وذلك لأنها عنده محتملة للغلط والتحريف، فلا يوثق بها، ولذلك قال في حديث النزول الذي نص العلماء على تواتره:
" إن الحديث وإن رواه الأثبات ونقله بالثقات فلم يجمع أهل الصنعة على صحته على معنى أنه منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا، وإنما انكف أهل التعديل عن التعرض للحديث الذي نقلوه من حيث لم يظهر لهم ما يتضمن مطعنا وقدحا في النقلة، وهم مع ذلك يجوزون على رواة الخبر أن يزلوا ويغلطوا، ولا يوجبون لهم العصمة. . . " (1) .
ومنهم الرازي، الذي حكم بعدم جواز التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى (2) .
وهذا القول مردود فإن الحديث إذا ثبتت صحته برواية الثقات، ووصل إلينا بطريق صحيح فإنه يجب الإيمان به وتصديقه سواء كان خبرا متواترا أو آحادا وأنه يوجب العلم اليقيني، وهذا هو مذهب علماء سلفنا الصالح، استدلالا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3)
__________
(1) الشامل للجويني ص (557، 558) .
(2) انظر: أساس التقديس ص (215) .
(3) سورة الأحزاب الآية 36(68/266)
وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (1) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - " قد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول " (2) .
سأل رجل الإمام الشافعي عن مسألة فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟
فقال: سبحان الله! أتراني في بيعة تراني على وسطي زنار (3) ؟ أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟ (4) . وقال الإمام أحمد: " كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) فلم يشترطوا إلا صحة الخبر، ولم يفرقوا بين خبر الواحد والخبر المتواتر.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 32
(2) فتح الباري (13 \ 234) .
(3) الزنار: هو ما يلبسه المجوسي والنصراني ويشده على وسطه. لسان العرب (4 \ 330) .
(4) انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2 \ 350) ، وشرح الطحاوية ص (399) لابن أبي العز.
(5) سورة الحشر الآية 7(68/267)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: السنة إذا(68/267)
ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها " (1) .
وقال ابن القيم في رده على من ينكر حجية خبر الواحد: " ومن هذا أخبار الصحابة بعضهم بعضا فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر. . . وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين، كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وضحكه وفرحه وإمساك السماوات على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له - من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ولم يرتب فيها حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام. . . ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر
__________
(1) مجموع الفتاوى (19 \ 85) .(68/268)
من مائة موضع، فهذا الذي اعتمده نفاه العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك، بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، وممن نص على " أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم " (1) .
فالذين ردوا خبر الآحاد قولهم مناف للحق والصواب، والشبه التي استدلوا شبه واهية، دلت الأدلة على بطلانها.
ومن شبههم التي قالوها: زعمهم أن خبر الآحاد يفيد الظن لجواز الخطأ والغفلة والنسيان على الواحد، وعلى هذا فلا يجوز الأخذ بخبر الواحد في العقيدة لأن العقيدة مبناها على اليقين لا على الظن، واستدلوا على ذلك ببعض الآيات التي تنهى عن اتباع الظن.
منها: قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (2) فالجواب عن هذه الشبهة بأن نقول: احتجاجهم بهذه الآية وأمثالها مردود؛ لأن الظن هنا ليس هو الظن الغالب الذي عنوه وإنما هو الشك والخرص والتخمين الذي يعرض لك في
__________
(1) مختصر الصواعق (2 \ 361، 362) .
(2) سورة النجم الآية 28(68/269)
شيء فتحققه وتحكم به " (1) .
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (2) أي: ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع. . . {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (3) أي: لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (4) » (5) .
فالشك والكذب هو الظن الذي ذمه الله تعالى ونعاه على المشركين ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هم إلا يخرصون} (6) فوصفهم بالظن والخرص الذي هو مجرد الحزر والتخمين، وإذا كان الخرص والتخمين هو الظن فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام (7) ؛ لأن الأحكام لا تبنى على الشك والتخمين. وعلى هذا فيلزمكم رد هذه الأحاديث في الأحكام، لأن التفريق بين العقائد والأحكام تفريق بين أمرين متلازمين متماثلين، وهو كالجمع بين المتناقضين، والترجيح بلا مرجح، وهو محال.
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3 \ 162، 163) .
(2) سورة النجم الآية 28
(3) سورة النجم الآية 28
(4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب (4 \ 1985) . من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(5) تفسير ابن كثير (4 \ 229) .
(6) سورة الأنعام الآية 116
(7) انظر: العقيدة في الله لعمر سليمان الأشقر، ص (48، 49) .(68/270)
وأما ما قيل من احتمال غفلة الراوي ونسيانه فيرده ما يشترط في خبر الواحد من كون كل راو من الرواة ثقة ضابطا، فمع صحة الحديث لا مجال لتوهم خطأ الراوي ومع ما جرت به العادة من أن الثقة الضابط لا يغفل ولا يكذب لا مجال لرد خبره لمجرد احتمال عقلي تنفيه العادة.
ثم نقول أيضا: وعلى فرض أنه مظنون فقد علم وجوب العلم به بالإجماع القاطع (1) .
ثم المراد بالظن المذموم هو الذي لا دليل على العمل به، وهو الذي من قبيل الوهم والتخرص، فهذا يعمل به (2) .
ومن شبههم احتجاجهم ببعض الأحاديث والآثار التي قد يفهم من ظاهرها عدم الأخذ بخبر الواحد، كحديث ذي اليدين، وحديث عمر رضي الله عنه في رد خبر أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في الاستئذان، حتى شهد له أبو سعيد الخدري (3) ، ونحو ذلك من الآثار (4) .
__________
(1) انظر: لوامع الأنوار (1 \ 19) .
(2) انظر: أخبار الآحاد للشيخ ابن جبرين ص (114) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان (7 \ 130) ، ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب (3 \ 1694) .
(4) انظر: المعتمد في أصول الفقه (2 \ 623) ، المحصول (2 \ 543) .(68/271)
والجواب عن ذلك أن يقال: إن جميع من ذكروا أنهم ردوا خبر الواحد قد ثبت عنهم في وقائع أنهم قبلوه، وهذا يدل على أن عدم أخذهم به في هذه الحادثة المعينة لسبب يوجب الرد أو التوقف، وليس لكونه خبر واحد.
فرد النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين؛ لأنه عارض ما اعتقده من تمام الصلاة، ولظنه خلاف ما أخبر به، وذلك لتفرده بهذا القول دون من حضر الصلاة من المأمومين، ولكن بعد أن وافقه غيره من الصحابة وارتفع الوهم عنه صلى الله عليه وسلم عمل به، وظهور أمارة الوهم في خبر الواحد توجب التوقف في قبوله (1) .
وأما سبب رد عمر لخبر أبي موسى فقد صرح به بقوله: " أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
والمقصود: بيان أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتوقفوا في قبول خبر الواحد والاحتجاج به وأن ما نقل من الوقائع التي فيها رد بعضهم لخبر الواحد لم يكن سبب ذلك أنه واحد، بل لأسباب أخرى كالاحتياط، أو ظن الخطأ، أو زيادة التثبت، أو غير ذلك.
ثم إن هذه الوقائع التي رد فيها خبر الواحد نرى أنه قد قبل
__________
(1) انظر: الإحكام للآمدي (1 \ 69) ، فتح الباري (13 \ 237) .(68/272)
خبره بانضمام ثان إليه، أو ثالث، وهذا لا يخرجه عن كونه آحادا، فثبت عملهم بأخبار الآحاد (1) .
فقول أهل الكلام: إن أحاديث الآحاد لا يستفاد منها عقيدة ولا علما قول باطل، دلت الأدلة على خلافه.
وبهذا يتبين أن الحق هو الأخذ بخبر الواحد الصحيح والعمل به، وليس هناك دليل صحيح عند أهل الكلام يصلح للتمسك به في رد خبر الواحد، يقول ابن دقيق العيد - رحمه الله -: " وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجه عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك " (2) .
__________
(1) انظر: الرسالة للشافعي ص (187) ، روضة الناظر ص (97) ، والمحصول (2 \ 1 \ 553) .
(2) انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص (49) ، فقد نقل ذلك عنه.(68/273)
المبحث الخامس: الآثار السيئة المترتبة على عدم الأخذ بأخبار الآحاد في العقيدة:
رد أخبار الآحاد وعدم الأخذ بها في العقيدة له آثار سيئة ونتائج وخيمة، يمكن إيجازها فيما يلي:
أ - أن الطعن في رواية هذه الأخبار ورواياتهم يلزم منه الطعن في الشريعة، وذهاب الدين؛ لأن رواة هذه الأخبار هم رواة الأحكام، وعليهم الاعتماد في بيان الحلال والحرام في الدين ونقل مسائل الدين (1) .
يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى - بعد أن قرر وجوب الأخذ بأخبار الآحاد الصحيحة في العقيدة:
" وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد، ولا يثبت بها شيء من صفات الله، زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين، وأن العقائد لا بد فيها من اليقين، باطل لا يعول عليه، ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد
__________
(1) انظر: تحريم النظر في كتب أهل الكلام ص (39) .(68/274)
الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل " (1) .
ب - أن رد أخبار الآحاد الصحيحة والتشكيك في صحتها وضبط رواتها فيه مخالفة لحكم الحفاظ عليها بالصحة، وعلى رواتها بالإتقان والعدالة، وما كان مخالفا لأقوال أئمة الحديث فيجب اطراحه وعدم النظر فيه (2) .
ج - أن رد أخبار الآحاد الصحيحة في مجال العقيدة، وقبولها في مجال الشريعة، تناقض واضح، فإما أن تكون مشكوكا فيها وباطلة، فتطرح كلها وهذا باطل، وإما أن تكون صحيحة مقبولة فيؤخذ بها كلها وهو الحق الذي يجب الأخذ به.
د - أن تقرير أهل الكلام لهذه القاعدة الفاسدة جعلهم يردون أخبارا متواترة تخالف مذهبهم، زاعمين أنها أخبار آحاد، وما كان كذلك فلا يؤخذ به، ولا يحتج به في العقائد، كما ردت المعتزلة الأخبار الواردة في الشفاعة، والرؤية وغيرها بهذه الحجة، (3) بل ومسائل أخرى كثيرة ردها أهل الكلام؛ لأنها تخالف ما قرروه واعتقدوه، منها:
__________
(1) مذكرة في أصول الفقه ص (105) .
(2) انظر: تحريم النظر في كتب أهل الكلام ص (39، 38) .
(3) انظر: شرح الأصول الخمسة ص (690 - 269 - 672) .(68/275)
- معجزاته صلى الله عليه وسلم كلها ما عدا القرآن.
- كيفية بدء الخلق وصفة الملائكة والجن، وصفة الجنة والنار مما لم يذكر في القرآن الكريم.
