين أصحابه لا يتميز
(73/17)
عنهم إلا بما فضله الله من النبوة والعلم والخلق والسمت والهدي. فليكن هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم.
2 - الحرص على نفع المتعلم: فالتعليم ليس حملا ثقيلا عليك أيها المعلم وعليك أيتها المعلمة؛ إنما هو أمانة فاحرصوا على أدائها والقيام بها حق القيام، وليكن حرصكم دائما على نفع المتعلم وهذا يتطلب منكم تفقد الطلاب واختبارهم ومعرفة مستوياتهم ومراعاة الفروق الفردية بينهم حتى تكون رسالة التعليم واصلة إليهم على خير حال والنبي صلى الله عليه وسلم كان هذا هديه يقول الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) فلتكونوا حريصين على طلابكم رفقاء بهم رحماء اقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم.
3 - إيصال المعلومة الصحيحة دون الخاطئة: ويتبين لك أهمية ذلك حين تعلم أن ما تقوله يؤخذ على وجه التسليم والانقياد من قبل طلابك وينطبع في عقولهم، فاحرص على تحري الدقة والتأكد من صحة ما تطرحه، وإلا فعليك بالسكوت يقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) سورة الإسراء الآية 36
(73/18)
4 - تركيز الكلام وتقليله مع الحرص على تكراره: وذلك أن الطلاب متفاوتة قدراتهم في الحفظ والفهم والاستيعاب وسرعة البديهة فاقتد بأضعفهم، وركز الكلام يفهم، وكرره حتى يحفظ فيكون حينئذ عموم النفع، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه (1) » أخرجه أبو داود.
ويقول أنس رضي الله عنه: «كان إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا (2) » وفي رواية بزيادة (حتى تفهم منه) .
5 - المحافظة على وقت الطلاب: فلا تشغل- أخي المعلم أختي المعلمة- وقت الطلاب بالقيل والقال أو بالفكاهة والمزاح، بل عليك بالحرص على وقتهم وإعطائهم ما ينفعهم بأسلوب غير مخل ولا ممل.
6 - عند الدخول في الدرس فعليك بتطبيق السنة في ذلك فابدأ بالسلام تحية أهل الإسلام، ثم قبل الشروع في درسك سم الله عز وجل واحمده وصل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم اشرع في درسك حتى تنغرس هذه الآداب الحسنة في نفوس الطلاب وحتى تحل البركة فيما تقوم بتعليمه وتدريسه.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3568) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2493) ، سنن الترمذي المناقب (3639) ، سنن أبو داود العلم (3654) ، مسند أحمد بن حنبل (6/157) .
(2) صحيح البخاري العلم (94) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2723) ، مسند أحمد بن حنبل (3/213) .
(73/19)
7 - واجه الطلاب بوجه طلق: ومن الآداب العامة وهي في شأن المعلم والمعلمة آكد التبسم وطلاقة الوجه ففيها عدة فوائد:
- منها تطبيق السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق (1) » .
- ومنها بعث الطمأنينة والراحة في نفوس الطلاب فيتقبلون ما تلقيه إليهم بانشراح وسعة صدر.
- ومنها أن التخلق بهذا الخلق حتى يكون لك ديدنا يجعلك أكثر انبساطا وأبعد عن الهموم ويحبب إليك الناس وغير ذلك من الفوائد التي لا تخفى.
8 - عليكم بحث الطلاب والطالبات على الحرص على الدروس واستغلال الوقت إخلاصا لله عز وجل، وقصدا للنهوض بالأمة وتعليم الجهال وهذا من خير ما انصرفت الهمم إليه.
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح في ذلك أظهر من أن يذكر.
9 - عند مواجهة أخطاء من الطلاب أو الطالبات لا يكن الضرب هو مفزعكم ولا هو أول الحلول عندكم فليس هذا من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم.
فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: «ما ضرب
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2626) ، سنن الترمذي الأطعمة (1833) .
(73/20)
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله (1) » أخرجه الإمام مسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6126) ، صحيح مسلم الفضائل (2328) ، سنن أبو داود الأدب (4785) ، سنن ابن ماجه النكاح (1984) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) ، موطأ مالك الجامع (1671) ، سنن الدارمي النكاح (2218) .
(73/21)
ومما يصحح به ما يقع من أخطاء الطلاب أمور:
منها: تعليمه بلطف ولين بأن ما قام به خطأ وإقناعه بوجه الخطأ حتى يتركه عن قناعة.
ومنها: إظهار الغضب في وجهه وتأنيبه على خطئه.
ومنها: أن يبين له بأسلوب لين كيف لو أن ما ارتكبه من خطأ في حق غيره لا يرضى هو أن يرتكبه غيره في حقه؛ فإن أقر بين له أن الناس أيضا لا يرضون وهكذا.
وجميع ما ذكرنا سابقا من الأساليب قد جاءت السنة بها لكن تركنا إيراد الشواهد طلبا للاختصار.
فإن لم يجد مع الطالب المخطئ الأساليب السابقة فإن المعلم أو المعلمة يمكنهم اللجوء إلى الضرب، وقد جاءت السنة ببيان أن الضرب وسيلة للتربية يقول صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر (1) » .
وأقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ضرب غلام له حين أضاع بعيره.
ولكن على المعلم والمعلمة أن يعلموا أن الضرب أسلوب تربية
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .
(73/21)
وتقويم اعوجاج وليس متنفسا لهم وانتقاما لأشخاصهم.
وبناء على ذلك فيراعى في الضرب أن يكون غير مبرح ولا يشق جلدا أو يكسر عظما أو يذهب منفعة أو يضر بجارحة، فكل ذلك لا يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (1) » .
ولما شرع الله ضرب الزوجة الناشز بعد موعظتها وهجرها في الفراش ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الضرب يكون غير مبرح.
لأن المقصد من الضرب تقويم اعوجاج لا إبراز القوة وإظهار الانتقام فهذا لا يساعد على تربية الطلاب التربية السليمة.
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .
(73/22)
أساليب للتعليم مقترحة مستقاة من الوحيين:
وإن مما يؤسف له تتابع أهل الإسلام إلى نظريات غربية وشرقية في التربية والتعليم ليست إلا نتاج عقول البشر وخلاصة تجاربهم، وإن كان مثل هذا يمكن أن يستفاد فيه من غير المسلم وما كان مرجعه إلى التجربة فهو مشاع الانتفاع به بين البشر ما لم يخالف مقتضى الشرع.
والمقصود هنا بيان بعض الطرق النافعة للتعليم وحفز الأذهان وهي مأخوذة من الكتاب والسنة:
(73/22)
1 - ضرب الأمثال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} (1) .
2 - القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (2) ومنه تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم: الجليس الصالح والجليس السوء.
3 - ومنها ابتدار الطلاب السؤال لشد انتباههم. ومن ذلك قول الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} (3) {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (4) . ويقول صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله (5) » وهكذا في أمثلة كثيرة.
4 - مبادرة الطلاب بما يثير تساؤلهم تحفيزا لأذهانهم. من ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوما فقال: آمين. . آمين. . آمين قال: إن جبريل أتاني، فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل آمين؛ فقلت: آمين (6) » . . الحديث.
5 - ومنها طرح المسألة على الطلاب وتركهم يستنتجون حلها. وقد فعل هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم
__________
(1) سورة النحل الآية 76
(2) سورة يوسف الآية 3
(3) سورة الشعراء الآية 221
(4) سورة الشعراء الآية 222
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/242) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (4/344) .
(73/23)
فرأيت النبي معه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل له: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومنهم سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم، فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون (1) » الحديث.
6 - أن يستعين المعلم بزميل له ملم بموضوع الدرس: فيحضر معه الدرس ويجلس جلوس الطلاب، ثم يبدأ مع زميله حوارا حول مفردات موضوع الدرس حتى يأتي على جمع ما يحتاج الطلاب فهمه في هذا الدرس بأسلوب متدرج هادئ حواري، يشد أذهان الطلاب ويجعلهم يستوعبون درسهم.
كما فعل جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جلس عنده مجلس المتعلم والصحابة رضي الله عنهم شهود، وهو يسأله عن أمور الدين ليعلم الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5705) ، صحيح مسلم الإيمان (220) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2446) ، مسند أحمد بن حنبل (1/271) .
(73/24)
وسلم: «يا عمر أتدري من السائل؟ قال عمر: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (1) » أخرجه مسلم.
ومن تتبع الكتاب والسنة وجد من ذلك الكثير النافع، والتنويع في الأساليب أنفع وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه جملة مما أحببنا أن نشارك به إخواننا وأخواتنا من المعلمين والمعلمات. بمناسبة بداية العام الدراسي أسأل الله للجميع التوفيق والسداد وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم مقربا عنده زلفى وأن يصلح نياتنا وذرياتنا ويتقبل صالح أعمالنا ويتجاوز عن سيئها كما أسأله سبحانه أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يظهر الهدى ودين الحق على الدين كله ولو كره المشركون وأن يجمع كلمة المسلمين على طاعته ويؤلف بين قلوبنا، إنه سبحانه جواد كريم وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(73/25)
صفحة فارغة
(73/26)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(73/27)
صفحة فارغة
(73/28)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
التذكير بعد صلاة الجمعة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة
المكرم \ عبد المحسن بن محمد التويجري سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى كتابكم المؤرخ 9 \ 3 \ 1375 هـ بشأن بعض المسائل التي تسألون عنها:
ونفيدكم أن الوعظ والإرشاد والتعليم لا يتقيد بزمن. بل ينظر فيه المصلحة وحالة المتعلمين ونحوهم. فينبغي تخولهم بالموعظة وعدم الإملال. كما روى البخاري في صحيحه عن أبي وائل قال: «كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني كره أن أملكم. وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله
(73/29)
عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (1) » .
وأما المنع من الموعظة والتذكير بعد صلاة الجمعة فلا أعلم له أصلا، بل قد روي عن جماعة من الأئمة كالشيخ تقي الدين أنه كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة، وكذلك يذكر الشيخ عبد الغني بن سرور صاحب العمدة وغيرهم، قال الإمام أحمد: إذا كانوا يقرءون الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب إلي أن يسمع إذا كان فتحا من فتوح المسلمين. أو كان فيه شيء من أمور المسلمين، وإن كان إنما فيه ذكرهم فلا يسمع.
أما قبل صلاة الجمعة فقد صرح العلماء بكراهة التحلق، «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة (2) » ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(ص- ف- 201 في 29-4-1375 هـ)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (70) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2821) ، سنن الترمذي الأدب (2855) ، مسند أحمد بن حنبل (1/377) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (322) ، سنن النسائي المساجد (714) ، سنن أبو داود الصلاة (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (2/179) .
(73/30)
حكم إقامة الموالد، وذكريات الأيام والأحداث،
والوقائع في الهجرة والفتح، وهل هي من علامة حب الرسول
1 - السؤال الأول: مجمع الموالد والجلوس فيها ثم القيام فيها وإيقاد العود واللبان وفرش البساط وغير ذلك: هل هذا
(73/30)
جائز، أو منهي عنه؟ وكذلك تعيين يوم معلوم لذلك؟
ج: الحمد لله، إقامة الموالد وذكريات الأيام والأحداث والوقائع مما شرعه النصارى واليهود، وقد نهينا عن أعياد أهل الكتاب والأعاجم؛ لما في ذلك من الابتداع ومشابهة الكفار. وسائر ما استحدث من الأعياد والمواسم منكر مستكره، حتى وإن لم تكن فيه مشابهة لأهل الكتاب والأعاجم، لدخوله في مسمى البدع والمحدثات. حتى ولو كانت إقامتها لذكرى (مولد الرسول صلى الله عليه وسلم) ؛ ذلك لأن الأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره. وأصل الضلال في الأرض إنما قام على اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه، ومن هنا بنى الأئمة انقسام الأعمال إلى عبادات تتخذ دينا وعادات ينتفع بها. والأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره.
والمواسم المحدثة إنما استكرهت وأنكرت ونهي عنها؛ لما يحدث فيها مما يتقرب به كدين، ولدخولها في مسمى البدع والمحدثات. وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب يقول: أما بعد فإن خير
(73/31)
الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » . وروى مسلم كذلك في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » وفي حديث صحيح من رواية أهل السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (3) » .
وكما أن هذه القاعدة مدلول السنة ومدلول الإجماع فهي كذلك مدلول كتاب الله تعالى، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) فمن ندب إلى شيء يتقرب به، أو أوجبه بقول أو فعل من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله فيما أوجبه عليه من طاعة، ومن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من الإثم ما يلحق الآمر الناهي؛ أخذا من قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (5) . وقد أثر في تفسيرها «أن عدي بن حاتم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما عبدوهم قال: ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم (6) » .
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(4) سورة الشورى الآية 21
(5) سورة التوبة الآية 31
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3095) .
(73/32)
هذا والذهاب إلى انقسام البدع والمحدثات إلى حسن وقبيح، أخذا من قول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه، واستدلالا بما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال مما استحسن ولم يستكره أخذا من الأدلة الدالة عليه من الإجماع والقياس - الذهاب إلى ذلك مدفوع بإطلاق نص رسول الله صلى الله عليه وسلم «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » فلا يحل لأحد أن يقيد إطلاق دلالة هذا النص، والمنازع في ذلك مراغم، على أنه يقال: ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه. أو يقال: ما ثبت حسنه: مخصوص من هذا العموم. فيبقى فيما عداه على عمومه. والمخصص إنما هو الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع نصا واستنباطا، لا عادات بعض البلاد ولا الأقوال ولا الآراء مهما كثر أصحابها، فإن شيئا من ذلك لا ينهض أبدا، ولا يصلح معارضا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فتخصيص يوم من الأيام وتمييزه على غيره بشيء من الطاعات أمر توقيفي إنما يصار في معرفته إلى الشريعة المطهرة، ولم تخصص الشريعة يوما من الأيام باتخاذه عيدا للإسلام، سوى يومي العيدين، عيد الفطر وعيد النحر وما يتبعه من أيام التشريق
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(73/33)
الثلاثة، وسوى العيد النسبي وهو يوم الجمعة، فإنه عيد الأسبوع فليس للمسلمين أن يتخذوا عيدا سواها.
على أن الوقائع المتعددة وأبرزها (الهجرة) و (الفتح) لم تتخذ أعيادا، فاتخاذ الذكريات والموالد أعيادا حدث في الإسلام منكر مستكره لم يشرعه الله وليس من دين الحق في شيء، ولو كانت إقامتها خيرا محضا أو راجحا لسارع إليها السلف الصالح فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير أخذا به وسبقا إليه.
ولو كانت إقامة الموالد للنبي صلى الله عليه وسلم من أعلام حبه أو تعظيمه لأقاموها، فإنهم كانوا أعلم الناس بما يصلح له صلى الله عليه وسلم، ومن أشدهم تعظيما له وحبا فيه، ولو كانت خيرا لسبقونا إليها، لكنه لم يؤثر شيء من ذلك أصلا عن أحد من خلفائه أو صحابته أو أئمة آله المرضيين المهديين، وإنما الذي أثر عنهم هو ما عرفوه من الحق من محبته وتعظيمه وهو متابعته وطاعته وإحياء سنته ونشر ما بعث به، وهذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
(ص- ف-178 في 11-4-1375 هـ)
(73/34)
إنكار ما في مفكرة الرابطة من أعياد أهل الضلال
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة
معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
اطلعت على مفكرة عام 1389هـ التي تهديها الرابطة لبعض الشخصيات. ووجدنا في الورقة الرابعة منها ما عنوانه (الأعياد الدينية) وعدد فيها عشرة أعياد. والحقيقة أن هذا شيء مؤسف جدا كيف وصلت الحال إلى هذه الغاية؛ فإن أعياد الإسلام هي عيد الفطر وعيد الأضحى فقط. هذه أعياده السنوية. وما عداها مما ذكر في الورقة فهو من أعياد أهل الضلال والابتداع وشرع دين لم يأذن به الله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) ولا نقر صدور هذا وأمثاله عن الرابطة، ونبرأ إلى الله من ذلك وإنا لمنتظرون ما تعملونه تجاه هذه الدسيسة الشيطانية.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(ص- م- 195 في 13- 1- 89 هـ)
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(73/35)
حكم نشر ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة
معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد طالعنا مجلة رابطة العالم الإسلامي العدد الأول الصادر في ربيع الأول عام 1383هـ فوجدنا فيها في الصحيفة السادسة والسابعة كلمة بعنوان: (مولد محمد صلى الله عليه وسلم) إعداد هيئة التحرير، كما وجدنا في الصحيفة الثامنة عشرة قصيدة قيل إنها للشاعر جورج نقولا عطية في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وأنت تعرف أن ذكرى المولد شيء محدث في الدين، ولا أصل له في صدر هذه الأمة أبدا. وأن تعظيم وقت من الأوقات على سواه وتمييزه على ما عداه كتخصيص مكان على خلافه من الأمكنة من غير تخصيص شرعي لذلك الزمان أو المكان باطل، والتخصيص المذكور يدخل في التعبد، والعبادات مبناها على الأمر. وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بالإيمان به واتباعه، ومحبته وتقديم محبته على النفس والأهل والمال والولد والناس أجمعين. وإننا إن عظمنا يوما من الأيام لم يجئ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم
(73/36)
تعظيمه، أو مكانا لم يثبت في الشرع المطهر تعظيمه نكون قد قدمنا بين يدي الله ورسوله، ودخلنا في عموم من ذمهم الله عز وجل بقوله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) وأعياد المسلمين ما جعله الشرع للمسلمين عيدا كعيد الفطر وعيد الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق وكيوم الجمعة فإنه عيد الأسبوع، كما أن أعيادهم المكانية هي التي جعلها الله لهم عيدا وهي مكة شرفها الله والمشاعر.
هذا وإن هذا الإقدام على إثبات ذلك ونشره في مجلة الرابطة من غير إذن من رئيس المجلس التأسيسي افتيات عليه. وربما نكتب رسالة حول هذا الصدد نبين فيها بالبرهان الشرعي صحة ما أبديته في هذه الأسطر، ولديكم كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه ذكر حول ما نحن بصدده ما يكفي ويشفي، وكذلك غيره من كتب السلف التي اعتمد مؤلفوها بيان حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم والسلام عليكم.
(ص-م)
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(73/37)
صفحة فارغة
(73/38)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا - رحمه الله-
حكم زيارة قبر سيدنا الحسين رضي الله عنه وموضعه
س: كثر كلام الناس واختلف حول قبر سيدنا الحسين أين مكانه؟ وهل يستفيد المسلمون من معرفة مكانه بالتحديد؟ .
ج: بالواقع قد اختلف الناس في ذلك، فقيل: إنه دفن في الشام، وقيل: في العراق، والله أعلم بالواقع. أما رأسه فاختلف فيه، فقيل: في الشام، وقيل: في العراق، وقيل: في مصر. والصواب أن الذي في مصر ليس قبرا له، بل هو غلط وليس به رأس الحسين، وقد ألف في ذلك بعض أهل العلم، وبينوا أنه لا أصل بوجود رأسه في مصر ولا وجه لذلك، وإنما الأغلب أنه في الشام، لأنه نقل إلى يزيد بن معاوية وهو في الشام، فلا وجه للقول بأنه نقل إلى مصر، فهو إما حفظ في الشام في مخازن الشام، وإما أعيد إلى جسده في العراق.
(73/39)
وبكل حال فليس للناس حاجة في أن يعرفوا أين دفن وأين كان، وإنما المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة، غفر الله له ورضي عنه، فقد قتل مظلوما فيدعى له بالمغفرة والرحمة، ويرجى له خير كثير، وهو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهما وأرضاهما، ومن عرف قبره وسلم عليه ودعا له فلا بأس، كما تزار القبور الأخرى، من غير غلو فيه ولا عبادة له، ولا يجوز أن تطلب منه الشفاعة ولا غيرها كسائر الأموات؛ لأن الميت لا يطلب منه شيء وإنما يدعى له ويترحم عليه إذا كان مسلما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » ، فمن زار قبر الحسين أو الحسن أو غيرهما من المسلمين للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما يفعل مع بقية قبور المسلمين فهذا سنة، أما زيارة القبور لدعاء أهلها أو الاستعانة بهم أو طلبهم الشفاعة فهذا من المنكرات، بل من الشرك الأكبر، ولا يجوز أن يبنى عليها مسجد ولا قبة ولا غير
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) باقي مسند أبي هريرة برقم (9395) ومسلم في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (1569) .
(73/40)
ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها (2) » ، فلا يجوز أن يجصص القبر أو يطيب أو توضع عليه الستور أو يبنى عليه، فكل هذا ممنوع ومن وسائل الشرك، ولا يصلى عنده لقول النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وهذا الحديث يدل على أنه لا تجوز الصلاة عند القبور ولا اتخاذها مساجد، ولأن ذلك وسيلة للشرك وأن يعبدوا من دون الله بدعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والتمسح بقبورهم طلبا لبركتهم؛ فلهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وإنما تزار القبور زيارة شرعية فقط، للسلام عليهم والدعاء لهم والترحم عليهم من دون شد رحل لذلك، والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1562) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (532) .
(73/41)
الدعاء عند القبور غير مشروع (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ع. م. ع. وفقه الله، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابكم الكريم المؤرخ في 3 \ 3 \ 1974 م وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه كان معلوما، ونبارك لكم في الزواج، جعله الله زواجا مباركا، وقد ذكرتم في كتابكم أن ندعو لكم عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، ونفيدكم أن الدعاء عند القبور غير مشروع، سواء كان القبر قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، وليست محلا للإجابة، وإنما المشروع زيارتها والسلام على الموتى والدعاء لهم وذكر الآخرة والموت. أحببنا تنبيهك على هذا حتى تكون على بصيرة، وفي إمكانك أن تراجع أحاديث الزيارة في آخر كتاب الجنائز من بلوغ المرام حتى تعلم ذلك، وفقنا الله وإياكم لاتباع السنة والعمل بما يرضي الله سبحانه ويقرب لدينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته حينما كان رئيسا للجامعة الإسلامية برقم (3456 \ 1 \ 1) وتاريخ 25 \ 2 \ 1394 هـ.
(73/42)
عدم جواز الطلب إلى الميت
س: يقول بعض الناس: إن الطلب إلى الميت في القبر جائز بدليل «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور» ، فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ .
ج: هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، حيث قال رحمه الله في مجموع الفتاوى الجزء الأول صفحة (356) بعد ما ذكره ما نصه: (هذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة) . انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مضاد لما جاء به الكتاب والسنة من وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتحريم الإشراك به. ولا ريب أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم والفزع إليهم في النائبات والكروب من أعظم الشرك بالله عز وجل كما أن دعاءهم في الرخاء شرك بالله سبحانه.
وقد كان المشركون الأولون إذا اشتدت بهم الكروب
(73/43)
أخلصوا لله العبادة، وإذا زالت الشدائد أشركوا بالله، كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما المشركون المتأخرون فشركهم دائم في الرخاء والشدة، بل يزداد شركهم في الشدة والعياذ بالله، وذلك يبين أن كفرهم أعظم وأشد من كفر الأولين من هذه الناحية، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ، وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) ، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (6) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (7) ، وهاتان الآيتان تعم جميع من يعبد من دون الله من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وقد أوضح سبحانه أن دعاء المشركين لهم شرك به
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة غافر الآية 14
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة فاطر الآية 13
(7) سورة فاطر الآية 14
(73/44)
سبحانه، كما بين أن ذلك كفر به سبحانه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) .
والآيات الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتوجيه الدعاء إليه دون كل ما سواه، وعلى تحريم عبادة غيره سبحانه من الأموات والأصنام والأشجار والأحجار ونحو ذلك كثيرة جدا، يعلمها من تدبر كتاب الله وقصد الاهتداء به. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(73/45)
حكم الذبح عند الأضرحة ودعاء أهلها
س: ما حكم التقرب بذبح الذبائح في أضرحة الأولياء الصالحين وقول: (بحق وليك الصالح فلان اشفنا أو أبعد عنا الكرب الفلاني) ؟ (1) .
ج: من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين، قال الله عز وجل:
__________
(1) سبق نشرها في (الجزء الخامس) من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته ص 324
(73/45)
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك هو: الذبح، بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله، قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) ، أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له، خلافا لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والذبح من العبادة، فيجب إخلاصه لله وحده. وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (7) » . وأما قول القائل: أسأل الله بحق أوليائه أو بجاه أوليائه أو بحق النبي أو بجاه النبي فهذا ليس من الشرك، ولكنه بدعة عند جمهور أهل العلم ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة وكيفيته من الأمور التوقيفية، ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة البينة الآية 5
(7) رواه مسلم في (الأضاحي) باب تحريم الذبح لغير الله برقم (1978)
(73/46)
أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق، فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه؛ لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري في صحيحه جازما بها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، ومعنى قوله: (فهو رد) أي مردود على صاحبه لا يقبل. فالواجب على أهل الإسلام التقيد بما شرعه الله والحذر مما أحدثه الناس من البدع.
أما التوسل المشروع فهو التوسل بأسماء الله وصفاته وبتوحيده وبالأعمال الصالحات، ومنها الإيمان بالله ورسوله، ومحبة الله ورسوله، ونحو ذلك من أعمال البر والخير. والأدلة على ذلك كثيرة، منها: قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول. اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) رواه البخاري معلقا في (البيوع) باب النجش (4 \ 355- فتح) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم 1718.
(3) سورة الأعراف الآية 180
(73/47)
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (1) » ، أخرجه أهل السنن الأربع وصححه ابن حبان. ومنها: حديث أصحاب الغار الذين توسلوا إلى الله سبحانه الأول ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته عن الزنا بعد قدرته عليه، والثالث توسل إلى الله سبحانه بكونه نمى أجرة الأجير ثم سلمها له ففرج الله كربتهم وقبل دعاءهم وأزال عنهم الصخرة التي سدت عليهم باب الغار، والحديث متفق على صحته والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الترمذي في (الدعوات) باب ما جاء في جامع الدعوات برقم (3475) وابن ماجه في (الدعاء) باب اسم الله الأعظم برقم (3857) واللفظ له.
(73/48)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: تقول إحدى الأخوات: لي أخت تخيط البراقع وتبيعها وتخيطها لأناس يعطونها مقاساتهم وأنا أريد أن أساعدها لكن في هذه المقاسات ما هو قصير، ومنها ما هو شفاف، فهل أستمر في مساعدتها أم أتجنبها جزاكم الله خيرا؟
ج: الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، تذكر الأخت أن أختا لها تخيط البراقع وتعطى مقاسات معينة، ولكن بعض هذه المقاسات يظهر منها أن البرقع لا يغطي جميع الوجه، وإنما هو يغطي جانبا منه وربما كان في لبسه افتتان بالمرأة وإغراء للرجال نحوها فتسأل ما حكم مساعدتها والحالة هذه؟
نقول- يا أختي- الله جل وعلا يقول لنا في كتابه العزيز: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(73/49)
فيا أختي إذا كنت تعلمين أن هذه البراقع لا تكون كافية في ستر جميع الوجه وإنما هي مجرد وضع شيء على الوجه والواقع أنه لا يؤدي عمله فمعاونتك إياها فيها معاونة على شيء من الإثم والعدوان، وهو مخالفة الشرع بعدم تغطية جميع الوجه عند الأجانب من الرجال، فلا تجوز المساعدة والحالة هذه.
(73/50)
س: تقول قمت بعمل عملية في ركبتي، وأستطيع ولله الحمد أن أقوم وأمشي ولكن لا أستطيع السجود أثناء الصلاة لعدم مقدرتي على ثني ركبتي وحاولت أكثر من مرة ولكن دون جدوى أفتوني في أمري؟
ج: نقول: - يا أختي- النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمران بن الحصين: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (1) » أخرجه البخاري، والسجود من أركان الصلاة بإجماع الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين (2) » . . الحديث متفق عليه، فإذا شق عليك السجود لأنك لا تستطيعين أن تثني ركبتيك أثناء السجود فلا بأس
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .
(2) صحيح البخاري الأذان (812) ، صحيح مسلم الصلاة (490) ، سنن الترمذي الصلاة (273) ، سنن النسائي التطبيق (1097) ، سنن أبو داود الصلاة (889) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1319) .
(73/50)
أن تجلسي وتومئي برأسك نحو الأرض إشارة للسجود؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(73/51)
س: تقول في إحدى المرات خرجت مع أقاربي إلى البر فضاع عقد لي من الذهب فقالت لي إحدى الأخوات: ماذا تعطين من تحصله لك - وكان معها - فقلت: أعطيها مائتي ريال وحلفت لها ثلاثة أيمان بالله والآن تورطت معها لأني لم أحصل المائتين وكان نطقتي بها في ذلك الحين من شدة الفرح فهل علي كفارة إذا لم أجد مائتي ريال جزاكم الله خيرا؟
ج: نقول أولا على المسلم إذا وجد لقطة لغيره أن يعرف عليها مع احتفاظه بأوصافها ولكن ليعرف عليها في الجملة فيقول: عند فلان عقد من ذهب، من له الذهب فليتقدم ليصفه، فإن جاء شخص ووصفه الوصف الكامل دفعه إليه لأن «النبي صلى الله عليه وسلم: سأله رجل عن اللقطة فقال: اعرف وكاءها أو قال وعاءها وعفاصها ثم عرفها سنة ثم استمتع بها فإن جاء ربها فأدها إليه (1) » متفق عليه، فلا يحل لمسلم أن يخفي اللقطة حتى يسمع من يبحث عنها ويضع شيئا من المال مقابلا لمن يأتي بها فإن هذا من أنواع الخيانة، بل يجب عليه التعريف عليها لأن هذا مال المسلم محترم
__________
(1) صحيح البخاري العلم (91) ، صحيح مسلم اللقطة (1722) ، سنن الترمذي الأحكام (1372) ، سنن أبو داود اللقطة (1704) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الأقضية (1482) .
(73/51)
فيجب أن تحترمه.
ثانيا: ما يتعلق بيمينك على إعطاء تلك المرأة مائتي ريال إن وجدت العقد وهو في حقيقة الأمر معها، نقول لا يلزمك إعطاؤها مائتي ريال، لأنه لاحق لها فيه، لكن أنت حلفت فيلزمك كفارة اليمين، أو دفع المائتين، لأجل اليمن لا لأن لها حقا فيها والله أعلم.
(73/52)
س: يقول أنا طالب في الثانوية وعمري ثماني عشرة سنة، هل يجب علي أن أحج عن والدي المتوفى أم كيف توجهونني جزاكم الله خيرا؟
ج: نقول أولا يا أخي أنت قد بلغت فيجب عليك الحج إن كنت مستطيعا فتبدأ بالحج عن نفسك أولا فإذا أديت فريضة الحج عن نفسك وأوسع الله وأمد الله في عمرك وأوسع الله في رزقك وأردت أن تحج عن أبيك فذاك بر منك وإحسان، لكن المهم أن تبدأ بالحج عن نفسك لأن «النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في حجة الوداع يقول: لبيك اللهم عن شبرمة قال: من شبرمة. قال: أخ أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك. قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة (1) » .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1811) ، سنن ابن ماجه المناسك (2903) .
(73/52)
س: يقول ما حكم قص شعر المرأة حزنا على وفاة أحد أقاربها؟
ج: نقول هذا عمل جاهلي ملعون فاعله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء من الصالقة والحالقة (1) » فالصالقة والحالقة شعر رأسها عند المصيبة تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منها ومن فعلها؛ لأن هذا دليل الجزع ونفاذ الصبر والسخط في قضاء الله وقدره فالواجب على المسلمة أن تتقي الله وتحتسب وتصبر وتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون كما أرشدنا ربنا عز وجل في مدح عباده المؤمنين {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (4) » كل هذه الأمور ممنوعة لا ضرب الخد ولا قص الشعر ولا شق الجيب، كل هذه الأعمال محرمة على المسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (104) ، سنن النسائي كتاب الجنائز (1867) ، سنن أبو داود الجنائز (3130) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/397) .
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) صحيح البخاري الجنائز (1297) ، صحيح مسلم الإيمان (103) ، سنن الترمذي الجنائز (999) ، سنن النسائي الجنائز (1860) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(73/53)
س: يقول أخونا قام زوج أختي بطلاق أختي منذ سبع سنوات وقام بإشهاد الشهود على الطلاق وتم الطلاق منذ سبع
(73/53)
سنوات كما أن زوج أختي رجل متكبر، وبسبب خلافات عائلية تم الطلاق ولكن عندما طالبت أختي بورقة الطلاق امتنع زوج أختي من إعطائها ورقة الطلاق وقال بأنه لم يطلقها ويريد أن يراجعها ولكن أختي لم ترجع إليه بسبب قسوته وطلاقه أول مرة أفيدونا جزاكم الله خيرا كيف تتصرف إذ إن أختي لها من الأولاد ولد واحد؟
ج: هذه المسألة من مسائل الخصومات ومرجعها المحاكم الشرعية، والحاكم الشرعي ينظر في دعوى الزوجة وينظر في رد الزوج، وينظر في بينات الطرفين، ثم يحكم بما يظهر له، فالمرجع في ذلك هو الحاكم الشرعي لوجود الخصومة.
(73/54)
س: يسأل ويقول طفت بالكعبة ولكني اكتشفت أنني لم أطف سبعة أشواط وإنما ستة أشواط ولم أكتشف ذلك إلا بعد أن ابتعدت عن المكان ما حكم ذلكم الطواف؟
ج: الأصل أن الطواف بالبيت سبعة أشواط فإن طفت ستة أشواط وكنت قريبا عليك بإكمال الطواف، وذلك بأن تطوف الشوط السابع، وإن طال الفصل فالواجب استئناف الطواف من جديد.
(73/54)
س: يسأل أخونا عن حكم من صبغ شعر رأسه الأبيض؟
ج: تغيير الشيب مستحب، لكن يتجنب المسلم تغيير الشيب بالسواد، لورود النهي عن ذلك.
(73/55)
س: متى يجب ذبح الهدي في منى؟
ج: يجب ذبح هدي التمتع أو القران أول وقته بعد طلوع شمس يوم العاشر أي يوم النحر، وآخره غروب الشمس من اليوم الثالث عشر.
(73/55)
س: يقول إذا سافرت مسافة المائة كيلو مترا عن أهلي فهل حينئذ أصلي صلاة مسافر وجهونا جزاكم الله خيرا؟
ج: إذا سافرت- يا أخي- مسافة مائة كيلو متر، فتلك مسافة تقصر فيها الصلاة، فلك أن تقصر الرباعية حتى ترجع إن كنت مقيما أربعة أيام فأقل.
(73/55)
س: يقول سمعت من بعض الناس أنهم يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بشرب الماء دفعة فهل هذا صحيح؟
ج: جاء النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب دفعة واحدة كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشربوا
(73/55)
واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم دفعتم (1) » رواه الترمذي، لكن هذا الحديث فيه ضعف، إلا أنه جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله كان يتنفس في الشراب ثلاثا (2) » والمعنى يتنفس خارج الإناء، أنه صلى الله عليه وسلم يشرب قليلا ثم يكف ويتنفس ثم يشرب كذلك ثم يكف ويتنفس ثم يشرب ثالثة، وهذا أكمل أنواع الشرب وأمرؤها وأصحها لبدن الإنسان.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1885) .
(2) صحيح البخاري الأشربة (5631) ، صحيح مسلم الأشربة (2028) ، سنن الترمذي الأشربة (1884) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3416) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الأشربة (2120) .
(73/56)
س: يقول أخونا في سؤال آخر قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مسبل إزاره» فما معنى هذا الحديث؟ وهل يعني أنه لا يدخل الجنة حتى ولو كان مسلما؟ نرجو التوجيه.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: قال أبو ذر: خابوا وخسروا؟ من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (1) » . أخرجه مسلم، وفي رواية «المسبل إزاره (2) » .
فالمسبل متوعد بأن الله لا يكلمه ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم وليس هذا خلودا في النار وإنما هذا وعيد شديد على من أسبل، وأن إسبال الإزار إلى تحت الكعبين عمل مشين وكبيرة من كبائر الذنوب وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/178) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/178) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(73/56)
وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (1) » رواه البخاري ومسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار (2) » رواه البخاري.
فيجب على المسلم تقوى الله وألا يسبل ثيابه، ومن أسبل ثيابه فقد عصى وارتكب كبيرة من الكبائر، ولكن هذه المعصية لا تقتضي خلوده في النار ولا خروجه من الإسلام فهو عاص بفعله مع كونه مسلما.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) .
(73/57)
س: هل من إفاضة يا شيخ عبد العزيز لو تكرمتم حول الوعد والوعيد في الكتاب والسنة جزاكم الله خيرا؟
كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فيهما من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ما هو معلوم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (1) وجاء الترغيب في الفضائل ووعد المتقين والترغيب في صالح الأعمال ما هو معلوم وكذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل السنة والجماعة يعملون بمجموع النصوص فيذكرون نصوص الوعد على سبيل الترغيب في الخير والحث عليه
__________
(1) سورة طه الآية 113
(73/57)
ونصوص الوعيد من باب التحذير والزجر عن مخالفة شرع الله ولكنهم لا يكفرون بمجرد المعصية وإنما يفسقون المؤمن ويرونه ناقص الإيمان ويقولون هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان والخوارج ضاقت صدورهم عن الجمع بين الوعد والوعيد فأخذوا نصوص الوعيد وتجاهلوا نصوص الوعد فحكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر وأخرجوه من الإسلام واستباحوا دمه وماله. والمرجئة غلبوا جانب الوعد وعطلوا جانب الوعيد وفتحوا باب التساهل والتهاون في محارم الله وأهل السنة أعملوا نصوص الوعد والوعيد فجاؤوا بنصوص الوعد والوعيد ترغيبا وترهيبا ولم يكفروا بمجرد ارتكاب المعصية وإنما كفروا بمن أتى بناقض من نواقض الإسلام.
(73/58)
س: إذا مات الإنسان في أول يوم من عيد الفطر أو عيد الأضحى فهل يقيمون العزاء ثم يقبلون على عيدهم أم كيف توجهون أهل المصيبة في مثل ذلكم اليوم؟
ج: العزاء في ديننا شرع لتسلية المصاب وتصبيره وليس له طقوس خاصة، ليس في شريعتنا الغراء تنظيم ولا برامج معينة ولا طقوس محددة للعزاء إنما شرع لنا إذا رأينا أهل الميت في المسجد أو المقبرة أو زرناهم أن نعزيهم، فنقول لهم مثلا: أحسن الله عزاءكم وجبر مصيبتكم وغفر لميتكم، أو نقول: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل
(73/58)
شيء عنده بأجل مسمى فاصبروا واحتسبوا. .، وأما أن تقول هل تحتفل بالعيد أو تغلب جانب العزاء فكل هذه مما يمليه الشيطان على الإنسان فالعيد يوم فرح بطاعة الله والمسلم لا يحزن ولا يسيطر عليه الحزن والهموم بل يرضى بقضاء الله وقدره ويطمئن بذلك ولا يجعل ذلك اليوم يوم جزع ومصيبة بل يحمد الله على ما قضى وقدر ويشكره تعالى ويعلم أن هذا أمر قضاه الله وقدره فيدعو لميتهم ويترحم عليه هذا هو الواجب عليه ومع ذلك له أن يفرح بالعيد مع الناس.
(73/59)
س: يقول ما حكم سلام الرجل بالنسبة لأخت أمه من الرضاعة؟
ج: نقول يا أخي أخت أمك خالة لك ولو كانت من الرضاعة فهي أخت لأمك من الرضاع إذا فهي خالة لك فهي من محارمك يجوز لك أن تصافحها وأن تكشف لك وأن تسافر معها وأن تخلو بها فإنها من المحارم لها ما للمحارم من الأحكام من حيث جواز النظر ومن حيث السفر ومن حيث المصافحة ومن حيث تحريم النكاح كما هو معلوم.
(73/59)
س: يقول أريد شرحا كاملا في مصافحة النساء متى يجوز
(73/59)
مصافحتهن ومن يجوز ومن لا يجوز وهل مصافحة كبيرة السن فيه شيء خاصة إذا كن من الأهل؟
ج: مصافحة النساء إن كن محارم فهذا جائز. وإن تكن النساء من غير المحارم فإن ذلك لا يجوز مطلقا لأن «النبي صلى الله عليه وسلم: ما مست يده يد امرأة قط (1) » ولأن المرأة عورة ومس يدها يثير الفتنة كلمس سائر بدنها فلا يجوز لغير محارمها مصافحتها ولا فرق بين كبيرة السن وصغيرة السن، فإن البعد عن أسباب الوقوع في الحرام هو الواجب على المسلم إذ دواعي الشهوة قد توجد عند كبير السن كما توجد عند من دونه فلا فرق بين هذا وهذا.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(73/60)
س: يقول من هو الرجل الصالح الذي ذكر في سورة الكهف الذي تبعه موسى فخرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام؟
ج: الرجل الصالح الذي ذكره الله في كتابه العزيز في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (1) الآيات هذا هو الخضر صاحب موسى كما بينت ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحيح أن الخضر مات كما مات غيره. وما يتعلق به بعض الجهال من أن الخضر حي وأنه
__________
(1) سورة الكهف الآية 65
(73/60)
يحج كل عام إلى غير ذلك من الخرافات التي نسبوها حول الخضر فكلها لا صحة لها فالخضر مات كما مات غيره قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (1) {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (2) الآية.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 34
(2) سورة الأنبياء الآية 35
(73/61)
س: يقول رجل باع عشرة كيلو من البر من النوع الجيد بعشرين كيلو من البر من النوع الرديء هل هذا يعد من الربا؟
ج: نقول هذا غير جائز وهذا ربا الفضل الذي دل على تحريمه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء والفضة بالفضة مثلا بمثل سواء بسواء والبر بالبر مثلا بمثل سواء بسواء الحديث، ثم قال: إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » فدلت السنة على أنه لا يجوز أن يباع عشرة أصواع من الجيد بعشرين صاعا من الرديء؛ لأن هذا هو ربا الفضل وحرم سدا لباب ربا النسيئة وفي حديث بلال: قال بلال «كان عندنا تمر ردي فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أوه أوه
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(73/61)
عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره ثم اشتر به تمرا آخر (1) » . فنهى النبي بلالا أن يعتاض عن التمر الجيد بأضعافه تمرا رديئا بل أمره أن يبيع الرديء بالدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرا جيدا، لأن هذا هو ربا الفضل.
فعلى السائل ومن كان في مثل حاله أن يبيع ما معه من البر بالدراهم ثم يشتري بالدراهم النوع الآخر من البر حتى يسلم من الربا.
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) ، سنن النسائي البيوع (4557) ، سنن ابن ماجه التجارات (2256) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(73/62)
س: يقول ذهبت إلى الحج أنا وزوجتي ووالدتي، وحجنا تمتع فقضينا حجنا ولله الحمد لم ننس لا ركنا ولا واجبا من أركان وواجبات الحج ولكني أهديت شاة واحدة ولما رجعت إلى بلدي بلغني أن واحدة لا تكفي للثلاثة وإنما لكل واحد منا هدي فرجعت بعد يومين إلى مكة وذبحت اثنتين ووزعتها على فقراء مكة فهل حجنا صحيح أم لا؟
ج: نقول هذا التصرف جيد وهذا هو الواجب عليك، وحجك صحيح، والحمد لله.
(73/62)
س: يقول أريد أن أتفقه في الدين فماذا تنصحوني؟ . وأما الثاني يقول أدرس في الجامعة في قسم الشريعة وأريد ملازمة
(73/62)
العلماء ولكن أرى أن والدي محتاجان لي في خدمتهما وأخاف أن تفوت علي فرصة طلب العلم وأرغب في حصول الأجر والمثوبة ببر والدي فأرشدوني ماذا أعمل وجزاكم الله خيرا؟
ج: الأول نقول- يا أخي- التفقه في دين الله نعمة من نعم الله والمتفقه في دين الله قد أراد الله به خيرا يقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » فعليك أخي أن تجتهد وأن تلزم أهل العلم وأن تتفقه على أيديهم وأن تقرأ المؤلف في ذلك من كتب السنة وكتب علماء الأمة الفقهاء الذين استنبطوا الأحكام من الكتاب والسنة ولكن لا بد لك من عالم يوجهك نحو الطريق المستقيم ويوضح لك السبيل ويكون سببا في فهمك وإدراكك لأن مجرد الحصول على الكتب والقراءة فيها من غير توجيه عالم فإن ذلك لا ينفعك شيئا: فلا بد أن تتلقى ذلك على عالم ذي فهم وإدراك يفتح لك الطريق ويوضح لك السبيل وتستفيد من توجيهاته وتعلم طريقه في استنباط الأحكام الشرعية وبيان صحة أخذها من الأدلة إلى غير ذلك. وأما الثاني من مكة. فنقول يا أخي أولا اتق الله في أبويك وبر بهما وأحسن إليهما واغتنم حياتهما بدعائهما لك وترحمهما عليك ولا يمنع بر الوالدين من طلب العلم فالأوقات فيها بركة لمن استغلها ونظمها فإنه يحصل على خير كثير ومن نوى خيرا
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(73/63)
وأراد خيرا فإن الله لا يحرمه بتوفيقه وفضله.