- سؤال منكر ونكير في القبر.
- الصراط والحوض والميزان ذو الكفتين.
- الإيمان بأن الله تعالى كتب على كل إنسان سعادته وشقاوته ورزقه وأجله وهو في بطن أمه.
- القطع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة.
- الإيمان بمجموع أشراط الساعة كخروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وخروج النار وطلوع الشمس من مغربها والدابة وغير ذلك.
ثم إنه ليس أدلة جميع هذه العقائد التي قالوا هي ثابتة بخبر الواحد، ليست أدلتها أحاديث آحاد، بل منها ما دليله أحاديث آحاد متواترة ولكن قلة علم هؤلاء المنكرين لحجية خبر الآحاد جعلهم يردون كل هذه الأحاديث.(68/276)
الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيمكن إيجاز أهم ما توصلت إليه في هذا البحث ما يلي:(68/276)
1 - وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقيدة وغيرها للأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة التي توجب الأخذ بخبر الواحد والعمل به.
2 - إجماع السلف الصالح رحمهم الله تعالى على الأخذ بخبر الواحد والعمل به.
3 - بطلان قول المتكلمين أن أخبار الآحاد لا تقبل في مسائل العقيدة؛ لأنها ظنية ومتناقضة ومخالفة لمنهج السلف.
4 - أن رد خبر الآحاد وعدم الأخذ به يترتب عليه آثار سيئة من الطعن في رواة الحديث ورد كثير من مسائل العقيدة الثابتة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الطريق.
وأخيرا، أحمد الله تعالى وأشكره الذي أعانني على إتمام هذا البحث وإخراجه بهذه الصورة التي أسأل الله تبارك وتعالى أن أكون قد وفقت فيه إلى الحق والصواب، وهو منه سبحانه وتعالى لا شريك له.
كما أسأله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/277)
صفحة فارغة(68/278)
علم الكلام والتأويل وأثرهما على العقيدة الإسلامية
للدكتور: إبراهيم بن محمد البريكان (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن موضوع علم الكلام والتأويل من الموضوعات المهمة في علم العقيدة وذلك لما يترتب عليهما من السلبيات والمفاسد على عقيدة الإسلام؛ ونظرا لكثرة الخلط فيهما - سواء الخلط بين علم التوحيد وعلم الكلام أو الخلط بين معنى التأويل عند المتأخرين والتأويل في الكتاب والسنة وعند السلف - ونظرا لما بين علم الكلام والتأويل من صلة - حيث إن الأول مترتب على الثاني - جعلتهما في بحث واحد ورأيت أن أكتب هذا البحث الذي يسفر عن الفرق بينهما حتى يوضع الحق في مكانه ويحكم على كل واحد منهما بما يناسبه فلا اختلاط بين حق وباطل، ولا بين صحيح وفاسد. . .
__________
(1) الأستاذ المشارك في كلية المعلمين بالدمام.(68/279)
هذا وأرجو من الله التسديد فيما كتبته والتوفيق فيما أردته فهو نعم المولى ونعم النصير،،
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/280)
علم الكلام والتأويل وأثرهما على العقيدة الإسلامية:
تعريف علم الكلام:
عرفه صاحب المواقف (بعلم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه) .
وهو على هذا في معنى علم العقيدة حيث عرفوا علم العقيدة بأنه " علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية ودفع الشبه وقوادح الأدلة الخلافية " وأول من سمى علم العقيدة بعلم الكلام هم المعتزلة في عصر المأمون، قال الشهرستاني: " ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام وأفردتها فنا من فنون العلم وسمتها باسم الكلام ". وبنوع تأمل في كلام أهل العلم يعلم يقينا أنهما علمان متغايران؛ وذلك لأن علم الكلام مذموم عند السلف، وأما علم العقيدة فممدوح عندهم، من هنا يعلم أنه ثمت فرق بينهما(68/280)
ويمكن حصره بأن علم العقيدة يعتمد في إثبات العقائد على الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة ومعقولهما، أما علم الكلام فهو يعتمد على الدلائل العقلية المنطقية، كما أنه مشتمل على الألفاظ البدعية والمعاني المجملة التي لا تتعين للدلالة على الحق، كما أن علم العقيدة أداة للمحق على المبطل، وأما علم الكلام فهو أداة للمحق والمبطل وإن كان هو بالمبطل أخص.
وبذا يعلم أن الأولى به أن يعرف بأنه (علم يقتدر به على المخاصمة والمناظرة والمجادلة في العقائد بإيراد الحجج والشبه ودفع إيرادات الخصوم) (1) . وهو بذلك أقرب إلى الجدل المذموم شرعا وهو (مراء متعلق بإظهار المذاهب والانتصار لها) .
وعلم الكلام علم نشأ بين المسلمين نتيجة التأثر بآراء الفلاسفة وأفكارهم فهو خليط من الحق والباطل والضلالة والهدى، ولا يكون الشخص رأسا فيه إلا بالعلم بالمنطق والفلسفة، يقول مسعود التفتازاني: " والمشهور أن يقع المنطق في طريق الخدمة والآلة فليسم خادم العلوم ويقع الكلام في علوم الإسلام بطريق الإحسان فليسم رئيسا لها، ولقائل أن يقول: الفرق غير ظاهر، فإن نفع الأول باعتبار الدلائل، ونفع الثاني باعتبار المواد، وكان الفرق أن الكلام مقصود أصلي بنفسه فله رفعة وعلو الشأن فنفعه بطرق الإفاضة كعناية السلطان، بخلاف المنطق منفعته كخدمة الخادم، وأيضا في
__________
(1) قارن مقدمة ابن خلدون المقدمة (1 \ 458) ، أبجد العلوم (2 \ 440) .(68/281)
الكلام بيان موضوعات العلوم فنفعه فيها نفع ذاتي ضروري، بخلاف المنطق فإن نفعه باعتبار الدلائل التي تستغني العلوم عنها بالنظر إلى النفوس القدسية " (1) . ويقول أيضا: " إلا أن المتأخرين لما رأوا أنه نقلت الفلسفة إلى العربية فحاولوا الرد عليهم فخلطوا بالعقائد الدينية مسائلها " (2) .
__________
(1) الدر النضيد ص (147) والمراد بالنفوس القدسية الأنبياء والملائكة.
(2) الدر النضيد ص (146) .(68/282)
سبب تسميته بعلم الكلام:
وإنما سمي علم الكلام بهذا الاسم لعدة اعتبارات منها:
1 - لدخول علم المنطق في مباحثه، قال في الدر النضيد: " وإنما سمي الكلام به؛ لأنه بإزاء علم المنطق للفلاسفة " والمعنى: أن الفلاسفة سموا علمهم علم المنطق، والمتكلمون سموا علمهم هذا علم الكلام.
2 - لكثرة الكلام فيه بإيراد الحجج والاعتراض عليها وذكر الشبه والاعتراض على أجوبتها.
3 - لأن أهم مباحثه وأكثرها هو البحث حول صفة الكلام.
وبذا يظهر أن العقيدة متى سلمت من المباحث المنطقية والفلسفية فهي علم عقيدة، ومتى صيغت بالمنطق والفلسفة في الدلائل والمسائل فهي علم الكلام.(68/282)
الفرق بين علم الكلام وعلم التوحيد والعقيدة:
ويتبين ذلك من الوجوه التالية:(68/282)
1 - علم التوحيد يعتمد على الكتاب والسنة وإجماع السلف والمعقول الصحيح المستند إليها، وأما علم الكلام فيعتمد على الألفاظ المنطقية والأقيسة العقلية، فهو علم متأثر بعوامل خارجة عن دلالة الكتاب والسنة.
2 - علم التوحيد علم شرعي لا بدعة فيه، وعلم الكلام علم مبتدع لم يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون ولا تابعوهم بإحسان إلى يوم الدين - رحمهم الله -.
3 - علم التوحيد لا يشتمل على لفظ بدعي ولا مصطلح فلسفي، وأما علم الكلام فإنه يشتمل على كثير من الألفاظ البدعية والمصطلحات المنطقية والآراء الفلسفية.
4 - أصل علم التوحيد موجود في العصور المفضلة - القرون الثلاثة - وأما علم الكلام فليس كذلك بل هو علم حادث نتيجة مؤثرات بسبب ترجمة كتب المنطق والفلسفة.
5 - آثار علم التوحيد محمودة، وأما آثار علم الكلام فمذمومة.
6 - أن علم التوحيد أداة للمحق على الباطل وذلك بإظهاره لباطله، وأما علم الكلام فهو أداة للمحق والمبطل وهو إلى المبطل أقرب.
7 - أن علم التوحيد يثبت الحق بدليله من الكتاب والسنة وإجماع السلف وتزيد العقيدة دفع الباطل والإجابة عن شبهات أهل البدع، وأما علم الكلام فهو المجادلة بالأدلة العقلية المنطقية التي ربما رد بها الحق ونصر الباطل.(68/283)
8 - أن المجادلة في علم التوحيد والعقيدة تكون بالتي هي أحسن ومقصودها طلب الحق، وأما في علم الكلام مقصودها نصرة القول وإثباته سواء كان حقا أو باطلا وفيه يكره كل من المتناظرين انتصار صاحبه ويرغب في خطئه.(68/284)
حكم تعلم علم الكلام:
افترق الناس في حكم تعلمه إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: جمهور علماء الكلام يقولون: إنه من فروض الكفايات وتأثم الأمة إن لم يوجد فيها من يعلمه وتقوم به الكفاية؛ لترتب صحة العقائد على العلم به؛ ولأن اليقين لا يحصل إلا به ولا يمكن الخروج من التقليد في العقائد إلا به.
الطائفة الثانية: السلف فقد حرموه وذموا العلم به، وعليه فهو ليس من دين الإسلام ولا يتوقف على العلم به شيء من العقائد الإسلامية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - أن الشرع لم يدل عليه ولم يأمر بسلوكه ولم يترتب عليه شيء من عقائده.
2 - أن الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يعرفونه والأمة مجمعة على صحة إيمانهم وكمال يقينهم مما يدل على أن وجوده لا يترتب عليه إيمان ولا يترتب على عدمه كفر.
3 - أنه اشتمل على كثير من البدع في الألفاظ والمعاني والمسائل(68/284)
والدلائل وكل بدعة ضلالة.
4 - ضلال من سلكه وميله عن الحق وضياعه في متاهات المذاهب الفاسدة والآراء الدخيلة على الإسلام.
5 - رجوع كثير من علماء الكلام عنه وبيانهم لفساده وتحذيرهم لطلابهم من سلوكه.
6 - إقرار علماء الكلام بأن جذوره ليست إسلامية المنشأ، يقول مسعود التفتازاني: " اعلم أن تلك المبادئ ليست مخالفة للشرع أو العقل، لكنها مما استخرجها الفلاسفة أولا ودونها في علومهم التي بعض مسائلها لا تطابق الشرع وإن لم يقصدوا المخالفة ثم تبعهم المتكلمون، ودعوى أن المتكلمين استخرجوها من عند أنفسهم بلا أخذ مكابرة (1) ، فهم ألبسوا الشريعة لباس زور.
7 - أن في كتاب الله وسنة رسوله ودلالتهم اللغوية والشرعية الكفاية لتحصيل ما يجب على العباد من العقائد الإسلامية، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (2)
8 - ما عرف عن كبرائهم من التنقل من قول إلى قول وعدم الثبات على شيء، نتيجة لفساد فطرتهم بكثرة الإيرادات والشبهات التي ترد على آذانهم، حتى إن الابن ليكفر أباه والأب يكفر ابنه كما حصل من أبي هاشم لابنه ومن ابنه له.
__________
(1) الدر النضيد ص (145) .
(2) سورة الحشر الآية 7(68/285)
رأي الإمام الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي في علم الكلام:
هذا وقد جعل السفاريني علم الكلام على قسمين:
القسم الأول: علم الكلام المذموم وعرفه بقوله: فعلم الكلام الذي نهى عنه أئمة الإسلام هو العلم المشحون بالفلسفة والتأويل والإلحاد والأباطيل وصرف الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة والأخبار النبوية عن حقائقها الباهرة (1) . ا. هـ. كلامه رحمه الله.
وقد جاء ذلك في جواب إشكال أورده محصله في قوله:
فإن قلت: إذا كان علم الكلام بالمثابة التي ذكرت والمكانة التي عنها برهنت، فكيف ساغ للأئمة الخوض فيها والتنقيب عما يحتويها، ثم أنك أتيت ما عنه نهيت وحررت ما عنه نفرت، وهل هذا في بادئ الرأي
__________
(1) لوامع الأنوار البهية (1 \ 110، 111) .(68/286)
إلا مدافعه وجمع للشيئين الذين بينهما تمام ممانعة ا. هـ كلامه رحمه الله.
القسم الثاني: علم الكلام الممدوح وعرفه بقوله: دون علم السلف، ومذهب أهل الأثر، وجاء في الذكر الحكيم وصحيح الخبر، فهذا لعمري ترياق القلوب الملسوعة بأرقام الشبهات، وشفاء الصدور المصروعة بتراجم المحدثات، ودواء الداء العضال وبازهم السم القتال، فهو فرض عين أو عيني فرض على كل نبيه وهو العلم الذي تعقد عليه الخناصر لدحض حجة كل متحزلق وسفيه (1) ا. هـ كلامه رحمه الله.
قلت: ونحن لا نتراضى هذا الجواب إذ من خلاله تختلط الحقائق ويوسم الحق بسمة الباطل ويسمى باسم نشأ في الباطل وتغذى بأوحاله حتى غدا اسم علم الكلام كالعلم عليه وعند الإطلاق لا ينصرف إلا إليه، والسلف تكلموا في العقائد بناء على الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة ولم يسموا علمهم بعلم الكلام ولا جعلوا ذلك علما على علمهم، مما يدل على أنهم لا يرضون هذه التسمية ولا يقبلون التسمية بها، وفيما ورد في الحديث والأثر من تسمية علمهم علم التوحيد والعقيدة والسنة والفقه الأكبر ونحو ذلك كفاية لمن رام طلب التسمية، وهي على الحق ظاهرة وللحق خالصة. يقول أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: فعلم أن
__________
(1) لوامع الأنوار البهية (1 \111) .(68/287)
حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام في الأدلة التي ينتفع بها كالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنه فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وأما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيان تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين، ولم يكن شيئا منها مألوفا في العصر الأول فكان الخوض فيها بالكلية من البدع (1) ا. هـ.
وبناء على ذلك فلا بد من التمييز بين الحق والباطل فيه، وتحرم تسمية الحق بعلم الكلام لما فيه من تزوير الحقائق وإطلاق اسم الباطل على الحق.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (3 \ 388) طبعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى(68/288)
بعض أقوال السلف في ذم علم الكلام:
وقد تطورت الأقاويل عن السلف في ذم الكلام وأهله ونحن نذكر جملة منها تفي بالمقصود من هذا البحث وهي:
1 - قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة لبشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل زنديق أو رمي بالزندقة (1) قال شارح الطحاوية: أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته فإن ذلك علم نافع أو أراد به الإعراض عنه أو ترك الالتفات إلى اعتباره، فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله
__________
(1) شرح الطحاوية ص (15، 16) طبعة مكتبة الرياض الحديثة.(68/288)
فيكون علما بهذا الاعتبار (1) .
وقال أيضا: من طلب العلم بالكلام تزندق (2) .
2 - قال الإمام الشافعي رحمه الله حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ومما أثر عن الشافعي من النظم في ذلك قوله:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين
3 - وقال الإمام أحمد بن حنبل: " لا تجالس أصحاب الكلام وإن ذب عن السنة فإنه لا يئول أمره إلى خير. وقال: إذا رأيت الرجل يحب الكلام فاحذره. وقال: من تعاطى الكلام لم يفلح، ومن تعاطى الكلام لم يخل من أن يتجهم (3) .
4 - قال عبد الملك بن الماجشون: إياك والكلام، فإن لآخره أول سوء (4) .
5 - قال أبو محمد البربهاري: " اعلم أنه لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا بسب
__________
(1) شرح الطحاوية ص (15، 16) طبعة مكتبة الرياض الحديثة.
(2) شرح الطحاوية ص (15، 16) طبعة مكتبة الرياض الحديثة.
(3) الإبانة لابن بطة (2 \ 538 - 540) .
(4) الإبانة لابن بطة (2 \ 536) .(68/289)
الكلام وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة والعجب وكيف يجتري الرجل على المراء والخصومة والجدل والله يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) فعليك بالتسليم والرضا بالآثار والكف والسكوت " (2) .
__________
(1) سورة غافر الآية 4
(2) شرح السنة للبربهاري ص 38 فقرة 61.(68/290)
رأي الشاطبي في علم الكلام:
يرى الشاطبي أن علم الكلام ليس ببدعة في الشرع وأن له في الشريعة أصلا ففي الحديث ما يدل عليه، على شرعيته على الخصوص ولم يذكره، ووجهه يدل عليه قوله رحمه الله: " وكذلك أصول الدين وهو علم الكلام إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به " (1) ا. هـ كلامه، وبيانه أن علم الكلام في نظره داخل في عموميات مدح العلم الشرعي والأمر به، لأنه على حد قوله رحمه الله: فعلى القول بإثباتها أصلا شرعيا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزء واحد فليست ببدعة (2) وذلك في جواب سؤال قال فيه: فإن قيل:
فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع ا. هـ كلامه إشارة إلى
__________
(1) الاعتصام للشاطبي (1 \ 26) .
(2) الاعتصام للشاطبي (1 \ 26) .(68/290)
علوم الشريعة من الفقه والتفسير والأصول، ومنها علم الكلام في نظره وإن قدر عدم وجود الدليل من القرآن والسنة فإنها داخلة في مسمى المصلحة المرسلة، فهي على حد قوله: ليست بمأخوذة من جزء واحد فليست ببدعة البتة (1) ا. هـ كلامه.
قلت: ما قاله رحمه الله فيه نظر، وذلك أن علم الكلام مما حدث بعد العصور المفضلة ولم يعلم دليل خاص ولا عام من الشرع في الدلالة عليه أو الأخذ به ووجود بعض الحق فيه مختلطا بكثير من الباطل لا يدل على صحة الاعتماد عليه في إثبات العقائد لكن يجب التمييز بين ما هو حق وباطل والأخذ بالحق وتجريده عن باطله لأنه من الشرع ودعواه دلالة المصلحة عليه ليس صحيح وذلك لأن المصلحة المرسلة لا بد أن ترجع إلى أصل معتبر شرعا وهو ما لا وجود له ودعوى أنه من العلوم الخادمة للشريعة منقوضة بما تقدم من نقول عن السلف في ذمه وما نقل عن الخلف الذي خبروه في إظهارهم ما أوصلهم إليه من الضلالة والحيرة. وبذا يعلم أن ما قاله الشاطبي - رحمه الله - عار عن الصواب والتحقيق.
__________
(1) الاعتصام للشاطبي (1 \ 26) .(68/291)
موضوع علم الكلام:
عند صاحب المواقف هو: " المعلوم بحيث تصير مسألة متناولة للعقائد الدينية ولجميع ما تتوقف هي عليه من مبادئه القريبة أو(68/291)
البعيدة كمسائل المنطق ومباحث الحال والوجود وغير ذلك " (1) .
" لكنه ذهب كثير من علماء الإسلام إلى أن موضوعه ذاته تعالى وصفاته والممكنات من حيث الإسناد إليه تعالى ".
وقال أبو حامد الغزالي في الرسالة اللدنية: " علم الكلام ينظر في ذات الله وصفات وأحوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأئمة بعدهم والموت والحياة والقيامة والبعث والحساب ورؤية الله، وأهل هذا العلم متمسكون أولا بالأخبار والآيات ثم بالدلائل العقلية، وأخذوا مقدمات القياس ولواحقها من أصحاب المنطق الفلسفي وعلم اللغة سبيل إلى علم التفسير والحديث وهما دليلان إلى علم التوحيد.. " (2) .
__________
(1) الدر النضيد ص (145) .
(2) الدر النضيد ص (145) .(68/292)
مبادئ علم الكلام:
قد اتفقوا على عدة مبادئ أهمها:
أولا: علم المنطق.
ثانيا: تقديم العقل على النقل.
ثالثا: التأويل الكلامي.
رابعا: التعطيل على تفاوت في الكم المعطل، فأعلاها الجهمية ثم المعتزلة ثم الأشاعرة.(68/292)
خامسا: التعارض بين العقل والنقل.
سادسا: المعارضة بين القرآن والسنة.
سابعا: رفض الاستدلال بخبر الواحد في الاعتقاد وأنه لا يفيد إلا الظن.
ثامنا: أن دلالة الأخبار دلالة خبرية محضة محتملة، وعليها فلا تفيد إلا الظن والظن لا يحتج به في باب الاعتقاد.
تاسعا: التعبير عما يريدون في باب الاعتقاد بالألفاظ المجملة والاصطلاحات الدخيلة كالحرز والعرض والافتقار والترتيب ونحو ذلك.