(73/64)
س: يقول لدي أخ أكبر مني يحافظ على صلاة الجماعة عدا صلاة العصر فإنه يتكاسل عنها ولا يصليها إلا بعد ساعة من دخول الوقت وقد نصحته ولكنه يحتج بأنه متعب ويريد النوم فماذا أفعل معه؟ وكذلك أخ آخر أيضا يحافظ على صلاة الجماعة عدا صلاة الفجر وذلك لثقل نومه ولكن إذا رجعنا من الصلاة أيقظناه بشتى الوسائل فيصلي ولله الحمد. فهل عليه إثم وما حكم من نام عن صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وكان هذا هو حاله في أكثر الأيام؟
ج: صلاة الجماعة واجبة وأداء الصلاة جماعة في المسجد أمر واجب ولا ينبغي للمسلم أن يشغله عن الصلاة شاغل بل يجعلها أهم أشغاله وإذا أعطى نفسه مناها واستلقى بعد العمل وبعد تناول الطعام فغلب عليه النوم فإن هذا تفريط منه فينبغي أن يكون حذرا بعيدا عن وساوس الشيطان الذي يثقل عليه الطاعة ويرغبه في الكسل والخمول حتى تفوته صلاة الجماعة وهذا من الحرمان نسأل الله العافية. فعليك أخي أن تحافظ على صلاة العصر والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى البردين دخل الجنة (1) » والبردان هما العصر والفجر وأما أخوك الثاني الذي ينام عن صلاة الفجر حتى
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (574) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (635) ، مسند أحمد بن حنبل (4/80) ، سنن الدارمي الصلاة (1425) .
(73/64)
تطلع الشمس فهذا قد ارتكب خطأ عظيما فإن تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي هذا يرى قسم من العلماء أنه لا يقضيها ويعدونه قد وقع في ضلال عظيم لتأخيره صلاة عن وقتها بلا حاجة والنوم ليس عذرا على الدوام فيجعل النوم عادة لترك الصلاة وتضييعها فهذا من الخطأ. وأما أخوكم ثقيل النوم إذا أيقظتموه فلم يستيقظ لثقل نومه والله يعلم ذلك منه وأنه يحتاج إلى وقت طويل لإيقاظه ولا يؤثر فيه المنبه ونحوه فأرجو من الله أن يعذره على ما يحصل من تقصير لكن عليه الاجتهاد وبذل الجهد ويحرص أشد الحرص لعل الله أن يعينه. وقد ذكروا أن صفوان بن معطل الذي رمى المنافقون به عائشة واتهموه بعائشة وبرأها الله من فوق سبع سماوات، هذا الصحابي الجليل كان ثقيل النوم حتى إن النبي انتقل وأصحابه فلم يشعر بذلك ولم يستيقظ إلا بحر الشمس دل على أن هذا ثقل نوم ملازم له والأمر الذي يخرج عن قدرة الإنسان فإن الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(73/65)
س: يقول ويسأل عن حكم إطالة صلاة الفجر؟
ج: نقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم دلت على أنه يطيل
(73/65)
صلاة الفجر ما لا يطيل غيرها من الصلوات ما لا يطيل غيرها من بقية الصلوات ولهذا كان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة وكان الصحابة كالخلفاء الراشدين يطيلون في صلاة الفجر لأن الله يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) فللقراءة في الفجر تواطأ القلب مع اللسان ولهذا شرع إطالتها وجعلت ركعتين لأجل طول القراءة فيها فالسنة أن تطال القراءة لكن بشرط أن لا يضر ذلك بالمأمومين فإذا أضر بهم التطويل فليقتصر على ما فيه الرفق بهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما أطال في العشاء «أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة (2) » رواه البخاري.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) صحيح البخاري كتاب العلم (90) ، صحيح مسلم الصلاة (466) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/118) ، سنن الدارمي الصلاة (1259) .
(73/66)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 12093
السؤال الثالث: كنا ثلاثة أشخاص على سفر وحان وقت صلاة العصر فتوضأنا وأذنت للصلاة وبعد ذلك نسيت الإقامة وكبرت وكبر من خلفي وبعد ذلك تذكرت بأنا لم نقم الصلاة، ومع ذلك أكملنا الصلاة فهل صلاتنا صحيحة. أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
ج: الإقامة مشروعة قبل الدخول في صلاة الفريضة ولكن ما دام أنكم صليتم بدون إقامة فصلاتكم صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/67)
الفتوى رقم 8724
س: أربعة نفر في الطريق ودخل وقت الصلاة فأذن خالد وكبر زيد (يعني الإقامة) والإمام خالد فهل تكبير زيد صحيح وإلا لا، لأن زيدا ليس هو المؤذن بينوا تؤجروا؟
ج: إذا أقام أحد المصلين الصلاة غير المؤذن فذلك جائز والصلاة صحيحة، إلا أن الأفضل أن يتولى الإقامة من تولى الأذان إذا تيسر ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/68)
(من الفتوى رقم 7845)
السؤال الرابع: هل يلزم أذان وإقامة لصلاة الليل، أم يصلي صلاة الليل بلا أذان ولا إقامة؟
(73/68)
ج: ليس لصلاة الليل أذان ولا إقامة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/69)
من الفتوى رقم 5953
السؤال التاسع عشر: بعض المؤذنين يؤخرون الأذان حتى تقام الصلاة في المساجد المجاورة في الحي، فهل تقام الصلاة على سماع الأذان في المساجد الأخرى أم يؤذن ويقيم في الحال؟ أرجو الجواب وفقكم الله.
ج: المشروع للمؤذن أن يبادر بالأذان في أول الوقت مع الناس فإن تأخر عن ذلك لعذر أو غيره فلا حاجة إلى التأذين إذا كان أهل المسجد يسمعون أذان غيره، لعدم الحاجة إلى ذلك.
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/69)
السؤال العشرين: ما حكم من أذن قبل دخول الوقت بعشر دقائق، وهل عليه الإعادة؟ أرجو الجواب جزاكم الله خير الجزاء.
ج: لا يجوز الأذان قبل دخول الوقت، ومن أذن وتبين له أن
(73/69)
أذانه وقع قبل دخول وقت الصلاة التي أذن لها وجب عليه أن يعيد الأذان بعد دخول الوقت، إلا صلاة الفجر فإنه يؤذن لها الأذان الأول قبل دخول الوقت، ثم يؤذن لها بعد دخول الوقت.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/70)
الفتوى رقم 2332
س: أفيد فضيلتكم بأني أعمل مؤذنا لمسجد الحزم الجامع برنية، ويوجد في المسجد ميكروفون وقبل أذان صلاة الفجر أقوم بالتنبيه بالميكروفون بقولي: الصلاة الصلاة صلوا وأكرر ذلك عدة مرات ثم بعد ذلك أبدأ بالأذان وقصدي من هذا التنبيه هو إيقاظ مجاوري المسجد للصلاة، واستمريت على هذا عدة سنوات، وفي الأخير سمعت بعض الأقوال المنسوبة لبعض العلماء بأن التنبيه الذي أفعله قبل الشروع في أذان الفجر غير جائز وربما يكون بدعة، وحتى لا أقع في مكروه وجب علي استفتاء فضيلتكم عن هذه الفعلة، راجيا الإفادة عن هذا التنبيه، ومدى جوازه أو عدم
(73/70)
ذلك، علما بأن هذا التنبيه يوقظ أكثر المجاورين لحضور صلاة الجماعة في المسجد، خاصة في الفجر، مع أنني توقفت عن هذا حتى ورود إجابتكم، والله تعالى يحفظكم؟
ج: شرع الأذان إعلاما بدخول الوقت في كل صلاة من الصلوات الخمس يؤذن لها بعد دخول وقتها، إلا الفجر، فيجوز تقديم الأذان قبل الوقت ليتمكن الناس من أداء الصلاة جماعة، وعليه أن يعيده بعد دخول الوقت إذا لم يكن هناك مؤذن آخر يؤذن في الوقت، كما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما ذكرته من التنبيه بالميكروفون قبل الأذان بقولك الصلاة. . . إلخ، فلا نعلم له أصلا في الشرع، وعليك الاكتفاء بالمشروع وهو الأذان وفيه الكفاية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/71)
من الفتوى رقم 1721
السؤال الثالث: هل يجوز للمسلم أن يرفع الأذان قبل
(73/71)
دخول الوقت بحوالي خمس دقائق حسب تقويم المملكة وبعد الأذان يقيم الصلاة؟ وما حكم مسلم تناقش مع جماعة رفع الأذان قبل دخول الوقت وإقامة الصلاة بأنه لا يجوز أداء الصلاة إلا إذا دخل الوقت، ولكن الرئيس المباشر أمر شخصا فأدوا الصلاة، والمسلم الذي تناقش لم يدخل في الصلاة باعتقاده أن الوقت لم يدخل؟
ج: الأذان هو الإعلام بدخول الوقت، وهو عبادة من العبادات، والعبادات مبنية على التوقيف، ولا نعلم دليلا يدل على جواز الأذان قبل دخول الوقت إلا في الفجر خاصة، للحكمة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى الجماعة إلا الترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن - أو قال: - ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم (1) » . انتهى. وقد أجمع أهل العلم على عدم صحة الأذان قبل الوقت ما عدا أذان الفجر لما سبق، أما الصلاة قبل دخول وقتها كصلاة المغرب قبل غروب الشمس والفجر قبل طلوع الفجر فهو خلاف ما دل عليه القرآن والسنة
__________
(1) البخاري رقم 621 (الفتح) ، ومسلم رقم 1093، وأبو داود رقم 2330، والنسائي 4 \ 121.
(73/72)
وأجمع عليه أهل العلم من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، إلا في الجمع الشرعي: جمع التقديم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فإن الوقتين صارا في حق من يسوغ له الجمع وقتا واحدا، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .
(73/73)
من الفتوى رقم 4522
السؤال الأول: هل يجوز للمرأة أن تؤذن، وهل يعتبر صوتها عورة أو لا؟
ج: أولا: ليس على المرأة أن تؤذن على الصحيح من أقوال العلماء؛ لأن ذلك لم يعهد إسناده إليها ولا توليها إياه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
(73/73)
ثانيا: ليس صوت المرأة عورة بإطلاق، فإن النساء كن يشتكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسألنه عن شئون الإسلام، ويفعلن ذلك مع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وولاة الأمور بعدهم، ويسلمن على الأجانب ويردون السلام، ولم ينكر ذلك عليهن أحد من أئمة الإسلام، ولكن لا يجوز لها أن تتكسر في الكلام ولا تخضع في القول؛ لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) ؛ لأن ذلك يغري بها الرجال ويكون فتنة لهم كما دلت عليه الآية المذكورة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(73/74)
من الفتوى رقم 9281
السؤال الثالث: هل يجوز للمرأة أن تؤذن عند الرجال بغير صلاة؟
(73/74)
ج: لا يجوز لها ذلك لمخالفته الشرع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/75)
من الفتوى رقم 9419
السؤال الثالث: هل يجب على المرأة أن تقيم الصلاة وتؤذن مفردة في المنزل أو بجماعة النساء؟
ج: لا يجب عليها ذلك ولا يشرع لها ذلك.
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
(73/75)
من الفتوى رقم 5176
السؤال الثاني: قد علمت أنه ليس على المرأة إقامة، فهل تشرع لها إقامة إذا أمت النساء؟
ج: لا تسن في حقهن الإقامة للصلاة، سواء صلين منفردات
(73/75)
أم صلت بهن إحداهن، كما لا يشرع لهن أذان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن باز
(73/76)
من الفتوى رقم 6284
السؤال الثاني: يحصل خلاف بين بعض المسلمين في متابعة الأذان، فهل إذا بلغ (حي على الصلاة) يقول العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله، أم يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟
ج: الصواب أن يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، عقب كل حيعلة، ولا يحكي قول المؤذن: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ؛ لظاهر حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: أشهد أن محمدا رسول الله. ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا
(73/76)
حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة (1) » . فإن ظاهره ألا يحكي الحيعلتين، وإنما يقول عندهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا يخص حديث أبي سعيد وما جاء في معناه في الأمر بالقول كما يقول المؤذن.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) مسلم برقم 385 وأبو داود 523 ج2 ص 228.
(73/77)
من الفتوى رقم 3032
السؤال الثاني: هل تجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان مباشرة أم لا؟
ج: نعم تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان مباشرة، لما روى مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
(73/77)
سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (1) » . ويكون ذلك بصوت منخفض بحيث يسمعه من حوله، أما جهر المؤذن بها مع الأذان فبدعة لا أصل لها في الشرع المطهر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .
(73/78)
من الفتوى رقم 8157
السؤال الثالث: ما رأي سماحتكم بالصلاة على النبي بعد الأذان مع أن بعض من يدعون هناك بأنهم أهل العلم يشجعون مثل هذا العمل؟
ج: ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة
(73/78)
صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (1) » . رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، لكن جهر المؤذن بها بعد الآذن بدعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .
(73/79)
صفحة فارغة
(73/80)
أثر الالتزام في عقد الهبة
لفضيلة الدكتور \ سليمان بن عبد الله أبا الخيل (1)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن هيأ لهذا الدين علماء أجلاء، اجتهدوا في بيان أحكامه، وبذلوا أنفسهم لنشره والدعوة إليه، وإن المستقرئ لتلك الأحكام والمتأمل لما دونوه وأودعوه مؤلفاتهم منها ليقف مندهشا أمام تلك الثروة العلمية الهائلة، والذخائر العظيمة التي هي بحاجة إلى البحث والتنقيب، والترتيب والتبويب، ويدرك من خلال ذلك سرا عظيما ألا وهو حفظ الله سبحانه لهذا الدين تصديقا لقوله
__________
(1) وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأستاذ الفقه المقارن المشارك في المعهد العالي للقضاء.
(73/81)
تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) ، وقوله جل شأنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (2) ، وقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
وفي نظري أن من أنفع الأشياء لطالب العلم، وأكثرها تفريعا مع قلة طرقها في المجالات العامة ما يتعلق بالعقود، مع أنها باب واسع، والبحث فيها يطول، حيث إن لها تقسيمات كثيرة، وأحكاما متباينة متناثرة، وقد كنت عقدت العزم على بحث موسع فيها يتعلق بقسم منها ألا وهو عقود التبرعات، ولكني لما رأيت أنني أمام بحر من المعلومات، لا يمكنني ركوبه مع ما تحملته من مسؤوليات توجب الانشغال، (فالقلب بكل واد منه شعبة والهمة قد تفرقت شذر مذر) (4) .
فأجلت النظر وعدت إلى تلك الأحكام فاخترت أن أخصص البحث في جانب من تلك العقود يعتبر إضافة مهمة- في نظري- ومن خلاله يحصل الإلمام بأحكام كثيرة في بابه؛ لأنه من المعلوم أن ثمة تشابها ظاهرا بين العقود ويمكن ببحث الروابط والصلات
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة الصف الآية 9
(3) سورة الحجر الآية 9
(4) زاد المعاد لابن القيم 1 \ 70.
(73/82)
والقواعد والضوابط ضبط جزئيات كثيرة متناثرة، وقد كان هذا الجانب متعلقا بـ (أحكام الرجوع في الهبة) وقد دعاني إلى هذا الاختيار أمور كثيرة أجمل أهمها فيما يأتي:
1 - أهمية هذا الموضوع من حيث وفرة مادته العلمية في بابه، ومن حيث دقة تفاصيله، وقلة طروقه في البحوث العلمية المتخصصة، ثم هو متعلق بعقد من أهم عقود التبرعات، يتمحض فيها قصد التبرع، ويصح أن يجعل بحثه كالمثال لبقية العقود التي تندرج تحت هذا النوع، مع الأخذ في الاعتبار خصائص كل عقد وما يتميز به.
2 - أن المتأمل لنصوص الشريعة يجد أن من مقاصدها التكثير من باب الهبات والتبرعات؛ لما فيها من المصالح العامة والخاصة، ولما يترتب عليها من الثواب الأخروي (1) ، وتجلية أحكام هذه العقود، ولا سيما حكم الرجوع فيها سبب من أسباب زيادتها، وإيجاد الوعي بآثار التراجع عنها.
3 - أن الهبة بالمفهوم العام تتناول عقودا كثيرة؛ لأن عقد الهبة منه ما يقصد به التملك ويكون من قبيل العطايا التي تسخو بها أيدي أولي الفضل، وقد يراد بها الهبات العامة التي يراد منها التمليك
__________
(1) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور \ 189.
(73/83)
والإغناء وإقامة المصالح المهمة الكائنة بأموال يتنافس بمثلها المتنافسون كالأوقاف فإنها من هذه الحيثية تبرع وهبة (1) .
4 - أن تلك التبرعات فيها إخراج جزء من المال المحبوب بدون عوض يخلفه، مما يجعل قصد المتبرع النفع العام، والثواب الجزيل، ولذلك كان من مقاصد الشريعة فيها أن تصدر عن أصحابها صدورا لا تعقبه ندامة (2) حتى تكون هذه العقود نافذة وتترتب عليها آثارها، ومن هنا فإن الرجوع في عقد الهبة قد يعرض للواهب بسبب تسرعه، أو ندامته على تصرف كان يمكنه أن يحدث ما هو أفضل منه، أو بسبب مخالفة ظهرت في الهبة من حيف ونحوه، فكان بحث أحكام الرجوع مهما لتحقيق مقصد الشرع، وذلك بخروج الهبة عن طيب نفس، ولتحقيق قصد الواهب كما ذكرت.
5 - افتقار هذه المسائل إلى دراسة متخصصة، تؤصل للموضوع، ثم تذكر أحكامه الجزئية منطلقة من روابط تحصر الموضوع، وتعطي الصورة الجلية عنه، مما يشكل إضافة إلى باب العقود.
__________
(1) المرجع السابق \ 188، 189. وانظر: الوقف وأثره في تنمية موارد الجامعات، ص (117-128) .
(2) المرجع السابق \ 190.
(73/84)
لهذا كله وغيره عقدت العزم بعد استخارة الله - عز وجل - واستشارة من أثق فيهم من أهل الاختصاص أن أكتب في هذا الموضوع، وهذا أوان الشروع فيه، وقد رأيت أن تنتظم خطة البحث في ثلاثة مباحث بعد المقدمة، فجاءت على النحو الآتي:
1 - مقدمة البحث وفيها: بيان أهميته، وأسباب اختياره، وخطة البحث.
2 - المبحث الأول: في معنى الهبة وحكمها وفيه المطالب الآتية:
المطلب الأول: في تعريف الهبة لغة.
المطلب الثاني: في تعريف الهبة شرعا.
المطلب الثالث: أنواع الهبة.
المطلب الرابع: حكم الهبة من حيث الأصل.
3 -المبحث الثاني: حكم عقد الهبة من حيث اللزوم، وفيه المطالب الآتية:
المطلب الأول: نوع الالتزام في عقد الهبة.
المطلب الثاني: افتقار الهبة إلى القبول.
المطلب الثالث: افتقار الهبة إلى القبض.
المطلب الرابع: الوقت الذي تملك فيه الهبة.
(73/85)
4 - المبحث الثالث: حكم الرجوع في عقد الهبة، وفيه المطالب الآتية:
المطلب الأول: المراد بالرجوع.
المطلب الثاني: حكم الرجوع في الهبة، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الرجوع فيها قبل القبض.
المسألة الثانية: الرجوع فيها بعد القبض.
5 - خاتمة البحث وأهم نتائجه.
وأسأل الله أن ينفع به، ويجعله خالصا لوجهه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(73/86)
المبحث الأول: في معنى الهبة وحكمها
المطلب الأول: في تعريف الهبة لغة.
جاء في لسان العرب (1) : الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا.
ووهب لك الشيء يهبه وهبا ووهبا- بالتحريك- وهبة، والاسم الموهب والموهبة بكسر الهاء فيهما، ولا يقال وهبكه.
ووهبت له هبة وموهبة ووهبا ووهبا إذا أعطيته.
وفي معجم مقاييس اللغة (2) : الواو والهاء والباء كلمات لا يقاس بعضها على بعض، تقول: وهبت الشيء أهبه هبة وموهبا، واتهبت الهبة قبلتها.
وفي الصحاح (3) : والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة (4) .
__________
(1) لابن منظور 1 \ 803 مادة ((وهب)) .
(2) لابن فارس \ 1106.
(3) للجوهرى1 \ 332 ((وهب)) .
(4) وانظر: لسان العرب1 \ 803.
(73/87)
وتواهب القوم أي وهب بعضهم بعضا، ورجل وهاب ووهابة أي كثير الهبة لأمواله، والهاء للمبالغة (1) .
قال النووي - رحمه الله- (2) : وأما قول الغزالي وغيره في كتب الفقه: وهبت من فلان كذا فهو مما ينكر على الفقهاء؛ لإدخالهم لفظة (من) وإنما الجيد: وهبت زيدا مالا، ووهب له مالا، وجوابه: أن إدخال (من) هنا صحيح، وهي زائدة، وزيادتها في الواجب جائزة عند الكوفيين من النحويين، وعند الأخفش من البصريين، وقد روينا أحاديث فيها: وهبت منه كذا.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، القسم الثاني، 2 \ 192.
(2) تهذيب الأسماء واللغات، القسم الثاني 2 \ 196، 197.
(73/88)
ويقال: هب زيدا منطلقا بمعنى احسب، فيعدى إلى مفعولين، ولا يستعمل منه ماض ولا مستقبل. اهـ.
ويتضح مما سبق أن الهبة لا تخرج عن معنى العطية التي لا يقصد منها العوض، ولا يكون فيها ذلك، وظاهر من هذا الإطلاق اللغوي أنه لا مدخل لنية الواهب في تغيير الاسم؛ ولذلك فالتخصيص الذي سيرد في المعنى الاصطلاحي اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.
(73/89)
المطلب الثاني: في تعريف الهبة شرعا
من خلال تتبع ما ذكره الفقهاء- رحمهم الله- في باب الهبة يمكن للباحث أن يميز بين معنيين للهبة:
أ- المعنى الأعم للهبة:
وأكثر تعريفات الفقهاء تتجه لهذا المعنى، فالهبة بالمعنى الأعم تشمل الهدية والصدقة، والعطية، وتشمل الوقف أيضا عند بعضهم؛ ولذلك سأورد ما ذكره الفقهاء مما يندرج تحت هذا النوع.
جاء عند الحنفية أن الهبة تمليك المال بلا عوض.
(73/89)
قال ابن الهمام: كذا في عامة الشروح بل والمتون، ويرد عليه النقض عكسا بالهبة بشرط العوض، ولذا عرف بأنه: تمليك عين بلا شرط عوض.
واعترض عليه بأنه يصدق على الوصية.
واختار ابن الهمام التعريف بالهبة بأنها: تمليك المال بلا عوض في الحال (1) .
وعند المالكية عرفت الهبة بأنها: تمليك متمول بغرض عوض إنشائي (2) ، فقولهم متمول: أخرج به تمليك غيره كتمليك الإنكاح.
وبغير عوض: أخرج البيع وغيره من المعاوضات.
وإنشائي: أخرج الحكم باستحقاق الوارث؛ لأنه تقرير لا إنشاء.
وعند بعض المالكية: الهبة لا لثواب: تمليك ذي منفعة لوجه المعطى
__________
(1) انظر: فتح القدير9 \ 19.
(2) انظر: مواهب الجليل 6 \ 49، وشرح الخرشي 7 \ 101.
(73/90)
بغير عوض.
فقولهم: (ذي منفعة) أخرج العارية.
وقولهم: (لوجه المعطى) أخرج الصدقة. وقولهم: (بغير عوض) أخرج هبة الثواب (1) .
واقتصر بعضهم على تعريف الهبة بأنها: التمليك بلا عوض (2) .
وعند الشافعية عرفت الهبة بأنها تمليك العين بغير عوض.
وزاد بعضهم في الحد: في الحياة لإخراج الوصية (3) .
وعند الحنابلة عرفت الهبة عند كثير منهم بأنها: تمليك في حياته بلا عوض (4) .
قال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية
__________
(1) انظر: شرح حدود ابن عرفة للرصاع 2 \ 552.
(2) انظر: عقد الجواهر الثمينة 3 \ 59، ومواهب الجليل 6 \ 49.
(3) انظر: نهاية المحتاج 8 \ 405.
(4) انظر: المغني 8 \ 239، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 5، والمطلع \ 291.
(73/91)
والعطية معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بلا عوض، واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة) (1) .
ومن خلال ما تقدم يظهر أن العموم في هذا المعنى من جهة إغفال قصد المتبرع، فكل ما خرج مرادا به التمليك، سواء كان هذا التمليك لعين أو منفعة أو دين فهو هبة بهذا المعنى، وتقييد بعضهم بكونه في الحياة، يخرج جزءا من هذا العموم، لكن يبقى العموم فيما عداه.
وهذا التعميم في معنى الهبة يساعد عليه المعنى اللغوي، فلا مدخل لغرض المتبرع في التسمية؛ ولذلك جاء في لسان العرب (2) الهبة: العطية الخالية عن الأعواض والأغراض.
ب- المعنى الأخص للهبة:
يرى بعض العلماء أن ما سبق نقله عن الفقهاء يعتبر المعنى الأخص للهبة.
__________
(1) المغني 8 \ 239.
(2) 1 \ 803 ((وهب)) .
(73/92)
يقول ابن حجر - رحمه الله- (1) : (والهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة هي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية هي ما يكرم به الموهوب له ومن خصها بالحياة أخرج الوصية، وهي أيضا تكون بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض) . اهـ.
وتمييز الهبة بأنها ما لا يقصد به العوض عن الهدية والصدقة، قال به بعض العلماء (2) ، ولكن جعل هذا هو المعنى الأخص للهبة فيه نظر؛ لأن ما سبق ذكره عن الفقهاء مراد به العوض المالي وذلك ليخرج عقود المعاوضات وهبة الثواب كما صرحوا به، وعند تأمل ما ذكروه
__________
(1) فتح الباري 5 \ 233.
(2) انظر: العزيز للرافعي 6 \ 305، وروضة الطالبين 5 \ 364.
(73/93)
نرى أنهم عمموا هذا التعريف في الأنواع الثلاثة مما يدل على أنهم لم يخصصوا هذا المعنى بالهبة، ولا شك أنها معان متقاربة وقد يطلق أحدها على الآخر (1) ، والأظهر أن بين المصطلحات الثلاثة فروقا، وأن العلاقة بينها عموم وخصوص، فأعمها الهبة؛ إذ كل صدقة وهدية هبة ولا عكس، وتشترك في أحكام، وتختلف في أحكام (2) .
لكن إن تمحض فيها طلب التقرب إلى الله سبحانه وأريد بها ثواب الآخرة فهي صدقة، ويظهر ذلك بقصد المحتاج إليها، بحيث لا يظهر أي قصد في العوض المالي مقابل هذا المعطى.
أما الفرق بين الهبة والهدية فقيل: إن أريد بها إعظام المعطى وإكرامه والتودد إليه فهي هدية؛ ولذلك قال بعضهم (3) : إن الهدية في معنى الهبة إلا أن غالب ما يستعمل لفظ الهدية فيما يحمل إلى إنسان أعلى منه.
لكن انتقد هذا النووي - رحمه الله - وقال: إنه ليس كما قال، بل تستعمل في حمل الإنسان إلى نظيره ومن فوقه ودونه (4) .
ويظهر من ذلك أن التفريق بين الهبة والهدية غير ظاهر؛ ولذلك
__________
(1) انظر: المطلع \ 291، وتهذيب الأسماء واللغات، القسم الثاني2 \ 197.
(2) انظر: العزيز 6 \ 306، وروضة الطالبين 5 \ 364.
(3) وهو صاحب التتمة المتولي، انظر: تهذيب الأسماء واللغات \ القسم الثاني 2 \ 197.
(4) انظر: المرجع السابق.
(73/94)
قال النووي نقلا عن بعض الشافعية: إن ما يدفع إلى غير محتاج للتقرب إليه والمحابة فهو هبة وهدية (1) .
وبعضهم جعل الفرق في أن ما يحمل إلى مكان المهدى إليه إعظاما وإكراما وتوددا فهو هدية وإلا فهبة (2) .
فالفرق أن ما يغلب فيه قصد نفع الموهوب له مع عدم الحاجة فهو هبة، وإن ظهر معنى الإكرام والمحبة فهو هدية، ومن قرائن إرادة الإكرام أن تحمل الهدية إلى المهدى إليه، لكنه ليس امتيازا تختص به الهدية.
هذا ما يظهر في التفريق بين هذه المعاني المتقاربة.
أما الهبة التي يراد بها الثواب فهي معنى منفصل، ونوع خاص من الهبة، فهي عطية قصد بها عوض مالي (3) .
__________
(1) انظر: المرجع السابق، والمغني 8 \ 239، 240، والمطلع \ 291.
(2) انظر: المطلع \ 291، والموسوعة الفقهية 26 \ 324، وروضة الطالبين 5 \ 364.
(3) الخرشي على مختصر خليل 7 \ 101.
(73/95)
المطلب الثالث: في أنواع الهبة
مما سبق ذكره في المعنى الاصطلاحي للهبة يتضح أنها لا تنحصر في مفهوم محدد، بل هي بالمفهوم العام تشمل أنواعا مختلفة، وأبرزها ثلاثة: الصدقة، والهدية، والهبة، وسبق ذكر الفرق بينها (1) .
وقد عني الفقهاء بأحكام العقود عناية تامة، ولأجل توضيح هذه
__________
(1) انظر: ص 89- 92.
(73/95)
الأحكام وما يترتب عليها ذكروا لهذه العقود تقسيمات كثيرة، من حيث الغرض من العقد، ومن حيث سببه، وعقد الهبة يندرج تحت عقود التبرعات.
ويراد بعقود التبرعات: العقود التي يقوم التمليك فيها على التبرع من غير مقابل؛ إذ إن أحد طرفي العقد فيها لا يطلب عوضا عما يدفعه إلى الطرف الآخر، ويقابلها عقود المعاوضات، وهذا من حيث الغرض من العقد.
أما من حيث نوع العقد فهو من عقود الالتزام، والالتزام في اللغة: من لزم الشيء يلزم لزوما أي ثبت ودام، والالتزام: الاعتناق (1) .
والالتزام في الاصطلاح الفقهي: إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له، أي ما لم يكن واجبا عليه من قبل (2) ، وهو بهذا المعنى أثر من آثار التصرف؛ لأن التصرف هو: كل ما يصدر عن شخص بإرادته، ويرتب عليه الشرع نتائج حقوقية (3) .
__________
(1) لسان العرب 12 \ 542 ((لزم)) ، والصحاح 2 \ 1495 ((لزم)) .
(2) الموسوعة الفقهية 6 \ 144.
(3) انظر: المدخل الفقهي العام للأستاذ \ مصطفى الزرقا \ 194.
(73/96)
والتصرف نوعان: قولي، وفعلي، والهبة من التصرف القولي، وهو ما يصدر عن الإنسان من قول يرتب الشارع عليه أثرا شرعيا (1) ؛ وذلك لأن الهبة تنشأ بالقول.
ومن خلال هذا التصور يظهر لنا العلاقة بين التصرف والالتزام، فالتصرف أعم من الالتزام؛ لأن من التصرفات ما ليس فيها إلزام، كما أن التصرف ومنه العقد مصدر من مصادر الالتزام، أي: أن التصرف هو السبب في الالتزام.
وقد قسم الفقهاء - رحمهم الله - التصرف الناشئ عن إرادة إلى أقسام: فمنها: تصرفات تنشأ من قولين، وتستلزم توافق إرادتين كالبيع والإجارة. ومنها: تصرفات تتكون من قول واحد، وتصدر من طرف واحد بإرادة منفردة (2) .
والهبة يمكن جعلها من القسم الأول إذا اعتبرنا القبول فيها شرطا لصحتها، وعلى القول بعدم اعتبار القبول تعتبر الهبة من الإرادة المنفردة التي يترتب عليها التزام معين، ويتضمن إنشاء حق أو إنهاءه أو إسقاطه (3) ، وهذا ما عليه الأكثر.
__________
(1) المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية \ 239، 240.
(2) انظر: المدخل للفقه الإسلامي د. الدرعان: 321، 322، والمنثور للزركشي 2 \ 397.
(3) انظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية \ 240، وفتح القدير 5 \ 204.
(73/97)
وفي مجلة الأحكام العدلية (1) عقد التبرع قسمان:
ا- ما يعود نفعه إلى القابض، كالهبة، والصدقة، والعارية.
2 - عقد التبرع الذي يعود نفعه إلى الدافع كالوديعة، ومال المضاربة، ومال الشركة.
هذه أبرز التقسيمات التي يمكن أن تذكر في حكم الهبة.
__________
(1) انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 1 \ 860، المادة 658.
(73/98)
المطلب الرابع: حكم الهبة من حيث الأصل
أما الصدقة فإننا في هذا البحث نجري على عدم دخولها في مفهوم الهبة وذلك للفرق الذي مر ذكره (1) ، ولأنهما يختلفان في الحكم، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: «كلوا ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم (2) » .
وقال في اللحم الذي تصدق به على بريرة: «هو لها صدقة ولنا هدية (3) » .
__________
(1) انظر: ص (89، 90) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الهبة، باب قبول الهبة برقم 2437، ومسلم في كتاب الزكاة، باب قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية ورده الصدقة برقم 1077.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع منها: كتاب الزكاة، باب إذا تحولت الصدقة برقم 1424، ومسلم في كتاب الزكاة، باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم برقم 1074.
(73/98)
فدل الحديثان وما كان بمعناهما على التغاير بين الصدقة والهدية (1) .
والصدقة والهدية والهبة كلها مندوبة ومحثوث عليها، أما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يحصر (2) وليست من صلب البحث.
وأما الهبة والهدية بمعناها، وقد نقل الإجماع على استحبابهما غير واحد من العلماء.
جاء في تبيين الحقائق (3) : (وهي - أي الهبة - مشروعة مندوب إليها بالإجماع) .
وفي البيان (4) : وأجمع المسلمون على استحبابها - أي الهبة -.
ومن الأدلة على الحث عليها وتأكيدها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا نساء
__________
(1) انظر: المغني 8 \ 239.
(2) انظر: المرجع السابق 8 \ 240.
(3) للزيلعي 5 \ 91.
(4) للعمراني 8 \ 108.
(73/99)
المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة (1) » .
قال الحافظ ابن حجر (2) : وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرا، وفيه استحباب المودة وإسقاط التكليف.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور (3) » .
وفي الموطأ عن عطاء بن أبي مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء (4) » .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها، باب فضلها والتحريض عليها برقم 2427، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بالقليل برقم 1030.
(2) فتح الباري 5 \ 235.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد في باب قبول الهدية 1 \ 306 برقم 594 بلفظ: '' تهادوا تحابوا ''. والترمذي في كتاب الولاء والهبة، باب في حث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي 4 \ 384 برقم 2130، والبيهقي في السنن الكبرى، في باب الهبات 6 \ 196. قال ابن حجر في التلخيص الحبير 3 \ 70: وإسناده حسن.
(4) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب ما جاء في المهاجرة \ 653 برقم 1642.
(73/100)
صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها (1) » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت (2) » .
هذا من حيث الدليل، وأما التعليل؛ فلأن الهبة من صفات الكمال، فإن الله سبحانه وصف بها نفسه بقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (3) ، وقوله سبحانه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} (4) ، والبشر إذا باشرها فقد اكتسب من أشرف الصفات (5) .
ولما فيها من استعمال الكرم وإزالة الشح عن النفس، وإدخال السرور على قلب الموهوب له، وإيراث المودة والمحبة بينهما، وإزالة الضغينة والحسد (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها، باب المكافأة في الهبة برقم 2445.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها، باب القليل من الهبة برقم 2429.
(3) سورة آل عمران الآية 8
(4) سورة ص الآية 9
(5) تبيين الحقائق 5 \ 91.
(6) المرجع السابق 5 \ 91.
(73/101)
هذا حكمها من حيث الأصل، وقد ذكر بعض المالكية (1) أن الأصل فيها الندب لذاتها، وقد يعرض لها الوجوب كالهبة لمضطر، والحرمة كأن يهب لمن يستعين بها على المعاصي، والكراهة في الهبة لمن يستعين بها على مكروه.
__________
(1) انظر: الخرشي على مختصر خليل 7 \ 101.
(73/102)
المبحث الثاني: في حكم عقد الهبة من حيث اللزوم
المطلب الأول: نوع الالتزام في عقد الهبة
سبق في أقسام الهبة وأنواعها أن الهبة تعد من عقود الالتزام (1) ، وأنه التزام ناشئ من تصرف قولي في الغالب أو فعلي، وهو صادر من طرف واحد وهو الواهب، حيث ألزم نفسه بالقول الصادر منه ما لم يكن لازما عليه، ولا يعني هذا الالتزام اللزوم؛ لأن اللزوم يعني الوجوب، وهو ناشئ عما يترتب على الالتزام متى توفرت شروطه كالنذر، وعلى ما يقرره الشرع، أما الالتزام فهو أمر يقرره الإنسان باختياره ابتداء (2) .
والفقهاء- رحمهم الله - عبروا في التصرفات الناشئة عن إرادة الإنسان بأنها التزام، أما ما كان بغير إرادته فالتعبير فيها
__________
(1) انظر: ص (95، 96) .
(2) انظر: الموسوعة الفقهية 6 \ 145.
(73/102)
بالإلزام أو اللزوم، ذلك أن الالتزام الحقيقي هو ما أوجبه الإنسان على نفسه والتزم به (1) .
ولكن الالتزام ليس بالحتم حتى تؤثر فيه الجهالة والغرر؛ لأنه التزام لا ضرر فيه على الملتزم له، وقد أشار إلى هذه الدقيقة الإمام القرافي - رحمه الله - حيث قال (2) : الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات، وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وعن بيع المجهول، واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي - رحمه الله - فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك، ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو
__________
(1) المرجع السابق 6 \ 149.
(2) الفروق: 1 \ 150، 151.
(73/103)
ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان:
أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة.
وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال، بل إن فاتت على من أحسن إليه بها ولا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر، فاقتضت حكمة الشرع وصفه على الإحسان والتوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر؛ لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا، وهذا فيما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا، وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة نصوص صاحب الشرع بل إنما وردت في البيع ونحوه.
(73/104)
ونخلص من هذا كله: أن عقد الهبة لا لزوم فيه إنما مجرد التزام، وهذا التعبير (الالتزام) قد لا نجده في تعبير الفقهاء، وإنما هو لفظ استعير من القانون (1) ، ولكن لا مانع من استعماله؛ لأن هذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وأما اللزوم المترتب على الالتزام فإن الفقهاء- رحمهم الله- يقسمون العقود من هذه الحيثية إلى ثلاثة أقسام، وبعضهم يزيد أقساما أخرى، لكن كما قال الزركشي - رحمه الله-: (إن القسمة ثلاثية في الحقيقة) وهذه الأقسام:
1 - عقود لازمة من الطرفين قطعا كالبيع والإجارة والصرف والسلم وغيرها، وعد منها العلماء: الهبة لأجنبي بعد القبض، ويستثنى من ذلك هبة الوالد لولده، وسيأتي بيان حكمها (2) .
2 - عقود جائزة من الطرفين قطعا كالشركة والوكالة والمضاربة وغيرها، ومنها الهبة قبل القبض.
3 - عقود لازمة من أحد الطرفين جائزة من الطرف الآخر، وذلك كالرهن بعد القبض، لازم من قبل الراهن، جائز من قبل
__________
(1) انظر: مصادر الحق للسنهوري 1 \ 14.
(2) انظر: ص (138) .
(73/105)
المرتهن.
ويتضح من هذا التقسيم: أن الأصل في عقد الهبة عدم اللزوم، وأنه من العقود التي تقتضي طبيعتها عدم اللزوم في حق الطرفين، ولكن قد يتطرق اللزوم إليها من أمر خارج يقتضي ذلك، فيمنع من الرجوع فيها أو يوجد سبب يوجب الرجوع فيها (1) ، وهذا ما سيتبين خلال هذا البحث بإذن الله، وهذا من حيث طبيعة عقد الهبة، أما من حيث حكم الوفاء بهذا الالتزام فإنه ينبغي أن نفرق بين الوعد والالتزام بهذا الاصطلاح؛ لأنه قد يلتبس الأمر فيظن أن مفهوم الالتزام يلحق هذا العقد بالوعد، ولكن بينهما فرقا ظاهرا؛ لأن الالتزام الناشئ عن الإرادة المنفردة تنفيذ وإنجاز لعطاء وهو تبرع، والتبرع غير ملزم، وأما الوعد فليس فيه إلزام بشيء في الحال، وإنما هو ما يفرضه الشخص على نفسه لغيره بالإضافة إلى المستقبل (2) .
والفرق بين ما يدل على الالتزام وما يدل على الوعد هو ما
__________
(1) انظر: المدخل للفقه الإسلامي \ 390- 392.
(2) انظر: مصادر الحق 1 \ 45، والموسوعة الفقهية 6 \ 144- 146.
(73/106)
يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال، والظاهر من صيغة المضارع الوعد (1) .
وجمهور العلماء على أن الوعد ملزم ديانة لا قضاء، لكن الوفاء به ليس بواجب في الجملة، بل هو مستحب (2) .
أما الالتزام الناشئ عن إرادة منفردة كالهبة: فإن الوفاء به مستحب باتفاق العلماء، وقد سبق نقل الإجماع على أن الهبة مستحبة وليست واجبة (3) .
وبهذا تتبين نوعية الالتزام في عقد الهبة وما كان بمعناها، وأما ما يترتب عليها من حكم فسيتبين من خلال ما نذكره في المباحث الآتية:
__________
(1) انظر: فتح العلي المالك لأحمد عليش 1 \ 254.
(2) انظر: بدائع الصنائع 7 \ 84، والفروق 3 \ 95، ومنتهى الإرادات 3 \ 456، ونهاية المحتاج 4 \ 441.
(3) انظر: ص (99) .
(73/107)
المطلب الثاني: افتقار الهبة إلى القبول
ما يرد في هذا المطلب وما بعده متفرع عما سبق من تصور الالتزام في عقد الهبة، وإيراد هذه المسائل له تأثير في حكم المسألة الأساس وهو حكم الرجوع، ولذا كان لا بد من إيرادها، وبتتبع ما
(73/107)
ذكره العلماء- رحمهم الله- يقف الباحث على اختلاف في المسألة، يمكن تصنيفه إلى الأقوال الآتية:
القول الأول: أن القبول لا بد منه في عقد الهبة، لكنه ينعقد باللفظ وبالمعاطاة مع القرينة، وبكل ما تعارف الناس عليه، وهذا حكم الإيجاب أيضا، وقال بهذا الحنابلة في المشهور من المذهب، وهو قول للشافعية في الهدية دون عقد الهبة (1) .
القول الثاني: أن القبول ركن كالإيجاب، ولا بد أن يكون لفظا، وهذا رأي الجمهور، فهو المشهور من مذهب الحنفية (2) ، ومذهب المالكية (3) ، والشافعية في الهبة دون الهدية (4) .
القول الثالث: أن القبول ليس ركنا ولا شرطا استحسانا، وإنما الركن الإيجاب من الواهب، ولكن لا يتم الملك إلا بالقبول،
__________
(1) انظر: العزيز شرح الوجيز 6 \ 307، وروضة الطالبين 5 \ 365، 366.
(2) انظر: تكملة فتح القدير 9 \ 19- 20، وتبيين الحقائق 5 \ 91، وحاشية ابن عابدين 8 \ 451.
(3) انظر: المعونة للقاضي عبد الوهاب 3 \ 1607، وعقد الجواهر الثمينة 3 \ 59، ومواهب الجليل 6 \ 53.
(4) انظر: البيان 8 \ 112، والحاوي 9 \ 400، والتهذيب للبغوي 4 \ 527.
(73/108)
وهذا قول عند الحنفية عليه أكثر شراح الهدية (1) ، وبه قال زفر (2) وقال به الحسن البصري (3) ، وهو قول الحنابلة في الهبة للصغير سواء من أبيه أو غيره (4) .
أدلة القول الأول:
1 - أما استدلالهم لكونه ركنا فيأتي في الاستدلال للقول الثاني (5) ، وأما استدلالهم لعدم اشتراط اللفظ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدى إليه فيقبضه ويتصرف فيه، ولم ينقل أن من
__________
(1) انظر: فتح القدير 9 \ 9، 10، وحاشية ابن عابدين 8 \ 451.
(2) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 115.
(3) انظر قوله في الحاوي 9 \ 400.
(4) انظر: الفروع 4 \ 643.
(5) انظر: ص، (105) .
(73/109)
أهدى أوجب، ولا أنه صلى الله عليه وسلم قبل (1) ومن أمثلة ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة (2) .
ومنها حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بها أو يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 - أن الناس كانوا يتهادون، ويتصدق بعضهم على بعض، ولم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول، ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عمله أحد، ولو كان ذلك شرطا لنقل عنهم نقلا مشتهرا (3) فلما لم ينقل ولم ينكر دل على أنه إجماع منهم (4) .
3 - أنه يكتفى بدلالة الحالة من غير إيجاب ولا قبول في مثل دخول الحمام وهو إجارة وبيع أعيان، فإذا اكتفينا بذلك في المعاوضات مع تأكدها بدلالة الحال فإنها تنقل الملك من الجانبين
__________
(1) انظر: البيان للعمراني 8 \ 113، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 12.
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 12.
(4) انظر: البيان 8 \ 113.
(73/110)
فلأن نكتفي بذلك في الهبة أولى (1) .
4 - أنه يشق اشتراط الإيجاب والقبول باللفظ في الهبة فيكتفى بما يدل عليهما (2) .
والشافعية خصوا هذه الأدلة بالهدية دون الهبة، وقالوا: إن للهدية حكما في القبول تخالف فيه الهبات (3) .
ولكن مثل هذا التفريق يحتاج إلى دليل والأصل التساوي في الأحكام، وسبق أن الهبة أعم من الهدية (4) ، وأن كل هدية هبة ولا عكس، وإخراج الهبة عن حكم الهدية يحتاج إلى دليل، ولا دليل.
أدلة القول الثاني:
استدل الجمهور على أن القبول ركن في الهبة لا بد منه بأدلة أهمها:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهدى إلى النجاشي أواقي مسك فلما تزوج بأم سلمة قال لها: «إني كنت أهديت
__________
(1) انظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 13.
(2) انظر: المرجع السابق 17 \ 14.
(3) انظر: الحاوي 9 \ 400، العزيز للرافعي 6 \ 07 / 3، وروضة الطالبين 5 \ 365.
(4) انظر: ص (89) .