عاشرا: تفسير الألفاظ القرآنية العقدية بناء على استصلاحهم كتفسير الكسب بمقارنة القدرة الحادثة وتفسير الكلام بالكلام النفسي ونحو ذلك.(68/293)
نشأة علم الكلام:
زامن ظهور علم الكلام حركة الترجمة لعلوم اليونان والهنود وغيرهما من الأمم الأخرى، وخاصة علم المنطق الذي أولع به بعض المسلمين كما هو العادة ولع كثير من الناس بما هو جديد الأمر الذي ساعد على إيجاد ما يسمى بعلم الكلام فهو علم نشأ في بلاد المسلمين وعلى أيديهم، ولكنه متأثر في كثير من مناهج البحث فيه بمناهج الفلاسفة اليونانية وغيرهما، ولذا فإنه لم يخل من هناتهم ورناتهم وأخطائهم العقدية ويمكن القول أن بدايته ظهرت في(68/293)
عصر الأمويين على يد خالد بن يزيد بن معاوية الذي أولع بترجمة كتب الأوائل ولم يبرز كمنهج متبع إلا على أيدي المعتزلة الذي اتخذوا المناظرات والمجادلة طريقا لهم في نشر آرائهم مما ساعد على تبلور هذا المنهج ثم تداوله كعلم من العلوم الإسلامية وعن المعتزلة تلقاه غيرهما كالأشعرية عن طريق تتلمذ أبي حسن الأشعري على أبي علي الجبائي أحد شيوخ المعتزلة، ومن هنا بدأ التأليف فيه ووضع كاتجاه علمي ومنهج فكري.(68/294)
آثار علم الكلام:
ويمكن الإشارة إلى أهم آثار علم الكلام فيما يلي:
1 - انتشار العلوم الفلسفية وبالذات علم المنطق، وجعله أساسا تبنى عليه منهجية العلوم الإسلامية، يقول مسعود التفتازاني: " المشهور أن يقع في طريق الخدمة والآلة فليسم خادم العلوم " (1) .
ويقول أبو حامد الغزالي: " والحق أن إثبات مسائل العلوم النظرية محتاجة إلى دلائل وتعريفات معينة، والعلوم بكونها موصلة إلى المقصود،
__________
(1) الدر النضيد (147) .(68/294)
ولا يحصل إلا من المباحث المنطقية، أو يتقوى بها فهي محتاج إليها لتلك العلوم وليست جزءا منها؛ بل هي علم على حده (1) .
2 - كثرة الاختلاف والافتراق في المسائل العقدية، وهذا واضح لمن تتبع كتب المتكلمين وسبر اختلافهم ومن أحسن ما يبين عن ذلك كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني.
3 - المعارضة بين العقل والنقل وتقديم العقل على النقل بدعوى يقينية العقل وظنية النقل.
4 - إلباس العقيدة الإسلامية لباسا غير لباسها، وذلك عن طريق استعمال ألفاظ مجملة محتملة للحق والباطل وترتيبهم الأحكام العقدية عليها من الكفر والفسق ونحو ذلك.
5 - رد الحق الذي جاء في الكتاب والسنة بدعوى معارضته ليقينيات العقل.
6 - كثرة الاضطراب بينهم والتنقل من قول إلى قول.
7 - كثرة الجدل في المسائل العقدية وشيوع المناظرة فيها مما ساعد على نشر الباطل وخفاء الحق وفتنة أهله كما حصل ذلك في زمن الإمام أحمد بن حنبل وطبقاته من علماء السلف.
8 - تجهيل السلف بأمور العقائد ودعوى أن المتكلمين أعلم بالله ودينه منهم، فهم أهل الفهم والسلف وأهل الجمود والجهل.
__________
(1) الدر النضيد (146) .(68/295)
9 - استباحة بعضهم تكفير بعض فالابن ربما كفر أباه والأب ربما كفر ابنه.
10 - كثرة البدع وتنوعها وانتشارها بين الناس.
11 - الإعراض عن الكتاب والسنة كمصدرين لتلقي العقائد وعدم التحاكم إليهما عند الاختلاف وهو مبني على أن دلالتهما ظنية فلا يمكن رفع الخلاف بهما.
12 - ضعف تعظيم النصوص في نفوسهم ونفوس الناس مما يدعو إلى التحاكم إلى غيرها وعدم الرجوع لها عند التنازع.
13 - تبني المتكلمين عددا من أفكار الفلاسفة واعتقادهم أنها الحق الذي جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
14 - تأويل النصوص بصرفها عن مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معان باطلة ما أنزل الله بها من سلطان (1) .
15 - إفقاد العقيدة الإسلامية ما فيها من بساطة التكاليف وسهولتها ووضوحها للأفهام؛ لأن ما بنيت عليه طريقة المتكلمين في الاعتقاد تحتاج إلى الألفاظ المنطقية ومعرفة بالعلوم العقلية حتى يمكن الفهم، الأمر الذي لا يوجد في نصوص الكتاب والسنة وما نهج منهجهما من كلام السلف الصالح.
16 - إيجاب ما لم يوجبه الله على عباده من العقائد التي قررها المتكلمون، كوجوب النظر العقلي وترك ما أوجبه الله على عباده من
__________
(1) قارن شرح الطحاوية ص (17) .(68/296)
الإيمان بألوهية الله وربوبيته وإثبات أسمائه وصفاته.
17 - ضلال المتكلمين في باب الاعتقاد وتبنيهم للأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة، الأمر الذي يدل على أن علم الكلام لم يهديهم إلى الحق ولم يدلهم على الصواب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18 - عزل نصوص الكتاب والسنة عن التحاكم إليها. .
19 - القول في الله ودينه بغير علم وبصيرة والبصيرة لا تكون إلا بالبرهان من الكتاب والسنة قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) هذا وآثاره كثيرة لا يمكن حصرها ولعل فيما ذكر كفاية في الدلالة على شؤم هذا العلم وفساده، الأمر الذي يكون حافزا لمن أراد الله هدايته للبعد عنه وتخليص الكتب العقدية الكلامية من آثاره الفاسدة والرجوع بالأمة الإسلامية إلى المعين الصافي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(68/297)
التأويل:
التأويل في اللغة (1) التأويل لغة الرجوع، ومنه قولهم غليت الماء حتى آل إلى ثلثه
__________
(1) مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (2 \ 17 - 21) . انظر درء تعارض العقل والنقل (1 \ 14، 15)(68/297)
أي رجع إليه وفي اللسان (الأول: الرجوع، وآل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع، أول إليه الشيء: رجعه) .
التأويل شرعا:
التأويل في الشرع يطلق ويراد به أحد معنيين:
الأول: الحقيقة فتأويل ما أخبر الله عنه من القيامة والجنة والنار هو وقوعها كما أخبر ومنه قول عائشة رضي الله عنها: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته كان يكثر من قول " سبحانك اللهم وبحمدك " يتأول القرآن (1) » ، أي يطبق ما يدل عليه من معنى ويحققه إشارة إلى عمله بقوله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (2) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (3) {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (4)
الثاني: تفسير الكلام بما يدل على مراد المتكلم منه سواء وافق الظاهر أو خالفه، فمما وافق الظاهر قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (5) فيه إثبات الوحدانية، ومما خالف الظاهر قوله سبحانه
__________
(1) مسلم كتاب الصلاة باب (42) رقم (484) (217) ، وابن ماجه رقم (874) في إقامة الصلاة باب (20) .
(2) سورة النصر الآية 1
(3) سورة النصر الآية 2
(4) سورة النصر الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 1(68/298)
وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (1) فالظاهر أن المراد بالرحمة الصفة والمراد هو المطر بدلالة السياق حيث أخبرنا بإرسال الرياح قبله وهذا لا يكون إلا قبل المطر، وهذان هما معنى التأويل في الكتاب والسنة.
التأويل عند علماء السلف:
لا يخرج معنى التأويل عند السلف عن المعنيين السابقين، يقول ابن تيمية: " وأما خطاب الصحابة والتابعين فإنما يوجد فيه الأولان " (2) .
التأويل عند متأخري علماء الكلام:
هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، ويقصدون به صرف كلام الله وكلام رسوله عن المراد عندهما إلى معان خفية، وذلك عن طريق دعوى المجاز والاستعارة ونحوها من الاستعانة بغرائب اللغة في ذلك فظهر بذلك أن مرادهم ليس التلقي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن الإعراض عنهم وهجر معناهما بما يدعون أنه دليل صارف حتى يوافق ما في عقولهم من موازين فاسدة وأفكار فارغة وشبهات داحضة (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 57
(2) الصفدية ص (389)
(3) مجموعة الرسائل الكبرى (2 \ 17)(68/299)
حكم التأويل عند من يقول به من المتأخرين:
وقد انقسموا على طوائف (1) :
الطائفة الأولى: ترى أن التأويل واجب لا بد منه.
الطائفة الثانية: ترى أن التأويل جائز ويكون فعله تبعا للمصلحة العامة، فإن دعت إليه جاز وإن لم تدع إليه ترك.
الطائفة الثالثة: ترى جوازه للعلماء دون غيرهم، والجامع المشترك بين هذه الطوائف شرعية العمل بالتأويل لكن اختلفوا في درجة هذه الشرعية.
__________
(1) مجموعة الرسائل الكبرى (2 \ 17)(68/300)
أسس التأويل ومبادؤه:
وهي كما يلي:
أولا: أن ظواهر نصوص الصفات التمثيل بالمخلوقات.
ثانيا: أن الله لم يرد ظواهر النصوص.
ثالثا: القول بالمجاز في الكتاب والسنة ولغة العرب.
رابعا: أن الله كلف عباده البحث عن المعنى الذي يليق بجلاله وعظمته.
خامسا: أن دلالة النصوص لا تليق بجلال الله وعظمته.
سادسا: أن السلف لا يعلمون معاني هذه النصوص.(68/300)
ولذا لم يرد عليهم تأويلهم، فهم بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا قراءة فقط.
سابعا: إن الخلف أقدر من السلف على فهم المراد من نصوص الكتاب والسنة وأعلم بمعانيها.
ثامنا: أن النصوص ألفاظها مجملة في المراد منها.
تاسعا: أن الرسول لم يبين النصوص ولا أمر باعتقاد ظواهرها.
عاشرا: أن نصوص الكتاب والسنة ليست نصا في الدلالة على معانيها، وبناء على ذلك فتأويلها واجب حتمي؛ لترتب الواجب عليه.
وهو تنزيه الله عما لا يليق به فهربوا من تمثيله بالمخلوقات إلى تعطيله عن كماله المقدس، فمثلوه بالمعدومات والجمادات والمستحيلات، فهربوا من مصيبة متخيلة إلى مصيبة محققة وهو أن ما لا صفات له لا وجود له في الحقيقة والواقع بل هو معدوم فالتمثيل أصل للتعطيل.(68/301)
رأي الشيخ محمد الأمين في التأويل عند المتكلمين:
يقسم الشيخ محمد الأمين التأويل عند المتكلمين إلى ثلاثة أقسام (1) .