(73/111)
إلى النجاشي أواقي مسك وحلة، وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت فهي لك أو لكن» فكان كما قال، فلما ردت أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة رضي الله عنهن.
ولو صار المسك للنجاشي بدون قبول لما استحل ذلك، ولأوصله إلى وارثه (1) .
ويناقش من وجهين:
الأول: ضعف الحديث بضعف أحد رواته وجهالة الآخر كما في تخريجه.
والوجه الثاني: على فرض صحة الحديث؛ فإن الهدية لم تصل إلى النجاشي وإنما ظاهر الحديث أنها ردت من قبل حاملها إليه قبل أن تصل، فلا دلالة في الحديث على اعتبار قبول أو عدمه.
__________
(1) انظر: الحاوي 9 \ 400.
(73/112)
2 - الدليل الثاني: أن الهبة عقد تمليك فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالنكاح (1) .
ويناقش هذا الدليل: بالفرق بين النكاح والهبة، فإن مبنى النكاح على الاحتياط؛ ولهذا يشترط فيه ما لا يشترط في غيره من الإشهاد، ولا يقع إلا قليلا فلا يشق اشتراط الإيجاب والقبول فيه بخلاف الهبة (2) .
3 - أن ملك الإنسان لا ينتقل إلى الغير بدون تمليكه، وإلزام الملك على الغير لا يكون بدون قبوله (3) .
4 - أن الهبة تصرف شرعي، والتصرف الشرعي وجوده شرعا باعتباره وهو انعقاده في حق الحكم، والحكم لا يثبت بنفس الإيجاب، فلا يكون نفس الإيجاب هبة شرعا (4) .
ويناقش الدليلان: بأن الهبة عقد تبرع، ومبنى التبرع على عدم الإلزام، والقول باشتراط القبول لتصور العقد ظاهر فيما كان مبناه على الإلزام، أما ما كان من قبيل التبرع فيكفي فيه الإيجاب وحده.
5 - أن الهبة عقد تمليك تام، ينتقل عن حي فافتقر إلى القبول كالبيع (5) .
__________
(1) انظر: المقنع مع الشرح الكبير الإنصاف 17 \ 12، والإشراف 2 \ 673.
(2) انظر: المرجع السابق 17 \ 14.
(3) انظر: تكملة فتح القدير9 \ 19.
(4) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 115.
(5) انظر: الحاوي 9 \ 400.
(73/113)
ويناقش: بالفرق الظاهر بين البيع والهبة؛ لأن البيع من عقود المعاوضات، والهبة من عقود التبرعات.
أدلة القول الثالث: 1 - حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم (1) » .
فقد أطلق الراوي اسم الإهداء بدون القبول، والإهداء من ألفاظ الهبة (2) .
ويمكن أن يناقش: بأنه سماه هدية على اعتبار تمام العقد، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين السبب في رده، وأن هذا على خلاف الأصل وهو القبول.
__________
(1) أخرجه البخاري في مواضع منها في أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل برقم (1729) ، ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم (1193) .
(2) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 115.
(73/114)
2 - ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نحلها جذاذ عشرين وسقا من مال بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي من بعدى منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك من مالي جذاذ عشرين وسقا، فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك ذلك، وإنما هو مال الوارث، وإنما هو أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله، فسماها نحلة، والنحلة من ألفاظ الهبة (1) .
3 - أن الهبة عقد تبرع، فيتم بالمتبرع وحده، فصار بمنزلة الإقرار والوصية (2) .
مناقشة الدليل:
ويناقش: بالفرق بين الإقرار والهبة، فإن الإقرار إخبار عن حق ثابت ولا إنشاء فيه ولا التزام بخلاف الهبة، وأما الوصية فإنها تبرع
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 115.
(2) انظر: تكملة فتح القدير 9 \ 19.
(73/115)
معلق مضاف لما بعد الموت، والهبة تبرع في الحال فاختلفا.
3 - أن من حلف أن يهب لفلان فوهب ولم يقبل فقد بر في يمينه وهذا بخلاف البيع (1) .
ويناقش: بأن مبنى الحنث وعدمه على حصول المحلوف، ولا أثر للالتزام في ذلك، بخلاف تمام العقد فلا بد فيه من ارتباط الإيجاب بالقبول.
4 - أن الهبة في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شريطة القبول، وإنما القبول والقبض؛ لثبوت حكمهما لا لوجودهما في نفسها، فإذا أوجب فقد أتى بالهبة فتترتب عليها الأحكام (2) .
ويناقش: بأن المرجع في تحديد المقصود بالألفاظ إلى دلالات الشرع لا إلى اللغة، والهبة التزام يترتب عليه أحكام، ولا يمكن ثبوتها إلا بحصول القبول.
5 - أن القبول غير معتبر في عقد الهبة كالعتق (3) .
ونوقش: بالفرق بين الهبة والعتق من حيث إن المعتق لو رد العتق لم يبطل؛ لأن مبناه على السراية والنفوذ، بخلاف الهبة فإن
__________
(1) انظر: فتح القدير 9 \ 20، وحاشية ابن عابدين 8 \ 451.
(2) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 115.
(3) انظر: الحاوي 9 \ 400.
(73/116)
الموهوب له لو رد الهبة لبطلت؛ فلذلك افتقرت إلى قبول ولم يفتقر العتق إلى قبول (1) .
6 - أن المقصود من الهبة هو اكتساب المدح والثناء بإظهار الجود والسخاء، وهذا يحصل بدون القبول بخلاف البيع (2) .
الراجح:
الذي يظهر لي- والله أعلم- أن ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور من المذهب من اعتبار الإيجاب والقبول لكن لا يتعين اللفظ للدلالة عليهما، بل تنعقد الهبة بكل ما دل عليهما، وهذا الاختيار مبنى على الاعتبارات الآتية:
ا- قوة ما استدلوا به من أدلة.
2 - أن الهبة وإن كانت تتم بإرادة منفردة إلا أنها إنشاء التزام لا يظهر أثره إلا بارتباطه بالقبول، فيكون القبول ركنا أو شرطا، لكن الأدلة قامت على عدم تقييده بلفظ أو صيغة كالإيجاب.
3 - أن هذا القول وسط بين من ألغى القبول، وأخرج الهبة عن مسمى العقد، وبين من ألزم المتعاقدين بألفاظ ليست مرادة قطعا، وإنما هي اصطلاحات وضعت للدلالة على المراد من العقد.
__________
(1) انظر: المرجع السابق 9 \ 400.
(2) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 115.
(73/117)
المطلب الثالث: افتقار الهبة إلى القبض
الرجوع في عقد الهبة مبني على الوقت الذي تملك فيه الهبة، لهذا كان لا بد من بحث هذه المسألة ليتضح الوقت الذي تملك فيه؛ لأنها متفرعة على افتقار الهبة إلى القبض.
وقبل أن أسوق الخلاف أذكر سبب الخلاف: وهو تعارض القياس مع ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم.
فالقياس هو الأصل في جميع العقود، وهو أن لا قبض مشترط في صحتها، بل يقع العقد تاما دون أن يرتبط بالقبض، وما ورد عن الصحابة هو اعتبار القبض في لزوم الهبة وتمامها وهو إجماع منهم؛ لأنه لم ينقل عنهم خلاف في ذلك (1) .
وقد اختلف العلماء في أصل المسألة - دون التفريع فيها- إلى قولين:
أ- القول الأول: أن العقد يثبت بمجرد الهبة، ولا تفتقر إلى قبض، ثم هؤلاء منهم من يرى أن الملك تام بمجرد العقد، وهذا رأي الظاهرية (2) ، ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله- في غير المكيل والموزون (3) .
__________
(1) انظر: بداية المجتهد لابن رشد 2 \ 329.
(2) انظر: المحلى لابن حزم 9 \ 127.
(3) المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 14، والفروع 4 \ 641.
(73/118)
ومنهم من قال: يثبت العقد بمجرد اللفظ ولا يتم إلا بالحيازة والقبض سواء كانت مأذونا فيها أم لا. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، ويروى أنه القديم من قولي الشافعي (1) .
ومنهم من قال: تثبت في الهبة بمجرد العقد ولا تلزم إلا بالقبض المأذون فيه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
القول الثاني: أن القبض شرط لثبوت العقد وانتقال الملك في الهبة ثم منهم من اشترط الإذن في القبض، وهذا مذهب الشافعية، ورواية عند الحنابلة.
ومنهم من قال: إن العقد يتم بالقبض ويثبت الملك مطلقا في مجلس العقد وهو مذهب الحنفية (2) .
__________
(1) انظر: روضة الطالبين 5 \ 375.
(2) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 120، والمبسوط 12 \ 57، وتبيين الحقائق 5 \ 91، 94.
(73/119)
أدلة القول الأول: استدلوا بأدلة أهمها:
1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وجه الدلالة: أن الأمر بالوفاء بالعقود يشمل الوفاء بأصلها ووصفها والشروط المشترطة فيها، وإذا وهب الإنسان فقد التزم بالعقد، فيلزمه الوفاء به ولا يتوقف الأمر على قبض ونحوه.
مناقشة الاستدلال: يمكن أن يناقش من وجهين:
أ- أن الآية محمولة على العقود الملزمة كعقود المعاوضات، والهبة بر وتبرع فلا يلزم من أصله باتفاق، فكذلك لا يلزم ما يترتب عليه.
ب- لو قيل بأن الآية تشمل عقد الهبة باعتبار أنه عقد، فإن الآية مطلقة في جميع العقود، ولم يذكر فيها تفصيل شيء من أحكامها، فيرجع في ذلك إلى النصوص الأخرى، وإلى ما فهمه الصحابة - رضي الله عنهم-؛ لأنهم أقرب إلى الفهم وأعلم بظروف الوحي.
2 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العائد في الهبة كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه (2) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها برقم 2449، وفي باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته برقم 2478، 2479. ومسلم في كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة برقم 1622، وقد استدل بالحديث على المسألة المالكية. انظر: الإشراف 2 \ 673، والمغني 8 \ 240.
(73/120)
ووجه الدلالة منه: أن الحديث دال على تحريم الرجوع في الهبة دون أن يشترط فيها قبضا، فدل على أن القبض غير معتبر في لزوم الهبة وما كان بمعناها (1) .
ويناقش الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها هبة، والهبة الحقيقية هي المقبوضة، ويؤيد هذا التشبيه الوارد في الحديث، حيث إنه لا يصدق إلا على ما خرج من يد الواهب ثم عاد فيه، وخروج غير مقصود بغير القبض، فصار الحديث دالا على أن اللزوم لا يتم إلا بالقبض، ثم إن لازم هذا الاستدلال لزوم كل العقود.
3 - أن الهبة عقد من العقود فلم يفتقر انعقاده إلى قبض المعقود عليه كسائر العقود (2) .
ويناقش: بأن هذا الأصل عارضه الدليل الأول الدال على اعتبار القبض في لزوم الهبة وهو ما سيأتي في أدلة القول الثاني (3) .
4 - أن الهبة تمليك عين في حال الحياة فوجب أن يلزم بمجرد الإيجاب والقبول كالبيع (4) .
ويناقش: بأن قياسه على البيع لا يستقيم؛ لأن البيع من
__________
(1) انظر: المحلى 9 \ 118.
(2) انظر: الإشراف 2 \ 673، 674.
(3) انظر: ص (122) .
(4) انظر: الإشراف 2 \ 674، والمغني 8 \ 241.
(73/121)
العقود اللازمة في أصلها، وهو عقد معاوضة، فلا يصح قياس عقد من عقود التبرع عليه.
5 - أن الهبة إزالة ملك بغير عوض أو هو عقد إرفاق وتبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوقف (1) .
ونوقش هذا: بأنه لا يصح القياس على الوقف؛ لأن الوقف إخراج ملك إلى الله- تعالى- فخالف التمليكات (2) .
6 - أن الهبة عطية فوجب أن تلزم بنفس القول وحصول صفة الإيجاب والقبول كالوصية (3) .
ونوقش: بأنه لا يصح القياس على الوصية أيضا؛ لأن الوصية تلزم في حق الوارث.
7 - أنها هبة وجد فيها الإيجاب والقبول كالمقبوضة (4) .
ويناقش: بأن هذا استدلال بأصل المسألة؛ لأن أصل المسألة هو لزوم القبض، فقياس ما لم تقبض على ما قبضت لا يصح؛ لأنه قياس ما لم يتوفر فيه الشرط عند من اشترط على ما توفر فيه الشرط.
أدلة القول الثاني:
1 - ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - حينما نحلها أبو بكر
__________
(1) انظر: المغني 8 \ 241، والإشراف 2 \ 674.
(2) المغنى 241 \ 8.
(3) انظر: الإشراف 2 \ 674، والمغني 8 \ 241.
(4) الإشراف 2 \ 674.
(73/122)
الصديق - رضي الله عنه - جذاذ عشرين وسقا من مال بالغابة. . . إلخ.
وهذا الأثر نص في اشتراط القبض في صحة الهبة (1) حيث إنه كان قد وهبها في صحته ولم تقبضها حتى مرض، والإقباض في مرض الموت كالعطية، والعطية للوارث لا تصح (2) .
2 - ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة (3) » ، ومعناه لا يثبت الحكم وهو الملك؛ إذ الجواز ثابت قبل القبض باتفاق (4) .
نوقش بأن هذا الحديث لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال العيني: (هذا حديث منكر لا أصل له) ثم ذكر
__________
(1) انظر بداية المجتهد 2 \ 329.
(2) البيان للعمراني 8 \ 114.
(3) لم أقف عليه في كتب المسانيد والسنن وغيرها، وإنما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب المواهب، باب الهبات 9 \ 107 برقم 16529 عن إبراهيم النخعي.
(4) انظر المبسوط 12 \ 48.
(73/123)
أنه لا يصح أيضا من قول علي وعمر - رضي الله عنهما - بل هذا قول إبراهيم النخعي، رواه عبد الرزاق في مصنفه (1) .
3 - إجماع الصحابة على ذلك، حيث روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - كما سبق في قصته مع عائشة -رضي الله عنها -.
وورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: لا تتم نحلة حتى يحوزها المنحول.
وروي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعائشة ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك وغيرهم (2) .
ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فيكون إجماعا (3) .
ونوقش: بأن الإجماع منقوض بما نقل عن غيرهم، فقد روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: الصدقة جائزة قبضت أو لم تقبض.
وروي عنه وعن علي - رضي الله عنهما - أنهما كانا يجيزان
__________
(1) انظر: البناية شرح الهداية 9 \ 199، وما أشار إليه من إخراج عبد الرزاق في مصنفه سبق.
(2) انظر هذه الآثار عنهم في سنن البيهقي، الموضع السابق 6 \ 170.
(3) انظر: البيان 8 \ 114، والمغني 8 \ 241، وبداية المجتهد 2 \ 329.
(73/124)
الصدقة وإن لم تقبض (1) ، ولو صح الإجماع لما خالفه إمام دار الهجرة وهو يحتج - دون غيره - بعمل أهلها (2) .
ويجاب: بأن ما ورد عن علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - هو في الصدقة، والفرق بين الصدقة والهبة في هذا الحكم ظاهر؛ لأن الصدقة يراد بها ثواب الآخرة بالقصد الأول، وما أخرجه الإنسان لله فهو لازم، بخلاف الهبة، فإن القصد الأول فيها التمليك بغرض التودد فاختلفا.
4 - أن الهبة عقد تبرع، والقبض شرط فيه لتوقف الملك عليه؛ لأنه لو ملك الموهب له الهبة بنفس العقد لثبت له ولاية المطالبة بالتسليم فيؤدي إلى إيجاب الضمان على المتبرع (3) .
نوقش: بأن تبرع بالشيء قد يلزمه ما لم يتبرع به إذا كان من تمام ضرورة تصحيحه، كمن نذر أن يصلي وهو محدث لزمه الوضوء (4) .
وأجيب: بأن هذا مغالطة، فإن ما لا يتم الشيء إلا به فهو واجب إذا كان ذلك الشيء واجبا كما ذكر في الصورة، فإنه يجب
__________
(1) انظر: المحلى 9 \ 125.
(2) انظر: المرجع السابق 9 \ 125.
(3) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 120، وفتح القدير 9 \ 21.
(4) انظر: فتح القدير 9 \ 21.
(73/125)
بالنذر والشرع وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بخلاف الهبة فإنها تبرع ابتداء وانتهاء (1) ، فكما لا يلزمه التبرع ابتداء فكذلك لا يلزمه التسليم؛ لأن التسليم فرع عن عقد الهبة.
5 - أنها هبة لم تقبض فكانت غير لازمة كما لو مات الواهب قبل أن يقبض الموهوب فإن وارث الواهب لا يجبر على الإقباض وقد وافق مالك على ذلك (2) .
6 - أن عقد التبرع ضعيف في نفسه ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم، والملك الثابت للواهب كان قويا فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتأيد به وهو القبض (3) .
ويناقش: بأن مقتضى هذا التعليل طرد ذلك في جميع عقود المعاوضات؛ لأن اللزوم فيها من العاقد الموجب، فإذا أثبتنا اللزوم بدون القبض لزم زوال الأقوى وهو الملك الثابت على العين بالسبب الأضعف وهو الإرادة المتفردة من الموجب.
الترجيح:
يظهر لي- والله أعلم- أن كلا القولين له وجاهة واعتبار، وله مؤيدات ومرجحات، ولكن يتقوى القول باعتبار القبض في لزوم
__________
(1) انظر: المرجع السابق 9 \ 21.
(2) انظر: البيان 8 \ 114، والمغني 8 \ 241.
(3) انظر: المبسوط 12 \ 48.
(73/126)
عقد الهبة بما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - مما هو كالإجماع منهم على اعتبار القبض، ثم إن بعض ما استدلوا به سلم من المناقشة، ويتأيد من وجه ثالث وهو أن هذا أضبط في تنظيم العقود، وأثبت لتأصيلها، وأبعد عن النزاع فيها، ويزيد الأمر وضوحا ما سيأتي من أدلة تدل على جواز الرجوع في الهبة - على الخلاف الذي سيأتي (1) . والله أعلم.
__________
(1) انظر: ص (134) .
(73/127)
المطلب الرابع: الوقت الذي تملك فيه الهبة
الخلاف في هذه المسألة متفرع عن المسألة السابقة، وتشترك معها في أغلب الاستدلالات، وتحاشيا للتكرار فإني أشير إلى صورة المسألة، والأصل الذي تفرعت عنه أو القول الذي تبنى عليه.
وقد تحصل من خلال ما ذكره العلماء - رحمهم الله - في الوقت الذي تملك فيه الهبة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الهبة لا تملك إلا بالقبض، وأنها قبل القبض على ملك الواهب يتصرف فيها كيف شاء، وهذا القول مبني على أن القبض ركن في لزوم الهبة أو شرط، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية بناء على أن القبض عندهم شرط لتمام الهبة لا لصحتها، لكن يجبر الواهب على الإقباض فإن ترك الموهوب له القبض حتى أفلس الواهب
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 6 \ 120، 123، وتبيين الحقائق 5 \ 91، وفتح القدير 9 \ 21.
(73/127)
أو مرض بطلت الهبة (1) .
ومذهب الشافعية في المشهور وهو جديد قولي الشافعي - رحمه الله (2) ، وهو مذهب الحنابلة في المكيل والموزون ونحوهما مطلقا، وفي غيرهما على المذهب.
القول الثاني: أن الملك ينتقل إلى الموهوب بمجرد عقد الهبة، وهذا قول الظاهرية (3) ، ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - في غير المكيل والموزون (4) ، ويحكى عن القديم عند الشافعي (5) وهو ظاهر إطلاق بعض المالكية (6) إلا أنه عند التأمل فإن حقيقة مذهبهم هي ما سبقت الإشارة إليه.
وهذا القول مبني على أن العقد تام بمجرد الإيجاب من الواهب، والقبول من الموهوب له.
__________
(1) انظر: بداية المجتهد 329 \ 2، ومواهب الجليل 6 \ 54.
(2) انظر: الوسيط 4 \ 269، والعزيز 6 \ 319، وروضة الطالبين 5 \ 375.
(3) انظر المحلى 9 \ 127.
(4) انظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 18، والفروع 4 \ 641.
(5) انظر: روضة الطالبين 5 \ 275.
(6) انظر: الإشراف 2 \ 673، وعقد الجواهر الثمينة 3 \ 59.
(73/128)
القول الثالث: أن الملك موقوف إلى أن يوجد القبض، فإن وجد صار للموهوب له من حين قبوله وإلا فهو للواهب، وهذا قول عند الشافعية (1) . وقول عند الحنابلة أيضا (2) .
وأما الاستدلال لهذه الأقوال فهو ما سبق في المسألة التي قبلها (3) ؛ لأن تفاصيل هذه المسألة لا تخرج عنها، فمن اعتبر الملك بالقبض جعل القبض ركنا وشرطا لصحة الهبة أو تمامها وقد سبق الاستدلال لذلك (4) ومن اعتبره بالعقد لم يعتبر القبض.
وأما من جعل الملك موقوفا فهو توسط بين القولين، وأخذ بأدلة الفريقين، وروعي فيه جواز العقد في أوله، ومصيره إلى اللزوم في مآله، ولكن في نظري أن هذا التوسط لا يسلم؛ لأن الأدلة لا تدل عليه، ويخالف ما هو كالإجماع من الصحابة حيث اعتبروا لزوم الهبة وترتب الملك عليه بالقبض.
الترجيح:
إذا ترجح أن العقد لا يتم إلا بالقبض كما يسبق (5) ، فإن الملك معتبر به كذلك، فيكون ملك الموهوب للواهب، ونماؤه له، ولا يلزم إلا
__________
(1) انظر: العزيز 6 \ 319، وروضة الطالبين 5 \ 375.
(2) انظر: الفروع 4 \ 642، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 17 \ 18.
(3) انظر ص (119- 136) .
(4) انظر ص (119) .
(5) انظر ص (125) .
(73/129)
بالقبض، وهذا هو الذي يتفق مع ما سبق تقريره من أن عقد الهبة عقد جائز من الطرفين (1) ، فإثبات الملك للموهوب له مع القول بجواز العقد تناقض ظاهر، وكما أن هذا القول أقعد فهو أسلم من الخلاف، إذ إن القول بثبوت الملك فيها من حين العقد يستلزم خلافا فيما إذا نما المال الموهوب، وكذلك إذا احتاج إلى نفقة، وهذه العقود القصد منها حصول المودة والمحبة لا أن تنتج عكس ذلك.
__________
(1) انظر: ص (102) .
(73/130)
المبحث الثالث: حكم الرجوع في عقد الهبة
المطلب الأول: المراد بالرجوع
الرجوع: الانصراف عن الشيء، وراجع الرجل: رجع إلى خير أو شر، وتراجع الشيء إلى خلف، وليس لهذا البيع مرجوع أي: لا يرجع فيه (1) .
فالمدلول اللغوي للرجوع ظاهر وهو: ترك الأمر بعد العزيمة عليه، وإطلاق هذا المعنى على الرجوع في العقود يراد به: عدم إنفاذها بعد إبرامها، ومن هنا فإن الرجوع في الهبة قبل القبض لا يعد رجوعا حقيقة، وإنما يسمى رجوعا تجوزا، إذ الرجوع إنما يكون بعد لزوم العقد وتمامه بالقبض، وهذا يوضح المراد بالمسألة، ويحررها، فما كان قبل القبض فهو رجوع عن إبرام العقد، وترك له من أصله،
__________
(1) انظر: لسان العرب 8 \ 114، 117، 119.
(73/130)
وليس رجوعا فيه (1) ، فلا يدخل فيما ورد النهي عنه من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه (2) » . . . (3) .
وإن كان هذا الأمر منافيا للمروءة، وليس من صنع أهل الشيم، لكنه لا يأخذ الحكم الذي سيرد الحديث عنه.
أما إن كان بعد لزوم الهبة بالقبض فهذا رجوع فيها، وهو المراد بما ذكره الفقهاء - رحمهم الله - ويكون الرجوع بالألفاظ الدالة على رجوع الواهب في هبته كأن يقول: قد رجعت فيها أو ارتجعتها، أو ارتددتها، أو نحو ذلك من الألفاظ الدالة على الرجوع، ولا يحتاج إلى حكم حاكم (4) .
ويعبر بعض المالكية عن الرجوع في الهبة بالاعتصار، وهو بمعنى الرجوع (5) .
وهذه هي الألفاظ الصريحة في الرجوع، أما الكتابة فلا بد فيها من النية ليكون رجوعا في الهبة، ولا ينحصر الأمر فيما ذكر من الألفاظ بل كل ما دل عليه حتى ما كان بلفظ الإبطال والنقض فهو صالح للدلالة على معنى الرجوع.
__________
(1) انظر المغني 8 \ 242.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3003) ، صحيح مسلم الهبات (1620) ، سنن النسائي الزكاة (2615) ، مسند أحمد بن حنبل (1/40) ، موطأ مالك الزكاة (624) .
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر المغني 8 \ 268، ونهاية المحتاج 5 \ 418.
(5) انظر: عقد الجواهر الثمينة 3 \ 69.
(73/131)
وجمهور العلماء أن هذا الرجوع فسخ لا يفتقر إلى قضاء القاضي (1) ، ويرى الحنفية أنه لا يصح الرجوع إلا بقضاء قاض (2) ؛ لأن ملك الموهوب له مستقر (3) ، ولأن الرجوع في الهبة مختلف فيه، وفي أصله ضعف؛ لأنه ثبت بخلاف القياس لكونه تصرف في ملك الغير فافتقر إلى حكم الحاكم (4) .
والترجيح في هذه المسألة مبني على حكم الرجوع وهو ما سيتبين في المسائل الآتية، وقول الحنفية ظاهر منه أنه مبني على رأيهم في حكم الرجوع، ولذلك عللوه بالتنازع الناتج عن الخلاف، والأمور المفضية إلى التنازع الأمر فيها إلى القضاء.
وأما الجمهور فإن قولهم في ذلك مبني على قولهم في حكم الرجوع، وهو المنع إلا فيما استثني، وما استثني مبني على التسامح والتوقير فلا يحتاج إلى حكم الحاكم.
وهذه المسألة أحببت الإشارة إليها من باب تكميل البحث وذكر جوانبه المتعددة. والله أعلم.
__________
(1) انظر المغني 8 \ 269، وفتح الواهب 1 \ 261.
(2) انظر: المسبوط 12 \ 52، والبناية في شرح الهداية 9 \ 243.
(3) انظر المغني 8 \ 269.
(4) انظر البناية 9 \ 244.
(73/132)
المطلب الثاني: حكم الرجوع في الهبة وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حكم الرجوع فيها في حال الصحة قبل القبض:
هذه المسألة من ثمار الخلاف في المسألتين السابقتين وهما: حكم قبض الهبة، والوقت الذي تملك فيه، ولكن في نظري أن الخلاف فيها ضعيف، وأنه ينبغي أن تكون المسألة اتفاقية في الجواز؛ ذلك لأن الجميع متفقون على أن نفاذ أي تصرف متوقف على الإقباض، كما أنه من حيث الواقع لا يدخل تحت الرجوع بمعناه الاصطلاحي الخاص، فهو ليس رجوعا في العقد وإنما هو رجوع عن إبرام العقد، يقول شيخ الإسلام- رحمه الله - (1) : (التحقيق أن يقال في هذه العقود إذا لم يحصل القبض فلا عقد، وإن كان بعض الفقهاء، يقول بطل العقد، فكما يقال إذا لم يقبل المخاطب بطل الإيجاب، فهذا بطلان ما لم يتم لا بطلان ما تم) .
ومع ذلك فإنه يمكن أن نلمح للفقهاء في هذه المسألة قولين:
القول الأول: أنه يجوز الرجوع في الهبة قبل القبض، وأن الأمر راجع إلى الواهب إن شاء أجاز العقد وأقبض وإن شاء رجع، وهذا قول الجمهور، فهو مذهب الحنفية (2) والشافعية (3) ،
__________
(1) انظر قواعد ابن رجب 1 \ 357.
(2) انظر: البناية على الهداية 9 \ 227، وحاشية ابن عابدين 8 \ 489، وفتح القدير 9 \ 39.
(3) انظر: التهذيب 4 \ 527، والبيان 8 \ 116، والحاوي 9 \ 414.
(73/133)
والحنابلة، وهو قول للمالكية حكاه جماعة عن الإمام مالك، لكن قالوا: إنه شاذ (1) .
أدلة هذا القول:
استدلوا بأدلة سبق سياق بعضها في المسألتين السابقتين في افتقار الهبة إلى القبض مما هو كالإجماع من الصحابة - رضي الله عنهم - فيما ورد عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم- رضي الله عنهم - (2) ، وما سبق في الوقت الذي تملك فيه.
ومن الأدلة أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه (3) » . والرجوع في الموهوب إنما يكون في حق الأعيان دون الأقوال (4) ، والهبة قبل القبض رجوع في قول فلا يدخل في هذا الحديث؛ لأن عقد الهبة لم يتم (5) .
ويمكن أن يستدل لذلك أيضا: بأن عقد الهبة من عقد التبرعات التي لا تلزم باتفاق، وإلزام المتبرع بقوله الصادر منه مصير إلى اللزوم دون
__________
(1) انظر: مواهب الجليل 6 \ 54- 55، والذخيرة 6 \ 255- 256.
(2) انظر ص (119) .
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر البناية شرح الهداية 9 \ 227.
(5) انظر: كشاف القناع 4 \ 301.
(73/134)
حاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن مجرد القول لم يترتب عليه استحقاق أو ظلم، وإنما هو مجرد وعد.
ويمكن أن يستدل أيضا: بأن الفقهاء -رحمهم الله- ذكروا أن للموجب في عقد البيع ونحوه الرجوع عن إيجابه قبل قبول الطرف الآخر (1) وعللوا ذلك بأنه لم يثبت للقابل حق حتى يبطله الآخر بلا معارض أقوى؛ لأن الثابت له بعد الإيجاب حق التملك، والموجب هو الذي أثبت له هذه الولاية فله أن يرفعها كعزل الوكيل (2) ، وإذا كان هذا في عقد البيع مع أنه من عقود المعاوضات التي مبناها على اللزوم فلأن يثبت نظير ذلك في عقود التبرعات إلى أصلها الجواز من باب أولى.
هذه أهم الأدلة التي يمكن إضافتها إلى ما سبق في حكم القبض (3) .
القول الثاني: أن الواهب إذا أوجب وقبل فقد انعقد العقد، وليس للواهب الرجوع فيه، ويلزمه إقباضه للموهوب له، ويجبر على ذلك إن امتنع منه، ولا يبطل العقد بتأخير الإقباض، وهذا القول هو المشهور من مذهب المالكية.
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية 30 \ 213
(2) انظر فتح القدير 6 \ 254
(3) انظر ص (117)
(73/135)
وأدلتهم هي التي سبق الاستدلال بها على أن العقد يلزم بالقول من غير قبض، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وحديث «العائد في الهبة (2) » وبالقياس على سائر العقود (3) وسبقت مناقشة الاستدلال بهذه الأدلة، وأنها لا تستقيم دليلا على عدم اشتراط القبض (4) وكذلك في هذه المسألة؛ لأن مبناها على لزوم العقد بالإيجاب والقبول دون قبض.
وبما أنه قد ترجح في المسألة السابقة اشتراط القبض، فإنه في هذه المسألة يظهر رجحان ما ذهب إليه الجمهور، لقوة الأدلة، لا سيما ما ثبت عن أبي بكر -رضي الله عنه- فيما نحله لعائشة -رضي الله عنها- حينما رجع فيه (5) .
وأشير في ختام هذه المسألة إلى أننا مع القول بجواز الرجوع فإن هذا من حيث النظر في الأدلة، وأما من حيث الواقع العملي فإنه لا ينبغي للإنسان أن يفعل ذلك إلا لسبب ظاهر، كأن يظهر له مصلحة راجحة في الرجوع عن العقد؛ لأن الرجوع ليس من صنيع
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2589) ، صحيح مسلم الهبات (1622) ، سنن الترمذي البيوع (1298) ، سنن النسائي كتاب الهبة (3703) ، سنن أبو داود البيوع (3538) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) .
(3) انظر: المعونة 3 \ 1607، والإشراف 2 \ 677، وانظر بقية هذه الأدلة ص101
(4) انظر: مناقشة هذه الأدلة ص (119) وما بعدها.
(5) سبق ذكره وتخريجه ص 115
(73/136)
أهل المروءات، وقد أشار بعض الفقهاء إلى أن الرجوع قبل القبض جائز مع الكراهة مراعاة لخلاف من قال: إن الهبة تلزم بالعقد (1) .
فتكون الكراهة لهذا السبب، وللعلة الأولى وهي منافاة ذلك لصنيع أهل الشيم. والله أعلم.
__________
(1) انظر كشاف القناع 4 \ 301
(73/137)
المسألة الثانية: حكم الرجوع في الهبة بعد القبض:
هذه المسألة هي مقصود البحث، ومن خلال تتبع ما ذكره العلماء -رحمهم الله- يقف الباحث على أقوال وتفصيلات كثيرة، سأحاول لم شتاتها وجمع ما تفرق منها، وقبل أن أذكر الخلاف، أشير إلى سبب الخلاف فيها، وعند التأمل نجد أنه راجع إلى سببين رئيسين:
1 - تعارض عموم الأحاديث مع ما ورد فيها من الاستثناء، فإن النهي عن العود في الهبة ورد عاما في مثل حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- «العائد في هبته كالعائد في قيئه (1) » وورد التخصيص في أحاديث أخرى كحديث ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- «إلا الوالد فيما يعطي ولده (2) » فمن العلماء من أخذ بالعموم لصراحته وقوته حيث إنه وارد
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سيرد الحديث كاملا مع تخريجه 147
(73/137)
في الصحيحين ولم يعتبروا الاستثناء، ومنهم من خصص العموم بالاستثناء الوارد.
2 - تعارض ما ورد من الآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم (1) كما سيرد في بحث المسألة.
والخلاف في الرجوع في الهبة التي لم يقصد بها الثواب أصلا، وإنما التي أريد بها التودد ونفع الموهوب، أما الهبة التي يراد بها الصدقة أي: وجه الله سبحانه فقد أجمع العلماء أنه لا يجوز؛ الرجوع فيها (2) .
ويمكن حصر خلاف العلماء في هذه المسألة في ثلاث أقوال:
القول الأول: أن الواهب إذا أقبض هبته فليس له الرجوع فيها مطلقا، سواء كانت الهبة من الأب لابنه أو غيره من القرابة، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- اختارها جمع من أصحابه، ونسبه بعض المالكية لأهل الظاهر (3) .
القول الثاني: أن الأصل تحريم الرجوع في الهبة بعد إقباضها،
__________
(1) انظر بداية المجتهد 3 \ 332- 333
(2) انظر السابق 2 \ 332
(3) انظر: بداية المجتهد 2 \ 332، والخرشي على مختصر خليل 3 \ 117.
(73/138)
إلا من استثنى، وقد اتفق القائلون بهذا الاستثناء على الأب، واختلفوا فيمن يلحق به، وهذا القول هو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
واختلفوا فيمن يلحق بالأب.
فالمالكية: على أنه يلحق بالأب الأم في حياة الأب، أما بعد وفاته فإنها لا تلحق به (1) .
وللشافعية في ذلك لهم أربعة أوجه:
أحدها: يختص الرجوع بالأب.
والثاني: بالأبوين خاصة.
والثالث: اختصاصه بكل أصل تثبت له الولاية.
والرابع: وهو أصحها، شموله لكل أصل فيدخل الأب والأجداد والأم والجدات، أما غير الأصول فهم كالأجانب (2) .
وأما الحنابلة فالمشهور من المذهب: أنه يختص بالأب الأقرب
__________
(1) انظر عقد الجواهر الثمينة 3 \ 70، والكافي لابن عبد البر 2 \ 1004، 1005، وبداية المجتهد 2 \ 332
(2) انظر: الوسيط 4 \ 273، والعزيز 6 \ 323، وروضة الطالبين 5 \ 379.
(73/139)
دون غيره وقيل: إن الأم كالأب في ذلك وهو ظاهر كلام الخرقي.
القول الثالث: أن الأصل جواز الرجوع إلا لذي الرحم المحرم فلا يجوز وهذا مذهب الحنفية.
هذه أهم الأقوال، وثمة تفريعات أخرى لكنها تعود إلى هذه الأصول أدلة القول الأول: استدلوا بأدلة كثيرة منها:
1 - حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه (1) » .
ولفظ مسلم: «مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه يأكله (2) » .
البخاري وأخرجه-رحمه الله- أيضا 55 بلفظ: «ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه (3) » .
__________
(1) سبق تخريجه
(2) أخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض برقم: 1622
(3) أخرجه البخاري في كتاب الهبات، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته برقم 2479.
(73/140)
قال الحافظ ابن حجر عن ترجمة البخاري (1) : (كذا بت الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده) .
وقال أيضا (2) : قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لنا مثل السوء (3) » أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) ، ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم مما لو قال مثلا: (لا تعودوا في الهبة) .
وقال النووي -رحمه الله-: (هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة) (5) .
وهذا الحديث عام يشمل الأب وغيره (6) ، وما ورد من الاستثناء لا يقاوم هذا الحديث (7) .
مناقشة هذا الاستدلال: نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن من القواعد العامة أن العام يحمل على الخاص، وقد ورد ما يخصصه بالأب كما سيأتي في أدلة القول
__________
(1) فتح الباري 5 \ 278
(2) المرجع السابق 5 \ 278
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2622) ، صحيح مسلم الهبات (1622) ، سنن الترمذي البيوع (1298) ، سنن النسائي كتاب الهبة (3703) ، سنن أبو داود البيوع (3538) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) .
(4) سورة النحل الآية 60
(5) شرح مسلم 11 \ 64
(6) انظر بداية المجتهد 2 \ 333
(7) انظر الاستذكار لابن عبد البر 22 \ 315
(73/141)
الثاني (1) .
الوجه الثاني: أن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم العائد بهبته بالكلب لاستقباحه واستقذاره لا في حرمة الرجوع، ويؤيد ذلك: أن فعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة وبه نقول إنه يستقبح (2) لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراما عليه، فيكون المراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب (3) .
وأجيب: بأن هذا التأويل بعيد، وسياق الأحاديث ينفيه، وعرف الشرع في مثل هذه الأشياء أنه يقع التشبيه ويراد به المبالغة في الزجر (4) .
2 - الدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها.
__________
(1) انظر ص (144-147)
(2) انظر البناية 9 \ 232 والمبسوط 12 \ 52
(3) فتح الباري 5 \ 279
(4) انظر المرجع السابق 5 \ 279
(73/142)
3 - أنها هبة يحصل بها الأجر من الله تعالى، فلم يجز الرجوع فيها كصدقة التطوع (1) .
ويمكن أن يجاب: بأن هذا تعليل في مقابلة النص الذي دل على جواز الرجوع.
4 - أن المقصود من الهبة فيما يتعلق بهبة الوالد صلة الرحم، وفي الرجوع قطيعة رحم، والولادة أقوى من القرابة المتأبدة بالمحرمية (2) .
ويمكن أن يجاب: بأن هذا أيضا معارض بالأحاديث الدالة على جواز الرجوع عند وجود سببه.
ثم يقال: إن الرجوع عن الهبة فيما يتعلق بالوالد ينتج عكس ما ذكروه؛ لأنه لن يرجع إلا لسبب قوي يحقق به معنى أقوى بما قصده بالهبة، وإثبات الرجوع له يتمشى مع الأصل الثابت أن الولد من الكسب، هذه أهم أدلة القول الأول.
أدلة القول الثاني:
1 - ما رواه النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن أباه «أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما،
__________
(1) المغني 8 \ 262
(2) انظر المبسوط 12 \ 49
(73/143)
فقال: أكل ولدك نحلته مثله؟ قال: لا، قال: فأرجعه (1) »
وأخرجه البخاري أيضا (2) أن النعمان بن بشير - رضي الله عنه- قال وهو على المنبر: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته (3) » .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (4) وفي الحديث رجوع الوالد فيما وهب للولد وهي خلافية، وحديث الباب ظاهر في الجواز.
ففي الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد بالرجوع في هبته، وأقل أحوال الأمر الجواز. وقد امتثل ذلك فرجع
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الهبات، باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئا لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخرين مثله ولا يشهد عليه، وهل للوالد أن يرجع في عطيته برقم 2446. ومسلم في كتاب الهبات، باب تفضيل بعض الأولاد في الهبة برقم 1623.
(2) في كتاب الهبات باب الإشهاد على الهبة برقم 2447
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، صحيح مسلم الهبات (1623) ، سنن الترمذي الأحكام (1367) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن أبو داود البيوع (3542) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .
(4) فتح الباري 5 \ 251.
(73/144)
في هبته لولده، ولذلك قال النعمان: فرجع فرد عطيته (1) .
مناقشة الاستدلال:
نوقش بمناقشات كثيرة: أهمها قالوا: إن الحديث ليس فيه دليل على أن النعمان كان صغيرا، فيحمل أنه كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فكان له الرجوع (2) .
وأجيب بأن الذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره، فأمره برد العطية المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض (3) .
2 - أن هذه الهبة لم تتنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن لا يفعل، وقوله صلى الله عليه وسلم (أرجعه) أي: أمسك مالك أو ارجع إلى مالك (4) .
وأجيب: بأن هذا الحمل يخالف ظاهر الحديث؛ لأنه ورد فيه «إني نحلت ابني غلاما (5) » وهذا يدل على أنه أعطاه إياه، وكذلك قوله: (فأرجعه) يدل على أنه قد قبضه (6) .
3 - أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فأشهد على هذا
__________
(1) انظر المغني 8 \ 262، وشرح مشكل الآثار 13 \ 70
(2) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي 4 \ 85، والمبسوط 12 \ 56
(3) انظر شرح مشكل الآثار للطحاوي 13 \ 70، وفتح الباري 5 \ 254
(4) انظر شرح معاني الآثار 4 \ 87 والمبسوط 12 \ 56
(5) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2586) ، صحيح مسلم الهبات (1623) ، سنن الترمذي الأحكام (1367) ، سنن النسائي النحل (3675) ، سنن أبو داود البيوع (3542) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2376) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .
(6) انظر المغني 8 \ 262 وفتح الباري 5 \ 254
(73/145)
غيري (1) » يدل على أن الملك ثابت؛ لأنه لو لم يثبت لا يصح قولي، فهذا خلاف ما في الحديث الأول.
ولا يدل على فساد العقد الذي كان عقده بشير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يتوقى الشهادة على ماله، ويحتمل أنه امتنع؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما شأنه أن يحكم (2) .
وأجيب من وجهين:
أ- أن قوله: (أشهد) ليست صيغة إذن، بل هي للتوبيخ؛ لأنه قد وردت ألفاظ أخرى في الحديث تدل على هذا الحمل، كقوله: «فإني لا أشهد على جور (3) » .
فهذا اللفظ ظاهره الأمر، وباطنه الزجر، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (4) (5) .
ب- أنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه (6) .
وقد أورد الحافظ ابن جحر جملة من الاعتراضات وأجاب
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب تفضيل بعض الأولاد في الهبة برقم 1623، وهو من ألفاظ الحديث المتقدم
(2) انظر شرح معاني الآثار 4 \ 85 وفتح الباري 5 \ 254
(3) أخرجه مسلم في الموضع السابق
(4) سورة فصلت الآية 40
(5) انظر شرح مشكل الآثار 13 \ 71- 72، وفتح الباري 5 \ 254
(6) انظر فتح الباري 5 \ 254
(73/146)
عنها، وكلها في نظري تأويلات ضعيفة لا تقاوم هذا الاستدلال الواضح، ثم إنه يحتاج إلى مثل هذا الحمل لو ورد حديث صحيح يعارضه، أو يقاومه.
وكما سيتبين في أدلة من منع أنه لا حجة لهم من السنة.
2 - الدليل الثاني: حديث عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل للرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه (1) »
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2 \ 27. وأبو داود في سننه، في باب الرجوع في الهبة 3 \ 291 برقم 3539. والترمذي في سننه في كتاب الهبات، باب في كراهية الرجوع في الهبة 4 \ 422 برقم 2132، وفي باب ما جاء في الرجوع في الهبة 3 \ 592 برقم 1298، 1299، لكن في الموضع الأخير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فقط. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى في باب رجوع الوالد فيما يعطي لولده وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك 4 \ 121برقم 6520. وابن ماجه في باب من أعطى ولده ثم رجع فيه 2 \ 795 برقم 2377، والبيهقي في السنن الكبرى 6 \ 179 في باب رجوع الوالد فيما وهبه لولده. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقال الحاكم في مستدركه 2 \ 53 برقم 2289: هذا حديث صحيح الإسناد فإني لا أعلم خلافا في عدالة عمرو بن شعيب، إنما اختلفوا في سماع أبيه عن جده. ووافقه الذهبي في التلخيص. وقد أخرج الحديث ابن حبان في صحيحه في ذكر البيان بأن هذا الزجر الذي أطلق بلفظ العموم لم يرد به كل الهبات ولا كل الصدقات 11 \ 524 برقم 5123. وانظر: التلخيص الحبير 3 \ 72، ونصب الراية 4 \ 124.
(73/147)
مناقشة الاستدلال بالحديث:
نوقش من وجهين:
الأول: بأن الحديث ليس على ظاهره، فالمراد بقوله: «إلا الوالد (1) » أي: ولا الوالد، كقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (3) .
فالمعنى: ولا الذين ظلموا منهم، وكذلك في الآية الثانية (4) .
2 - الوجه الثاني: أن هذا ليس رجوعا حقيقة، بل المراد أن الوالد دون غيره له أن يتملك من مال ابنه، ويأخذ ما تدعوه حاجته، وإنما سمي ذلك رجوعا باعتبار الظاهر، وإن لم يكن رجوعا حكما (5) .
ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول: بأن الأصل الحمل على الحقيقة والظاهر، وصرف اللفظ عن ظاهره لا بد له من قرينة تؤيده، ولو قيل بمثل هذه التأويلات المحتملة لم يسلم دليل من اعتراض، ثم
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1299) ، سنن النسائي الهبة (3690) ، مسند أحمد بن حنبل (1/237) .