__________
(1) أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1 \ 329، 330) .(68/301)
الأول: تأويل صحيح، وهو بمعنى التفسير، ومعناه: الكشف عن مراد المتكلم سواء وافق الظاهر أو خالفه، كتفسير الرحمة في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (1) بالمطر بدلالة السياق، وتفسير قوله تعالى في الحديث القدسي الرحمة بالجنة، وذلك في قوله تعالى للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء (2) » ، فإن ذلك هو مراده تعالى وإن كان الظاهر الرحمة التي هي الصفة.
ثانيا: تأويل فاسد، ومعناه صرف اللفظ عما يظهر منه إلى معنى لا يدل عليه بظاهره بأنواع المجازات والاستعارات حتى يوافق هوى المتأول، كتأويل الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) بالاستيلاء.
ثالثا: تأويل لعب، وهو ما لا يساعد عليه شرع ولا لغة ولا عرف تخاطب، كتفسير الرافضة قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (4) بالحسن والحسين، وتفسير بعض الصوفية قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (5) بدرجة اليقين لا الموت ويرتبون على ذلك سقوط التكليف عن من بلغها.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 57
(2) البخاري كتاب التوحيد 25 \ 7449
(3) سورة طه الآية 5
(4) سورة الرحمن الآية 22
(5) سورة الحجر الآية 99(68/302)
قلت: وهذا الذي رآه الشيخ محمد الأمين مقتضى العدل والإنصاف في الحكم على التأويل عند المتكلمين بعد استقرار هذا المصطلح عند الأصوليين وغيرهم.(68/303)
أنواع التأويل الفاسد:
الأول: ما لا يحتمله اللفظ بوضعه الأول، مثل تأويل صفة القدم بجماعة من الناس فإن هذا شيء لا يعرف في لغة العرب.
الثاني: ما لا يحتمله اللفظ بنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله عرفا كتأويل قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) بالقدرة.
الثالث: ما لا يحتمله في سياقه الذي ورد فيه وإن احتمله في غيره، كتأويل إتيان الرب في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (2) بإتيان بعض آيات الله فإنه ممنوع مع هذا التقسيم والتنوع.
الرابع: التأويل الذي لم يؤلف في لغة التخاطب العربية كتأويل الأفول في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} (3) بالتحرك فإن معنى الأفول في اللغة المغيب ولم يرد استعمالها في التحرك.
الخامس: ما ألف استعماله في معنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص، كتأويل اليدين في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4)
__________
(1) سورة ص الآية 75
(2) سورة الأنعام الآية 158
(3) سورة الأنعام الآية 76
(4) سورة ص الآية 75(68/303)
بالنعمة فإن من المألوف في اللغة أن يقال له عندي يد أي نعمة وإن كان في تركيب الآية ممنوعا لإضافتها إلى الرب وتعدي الفعل لها بالباء فهو نظير كتبت بالقلم.
السادس: التأويل بالمعنى النادر أو غير المعهود والاستعمال فيه؛ لأن الأصل استعمال اللفظ في معناه المطرد أو الكثير وذلك كتأويل الرحمة بإرادة الإنعام فإن استعمال الرحمة فيه غير مطرد في القرآن والسنة.
السابع: تأويل يرجع على معنى النص بالإبطال بحيث يصادم دلالة النص، كتأويل قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) على أن محبة الله إرادة التوفيق لعباده فإن غايته أن الله لا يحب.
الثامن: تأويل ظاهر النص المشهور على معنى خفي قد لا يعرفه إلا أفراد من الناس، كتأويل لفظ الأحد الدال على الوحدانية على معنى الذات المجردة عن الصفات وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) بجرحه بأظافر الحكمة تجريحا من الكلم لا الكلم.
التاسع: أن يكون معنى النص في غاية العلو والرفعة والشرف فيؤول على معنى دونه في المرتبة، كتأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 54
(2) سورة النساء الآية 164
(3) سورة الأنعام الآية 18(68/304)
بفوقية الشرف.
العاشر: تأويل النص بغير دليل ولا برهان ولا قرينة كتأويل الرافضة قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (1) بالحسن والحسين.
__________
(1) سورة الرحمن الآية 22(68/305)
أنواع المؤولين:
وهما طائفتان:
الطائفة الأولى: جمهور المتكلمين من جهمية ومعتزلة وأشعرية وماتريدية وغيرها، وهم في التأويل على طبقات بين مستكثر ومستقل وتأويلهم مختص بباب العقائد.
الطائفة الثانية: وهي على قسمين:
القسم الأول: الصوفية الباطنية.
القسم الثاني: الإسماعيلية والقرامطة والباطنية وهم يؤولون في الفروع والعقائد، فالصوفية منهم تسقط التكاليف الشرعية ولا تراها واجبة على العارف والولي عندهم، وأما آيات العقائد فهي محمولة عندهم على معان خاصة بهم لا ضابط لها.
أما باطنيتهم المحضة فهي لا تؤمن بشيء من الدين ولذا فهي تتأوله على معان، مآلها إلى إبطال الشريعة وإسقاط التكاليف. يقول ابن تيمية عنهم: " وهؤلاء يعتقدون أن ما أخبرت به الرسل(68/305)
هو للعامة، وأما الحقيقة التي لا يعلمها إلا الخواص فأمر باطن لا يعرف من مفهوم خطاب الرسل فلهذا جعلوا المتكلم بعد الفقيه إلى فوق، وجعلوا هذا الاعتقاد على وجهين: فالاعتقاد المجرد للعامة، والاعتقاد المقرون بحجة للخاصة ثم بعد ذلك للمتفلسف؛ لأنه عندهم جمع بين النظريات الباطنة التي لم يظهرها الرسل بل أشارت إليها، وبعد ذلك الصوفي لأنه عندهم جمع بين النظر وبين التأله الباطن، فصار العلم له شهود، ثم بعد ذلك المحقق على أصلهم وهو الذي شهد أن الموجود واحد وهو الذي انتهى إلى الغاية، ويدعون أن هذا هو لباب ما جاءت به الأنبياء وما كان عليه الفلاسفة القدماء؛ ولهذا يقول ابن سبعين في أول (الإجابة) : " إني عزمت على إفشاء سر الحكمة التي رمز إليها هرمز الدهور الأولية وبيان العلم الذي دامت إفادته الهداية النبوية " وهو وابن عربي وأمثالهم في ترتيب دعوتهم من جنس ملاحدة الشيعة الباطنية فإن عقيدتهم في الابتداء عقيدة الشيعة، ثم ينقلون المستجيب لهم إلى الرفض ثم ينقلونه على ترك الأعمال، ثم ينقلونه إلى الانسلاخ من خصوص الإسلام، ثم الانسلاخ من الملل إلى أن يصل إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم عندهم فيصير معطلا محضا حتى يقولوا: ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلى إثبات الوجود يعنون المبدع للعالم فلو تركه الفلاسفة لم يبق بيننا خلاف وهذا في الحقيقة هو منتهى دعوة أولئك الملاحدة " (1)
__________
(1) كتاب الصدفية (1 \ 272، 273)(68/306)
موقف السلف من التأويل الكلامي والباطني (1) :
يرفض السلف كلا النوعين من التأويل وذلك للوجوه التالية:
1 - لأنه تفسير لكلام الله وكلام رسوله بغير مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 - أنه قول في الله ودينه بالهوى والشهوة.
3 - فيه إبطال لدلالة كلام الله وكلام رسوله على مقاصدهما.
4 - يؤول بالأمة إلى التنازع والتفرق.
5 - عزل النصوص عن التحاكم إليهما.
6 - لما فيه من إبطال الشريعة وتغييرها.
7 - اشتماله على المقالات الباطلة المخالفة للكتاب والسنة والنبوية.
8 - إضعاف تعظيم الكتاب والسنة في نفوس الناس.
9 - سوء الظن بالله وكلامه وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه.
10 - تحميل كلام الله وكلام رسوله للمعاني الباطلة.
11 - تضمنه لدعوى أن الله ورسوله قد أخبرا الناس ودعوهما لما لا يريدان مما ظاهر المعنى وهو نوع من التدليس على الخلق.
12 - تضمنه القدح في تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يبين
__________
(1) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد (2 \ 3 - 55)(68/307)
المعنى المقصود بالتعبد وأحال الناس على ما لا يمكن العلم به لكل أحد مما يقدح في عموم رسالته وشمولها.
13 - القدح في بلاغة القرآن وبيانه حيث تضمن تأويلهم هذه الدعوى مما يدل على بطلان ما بنيت عليه.(68/308)
الأدلة على صحة مذهب السلف وفساد مذهب الخلف في التأويل (1) :
هذا والحق هو فيما ذهب إليه السلف ويمكن أن يستدل عليه بما يلي:
1 - مخالفة إجماع السلف، فقد أجمع السلف على حرمة تأويل النصوص ولو كان الأمر خلاف ذلك لنبهوا إليه لأن ذلك من كتم العلم الضروري.
2 - أن بيان المعنى المتأول إليه من ضرورات التبليغ فلما أنه صلى الله عليه وسلم لم يبينه علم أنه متعبد هو وأمته بهذه الظواهر دون غيرها.
3 - أن التعبد بتلاوة القرآن وتدبره يحيله؛ إذ لو كان لها معنى غير ما يظهر منه لكان مع عدم البيان تكليف بما لا يطاق وتأخير للبيان عن موضع الحاجة، وهو مستحيل.
4 - إنه لو أريد بهذه النصوص غير ما يظهر منها لجاء بيانه في القرآن والسنة ولو مرة واحدة حتى يستن بذلك.
5 - أنه فتح لباب تحريف الكتاب والسنة وهو باطل فما لزم منه
__________
(1) القواعد الكلية ص (329)(68/308)
الباطل فهو باطل.
6 - أن الأصل التعبير بهذه الظواهر والتأويل خلاف الأصل فلا بد له من دليل صحيح ولا دليل صحيح، فلا يصار عليه ويجب الإيمان بظواهر النصوص.
7 - نسبة العي لله؛ لأن البليغ إذا أراد المجاز فلا بد أن يقرن كلامه بما يدل عليه.(68/309)
الخاتمة:
أهم نتائج البحث:
ومن استقرائنا لحقائق هذا البحث ومسائله تتبين النتائج التالية:
1 - أن علم التوحيد مغاير لعلم الكلام من كل وجه.
2 - أن علم الكلام علم مبتدع فلا يجوز تعلمه ولا جعله من علوم الإسلام.
3 - وجوب تخلية علوم العقيدة والتوحيد من المؤثرات الكلامية.
4 - خطورة علم الكلام على العقيدة الإسلامية.
5 - أن العلم بالتوحيد والعقيدة ليس مرتبا على شيء من علم الكلام.
6 - وجوب وصل علم العقيدة والتوحيد بالكتاب والسنة مباشرة.
7 - أن تأويل النصوص من الكتاب والسنة هو تحريف له عما أراده الله.