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة النساء الآية 92
(4) انظر المبسوط 12 \ 55
(5) انظر المبسوط- مرجع سابق- وشرح معاني الآثار 4 \ 80، وشرح مشكل الآثار 13 \ 67
(73/148)
إن هذا التأويل ينفيه ما ورد في حديث النعمان السابق حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بإرجاع الهبة وردها (1) وهذا تطبيق لهذا الاستثناء الوارد في الحديث، فلئن كان ما ذكروه محتملا ولو كان بعيدا فإن ورود حديث النعمان يقضي على هذا الاحتمال.
وبمثل هذا الجواب يجاب عن الاحتمال الثاني، ويقال أيضا:
لو ورد دليل صريح قوي يعارض هذا الحكم لكان المستدل محتاجا إلى مثل هذا التأويل، أما وقد اتفقت الأدلة فلا حاجة لمثل هذه التأويلات، على أن الحنفية يجيزون الرجوع في الهبة لأجنبي ويمنعون الأب، مع صراحة الأدلة، والحق أحق أن يتبع.
3 - حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم (2) » .
4 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال:
__________
(1) انظر الحديث وتخريجه وما قيل فيه ص (144) وما بعدها
(2) أخرجه الترمذي في باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده 3 \ 639 برقم 1358. وابن ماجه في الأحكام، باب ما للرجل من مال ولده 2 \ 768 برقم 2290. وابن أبي شيبة في مصنفه 7 \ 294 برقم 3613. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وابن حبان في صحيحه في باب حق الوالدين، ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أن مال الابن يكون للأب 1 \ 227 برقم 412.
(73/149)
«أنت ومالك لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم (1) » .
فميز الولد عن غيره، وجعله كسبا لوالده، فكان ما كسبه الولد منه أولى أن يكون من كسبه (2) .
أما أدلة هذا القول من النظر فهي:
5 - أن ما بيد الولد في حكم ما بيد الوالد، لجواز تصرفه فيه إذا كان صغيرا وأخذ النفقة منه إذا كان كبيرا فصارت هبة الوالد لولده وإن خرجت عن يده في حكم ما وهبه وهو باق في يده فهو ليس رجوعا في الحقيقة (3) .
6 - أن الأب تباين أحكامه أحكام غيره، فلا يعادي ولده ولا تقبل شهادته له، فجاز أن يخالف غيره في جواز الرجوع في الهبة؛ لأن انتفاء التهمة تدل على أن رجوعه فيها لشدة الحاجة منه إليها، فهو مطبوع على إيثار ولده على نفسه فلا يرجع إلا لحاجة أو مصلحة (4)
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع باب في الرجل يأكل من مال ولده 3 \ 289 برقم 3530 وابن ماجه في باب ما للرجل من مال ولده 2 \ 769 برقم 2292 والبيهقي في السنن الكبرى 7 \ 480 قال الشوكاني في نيل الأوطار 6 \ 1 \ 120: وهو حديث ينهض للاحتجاج بمجموع طرقه، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2 \ 30 برقم 1856.
(2) انظر: الحاوي للماوردي 9 \ 415
(3) انظر الحاوي 9 \ 415 وفتح الباري 5 \ 251
(4) انظر: الحاوي 9 \ 415
(73/150)
فهذه جملة أدلتهم.
أما استدلال من ألحق الأم بالأب في الرجوع (1) فأهمها:
1 - عموم الأدلة السابقة كقوله: «إلا الوالد فيما يعطي ولده (2) » .
وكقوله: «واعدلوا بين أولادكم (3) » ، فيدخل فيه الأم، فإنها مأمورة بالتسوية والعدل، والرجوع في الهبة طريق التسوية (4) .
2 - ولأنها دخلت في المعنى في حديث بشير فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «فأرجعه (5) » أي: أن الهبة المذكورة كانت بمشورة من والدة النعمان كما سبق (6) .
3 - أنها لما ساوت الأب في تحريم التفضيل، وكلهم والد فيه البعضية وفضل الحنو فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع تخليصا لها من الإثم، وإزالته للتفضيل المحرم (7) .
ونوقشت هذه الاستدلالات: بأن الأحاديث المذكورة خصت
__________
(1) وهم المالكية في حياة الأب والحنابلة في الرواية الثانية انظر (61- 62)
(2) سبق تخريجه
(3) سبق تخريجه
(4) انظر الإشراف 2 \ 676 والمغني 8 \ 263
(5) سبق تخريجه
(6) انظر المغني 8 \ 263
(7) انظر المغني - مرجع سابق والحاوي 9 \ 416، والعزيز 6 \ 323
(73/151)
الوالد، والوالد عند الإطلاق إنما يتناول الأب دون الأم، والفرق بينهما: أن للأب ولاية على ولده، ويحوز جميع المال في الميراث والأم بخلافه (1) .
وأما تقييد الإمام مالك رجوع الأم بحياة الأب؛ لأن الصغير بعد موت الأب يكون يتيما، وهبة اليتيم لازمة كصدقة التطوع، فلا يجوز الرجوع فيها (2) .
وأما إثبات الرجوع لعموم الأصول عند الشافعية واستدلالهم لذلك: بأن الأصول يتساوون في استحقاق النفقة والعتق وسقوط القصاص فجاز لهم الرجوع كالأب (3) .
ولأن الفرق بين الأجنبي وذي الرحم في الهبة متفق عليه، لوجود النص المعاضد، والبعضية الممازجة والتمييز بالأحكام المخصوصة فلأن يكون الرجوع في الهبة مع الرحم أولى منه مع الأجنبي) (4) .
فيمكن أن يناقش: بأن هذا توسيع لمفهوم الوالد، والأصل تحريم الرجوع في الهبة، وثبوته للوالد على خلاف الأصل، فينبغي أن يقتصر فيه على أقل ما يقتضيه اللفظ.
وأما استدلال المالكية على التفريق بين الهبة وحياة الأب وبعد
__________
(1) انظر المغني 8 \ 263
(2) انظر المغني 8 \ 263، والاستذكار 22 \ 311
(3) انظر التهذيب 4 \ 537
(4) انظر الحاوي 9 \ 415
(73/152)
موته بالنسبة للأم فهو تفريق بلا دليل؛ لأن التفريق في المسمى بين الهبة والصدقة بناء على هذا الاعتبار لا يسنده نص، ولم يقل به أحد.
أدلة القول الثالث:
1 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها (1) » .
نوقش هذا الحديث: بأنه ضعيف (2) .
2 - حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها (3) » .
ونوقش هذا: بأن الحديث لا يثبت مرفوعا، وإنما الصواب: أنه عن ابن عمر عن عمر موقوفا (4) .
3 -آثار وردت عن الصحابة -رضي الله عنهم- فمنها ما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: (من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب من وهب هبة رجاء ثوابها 2 \ 798 برقم 2387، والدارقطني في كتاب البيوع 3 \ 43 برقم 180، وابن أبي شيبة في باب الرجل يهب الهبة فيريد أن يرجع فيها 4 \ 420 برقم 21704
(2) لأنه من رواية إبراهيم بن إسماعيل بن جارية وقد ضعفوه، انظر نصب الراية 4 \ 125
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 2 \ 60 برقم 2323، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، والدارقطني في كتاب البيوع 3 \ 43 برقم 179، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4 \ 81
(4) انظر: سنن الدارقطني، 3 \ 43
(73/153)
هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها) .
ومنها ما ورد عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: المواهب ثلاثة، رجل وهب من غير أن يستوهب فهي كسبيل الصدقة، فليس له أن يرجع في صدقته، ورجل استوهب فوهب فله الثواب، فإن قبل على موهبته ثوابا فليس له إلا ذلك، وله أن يرجع في هبته ما لم يثب، ورجل وهب واشترط الثواب فهو دين على صاحبه في حياته وبعد موته (1) .
ونوقشت هذه الآثار من وجهين:
أ- معارضتها للأحاديث السابقة وهي صحيحة صريحة في دلالتها (2) .
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 13 \ 35
(2) سبق تخريجهما.
(73/154)
ب- أن قول الصحابي حجة ما لم يعارض بقول صحابي آخر، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- خلاف ما ذكروه (1) .
ولهم أدلة من النظر من أهمها:
4 - أن المقصود بالهبة للأجانب هو التعويض والمكافأة، وقد دل على ذلك العرف، فتثبت ولاية الفسخ عند فوات هذا المقصود (2) وبناء على هذا فإن حق الرجوع ليس ثابتا بالعقد، وإنما لحصول خلل في مقصود العقد (3) .
ونوقش هنا: بأن اعتبار الهدايا بالمقاصد فيه نظر؛ لأن المقاصد بالهبات مختلفة، فقد يكون مكافأة الموهوب على إحسانه، وقد يكون مجرد المحبة، أو النفع بالبدن أو الجاه فليس القصد منحصرا في التعويض بالمال (4) .
وأجيب: بأن المقصود الغالب هو التعويض المالي في العادة، ولهذا يقال الأيادي قروض، وقد تأيدت بالشرع، والمعروف كالمشروط (5) .
__________
(1) انظر المغني 8 \ 278
(2) انظر البناية شرح الهداية 9 \ 230، وتبيين الحقائق5 \ 97، 98
(3) انظر المبسوط 12 \ 52 وبدائع الصنائع 6 \ 128
(4) انظر البناية 9 \ 230، 231 وفتح القدير 9 \ 39
(5) انظر البناية 9 \ 231
(73/155)
ويمكن أن يرد بأنه ينازع في إثبات أن هذا الغالب، وإن وقع في بعض الصور، لكن المقاصد الأخرى تساوي هذا القصد، ثم إن هذا التعليل مقابل بالنص الذي يمنع من الرجوع، والتعليلات إذا كانت في مقابلة النص فهي فاسدة الاعتبار.
وأما منع ذي الرحم من الرجوع فاستدلوا له (1) بالأثر السابق عن عمر -رضي الله عنه- في قوله: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة فإنه لا يرجع فيها (2) .
قالوا: فعمر -رضي الله عنه- إمامنا في المسألتين (3) .
ويناقش بما سبق بأنه معارض بقول غيره (4) ثم هو منقوض بهبة الوالد التي ورد النص فيها صريحا كما سبق (5) .
واستدلوا أيضا: بأن الهبة لذي الرحم صدقة؛ لأن المقصود بها ثواب الله- عز وجل- فكما أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة فكذلك الهبة لذي الرحم (6) .
وقالوا أيضا: بأن في الرجوع في الهبة عقوقا وعقوق ذي
__________
(1) انظر البناية 9 \ 230، 231 وفتح القدير 9 \ 39
(2) سبق تخريجه
(3) انظر المبسوط 12 \ 49
(4) انظر ص (154)
(5) انظر ص137
(6) سبق تخريجه
(73/156)
الرحم محرم.
4 - أنه لو وهب بشرط الثواب فأثيب لم يرجع وهذا قد أثيب من الله تعالى فلم يجز أن يرجع (1) .
ويمكن أن تناقش هذه الاستدلالات من عدة أوجه:
ا- أنه معارض بما ثبت في حق الوالد، ويرد فيه ما أورد فيه وقد ورد النص بجوازه.
2 - أن الثواب الأخروي والبدل الدنيوي إنما يحصل لمن لم يرجع، ومن رجع لم يثبت في حقه شيء حتى يقال إنه أثيب فلا يرجع، ثم إن طرد هذا يشمل الهبة للأجنبي أيضا؛ لأنه يتحقق بها من المودة والمحبة والتواصل ما هو من المقاصد الظاهرة، وتزيد هبة ذي الرحم بثواب الصلة فإذا منع من الرجوع لهذه العلة فإنها تطرد فيما يهبه الأجنبي؛ لأنه يثاب على المعاني التي أشرت إليها.
هذه أهم أدلتهم وما يمكن أن يجاب عنها.
الترجيح:
يظهر لي -والله أعلم- ما ذهب إليه الجمهور من أن الأصل تحريم الرجوع إلا من استثنى، ويظهر أيضا اختصاص الرجوع بالأبوين دون غيرهما من الأصول، وقد ترجح هذا الحكم
__________
(1) انظر هذه الاستدلالات في الحاوي 9 \ 414
(73/157)
للاعتبارات الآتية:
1 - قوة الأدلة التي استدلوا بها، وسلامة بعضها من المناقشة، وهذه القوة مبعثها صحة السند وظهور الدلالة على ما استدل بها عليه.
2 - أن أدلة الأقوال الأخرى ضعفت بما ورد عليها من مناقشة، كما أنه ظهر من خلال عرضها التكلف في تأويلها، وعسف النصوص حتى تتفق مع الحكم؛ ولذلك صرح بعض الحنفية بأن النظر يقتضي أن لا يرجع الواهب في الهبة؛ لأن ملكه قد زال عنها بهبته إياها، وصار للموهوب له دونه، فليس له نقض ما قد ملك عن الله برضا مالكه، لكن تقليد الأئمة أولى (1) .
3 - أن الأم في معنى الأب، وما ذكروه من الولاية ليس هو مناط الحكم التخصيص بالأب، وإنما المعنى الذي يظهر هو ظهور الشفقة والحنو، وأن الرجوع منه لا يتم إلا لمعنى يقتضيه، وهذا معنى تشترك فيه الأم مع الأب، ومع القول بترجيح دخول الأم إلا أن ذلك لا يمنع من تدخل الأب، لأن الولاية تثبت له على الولد والأهل.
4 - ما يتضمنه الرجوع من معان تتنافى مع المقاصد العامة، والأخلاق السامية؛ ولذلك ورد عن فضالة بن عبيد أنه جاءه رجلان يختصمان في باز، فقال أحدهما: وهبت له بازيا فقال أحدهما: وهبت له بازيا وأنا أرجو أن يثيبني منه، وقال الآخر: نعم وقد
__________
(1) قاله الطحاوي في شرح معاني الآثار 4 \ 84
(73/158)
وهبت لي بازيا وما سألته وما تعرضت له، فقال فضالة: اردد إليه هبته، فإنما يرجع في الهبات النساء وشرار الأقوام (1) .
هذا وقد ذكر العلماء أحكاما تترتب على الرجوع في الهبة، وموانع تمنع منه على القول بجوازه عموما أو في حق من استثنى، ولما كان القصد الأساسي هو بحث حكم الرجوع لما يترتب عليه من فوائد تتعلق بعقود التبرعات عموما؛ ولأن البحث قد يطول فيخرج عن هدفه؛ لذا رأيت أن أقتصر على ما ذكرته من الأحكام، ولعله يتيسر إن شاء الله أن أبسط ما تبقى في أبحاث مستقبلة إن شاء الله.
والله المستعان وعليه التكلان.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4 \ 82، وفي شرح مشكل الآثار 13 \ 36
(73/159)
الخاتمة:
مع شعوري بأني لم أوف البحث حقه، وأن أمامي أحكاما واسعة تتطلب وقتا كافيا لإدراك جوانبها المختلفة، إلا أنى أتيت على جملة أعتبرها تأصيلا لغيرها، وروابط لجزئيات متناثرة، وجمعا لأدلة وافية، وفي نهاية هذا البحث أقف هنا لأسطر أهم النتائج التي هدى إليها البحث، واختمرها الذهن المكدود، وهي:
1 - سعة هذا الدين وشمول أحكامه لما يتعلق بحق الله وحق عباد الله حتى في أدق التفصيلات، فإذا كانت هذه الجزئية يقف الباحث فيها على رصيد واسع من الأدلة والقواعد والضوابط، فما
(73/159)
الظن ببقية الأحكام؟
2 - أن بحث أحكام الرجوع في الهبة يوقف الباحث على شيء من مقاصد الشريعة فيما يتعلق بأحكام التبرعات، كما أنه يعد من جانب آخر أصلا لبقية عقود التبرعات.
3 - أن الأصل في الهبات أن تقع منجزة، ويكون الغرض منها نفع الموهوب والإحسان إليه، وإذا انضاف إلى هذا القصد التودد والمحبة فيكون هدية وأن الصدقة باب آخر، وتبرع يراد به ثواب الآخرة بالقصد الأول؛ ولذلك تراعى أوصاف في المتصدق عليه من المسكنة والحاجة لا تراعى في الهبة، ومن أجل هذا الفرق الواضح اختلفت الصدقة عن الهبة في حكم الرجوع، فحرم الرجوع في الصدقة بلا خلاف، وأما الهبة فقد وقع فيها الخلاف.
4 - أن الهبة ويدخل فيها الهدية بالمعنى العام مشروعة مستحبة بإجماع العلماء ويترتب عليها ثمرات كثيرة للواهب والموهوب له، وتتكامل الثمرة للمجتمع بأسره.
5 - أن الهبة التزام ناشئ من تصرف قولي أو فعلي، والأصل في هذا الالتزام الجواز، إذ هو تبرع محض، ولذلك لا تؤثر فيه الجهالة والغرر؛ لأنه لا ضرر على الموهوب له فيما لو فاته الموهوب، ولا يلزم الوفاء به باتفاق.
6 - أنه لا بد في الهبة من الإيجاب والقبول، لكن لا يلزم أن
(73/160)
يكون ذلك باللفظ ولا يتقيد فيه بلفظ معين، بل تنعقد بكل ما دل عليه، وإنما افتقرت الهبة إلى ذلك؛ لأنها بالنسبة للواهب خروج عن جزء من ماله فلا بد من الدلالة الواضحة على الرضا في ذلك.
7 - أن الهبة تفتقر إلى القبض، ويتوقف لزومها عليه، ولذلك فإن ملكها معتبر به، فلا ينتقل الملك فيها إلا بعد القبض.
8 - أن الرجوع في الهبة هو التراجع عن إنفاذ العقد بعد العزيمة عليه وإطلاق الرجوع حقيقة إنما يكون بعد الإقباض، أما قبله فهو رجوع عن إبرام العقد وليس رجوعا فيه، ولا يفتقر الرجوع إلى قضاء؛ لأنه فسخ للعقد فيما هو ثابت الملك فيه للواهب.
9 - أن الرجوع قبل القبض جائز؛ لأن هذا هو الذي يتمشى مع القول بجواز العقد، ولكنه يكره مراعاة للخلاف، ولأنه يتنافى مع صنيع أهل المروءات والشيم، ومن المعلوم أن الكراهة تزيلها الحاجة.
10 - أن الأصل في الرجوع في الهبة بعد القبض التحريم، ولكن دل الدليل على استثناء الوالد، ويدخل في المفهوم اللغوي للوالد الأبوان، والمعنى يقتضي دخولهما، فيختص الجواز بهما.
11 - أن هذا الرجوع من باب التيسير على الواهب، وتحقيق المصلحة المعتبرة بالنسبة للموهوب له، ولذلك لا ينبغي الإقدام عليه إلا بمراعاة المصلحة في ذلك.
هذا وإني في ختام هذا البحث أوصي نفسي وأوصي الجميع
(73/161)
بتحقيق النقول قولا وعملا، وأن يتبصر الإنسان في شريعة الله، ففيها الوفاء بكل ما يحتاجه الناس، والغناء عن كل ما يستحدثه البشر.
وأسأل الله سبحانه أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل علمنا حجة لنا لا حجة علينا إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(73/162)
العناصر المكونة
لصفة المالية عند الفقهاء
لفضيلة الدكتور \ صالح بن عبد الله اللحيدان (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن كلمة المال من أكثر الكلمات تداولا في ألسنة الناس، وفي كتب الفقه، ولا عجب؛ فإن المال هو قوام معايش الناس ومصالحهم، وبه تصان نفوسهم عن الابتذال في الغالب، وقد جبلت النفوس على حبه.
ويظن كثير من الناس وضوح المراد بهذه الكلمة بسبب حصرهم مفهوم المال في نطاق ضيق، ضيقه العرف الشائع، ولا حجر عليهم فيما اصطلحوا عليه لأنفسهم، لكن يأتي الإشكال حين تحمل المصطلحات الواردة في لسان الشارع وفي كلام الفقهاء على
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء.
(73/163)
ما تعارف عليه الناس، قال ابن القيم (1) : (ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص) وهذا أيضا يقال في اصطلاحات الفقهاء فلا يجوز تفسيرها بناء على ما تعارف الناس عليه، فيقع الخطأ في فهم مرادهم، بل يجب معرفة معنى الاصطلاح لديهم، ثم نقل الأحكام عنهم بناء على ذلك.
وعليه: فقد حاولت في هذا البحث ضبط المراد بصفة المالية بالتحديد عند الفقهاء، حين يصفون شيئا بأنه مال، أو يعلقون حكما على المالية، (كقولهم: المعاملات المالية، أو: العقوبات المالية، أو: العبادات المالية، أو: التصرفات المالية، أو: الحقوق المالية، أو: المؤن المالية، أو المعاوضات، أو العقود. . . . . . . إلخ) .
وذلك بتتبع آرائهم ورصدها، مع بيان مواضع الاتفاق والاختلاف في هذا السبيل، وقدمت بين يدي ذلك بفصل تمهيدي عرفت فيه بالمال في اللغة، وعلى ألسن الفقهاء، وبينت ضوابط اكتساب المال، وضوابط تنميته في الشريعة، وقد حرصت على التوثيق من المصادر الأصيلة في هذا كله.
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 90
(73/164)
أسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، والإعانة والسداد، وحسن العاقبة، في الأمور كلها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الفصل الأول: (التمهيدي) في تعريف المال وضوابط اكتسابه وإنمائه وتحته مبحثان:
المبحث الأول: تعريف المال والتمول، وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: بيان المراد بالمال عند أهل اللغة.
المطب الثاني: تعريف الفقهاء للمال.
المطلب الثالث: المراد بمصطلح التمول.
المبحث الثاني: الضوابط الشرعية لاكتساب المال وإنمائه.
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: حكم اكتساب المال وآدابه وطرقه.
المطلب الثاني: ضوابط إنماء المال.
(73/165)
المبحث الأول: تعريف المال والتمول
المطلب الأول: بيان المراد بالمال عند أهل اللغة
المال مشتق من (مول) فعينه واو، ويطلق في اللغة على كل ما يملكه الإنسان من الأشياء.
وبعضهم يطلقه على الذهب والفضة خاصة، وكانت العرب تطلقه غالبا على الإبل خاصة أو على النعم.
والذي يبدو لي أن مصطلح المال عند العرب تطور استعماله باختلاف الأزمنة، وأنه تأثر أيضا بالأعراف والبيئات.
وقد أشار إلى هذا ابن الأثير في النهاية فقال: (المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم) وهذا يفيد في رأيي ألا يخضع المصطلح الشرعي في المال لأي من هذه الاستعمالات اللغوية بمفرده، وكذلك المصطلح العرفي فلا تحمل ألفاظ الناس في عقودهم ودعاواهم على أي من هذه الاستعمالات، إلا لوجود القرينة التي تفيد مناسبته دون غيره، قال
(73/166)
ابن الأثير: (وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن) .
والمال يجمع على: أموال، وتصغيره: مويل، وهو مذكر ومؤنث، يقال: هو المال، و: هي المال، ومنه قول حسان بن ثابت:
المال تزري بأقوام ذوي حسب ... وقد تسود غير السيد المال
ويقال: مال الرجل يمول ويمال مولا ومؤولا إذا صار ذا مال، ومثله: تمول، و: مول فلان فلانا إذا أعطاه المال، و: رجل مال: أي كثير المال كأنه قد جعل نفسه مالا، وحقيقته: ذو مال ومنه للمرأة: امرأة مالة، وللجمع: مالة ومالون. و: ما أموله: أي ما أكثر ماله (1) .
واشتقاقه كما ذكرت آنفا من (مول) فعينه واو لا ياء، وهذا ينفي صحة ما يذكره بعضهم من سبب تسميته، قال النووي: (روينا في حلية الأولياء عن سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- قال: سمي المال لأنه يميل القلوب، قلت: وهذه مناسبة في المعنى، وإلا فليس مشتقا من ذلك، فإن عين المال واو، والإمالة من الميل ياء، ومن شروط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، الصفحات السابقة
(73/167)
وإنما يذكره أهل اللغة في مادة: (مول) بالواو.
(73/168)
المطلب الثاني: تعريف الفقهاء للمال
سأقتصر في هذا المبحث على نقل ما وجدته من تعريفات للفقهاء للمال، مع بيان أهم ملامحها ومحترزاتها بإجمال، تاركا تحليل عناصرها للفصل الثاني والثالث، فإن هذا هو المقصود بالبحث أساسا.
وقد اختلف تعريفات الفقهاء للمال؛ نظرا لاختلاف وجهات نظرهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه، وقد ظهر اتجاهان يعكسان وجهة نظر كل منهما، أحدهما: اتجاه الأحناف، والآخر: اتجاه الجمهور، كما أثر في تعريفهم للمال اختلاف المأخذ والوجهة التي عرفوه منها، فمنهم من عرفه بصفته، ومنهم من عرفه بوظيفته، ومنهم من عرفه بحكمه. . .، لكن المؤثر الرئيس في اختلافهم والذي كان له أثر حقيقي على الفروع هو اختلاف الأعراف فيما يعد مالا وما لا يعد، وذلك أنه ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، فحكم فيه العرف.
ولعلي أسرد شيئا من تعريفاتهم للمال يتبين فيها ما ذكرته:
أولا: تعريف الحنفية للمال.
وردت عند فقهاء الحنفية عدة تعريفات للمال، ويلاحظ
(73/168)
تباعدها أحيانا وذلك لاختلاف المأخذ والوجهة التي عرف المال منها:
- تعريف السرخسي: (والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به، ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز) (1) .
- تعريف آخر في المبسوط: (ما صح إحرازه على قصد التمول) قاله في سياق كلامه عن خلاف أبي حنيفة وصاحبيه في تقوم رق أم الولد (2) .
تعريف البحر الرائق: " وفي الحاوي القدسي: المال: اسم لغير الآدمي خلق لمصالح لآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار " (3) .
وفي العناية شرح الهداية: (قال محمد - رحمه الله-: المال كل ما يتملكه الناس من دراهم أو دنانير أو حنطة أو شعير أو حيوان أو ثياب أو غير ذلك) (4) .
- تعريف التقرير والتحبير: " المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة) ، وفي موضع آخر قال: " المال ما تجري فيه الرغبة والضنة) (5)
__________
(1) المبسوط (11 \ 79)
(2) المبسوط (7 \ 160)
(3) البحر الرائق (5 \ 277)
(4) العناية (2 \ 280)
(5) التقرير والتحبير لمحمد بن محمد بن عمر الحنفي (3 \ 173) و (1 \ 208)
(73/169)
ويلاحظ أنه كان في الأول يتكلم عن المنافع وفي الثاني عن الكفن يريد نفي المالية عنهما، فعرف المال في كل موضع بحسب غرضه.
تعريف ابن عابدين: (المراد بالمال: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة) وقد نقله صاحب البحر الرائق أيضا عن الكشف الكبير (1) .
تعريف لابن عابدين أيضا: (المال: المنتفع به في التصرف على وجه الاختيار) (2) .
- تعريف للسرخسي: (وكل عين ينتفع به- غير الآدمي الحر- فهو مال) (3) .
وعند النظر في هذه التعريفات للحنفية نجدها قد اعتمدت عدة عناصر للمالية، هي:
1 - إمكان الإحراز والادخار.
2 - قصد التمول، والمراد بالتمول - كما سيأتي لاحقا-
__________
(1) البحر الرائق (5 \ 277)
(2) حاشية رد المحتار (4 \ 502)
(3) أصول السرخسي
(73/170)
صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة.
3 - ميل الطبع إليه.
4 - الانتفاع به.
وعلى هذا فيخرج عن مسمى المالية عدة محترزات هي:
1 - المنافع، حيث لا يمكن ادخارها؛ لأنها أعراض لا تبقى زمانين، فهي في نظرهم ملك لا مال.
2 - الدين؛ لعدم إمكان قبضه وإحرازه حقيقة ما دام دينا.
3 - ما لا يتمول لقلته وحقارته، كحبة قمح ونحوها.
4 - الميتة والدم؛ لعدم إباحتهما، ولعدم تمولهما، ولعدم ميل الطبع إليهما.
5 - ما لا نفع فيه.
ولكن ينبغي التنبيه إلى أن العرف الغالب عند فقهاء الحنفية أن اسم المال ينصرف عند الإطلاق، إلى النقد والعروض خاصة، قال في الهداية في باب زكاة النقد والعروض: (باب زكاة المال) وقد علق عليه الكمال بن الهمام بقوله: (ما تقدم أيضا زكاة مال إلا أن في عرفنا يتبادر من اسم المال النقد والعروض) وقال البابرتي: (والمصنف ذكر المال وأراد غير السوائم على خلاف عرف أهل البادية، فإن اسم المال يقع عندهم على النعم، وعلى عرف الحضر
(73/171)
فإنهم عندهم يقع على غير النعم) (1) .
وللعادة أثر في المالية عندهم كغيرهم؛ ولذا قالوا: إن المالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم (2) .
ثانيا: تعريف المالكية للمال:
تعريف الشاطبي: (وأعني بالمال: ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات (3) .
- تعريف القاضي عبد الوهاب: (يقطع في جميع المتمولات التي تتمول في العادة ويجوز أخذ الأعواض عليها) (4) .
- تعريف ابن العربي للمال المعتبر شرعا حيث قال: (كل ما تمتد إليه الأطماع ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به) (5) قاله وهو يعرف المسروق، وهذا يخرج المحرم قال: (فإن منع منه الشرع لم ينفع تعلق الطماعية فيه ولا يتصور الانتفاع منه كالخمر والخنزير مثلا) .
__________
(1) راجع: فتح القدير والعناية بهامشه (2 \ 208)
(2) راجع البحر الرائق (5 \ 277) وحاشية رد المحتار (4 \ 501)
(3) الموافقات (2 \ 17)
(4) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي (2 \ 271) ونحوه في المعونة (3 \ 1421)
(5) أحكام القرآن لابن العربي المالكي (2 \ 607)
(73/172)
وبالنظر إلى هذه التعريفات يلاحظ أنها مسوقة مساق التعريف الذي يميز ولا يحدد، وأهم العناصر المذكورة للمال فيها:
1 - التمول عادة.
2 - صلاحيته للانتفاع.
3 - إباحة الانتفاع به، فيخرج به المحرمات فلا تكون مالا.
4 - إمكان المعاوضة عنه.
ثالثا: تعريف الشافعية للمال:
تعريف الشافعي -رحمه الله تعالى- جاء في الأم: (ولا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها- وإن قلت - وما لا يطرحه الناس من أموالهم، مثل الفلس وما أشبه ذلك الذي يطرحونه) (1) وفي موضع آخر: (ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها -وإن قلت- وما لا يطرحه الناس من أموالهم، مثل الفلس وما يشبه ذلك.
والثاني: كل منفعة ملكت وحل ثمنها، مثل كراء الدار وما في معناها مما تحل أجرته) (2) .
__________
(1) الأم (5 \ 171)
(2) الأم (5 \ 63)
(73/173)
- قال السيوطي: (قال الشافعي -رضي الله عنه-: لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلت وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك) (1) ، وهو نقل لما سبق بتصرف يسير.
- تعريف الزركشي قال: (المال ما كان منتفعا أي مستعدا لأن ينتفع به وهو إما أعيان أو منافع) (2) .
- قال النووي -رحمه الله تعالى-: (فما لا نفع فيه ليس بمال. . .) ولعدم المنفعة سببان:
أحدهما: القلة كالحبة والحبتين من الحنطة، والزبيب، ونحوهما، فإن ذلك القدر لا يعد مالا، ولا ينظر إلى ظهور النفع إذا ضم إليه غيره، ولا إلى ما يفرض من وضع الحبة في فخ، ولا فرق في ذلك بين زمان الرخص والغلاء. . . وحكى صاحب التتمة وجها: أنه يصح بيع ما لا منفعة فيه لقلته، وهو شاذ ضعيف.
السبب الثاني: الخسة كالحشرات، والحيوان الطاهر ضربان: ضرب ينتفع به فيجوز بيعه كالنعم والخيل. . . الضرب الثاني: ما لا ينتفع به، فلا يصح بيعه، كالخنافس، والعقارب، والحيات، والفأر، والنمل، ونحوها ولا نظر إلى منافعها المعدودة من خواصها. . .) (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327)
(2) المنثور للزركشي (3 \ 222)
(3) روضة الطالبين (3 \ 350)
(73/174)
تعريف السمعاني: (المال ما يميل طباع الناس إليه، ولهذا سمي مالا، وطباع الناس يميل إلى هذه الأشياء لمنافع تظهر لها في ثاني الحال، فيكون مالا مثل الأطفال، والجحوش للحمر، والمهر للأفراس) .
وبالنظر في هذه التعريفات للشافعية نستخلص عدة عناصر للمالية عند الشافعية وهي:
1 - كونه ذا قيمة تلزم متلفه. وهو -فيما يبدو لي- إمكان المعاوضة الذي ذكرناه عند الحنفية والمالكية.
2 - الانتفاع به، فيخرج من ذلك: ما لا ينتفع به لقلته أو لخسته، وما لا قيمة له مما يطرحه الناس كما عبر به الشافعي -رحمه الله تعالى-.
ويعني هذا: دخول المنفعة، والدين في مسمى المال.
رابعا: تعريف الحنابلة للمال:
- تعريف الفتوحي: (ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة) (1) .
- تعريف الحجاوي: (وهو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة) (2) .
__________
(1) منتهى الإرادات للفتوحي تحقيق عبد الغني عبد الخالق (1 \ 256)
(2) الإقناع الحجاوي (2 \ 156)
(73/175)
- تعريف ابن بلبان: (وهو ما فيه منفعة مباحة) (1) .
- تعريف ابن قدامة: " وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة " (2) .
وقد علق عليه التنوخي بقوله: (ولو قال المصنف -رحمه الله-: لغير حاجة كان جيدا؛ لأن اقتناء الكلب يحتاج إليه ولا يضطر إليه) (3) .
جاء في الإنصاف: (علل المصنف الذي ليس بمال -كقشر الجوز؛ والميتة والخمر- بأنه لا يثبت في الذمة) (4) .
وبالنظر إلى هذه التعريفات نستخلص عدة عناصر للمالية عند الحنابلة، وهي:
1 - إمكان الانتفاع به.
2 - حل الانتفاع مطلقا، أي من غير حاجة ولا ضرورة.
ولعل هذا هو ما أراده ابن عابدين الحنفي حين قال: (على وجه الاختيار) في تعريفه الذي أوردته قي تعريفات الحنفية.
3 - إمكانية ثبوته في الذمة، ولعل هذا هو ما عبرنا عنه عند الآخرين بإمكان المعاوضة، وبالتمول، فيخرج ما لا يمكن فيه ذلك لقلته كحبة قمح ونحوها.
__________
(1) أخصر المختصرات لابن بلبان الدمشقي تحقيق محمد العجمي: ص 163
(2) المقنع (2 \ 5) مع حاشية الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى
(3) الممتع في شرح المقنع للتنوخي
(4) الإنصاف (12 \ 207)
(73/176)
وعلى ذلك فيخرج من هذا التعريف عدة محترزات، فلا تعد مالا وهي.
1 - ما لا نفع فيه أصلا كالحشرات لكن ينبغي أن يلاحظ أن الحال قد اختلف في العصر الحاضر، إذ أصبح كثير من هذه الحشرات يتم الانتفاع بها داخل المختبرات العلمية، حيث تكون محلا للتجربة العلمية، ومن خلالها يتم التوصل إلى القوانين والنظريات العلمية التي تساعد في إيجاد الحلول لكثير من الاستفسارات والأسئلة العلمية التي تهم الإنسان. . . وإما أن تكون هذه الحشرات مصدرا للمضادات الحيوية والعلاجات التي تعين على القضاء على الأمراض التي تصيب الإنسان، فالسم الذي يتكون في جسم الأفعى يشكل مضادا حيويا فعالا، ويوصف علاجا للقضاء على بعض أنواع الخلايا السرطانية التي تصيب الإنسان.
فإذا ثبت أن مثل هذه الحشرات والحيوانات تشتمل على ما فيه مصلحة الإنسان بالتداوي، ودفع أذى المرض، وهي أمور أذن الشرع بها، فهي لا شك مال إذا حيزت لأجل منفعتها، بل ربما صارت بعض أنواع الحشرات الآن مقصودة بنفسها، تباع وتشترى
(73/177)
للقنية، وتكون ذات قيمة، فهذه الأسباب وغيرها تجعل هذه الحشرات مالا حتى عند الحنابلة في رأيي
وما عبر عنه الفقهاء من عدم النفع بها إنما هو باعتبار زمنهم وما جرت عادة الناس به فيه، والله تعالى أعلم.
2 - ما فيه منفعة محرمة كالخمر والخنزير.
3 - ما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب.
4 - ما فيه منفعة تباح للضرورة كالميتة في حال المخمصة وكالخمر لدفع غصة بها.
5 - ما لا يمكن تموله لقلته كحبة بر ونحوها.
6 - ما لا يباح اقتناؤه إلا للحاجة كالكلب.
والناظر إلى هذه التعريفات يجد أن للحنفية رأيا مستقلا في تعريف المال، فيما تبقى المذاهب الثلاثة الأخرى متقاربة في تعريفاتها، مما يمكن معه أن نقول إن للفقهاء في تعريف المال اتجاهين: الأول للحنفية، والثاني للجمهور.
وأبرز ملامح اتجاه الحنفية انفرادهم بأمرين:
1 - أنهم لم يجعلوا إباحة الانتفاع شرعا شرطا في المالية، مما ساقهم إلى تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم، بينما اشترط الجمهور إباحة الانتفاع فلم يحتاجوا إلى هذا التقسيم.
(73/178)
2 - أنهم اشترطوا إمكان الادخار لوقت الحاجة فأخرجوا بذلك المنافع ونحوها من أن تكون أموالا، وخالفهم الجمهور فلم يشترطوا ذلك (1) .
وسيأتي بيان مفصل لذلك عند الحديث عن عناصر المالية إن شاء الله تعالى.
خامسا: تعريفات المتأخرين:
رجح بعض المتأخرين تعريف المال بأنه: (كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد) .
وعليه تتحقق مالية الشيء إذا توفر فيه أمران: إمكان حيازته، وإمكان الانتفاع به ويترتب على ذلك ما يلي:
1 - أن ما نحوزه وننتفع به فعلا يعد مالا، كالدور، والأراضي، والسيارات، والنقود، والثياب، والحيوانات، ونحوها.
2 - أن ما لا نحوزه فعلا ولكن نتمكن من حيازته يعد مالا أيضا، كالسمك في الماء، والطير في الهواء، والحيوان في الفلاة، والمعدن في باطن الأرض. . . . ونحوها
ب- أن ما لا نتمكن من حيازته لا يعتبر مالا وإن كنا ننتفع
__________
(1) راجع: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء للدكتور نزيه حماد ص (293) .
(73/179)
به فعلا، مثل ضوء الشمس ونور القمر.
د- أن ما لا يمكن الانتفاع به على وجه معتاد لا يسمى مالا وإن حيز بالفعل كقطرة ماء، أو حبة رز، فإن الانتفاع المعتاد هو ما جرت به عادة الناس، ويلائم طبيعة الشيء، ويحقق المنفعة التي خلق من أجلها، فالرز مثلا منفعته أن يكون غذاء، والحبة منه لا تحقق هذا الغرض، فلا تكون مالا.
هـ- أن ما منع الشارع الانتفاع به منعا عاما يسري في حق الناس جميعا لا يعتبر مالا وإن حازه الإنسان وانتفع به فعلا كالميتة، وإنما كان الحكم كذلك لأن كون الشيء ينتفع به أو لا ينتفع به حكم شرعي، فإذا أباح الشارع الانتفاع ثبتت ماليته وصار مالا في نظر الشارع، وما لا فلا.
وأما ما يجوز الانتفاع به في حق البعض دون البعض الآخر فهو مال، كالخمر والخنزير فهي مباحة للذميين (1) .
جاء في معجم لغة الفقهاء تعريف المال بأنه: (كل ما يمكن الانتفاع به مما أباح الشرع الانتفاع به في غير حالات الضرورة كل ما يقوم بمال (2) .
- عرفه بعض المعاصرين بتعريف يتفق مع مسلك الجمهور
__________
(1) المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية. د. عبد الكريم زيدان ص (183، 184) .
(2) معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعه جي (ص 366، 367) .
(73/180)
وهو: (ما كان له قيمة مادية بين الناس وجاز شرعا الانتفاع به في حال السعة والاختيار) .
- وذهب الدكتور الدبو إلى تفضيل التعريف الأخير؛ لوضوحه، وشموليته، إلا أنه فضل إجراء تعديل طفيف عليه بحيث يكون هكذا: (المال: كل ما له قيمة عرفا، وجاز الانتفاع به في حال السعة والاختيار) .
وشرح تعريفه بقوله:
(فقولنا: كل ما له قيمة عرفا، يشمل الأعيان، والمنافع بما فيها الهواء إذا ضغط في أنابيب، أو الطاقة الشمسية إذا حيزت في آلات معينة، واستغلت في خدمة بني الإنسان، وكذا الحقوق التي يمكن الاعتياض عنها بمال، كما أنه قيد لإخراج الأعيان والمنافع التي لا قيمة لها بين الناس، لتفاهتها كحبة قمح، أو قطرة ماء، وشم رائحة عطر، وما أشبه ذلك.
وقولنا: جاز الانتفاع به شرعا، قيد لإخراج ما حرم الشرع الانتفاع به كالميتة والخمر والخنزير.
والنص على الانتفاع في حال السعة والاختيار قيد لبيان أن المقصود بالانتفاع هو الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار
(73/181)
دون حالة الضرورة، فجواز الانتفاع بلحم الميتة أو بالخمر أو غيرهما من الأعيان المحرمة لا يمكن اعتبارها مالا في نظر الشريعة إذ أن جواز الانتفاع بها مقصور على حالة الضرورة فلا تعتبر هذه الأعيان أموالا؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها) (1) .
- رجح بعض المتأخرين أن المالية ليست إلا صفة للأشياء، بناء على تحول الناس، واتخاذهم إياها مالا ومحلا لتعاملهم، فإذا دعتهم حاجتهم إلى ذلك فمالت إليه طباعهم، وكان في الإمكان التسلط عليه، والاستئثار به، ومنعه من الناس صار مالا، ولا يلزم كونه مادة تدخر لوقت الحاجة، بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسورا غير متعذر عند الحاجة إليه.
وذلك متحقق في المنافع وفي كثير من الحقوق، فإذا تحقق ذلك فيها عدت من الأموال بناء على عرف الناس وتعاملهم.
__________
(1) ضمان المنافع للدكتور إبراهيم فاضل الدبو: ص (228، 229) .
(73/182)
المطلب الثالث: المراد بمصطلح التمويل
إن من الألفاظ التي ترد كثيرا على ألسن الفقهاء: (التمول) ، وله صلة كبيرة بالبحث الذي نحن بصدده، لذا آثرت أن أفرد له مطلبا هنا مع تعريف المال تجلية له.
(73/182)
والتمول لغة: اتخاذ المال يقال: تمول فلان إذا صار ذا مال، وتمول: أي كثر ماله وتمول مالا: إذا اتخذه قنية (1) .
وقد جاء لفظ التمول في حديثين متفق عليهما.
أولهما: حديث عمر رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالا، فقلت: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك (2) » .
وفي رواية مسلم: «أو تصدق به (3) » .
ومعنى: (فتمول) هنا: أي اجعله لك مالا (4) .
ثانيهما: حديث وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور وكان في شرطه: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه (5) » .
قال ابن حجر: ("غير متمول فيه" وفي رواية الأنصاري
__________
(1) القاموس المحيط ص (954) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها (13 \ 150) برقم (7164) ، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب جواز الأخذ بغير سؤال ولا تطلع (7 \ 35) برقم (1045) .
(3) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها (13 \ 150) برقم (7164) ، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب جواز الأخذ بغير سؤال ولا تطلع (7 \ 35) برقم (1045) .
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر (4 \ 373) .
(5) صحيح البخاري الوصايا (2772) ، صحيح مسلم الوصية (1633) ، سنن الترمذي الأحكام (1375) ، سنن أبو داود الوصايا (2878) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) .
(73/183)
الماضية آخر الشروط: (غير متمول به) والمعنى: غير متخذ منها مالا أي ملكا والمراد أنه لا يتملك شيئا من رقابها) (1) .
وهذا يعني أن معنى التمول في الشرع لا يخرج عن المعنى اللغوي؛ وهو اتخاذ الشيء مالا.
ويرد لفظ التمول كثيرا لدى الفقهاء وهم يقصدون به كذلك اتخاذ الشيء مالا في عرف الناس.
ولذلك عندهم ضابطان ينص عليهما الشافعية:
أولهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول، وما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو - لقلته - خارج عما يتمول.
الثاني: أن المتمول هو الذي يعرض له قيمة عند غلاء الأسعار والخارج عن المتمول هو الذي لا يعرض فيه ذلك.
والضابطان كلاهما متقاربان يئولان إلى تفسير واحد تقريبا؛ وهو: كون الشيء ذا بال، أي غير حقير، بحيث يستحق أن يكون له قيمة يعارض بها.
وهذا هو الذي رأيت فقهاء المذاهب يفسرون المتمول به.
قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي: (يقطع في جميع المتمولات التي تتمول في العادة، ويجوز أخذ الأعواض عليها) (2) .
__________
(1) فتح الباري (5 \ 401) .
(2) الإشراف في مسائل الخلاف (2 \ 1701) ، ونحوه في بداية المجتهد (2 \ 551، 552) .
(73/184)
وقال ابن عابدين: (والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوم يثبت بها وبإباحة الانتفاع به شرعا، فما يباح بلا تمول لا يكون مالا؛ كحبة حنطة) (1) .
وقال البهوتي: (أو أصدقها. . مالا يتمول عادة كقشر جوزة وحبة حنطة لم يصح. . . . ويجب أن يكون له أي الصداق نصف يتمول عادة ويبذل العوض في مثله عرفا) (2) وفي النكت والفوائد السنية (3) . - في من أقر بشيء-: " لو فسره بحبة حنطة ونحوها لم يقبل؛ لعدم تمول ذلك على انفراده عادة ".
وهنا نلاحظ في نصوصهم أنهم يحكمون العرف في ذلك؛ أي أن التمول يثبت بالعرف. وهو أيضا ما نبه إليه الفيومي حيث قال: (فقول الفقهاء: (ما يتمول) أي ما يعد مالا في العرف) .
ومما يدخل في المتمول ما يتمول في المآل أي في ثاني الحال،
__________
(1) حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (4 \ 501) .
(2) كشاف القناع (5 \ 2523) . وانظر: النكت والفوائد السنية (2 \ 475، 476) .
(3) النكت والفوائد السنية (2 \ 476) .
(73/185)
وإن لم يكن متمولا في الحال، كجلد ميتة لم يدبغ ونحوه (1) .
ولكن: هل من شرط المالية التمول أي هل يسمى الشيء مالا وإن كان قليلا غير متمول؟
ينص الحنفية على أن التمول شرط في المالية:
قال السرخسي: " المالية لا تسبق الوجود وبعد الوجود تثبت بالإحراز والتمول " (2) ، وقال أيضا: " إنما تنبني المالية على التمول " (3) ، وكذلك نص عليه ابن عابدين فيما نقلته آنفا.
وأما الشافعية فيظهر من نصوصهم أن المال يطلق على غير المتمول أيضا، وأن المال أعم من المتمول، فكل متمول مال ولا عكس، أي أن المال يطلق على القليل والكثير.
لكن المال المتمول يختص عن المال غير المتمول بأحكام عندهم رأيت منها:
1 - أن المتمول يصح جعله عوضا بخلاف غير المتمول (4) .
2 - أن الغبن بغير المتمول لا يثبت فيه الخيار قطعا، واختلف
__________
(1) النكت والفوائد السنية (2 \ 475) .
(2) أصول السرخسي (1 \ 56) .
(3) المبسوط (5 \ 40) .
(4) حاشية البجيرمي (4 \ 310) .
(73/186)
في المتمول القليل (1) .
3 - أن الخلاف في حل لقطة الحرم -بعد التعريف- إنما هو في المتمول، أما غير المتمول فيستبد به واجده (2) .
4 - أن الصائل إنما يدفع بالضرب عن المال المتمول دون غيره في احتمال عندهم (3) .
5 - أن من حلف لا مال له وأطلق حنث بالمتمول وغيره، وقيده بعضهم بالمتمول، وهو الظاهر (4) .
6 - أن من غصب مال غيره المتمول؛ فعليه الإثم والضمان، ومن غصب مال غيره الذي لا يتمول؛ فعليه الإثم دون الضمان.
__________
(1) حاشية البجيرمي (2 \ 436) .
(2) مغني المحتاج (2 \ 417) .
(3) إعانة الطالبين (4 \ 171) ، وحواشي الشرواني (9 \ 182) .
(4) مغني المحتاج (4 \ 346) .
(73/187)
المبحث الثاني: الضوابط الشرعية لاكتساب المال وإنمائه
المطلب الأول: حكم اكتساب المال وآدابه وطرقه
الاكتساب: طلب الرزق وتحصيل المال، يقال: كسبت مالا و: اكتسبته أي ربحته. و: كسب لأهله، و: اكتسب و: تكسب، أي
(73/187)
طلب الرزق، و: كسب الإثم و: اكتسبه أي تحمله (1) .
وهو مستعمل في كل باب قال تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (2) . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (3) ، وقال تعالى في آية السرقة {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (4) ، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (5) ، وقال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} (6) . لكن عند الإطلاق يفهم منه اكتساب المال خاصة (7) .
وأضاف الفقهاء إلى ذلك ما يفصح عن الحكم، فقالوا: الاكتساب: تحصيل المال بما حل من الأسباب (8) .
والفرق بين الكسب والاكتساب: أن الاكتساب لا يكون إلا ببذل الجهد، أما الكسب فإنه لا يعني أكثر من الإصابة؛ قال سيبويه: كسب: أصاب، واكتسب: تصرف واجتهد (9) .
__________
(1) المصباح المنير ص (203) ، والقاموس المحيط ص (121) .
(2) سورة البقرة الآية 267
(3) سورة الشورى الآية 30
(4) سورة المائدة الآية 38
(5) سورة البقرة الآية 286
(6) سورة النور الآية 11
(7) المبسوط (30 \ 245) .
(8) المبسوط (30 \ 244) .
(9) لسان العرب (1 \ 716) .
(73/188)
واكتساب المال فرض على الرجل المحتاج إليه -إذا كان قادرا عليه- لأنه به يقوم المكلف بما وجب عليه من التكاليف المالية من قضاء الديون، والنفقة على من تلزمه نفقته، ونحو ذلك، وذلك بقدر الكفاية.
أما ما زاد على الكفاية؛ فإن كان بنية صالحة كمواساة الفقراء، وصلة القرابة، ونحوها؛ فهو مستحب، وإن كان بنية زيادة المال والجاه والترفه والتنعم والتوسعة على نفسه وعياله؛ فهو مباح، إذا كان مع سلامة الدين والعرض والمروءة وبراءة الذمة.
فإن كان للتفاخر والتكاثر فهو مكروه عند الحنفية، وإن كان من حل، وصرح الحنابلة بحرمته؛ لما فيه من التعاظم المفضي إلى الهلاك دنيا وآخرة.
وقد صرح الفقهاء بلزوم التكسب وتفضيله على التفرغ للعبادة واختلفوا في إلزام الرجل بالتكسب لينفق على من تلزمه نفقتهم، وفي وجوب النفقة للقريب الفقير إذا كان قادرا على التكسب، جاء في الإنصاف: (لو قدر على التكسب ولكن أراد الاشتغال بالعبادة لم يعط من الزكاة قولا واحدا.
قلت: والاشتغال بالكسب والحالة هذه أفضل من العبادات) .
(73/189)
وذهب بعض الفقهاء إلى أن التخلي للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب؛ بناء على أن صفة الفقر أعلى من صفة الغنى عندهم؛ لأنه أسلم حيث لا يحاسب المرء على الفقر، بينما يحاسب على الزائد عن حاجته، ولأنه أبعد للمرء عن الطغيان، ومن اقتضاء الشهوات. . . وهذا هو المذهب عند الحنفية (1) .
واحتج المفضلون للغنى على الفقر بأن الغنى نعمة، والفقر بؤس ونقمة، والنعمة خير من النقمة، وأن الله عز وجل سمى المال فضلا وخيرا، فقال سبحانه: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2) ، وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (3) ، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا} (4) . يعني الملك والمال، وسأل سليمان عليه السلام ربه قائلا: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (5) ولا يظن بأحد من الرسل أنه يسأل الدرجة الدنيا دون العليا.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف والمسألة: «اليد العليا خير من اليد
__________
(1) المبسوط (30 \ 352، 354) .
(2) سورة الجمعة الآية 10
(3) سورة البقرة الآية 180
(4) سورة سبأ الآية 10
(5) سورة ص الآية 35
(73/190)
السفلى (1) » ، فاليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة.
وقال لسعد رضي الله عنه: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك (2) » . إلى غير ذلك من الأدلة (3) .
ومن قواعد ابن رجب (القاعدة الثانية والثلاثون بعد المائة: القدرة على اكتساب المال بالصناعات غنى بالنسبة إلى نفقة النفس ومن تلزم نفقته من زوجة وخادم، وهل هو غنى فاضل عن ذلك؛ على روايتين) وفرع عليه عدة مسائل منها:
1 - القوي المكتسب لا يباح له أخذ الزكاة بجهة الفقر فإنه غني بالاكتساب، وهل له الأخذ للغرم إذا كان عليه دين؟ على وجهين؛ بناء على الخلاف في إجبار المفلس على الكسب لوفاء دينه.
وفيه روايتان مشهورتان عن أحمد رحمه الله تعالى.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (3 \ 294) برقم (1429) ، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى (7 \ 124) برقم (1033) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة (3 \ 164) برقم (1295) ، وصحيح مسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (11 \ 76) برقم (1628) .
(3) راجع المبسوط (30 \ 253) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (34 \ 236) .
(73/191)
2 - هل يلزم المعدم المعسر بالنفقة الكسب لنفقة قريبه؛ وهل يجبر عليه؛ خلاف مخرج على الروايتين السابقتين في المفلس.
3 - القدرة على الكسب بالحرفة تمنع وجوب نفقته على أقاربه، أما إذا لم يكن له حرفة وهو صحيح فهل تجب له النفقة؛ فيه خلاف.
وقد وردت نصوص كثيرة جدا من الكتاب والسنة في الأمر بالتكسب وطلب الرزق والتعفف عما بأيدي الناس: ليس هذا مجال سردها. لكن منها:
- قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) .
- وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) . قال القرطبي: (سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله والإحسان والإفضال فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد. . . وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في
__________
(1) سورة الجمعة الآية 10
(2) سورة المزمل الآية 20
(73/192)
سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض. . .) (1) .
- وعن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده (2) » .
قال ابن حجر: (والحكمة في تخصيص داود بالذكر، أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل؛ ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه؛ من أن خير الكسب عمل اليد) (3) .
وقال قتادة رضي الله عنه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله" (4) .
كما أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (19 \ 55، 56) .
(2) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (4 \ 303) برقم (2072) .
(3) فتح الباري (4 \ 206) .
(4) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب التجارة في البز وغيره (4 \ 297) .
(73/193)
كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله: (ليس عليكم جناح في مواسم الحج) قرأ ابن عباس كذا.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» أخرجه الإمام أحمد وله عنده شواهد من حديثها، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه (1) .
وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول في رجل جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؛ فقال أحمد: (هذا رجل جهل العلم؛ أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي (2) » وقال حين ذكر الطير: «تغدو خماصا وتروح بطانا (3) » وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخلهم والقدوة بهم) (4) .
لذا فما ورد في ذم المال ليس منصرفا إلى ذاته، بل إلى معنى من قبل الآدمي من شدة حرصه عليه، أو تناوله من غير حله، أو
__________
(1) مسند الإمام أحمد (40 \ 34) برقم (24032) و (42 \ 176) برقم (25296) و (11 \ 260) برقم (6678) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/50) .
(3) سنن الترمذي الزهد (2344) ، سنن ابن ماجه الزهد (4164) ، مسند أحمد بن حنبل (1/30) .
(4) مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن محمد بن قدامة ص (90) .
(73/194)
حبسه عن حقه، أو إخراجه في غير وجهه، أو المفاخرة به، أما المال لذاته فينبغي أن يمدح ولا يذم؛ لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدنيا والدين، فهو قوام الآدمي في الدنيا: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (1) .
وأما مصالحه الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع:
أولها: أن ينفقه على نفسه في عبادة؛ كالحج والجهاد، أو فيما يعين على العبادة؛ من المطعم والملبس والمسكن وغيرها من الضرورات.
ثانيها: ما يصرفه إلى الناس من صدقات للفقراء والمعوزين، ومن مروءات كالضيافة ووقاية العرض ونحو ذلك.
ثالثها: ما يصرفه في المنافع العامة للمسلمين كبناء المساجد والقناطر والوقوف المؤبدة ونحو ذلك.
وأما عن آداب الكسب فقال أبو الليث السمرقندي: (من
__________
(1) سورة النساء الآية 5
(73/195)
أراد أن يكون كسبه طيبا فعليه أن يحفظ خمسة أشياء:
أولها: أن لا يؤخر شيئا من فرائض الله تعالى لأجل الكسب، ولا يدخل النقص فيها.
والثاني: أن لا يؤذي أحدا من خلق الله لأجل الكسب.
والثالث: أن يقصد بكسبه استعفافا لنفسه ولعياله، ولا يقصد به الجمع والكثرة.
والرابع: أن لا يجهد نفسه في الكسب جدا.
والخامس: أن لا يرى رزقه من الكسب، بل يرى الرزق من الله تعالى ويرى الكسب سببا) (1) .
ويضاف -بلا شك- إلى هذا أن لا تكون حرفته محرمة، كاحتراف الزنا، وبيع الخمر، وصناعة المزامير ونحوها، وألا يعتريها تصرف محرم؛ كمن يتعامل بالربا، أو الميسر، أو بتجارة يدخلها الظلم، أو الغرر والخديعة، أو الأيمان الكاذبة، أو غير ذلك مما يحرمها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات -كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة وبيع الحصاة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر ".
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (34 \ 235) .
(73/196)
ومن الآداب: تحصيله علم الكسب؛ بأن يتعلم أحكام العقود التي لا تنفك المكاسب عنها، من البيع، والسلم، والإجارة، والشركة، والمضاربة، وأحكام الشروط ونحو ذلك، قال السرخسي: (فإن أراد التجارة يفترض عليه تعلم ما يحترز به عن الربا والعقود الفاسدة، وإن كان له مال يفترض عليه تعلم زكاة جنس ماله ليتمكن به من الأداء. . .) (1) .
واكتساب المال له طرق كثيرة لكن أصولها ثلاثة: الزراعة، والتجارة، والصناعة كما ذكره بعض الشافعية (2) . وزاد بعض الحنفية رابعا هو الإجارة (3) ، وزاد بعض الحنفية أيضا الجهاد (4) ، وقد جعل الجهاد أفضلها فقال: (وأفضل أسباب الكسب الجهاد؛ لأن فيه الجمع بين حصول الكسب، وإعزاز الدين، وقهر عدو الله تعالى، ثم التجارة. . . ثم الزراعة. . ثم الصناعة) . .
وروي عن أحمد أنه ذكر أن المال يأتي من أحد أربعة طرق: تجارة برة، أو صلة الإخوان، أو أجرة التعليم، أو من غلة ضيعة (5) .
واختلفوا في أيها أفضل: فذهب أكثر الحنفية والماوردي والنووي من الشافعية إلى أن الزراعة أفضلها؛ لأنها أعم نفعا للآدمي
__________
(1) المبسوط (30 \ 260) . وانظر: مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن محمد بن قدامة: ص (90-93) .
(2) روضة الطالبين (3 \ 281) .
(3) المبسوط (30 \ 258 \ 259) .
(4) الاختيار (4 \ 171)
(5) كسب الموظفين: ص (60) ، وقد نسبه لكتاب: الحث على التجارة للخلال.
(73/197)
وغيره، وأقرب إلى التوكل، ولأنها عمل بيده.
وقال آخرون: إن التجارة أفضل، وهو مذهب أحمد، والأشبه بمذهب الشافعي، وقال به بعض الحنفية، لما ورد في القرآن من ذكرها كما سبق، وما جاء في الأحاديث من الثناء على التاجر الصدوق، وقد احترفها أفاضل الصحابة -رضي الله عنهم- وقال آخرون: كلها في الإباحة سواء (1) .
كما اختلفوا في اكتساب المال بالصنائع هل هو على درجة واحدة في الإباحة؟ .
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المكاسب غير المحرمة كلها سواء في الإباحة، لا فرق بين حرفة دنيئة وشريفة. وذهب بعض الفقهاء إلى كراهة احتراف الحرف الدنيئة إذا وسعه احتراف ما هو أصلح منها.
ومثلوا لها: بالزبال، والقراد (سائس القرد) ، والحجام، والدباغ، والحائك، وكل حرفة دلت ملابستها على انحطاط المروءة وسقوط النفس، ومرد تحديد ذلك عند الجمهور إلى العرف، وهي مراتب في دناءتها.
وقد نص الحنابلة على عدم قبول شهادة الكساح والكناس
__________
(1) راجع المصادر السابقة، وراجع: مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن محمد بن قدامة: ص (94، 95) .
(73/198)
الذي يكنس العذرة والزبل؛ لأنه دناءة يجتنبه أهل المروءات.
والذي يبدو لي أن ما يراعيه الفقهاء في باب الشهادة في القضاء، وفي باب الكفاءة في النكاح من تأثير دناءة الحرفة احتياطا للعدل وصيانة للمرأة ودفعا للمفاسد - إن قلنا بالتسليم به - لا يخل بكون ذلك كسبا داخلا في عمومات الأمر بالارتزاق، ولا يخل بإباحة الحرفة ذاتها، ما دام صاحبها لا يباشر المحرمات ولا النجاسات.
ولا أغفل هنا أنه حتى في باب الشهادة والكفاءة المذكورين فإن للعرف أثرا كبيرا في تحديد شرف الحرف المباحة ودناءتها، ودرجاتها في ذلك.
كيف وقد قال بعض العلماء: إن الحرف والصناعات التي يحتاجها الناس تكون فرض كفاية إذا احتاج المسلمون إليها، وأنها تكون فرض عين متى لم يقم بها غير قوم معينين وعجز عنها غيرهم، وأن للإمام أن يجبرهم عليها إذا امتنعوا، بعوض المثل. ولا يعد هذا ظلما.
(73/199)
المطلب الثاني: ضوابط إنماء المال
كل ما ذكرناه في طرق اكتساب المال وآدابه - من حيث المنع والإباحة - معاد في إنماء المال؛ ذلك أن اكتساب المال وإنماءه كليهما طلب للرزق، وهما متداخلان، فبينهما علاقة العموم والخصوص، فالاكتساب أعم من الإنماء؛ حيث إن الاكتساب هو طلب المال، سواء كان بتنمية مال موجود أم بالعمل بغير مال كمن يعمل بأجرة، أما الإنماء فهو العمل على زيادة المال الموجود (1) .
فإنماء المال هو ما نسميه الاستثمار، إلا أن الفقهاء لا يستعملون لفظ الاستثمار في مدوناتهم، بل يستعملون كلمة التثمير بالمعنى ذاته، فيقولون: ثمر الرجل ماله أي أحسن القيام عليه ونماه (2) .
وكذلك يستعملون لفظ التجارة، وقد عرفها النووي - رحمه الله تعالى - بأنها تقليب المال وتصريفه لطلب النماء (3) ، وعرفها آخرون بأنها: تقليب المال بالتصرف فيه لغرض الربح (4) .
__________
(1) راجع: الموسوعة الفقهية الكويتية (7 \ 63) .
(2) راجع: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (55) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (3 \ 182) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (3 \ 40) .
(4) راجع: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (108) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (10 \ 151) .
(73/200)
ويأتي ضد الإنماء عدة ألفاظ لدى الفقهاء منها:
1 - الكنز: ويعرفونه بأنه ضد الإنماء، ويعنون به المال المحرز المصون في وعاء أو بالدفن، وقيل: هو المال المدفون، وقد صار هذا اللفظ ديانة علما على كل ما لم تخرج زكاته والفروض الواجبة فيه وإن لم يكن مدفونا قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) ، وفي الأثر: (كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز) ، فالكنز ضد الإنماء (2) .
2 - التعطيل: وهو في الأراضي غالبا وذلك بترك عمارتها وذلك ضد الإنماء.
وقد قال الفقهاء: من تحجر أرضا وترك عمارتها قيل له: إما أن تعمر، وإما أن ترفع يدك، فإن استمر تعطيلها فمن عمرها فهو أحق بها، لقول عمر رضي الله عنه-: (من كانت له أرض - يعني من تحجر أرضا - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) راجع: المصباح المنير ص (207) ، ومعجم المصطلحات الاقتصادية لنزيه حماد ص 289.
(73/201)
3 - الادخار: وهو إعداد الشيء وإمساكه لاستعماله عند الحاجة. فهو في حال ادخاره معطل عن الإنماء.
4 - الاقتناء: وهو مصدر: اقتنى الشيء، يقتنيه، إذا اتخذه قنية لنفسه لا للتجارة. وهذا ضد الإنماء، وكثيرا ما ورد هذا اللفظ عند الفقهاء في الزكاة؛ حيث يفرقون في العروض بين ما اتخذ قنية كثياب اللبس وأثاث البيت ودابة الركوب، وبين ما أرصد للتجارة فيوجبون الزكاة في الثاني دون الأول (1) .
وأما عن حكم إنماء المال: فإن الأصل فيه الإباحة، وهذا بإجماع المسلمين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) ، وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (3) ، وقال تعالى عن التجارة في مواسم الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (4) ، وإنماء المال سبيل لحفظه الذي هو مقصد من مقاصد
__________
(1) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (75) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (7 \ 64) .
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) سورة البقرة الآية 198
(73/202)
الشريعة، ولأجله شرعت العقود المالية من البيع والشركة والمضاربة وغيرها (1) .
ولكن هذه الإباحة مقيدة بمشروعية الطريق الذي تستثمر به الأموال وتنمى، كما أنها تتأثر بنية الشخص وغرضه، كما بينت ذلك في مبحث الاكتساب (2) .
كما أن من آداب إنماء المال - إضافة إلى ما ذكرته في الكسب - ما يلي:
1 - السماحة في المعاملة، وترك المشاحة والتضييق على الناس بالمطالبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى (3) » .
2 - ترك الشبهات؛ كالاتجار في سوق تختلط فيه الحلال بالحرام، وكالتعامل مع من أكثر ماله حرام، ونحو ذلك. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل
__________
(1) راجع: الموسوعة الفقهية الكويتية (7 \ 65، 66) و (10 \ 151) .
(2) وراجع الموسوعة الفقهية الكويتية (7 \ 66) و (3 \ 183) .
(3) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع (4 \ 206) برقم (2076) من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(73/203)
ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه (1) » . قال النووي - رحمه الله تعالى -: " وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة؛ فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها، بنص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة؛ ولم يكن فيه نص ولا إجماع؛ اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالا، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. . . (2) » (3) .
3 - تحري الصدق والأمانة. وهو من أسباب البركة في التجارة وضده من أسباب محقها قال صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين (4 \ 290) برقم (2051) ، وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (11 \ 26) برقم (1599) مع شرح النووي.
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (11 \ 27 - 28) .
(4) متفق عليه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا (4 \ 309) برقم (2079) ، وصحيح مسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيوع (10 \ 176) برقم (1532) .
(73/204)
كما أنهما سبب في الثواب والعقاب الأخروي فقد أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء (1) » لكنه من مراسيل الحسن عن أبي سعيد، وقد قال عنه الترمذي: (هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه) وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة (2) » . وفيهما أيضا من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن التجار يبعثون يوم القيام فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق (3) » .
4 - التصدق من مال التجارة: وقد جاء هذا فيما أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث قيس بن أبي غرزة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر التجار: إن البيع يحضره الحلف واللغو، فشوبوه بالصدقة (4) » قال الترمذي: حديث قيس بن أبي
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1209) ، سنن الدارمي البيوع (2539) .
(2) سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التجارة (4 \ 399) برقم (1224) مع تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفورى، وسنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحث على المكاسب (2 \ 724) برقم (2139) .
(3) سنن الترمذي، الباب السابق، (4 \ 400) برقم (1125) ، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)) ، وسنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة (2 \ 726) برقم (2146) .
(4) سنن الترمذي، الباب السابق (4 \ 398) برقم (1222) ، وسنن ابن ماجه، الباب السابق، (2 \ 726) برقم (2145) .
(73/205)
غرزة حديث حسن صحيح.
(73/206)
الفصل الثاني: عناصر المالية
المبحث الأول: عنصر (إمكان الادخار)
وأصل الكلمة (اذتخار) بالذال، مصدر اذخر الشيء يذخره، فقلب التاء ذالا مع الإدغام، فتحولت الكلمة إلى (اذخار) ثم قلبت الذال المشددة إلى دال، مثل: اذكار من الذكر، ولذا فإن أهل اللغة لا يذكرونها إلا في مادة (ذخر) بالذال، ووجه ذكرهم لها في باب ذخر ما ذكرته، لذا قال ابن الأثير عندها في باب ذخر: (هذه اللفظة كذا ينطق بها بالدال المهملة، ولو حملناها على لفظها لذكرناها في حرف الدال، وحيث كان المراد من ذكرها معرفة تصريفها لا معناها ذكرناها في حرف الذال) (1) .
أما الفقهاء فقد غلب لديهم عليها الاستعمال الآخر فلا يقولون إلا (ادخار) بالدال وهو الذي في القرآن الكريم.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر (2 \ 155) .
(73/206)
فقد جاء لفظ الادخار في القرآن الكريم بهذا المعنى في قوله تعالى في سورة آل عمران في سياق تعداد عيسى - عليه السلام - آيات نبوته: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ، ومعنى الآية: أخبركم بما تأكلونه وبما ترفعونه فتخبئونه من الطعام ولا تأكلونه (2) ، وقد ذكر الطبري - رحمه الله تعالى - أن "يدخرون" بالدال هي اللغة الأجود وأنه يجب القراءة بها لا بالذال فقال: (وأصل "يدخرون" من الفعل يفتعلون من قول القائل: ذخرت الشيء - بالذال - فأنا أذخره ثم قيل: يدخر كما قيل: يدكر من ذكرت الشيء يراد به يذتخر، فلما اجتمعت الذال والتاء وهما متقاربتا المخرج ثقل إظهارهما على اللسان فأدغمت إحداهما في الأخرى وصيرتا دالا مشددة، صيروها عدلا بين الذال والتاء. ومن العرب من يغلب الذال على التاء فيدغم التاء في الذال فيقول: وما تذخرون وهو مذخر لك، وهو مذكر، واللغة التي بها القراءة الأولى - وذلك إدغام الذال في التاء وإبدالهما دالا مشددة - لا يجوز القراءة بغيرها؛ لتظاهر النقل من القراءة بها وهو اللغة الجودى كما قال زهير:
إن الكريم الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فيظلم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 49
(2) تفسير الطبري (3 \ 379) ، وتفسير البغوي (2 \ 40، 41) ، وزاد المسير (1 \ 392، 393) .
(73/207)
يروى بالظاء يريد فيفتعل من الظلم، ويروى بالطاء أيضا) .
مع أن مجاهدا والزهري والسختياني قد قرءوها بالذال لكن مخففة "وما تذخرون" (1) .
ومعنى الادخار في اصطلاح الفقهاء لا يختلف عن المعنى اللغوي؛ وهو تخبئة الشيء والاحتفاظ به لوقت الحاجة.
فهل الادخار بهذا المعنى شرط في ثبوت صفة المالية للشيء؟ جاء في تعريف بعض الحنفية للمال النص على ذلك: فقد قال ابن عابدين: (المال أعم من المتقوم؛ لأن المال ما يمكن ادخاره ولو غير مباح كالخمر) (2) .
وقال أيضا: (المراد بالمال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة) (3) ، ونقل صاحب البحر الرائق هذا التعريف أيضا
__________
(1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (4 \ 95) .
(2) رد المحتار (4 \ 501) .
(3) المصدر السابق.
(73/208)
عن الكشف الكبير (1) . وجاء في التقرير والتحبير: (المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة) (2) .
وهذا - أعني اشتراط إمكان الادخار لثبوت صفة المالية - مما انفرد به الحنفية، ولأجل هذا الاشتراط أخرجوا المنافع من أن تكون أموالا؛ حيث لا يمكن ادخارها لأنها أعراض لا تبقى زمنين.
وخالفهم في هذا الاشتراط جماهير الفقهاء فلم يذكروا الادخار من العناصر المكونة للمالية؛ واعتبروا بالتالي المنافع أموالا. وسيأتي مزيد بحث في ذلك في مبحث مالية المنافع إن شاء الله تعالى.
__________
(1) البحر الرائق (5 \ 277) .
(2) التقرير والتحبير (3 \ 173) .
(73/209)
المبحث الثاني: عنصر (الانتفاع)
لقد خلق المال قواما للناس في معاشهم ومعادهم، كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (1) . أي تقوم بها معايشكم ويصلح أمر دنياكم من التجارات وغيرها.
__________
(1) سورة النساء الآية 5
(73/209)
والانتفاع هو غرض الناس الأهم في المال، بل إنما جعلت الأعيان أموالا لما فيها من المنافع (1) .
لأجل ذلك اتفقت كلمة الفقهاء على اعتبار الانتفاع من عناصر المالية، وأن ما لا منفعة فيه فليس بمال. وإن اختلفت أحيانا عباراتهم في ذلك واحترازاتهم منه:
فمن نصوص الحنفية: جاء في المبسوط: (والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز) (2) ، وجاء فيه أيضا في معرض حديثه عن المال الضمار: (فليس عليه الزكاة لما مضى؛ لأن معنى المالية في النمو والانتفاع، وذلك منعدم) (3) ، وفيه أيضا: (وبتخمر العصير لا تنعدم المالية، وإنما ينعدم التقوم شرعا؛ فإن المالية تكون بكون العين منتفعا بها. . .) .
وعند المالكية: قال ابن العربي في تفسير المال الذي يقطع به في السرقة: (هو كل مال تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به) (4) .
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص (225)
(2) المبسوط (11 \ 79) .
(3) المبسوط (2 \ 171) .
(4) أحكام القرآن لابن العربي (2 \ 607) .
(73/210)
ومن نصوص الشافعية: قال الغزالي في شروط المبيع: (أن يكون منتفعا به فبه تتحقق المالية) (1) ، وقال السيوطي: (وأما المتمول فذكر الإمام له في باب اللقطة ضابطين، أحدهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول) (2) ، وقال النووي: (فما لا نفع فيه ليس بمال) (3) ، وقال الزركشي: (المال ما كان منتفعا به أي مستعدا لأن ينتفع به) (4) .
وفي مغني المحتاج: (فلا يصح بيع ما لا نفع فيه لأنه لا يعد مالا فأخذ المال في مقابلته ممتنع للنهي عن إضاعة المال) (5) .
ومن نصوص الحنابلة: جاء في المبدع في شروط البيع: (أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة) (6) ، وفي أخصر المختصرات: (وكون مبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة) (7) .، وفي منتهى الإرادات: (وهو ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة) (8) .
__________
(1) الوسيط (3 \ 19) .
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327) .
(3) روضة الطالبين (3 \ 350) .
(4) المنثور للزركشي (3 \ 222) .
(5) مغني المحتاج (2 \ 11) .
(6) المبدع (4 \ 9) .
(7) أخصر المختصرات لابن بلبان ص (163) .
(8) منتهى الإرادات (1 \ 256) .
(73/211)
وبهذا يتبين اتفاق كلمة المذاهب الأربعة على اعتبار الانتفاع عنصرا أساسيا في المالية.
وقبل بيان المحترزات من اشتراط الانتفاع في المال لا بد من أن نذكر أن هذا الانتفاع المعتبر في المالية ليس من شرطه كونه آنيا، بل المقصود كون المال مستعدا لأن ينتفع به ولو في المآل، وهنا يذكر الفقهاء أشياء تميل طباع الناس إليها لمنافع مرجوة فيها مستقبلا، لا توجد في الحال، فتكون أموالا بذلك، كدود القز وبزره، والأطفال الأرقاء، وجحوش الحمر، ومهور الأفراس، وبيض ما لا يؤكل، ونحوها مما يكون نفعه مرجوا في ثاني الحال، بل جاء في النكت والفوائد السنية في من أقر بشيء مجمل فأمره القاضي بتفسيره: (كما يقبل تفسيره من مسلم بجلد ميتة لم يدبغ يعني في أحد الوجهين؛ لأنه مما يؤول إلى التمول) (1) .
وإن الانتفاع بالمال ليس جنسا واحدا بل هو في كل شيء بما يصلح له (2) ،
لكنه في كل أحواله مقيد بالحل. فكل انتفاع محرم غير معتبر
__________
(1) النكت والفوائد السنية (2 \ 475) .
(2) (انظر: رد المحتار (4 \ 502) .
(73/212)
في المالية ولا أثر له فيها بل هو ملغى كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما عن المحترزات: فإن اشتراط الانتفاع في المالية يخرج به كل ما لا نفع فيه فلا يعتبر مالا ولا تنطبق عليه أحكام المال. وهذا يشمل ما يلي:
أولا: ما لا نفع فيه أصلا فليس بمال.
ثانيا: ما سقطت منفعته لقلته بألا يكون له منفعة محسوسة إلا بضم غيره إليه، كالحبة والحبتين من الحنطة والزبيب ونحوها، فلا يعد هذا القدر مالا، ولا ينظر إلى ظهور النفع إذا ضم غيره إليه.
ولا فرق في ذلك بين زمن الرخص والغلاء؛ حيث يحدثان نتيجة كثرة الشيء وتوفره. ولذا يجوز بيع الماء على شاطئ البحر وبيع الصخرة على الجبال لوجود المنفعة، وإنما الاستغناء عنها للكثرة (1) .
ويدخل في ذلك ما يطرحه الناس عادة من حقير المال، كالفلس ونحوه فلا يعد مالا (2) .
__________
(1) روضة الطالبين (3 \ 350) ، والوسيط (3 \ 20) .
(2) الأم (5 \ 63 و171) ، والأشباه والنظائر للسيوطي ص (327) .
(73/213)
- قد يشكل على هذا ما يذكره الشافعية في كتاب الإقرار بالمجهول أنه لو أقر بمال قبل تفسيره بما قل منه وإن لم يتمول؛ كحبة حنطة ونحوها، وقد أجاب الشربيني عن ذلك بقوله: (ولا يخالف ما ذكروه هنا من أن حبة البر ونحوها مال ما قالوه في باب البيع من أنها لا تعد مالا؛ فإن كونها لا تعد مالا لعدم تمولها لا ينفي كونها مالا، كما يقال: زيد لا يعد من الرجال وإن كان رجلا، فكل متمول مال، ولا ينعكس) (1) .
ثالثا: ما سقطت منفعته لخسته: كحشرات الأرض من الخنافس والعقارب والحيات، والفئران والنمل ونحوها (2) ، قال النووي: (ولا نظر إلى منافعها المعدودة من خواصها) (3) .
ولكن ينبغي أن ندرك أن تمثيل الفقهاء بالحشرات هنا إنما هو باعتبار زمنهم وما جرت عادة الناس به فيها وإلا فإن للحشرات أنواعا من المنافع في الوقت الحاضر؛ إذ أصبح كثير منها يتم الانتفاع بها داخل المختبرات العملية، إما يجعلها محلا للتجربة العلمية للتوصل بها إلى النظريات العلمية المساعدة في تطوير العمل الطبي، وإيجاد الحلول لكثير من الإشكالات الطبية، وإما باستخلاص المضادات
__________
(1) مغني المحتاج (2 \ 248) .
(2) الوسيط (3 \ 20) ، وروضة الطالبين (3 \ 350) .
(3) روضة الطالبين (3 \ 351) ، ومغني المحتاج (2 \ 11، 12) .
(73/214)
الحيوية والعلاجات منها مباشرة، من السموم وغيرها، وهذه منافع معتبرة بلا شك تؤهلها لأن تكون أموالا.
والفقهاء قد استثنوا بعض الحشرات فأباحوا بيعها لما فيها من المنافع كدود القز وبزره والنحل والعلق. (وفيه منفعة المص للدم) وعللوا ذلك بما فيها من المنافع للناس، فدل ذلك على أن المنفعة هي المناط. وقد جاء هذا مصرحا به في الدر المختار حيث قال بعد ذكره بيع الحشرات وما يستثنى منها: (والحاصل أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع) وجاء في التلقين في سياق ما لا يجوز بيعه: (وما لا منفعة فيه؛ كخشاش الأرض، والكلاب، واختلف فيما يجوز الانتفاع به منها) ، وجاء في روضة الطالبين: (ونقل أبو الحسن العبادي وجها آخر أنه يجوز بيع النمل في (عسكر مكرم) وهي المدينة المشهورة بخراسان لأنه يعالج به السكر و (نصيبين) لأنه تعالج به العقارب الطيارة، والوجهان شاذان ضعيفان، كما أنهم حين نصوا على عدم مالية الحشرات أو عدم جواز بيعها لم يعللوا المنع إلا بعدم النفع فيها. فدل هذا كله على أن الأمر يدور مع الانتفاع
(73/215)
وعدمه، فإذا كان فيها منفعة كانت أموالا متقومة مبادلة بالمال، وهو الحاصل في العصر الحاضر في أنواع غير قليلة من الحشرات.
رابعا: ما سقطت منفعته لحرمته: فلا عبرة بالمنافع في الأموال المحرمة، ولا بد أن يكون المال مباحا مطلقا، أما ما أبيح للحاجة أو للضرورة فقط فلا يعتبر مالا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
خامسا: ما سقطت منفعته لعدم الوصول إليه كالمال الضمار؛ وهو كل مال تعذر الانتفاع به مع قيام أصل الملك. كالمال المغصوب إذا لم يكن لصاحبه على الغاصب بينة، وكمال المودع إذا نسي من أودعه عنده، وكالدين المجحود إذا لم يكن عليه بينة، وكالمال المدفون في برية إذا نسي الموضع، والساقط في البحر، ونحوها. فإذا وصل إليه بعد ذلك فإنه لا يأخذ حكم المال لما مضى؛ لكون منفعته ساقطة الاعتبار في تلك المدة (1) .
__________
(1) راجع المبسوط (2 \ 171) ، ورد المحتار (2 \ 260) .
(73/216)
المبحث الثالث: عنصر (حل الانتفاع)
المراد بحل الانتفاع: ألا يكون الشيء محرما، فالحلال نقيض الحرام، وبهذا فهو يشمل الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، من
(73/216)
حيث الإذن الشرعي بها مع رجحان الفعل في الواجب والمندوب، وتساوى الفعل والترك في المباح، ورجحان الترك في المكروه؛ ولهذا سلك بعض علماء الأصول ذلك في تقسيم الحكم، فقالوا: الحكم قسمان؛ تحريم وإباحة. والتقسيم الخماسي هو المشهور.
وقد جاء الحل مقابلا للتحريم في الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المسور بن مخرمة: «وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما (3) » .
والحل في الأصل يحكم به لسببين:
الأول: ذاتي؛ كالانتفاع بالبر والشعير وسائر الأشياء المباحة.
والثاني: عرضي لسبب؛ كالبيع والإجارة والهبة وسائر الأشياء المبيحة، ويدخل في الثاني الإذن من المالك الخاص.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما ذكر من ورع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه (6 \ 212) برقم (3110) ، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل فاطمة، رضي الله عنها، (16 \ 3) برقم (2449) .
(73/217)
والذي نعنيه هنا إنما هو حل الانتفاع نقيض الحرمة، وهو حاصل بالأول، وكذلك هو قيد في الثاني؛ فلا بد من توفره زيادة على سبب الإباحة من العقد أو إذن المالك الخاص.
كما أن هذا الحل في الأشياء له درجات متفاوتة: فأعلاها ما كان خالصا من جميع الشبه؛ كالاغتراف من الأنهار العظام الخالية عن الاختصاص، ثم تنزل درجاته إلى أن تقرب الدرجة الأخيرة من الحرام المحض؛ كمال من لا كسب له إلا المكوس المحرمة؛ وإن كان يحتمل أن يكون بعض ما في يده حصل له من جهة حلال (1) .
وقد اختلف الفقهاء في حل الانتفاع؛ هل هو شرط في المالية؛ فذهب الحنفية إلى أن حل الانتفاع ليس شرطا في المالية، وليس من ضرورة التحريم سقوط المالية وهذا دفعهم إلى تقسم المال إلى قسمين: مال متقوم، ومال غير متقوم، فالمال المتقوم عندهم هو ما يباح الانتفاع به شرعا في حال السعة والاختيار، والمال غير المتقوم هو ما لا يباح الانتفاع به في حال الاختيار؛ كالخمر والخنزير في حق المسلم. وعليه فإنها للذمي تعتبر مالا متقوما؛ لأنه يتمولها ولا يعتقد حرمتها، وقد أمرنا بتركهم وما يدينون.
__________
(1) القواعد للحصيني (2 \ 179، 180) ، والمجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي (2 \ 714 \ 715) .
(73/218)
وبنوا على هذا التقسيم ثمرات منها (1) .
1 - أن المال المتقوم يصح التصرف فيه بالبيع والهبة والوصية والرهن وغيرها، أما غير المتقوم فلا يصح التصرف فيه شرعا؛ وإن كان باقيا على صفة المالية.
2 - أن من اعتدى على مال متقوم ضمنه، فمن أتلف خمر ذمي مثلا أو خنزيره ضمنه؛ لكونه متقوما في حق الذمي، سواء كان المتلف مسلما أو غيره، أما غير المتقوم فالجناية عليه هدر، ولا يلزم متلفه ضمان؛ كمن غصب خمرا لمسلم أو خنزيرا له، فهلك في يده، فلا ضمان؛ لأنهما ليسا بمال متقوم في حق المسلم؛ سواء كان الغاصب مسلما أو ذميا.
__________
(1) المبسوط (13 \ 25) ، وبدائع الصنائع (7 \ 147) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (36 \ 34) .
(73/219)
3 - أن من شرط المهر المسمى كونه مالا متقوما في نفسه، أو يستحق بذكره تسليم مال، فإن لم يكن فلها مهر مثلها (1) .
وهذا يعني أنه ليس من ضرورة التحريم سقوط المالية عند الحنفية، بل سقوط التقوم فقط؛ فإن التقوم يثبت بالمالية وإباحة الانتفاع معا فإن تخلف شرط الإباحة لم يكن متقوما وإن بقي مالا؛ كالخمر والخنزير بالنسبة للمسلم، وإن تخلف شرط المالية لم يكن متقوما وإن كان مباحا؛ كحبة القمح مثلا، فالمالية أعم من التقوم (2) .
وقد يشكل على ما ذكرته آنفا ما جاء في البحر الرائق نقلا عن المحيط؛ من أن الخمر ليس بمال (3) . لكن أجاب ابن عابدين بقوله: (وأما ما في البحر عن المحيط من أنه غير مال فالظاهر أنه أراد بالمال المتقوم توفيقا بين كلامهم) (4) .
وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن حل الانتفاع شرط في المالية، وأن كل ما لا يباح الانتفاع به شرعا فليس بمال أصلا، كالخمر، والخنزير، والميتة، والدم، والأصنام،
__________
(1) المبسوط (23 \ 188) . وراجع: روضة الطالبين للنووي (7 \ 153) .
(2) المبسوط (5 \ 39، 40) و (13 \ 25) ، وبدائع الصنائع (7 \ 147) ، وحاشية ابن عابدين (4 \ 501) .
(3) انظر: البحر الرائق (5 \ 277) .
(4) رد المحتار (4 \ 503) .
(73/220)
والصلبان، وآلات الملاهي، ونحو ذلك، وينبني عليه عدم صحة المعاوضة عليها، وعدم ضمانها بالإتلاف.
إلا أن المالكية قد أوجبوا الضمان على متلف خمر الذمي بقيمته لا مثله لاعتباره مالا في حقه، كما ذكرته آنفا.
ولذلك لا تجد عند الجمهور تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم بالمعنى الذي قصده الحنفية، وهم إذا أطلقوا لفظ (المتقوم) فإنما يريدون به ما له قيمة مادية بين الناس، وقابلية لأن يكون له بدل في العقود.
والمراد بحل الانتفاع: الحل المطلق في جميع الأحوال، أما ما أبيح لأجل الضرورة والحاجة فقط، مع تحريمه بدونهما فليس بمال؛ كالكلب الذي يباح اقتناؤه للحاجة، وكالخمر والخنزير والميتة التي يباح تناولها للضرورة، فلا تكون لذلك أموالا؛ لأنها إباحة عارضة لأجل الحاجة والضرورة لا مطلقة في كل الأحوال (1) .
__________
(1) المبدع (4 \ 9) ، ومعونة أولي النهى (4 \ 13، 14) ، وكشاف القناع (3 \ 1400) ، ورد المحتار (5 \ 69) .
(73/221)
المبحث الرابع: عنصر (إمكان المعاوضة عنه)
هذا العنصر مما تكاد تطبق عليه المذاهب، فقد جعل الفقهاء المالية شرطا في صحة المعاوضة، كما جعلوا صحة المعاوضة أمارة على المالية، مما يدل على تلازمهما تماما ونصوصهم في ذلك كثيرة جدا. فمن نصوص الحنفية في ذلك:
جاء في المبسوط: " وكذلك في البيع بالخمر؛ فإن ركن العقد المالية في البدلين، وبتخمر العصير لا تنعدم المالية، وإنما ينعدم التقوم شرعا) (1) .
وفي البحر الرائق: (والبياعات المنهي عنها ثلاثة. . . والفساد بالمعنى الأعم يثبت بأسباب منها الجهالة. . . ومنها عدم المالية أو التقوم. .) (2) . وعرفوا البيع بأنه: (مبادلة المال بالمال) (3) .
وفي فتح القدير في مسألة بيع لبن الآدمية: (الجواز يتبع المالية ولا مالية للإنسان إلا ما كان محلا للرق وهو للحي ولا حياة في اللبن) (4) .
وفي أصول السرخسي في ربا الفضل: (المراد الفضل الخالي
__________
(1) المبسوط (13 \ 25) .
(2) البحر الرائق (6 \ 75) .
(3) رد المحتار (4 \ 502) .
(4) فتح القدير شرح الهداية (6 \ 424) .
(73/222)
عن العوض. . . ثم خلو الفضل عن العوض لا يظهر يقينا بعدد الحبات والحفنات ولا يظهر إلا بعد ثبوت المساواة قطعا في الوصف الذي صار به محلا للبيع وهو المالية) (1) .
كما نصوا على أن المال قد يكون ثمنا وقد يكون مثمنا؛ ففي أنيس الفقهاء: (والأموال أنواع: نوع ثمن بكل حال، كالنقدين صحبة الباء أو لا، قوبل بجنسه أو بغيره، ونوع مبيع بكل حال؛ وهو ما ليس من ذوات الأمثال؛ كالثياب والدواب والمماليك، ونوع ثمن بوجه مبيع بوجه، كالمكيل والموزون، فإذا كان معينا في العقد كان مبيعا، وإن لم يكن معينا وصحبه الباء وقابله مبيع فهو ثمن، ونوع ثمن بالاصطلاح وهو سلعة في الأصل؛ فإن كان رابحا كان ثمنا وإن كان كاسدا كان سلعة) (2) .
ومن نصوص المالكية في ذلك:
جاء في الإشراف: (يقطع في جميع المتمولات التي تتمول في العادة، ويجوز أخذ الأعواض عليها) (3) .