8 - أن التأويل حيث ورد في الكتاب والسنة وفي كلام السلف وأهل اللغة مغاير للتأويل عند علماء الكلام معنى ومقصودا.
9 - أن التأويل الكلامي مما يحرم استعماله والاعتماد عليه في نصوص(68/309)
الكتاب والسنة.
10 - أن نصوص الكتاب لها معان مقصودة معروفة من لغة الشرع أو اللغة وهي نصوص في معناها لا تحتمل التأويل.
11 - إن مذهب السلف في التأويل وعلم الكلام هو المذهب الحق الذي يجب الالتزام به علما وعملا.
12 - خطورة التأويل والعمل به على الشريعة علما وعملا؛ إذ هو تحريف للعقائد والأحكام ومفتاح لباب الهوى والبدع.
13 - أن ما ادعاه السفاريني من أن من علم الكلام ما هو ممدوح وإن قصد به معنى صحيحا فهو خطأ لأن السلف في ذمهم لعلم الكلام لم يستأنسوا منه شيئا.
14 - وضوح الرابطة بين علم الكلام والتأويل، وأن التأويل أصل من أصول علم الكلام.
15 - أن التأويل بمعناه عند المتكلمين لفظ مبتدع لم يأت به كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا استعمله السلف ولم يعرف في لغة العرب.
16 - وضوح الرابطة بين علم الكلام وعلم المنطق وعلم الفلسفة.
17 - اتفاق علم الكلام والتأويل في الغاية المراد بهما وهو التعطيل للنصوص.(68/310)
18 - أن علم الكلام ليس طريقا شرعيا يسلك لطلب الهداية إلى الحق.
19 - اتفاق شيوخ علم الكلام والمؤولة على صحة طريقة السلف في الهجر والذم لعلم الكلام والتأويل.
20 - شهادة شيوخ المتكلمين والمؤولين بعدم صحة طريقتهم واضطرابهم فيها.(68/311)
صفحة فارغة(68/312)
تحلية المصاحف وكتب العلم وآلاتها
للدكتور \ صالح بن محمد بن رشيد (1)
لا خلاف أحفظه بين أهل العلم في استحباب كون المصحف ساذجا مجردا عن أي حلية، خاليا من أي زخرفة، فهكذا كان المصحف الإمام ومصاحف الصحابة الكرام، وإنما الخلاف بين أهل العلم في كون تحلية المصحف بالنقدين أمرا جائزا أم محظورا. وسبب الخلاف والله أعلم هو التعارض بين الأدلة نقليها وعقليها.
حجة القائلين بجواز التحلية:
احتج من قال بجواز تحلية المصاحف بما ورد من الآثار الدالة على جواز التحلية في الجملة من مثل ما رواه أبو عبيد في الفضائل،
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرس(68/313)
وابن أبي داود في المصاحف بسنده عن ابن عون عن عبد الله بن مسعود أنه كان يسأل عن حلية المصاحف فيقول: لا أعلم به بأسا، وكان يحب أن يزين المصحف ويجاد علاقته وصنعته وكل شيء من أمره (1) .
وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن أبي داود في المصاحف واللفظ لأبي عبيد قال: (حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ عن ابن عون عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا بأن يزين المصحف ويحلى) (2) .
وأخرج البيهقي عن الوليد بن مسلم (سألت مالكا عن
__________
(1) المصاحف لابن أبي داود ص 170
(2) فضائل القرآن لأبي عبيدة ص 243 ح (6 - 56) ، والمصاحف لابن أبي داود ص 169(68/314)
تفضيض المصاحف، فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن في عهد عثمان وأنهم فضضوا المصاحف) (1) .
وذكر ابن رشد نحوا منه في البيان عن ابن القاسم قال: (أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، فحدثنا أنه كتب على عهد عثمان بن عفان فوجد حليته فضة) (2) واحتجوا بالمعقول. فقالوا: إن في تحلية المصحف تعظيما له وتكريما.
__________
(1) الإتقان ج 2 ص 170، وكنز العمال ج 2 ص 238
(2) البيان والتحصيل لابن رشد ج 17 ص 34، 35(68/315)
حجة المانعين من تحلية المصاحف:
واحتج المانعون من تحلية المصاحف بحجج نقلية وعقلية أيضا، ومن حججهم النقلية جملة من الآثار، عن جمع من الصحابة كأبي الدرداء وأبي ذر وأبي بن كعب، وأبي هريرة تتضمن الوعيد الشديد على تحلية المصاحف وزخرفته.
وقد أخرج ابن مبارك في الزهد وأبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن منصور في التفسير من سننه وابن أبي الدنيا في المصاحف وابن أبي داود في المصاحف أيضا، والحكيم الترمذي في الأكياس والمغترين، وفي نوادر الأصول له أيضا من حديث أبي الدرداء قال: (إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فالدبار عليكم) وفي لفظ: (فالدثار عليكم) ، وفي لفظ: (فالدعاء عليكم) وفي(68/315)
لفظ: (فالدمار عليكم) ، وفي لفظ: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدبار) . وأخرج أبو عبيد في(68/316)
صفحة فارغة(68/317)
فضائل القرآن عن أبي ذر قال: " إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدبار عليكم) . وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي بن كعب قال: " إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فعليكم الدثار) .
وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: " إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدثار ".
وأخرج ابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ساء عمل قوم قط، إلا زخرفوا مساجدهم (1) » .
__________
(1) ابن ماجة ج 1 ص 244، 245 ح 741 ونيل الأوطار ج 2 ص 169، وفي الزوائد في إسناده أبو إسحاق كان يدلس، وجبارة كذاب. وراجع تقريب التهذيب ص 194(68/318)
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن برد بن سنان قال: (ما أساءت أمة العمل إلا زينت مصاحفها ومساجدها) (1) .
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف: (عن عكرمة عن ابن عباس، أنه كان يكره أن يحلى المصحف قال: تغرون به السارق (2) .
وأخرج أبو عبيد وابن أبي داود في المصاحف واللفظ لأبي عبيد: (عن ابن عباس: أنه كان إذا رأى المصحف قد فضض أو ذهب قال: (أتغرون به السارق وزينته في جوفه) (3) . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي أمامة (أنه كره أن يحلى المصحف) .
وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي داود في المصاحف من طرق عن عبد الله بن مسعود: أنه مر عليه بمصحف قد زين بالذهب، فقال: (إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق) .
__________
(1) المصاحف ص 170
(2) المصاحف ص 168، ومصنف ابن أبي شيبة ج 6 ص 148 ح 30224.
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد ص 242 ح (2 - 65) ، والمصاحف لابن أبي داود ص 167، 168(68/319)
فظاهره إنكار التحلية.
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن الزبرقان قال: قلت لأبي رزين إن عندي مصحفا أريد أن أختمه بالذهب، وأكتب عند أول سورة آية كذا وكذا. قال أبو رزين: (لا تزيدوا فيه شيئا من الدنيا قل أو كثر) .(68/320)
حجتهم من المعقول:
واحتج المانعون بالمعقول أيضا فقالوا: إن تحلية المصاحف تضييع للمال بدون غرض، لا نسلم بأن في تحليتها تعظيما وإكراما لها، إذا لو كان الأمر كذلك لجاء الشرع بمثله، كيف وقد ورد الذم لفاعله! لا يقال: إن ما ورد في هذا الشأن لم يثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أقل أحوال المنقول أن يكون قولا لصحابي في أمر ديني، وما هذا سبيله يأخذ حكم المرفوع، لأن الصحابي لن يقول: ذلك من قبيل الرأي والاجتهاد المحض، ولا يقال أيضا: بأنه معارض بمثله احتجاجا بما روي عن ابن مسعود إذ قد روي عنه قول: (يقتضي المنع من التحلية) ، فلعله رجع عن قوله(68/320)
بنفي البأس، ووفق جملة القائلين بالمنع كما مر عن أبي الدرداء وأبي بن كعب وابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم أجمعين -.
ولقائل أن يقول بالمنع من التحلية تغليبا لجانب الحظر - ولكون التحلية من زينة الدنيا فتصان عنها المصاحف قياسا على المسجد، ولكون زخرفتها ضربا من التشبه باليهود والنصارى وقد أمرنا بمخالفتهم.
ثم لقائل أن يقول: أن ما طريقه القرب، إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله، وإن كان فيه تعظيم، إلا بتوقيف. ولهذا قال عمر عن الحجر: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . ولما قبل معاوية الأركان كلها أنكر عليه ابن عباس، فقال ليس شيء من البيت مهجورا " فقال إنما هي(68/321)
السنة، فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان فيها تعظيم. ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في الجامع الكبير، وحكاه عنه ابن مفلح في غير موضع من آدابه وفروعه (1) .
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح ج 2 ص 295، والفروع له أيضا ج 1 ص 195(68/322)
الخلاف في حكم تحلية المصحف:
أ - القائلون بالمنع:
لقد ذهب إلى القول بحظر تحلية المصاحف بالنقدين جمهور أهل العلم على اختلاف بينهم في كون الحظر على سبيل التحريم أو على سبيل الكراهية، وهل يقتصر الحظر على التحلية بالذهب أم يشمل التحلية بالفضة أيضا؟ وهل يختص المنع ما كان من المصاحف في حق الرجال أم يتناول مصاحف النساء كذلك؟ وهل الكتابة بالذهب تعطى حكم التحلية، أم أن لها حكما يخصها؟ وهل للتمويه بالنقدين حكم التحلية بهما؟
فقد صرح جماعة من أهل العلم بتحريم ذلك كله ففي المهذب عد في محرم الاستعمال ما يحلى به المصحف وأوجب فيه الزكاة، لأنه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله(68/322)
وبقي على حكم الأصل (1) .
وعده في المجموع الأصح (2) . وذكره في روضة الطالبين وجها من أربعة أوجه، ونقل التحريم عن نصه في سير الواقدي (3) ، وهو الذي جزم به ابن قدامة في المغني، وقال: (لا يجوز تحلية المصاحف ولا المحاريب) (4) . وذكره في الآداب قولا رابعا لأصحاب أحمد، وعبر عنه ب (قيل) إشارة إلى تضعيفه (5) ، وذكر في الفروع نحوا منها وعزاه إلى الموفق وغيره قال: قال ابن الزاغوني: (يحرم كتبه بذهب لأنه من زخرفة المصحف، ويؤمر بحكه، فإن كان تجمع منه ما يتمول زكاه) .
قلت: فظاهر كلام ابن الزاغوني تحريم التحلية مطلقا قياسا على قوله بتحريم الكتابة بالذهب بل أولى، لأنه إذا قال بتحريم الكتابة بالذهب، والأمر فيها أوسع فلأن يقول بتحريم التحلية من طريق الأولى.
والقول بتحريم التحلية هو مقتضى الوعيد، الذي انطوت
__________
(1) المهذب لأبي إسحاق الشيرازي ج 1 ص 158.