وفي بداية المجتهد: (القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض فيه) (4) .
__________
(1) أصول السرخسي (2 \ 126) .
(2) أنيس الفقهاء ص (222) .
(3) الإشراف في مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي (2 \ 171) .
(4) بداية المجتهد (2 \ 551، 552) .
(73/223)
وأما الشافعية فمن نصوصهم:
جاء في الأم قول الشافعي - رحمه الله تعالى -: (ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها - وإن قلت -، وما لا يطرحه الناس من أموالهم؛ مثل الفلس وما يشبه ذلك) وقال في موضع آخر: (ولا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها - وإن قلت - وما لا يطرحه الناس من أموالهم؛ مثل الفلس وما أشبه ذلك الذي يطرحونه) (1) .
ومن نصوص الحنابلة:
ما جاء في كشاف القناع وغيره في شروط البيع: (الشرط الثالث: أن يكون المبيع والثمن مالا لأنه مقابل بالمال إذ هو مبادلة المال بالمال) .
والفقهاء رحمهم الله تعالى كثيرا ما يقرنون التقويم بالمالية، والتقويم مصدر: قومت المتاع، أي حددت له قيمة معلومة، والقيمة هي الثمن الذي يقاوم به المتاع؛ سميت بذلك لأنها تقوم مقامه (2) ، وهذا هو المعاوضة.
__________
(1) الأم (5 \ 63 و 171) . وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327) .
(2) المصباح المنير ص (198، 199) .
(73/224)
بل إنهم كثيرا ما يذكرون حدوث صفة المالية (أي عرضيتها بعد أن كانت معدومة) وزوالها وفواتها بعد أن كانت موجودة، وزيادتها، ونقصانها، وتفاوتها، وهم يعنون بصفة المالية في ذلك كله القيمة التي تقابل الشيء في المعاوضات؛ مما يدل على أن إمكان المعاوضة عنصر رئيس من العناصر المكونة للمالية.
فذكر حدوث المالية مثلا في المبسوط للسرخسي (2 \ 205) ، والوسيط للغزالي (3 \ 408) ، ومغني المحتاج للشربيني (2 \ 291) .
وذكر زوالها في المنثور للزركشي (2 \ 181) ، وروضة الطالبين للنووي (5 \ 44) ، ومغني المحتاج (2 \ 14و129 و290) و (3 \ 203) ، والمغني لابن قدامة (6 \ 460) ، والإنصاف للمرداوي (3 \ 148) . وذكر زيادتها في المغني لابن قدامة (11 \ 505) .
وذكر نقصانها في المبسوط (2 \ 158) و (5 \ 70) ، والبحر الرائق لابن نجيم (3 \ 176) و (6 \ 14) ، ومغني المحتاج (4 \ 286) ، والمغني لابن قدامة (11 \ 505)
وذكر تفاوت المالية في المبسوط (5 \ 88) ، والهداية للمرغيناني (3 \ 72) ، ورد المحتار لابن عابدين (4 \ 536) ، ولقد أثرت الإحالة عليها دون نقل نصوصهم لئلا يطول المقام.
وهم في كل ذلك يعنون بصفة المالية القيمة التي تقابل الشيء
(73/225)
في المعاوضات والتي يقوم بها في الضمانات وقد نص بعضهم على هذا التفسير فقد قال الغزالي الشافعي: " لأن المالية باقية ببقاء القيمة " (1) ، وقال ابن نجيم الحنفي: " لأن المقصود نقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة) (2) ، وقال ابن ضويان الحنبلي في الخيارات: " الخامس: خيار العيب، والعيوب: النقائص الموجبة لنقص المالية في عادة التجار) (3) .
ولا يشكل على هذا ما ذكرته في مبحث عنصر حل الانتفاع؛ من أن الحنفية يقسمون المال إلى متقوم وغير متقوم، وأن كل متقوم مال وليس كل مال متقوم، فإنما دفعهم إلى ذلك أنهم لم يجعلوا من عناصر المالية إباحة الانتفاع بالشيء شرعا، فقسموا الأموال إلى متقومة وغير متقومة بهذا الاعتبار، وإلا فهم متفقون مع بقية المذاهب هنا في اعتبار التقوم - الذي هو كون الشيء ذا قيمة يقوم بها - عنصرا من عناصر المالية.
__________
(1) الوسيط (3 \ 144) .
(2) البحر الرائق (6 \ 40، 41) .
(3) منار السبيل (1 \ 319) .
(73/226)
المبحث الخامس: عنصر (العينية)
نسبة إلى العين. والعين في اللغة تطلق - بالاشتراك - على نحو من عشرين مسمى، منها: العين الباصرة، وعين الماء، وعين الشمس، والعين الجارية، والجاسوس، وما ضرب من الدنانير، وذات الشيء،
(73/226)
وخيار الشيء وغيرها، ويتبين المراد من سياق الكلام.
ويختلف جمع العين بحسب معناها؛ فتجمع مثلا عين الحيوان الباصرة على أعين وأعيان وعيون، وتجمع العين بمعنى الدنانير المضروبة على أعيان، ولغير المضروبة على عيون وأعين (1) .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني اللغوية؛ لكنهم أكثر ما يستعملون مصطلح الأعيان لأحد معنيين:
الأول: الأعيان في مقابل الديون، وهو الأكثر في استعمالهم، فيعنون بالأعيان الأموال الحاضرة نقدا أو غيره، ويعنون بالديون ما يثبت في الذمم بعقد أو استهلاك أو غيرهما.
وأساس التمييز بين العين والدين عند الفقهاء هو الاختلاف والتباين في التعلق؛ حيث إن الدين يتعلق بذمة المدين، ويكون وفاؤه بدفع أية عين مثلية من جنس الدين الملتزم به؛ ولهذا صحت فيه الحوالة والمقاصة، بخلاف العين؛ فإن الحق يتعلق بذاتها ولا يتحقق الوفاء عند الالتزام بها إلا بأداء عينها؛ ومن أجل ذلك لم تصح
__________
(1) المصادر السابقة.
(73/227)
الحوالة أو المقاصة في الأعيان؛ لأنها إنما تستوفى بذواتها لا بأمثالها (1) ، وهذا هو معنى القاعدة المقررة عندهم: (إن المعينات المحسوسة لا تثبت في الذمم، وما في الذمم لا يكون معينا) (2) .
الثاني: الأعيان في مقابل المنافع، وهذا كثير في استعمالهم؛ حيث يقولون: إن المال قسمان أعيان ومنافع، ويعنون بالمنافع الفوائد العرضية التي تستفاد من الأعيان بالاستعمال مع بقاء أصول الأعيان، ويعنون بالأعيان هذه الأصول. وهذه العرضية في الأعيان هي التي قصدها ابن عرفة بعدم إمكان الإشارة دون إضافة؛ حين فسر المنفعة بقوله: " ما لا يمكن الإشارة إليه حسا دون إضافة، يمكن استيفاؤه، غير جزء مما أضيف إليه " ويعني بالإضافة قولنا: لبس الثوب، وركب الدابة، فاللبس والركوب منفعة (3) .
وقال الزنجاني: (وكذلك كل عين لها هيئة تتميز بها عن الأخرى، وبها تستعد لحصول الغرض منها، فهي منفعتها، وهذه
__________
(1) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (254) .
(2) راجع: الفروق للقرافي (2 \ 133، 134) .
(3) شرح حدود ابن عرفة للرصاع (2 \ 521) .
(73/228)
الهيئات أعراض متجددة توجد وتفنى كسائر الأعراض) (1) .
وباستحضار هذين الاستعمالين للفقهاء، يندفع ما يتوهم من التعارض والتضارب في عبارة الفقهاء؛ حين يذكرون أن الإجارة على قسمين: إجارة واردة على العين، وإجارة واردة على الذمة، وفي الوقت نفسه يقررون أن مورد العقد في الإجارة إنما هو على المنفعة لا على العين، فإنه لا تضارب بينهما؛ لأنهم يقصدون بالعين في عبارتهم الأولى ما يقابل الذمة، والعين بهذا الاعتبار يصح إطلاقها على المنفعة وهي المرادة، وإنما ذكروا العين؛ لأنها محل المنفعة ومنشؤها، أما في عبارتهم الثانية فيقصدون بالعين ما يقابل المنفعة، ويريدون بالمنفعة المنافع العرضية المتعلقة بالعين. وبهذا يندفع التعارض. وقد نبه إلى هذا الملحظ الشربيني حيث قال: (تنبيه: تقسيم الإجارة إلى واردة على العين وواردة على الذمة؛ لا ينافي تصحيحهم أن موردها المنفعة لا العين؛ لأن المراد بالعين ثم ما يقابل المنفعة، وهنا ما يقابل الذمة) (2) .
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول ص (225) .
(2) مغني المحتاج (2 \ 333، 334) .
(73/229)
وأيا كان مرادنا بالعينية في هذا المبحث - أي سواء أكان المحترز منه المنافع، أم كان المحترز منه الديون- فإن الخلاف في اعتبارها عنصرا من عناصر المالية هو ذاته؛ حيث يخالف الحنفية الجمهور، فيرى جمهور الفقهاء عدم اشتراط العينية لثبوت صفة المالية - بالاعتبارين - ويدخلون المنافع والديون في مسمى المال، فيما يرى الحنفية اشتراطها - بالاعتبارين- ولا يعدون المنافع ولا الديون أموالا. كما سيأتي بيانه- إن شاء الله تعالى- في المبحثين المتعلقين بمالية المنافع والديون؛ لكني أحببت أن أنبه إلى الملحظ السابق تتميما للفائدة ودفعا لما قد يرد من التباس.
وبعد هذا التطواف في نصوص الفقهاء وآرائهم المتعلقة بتعريف المال، وعناصر المالية، وما يعد مالا وما لا يعد، فإن من أهم النتائج التي توصلت إليها ما يلي:
1 - أن مصطلح (المال) قد اختلفت استعمالاته في لغة العرب، وتطور عندهم باختلاف الأزمنة، والبيئات، والأعراف.
2 - أهمية مصطلح (المال) ، وكثرة تداوله وتداول مشتقاته لدى الفقهاء.
3 - مع هذا التداول الكبير، لمصطلح (المال) فإن كثيرا من الفقهاء ليس لديه حقيقة تحديد واضح لمفهوم المال، بل تجد أن
(73/230)
مفهومه يختلف؛ فيتسع في مقام، بينما يتحدد في مكان آخر، وفقا للباب الذي ورد استعماله فيه، ومما يؤكد ذلك أنك تجد كثيرا من الفقهاء لم يلتفت أصلا لتعريف المال؛ بوضع حد جامع مانع له، بل يورد هذه المفردة، وكأنها ذات مفهوم معهود في الذهن سلفا. ولقد واجهت صعوبة في جمع التعريفات الاصطلاحية له لندرتها. ولعل مرادهم أن يحيلوا مفهومه على العرف، باعتباره المعول عليه فيما لا حد له لغة ولا شرعا.
4 - مع ما سبق إلا أن بعض الفقهاء - وهم قلة - قد اهتم بذلك وحاول أن يعرف المال بتعريف حاصر جامع مانع، يميز المال عما يشبهه، ويجعل له مفهوما واضحا.
5 - هناك عنصران يتفق الفقهاء على اعتبارهما لصفة المالية، هما: عنصر الانتفاع (أي كونه منتفعا به) وعنصر إمكان المعاوضة (أي كونه ذا قيمة يعاوض بها عنه) وجرت عادتهم أن يحترزوا من الأول بالحشرات، وأنها ليست مالا لعدم النفع فيها، ويحترزوا من الثاني بحبة القمح أو الشعير، أو التراب. . .
وهنا يجب ملاحظة أن هذه المحترزات ليست مقصودة بالحكم بعينها، بل حكم بعدم ماليتها لعدم توفر الوصف الذي جعلوه مناطا للمالية فيها، وهو النفع وإمكان المعاوضة، فحيثما تغير الحال
(73/231)
فصارت الحشرات مثلا منتفعا بها - كما هو الحال اليوم - صارت أموالا عندهم أيضا، والعكس بالعكس؛ لأنه لم يكن مقصودهم المثال، بل الوصف الجامع.
6 - هناك ثلاثة عناصر يختلف الفقهاء في اعتبارها لصفة المالية؛ هي: عنصر العينية، وعنصر إمكان الادخار، وعنصر حل الانتفاع، فيشترط الحنفية لوصف المالية الأولين دون الثالث، ويشترط الجمهور الثالث دون الأولين؛ ولأجل عدم اشتراط الحنفية حل الانتفاع قسموا المال إلى متقوم وغير متقوم، ويعنون بالمال غير المتقوم ما لا يباح في حال السعة والاختيار؛ كالخمر والخنزير للمسلم، وأما الجمهور فليست المحرمات عندهم أموالا مطلقا، لاشتراطهم حل الانتفاع للمالية، فلم يكونوا بحاجة إلى هذا التقسيم.
7 - بناء على اختلافهم السابق في العناصر الثلاثة اختلف الحنفية مع الجمهور في مالية بعض الأشياء، وهي: الدين والمنفعة، والآدمي الرقيق، والخمر والخنزير، والكلب، وبنوا على ذلك فروعا كثيرة؛ ولذا تجد تعليلاتهم في هذه الفروع تدور حول العناصر المذكورة.
8 - أن اكتساب المال وطلب الرزق مطلب شرعي، وما ورد في النصوص من ذم المال ليس منصرفا إلى ذاته، بل إلى تصرفات
(73/232)
الآدمي غير الشرعية فيه. ومن جهة أخرى فليس اكتساب المال مطلقا في الشرع من أي سبيل وبأي كيفية، بل له آداب وطرق يجب الالتزام بها. وكذلك فهي تثمير المال وتنميته.
هذه هي أبرز النتائج في هذا البحث، ويبقى عملا بشريا يعتريه القصور، فما أحسنت فيه فبفضل الله وتوفيقه، وما أخطأت فيه فمن نفسي، وحسبي أن يكون مرادي الحق، وغايتي الصواب. والله هو الغفور الرحيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(73/233)
صفحة فارغة
(73/234)
التورق المصرفي
عن طريق بيع المعادن
لفضيلة الدكتور \ خالد بن علي المشيقح (1) .
تقديم:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فقد نشأت المصارف الإسلامية لترفع عن الأمة مصيبة الربا وتزيل عنها آثاره وتبعاته، وقد اجتهدت هيئات شرعية مشكورة تابعة لهذه المصارف في إيجاد بدائل تلبي احتياجات النشاط الاقتصادي وفق القواعد والضوابط الشرعية. ومع مرور الوقت، تطورت هذه المصارف وتطور معها التمويل الذي تقدمه لعملائها. ففي عام 1421 هـ بدأت بعض المصارف بما يسمى بعملية
__________
(1) الأستاذ المشارك بقسم الفقه، في كلية الشريعة بالقصيم.
(73/235)
"التيسير" ثم تبعتها مصارف أخرى بما يسمى بـ "التورق المبارك"، أو "تورق الخير"، أو "مال"، أو "التورق"، وهي عبارة عن التورق عن طريق بيع المعدن غالبا. وسلكت مصارف أخرى عملية التورق لكن عن طريق بيع الأسهم. وكانت أغلب معاملات تلك المصارف قبل ذلك بالتورق عن طريق بيع السيارات.
وإنما لجأت تلك المصارف إلى التعامل بالمعادن لأسباب من أهمها: سرعة عملية البيع والشراء لتلك السلع، وخلوها من الشروط النظامية التي قد توجد في سلع أخرى والتخفف من الإجراءات والتكاليف التي قد توجد في غير تلك السلع، وغير ذلك، واختارت تلك المصارف سلعة المعدن لتعاملها؛ لكونها من السلع التي يكثر عليها العرض والطلب عالميا، ولكثرة تساؤلات الناس عن شرعية تلك المعاملات كتبت في التورق المصرفي عن طريق بيع المعدن، وقد جعلته مقتصرا على شرطه وحكمه.
فاشتمل البحث على ما يلي:
مقدمة.
تمهيد، واشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف مفردات العنوان.
(73/236)
المطلب الثاني: وصف عملية بيع المعدن في التورق المصرفي.
المطلب الثالث: حكم التورق غير المصرفي.
المطلب الرابع: الفرق بين التورق غير المصرفي، والتورق المصرفي.
المبحث الأول: شرط صحة التورق المصرفي، وفيه مطالب: المطلب الأول: الشرط الأول: أن يكون المصرف مالكا للسلعة.
المطلب الثاني: الشرط الثاني: ألا يبيع المشتري السلعة إلا بعد قبضها.
المطلب الثالث: الشرط الثالث: ألا يبيع المشترى السلعة على المصرف.
المطلب الرابع: الشرط الرابع: ألا يكون المعدن ذهبا أو فضة. المطلب الخامس: الشرط الخامس: أن يكون المعدن حالا.
المطلب السادس: الشرط السادس: أن يكون الأجل معلوما.
المطلب السابع: الشرط السابع: أن تكون السلعة معلومة.
المبحث الثاني: حكم التورق المصرفي.
الخاتمة.
(73/237)
منهج البحث:
سلكت في كتابة هذا البحث المنهج العلمي في كتابة البحوث، كما يلي:
أولا: اقتصرت في بحثي هذا على المذاهب الأربعة، كما أذكر رأي غيرهم أحيانا.
ثانيا: أقوم بعرض المسألة الخلافية بذكر القول أولا، فالقائل به، ثم أتبعه بالاستدلال، وما ورد عليه من مناقشة، وما أجيب به عنها، وهذا في جملة البحث، وقد يختلف المنهج تبعا لاختلاف المسألة.
ثالثا: اعتمدت في نسبة كل قول لكل مذهب على أمهات كتب المذهب.
رابعا: رجحت ما ظهر لي رجحانه، بناء على قوة الأدلة، وبما يتمشى مع قواعد الشريعة، ومقاصدها العامة.
خامسا: عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها في كتاب الله، بذكر السورة ورقم الآية.
سادسا: خرجت جميع الأحاديث الواردة في البحث، وما كان منها في صحيح البخاري، أو مسلم: اكتفيت به، وما لم يخرجه أحدهما، أو كلاهما خرجته من الصحاح، والسنن، والمسانيد المتبقية، مع بيان درجة الحديث.
(73/238)
سابعا: خرجت الآثار الواردة في البحث من مصادرها، مع بيان درجة الأثر غالبا.
ثامنا: وضحت معنى ما يرد في هذا البحث من كلمات وألفاظ غريبة (1) .
__________
(1) لم أترجم لشيء من الأعلام خشية الإطالة.
(73/239)
التمهيد
في تعريف مفردات العنوان، ووصف عملية بيع المعدن في التورق المصرفي، وحكم التورق عموما
وفيه مطالب:
المطلب الأول: تعريف مفردات العنوان
أولا: تعريف التورق:
التورق لغة:
في الصحاح: " وفي الورق ثلاث لغات. . . ورق، وورق، وورق مثل كبد، وكبد، وكبد. . . . " (1) .
ويطلق على معان منها: المال من دراهم وإبل وغير ذلك، والنقرة مضروبة أو غير مضروبة، والنقرة المضروبة، وورق الشجر، وما استدار من الدم على الأرض وغير ذلك (2) .
وسمي هذا البيع تورقا؛ لأن المقصود منه الحصول على الورق (3) .
وفي الاصطلاح:
أن يشترى شخص سلعة إلى أجل، ثم يبيعها على غير بائعها
__________
(1) الصحاح 4 \ 1564.
(2) ينظر: الصحاح 4 \ 1564، 1565، ولسان العرب 10 \ 374، والمصباح 2 \ 655، والمطلع ص 451.
(3) تهذيب السنن 5 \ 108، وإعلام الموقعين 3 \ 223.
(73/240)
نقدا، ليتوسع بثمنها (1) .
ثانيا: تعريف المصرف:
جمع مصرف: مصارف.
والصرف في اللغة يطلق على معان منها:
رد الشيء عن وجهه، والحيلة، وفضل الدرهم على الدرهم، وبيع الذهب بالفضة (2) .
والصراف: من يبدل نقدا بنقد، والصرافة: مهنة الصراف.
والمصرف: مكان الصرف، وبه سمي البنك مصرفا (3) .
ثالثا: تعريف البيع:
البيع لغة:
مصدر بعت، يقال: باع يبيع بمعنى ملك، وبمعنى اشترى. وقيل: عبارة عن الإيجاب والقبول إذا تناول عينين أو عينا وثمنا (4) وقيل: مبادلة مال بمال (5) .
وفي الاصطلاح:
عرفه الحنفية بتعاريف منها: مبادلة المال بالمال بالتراضي بطريق
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 \ 158.
(2) لسان العرب 9 \ 189، 190.
(3) المعجم الوسيط 1 \ 513.
(4) المطلع ص 255.
(5) مقاييس اللغة 1 \ 327، ولسان العرب 8 \ 23، والمصباح 1 \ 27.
(73/241)
الاكتساب (1) .
ومن تعاريف المالكية: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة (2) .
ومن تعاريف الشافعية: مبادلة المال بمال أو نحوه تمليكا (3) .
ومن تعاريف الحنابلة: مبادلة المال بالمال تملكا وتمليكا (4) .
وبعض الفقهاء يزيد بعض القيود، فمن ذلك تعريف الحجاوي بأنه: مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض (5) .
قوله: "مبادلة مال" المال عين مباحة بلا حاجة.
قوله: "ولو في الذمة" كثوب صفته كذا.
قوله: "بمثل أحدهما" أي بمال أو منفعة مباحة.
قوله: "على التأبيد" يخرج الإجارة والإعارة.
قوله: "غير ربا وقرض" فلا يسميان بيعا وإن وجدت فيهما المبادلة؟ إذ الربا محرم، والمقصود الأعظم في القرض الإرفاق (6) .
__________
(1) شرح العناية على الهداية 6 \ 246.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشيته 3 \ 2.
(3) المجموع شرح المهذب 9 \ 149.
(4) المغني 6 \ 5.
(5) الإقناع 2 \ 56.
(6) الروض المربع 6 \ 8.
(73/242)
رابعا: تعريف المعدن:
لغة: الإقامة والثبوت. ويطلق على منبت الجواهر.
في لسان العرب: " عدن فلان بالمكان يعدن، ويعدن عدنا وعدوانا أقام وعدنت البلد توطنته. . . ومنه المعدن بكسر الدال وهو المكان الذي يثبت فيه الناس؛ لأن أهله يقيمون فيه ولا يتحولون عنه شتاء ولا صيفا، ومعدن كل شيء من ذلك ومعدن الذهب والفضة سمي معدنا لإثبات الله فيه جوهرهما وإثباته إياه في الأرض حتى عدن أي ثبت فيها ".
وفي القاموس المحيط: المعدن كمجلس منبت الجواهر (1) .
والمراد هنا: معدن الحديد، والرصاص، والنحاس ونحو ذلك. والمراد بالتورق المصرفي: هو قيام المصرف بترتيب عملية التورق للمشتري بحيث يبيع سلعة على المتورق بثمن آجل، ثم ينوب عن المشترى ببيع السلعة نقدا لطرف أخر، ويسلم الثمن النقدي للمتورق.
__________
(1) القاموس المحيط 4 \ 247.
(73/243)
المطلب الثاني: وصف عملية بيع المعدن في التورق المصرفي
يقوم المصرف بشراء سلع غالبا تكون من المعادن، وهي: الزنك، والبرونز، والنيكل، والصفيح، والنحاس، بالقدر الذي يحتاجه العملاء كل أسبوع.
(73/243)
وإنما كان الاختيار لتلك المعادن؛ لأنها من المعادن الأساسية التي يجري فيها التبادل يوميا عالميا.
يتقدم العميل إلى المصرف بطلب شراء بالتقسيط معدن كذا صفته كذا بالتقسيط، لكونه غائبا في دولة أخرى كالبحرين مثلا، وهذه السلع تعرض في سوق البورصة العالمية والتي قد تم شراؤها من قبل المصرف وفق آلية السوق المالية للسلع، وفي هذا الطلب يتم الحصول على معلومات عن طالب المال من حيث إمكانياته المالية. . ويرفق بالطلب المستندات الثبوتية التي تساعد المصرف على تحديد قدرة الطالب على السداد.
والبيع يكون عن طريق بيع وحدات من المعدن زنتها كذا، وسعر كل وحدة كذا.
بعد شراء العميل هذه الوحدات من المعدن يقوم العميل بتوكيل المصرف في قبض المعدن وبيعه له في السوق الدولية وإيداع المبلغ في حسابه لدى المصرف مع تحمل المشتري لتقلبات الأسعار، وله الحق في تسلم سلعته في مكان تسليمها.
يتفق المصرف مع جهات أخرى لشراء تلك السلع (1) .
__________
(1) استقيت هذه المعلومات من إدارة أحد البنوك في القصيم، وبعض النشرات التعريفية من بعض المصارف.
(73/244)
بدراسة هذه العقود التي يتم بموجبها توفير النقد للأفراد والمؤسسات؛ وجد في بعضها أن البيع يتم على تملك السلعة المباعة على العميل بموجب ما يسمى بشهادة التخزين، والتي يشار فيها إلى أن السلعة موجودة في البلد الذي يوجد فيه عادة سوق البورصة الذي يتعامل معها البنك، ويذكر في العقد إجمالي السلع ولا يشار إلى مقدار الربح بل يدخل ضمن مبلغ البيع مع الإشارة إلى أن البيع تم وفق بيع المرابحة. أما بعض العقود فيشار في طلب الحصول على المال حسب صيغة التورق أنه عند الموافقة على طلبه فيتم تحديد مقدار الربح وتكلفة السلعة مع التزامه بتحديد دفعة أولى لضمان جدية الشراء، والتزامه أيضا بدفع رسوم إدارية لعملاء البنك؛ أي للمودعين. كما أن من ضمن الشروط في بعضها في حالة التأخر في سداد الأقساط؟ التزام المشتري بتعويض البنك عن الأضرار الناتجة عن التأخير، وفي بعضها يتم فرض غرامات عليه يتم احتسابها على أساس نسبة من المبالغ المستحقة مع مدة المطل، ويقوم البنك بصرفها في أوجه البر والخير.
(73/245)
المطلب الثالث: حكم بيع التورق غير المصرفي
تحرير محل النزاع:
إذا اشترى شخص السلعة لقصد التجارة، أو لقصد الانتفاع بها بالأكل والشرب واللبس ونحو ذلك فحائز بالاتفاق (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29 \ 30.
(73/245)
وإن اشترى السلعة لقصد الدراهم لحاجته إليها فموضع خلاف بين العلماء:
القول الأول: جواز هذا البيع.
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وبه قال الشيخ محمد بن إبراهيم (5) ، والشيخ عبد العزيز بن باز رحم الله الجميع (6) .
لكن عند الحنفية والمالكية: إن علم البائع الأول والمشتري الثاني بحاجة البائع الثاني إلى النقد كره ذلك.
الأدلة: استدل من قال بالجواز بما يلي:
1 - أن هذه المعاملة تدخل في عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (7) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (8) .
__________
(1) المبسوط 13 \ 127، وبدائع الصنائع 5 \ 199، 200، وحاشية ابن عابدين 5 \ 326.
(2) مواهب الجليل 4 \ 393، والشرح الكبير للدرداء 3 \ 89، وجواهر الإكليل 2 \ 33.
(3) روضة الطالبين 3 \ 416، وهم يرون جواز العينة فالتورق من باب أولى.
(4) الفروع 4 \ 171، وشرح المنتهى 2 \ 158، وكشاف القناع 3 \ 175.
(5) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 7 \ 61.
(6) مجلة البحوث الإسلامية 7 \ 53.
(7) سورة البقرة الآية 275
(8) سورة البقرة الآية 282
(73/246)
فالتورق نوع من البيع والمداينة الداخل في عموم الآيتين.
2 - أن الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على منعه، ولا يعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة (1) .
3 - أن التجار يقصدون من معاملاتهم التجارية الحصول على نقود كثر بنقود أقل، ويكون المبيع هو الواسطة بينهما، ولم يقل أحد إن التاجر إذا كان يقصد بتجارته الحصول على نقد أكثر إن هذه التجارة تكون مكروهة فكذلك التورق، فإن المقصود منه النقد، والمبيع هو الواسطة بينهما (2) .
ونوقش: بوجود الفرق بين التاجر والمتورق، فالتاجر يبيع ليربح، أما التورق فيبيع ليحصل على النقد ربح أم خسر (3) وأجيب: بأن الربح حصول على النقد أيضا.
وأيضا: المتورق لم يخسر، إذ الأجل له قسط من الثمن.
4 - أن الحاجة تدعو إلى مثل هذه المعاملة، فليس كل من احتاج إلى مال وجد من يقرضه (4) .
القول الثاني: الجواز بشروط وهي: أن يكون محتاجا
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية 7 \ 53.
(2) المصدر السابق.
(3) د \ سامي السويلم، التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتورق ص 24.
(4) مجلة البحوث الإسلامية 7 \ 53.
(73/247)
للدراهم، وألا يتمكن من الحصول على المال بطرق مباحة كالقرض، وألا يشمل العقد على ما يشبه صورة الربا كأن يقول بعتك إياها العشرة أحد عشر، وأن لا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها.
وبه قال الشيخ محمد العثيمين (1) .
وحجته:
أما الشروط الثلاثة الأولى فدليلها: قيام الحاجة لهذه المعاملة، والبعد عما يشبه صورة الربا (2) .
وأما الشرط الرابع: فحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (3) » قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام".
القول الثالث: تحريم بيع التورق.
وهو رواية عن الإمام أحمد (4) وبه قال عمر بن عبد العزيز (5) .
__________
(1) الشيخ، رسائل فقهية ص 107.
(2) المصدر السابق.
(3) أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض (2135) ، ومسلم في البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض (1525) .
(4) الإنصاف مع الشرح الكبير 11 \ 196.
(5) مجموع الفتاوى 30 \ 29.
(73/248)
واختاره شيخ الإسلام (1) ، وابن القيم (2) .
وحجته:
1 - ما روي عن علي رضي الله عنه قال: «سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال تعالى:، ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (4) »
ونوقش: بأنه حديث ضعيف.
2 - أن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج، وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصورة (5) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن المنع من أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل إنما هو لتحقق الربا كالعينة حيث كانت الحيلة إليه ظاهرة، أما إذا لم
__________
(1) مجموع الفتاوى 30 \ 29.
(2) تهذيب السنن 5 \ 108.
(3) أخرجه الإمام أحمد 1 \ 116، وأبو داود في البيوع، باب في بيع المضطر (3382) . قال ابن المنذر في مختصر سنن أبي داود 5 \ 48: ''في إسناده رحل مجهول''. وقال ابن مفلح في الفروع 4 \ 5: ''صاع لا يعرف تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضا''.
(4) سورة البقرة الآية 237 (3) {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29 \ 434.
(73/249)
ترجع السلعة إلى البائع كالتورق فالحيلة منتفية.
الثاني: أن الذي يبيع ماله لدين ركبه، أو مؤونة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس للضرورة لا يقال: إن بيعه حرام؛ لأن الرضا متحقق منه حينئذ (1) .
3 - قياس التورق على العينة بجامع أن المقصود من الموضعين الثمن، والسلعة هي الواسطة بينهما (2) .
ونوقش: بالفرق؛ لأن بيع العينة وسيلة إلى الربا؛ لأن مآله إلى بيع دراهم بدراهم أكثر منها، والسلعة واسطة بينهما، بخلاف التورق فالمشتري الثاني غير البائع، فليس وسيلة إلى الربا.
4 - أن المتورق لا يريد أن ينتفع بالسلعة، لا بالاستهلاك ولا بالاستثمار، وإنما هي ذريعة لتحصيل النقد. فإذا انتفت منفعة السلعة، بقيت الزيادة للأجل التي تحملها المتورق دون مقابل. ومن ثم انتفى الفرق بين البيع وبين الربا الذي أثبته القرآن، بل إن التورق يتضمن تكاليف البيع والشراء والقبض والحيازة، وهذه لا توجد في الربا. وهذا ما أدركه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين قال: "المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما
__________
(1) معالم السنن 5 \ 47.
(2) ينظر: تهذيب السنن 5 \ 108.
(73/250)
هو أعلى منه" (1) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن محصله قياس بيع التورق على بيع الربا، وهذا قياس مع الفارق، والفرق بين بيع الربا وبيع التورق وجود السلعة في بيع التورق وبيعها على غير بائعها، فانتفى كونه محض دراهم بدراهم، وأيضا المتورق قد يعدل عن بيع السلعة لسداد حاجته، وأما الكلفة والخسارة فمقابل الأجل.
5 - أن مقصد الشرع من ربط التمويل بالتبادل هو أن يكون التمويل تابعا للمبادلات الاقتصادية، أما التورق وسائر صور العينة فهي على النقيض من ذلك، تجعل المبادلات تابعة للتمويل، وهذا مع مناقضته لحكمة التشريع، فهو مناقض للمنطق الاقتصادي؛ لأن تكلفة التمويل لا يمكن الوفاء بها إلا من خلال النشاط الاقتصادي الفعلي، والمفترض أن هذا النشاط يتم من خلال المبادلات والمعاملات المشروعة، فإذا انعكس الوضع وصار النشاط الاقتصادي خادما للتمويل، انعكس الهدف من النشاط الاقتصادي أصلا، فبدلا من أن يكون سببا لتحقيق الرخاء، صار مسخرا لسداد تكاليف التمويل وخدمة الديون، فيصبح التمويل نزيفا في جسم الاقتصاد لمصلحة أصحاب المال، تماما كما هو الحال في النظام الربوي (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين 5 \ 86، 87، ط. دار ابن الجوزي (1423 هـ)
(2) د \ سامي السويلم، التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتورق ص 23
(73/251)
6 - أن التورق لا يختلف من حيث النتيجة عن الربا في حق المتورق، أي أن الربا والتورق متكافئان اقتصاديا.
فإن قيل: إنه ينشأ عن التورق مصالح مثل تداول السلع وتحريك السوق، فشراء السلعة ثم بيعها ينشط تبادلات السلعة، وهذا من شأنه أن يحقق مصالح عامة للمتعاملين.
أجيب: أن التداول الناتج عن التورق ليس هو التداول المحمود الذي ينتفع به المتعاملون ويحقق قيمة مضافة للاقتصاد؛ لأن التداول النافع هو الذي يجعل السلعة متاحة لأكثر الناس انتفاعا بها، وهذا يستلزم أن يكون التداول يراد به الانتفاع الحقيقي.
يوضح ذلك: أن التورق يؤدي لنشوء سوق مغلقة لتداول السلع محل التورق. فالمتورق يشتري السلعة ليبيعها لطرف ثالث؛ ليعود الأخير ويبيعها للبائع الأول، كما هو مشاهد وكما هو واقع التجربة العملية، وهذا يعني أن السلعة تدور ضمن دائرة ضيقة بين البائع وبعض التجار الذين يشتري منهم البائع الأول، وهذا من التداول الذي حذر منه القرآن في قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) فالسلعة يقتصر تداولها على المصرف والتاجر، ولا تجد طريقها إلى السوق الحقيقية، وثبت من الواقع أن بعض السلع تم بيعها أكثر من 40 مرة، في كل مرة يشتريها العميل ثم
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(73/252)
يبيعها للتاجر الذي يبيعها بدوره للبائع الأول، وهكذا (1) .
الترجيح: كل من القولين له قوة من حيث الدليل، لكن لما كانت حاجة الناس قائمة إلى المال مع عدم وجود طريق آخر غالبا كالقرض الحسن والسلم، يظهر جواز بيع التورق بشرط الحاجة وعدم تضمنه محاذير شرعية، والله أعلم.
__________
(1) ينظر: د \ سامي السويلم، التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتورق ص 27- 29
(73/253)
المطلب الرابع: الفرق بين التورق غير المصرفي، والتورق المصرفي
الفرق بينهما من وجوه:
الوجه الأول: ما يتعلق بالتعريف، وقد تقدم في المطلب الأول.
الوجه الثاني: في التورق المصرفي يتوسط البائع في بيع السلعة بنقد لمصلحة المتورق في حين أن البائع في التورق غير المصرفي لا علاقة له ببيع السلعة مطلقا، ولا علاقة له بالمشتري.
الوجه الثالث: استلام المتورق للنقد من البائع نفسه الذي صار مدينا له بالثمن الآجل في حين أن الثمن في التورق غير المصرفي يقبضه المتورق من المشتري النهائي دون تدخل من البائع.
الوجه الرابع: في التورق المصرفي قد يتفق البائع- المصرف- مع المشتري النهائي، وهذا لا يوجد في التورق غير المصرفي.
(73/253)
المبحث الأول: شرط صحة التورق المصرفي.
وفيه مطالب:
المطب الأول: الشرط الأول: أن يكون المصرف مالكا للسلعة من المعدن
لا يجوز للمصرف بيع المعدن إلا بعد تملكه إذ اشتراط كون البائع مالكا للسلعة المباعة من شروط صحة البيع باتفاق الفقهاء.
والدليل على هذا الشرط:
1 - ما رواه حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله: يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي أفأبتاعه له من السوق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك (1) »
2 - ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 3 \ 402، وأبو داود في البيوع، باب في بيع الرحل ما ليس عنده (3503) ، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك (1232) ، والنسائي 7 \ 289، وابن ماجه في التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك (2187)
(73/254)
ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (1) » .
فإن لم يكن المصرف مالكا للسلعة، وطلب منه العميل شراء السلعة فتحت ذلك أمران:
الأمر الأول: أن يشتري المصرف السلعة للعميل وذلك بأن يطلب العميل من المصرف كذا وكذا من المعدن فيقوم المصرف بشراء المعدن للعميل ويسدد المصرف للبائع، والعميل يسد للمصرف الثمن منجما.
فهذه الصورة محرمة؛ لأن حقيقتها قرض بفائدة، فهي من ربا النسيئة المجمع على تحريمه (2) .
الأمر الثاني: أن يشتري المصرف السلعة لنفسه- أي المصرف- بناء على طلب العميل، وذلك بأن يطلب العميل من المصرف شراء كذا وكذا من معدن الحديد مثلا، فيقوم المصرف بتوفيرها، ثم بيعها على العميل بثمن مؤجل يربح فيه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2 \ 179، وأبو داود في البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3503) ، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك (1232) ، والنسائي 7 \ 288. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 6
(73/255)
وقد سماها بعض المتأخرين (1) باسم: " بيع المرابحة للآمر بالشراء ".
وسماها الشيخ بكر أبو زيد بـ "بيع المواعدة" لأن الوعد أساس في صورها كافة (2) .
ولهذه المسألة صور:
الصورة الأولى: أن يكون بين المصرف والعميل مواعدة ملزمة (3) :
مثال ذلك: أن يلتزم العميل للمصرف أن يشتري منه سلعة كذا من المعدن بعد شراء المصرف لها.
فاختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز اشتراط كون المواعدة بالمعاوضة ملزمة للطرفين.
وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي (4) ، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية (5) ، وكثير من
__________
(1) ينظر: رفيق المصري، بيع المرابحة (مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5 \ 1137)
(2) الشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5 \ 970)
(3) وهذه جعلها بعض المتأخرين من المسائل المستجدة. (ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5 \ 1103)
(4) مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5 \ 1599
(5) مجلة البحوث الإسلامية 7 \ 114
(73/256)
المتأخرين.
وحجته:
1 - عموم الأحاديث التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده (1) .
وجه الدلالة: أن حقيقة هذه الصورة عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف بربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكا حقيقا (2) ، إذ الإلزام أبرز خصائص العقد، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني.
ونوقش: بأن اعتبار الوعد بالبيع بيع غير مسلم بدليل: أنه يمكن تعديل الثمن أو شروط السداد في عقد البيع بعد ورود البضاعة والوقوف على تكلفتها (3) ، ولأن الضمان قبل إجراء العقد على المصرف دون العميل.
وأجيب: بأن ما ذكر من دليل غير مؤثر إذ الإلزام من أبرز خصائص العقود.
__________
(1) تقدم تخريجها ص 56
(2) الشيخ بكر أبو زيد، المرابحة للآمر بالشراء (مجلة المجمع) 5 \ 984
(3) د \ محمد عبد الحليم عمر، التفاصيل العلمية لعقد المرابحة (مجلة المجمع) 5 \ 1312
(73/257)
2 - عموم الأدلة التي نهت عن بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه كحديث ابن عمر رضي الله عنهما رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (1) »
3 - أن حقيقة هذا العقد بيع نقد بأكثر منه إلى أجل بينهما سلعة محللة، فغايته قرض بفائدة.
4 - أن البيوع المنهي عنها ترجع إلى أمور ثلاثة: الربا، والغرر، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا منها (2) .
القول الثاني: جواز اشتراط كون المواعدة ملزمة للطرفين.
وهو قول بعض المتأخرين، وإليه ذهب مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد بدبي، ومؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت (3) .
وحجته:
1 - حديث عبادة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار (4) »
__________
(1) رواه البخاري في البيع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض (2136) ، ومسلم في البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1526)
(2) الشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5 \ 986، 987)
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5 \ 1061، 1062
(4) حديث عبادة أخرجه الإمام أحمد 5 \ 327، وابن ماجه في الأحكام، باب من بنى بحقه ما يضر بجاره (2340) ، وحديث أبي سعيد أخرجه الدارقطني 3 \ 77، والحاكم 2 \ 57، وصححه ووافقه الذهبي. والحديث له شواهد عن عائشة وأبي هريرة وجابر وابن عباس رضي الله عنهم، قال النووي في الأربعين النووية: ''له طرق يقوي بعضها بعضا'' (جامع العلوم والحكم 2 \ 207) ، وقال ابن الصلاح كما في جامع العلوم والحكم 2 \ 211: ''هذا حديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به''
(73/258)
وجه الدلالة: أن في الإلزام بالمواعدة منعا من الإضرار بالمصرف والعميل، فقد يأتي المصرف بالسلعة على الوصف المشترط ثم يبدو للعميل عدم أخذها، وقد يكون الحال على النقيض بأن يستغل المصرف حاجة العميل للسلعة مما يسبب في إيقاع الضرر له (1) ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أنه اجتهاد في مقابلة عموم النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع السلعة قبل قبضها.
الثاني: أن رفع الضرر يمكن بطرق أخرى مشروعة كشرط الخيار مثلا فلا يتعين الإلزام بالمواعدة طريقا لرفع الضرر لما يترتب عليه من محذور شرعي (2) .
2 - قياس الإلزام بالوعد بالمعاوضة على الإلزام بالوعد بالمعروف والقضاء به كما هو عند المالكية (3) .
__________
(1) سامي محمود، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5 \ 1104)
(2) ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (2، 3) ، مجلة المجمع 5 \ 1599
(3) ينظر: مجلة المجمع 5 \ 855، 942
(73/259)
ونوقش بالفرق: فعقود المعاوضات يقصد منها الكسب والتجارة بخلاف عقود التبرعات فيقصد منها الإرفاق والإحسان، ولهذا اغتفر في عقود التبرعات الجهالة وعدم القدرة على التسليم ونحو ذلك. وأيضا: الوعد بالمعروف صادر من جهة الواعد، بخلاف المواعدة في المعاوضات فهي صادرة من طرفين فهي بمنزلة العقد، ولا يعقد الإنسان على شيء غير مملوك له.
2 - أن الحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة كما دعت إلى السلم والاستصناع، واغتفر ما يعتريهما من غرر تقديرا للحاجة، والحاجة هنا اتساع رقعة التعامل وتضخم رؤوس الأموال (1) ونوقش: مما نوقش به الدليل الأول من كونه اجتهادا في مقابلة النص.
فالمصلحة المترتبة على الإلزام بالمواعدة في عقد المعاوضة مصلحة ملغاة شرعا كالمصلحة الحاصلة من بيع الإنسان ما ليس عنده.
الترجيح:
يترجح والله أعلم ما ذهب إليه أهل القول الأول؟ لقوة دليلهم، وضعف دليل القول الآخر بمناقشته.
الصورة الثانية: أن يكون بين المصرف والعميل مواعدة غير
__________
(1) الشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5 \ 989)
(73/260)
ملزمة مع ذكر مقدار للربح:
مثال ذلك: أن يقول العميل للمصرف: اشتر لي معدن كذا بمائة وأشتريه منك بمائة وعشرين مؤجلة.
للعلماء في ذلك رأيان:
القول الأول: أن هذه المعاملة محرمة.
وهو مذهب المالكية (1) ، وبه قال من المتأخرين الشيخ محمد بن صالح العثيمين (2) .
وحجة هذا القول:
1 - أن في هذا تحايلا على الربا، فالمصرف يشتري السلعة ليبيعها بأكثر إلى العميل، وليس له قصد في اشترائها ابتداء (3) "كأنه سلفه عشرة ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشرا" (4) .
ونوقش هذا الدليل: بأن المصرف يشتري حقيقة وليس من شرط الشراء الاستهلاك أو الاقتناء، بل من مقاصده الربح كما هو عمل التجارة.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 \ 88، والشرح الصغير 2 \ 44
(2) الشرح الممتع 8 \ 224
(3) ينظر: المصدر السابق
(4) الشرح الصغير 2 \ 44
(73/261)
وأجيب عنه: بأن هذا مسلم، وأن المصرف يشتري حقيقة، لكن لما كان مصيره دراهم بدراهم منع.
2 - أن كثيرا من المتعاملين بهذا البيع لا ينوون التحايل على الربا، بل يقصدون البعد عن الربا.
وأجيب: أن حسن القصد لا يكفي إذا ترتب عليه محذور شرعي.
القول الثاني: الجواز.
وبه قال جمهور أهل العلم من الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، وإليه ذهب مجمع الفقه الإسلامي (3) ، والشيخ عبد العزيز بن باز (4) رحمه الله.
وحجته:
1 - قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) .
وجه الدلالة: أن هذه المعاملة داخلة في عموم ما أحل الله من البيع.
2 - أن الأصل في المعاملات الحل، إلا ما قام الدليل على تحريمه (6) .
__________
(1) المخارج في الحيل ص 37
(2) الأم 3 \ 33
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5 \ 1599
(4) مجلة البحوث الإسلامية 7 \ 53
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) ينظر: مجلة البحوث الإسلامية 7 \ 53
(73/262)
ونوقش هذان الدليلان: باستثناء هذه المعاملة من هذا الأصل، وهذا العموم بقيام الدليل على منعها.
3 - أنه ليس في هذه الصورة التزام بالوعد بالعقد، أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة فلا ضمان على العميل، فالمصرف يخاطر بشراء السلعة لنفسه، وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام، ولا يترتب عليه أي أثر، فهذه الدرجة من المخاطرة هي التي جعلتها في حيز الجواز (1) .
ونوقش: أن ملخص هذا الدليل أن المصرف يشتري شراء حقيقيا، وتقدم مناقشة هذا الدليل.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- هو القول الأول؛ لقوة دليله، ومناقشة دليل القول الآخر، ولما في ذلك من البعد عن الشبهات.
الصورة الثالثة: أن يكون بين المصرف والعميل مواعدة غير ملزمة مع عدم ذكر مقدار للربح.
مثال: أن يقول العميل للمصرف اشتر معدن كذا بكذا، وسأربحك فيها.
__________
(1) محمد الأشقر، بيع المرابحة ص 47، والشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5 \ 983) .
(73/263)
للعلماء في هذه الصورة قولان:
القول الأول: الجواز.
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، ونص المالكية على الكراهة.
وهو قول أكثر المتأخرين كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (1) .
وحجته:
1 - ما تقدم من أدلة جواز الصورة السابقة، وقد تقدم مناقشتها.
2 - أن محذور القرض بفائدة الذي ذكره المالكية غير موجود هنا؛ لعدم التنصيص على قدر الربح.
وأجيب: أن محذور القرض بفائدة موجود حتى مع عدم التنصيص على قدر الربح.
القول الثاني: تحريم هذه المعاملة.
وهو قول الشيخ محمد العثيمين رحمه الله (2) .
وحجته: أن في هذا تحيلا على الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنه أقرضه من السلعة الحاضرة بزيادة؛ لأنه لولا طلب العميل لم يشتر
__________
(1) المصادر السابقة برقم (80، 81) ، والمقدمات الممهدات 2 \ 56، وحاشية الدسوقي 3 \ 88
(2) الشرح الممتع 8 \ 224.
(73/264)
المصرف السلعة (1) .
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- القول بتحريم هذه الصورة لما استدلوا به، ودفعا للشبهات.
وقد ذكر المجد ضمن أبواب الربا باب ما جاء في الشبهات (2) .
ثم أورد حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. . . . (3) » .
وقد تقدم قوة دليل من حرم بيع التورق، فإذا انضاف إلى ذلك ما احتج به من منع هذه الصورة من صور المرابحة توجه المنع.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المنتقى مع نيل الأوطار 5 \ 208.
(3) أخرجه البخاري في البيوع، باب الحلال بين والحرام بين (2051) ، ومسلم المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) .
(73/265)
المطلب الثاني: الشرط الثاني: ألا يبيع المشتري السلعة- المعدن- إلا بعد قبضه
وفيه أمور:
الأمر الأول: اشتراط القبض لصحة البيع.
(73/265)
اختلف العلماء رحمهم الله في صحة بيع المشتري قبل قبض السلعة على أقوال:
القول الأول: أنه لا يصح بيع المبيع إلا بعد قبضه.
وهذا مذهب الحنفية (1) ، ومذهب الشافعية (2) ، ورواية عند الحنابلة (3) لكن استثنى الحنفية العقار، فيصح بيعه قبل قبضه.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - حديث جابر - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (4) » .
وفي رواية: «إذا بعتم طعاما فلا تبيعوه حتى تقبضوه (5) » .
2 - حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه- قال: «قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (6) » .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 \ 180، 181.
(2) الأم 3 \ 69، والمجموع 9 \ 319، 326.
(3) الإنصاف مع الشرح الكبير 11 \ 463.
(4) رواه مسلم في البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض رقم (1529) .
(5) رواه أحمد 3 \ 327.
(6) أخرجه عبد الرزاق 8 \ 39 رقم (14214) ، وأحمد 3 \ 402، وابن حبان رقم (4983) ، والبيهقي في السنن 5 \ 313، والحديث صححه ابن حبان وقال عنه البيهقي: هذا إسناد حسن متصل.
(73/266)
3 - حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: «ابتعت زيتا من السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » .
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث:
أن هذه الأحاديث دلت على منع بيع السلع قبل قبضها، والنهي يقتضي الفساد (2) .
4 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (3) » .
__________
(1) أخرجه أحمد 5 \ 191، وأبو داود في البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى، رقم (3499) ، وابن حبان رقم (4984) وصححه.
(2) بدائع الصنائع 5 \ 180.
(3) أخرجه أحمد 2 \ 179، وأبو داود في البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده رقم (3504) ، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عند الإنسان رقم (1234) ، وقال: ''هذا حديث حسن صحيح''، والنسائي في البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع رقم (4316) ، وابن ماجه في التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن رقم (2188) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(73/267)
وجه الاستدلال:
أن المبيع قبل قبضه من ضمان البائع، فإذا باع المشتري السلعة قبل قبضها فقد ربح في شيء ليس من ضمانه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ونوقش:
بأن الاستدلال بهذا الحديث إنما يصح، لو كان الضمان لا ينتقل إلى المشتري إلا بمجرد القبض. أما وأن الضمان ينتقل إلى المشتري بمجرد العقد فلا يصح الاستدلال به؛ لأنه باع وربح فيما هو من ضمانه (1) .
5 - قول ابن عباس - رضي الله عنهما-: "ولا أحسب كل شيء إلا مثله" يعني أن غير الطعام ينبغي أن يقاس على الطعام الثابت فيه النهي عن بيعه قبل قبضه بالسنة، وهذا من تفقه ابن عباس، وابن عباس هو راوي الحديث فهو حينئذ أعرف بمرماه (2) .
6 - أن علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، سواء كانت الربا أو الغرر موجودة في بيع غير الطعام قبل قبضه، فوجب أن يسوى بينهما في الحكم (3) .
__________
(1) الفروق 3 \ 233.
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس 1 \ 473.
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس، الجزء الأول ص (473) .
(73/268)
وأما دليل جواز بيع العقار قبل قبضه:
فلأن المعنى الذي كان من أجله النهي عن بيع المبيع قبل قبضه هو: الغرر الناشئ من احتمال انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه قبل قبضه، مما يعود بالانفساخ على العقد الثاني وذلك مورث للغرر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (1) .
وهذا المعنى غير موجود في العقار؛ لأنه لا يتصور هلاكه غالبا (2) .
ونوقش:
بأنه لو سلم انحصار المعنى الذي كان لأجله النهي بغرر الانفساخ، فلا يسلم انحصار ما لا يخشى هلاكه بالعقار؛ إذ قد يوجد من المنقولات ما لا يتصور فيه الهلاك، كالحديد الكثير، وقد يوجد من العقار ما يمكن أن يتصور فيه الهلاك، فصار تقييده بالعقار غرر مطرد ولا منعكس فلا يصح تعليق الحكم به لما ذكر (3) .
القول الثاني: أنه يصح بيع المعدن قبل قبضه؛ إذ لا يشترط قبض المبيع لصحة بيعه إلا في الطعام المكيل أو الموزون.
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1153) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) بدائع الصنائع 5 \ 180، 181.
(3) المجموع 4 \ 328.
(73/269)
وهذا مذهب المالكية (1) ، ورواية عند الحنابلة (2) .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وقد تقدم شيء منها.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث:
أن الأحاديث الواردة بالنهي عن التصرف في المبيع قبل قبضه، جاءت بالتنصيص على الطعام دون سواه، وهذا يدل بمفهومه: أن ما عدا الطعام بخلافه في الحكم (3) .
ونوقش بما يلي:
1 - أن هذا المفهوم معارض بما هو أقوى منه في الدلالة وهو مفهوم الموافقة المأخوذ من هذه الأحاديث ووجه ذلك:
أنه إذا نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع كثرة الحاجة إليه، فغير الطعام مما هو أقل حاجة منه أولى بالمنع منه وأحرى (4) .
2 - أن هذا المفهوم معارض بمنطوق الأحاديث التي عمت بالنهي جميع السلع، كحديث حكيم بن حزام، وحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنهما- (5) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 \ 246، الكافي في فقه أهل المدينة ص 319.
(2) الإنصاف مع الشرح الكبير 11 \ 493.
(3) ينظر: المغني 6 \ 190.
(4) المجموع 9 \ 271، تهذيب السنن 5 \ 133.
(5) المجموع 9 \ 271، وسبق تخريج الحديثين.
(73/270)
3 - أن تخصيص الطعام بالذكر لا يدل على أن غيره بخلافه؛ لأن التنصيص على الطعام خرج مخرج الغالب، إذ الطعام أكثر ما يتعامل به الناس في ذلك الزمن، ومما يلغي دلالة المفهوم أن يخرج اللفظ مخرج الغالب (1) .
القول الثالث: أنه لا يشترط القبض في المبيع لصحة البيع، إلا في المكيل، والموزون، والمعدود، والمذروع، سواء كان مطعوما أو غير مطعوم.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة (2) إذ لا يشترط القبض عندهم لصحة بيع المبيع إلا في المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع إذا بيع بتقدير.
واستدلوا على ذلك:
أولا: دليلهم على أن المعدن إذا بيع بتقدير لا يصح بيعه إلا بعد قبضه.
1 - عموم الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه (3) .
وجه الدلالة: أن قبض الطعام إنما يتحقق بكيله أو وزنه، فدل
__________
(1) تهذيب السنن 5 \ 133.
(2) المغني 6 \ 188، كشاف القناع 3 \ 241.
(3) سبق تخريجه.
(73/271)
على أن كل ما كان قبضه بكيله أو وزنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.
2 - اتفاق أهل العلم على أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري، إلا بالكيل أو الوزن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن (1) (2) .
ثانيا: دليلهم على أن ما بيع بغير تقدير لا يشترط القبض لصحة بيعه ما تقدم من دليل القول الثاني.
وقد سبقت مناقشته.
الترجيح:
الذي يظهر لي رجحانه- والعلم عند الله- هو ما ذهب إليه من اشترط القبض لصحة البيع في كل مبيع؛ لقوة دليله.
ولأن العلة التي علل فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه موجودة في غير الطعام.
الأمر الثاني: توكيل البائع بالقبض. المعدن الذي يبيعه المصرف للعميل يكون غائبا عن البلد، فيوكل المشتري المصرف في قبض المعدن.
اختلف العلماء في توكيل المشتري البائع في قبض المبيع على قولين:
القول الأول: أنه يصح توكيل المشتري البائع في قبض المبيع.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) بداية المجتهد 3 \ 279.
(73/272)
وهو ظاهر قول المالكية (1) ، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (2) .
جاء في حاشية الدسوقي: ". . . إلا أن يكون القابض من نفسه ممن يتولى طرفي العقد كوصي ليتيميه ووالد لولديه الصغيرين، وسيد لعبديه، فيجوز بيع طعام أحدهما للآخر، ثم بيعه عليه لأجنبي قبل قبضه لمن اشتراه له فتأمله. . . " (3) .
وفي المبدع: ". . . فلو اشترى منه مكيلا بعينه، ودفع إليه الوعاء، وقال: كله فإنه يصير مقبوضا. . . " (4) .
وفي الإنصاف: " الثانية: الصحيح من المذهب: صحة استنابة من عليه الحق للمستحق في القبض، قال في التلخيص صح في أظهر الوجهين، وقدمه في الفروع " (5) .
وحجته:
1 - قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (6) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 \ 152.
(2) المغني 6 \ 453، والمبدع 4 \ 121، وكشاف القناع 3 \ 246.
(3) حاشية الدسوقي 3 \ 152.
(4) المبدع 4 \ 121.
(5) 4 \ 469، وينظر: الفروع 4 \ 140.
(6) سورة الكهف الآية 19
(73/273)
2 - ما رواه عروة بن الجعد رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه (1) » وجه الدلالة من الآية والحديث: أنهما دلا على جواز الوكالة في البيع والشراء، ويلحق بذلك توكيل البائع في قبض المبيع.
3 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا أعطوه سنا مثل سنه (2) » .
وجه الدلالة: دل على جواز الوكالة في إيفاء الحق، فكذا في استيفائه ولو من جهة البائع للمشتري.
4 - أن الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل المنع.
القول الثاني: أنه لا يصح توكيل البائع في القبض.
وهو مذهب الحنفية، والشافعية (3) ، ووجه عند الحنابلة (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى (3642) .
(2) أخرجه البخاري في الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون (2306) ، ومسلم في المساقاة، باب جواز اقتراض الحيوان.. (1601) .
(3) الأم 3 \ 71، وفتح العزيز 8 \ 447، وروضة الطالبين 3 \ 177.
(4) الإنصاف 4 \ 469.
(73/274)
جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: " يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها. . . مثال ذلك: لو وكل المشتري البائع في قبض المبيع فالوكالة لا تصح، أما لو أعطى المشتري البائع كيسا ليضع فيه المبيع اعتبر ذلك قبضا من المشتري " (1) .
وقال الشافعي: "ومن ابتاع من رجل طعاما فكتب إليه المشتري أن يقبضه له من نفسه، فلا يكون الرجل قابضا له من نفسه، وهو ضامن عليه حتى يقبضه المبتاع أو وكيل المبتاع غير البائع، وسواء أشهد على ذلك أو لم يشهد" (2) .
وفي المجموع: فرع: قال أصحابنا للمشتري أن يوكل في القبض، وللبائع أن يوكل في الإقباض ويشترط لذلك أمران: أحدهما: ألا يوكل المشتري من يده يد البائع كعبده ومستولدته. الثاني: ألا يكون القابض والمقبوض منه واحدا، فلا يجوز أن يوكل البائع رجلا في الإقباض ويوكله المشتري في القبض. . . (3)
وحجته:
1 - حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع
__________
(1) 1 \ 55، 56.
(2) الأم 3 \ 71.
(3) المجموع شرح المهذب 9 \ 338، 339.
(73/275)
البائع وصاع المشتري (1) » .
وجه الدلالة: دل قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى يجري فيه الصاعان. . .» أنه لا يكفي قبض البائع نيابة، بل لا بد من جريان صاع المشتري حقيقة.
ونوقش هذا من وجوه:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يحتج به.
الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم:. . . «صاع المشتري» عام يشمل صاع المشتري أصالة ونيابة.
الثالث: أنه مبني على الأغلب، وأن الغالب أن المشتري يقبض لنفسه، وما كان قيدا أغلبيا لا مفهوم له.
2 - حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل (2) » .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشتري بالقبض.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب النهي عن بيع الطعام ما لم يقبض (2228) ، والبيهقي 5 \ 89. قال في الزوائد: ''في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عبد الرحمن الأنصاري، وهو ضعيف''.
(2) أخرجه البخاري معلقا بصيغة التمريض في البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي قبل حديث (3126) .
(73/276)
ونوقش: بأنه مسلم، لكن لا دلالة فيه على منع البائع من القبض، نيابة عن المشتري.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل مناقشة دليل القول الثاني.
الأمر الثالث: توكيل البائع في البيع تقدم في المسألة السابقة خلاف أهل العلم في توكيل البائع في قبض المبيع، وأنهم اختلفوا في ذلك على قولين.
فإذا تم قبض المشتري للمبيع بنفسه أصالة، أو بالبائع نيابة جاز له أن يوكل البائع في بيعه.
وهو قول الحنفية، جاء في حاشية ابن عابدين: " ولو اشترى ثوبا أو حنطة فقال للبائع: بعه قال الإمام الفضلي: إن كان قبل القبض والرؤية كان فسخا، فما لم يقبل البائع لا يكون فسخا، وكذا لو بعد القبض والرؤية، لكن يكون وكيلا بالبيع سواء قال: بعه أو بعه لي " (1) .
وهو قول المالكية والحنابلة؛ لأنهم يرون صحة توكيل البائع في القبض، فالبيع من باب أولى.
وهو قول الشافعية؛ لأن الشافعية لم يصححوا توكيل البائع في القبض فقط، وأما البيع فيصح توكيل البائع فيه.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 7 \ 72 ط: دار إحياء التراث العربي.
(73/277)
والدليل على هذا: عموم أدلة صحة الوكالة المتقدمة.
الأمر الرابع: قبض المعدن
بيع المعدن لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يباع جزافا بلا تقدير كأن يبيع المصرف صبرة من الحديد بسعر كذا وبهذا.
الثاني: أن يباع بتقدير؛ كأن يبيع المصرف العميل مائة طن من الحديد، كل طن بكذا وكذا.
وبيع المصارف من هذا القسم.
فاختلف العلماء رحمهم الله في قبض ذلك على أقوال:
القول الأول: أن قبض المعدن مطلقا يتحقق بالتخلية بينه وبين المشتري على وجه يتمكن معه من الانتفاع فيه والتصرف في المبيع. وهذا القول هو مذهب الحنفية (1) ، وقول للشافعية (2) ، ورواية عن الإمام أحمد (3) .
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
1 - حديث ابن عمر - رضي الله عنه- قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب
__________
(1) بدائع الصنائع 5 \ 244.
(2) المجموع 9 \ 276، روضة الطالبين 3 \ 515.
(3) المغني 6 \ 186، 187.
(73/278)
لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله، فاشتراه ثم قال: هو لك يا عبد الله، فاصنع به ما شئت (1) » .
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في المبيع دون سوق أو تحويل للحمل، فلو كان النقل والتحويل شرطا لأخذه النبي صلى الله عليه وسلم أولا، ثم وهبه بعد ذلك، فدل ذلك على أن تحقق القبض يحصل بمجرد التخلية (2) والمعدن يلحق بالجمل؛ إذ كل منهما منقول.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث يحتمل غير ما ذكر في وجه الاستدلال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. ومما يحتمله الحديث:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الجمل مما يتحقق به القبض، ولكن ذلك لم ينقل، وعدم النقل ليس نقلا للعدم (3) .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الهبة، باب من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق به، رقم (2610) .
(2) فتح الباري 4 \ 351.
(3) المرجع السابق.
(73/279)
2 - أن ابن عمر - رضي الله عنه- كان وكيلا في القبض للنبي صلى الله عليه وسلم مما يغني عن مباشرته صلى الله عليه وسلم للقبض.
وأجيب عن ذلك:
بأن ما ذكره مجرد احتمال بعيد، لا ينبغي أن يلغي ظاهر دلالة الحديث، والعبرة إنما هي بالاحتمال الناشئ عن دليل.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعقد على الجمل عقد معاوضة، وإنما عقد عليه عقد تبرع، وفرق بين عقد المعاوضة وعقد التبرع؛ إذ يتوسع في عقود التبرعات ما لا يتوسع في عقود المعاوضات؛ ولهذا جاز هبة المجهول والمعدوم وغير المقدور عليه ونحو ذلك (1) .
2 - حديث عائشة - رضي الله عنها- في قصة الهجرة وفيه: «أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه- قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: قد أخذتها بالثمن. . . (2) » .
وجه الاستدلال:
أن قوله صلى الله عليه وسلم: «قد أخذتها بالثمن» لم
__________
(1) الاختيارات ص264 ط. دار العاصمة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض، رقم (2138) .
(73/280)
يكن أخذا باليد، وإنما كان التزاما منه لابتياعها وإخراجها عن ملك أبي بكر - رضي الله عنه- إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يسقها بل أبقاها عند أبي بكر (1) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن القصة ما سيقت لبيان ذلك، فلذلك اختصر فيها قدر الثمن وصفة العقد، وصفة القبض؛ لأن الراوي ليس من غرضه بيان ذلك، وحينئذ لا يكون فيه حجة في عدم اشتراط القبض (2) .
الثاني: أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أخذتها بالثمن (3) » إتمام عقد الشراء دون ما يتعلق بالقبض.
3 - أن التسليم في اللغة عبارة عن جعل الشيء سالما خالصا، كما قال تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} (4) أي سالما لا يشاركه فيه أحد. فتسليم المبيع إلى المشتري هو جعله سالما له، أي: خالصا لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية (5) .
4 - أن من وجب عليه التسليم لا بد أن يكون له سبيل إلى تحقيق ما وجب عليه، والذي في وسعه هو التخلية ورفع الموانع، أما
__________
(1) ينظر: فتح الباري 4 \ 351.
(2) المصدر السابق.
(3) صحيح البخاري البيوع (2138) ، مسند أحمد بن حنبل (6/212) .
(4) سورة الزمر الآية 29
(5) بدائع الصنائع 5 \ 244.
(73/281)
الإقباض فليس في وسعه؛ لأن القبض بالبراجم فعل اختياري للقابض. فلو تعلق وجوب التسليم به لتعذر الوفاء بالواجب، وهو لا يجوز (1) .
القول الثاني: أن قبض المعدن إن بيع بغير تقدير فقبضه بنقله وتحويله، وإن بيع بتقدير فقبضه بتقديره، عند جمهور العلماء: من المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وحجتهم على ذلك:
أولا: الدليل على أن ما بيع بغير تقدير: أن قبضه بنقله وتحويله:
1 - حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (5) » .
وجه الاستدلال:
أن الحديث قد بين أن النقل والتحويل هو الطريق الذي يتم بها قبض ما بيع بطريق الجزاف، ويقاس على الطعام غيره من
__________
(1) ينظر: بدائع الصنائع 35 \ 244.
(2) حاشية الدسوقي 3 \ 145.
(3) المجموع 9 \ 277.
(4) المغني 6 \ 187.
(5) أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1527) .
(73/282)
المنقولات (1) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن ما ذكر في الحديث من النقل والإيواء لا يعدو أن يكون صورة من صور القبض- التي تعتبر التخلية أحدها- وليس فيه دلالة على حصر القبض في ذلك، وإنما ذكر النقل والإيواء؛ لأنه هو الغالب في قبض هذه الأشياء في زمانهم (2) .
الوجه الثاني: أن الحديث إنما يدل على النهي عن التصرف في المبيع بالبيع قبل قبضه، وليس فيه بيان ما يتحقق به القبض (3) .
2 - أن العرف جار على أن قبض مثل هذه الأشياء يكون بنقلها وتحويلها؛ لأن أهل العرف لا يعدون حيازتها من غير تحويل، وقد سبق أن المرجع في تحديد القبض هو: العرف، والعرف ما ذكر (4) ونوقش: بأن العرف يختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد يكون القبض في عرف قوم مجرد التخلية مع الوثيقة، ونحو ذلك.
ثانيا: الدليل على أن ما بيع بتقدير يكون بتقديره:
1 - حديث ابن عباس - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله
__________
(1) المغني 6 \ 187.
(2) ينظر: فتح الباري 4 \ 350، ود \ سعود الثبيتي ص 40.
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس 1 \ 569.
(4) ينظر: المجموع 9 \ 282، المغني 6 \ 188.
(73/283)
عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (1) » .
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكيل فيما يقدر بالكيل، فدل على أن قبض المكيل إنما يتحقق بالكيل، ويقاس على المكيل غيره من المقدرات (2) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الأمر بالكيل لا يدل على تقييد قبض الطعام المكيل بالكيل، بل المراد بالاكتيال: القبض والاستيفاء، كما في بعض الروايات (3) ، ولكن لما كان الغالب في الطعام الكيل صرح به، وإذا لم يفسر الحديث بهذا فإن ظاهره يدل على وجوب الكيل في كل بيع وهذا لم يقل به أحد؛ لجواز البيع جزافا، وبالعد، والوزن (4) .
الوجه الثاني: أن المراد من الحديث ألا يشتري ولا يبيع مجهولا، فإذا اشترى طعاما وأراد بيعه بتقدير فلا بد من معرفة قدره.
الترجيح:
مما تقدم عرضه يترجح- والله أعلم- أن قبض المنقولات
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب بطلان المبيع قبل قبضه رقم (1525) .
(2) المغني 6 \ 187.
(3) سبق تخريجه.
(4) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس 1 \ 567.
(73/284)
راجع إلى عرف الناس في الزمن المعين، فإذا تعارفوا على أن القبض يتحقق بالتخلية فإنه يتم بها، وإن كان في عرفهم أنه لا يتحقق إلا بالحيازة والنقل لم يتم إلا بذلك.
أما تحديد ما هو العرف فإنه يختلف باختلاف السلع.
وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- حيث قال: القبض يرجع في تحديده إلى عرف الناس، فما عده الناس قبضا فهو قبض، وما لم يعده قبضا فليس كذلك (1) .
وهو مما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي. حيث حاء في قرار المجمع ما نصه ". . . وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضا لها" (2) .
وأيضا: فإن المعدن المباع بكميات كبيرة يلحق بالعقار الذي يكون قبضه بالتخلية (3) .
فرع: اشترط الحنفية رحمهم الله الذين قالوا بالاكتفاء بالتخلية للتخلية شروطا:
الشرط الأول: الإذن بالقبض:
جاء في فتاوى قاضي خان: " قال أبو حنيفة رحمه الله
__________
(1) ينظر: مجموع الفتاوى 29 \ 16، 30 \ 275.
(2) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد (6) 1 \ 771.
(3) ينظر: المغني 6 \ 187.
(73/285)
تعالى: التخلية بين البائع والمشتري تكون قبضا بشرائط ثلاثة: أحدها: أن يقول البائع: خليت بينك وبين المبيع فاقبضه، ويقول المشتري: قد قبضت " (1) .
وقال ابن عابدين: "الظاهر أن المراد به الإذن بالقبض لا خصوص لفظ التخلية" (2) .
الشرط الثاني: أن يكون المبيع بحضرة المشتري بحيث يصل إلى أخذه بلا مانع. وهذا هو القول الأول.
وهو ظاهر الرواية عند الحنفية (3) .
وعلته: أنه إذا كان قريبا فإن القبض الحقيقي في الحال يتصور فيه، فتقوم التخلية مقام القبض (4) .
القول الثاني: أنه تصح التخلية ولو كان المبيع بعيدا.
وبه قال أبو حنيفة (5) .
ويمكن أن يحتج له: بعمومات الأدلة الدالة على أن التخلية قبض، وهذه تشمل القريب والبعيد.
الشرط الثالث: أن يكون المبيع مفرزا غير مشغول بحق الغير،
__________
(1) فتاوى قاضي خان 2 \ 258.
(2) حاشية ابن عابدين 7 \ 73، ط. دار إحياء التراث العربي.
(3) المصادر السابقة.
(4) حاشية ابن عابدين 7 \ 73.
(5) المصادر السابقة.
(73/286)
فإن كان شاغلا حق الغير كالحنطة في جوالق البائع وما أشبه ذلك، فذلك لا يمنع التخلية (1) .
فرع ثان:
تقدم أن جمهور أهل العلم يرون أن ما بيع بتقدير أن قبضه بتقديره من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، لكن اختلف العلماء رحمهم الله، هل يكتفى بتقديره السابق أو لا بد من تقدير المشتري له على قولين:
القول الأول: أن يكتفى بالتقدير السابق ولا حاجة إلى إعادة التقدير.
وهذا المذهب عند الحنابلة.
ففي الشرح الكبير: " وإن قال: أنا أقبضه لنفسي وخذه بالكيل الذي تشاهده جاز في إحدى الروايتين ".
وفي الإنصاف: "وهو المذهب" (2) .
وفي المقنع: " وإن اكتاله وتركه في المكيال وسلمه إلى غريمه فقبضه صح القبض لهما ".
وفي الإنصاف: "وهو المذهب" (3) .
__________
(1) فتاوى قاضي خان 2 \ 258.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 307.
(3) المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 12 \ 308، والفروع وتصحيحه 4 \ 135.
(73/287)
وحجته:
أن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، فلا معنى لابتداء الكيل ههنا؛ لأنه لا يحصل به زيادة علم (1) .
القول الثاني: أنه لا يجزئ التقدير السابق، بل لا بد من تقدير المشتري.
وهو ظاهر قول المالكية (2) ، ومذهب الشافعية (3) ، ورواية عند الحنابلة (4) .
وقال الدسوقي: ". . . أي كما أن ضمان الموزون والمعدود من البائع حتى يقبضه المشتري بوزن أو عد".
وقال النووي: "ولو قال البائع: خذه فإنه كذا فأخذه مصدقا له فالقبض فاسد حتى يقع اكتيال صحيح".
وحجته:
ما رواه جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري (5) » .
وجه الدلالة: دل قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى يجري
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 308.
(2) حاشية الدسوقي 3 \ 144.
(3) روضة الطالبين 3 \ 518.
(4) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 308.
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(73/288)
فيه الصاعان (1) » . . . .
أنه لا يكتفى بكيل البائع، بل لا بد من كيل المشتري، وقيس الموزون والمزروع والمعدود على المكيل.
وقد سبقت مناقشة هذا الحديث.
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- ما ذهب إليه أهل القول الأول؛ لقوة دليلهم في مقابل ضعف دليل القول الثاني بمناقشته.
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(73/289)
المطلب الثالث: الشرط الثالث: ألا يبيع المشتري السلعة على المصرف.
وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجته:
1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في البيوع، باب في النهي عن العينة (3462) ، وابن عدي في الكامل 15 \ 998، والبيهقي في السنن 5 \ 316 من طريق حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. وفي إسناده عطاء الخراساني لا يحتج بحديثه (مختصر سنن أبي داود للمنذري 5 \ 102) . وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2 \ 28 من طريق الأعمش عن عطاء بن أبي رباح، لكنه منقطع، عطاء بن أبي رباح لم يسمع من ابن عمر رضي الله عنه (تهذيب التهذيب 7 \ 182) .
(73/289)
ونوقش: بأنه ضعيف.
2 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » .
وجه الدلالة: قال ابن القيم: ". . . فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها منه بثمانين حالة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة، أو خمسين حالة، وليس ههنا ربا ولا جهالة، ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد" (2) .
ونوقش: هذا الاستدلال: أنه اختلف في تفسير البيعتين في بيعة على أقوال:
منها: أن يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة، أو بعشرين نسيئة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في البيوع، باب فيمن باع بيعتين في بيعة (3461) ، والحاكم في المستدرك 2 \ 45، والبيهقي في السنن 5 \ 343، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وصححه الحاكم.
(2) إعلام الموقعين 3 \ 150.
(73/290)
ومنها: اشتراط عقد في عقد آخر.
ومنها: بيع العينة (1) .
وأجيب: بأن أقرب هذه التفاسير حمله على بيع العينة. قال ابن القيم: "فإنه - أي بيع العينة - قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ بالربا" (2) .
3 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (3) » .
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: أن المراد بالشرطين في البيوع المنهي عنهما بيع العينة، قال ابن القيم: " لا يحتمل الحديث غير هذا المعنى- أي بيع العينة- وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه؟
__________
(1) ينظر: معالم السنن للخطابي 5 \ 98، والمجموع 9 \ 329، والإنصاف مع الشرح الكبير 11 \ 231.
(2) تهذيب السنن 5 \ 106.
(3) أخرجه الإمام أحمد 2 \ 179، وأبو داود في البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3503) ، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك (1232) ، والنسائي 7 \ 288. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(73/291)
لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرا كالضرب يطلق على المضروب، والحلق على المحلوق. . . فالشرطان كالصفقتين وإن سواء، فالشرطان في بيع كصفقتين في صفقة" (1) ، والسنة يفسر بعضها بعضا.
ونوقش: بأن الشرطين المنهي عنهما اختلف فيهما:
فقيل: إن المراد الحلول والأجل، أو الأجلان (2) .
نحو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة نقدا، أو بمائة وعشرين إلى شهر، أو يقول: بمائة إلى شهر، أو بمائة وعشرين إلى شهرين. وأجيب: بأن العقد على هذا التفسير لم يشتمل على شرطين، وإنما اشتمل على شرط واحد وهو التأجيل، وجعل الثمن مختلفا تبعا لذلك.
وقيل: إن المراد أن يجمع بين شرطين صحيحين ليسا من مصلحة العقد كأن يشتري طعاما ويشترط على البائع حمله وطحنه (3) وأجيب: أن اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدا فسد الشرط والشرطان، وإن كان صحيحا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع؟ لا سيما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد
__________
(1) تهذيب السنن 5 \ 148.
(2) المبسوط 13 \ 28، والمدونة 14 \ 151.
(3) المغني 6 \ 165.
(73/292)
جمع بيعا وإجارة وهما معلومان لم يتضمنا غررا فكانا صحيحين، وإذا كان كذلك فما الموجب لفساد الإجارة على منفعتين وصحتها على منفعة؟ (1) .
وقيل: إن المراد أن يجمع شرطين فاسدين (2) .
وأجيب: أن الشرط الواحد الفاسد منهي عنه فلا فائدة في التقييد بشرطين في بيع وهو يتضمن زيادة في اللفظ وإيهاما لجواز الواحد، وهذا ممتنع على الشارع مثله (3) .
الوجه الثاني: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن (4) » .
وجه الدلالة: أن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه، وبقي له بعض الثمن فهو ربح حصل لا على ضمانه من جهة من باعه (5) .
4 - أن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم.
أ- روى أبو إسحاق السبيعي عن امرأته «أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه،
__________
(1) تهذيب السنن 5 \ 146.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 11 \ 228.
(3) تهذيب السنن 5 \ 147.
(4) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4631) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(5) فتح القدير لابن الهمام 6 \ 435.
(73/293)
فقالت: يا أم المؤمنين: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة درهم نقدا فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت وإن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب (1) » .
ونوقش من وجهين:
الأول: أن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بها (2) .
وأجيب: قال ابن التركماني: " العالية معروفة روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرهما ابن حبان في الثقات من التابعين، وذهب إلى حديثهما" (3) .
الثاني: أن العقوبة التي ذكرتها جزاء هذا العمل لا تتناسب مع هذا الفعل.
إذ العمل لا يبطل إلا بالشرك (4) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 \ 84، والدارقطني 3 \ 52، والبيهقي 5 \ 330، وفي نصب الراية 4 \ 16: ''قال في التنقيح إسناده حيد''. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين 3 \ 167: ''وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه''.
(2) سنن الدارقطني 3 \ 52، والمحلى 9 \ 49.
(3) الجوهر النقي مع سنن البيهقي 5 \ 330.
(4) المحلى 9 \ 49.
(73/294)
ونوقش من وجهين:
الأول: أن يكون مراد عائشة رضي الله عنها أن العمل يبطل بالردة؛ إذ استحلال الربا- ومن ذلك العينة- ردة، لكن زيد بن أرقم رضي الله عنه معذور حيث لم يعلم التحريم.
الثاني: أن يكون مرادها أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد، ويكون بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا (1) .
ب- ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين؟ فقال: "دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة".
ج- ما ورد أن أنسا رضي الله عنه سئل عن العينة، فقال: "إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله".
5 - أن العينة وسيلة إلى الربا، والوسيلة إلى الحرام حرام (2) القول الثاني: أنه يجوز للمشتري أن يبيع على البائع
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 168.
(2) تهذيب السنن 5 \ 100.
(73/295)
- المصرف- ما لم يكن هناك شرط على أن يشتريها البائع بأقل من ثمنها نقدا.
وهو مذهب الشافعية (1) .
وحجته:
1 - قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
وجه الدلالة: أن بيع العينة يدخل في عموم الآية.
ونوقش: بأن الآية خصصت بأدلة تحريم العينة السابقة.
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل؛ بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (4) » .
وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم اشتر بالدراهم جنيبا (5) » وهو يشمل الشراء من المشتري ومن غيره (6) .
__________
(1) الأم 3 \ 78، وروضة الطالبين 6 \ 413، وفتح الباري 4 \ 401.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) أخرجه البخاري في الوكالة، باب الوكالة في الصرف (2303) ، ومسلم في المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل (1593) .
(4) في المصباح 1 \ 111: ''الجنيب من أجود التمر''. (3)
(5) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 11 \ 21، وفتح الباري 4 \ 401.
(73/296)
ونوقش: بأنه "حجة في هذا الحديث؛ لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه الأول، ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه والمطلق يحتمل التقييد إجمالا فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأدنى دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع فلتكن هذه الصورة ممنوعة) (1) .
3 - أن زيد بن أرقم رضي الله عنه فعل هذا البيوع (2) (3) .
ونوقش من وجهين:
الأول: أنه رجع (4) .
الثاني: أنه لو سلم أنه لم يرجع فإن قوله مقابل بالنص، وخالفه غيره من الصحابة.
4 - أنه ممن يجوز بيع السلعة به من غير بائعها فيجوز منه كما لو اشتراها بسلعة، أو بمثل ذلك الثمن، أو أكثر (5) .
ونوقش: أنه قياس مع الفارق؛ لأن علة تحريم بيع العينة هي شبهة الربا؟ إذ حقيقة العينة بيع مائة إلى أجل بثمانين نقدا، وهذه العلة غير موجودة فيما لو بيعت على غير بائعها، أو بسلعة، أو بمثل
__________
(1) فتح الباري 4 \ 401.
(2) سبق تخريجه.
(3) الأم 3 \ 78، وسنن البيهقي 5 \ 331.
(4) المبسوط 13 \ 132.
(5) فتح العزيز مع المجموع 8 \ 232.
(73/297)
ذلك الثمن أو أكثر.
الترجيح: الراجح - والله أعلم - هو القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل ضعف القول الثاني بمناقشة دليله؛ ولقاعدة سد الذرائع؛ إذ بيع العينة ذريعة إلى الربا.
(73/298)
المطلب الرابع: الشرط الرابع: أن يكون المعدن المباع حالا: فإن كان مؤجلا بثمن مؤجل فهو بيع الدين بالدين ابتداء، وهو محرم بالإجماع.
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن بيع الدين بالدين لا يجوز" (1) .
قال ابن قدامة: "قال الإمام أحمد: إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين" (2) .
وقال شيخ الإسلام: "الكالئ بالكالئ هو المؤخر الذي يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض، وهذا كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة كلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ" (3) .
والدليل على هذا:
1 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه
__________
(1) الإجماع ص 117.
(2) المغني 6 \ 106.
(3) مجموع الفتاوى 20 \ 512.
(73/298)
وسلم نهى عن بيع الغرر (1) » .
وجه الدلالة: أن تأخير أحد العوضين وجعله دينا في الذمة مشتمل على نوع من الغرر، لكنه معفو عنه؛ لأنه يسير، فإذا أضيف إليه تأخير العوض الآخر، فإن الغرر يتفاحش فينهى عنه (2) .
2 - ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (3) » .
وجه الدلالة: أن السلف تقديم الثمن، فأمر به صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه لا يجمع بين تأجيل الثمن والمثمن.
3 - الإجماع على تحريم بيع الدين بالدين ابتداء.
4 - أن في ذلك شغل الذمتين بما لا فائدة من ورائه، فالبائع لم يأخذ الثمن حتى ينتفع به، والمشتري لم يتسلم المبيع حتى يقضي وطره (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1153) .
(2) إعلام الموقعين 1 \ 389.
(3) أخرجه البخاري في السلم، باب السلم في وزن معلوم (2240) ، ومسلم في المساقاة، باب السلم (1604) .
(4) ينظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 29 \ 472، وإعلام الموقعين 1 \ 480.
(73/299)
المطلب الخامس: الشرط الخامس: ألا يكون المعدن ذهبا أو فضة:
وهذا بناء على أن علة ربا الفضل في الذهب والفضة مطلق
(73/299)
الثمنية، وعليه فلا يصح مبادلة الذهب أو الفضة بالأوراق النقدية مع التأجيل.
وهو قول عند المالكية (1) ، ورواية عن الإمام أحمد (2) ، واختاره شيخ الإسلام (3) وابن القيم (4) .
وحجتهم:
أن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة (5) .
القول الثاني: أن العلة في الذهب والفضة الوزن مع اتحاد الجنس.
وعليه فيصح مبادلة الذهب أو الفضة بالأوراق النقدية مع
__________
(1) ينظر: شرح الخرشي على مختصر خليل 3 \ 412.
(2) ينظر: الفروع 4 \ 148.
(3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 29 \ 473.
(4) إعلام الموقعين 2 \ 156.
(5) إعلام الموقعين لابن القيم 2 \ 156، وانظر أيضا مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 29 \ 472.
(73/300)
التأجيل.
وهو قول الحنفية (1) ، والحنابلة (2) .
وحجتهم:
1 - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد (3) » .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب المماثلة في قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلا بمثل سواء بسواء» ، ولا تعلم المماثلة بين شيئين إلا باتحاد المعيار الشرعي وهو الوزن.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن التعليل بالوزن ليس تعليلا بوصف مؤثر، بل الوزن وصف طردي، وتحريم الربا في هذه الأشياء إنما هو لوصف ذاتي لها، لا لكونها توزن.
الثاني: أن التعليل بالوزن ينتقض بالإجماع على جواز إسلام النقدين في الموزونات من الحديد والنحاس ونحوهما، ولو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، والعلة
__________
(1) المبسوط 12 \ 113، وبدائع الصنائع 5 \ 183.
(2) المغني 6 \ 55، والفروع 4 \ 148.
(3) أخرجه مسلم في المساقاة، باب الصرف (2303) ، وبيع الذهب بالورق نقدا (1587) .
(73/301)
إذا انتقضت من غير مؤثر دل على بطلانها (1) .
2 - ما رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (3) » ، وقال في الميزان مثل ذلك.
وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «وكذلك الميزان (4) » أي الموزون فدل على أن كل موزون لا يجوز التفاضل فيه.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن قوله: «وكذلك الميزان (5) » موقوف على أبي سعيد رضي الله عنه، وليس مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم (6) .
الثاني: أن قوله: «وكذلك الميزان (7) » مجمل لا يمكن أن يستدل به إلا بعد بيانه بنصوص أخرى، وقد بين في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه لا يحل الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن، فيكون المقصود أن يتساوى النقدان لحل
__________
(1) المغني 6 \ 56، ومجموع الفتاوى 29 \ 471، وإعلام الموقعين 2 \ 156.
(2) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(3) في المصباح 1 \ 111: ''الجنيب من أجود التمر''. (2)
(4) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7351) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(5) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7351) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(6) ينظر: السنن الكبرى للبيهقي 5 \ 286، ونصب الراية 4 \ 26.
(7) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7351) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(73/302)
مبادلتهما مع اتحاد الجنس (1) .
3 - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا (2) » .
وجه الدلالة: أنه حكم فيه على كل موزون مع اتحاد نوعه بأنه مثل بمثل.
ونوقش: بأنه ضعيف كما في تخريجه، وعلى فرض ثبوته فيحمل على ما دل عليه دليل الرأي الأول.
القول الثالث: أن العلة في الذهب والفضة غلبة الثمنية، فالعلة قاصرة على الذهب والفضة.
وبه قال الإمام مالك (3) ، والشافعي (4) .
وحجته:
1 - حديث عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . مثلا بمثل سواء بسواء (5) » .
__________
(1) ينظر: شرح النووي لصحيح مسلم 11 \ 21، 22.
(2) أخرجه الدارقطني في سننه 3 \ 18، وفي نيل الأوطار 15 \ 93: ''وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وضعفه جماعة''.
(3) ينظر: شرح الخرشي 3 \ 412.
(4) المجموع 9 \ 445.
(5) سبق تخريجه.
(73/303)
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الذهب والفضة فدل على أن العلة قاصرة عليهما.
يمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن تخصيصهما بالذكر من باب التغليب؛ إذ ليس فيهما معنى ينفردان به إلا كونهما أثمانا في عصر النبوة، وهذا يوجد فيما اتخذه الناس سكة، وراج رواج النقدين.
2 - أن النقدين جوهران نفيسان بهما تقدر الأموال، ويتوصل بهما إلى سائر الأشياء فهما أثمان المبيعات غالبا، وقيم المتلفات (1) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن التعليل بعلة الثمنية تعليل بعلة قاصرة على النقدين والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها حيث لا تتعدى الذهب والفضة، وحكم الذهب والفضة قد عرف بالنص فلا فائدة من التعليل بها.
ورد هذا: بأن العلة ليست إلا أمارة نصبها الله تعالى للأحكام فمنها متعدية، ومنها قاصرة، والقول بعدم فائدتها غير مسلم؛ فإن من فوائدها أنه ربما حدث ما يشارك الأصل في العلة فيلحق به (2) .
الثاني: أن حكمة التحريم ليست مقصورة على النقدين، بل
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 \ 393، 394.
(2) المصدر السابق.
(73/304)
تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي؛ لأن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين حاصل فيها ولا فرق.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- هو القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل مناقشة دليل الرأي المخالف.
(73/305)
المطلب السادس: الشرط السادس: أن يكون الأجل معلوما:
وفيه أمور:
الأمر الأول: دليله يشترط أن يكون الأجل في البيع معلوما باتفاق الفقهاء في الجملة (1) .
والدليل على ذلك:
1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ، فقوله تعالى "مسمى" أي معلوم (3) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "احتوت هذه الآيات على إرشاد عباده في معاملاتهم. . . ومنها وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وحلول الإجارات" (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 \ 178، وقوانين الأحكام ص 283، والأم 3 \ 96، والمغني 6 \ 403
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1 \ 334.
(4) تيسير الكريم الرحمن 1 \ 201.
(73/305)
2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (1) » .
3 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الغرر (2) » .
وجه الدلالة: أن جهالة الأجل تؤدي إلى الغرر المنهي عنه.
4 - ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا تبايعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر، ولا إلى العصير» .
الأمر الثاني: أثر جهالة الأجل على العقد
إذا شرط أجل مجهول، فاختلف العلماء رحمهم الله في أثر ذلك على العقد على أقوال:
القول الأول: أن العقد صحيح، والشرط باطل، وعليه فيكون البيع بثمن حال، ولمن فات غرضه من التأجيل حق الفسخ، وهو مذهب الحنابلة (3) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) المغني 6 \ 44، وكشاف القناع 3 \ 194.