(2) المجموع للنووي ج 6 ص 35 وص 42.
(3) روضة الطالبين للنووي ج 2 ص 344
(4) المغني ج2 ص 611
(5) الآداب الشرعية ج 2 ص 343، 344(68/323)
عليه الآثار السالف ذكرها، عن أبي الدرداء وأبي بن كعب وأبي هريرة وأبي ذر وعمر - رضي الله عنهما أجمعين -.
وذهب فريق من أهل العلم إلى القول بكراهة تحلية المصاحف، وهو مقتضى المروي عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - على ما مر في حجة المانعين، والقول بكراهة التحلية محكي عن أبي أمامة، وإبرهيم النخعي، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة (1) ، ورواية ثانية عن الإمام مالك وهي في مقابل المشهور عنه (2) ، وهو وجه عند الشافعية، وهو المذهب عند أصحابنا الحنابلة. وجزم في الإقناع وشرحه بالكراهة، قال البهوتي في الكشاف: (وتكره تحليته بذهب أو فضة - نصا لتضييق النقدين (3) ، وقال في موضع آخر من الكشاف
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني ج 2 ص 16، 17، وفتح القدير لابن الهمام ج 1 ص 299، ج7 ص 244.
(2) البيان والتحصيل لابن رش ج 17 ص 34، 35، والخرشي على خليل ج 1 ص 98، 99.
(3) كشاف القناع ج 1 ص 155 للبهوتي.(68/324)
بكراهية حلية المصحف، وأوجب فيها الزكاة (1) .
وجزم به أيضا في شرح المنتهى، وحكى قول ابن الزاغوني في كتابة المصحف بالذهب، وأنه يؤمر بحكه فإن تجمع منها ما يتمول زكاه (2) .
__________
(1) الكشاف ج 2 ص 273
(2) شرح منتهى الإرادات للبهوتي أيضا ج 1 ص 73.(68/325)
ب - القائلون بالتفصيل:
وجوز قوم حلية المصحف إذا كانت من الفضة خاصة، وهو مذهب المالكية (1) ، وقول مرجوح عند الشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، والحنفية (4) ، وفرق بعض الشافعية وبعض الحنابلة بين مصاحف الرجال ومصاحف النساء، فمنعوا تحلية مصاحف الرجال، ورخصوا في تحلية مصاحف النساء، واعتبره النووي في الروضة أصح الأوجه عند الأكثرين (5) .
__________
(1) الخرشي ج 1 ص 98، 99، حاشية الدسوقي ج 1 ص 63، وبلغة السالك ج 1 ص 48، 49.
(2) الروضة ج 2 ص 264، والإتقان للسيوطي ج 2 ص 170، والتحفة وحواشيها ج 3 ص 281، 282
(3) الآداب الشرعية ج 2 ص 343، 344، والفروع ج 1 ص 192، 193
(4) بدائع الصنائع ج 2 ص 16، 17، وفتح القدير ج1 ص 299، ومجمع الأنهر ج 2 ص 554، والهندية ج5 ص 323.
(5) روضة الطالبين ج 2 ص 264(68/325)
وجزم به الأنصاري في أسنى المطالب، وقال الزركشي: (ينبغي أن يلحق بالمصحف في ذلك اللوح المعد لكتابة القرآن) (1) .
وجزم الهيتمي في التحفة بجواز تحلية المصحف وما فيه قرآن ولو للتبرك للمرأة بذهب، كتحليها به مع إكرامه، وجعله العباد شاملا لما إذا كانت التحلية بالتمويه، ولما إذا كانت بإلصاق ورق الذهب بورقه (م ر) . قال: والطفل في ذلك كله كالمرأة شرح (م ر) ، وألحق للشرواني بهما المجنون، واستقرب العبادي منع الرجل من القراءة في مصحف المرأة المحلى بالذهب، ولو كان ذلك على سبيل الإعارة أو الإجارة أو الشراء (2) . (قوله تحلية ما ذكر) شامل لغلاف المصحف، لذا قال: (باعشن) يحل للمرأة تحلية ما فيه قرآن ولو لوحا، ولو للتبرك، وغلافه بذهب. اهـ. لكن قضية كلام المغني أنه لا يجوز باتفاق، عبارته ويحل تحلية غلاف المصحف المنفصل عنه، بالفضة للرجل والمرأة، وأما بالذهب قال المجموع: فحرام بلا خلاف نص عليه الشافعي والأصحاب، أي وإنما لم يجز للمرأة ذلك لأنها ليس حلية للمصحف. اهـ. فليراجع قول المتن آخر كلام التحفة وحواشيها.
__________
(1) أسنى المطالب شرح روض الطالب للأنصاري ج 1 ص 380.
(2) تحفة المحتاج وحواشيها ج 3 ص 281، 282.(68/326)
وذكر موفق الدين ابن قدامة في المغني أن القاضي قال: بإباحة علاقة المصحف ذهبا أو فضة للنساء خاصة، قال: وليس بجيد، لأن حلية المرأة ما لبسته وتحلت به في بدنها أو ثيابها، وما عداه فحكمه حكم الأواني لا يباح للنساء منه إلا ما أبيح للرجال، ولو أبيح لها ذلك لأبيح علاقة الأواني والأدراج ونحوها. ذكرها ابن عقيل (1) .
وفي الآداب عبر عنه بصيغة التضعيف فقال: (وقيل: يباح علاقته للنساء دون الرجال، وليس بصحيح لأن هذا جميعه لم ترد به السنة، ولا نقل عن السلف مع ما فيه من إضاعة المال (2) وعبارته في الفروع: (وقيل لا يكره تحليته للنساء) (3) . .
__________
(1) المغني مع الشرح لابن قدامة ج 2 ص 612
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح ج 2 ص 343، 344.
(3) الفروع له أيضا ج 1 ص 192، 193(68/327)
ج - القائلون بجواز تحلية المصاحف:
وذهب إلى القول بجواز تحلية المصاحف مطلقا جمهور الحنفية، وهو اختيار أبي حنيفة، وأحد قولي محمد على ما ذكره قاضي خان (1) ، وحكاه الكاساني وابن البزار رواية عن أبي يوسف (2) ، وهو الذي جزم به ابن الهمام (3) ، والعيني (4) ، والحصكفي لما فيه من
__________
(1) الفتاوى الخانية بهامش الهندية ج 3 ص 413.
(2) بدائع الصنائع للكاساني ج 2 ص 16، 17، والفتاوى البزازية ج 6 ص 369.
(3) فتح القدير لابن الهمام ج1 ص 299، ج 7 ص 2444 من تكملة فتح القدير لقاضي زاده.
(4) البناية على الهداية للعيني ج 2 ص 564، ج 11 ص 269.(68/327)
تعظيمه كما في نقش المسجد (1) ، كذا قال.
وذكر ابن عابدين جواز تحلية المصحف بالنقدين، خلافا لأبي يوسف (2) ، وهو المشهور من مذهب مالك، بل قال في البيان: (قال الإمام القاضي: ولا اختلاف أحفظه في إجازة تحلية المصحف بالفضة، وأما تحليته بالذهب فأجيز وكره، وظاهر ما في الموطأ إجازته، وقد أقام إجازة ذلك بعض العلماء من حديث فرض الصلاة قوله فيه: «فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه (3) » ، والمعنى في إقامة ذلك منه خفي وقد نبثه في موضعه (4) .
__________
(1) الدر المختار للحكصفي بهامش رد المحتار لابن عابدين ج5 ص 247.
(2) حاشية ابن عابدين ج 5 ص 247.
(3) أخرج الإمام مسلم في صحيحه بشرح النووي ج 1 ص 394 ح 249 من كتاب الإيمان قال: (وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس عن شهاب عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: '' فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم ففرج عن صدري ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء ''. الحديث بطوله، قال النووي في أثناء شرحه لهذا الحديث: '' وليس في هذا ما يوهم جواز استعمال إناء الذهب لنا، فإن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا، لأنه كان أول الأمر قبل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الذهب والفضة '' قلت: ينبغي أن يجري ذلك على مسألة التحلية بهما.
(4) البيان والتحصيل لمحمد بن رشد ج 17 ص 34، 35.(68/328)
وذكر الونشريسي في المعيار جواز التحلية بالنقدين على المشهور في مذهب مالك (1) ، وجزم به ابن الجوزي في قوانينه (2) ، وعده الخرشي المشهور في المذهب إذا كان على جلده الخارجي، ومال إلى جوازه من الداخل أيضا دون تجزئته وتعشيره فيكره (3) ، وجوز البرزلي كتابة المصحف بالذهب (4) ، على ما ذكره العدوي في حاشيته على الخرشي، وجزم الخرشي أيضا بجواز تحلية المصحف بالذهب، وحكى الزرقاني الجواز في المصحف خاصة (5) . وهو الذي اختاره خليل وصرح به شراحه كالحطاب في المواهب (6) ، وصاحب الجواهر (7) ، وذكره الدردير في الشرح الصغير، وتابعه الصاوي في حاشيته عليه (8) .
وجوزه النفراوي تحلية المصحف من الخارج بالنقدين، وكرهها من الداخل، وكذا كره كتابته وتعشيره بهما (9) ، وذكر في الروضة
__________
(1) المعيار المعرب ج 11 ص 166، 167
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 91.
(3) الخرشي على خليل ج 1 ص 98، 99.
(4) الخرشي والعدوي عليه ج 2 ص 182
(5) الزرقاني على خليل ج 1 ص 36، ج 2 ص 145
(6) مواهب الجليل للحطاب ج 1 ص 125، 126.
(7) جواهر الإكليل على خليل ج 1 ص 128.
(8) الشرح الصغير على أقرب المسالك للدردير ومعه حاشية الصاوي ج 1 ص 48، 49.
(9) الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ج 2 ص 404.(68/329)
الحل مطلقا وجها ثالثا عند الشافعية (1) . وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد على ما ذكره ابن مفلح في آدابه (2) وفروعه وفاقا لأبي حنيفة قال: كتطييبه، نص عليه ككسيه الحرير نقله الجماعة.
وقال القاضي وغيره: (المسألة محمولة على أن ذلك قدر يسير، ومثل ذلك لا يحرم، كالطراز والذيل، والجيب. كذا قالوا) (3) .
__________
(1) الروضة ج 2 ص 264.
(2) الآداب الشرعية ج 2 ص 343، 344.
(3) الفروع ج 1 ص 192، 193(68/330)
د - تمويه المصاحف بالنقدين:
ومنع جمهور أهل العلم التمويه بالنقدين، ولم يسلموا قياسه على التحلية خلافا للحنفية (1) ، وبعض الشافعية في جواز التمويه (2) .