(73/306)
واحتجوا:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها في «قصة بريرة رضي الله عنها حينما اشترط أهلها على عائشة رضي الله عنها إن أعتقتها أن يكون الولاء لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيبا، فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط (1) » .
وجه الاستدلال: أن شرط الولاء لغير المعتق شرط باطل، ولم يعد ذلك البطلان للشرط بالفساد على العقد، بل تم عقد البيع صحيحا، مع إلغاء الشرط الباطل.
2 - أن العقد قد تم بأركانه، والشرط زائد، فإذا فسد وزال سقط الفاسد، وبقي العقد بركنيه فصح كما لو لم يشترط (2) .
القول الثاني: أن العقد لا يبطل بجهالة الأجل، بل فاسد يمكن تصحيحه بإزالة ما يقتضي الفساد بالاتفاق على أجل معلوم، أو إسقاط الأجل المجهول.
وهو مذهب الحنفية (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل (2168) ، ومسلم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1504) .
(2) المغني 6 \ 44.
(3) ينظر: فتح القدير مع العناية على الهداية 6 \ 454، 455، وتبيين الحقائق 4 \ 60.
(73/307)
وحجته: أن الفساد أصاب وصفا من أوصافه، وذلك لا يعود بالبطلان على الأصل فيكون فاسدا لا باطلا يمكن تصحيحه بإسقاط الأجل أو تحديده في مجلس العقد (1) .
ونوقش: بأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شروطه التراضي (2) .
القول الثالث: أن تأجيل الثمن إلى أجل مجهول يبطل العقد. وبه قال مالك (3) ، والشافعي (4) .
وحجته:
1 - ما تقدم من الأدلة على اشتراط كون الأجل معلوما؛ فيؤخذ منها النهي عن كونه مجهولا، والنهي يقتضي الفساد.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النهي لا يعود إلى ذات العقد ولا إلى شرطها الذي يختص بالعقد، وإنما إلى شرط لا يختص بالعقد (5) ؛ لأدلة الرأي الأول.
2 - أن الأجل له قسط من الثمن، فإذا كان مجهولا فإن
__________
(1) المصدر السابق.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 11 \ 233.
(3) شرح الخرشي على مختصر خليل 5 \ 210.
(4) روضة الطالبين 3 \ 399، وأسنى المطالب 2 \ 32.
(5) قواعد ابن رجب ص 12.
(73/308)
ذلك يعود بالجهالة على الثمن فيفسد العقد (1) .
ونوقش: بعدم التسليم، فإن جهالة الثمن لا تفسد العقد، وإنما تفسد شرط الأجل فقط.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- هو القول الأول لقوة دليله في مقابل ضعف دليل المخالف بمناقشته.
الأمر الثالث: تحديد الأجل بغير الأشهر الهجرية.
المشروع للمسلم أن يؤقت بالأشهر الهلالية؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2) لكن لو حدد الأجل بغير الأشهر الهجرية، مثل: أن يحدد الأجل في شهر يناير، أو شهر فبراير، ونحو ذلك.
فللعلماء في صحة هذا التأجيل قولان:
القول الأول: صحة التأجيل إلى هذه الأوقات.
وهو قول عند الحنفية (3) ، ومذهب المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) .
__________
(1) المغني 6 \ 44.
(2) سورة البقرة الآية 189
(3) فتح القدير 6 \ 452، والفتاوى الهندية 3 \ 142.
(4) المدونة 4 \ 158.
(5) روضة الطالبين 4 \ 8.
(6) المغني 6 \ 405، وكشاف القناع 3 \ 301.
(73/309)
وحجته:
1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) .
وجه الدلالة: أن هذه الأوقات معلومة، فتدخل في عموم الآية.
2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2) » .
وهذه آجال معلومة عند المسلمين (3) .
القول الثاني: أنه لا يصح التأجيل إلى هذه الأوقات.
وهو قول للحنفية (4) ، وظاهر قول الخرقي وابن أبي موسى من الحنابلة (5) .
وحجته: أنه تأجيل إلى غير الشهور الهلالية أشبه ما لو أجل إلى الشعانين (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) تقدم تخريجه.
(3) ينظر: المغني 6 \ 405.
(4) بدائع الصنائع 5 \ 178.
(5) المغني 6 \ 455.
(6) المغني 6 \ 405.
(73/310)
ونوقش: بالفرق لأن عيد الشعانين لا يعرفه المسلمون، فالنصارى يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون (1) .
الترجيح: الراجح- والله أعلم- صحة التأجيل إلى الأشهر غير الهجرية، لكونها معلومة عند المسلمين، ولعدم الغرر.
__________
(1) المصدر السابق.
(73/311)
المطلب السابع: الشرط السابع: أن تكون السلعة معلومة
يشترط أن يكون المعدن المباع معلوما باتفاق الفقهاء في الجملة.
والدليل على ذلك:
1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
وجه الدلالة: أن السلعة إذا كانت مجهولة؛ فإن العاقد يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم أو غارم، وهذا من الميسر.
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الغرر (2) » وإذا كانت السلعة مجهولة فهو
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سبق تخريجه.
(73/311)
داخل في بيع الغرر.
وطريق العلم بالسلعة يختلف باختلاف السلع، واختلاف الأزمنة والأمكنة والأعراف.
والمعدن المباع عن طريق المصرف يباع عن طريق الوصف؛ لكونه غائبا عن مجلس العقد.
والبيع عن طريق الوصف اختلف أهل العلم في صحته على قولين:
القول الأول: جوازه.
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وقول للشافعية (3) ، وهو مذهب الحنابلة (4) .
واستدلوا على ذلك بأدلة:
1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (5) » .
وجه الدلالة: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كيل
__________
(1) فتح القدير 6 \ 335.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 \ 24.
(3) مغني المحتاج 2 \ 20.
(4) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 100.
(5) سبق تخريجه.
(73/312)
معلوم، ووزن معلوم (1) » ، دليل على صحة البيع بالصفة؛ إذ السلم من أنواع البيع.
2 - أنه بيع بالصفة فصح كالسلم (2) .
القول الثاني: عدم صحة البيع عن طريق الوصف.
وهو الأصح عند الشافعية (3) ، ورواية عند الحنابلة (4) ، وعلى هذا فلا يصح بيع الغائب (5) .
وحجته:
1 - أن الصفة لا يحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يحصل السلم فيه (6) .
ونوقش: أنه لا يسلم أن الصفة لا يحصل بها المعرفة فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي لا يختلف بها الثمن ظاهرا، ولهذا اكتفي به في السلم، وأما ما لا يصح السلم فيه فلا يصح بيعه بالصفة؛ لأنه لا يمكن ضبطه بها (7) .
2 - أن الرؤية تفيد أمورا تقصر عنها العبارة (8) ، فلم يصح
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 100.
(3) مغني المحتاج 2 \ 20.
(4) الشرح الكبير مع الإنصاف 12 \ 100.
(5) المنهاج مع مغني المحتاج 2 \ 18.
(6) الشرح الكبير مع الإنصاف 11 \ 100.
(7) المصدر السابق.
(8) مغني المحتاج 2 \ 20.
(73/313)
البيع بالوصف.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الصفة وإن قصرت عن الرؤية في بعض الأمور، إلا أن الصفات التي- يختلف بها الثمن اختلافا ظاهرا تحصل بها وهذا كاف.
الوجه الثاني: أن الرؤية لا يحصل بها الاطلاع على الصفات الخفية، ومع ذلك اكتفي بها.
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من صحة البيع عن طريق الوصف؛ لقوة ما استدلوا به، وضعف دليل القول الثاني بمناقشته.
(73/314)
المبحث الثاني: حكم التورق المصرفي المنظم
تقدم أن التورق المصرفي هو قيام المصرف بترتيب عملية التورق للمشتري بحيث يبيع سلعة على المتورق بثمن آجل، ثم ينوب البائع عن المشتري ببيع السلعة نقدا لطرف آخر، ويسلم الثمن النقدي للمتورق، ولما كانت هذه المسألة حادثة على بيع التورق اختلف فيها أهل العلم المتأخرين على قولين:
القول الأول: تحريم هذا البيع.
وبه قال بعض المتأخرين.
(73/314)
وحجته:
1 - ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع (1) » . . . .
وجه الدلالة: أن التورق المصرفي فيه أكثر من شرط ففيه اشتراط المشتري توكيل المصرف في بيعها، وعدم فسخ الوكالة (2) ، وفيه شرط شراء المتورق السلعة بأكثر من ثمنها الذي اشتراها المصرف به، وفيه شرط بيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها المتورق به.
ونوقش: بأن المراد بالشرطين في البيع هو بيع العينة كما سبق (3) .
وأجيب: بأن التورق المصرفي ملحق بالعينة كما يأتي.
2 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (4) » .
__________
(1) سبقت تخريجه.
(2) حسب إفادة موظفي أحد البنوك المحلية.
(3) ينظر: ص 297.
(4) سبق تخريجه.
(73/315)
وجه الدلالة: أن التورق المصرفي اشتمل على بيعتين في بيعة هما صفتا النسيئة والنقد في صفقة واحدة ومبيع واحد.
ونوقش: بما نوقش به الدليل الأول.
وأجيب: بما أجيب به عن مناقشة الدليل الأول.
3 - أن التورق المصرفي لا يدخل في بيع التورق الذي أجازه جمهور الفقهاء؛ لأنه وإن كان متفقا معها في شراء المتورق السلعة نسيئة بكثير من منها نقدا إلا أنه مختلف عنها في اشتراط أن تباع السلعة بالثمن الذي اشتراها به المصرف، أي بأقل مما اشتراها به المستورق، وأن يتولى هذا البيع المصرف الذي اشتريت منه لمن يشاء بتوكيل من المستورق، وفي التورق الفقهي المستورق هو الذي يتولى بيع السلعة التي اشتراها، ولا دخل للبائع، وقد يبيع المستورق السلعة بأقل مما اشتراها به، أو بمثله أو بأكثر منه.
4 - إلحاق التورق المصرفي في بيع العينة الذي منعه جمهور الفقهاء؛ لأن المصرف هو الذي يبيع السلعة للمتورق نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا، وهو الذي يتولى بيعها لمن يشاء نقدا وبأقل من ثمنها الذي باعها هو به، فلا فرق بين هذا وبين شراء المصرف لنفسه، فالمصرف يتولى كل شيء في التورق المصرفي، وليس على المستورق سوى بيان مبلغ التمويل (1) .
__________
(1) ندوة البركة (الرابعة والعشرون للاقتصاد الإسلامي) 2 \ 35.
(73/316)
ونوقش: بأن تشابه الصورة والظاهر لا يعني التماثل؛ لأن الحقيقة مختلفة؛ فهناك أوراق تتضمن وعدا بالشراء ثم توكيلا بالبيع، إلخ، والمصرف وإن كان هو الذي يسلم النقد للعميل المدين له، إلا أنه يسلمه باعتباره وكيلا لا مشتريا كما هو الحال في العينة، ولا مقرضا كما هو الربا. فتشابه الصورة لا يعني تماثل الحقيقة، والعبرة بالحقيقة.
وأجيب: بأن من يجيز العينة، ويمنع الربا يقول بأن الحقيقة بينهما مختلفة. ففي العينة هناك عقد بيع وعقد شراء، وهذا لا يوجد في التمويل الربوي والمصرف يسلم النقد باعتباره مشتريا لا باعتباره مقرضا.
وإذا كانت العبرة بالحقيقة فإن حقيقة العملية في الحالتين، هي نقد حاضر بمؤجل أكثر منه، وهذه حقيقة الربا. فلماذا يؤخذ بالحقيقة تارة وبالصورة أخرى؟
5 - في التورق المصرفي ارتباط بين البيعتين بيعة الأجل وبيعة النقد فإحداهما مشروطة في الأخرى.
فالمصرف هو الذي يبيع السلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا، ويشترط على المستورق أن يوكله في بيعها نقدا بأقل مما باعها له به نسيئة ويسلمه الثمن، ويلتزم المصرف بهذا، ولولا التزام المصرف ببيع السلعة نقدا وتسليمه الثمن ما قبل المستورق شراء السلعة من
(73/317)
المصرف بأكثر من ثمنها نقدا.
وأيضا فقصد الحصول على النقد ظاهر، بل مصرح به.
فأحد البنوك المحلية يقول عن برنامجه (التيسير) : أول تمويل نقدي إسلامي.
وبنك آخر يقول:
ويستفيد من التورق المبارك الذين يرغبون في الحصول على سيولة نقدية من خلال آلية شرعية ويقول: احصل في حسابك على السيولة التي تحتاجها وانعم براحة البال مع تمويل التورق من البنك (. . . . . .) .
وبنك آخر يقول:
احصل على السيولة بكل يسر وسهولة ويقول: يوفر لك بنك (000000) السيولة النقدية التي تحتاجها من خلال تورق الخير.
وبنك آخر يقول:
" مال " يمكنك من الحصول على السيولة النقدية لتلبية احتياجاتك مهما كانت.
فواضح من هذه العبارات أن المستورق لا رغبة له في شراء سلعة، ولا في بيعها، وإنما رغبته في السيولة، وإنما اتخذت السلعة وسيلة للوصول إلى السيولة.
6 - أن التورق المصرفي يواجه نقص أسعار السلع، وما
(73/318)
يترتب على ذلك من الخسائر التي يتحملها المتورق، وهذه المخاطر ليست من مصلحة العميل؛ لأن مراده النقد الحاضر وليس الاستثمار والربح. ومن ثم تعد هذه المخاطر تكلفة إضافية تعيق تحقيق العملية لهدفها المنشود، وهو التمويل؛ لذلك عملت المصارف على الاتفاق مع طرف مستقل يلتزم بالشراء النهائي، والمشتري النهائي بالشراء بالثمن المحدد، ويترتب على هذا أمور:
الأول: أن هذا الالتزام يصدر قبل حصول التوكيل من قبل العميل وإذا كان كذلك فهو التزام في غير محله؛ إذ لا يملك المصرف التصرف في مال الغير قبل إذنه، ثم إن هذا الالتزام يخالف مصلحة العميل إذا ارتفع سعر السوق عن السعر الملتزم به، فالمصرف يبيع بالسعر المتفق عليه بالرغم من كونه أقل من سعر السوق، وهذا يناقض مقصود الوكالة، وهو العمل لمصلحة الوكيل.
الثاني: أن هذا الالتزام، قد يكون عقدا؛ لأن كلا من المصرف والمشتري النهائي ضامن للآخر بإتمام العقد فيدخل في بيع الدين بالدين، وبيع الإنسان ما ليس عنده.
الثالث: أن هذا الالتزام يلغي معنى الأمانة في عقد الوكالة،
(73/319)
فحاصل التورق " المصرفي التزام المصرف بتوفير النقد مقابل دين له في ذمة العميل، بخلاف الوكالة الفعلية، فالوكيل أمين على سلعة العميل، ولا يضمن له لا بيعها ولا الثمن الذي تباع به، أما هنا فالمصرف يلتزم ببيع السلعة بالثمن المحدد لتوفير النقد للعميل، وإذا وجد الضمان لم يعد هناك فرق بين المصرف وبين البائع في العينة؛ لأن الطرفين ضامنان لتصريف السلعة.
وأما القول بأن العميل له الخيار في توكيل المصرف وعدمه، فهذا غير مؤثر؛ لأن العميل يريد النقد أصلا، ولولا ذلك لما أتى للمصرف، وإنما العبرة هل يملك المصرف الخيار في قبول التوكيل وعدمه؟
والجواب:
إن المصرف لا يملك هذا الخيار؛ لأنه التزم مسبقا مع المشتري النهائي، وإذا كان كذلك كانت المعاملة عينة؛ لأن المصرف ضامن للثمن النقدي، ولا فرق في هذه الحالة بين أن يشتريها هو أو غيره؛ لأن العبرة بالضمان، وهو حاصل على كل تقدير.
وهذا يبين ما يواجهه التورق المنظم فلما كان هدفه التمويل وليس الاستثمار اقتضى تجنب مخاطر تذبذب الثمن؛ لأنها تكلفة إضافية على حساب العميل، ولكن هذا يوقع في مزيد من المخالفات الشرعية.
(73/320)
فالمصالح الاقتصادية والضوابط الشرعية تصبحان على طرفي نقيض، وهذا خلاف المبادلات النافعة المشروعة التي أحلها الشرع ويسرها وشجع (1) عليها.
7 - أن تحول التورق على نظام مؤسسي يعني أن المؤسسات المالية صار هدفها هو تشجيع الحصول على النقد مقابل زيادة في الذمة، وهي بعينها وظيفة المصارف الربوية، ويترتب على ذلك انفصام العلاقة بين التمويل وبين النشاط الاقتصادي المثمر، وينتج عن ذلك:
ارتفاع الديون؛ لعدم وجود موانع تمنع منها.
ومن مقاصد التشريع في التمويل التخفيف من الديون من خلال ربط المداينات بالنشاط الاقتصادي الفعلي، ولهذا كانت المداينات في الاقتصاد الإسلامي أبطأ نموا وأقل انتشارا منها في الاقتصاد الرأسمالي، أما العينة بصورها المختلفة، ويلحق بها التورق المنظم، فهي على النقيض من ذلك، إذ تسهل المداينات دون أي ارتباط بالنشاط الاقتصادي الفعلي، فتكون سببا لارتفاع الديون واستفحالها للأغراض الاستهلاكية، كما هو الحال في النظام الربوي (2) .
__________
(1) د \ سامي السويلم، التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتورق (ضمن أبحاث ندوة البركة 2 \ 37) .
(2) ينظر: مجلة الجسور عدد 3 ص 33، ود. سامي السويلم، التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتورق ص 39
(73/321)
8 - إزاحة التورق المنظم لأنواع التمويل الأخرى التي كانت تقدمها المؤسسات الإسلامية، مع قلتها، وستستمر هذه الإزاحة وهذا الإحلال حتى تسيطر العينة ومشتقاتها على التمويل الإسلامي.
9 - ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي؛ لأن نسبة كبيرة من القروض الفردية ستوجه لإشباع الحاجات الآنية على حساب الاحتياجات المستقبلية. وهذا يعني اختلال أنماط الإنفاق في المجتمع، مما يجعل الأفراد أكثر اعتمادا على الديون لتسيير حياتهم اليومية، وكلما كانت آليات الإقراض النقدي أكثر تيسيرا كلما ازداد اعتماد الأفراد عليها.
وهذه النتائج مماثلة لنتائج الاقتصاد الربوي تماما، كما هو مشاهد وكما تدل عليه الإحصائيات الرسمية، وهي الآثار السلبية التي حذر منها القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) . فتضاعف الدين أهم سمات النظام الربوي، فإذا كان التورق المنظم يؤدي لنفس النتائج، فلا يمكن القول بوجود فرق حقيقي بين النظامين، والشريعة الإسلامية لا تفرق بين المتماثلات، وهذا يستلزم أن يكون التورق المصرفي المنظم مماثلا في الحكم للنظام الربوي، كما كان مماثلا له في الأسباب
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(73/322)
والآثار والنتائج (1) .
10 - أن التورق المصرفي من أسباب عدم تحقيق المصرف الإسلامي للمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم وهي: أن يكون قياما للناس، كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (2) ، وألا يكون دولة بين الأغنياء، كما قال تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (3) .
وأن يحقق العدالة بين طرفي المعاملة، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) ، يبين ذلك استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية بالإغراق في المرابحة بالأسهم والمعادن والاستجابة لدواعي الاستهلاك غير المرتب لدى الناس. . . فالأغلب من عمليات المصارف الإسلامية سواء في عقود المرابحة أو الاستصناع أو الإيجار المنتهي بالتمليك كان العائد الذي تحصل عليه هو ثمن الأجل دون أي عمل يمثل قيمة اقتصادية مضافة (5) .
القول الثاني: جواز التورق المصرفي.
وهو قول لجان الفتوى والمراقبة في بعض المصارف التي
__________
(1) المصدر السابق
(2) سورة النساء الآية 5
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) مجلة الجسور، العدد الثالث ص 33- 35.
(73/323)
تعاملت بهذا النوع من التورق.
وحجته:
1 - ما تقدم من الأدلة على جواز بيع التورق، وأن التورق صدر بجوازه مجموعة من الفتاوى، وقرار مجلس المجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي (1) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: استثناء التورق المصرفي من بيع التورق الذي أجازه جمهور الفقهاء لما تقدم من الأدلة على منعه.
وأيضا: فإنه تقدم جواز التورق بشرط عدم تضمنه محاذير شرعية، والتورق المصرفي فيه محاذير شرعية كما سبق.
الوجه الثاني: أن عقد التورق الذي أجازه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قد وضع قيودا على هذا البيع، حيث عرف بيع التورق بأنه "شراء سلعة في حوزة البائع وملكه. . . "، وما يتم من قبل المصارف التي تقوم ببيع سلع يتم تداولها في سوق السلع (المعادن) العالمي (البورصة) لا يتوفر فيها هذا الشرط، فنصوص عقود البيع التي تجريها هذه المصارف تشير إلى أن هذه السلع لا توجد لدى المصرف، وأن ما يطلق عليه "شهادة التخزين "
__________
(1) في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة 1419هـ (أبحاث ندوة البركة 2 \ 32) .
(73/324)
لا تمثل حيازة للسلعة ولا شهادة تملك، فمن المعروف والمتعارف عليه في سوق البضائع العالمي (البورصة) أن التعامل فيه يتم من خلال بيت السمسرة، والذي يدير عمليات تداول عقود بيع سلع تم شراؤها بسعر متفق عليه مسبقا مع المنتج؛ على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق يناسب توقيت الحاجة إلى السلعة، وعند حلول الأجل يقوم بيت السمسرة بشراء السلعة محل التعاقد من السوق الحاضر وتسليمها للمشتري، وهذا ما يؤكد أنه لا يوجد مجال للتعامل على السلعة نفسها، ولكون هذا التداول إنما يتم على أوراق، وليس حيازة وتملكا للسلع، فإن بعض تلك المصارف أشارت في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق وليس حيازة وتملكا للسلع. أما بعض المصارف فقد أشارت إلى أن حيازتها وتملكها للسلع إنما هو بموجب "شهادة التخزين "، حيث يشار في العقد إلى أن السلعة توجد في بلاد أخرى غير البلد الذي يتم فيه تحرير العقد، ولتجنب الإلزام لم يشر إلى الوكالة وضرورة تفويض المصرف بالبيع نيابة عنه، وإنما أشير إلى ذلك في نص الوكالة، حيث أوضحت الوكالة أن السلع المشتراة من المصرف هي سلع يتم تداولها في سوق السلع (البورصة) ، بخلاف مصارف أخرى جعلت نماذج التفويض والوكالة جزءا من العقد، وهذا الأسلوب هو نوع من محاولة إضفاء نوع من صحة البيع، وأنه لا يوجد فيه شروط فاسدة تفسد البيع. ولكن هذا
(73/325)
الأسلوب من التحايل لا يغير من حقيقة الأمر.
2 - أن هذا النوع من التورق استكمل شروط صحته من ملك البائع للسلعة، وقبضها، وتوكيل المشتري للبائع في القبض والبيع، وعدم بيعها على المصرف غير ذلك من الشروط المتقدمة.
ونوقش: بأن محصل هذا الدليل صحة بيع التورق؛ لتوفر شروطه، فهو راجع للدليل الأول، وقد سبقت مناقشته.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- قول من قال بتحريم هذا النوع من التورق؛ لقوة دليله؛ ولكونه أقرب إلى بيع العينة من بيع التورق الذي أجازه جمهور الفقهاء، ولمشابهته لصورة الربا، ولما تقدم من قوة دليل من منع التورق عموما، ولآثاره السلبية الاقتصادية المتقدمة.
(73/326)
الخاتمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فمن خلال دراسة ما يتعلق بموضوع التورق المصرفي عن طريق بيع المعادن خرجت بالنتائج الآتية:
1 - أن التورق المصرفي هو ترتيب المصرف عملية التورق للمشتري. . . إلخ.
2 - جواز التورق غير المصرفي عند الحاجة، وعدم تضمنه
(73/326)
محاذير شرعية.
3 - يشترط لصحة التورق المصرفي ملك المصرف للسلعة.
4 - عدم صحة بيع المرابحة، أو بيع المواعدة الذي تجريه المصارف حاليا بكافة صوره.
5 - عدم صحة بيع المشتري السلعة قبل قبضها.
6 - يصح توكيل البائع بالقبض والبيع.
7 - قبض المعدن يكون بالتخلية.
8 - يكتفى بتقدير البائع للمعدن.
9 - عدم صحة بيع المشتري السلعة على المصرف.
10 - أن يكون المعدن المباع حالا.
11 - ألا يكون المعدن ذهبا أو فضة.
12 - أن يكون الأجل معلوما.
13 - صحة العقد مع جهالة الأجل، وبطلان شرط التأجيل، ولمن فات غرضه من التأجيل الفسخ.
14 - صحة تحديد الأجل بغير الأشهر الهجرية.
15 - يشترط كون المعدن معلوما.
16 - عدم صحة التورق المصرفي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(73/327)
صفحة فارغة
(73/328)
الثبات
للدكتورة \ منيرة بنت محمد المطلق (1) .
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (2) .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (4) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (5) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (6)
__________
(1) كلية التربية قسم الدراسات الإسلامية، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
(2) أخرجه مسلم: 6 \ 157.
(3) سورة آل عمران الآية 102
(4) سورة النساء الآية 1
(5) سورة الأحزاب الآية 70
(6) سورة الأحزاب الآية 71
(73/329)
أما بعد: فالحمد لله الذي أرسل رسوله بدين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
فلقد بين سبحانه الحكمة من خلق الثقلين ألا وهي عبادته سبحانه، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وأمرنا سبحانه بإخلاص هذه العبادة له فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) .
وبين سبحانه هذه العبادة، ونهى عن الشرك، وجاهد رسوله صلى الله عليه وسلم في سبيل ذلك، ولم يقبض حتى أرسى قواعد الإسلام، وسار على ذلك صحابته ومن تبعهم على الحق ممن جاء بعدهم، وخاصة في القرون الثلاثة المفضلة بشهادته صلى الله عليه وسلم ومن أتى بعدهم ودعا إلى الله وصبر على الدعوة، فمنهم من عذب، ومنهم من مات، ومنهم من مات شهيدا - رضي الله عنهم فالمسلم مأمور بالثبات على الدين والصبر عليه فيصبر ويثبت
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البينة الآية 5
(73/330)
على فرائضه، ويصبر ويثبت بالبعد عن المحرمات، ويصبر على الدعوة إلى الدين ويثبت في مواطن القتال، ويصبر ويثبت عند الفتن والمصائب.
تتكون خطة البحث من: أربعة مباحث، وخاتمة.
المبحث الأول: (الثبات في الكتاب والسنة) ويتكون من ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: معنى الثبات في اللغة.
المطلب الثاني: معنى الثبات في الاصطلاح.
المطلب الثالث: علاقة الثبات بالصبر.
المبحث الثاني: (الجهات المثبتة) وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: الثبات في العقل.
المطلب الثاني: الثبات في النفس.
المطلب الثالث: الثبات في القلب.
المطلب الرابع: الثبات في اللسان.
المطلب الخامس: الثبات في الأقدام.
المبحث الثالث: (أقسام الثبات) وفيه ثلاثة مطالب:
(73/331)
المطلب الأول: الثبات في الدنيا وفيه:
1 - الثبات على الدين.
2 - الثبات على الطاعة.
3 - الثبات على الحق.
4 - الثبات في القتال.
5 - الثبات في الكلام والقول.
6 - الثبات في الأمر والرأي.
7 - الثبات على كلمة التوحيد.
8 - الثبات على الحجة.
9 - الثبات عند الفتن وفيه:
أ - الفتن العامة.
ب - الفتن الخاصة.
المبحث الرابع: وسائل التثبيت وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: عن طريق الملائكة.
المطلب الثاني: عن طريق القصص.
المطلب الثالث: عن طريق إنزال القرآن منجما.
المطلب الرابع: عن طريق كلمة التوحيد.
(73/332)
المبحث الأول (الثبات في الكتاب والسنة) وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: معنى الثبات في اللغة:
معناه: (ثبت الشيء يثبت ثبوتا: دام واستقر فهو ثابت. . . . وثبت الأمر صح ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال: أثبته وثبته والاسم الثبات وأثبت الكاتب الاسم كتبه عنده، وأثبت فلانا لازمه فلا يكاد يفارقه، ورجل ثبت: ساكن البال متثبت في أموره، وثبت الجنان أي ثابت القلب، وثبت في الحرب فهو ثبيت مثال قرب فهو قريب، والاسم ثبت بفتحتين، ومنه قيل للحجة ثبت ورجل ثبت، بفتحتين أيضا إذا كان عدلا ضابطا، والجمع أثبات مثل سبب وأسباب) (1) .
(ثبت: الثبوت والثبات كلاهما مصدر ثبت إذا دام والثبت بفتحتين بمعنى الحجة اسم منه) (2) .
(ثبت الشيء يثبت ثباتا وثبوتا فهو ثابت وثبيت وثبت وأثبته هو وثبته وشيء ثبت ثابت، ويقال للجراد إذا رز أذنابه ليبيض: ثبت وثبت وأثبت. ويقال ثبت فلان في المكان يثبت ثبوتا فهو ثابت إذا أقام به، وأثبته السقم إذا لم يفارقه، وثبته عن الأمر كثبطه، وفرس ثبت ثقف
__________
(1) المصباح المنير \ الفيومي: 1 \ 80
(2) المغرب \ أبو الفتح المطرز: 1 \ 119.
(73/333)
في عدوه، ورجل ثبت الغدر إذا كان ثابتا في قتال أو كلام، وفي الصحاح إذا كان لسانه لا يزل عند الخصومات وقد ثبت ثباتة وثبوتة وتثبت في الأمر والرأي واستثبت تأنى فيه ولم يعجل واستثبت في أمره إذا شاور وفحص عنه وقوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (1) أي ينفقونها من مقرين بأنها مما يثيب الله عليها.
وفي قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (2) .
معنى تثبيت الفؤاد: تسكين القلب ههنا ليس للشك، ولكن كلما كان البرهان والدلالة أكثر على القلب كان القلب أسكن وأثبت أبدا، كما قال إبراهيم عليه السلام {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (3) ، ورجل ثبت أي ثابت. . ورجل ثبت المقام لا يبرح والثبت والتثبيت الفارس الشجاع والثبيت الثابت العقل) (4) .
(ورجل ثبت بسكون الباء أي ثابت القلب، ورجل له ثبت عند الحملة بفتح الباء أي ثبات وتقول: لا أحكم بكذا إلا بثبت بفتح الباء أي بحجة والثبيت الثابت العقل) (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 265
(2) سورة هود الآية 120
(3) سورة البقرة الآية 260
(4) لسان العرب \ ابن منظور: 2 \ 19.
(5) مختار الصحاح \ الرازي 1 \ 35
(73/334)
المطلب الثاني: معنى الثبات في الاصطلاح
قال المناوي: (الثبات التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال) (1) .
وقال السيوطي: (وقيل: الثبات من بركت الإبل أي ثبتت على الأرض) (2) .
وقال ابن حجر: (الثبت بتحريك الموحدة الثبات والحجة) (3) .
وقال المباركفوري: (أثبت أمر من الثبات وهو الاستقرار) (4) .
__________
(1) فيض القدير: 2 \ 130.
(2) الديباج، السيوطي: 2 \ 1380
(3) فتح الباري: 3 \ 349.
(4) تحفة الأحوذي \ المباركفوري 10 \ 129.
(73/335)
إذا الثبات يدور حول التمكن والاستقرار والدوام الذي هو ضد الحركة والارتجاج.
الأدلة على الثبات من القرآن:
لقد وردت آيات كثيرة على الثبات في الكتاب والسنة منها:
قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (1) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) ، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (3) ، وقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (4) ، وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (5) .
(فذلك الثبات نزل في القلوب بواسطة الملائكة وهو السكينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده (6) » فالله ينزل عليه ملكا وذلك الملك يلهمه السداد وهو
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الفرقان الآية 32
(4) سورة هود الآية 120
(5) سورة الأنفال الآية 12
(6) سنن الترمذي الأحكام (1323) ، سنن أبو داود الأقضية (3578) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2309) ، مسند أحمد بن حنبل (3/220) .
(73/336)
ينزل في قلبه (1) .
وردت كذلك أحاديث تدور حول الثبات منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد (2) » .
فالثبات نعمة من الله عظيمة يعطيها عبده عند حاجته إليها فلا يزل في مواطن الزلل والانزلاق ومواطن الشبهات والشهوات فلا يركن إليها ولا يلتفت لها، وعلى العبد الإكثار من سؤال الله - عز وجل - الثبات في أحواله كلها.
__________
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 12 \ 249، وانظر: 7 \ 339.
(2) أخرجه النسائي في المجتبى: 3 \ 54، والترمذي: 5 \ 476، وأحمد: 4 \ 123، وابن حبان: 5 \ 310، والهيثمي في مجمع الزوائد 10 \ 173: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط فيه موسى بن مطير وهو متروك) .
(73/337)
المطلب الثالث: علاقة الثبات بالصبر
إن معنى (الصبر هو: حبس النفس عن الجزع. . وصبره حبسه) (1) .
فـ (الصبر نقيض الجزع) (2) .
ومعنى الجزع: هو الململة كأنه على جمر (3) فمعنى الصبر إذا السكون والثبات؟ لأنه عكس الجزع وهو الململة والحركة ومعنى
__________
(1) مختار الصحاح، الرازي 1 \ 149.
(2) العين، الفراهيدي: 7 \ 115.
(3) انظر: العين، الفراهيدي: 8 \ 325.
(73/337)
الثبات: هو السكون والاستقرار، كما مر في تعريف الثبات. أما الإمام ابن القيم فقد جعل الثبات أصل الصبر فقال: " أصل الصبر قوة الثبات فمتى أيد العبد بعزيمة وثبات فقد أيد بالمعونة والتوفيق " (1) وبعضهم جعل الصبر والثبات بمعنى واحد، فيقول عمرو بن عثمان (2) عن الصبر: " هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة " (3) .
وقال الخواص: " هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة (4) .
وقال الثعالبي: " فاثبتوا واذكروا الله؟ لأن الثبات هو الصبر،
__________
(1) عدة الصابرين \ ابن القيم: 1 \ 90.
(2) هو أبو حفص عمرو بن عثمان بن عمر التيمي، انظر الكنى والأسماء 1 \ 208.
(3) مدارج السالكين \ ابن القيم: 2 \ 158.
(4) مدارج السالكين \ ابن القيم: 2 \ 158.
(73/338)
وذكر الله هو الدعاء " (1) .
__________
(1) تفسير الثعالبي: 1 \ 58.
(73/339)
المبحث الثاني: وفيه خمسة مطالب (الجهات التي يقع فيها الثبات) :
إن أماكن وجهات التثبيت والثبات متعددة في المسلم منها:
المطلب الأول: الثبات في العقل
العقل معمل التفكير والفهم والتنقيح والاختيار والتذكر وغيرها والناس يختلفون في هذه القدرات ومنها التثبت يقال: (الرجل الثبيت الثابت العقل) (1) وضده من ترتج عليه الأمور فلا يستطيع التمييز ولا الاختيار وقت الشدة أما (الثابت التام العاقل فإنه لا تستفزه البداآت ولا تزعجه وتقلقه، فإن الباطل له دهشة وروعة في أوله، فإذا ثبت له القلب رد على عقبيه، والله يحب من عنده العلم والأناة، فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه، ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه، فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداآت استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمد أمره، ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي الفوت فإنه لا يخاف من التثبيت إلا الفوت، فإذا اقترن به العزم والحزم تم أمره،
__________
(1) مختار الصحاح \ الرازي: 1 \ 35.
(73/339)
ولهذا في الدعاء. الذي. . . عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد (1) » وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح وما أوتي العبد إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أوتي أحد إلا من باب العجلة والطيش، واستفزاز البداآت له أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولا والعزيمة ثانيا أفلح كل الفلاح) (2) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) مفتاح السعادة، ابن القيم: 1 \ 142.
(73/340)
المطلب الثاني: الثبات في النفس
النفس الثابتة هي المطمئنة المؤمنة الذي استقر فيها الإيمان بثواب الله - عز وجل - فهي غير شاكة أو ظانة بل مصدقة به كأنها تراه أمامها، عكس الكافر أو المنافق.
قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} (1) .
يقول القرطبي: " تثبيتا أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك، وقيل تثبيتا من أنفسهم أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب " (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 265
(2) تفسير القرطبي، 3 \ 315.
(73/340)
وقال السيوطي: " وتثبيتا من أنفسهم. . . تصديقا ويقينا " (1) .
فالنفوس المطيعة المتذللة لله - عز وجل - يثبتها - سبحانه - على الطاعة وعلى التصديق واليقين بوعده - سبحانه -.
يقول ابن تيمية: " وقوله من أنفسهم أي ليس المقوى له من خارج كالذي يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له " (2) فإن الروح غالية وكذلك المال فيمنع الله بفضله وكرمه المؤمن في البخل والشح - طلبا للأجر - تحتسب ما عنده فتبذله رخيصا لا تتبعه منة ولا أذى لكن التثبيت على الإنفاق نابع من نفس المؤمن ذاته.
قال قتادة: " تثبيتا من أنفسهم احتسابا من أنفسهم، وقال
__________
(1) الدر المنثور، السيوطي: 2 \ 46.
(2) مجموع الفتاوى \ ابن تيمية: 14 \ 95.
(73/341)
الشعبي: يقينا وتصديقا من أنفسهم، وكذلك. . قيل يخرجون الصدقة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه، قلت: إذا كان المعطي محتسبا للأجر عند الله مصدقا بوعد الله له طالب من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه " (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 14 \ 331.
(73/342)
المطلب الثالث: الثبات في القلب
القلب مكان البصيرة وإن كان صاحبه أعمى العينين، ومكان التقوى، فإذا ثبت تبعته الجوارح جميعها بلا استثناء ولا شك فالقلب السليم هو: المستقيم الثابت القدم الثابت الجنان (1) قال الله - عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (2) .
و (معنى تثبيت الفؤاد تسكين القلب) (3) .
فالقلب الساكن الثابت على الدين نعمة عظيمة، والويل لصاحب قلب متقلب لا يثبت على حق ولا طاعة بل هو متذبذب بين الشهوات والشبهات، متنقل بين المعاصي وموبقات الشرك والكفر وحفر النفاق - عياذا بالله -.
__________
(1) انظر: الفائق في غريب الحديث \ الزمخشري: 4 \ 72.
(2) سورة هود الآية 120
(3) لسان العرب \ ابن منظور: 2 \ 19.
(73/342)
قالت أم سلمة: «كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: قلت يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال: " يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ فتلا معاذ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (2) » .
فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضلهم المعصوم من الكبائر والإصرار على الصغائر كان يكثر من هذا الدعاء فما يصنع غيره من البشر، خصوصا في هذا الزمان الذي يكون فيه زيادة على التقليب السرعة في التقليب.
__________
(1) أخرجه الترمذي: 5 \ 538، وقال: '' حديث حسن ''، وأحمد: 3 \ 112، والحاكم: 1 \ 706، وقال: '' حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. . . '' وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 \ 120، 10 \ 176: (عند الترمذي بعضه رواه أحمد وإسناده. . رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه: 2 \ 1260.
(2) (1) سورة آل عمران الآية 8
(73/343)
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا (1) » .
وعن عائشة قالت: «ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء إلا قال: يا مصرف القلوب ثبت قلبي على طاعتك (2) » .
(يا مقلب القلوب أي: مصرفها تارة إلى الطاعة، وتارة إلى المعصية، وتارة إلى الحضرة، وتارة إلى الغفلة، ثبت قلبي على دينك، أي: اجعله ثابتا غير مائل عن الدين القويم والصراط المستقيم، فقلت: يا نبي الله آمنا بك أي بنبوتك ورسالتك وبما جئت به من الكتاب والسنة فهل تخاف علينا؟ يعني أن قولك هذا ليس لنفسك؛ لأنك في
__________
(1) أخرجه مسلم: 1 \ 110.
(2) أخرجه النسائي: 6 \ 83، وأحمد: 2 \ 173، والهيثمي في مجمع الزوائد 210، وقال: (رواه أحمد وفيه مسلم بن محمد بن زائدة، قال بعضهم: وصوابه صالح بن محمد بن زائدة وقد وثقه أحمد وضعفه أكثر الناس وبقية رجاله رحال الصحيح)
(73/344)
عصمة من الخطأ والزلة خصوصا من تقلب القلب عن الدين والملة، وإنما المراد تعليم الأمة فهل تخاف علينا من زوال نعمة الإيمان أو الانتقال من الكمال إلى النقصان، قال: نعم، يعني أخاف عليكم يقلبها أي القلوب كيف شاء مفعول مطلق أي تقليبا يريده. . . " (1) .
وفي هذا الحديث إشارة إلى إثبات صفة التقليب لله - عز وجل - وأصل التقليب تغيير من حال إلى حال وتقليب القلوب والبصائر صرفها من رأي إلى رأي، وهذه الصفة من الصفات الفعلية ومرجعها إلى القدرة ففيه الرد على المعتزلة حيث فسروا الآية بمعنى الطبع، والطبع عندهم الترك فالمعنى عندهم: نتركهم وما اختاروا لأنفسهم، وليس هذا معنى التقليب في لغة العرب فلا يصح تفسير الطبع بالترك، فالصواب أن الطبع كما قال أهل السنة والجماعة: خلق الكفر في قلب الكافر واستمراره عليه إلى أن يموت (2) .
__________
(1) تحفة الأحوذي \ المباركفوري: 6 \ 291.
(2) انظر: كتاب التوحيد، للإمام البخاري، شرح أبي محمد عبد الواحد الهاشمي، 52 ط2، 1404هـ.
(73/345)
المطلب الرابع: الثبات في اللسان
الثبات عاقل للسان حاجز له عن الزلل في وقت الغضب وغيره - بإذن الله - وزلل اللسان ليس بالأمر الهين فكم رأس طارت بسبب كلمة وكم رقبة قطعت بسبب زلة لسان صاحبها.
فالصمت حكمة وكذلك هو دليل على الثبات ورباطة الجأش (1) .
فرجل (ثبت الغدر إذا كان ثابتا في قتال أو كلام، وفي الصحاح إذا كان لسانه لا يزل عند الخصومات) (2) .
عن علي رضي الله عنه - قال: «عندما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حدث لا أبصر القضاء قال: فوضع يده على صدري وقال: اللهم ثبت لسانه واهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، قال: فما اختلف علي القضاء بعد أو ما أشكل علي قضاء بعد (3) » .
__________
(1) انظر عون المعبود \ الطيب آبادي: 7 \ 229
(2) المغرب \ المطرز: 1 \ 112.
(3) أخرجه أحمد: 1 \ 111، والبزار في مسنده 3 \ 156.
(73/346)
(إن النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا له بتثبيت اللسان والقلب لم يرد ألا يزل أبدا ولا يسهو ولا ينسى ولا يغلط في حال من الأحوال، لأنها لا تكون لمخلوق وإنما هي من صفات الخالق سبحانه جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز من أن يدعو لأحد بألا يموت، وقد قضى الله تعالى الموت على خلقه بألا يهرم إذا عمره وقد جعل الهرم في تركيبه وفي أصل جبلته) (1) .
إن ثبات اللسان واللين في القول من النعم التي يغبط عليها؛ لأن اللجاجة وسرعة الإجابة والعجلة في القول تعد من المثالب وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني.
__________
(1) تأويل مختلف الحديث \ ابن قتيبة: 1 \ 158.
(73/347)
المطلب الخامس: الثبات في الأقدام
لا تقوم حياة الإنسان إلا على ثبوت قدميه سواء في أموره العامة أو الدينية، والتي يعد ثبات الأقدام فيها أمرا مهما، مثل: مواطن الحرب، وكذلك البعد عن المعاصي؛ لأن الانزلاق إليها هو الهلاك بعينه.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 147
(73/347)
وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1) ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (3) .
والثبوت في هذه الآيات له ثلاثة معان هي:
أ - ثبوت الأرجل: وهو ثبوت حقيقي للأرجل.
قال البغوي: (إن الله قد أنزل مطرا ثبت به الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض) (4) .
وقال الطبري: (وأما قوله وثبت أقدامنا فإنه يقول اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم) (5) .
وكذلك قال القرطبي (ويثبت أقدامكم أي: عند القتال) (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 250
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الأنفال الآية 11
(4) تفسير البغوي: 2 \ 234، وانظر تفسير الطبري: 9 \ 196، وأخرج البخاري حديثا بهذا المعنى 4 \ 1455.
(5) تفسير الطبري: 4 \ 126.
(6) تفسير القرطبي: 16 \ 232.
(73/348)
فهو ثبوت الأرجل وقت الحرب فلا تنزلق في الرمال، أو تهرب مبتعدة عن القتال وهذا هو الفرار من الزحف.
ب - ثبوت القلب:
وقيل، إن المقصود بثبوت الأقدام هو القلب؛ لأنه إذا ثبت القلب وسكن واستقر تبعته الجوارح وبالذات الأرجل فتحل السكينة على العبد.
يقول البغوي: " وقيل يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب " (1) .
فالمقصود به قوة القلب وشجاعته.
فثبت أقدامنا: شجع قلوبنا وقوها حتى لا نفارق مواطن القتال منهزمين (2) .
(وقو قلوبنا على جهادهم لتثبت أقدامنا فلا ننهزم عنهم) (3) .
(وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب) (4) .
وقال القرطبي: (وثبت أقدامنا. . قيل المراد تثبيت القلوب بالأمن فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب) (5) .
__________
(1) تفسير البغوي: 2 \ 234.
(2) التبيان في تفسير غريب القرآن 1 \ 135.
(3) تفسير الطبري: 2 \ 125.
(4) زاد المسير \ ابن الجوزي: 1 \ 299.
(5) تفسير القرطبي: 16 \ 232.
(73/349)