قال ابن البزازي الحنفي: (وأما التمويه الذي لا يخلص من شيء لا بأس إجماعا) (3) . والظاهر أنه أراد بالإجماع فقهاء الحنفية، لأن القائلين بمنع التحلية يقولون: بمنع التمويه من طريق الأولى، بل قد صرح الهيتمي الشافعي بمنع قياس التمويه، على التحلية فقال: (تنبيه) يؤخذ من تعبيرهم بالتحلية المار، الفرق بينها وبين التمويه حرمة التمويه هنا بذهب أو فضة مطلقا لما فيه من إضاعة المال، فإن قلت
__________
(1) الفتاوى البزازية ج 6 ص 369.
(2) حواشي تحفة المحتاج ج 3 ص 281.
(3) الفتاوى البزازية ج 6 ص 369.(68/330)
العلة الإكرام وهو حاصل بكل، قلت: لكنه في التحلية لم يخلفه محظور بخلافه في التمويه، لما فيه من إضاعة المال وإن حصل منه شيء، فإن قلت: يؤيد الإطلاق قول الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن، ولا زكاة عليه. قلت: يفرق بأنه يغتفر في إكرام حروف القرآن، ما لا يغتفر في نحو ورقه وجلده، على أنه لا يتأتى إكرامها إلا بذلك فكان مضطرا إليه فيه، بخلافه في غيرها يمكن الإكرام فيه بالتحلية فلم يحتج للتمويه فيه رأسا (1) .
وقيد العبادي حرمة المموه في حق الرجال بما إذا كان يحصل منه شيء بالعرض على النار وإلا فلا يمكن غير الحل، لأنه لا يزيد على الإناء المموه الذي لا يحصل منه شيء بالعرض على النار، مع أنه يحل استعماله للرجل كما تقدم في باب الاجتهاد، كذا قال، وتعقب قول التحفة بحرمة التمويه فقال: (الوجه عدم الحرمة، وإضاعة المال لغرض جائزة (م ر) (2)) .
__________
(1) تحفة المحتاج ج3 ص 281، 282.
(2) حاشية العبادي على التحفة ج 3 ص 281.(68/331)
هـ - كتابة المصحف بالذهب:
حكى أبو عبيد في الفضائل وابن أبي داود في المصاحف عن إبراهيم النخعي أنه كان: يكره أن تكتب المصاحف بالذهب.(68/331)
وحكى الطرطوشي في الحوادث والبدع كراهة كتابة المصاحف بالذهب، عن الإمام مالك (1) ، وهو الذي صرح به جمهور المالكية خلافا للبرزلي في عدم الكراهة (2) .
وقد صرح ابن الزاغوني من أصحابنا الحنابلة بتحريم كتابة المصحف بالذهب، حيث نقل غير واحد من الأصحاب قوله: (يحرم كتبه بذهب، لأنه من زخرفة المصحف، ويؤمر بحكه، فإن كان تجمع منه ما يتمول زكاه) ، ولم يذكر أصحابنا ما يخالفه بموافقتهم له، وإقرارهم لفتواه. وهو الذي نقله ابن القيم في بدائع الفوائد، وابن مفلح في الفروع (3) وابن رجب في طبقاته (4) وصاحب المبدع (5) ، والبهوتي في الكشاف وشرح المنتهى (6) .
ومع أن أبي حامد الغزالي في الإحياء (7) قد استشهد بحديث
__________
(1) الحودث والبدع للطرطوشي ص 155.
(2) على ما ذكره العدوي على الخرشي ج 1 ص 98، 99، ج2 ص 182، والفواكه الدواني ج 2 ص 404.
(3) الفروع ج 1 ص 192، 193، وبدائع الفوائد ج 4 ص 44.
(4) الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب ج1 ص 152 طبعة المعهد الفرنسي ج 1 ص 125.
(5) المبدع شرح المقنع لبرهان الدين بن مفلح ج 1 ص 175.
(6) الكشاف ج 1 ص 155، وشرح منتهى الإرادات ج 1 ص 73.
(7) إحياء علوم الدين للغزالي ج 3 ص 430، وراجع حاشية رقم 8 في حديث أبي الدرداء(68/332)
أبي الدرداء في معرض الإنكار على المغترين، إلا أنه ذكره في فتاويه خلاف ذلك، حيث أفتى بأن من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن، ولا زكاة عليه على ما نقله النووي في الروضة، والأنصاري في أسنى المطالب (1) ، والهيتمي في التحفة، والعبادي والشرواني في حواشيهما عليها (2) وتعقب العبادي نقل التحفة، قول الغزالي من كتب القرآن بالذهب، أي وإن لم يحصل بالكتابة شيء بالعرض على النار، وظاهره عدم الفرق في ذلك بين كتابته للرجل أو المرأة وهو كذلك، وإن نازع فيه الأذرعي شرح الرملي (3) .
__________
(1) أسنى المطالب ج 1 ص 380.
(2) التحفة وحواشيها ج 3 ص 281، 282.
(3) حاشية العبادي على التحفة ج 3 ص 281، 282.(68/333)
و - تحلية كتب العلم وآلاتها:
والمانعون لتحلية المصاحف بالنقدين، يقولون: بمنع تحلية سائر كتب العلم من طريق الأولى، ولم أظفر بعد في كتب الحنفية بنقل عنهم، في مسألة تحلية غير المصحف وذكر النووي في الروضة القول: بتحريم تحلية سائر الكتب بالاتفاق.
قال: وأشار الغزالي إلى طرد الخلاف في سائر الكتب، وقال السبكي في معيد النعم: وأما غير المصحف فاتفق الأصحاب على أنه لا يجوز تحليته بالذهب (1) .
__________
(1) الروضة ج 2 ص 264، ومعيد النعم ص 103.(68/333)
وذكر ابن مفلح في الآداب قولا مرجوحا لأصحابنا الحنابلة، يقتضي جواز تحلية كتب العلم مع الكراهة وعبر عنها بقيل إشارة إلى تضعيفه (1) وذكره في الفروع في مقابل الأصح (2) ، وفي الفواكه للنفراوي المالكي: (وأما غير المصحف من سائر الكتب فيحرم تحليته، فقها، أو حديثا، وأولى. تحلية الإجازة) (3) ، لكن ذكر في المعيار: أن عز الدين المالكي قال: " الخلاف واقع في تحلية الإجازة بالذهب، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيكتب كذلك أو آيات " (4) ، وأفتى ابن قداح المالكي بأن التعظيم هو اتباع السنة بكتب الإجازة بالسواد خالصا، قال: ورأيت إجازات كثيرة محدقة بالذهب، وفيها الفواصل كذلك فيها شهادات لشيوخ شيوخنا وهم كذلك يفعلون واتبعناهم كذلك نحن اقتداء بهم والقياس على تحلية المصحف، إذا هو من اتباع كتب المصحف وتعظيمه (5) ، وجزم الخرشي بمنع تحلية الإجازة خلافا للبرزلي وشيوخه في استحسانهم جوازه، وذكر العدوي أيضا منع تحلية الإجازة بالحرير كالذهب (6) ، وقال العبادي في حاشيته على التحفة: (وينبغي كما قال الزركشي إلحاق اللوح المعد لكتابة
__________
(1) الآداب الشرعية ج 3 ص 510.
(2) الفروع ج1 ص 192، 193.
(3) الفواكه الدواني ج 2 ص 404.
(4) المعيار المعرب ج 11 ص 166.
(5) المعيار ج 11 ص 166.
(6) حاشية العدوي على الخرشي ج1 ص 98، 99، ج2 ص 182.(68/334)
القرآن بالمصحف في ذلك شرح (م ر) أقول: وينبغي أيضا إلحاق التفسير حيث حرم مسه بالمصحف بل على قول الشارح يعني ما فيه قرآن. إلخ، لا فرق) (1) .
وقال الشرواني: (قال (ع ش) قول (م ر) المعد لكتابة القرآن، أي: ولو في بعض الأحيان كالألواح المعدة لكتابة بعض السور فيما يسمونه صرافة. اهـ. قوله: يعني ما فيه قرآن ولو للتبرك إلخ، خرج بذلك ما لو كتب ذلك على قميص مثلا ولبسه فلا يجوز فيما يظهر، لأنه لم يقصد بهذا تعظيم القرآن وإنما يقصد به التزين (ع ش) وفيه نظر وتعليله ظاهر المنع) (2) .
__________
(1) حاشية العبادي على تحفة المحتاج ج 3 ص 281، 282.
(2) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج ج 3 ص 281، 282(68/335)
ز - تحلية القلم والدواة والمحبرة:
وجمهور أهل العلم على القول بتحريم تحلية آلة الكتابة بالنقدين مطلقا، يستوي في ذلك ما كان في حق الذكور، وحق الإناث، وما كانت حليته من ذهب أو فضة قلما كان المحلى، أو دواة، أو مقلمة، وقد صرح بتحريم تحلية آلة الكتابة جمع من أهل العلم، وهو المذهب عند كل من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة، بل صرح بعض
__________
(1) جزم الخرشي ج 1 ص 99 بمنع التحلية بالنقدين مطلقا قال: (صرح به في الجواهر) .
(2) قال في الروضة ج 2 ص 264 وأما تحلية الدواة والمقلمة والمقراض فحرام على الأصح.(68/335)
الحنابلة بتحريم اتخاذ القلم من النقدين، لأنه في معنى الآنية، ولا يختص التحريم بالذكور، بل يحرم على الإناث لعموم الأخبار وعدم المخصص، وفي الهندية (1) وحاشية الدر (2) : (يكره أن يكتب بالقلم المتخذ من الذهب أو الفضة أو دواة كذلك. ويستوي فيه الذكر والأنثى وكذا في السراجية وذكر في الهندية الوجهين في التحلية بالفضة في سكين القلم، والمقلمة، والدواة وتكره الفضة في المكاتب
__________
(1) الفتاوى الهندية ج 5 ص 334
(2) حاشية ابن عابدين ج 5 ص 270.(68/336)
في رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى خلافا لهما كذا في التمرتاشي (1) وقال عز الدين المالكي على ما نقله عنه الونشريسي: (لا يجوز تحلية الدواة بالذهب قيل: أما تحلية الفضة، فإن كانت الكتابة للقرآن فهي تجري على تحليته بالفضة فيجوز، وفي الذهب عندنا خلاف والمشهور الجواز) (2) ، وحكى العدوي على الخرشي القول بجواز تحلية الدواة إن كتب بها قرآن عن البرزلي (3) ، فتلخص مما تقدم أن لأهل العلم في حكم تحلية آلة الكتابة أقوالا ثلاثة:
أحدها: التحريم مطلقا وهو الراجح الذي عليه جمهورهم.
والقول الثاني: أن ذلك مكروه وهو قول الحنفية ورأي مرجوح عند المالكية والشافعية والحنابلة.
والقول الثالث: أن ذلك جائز إن كانت الآلة لكتابة القرآن خاصة، بناء على القول بجواز تحلية المصحف وكتابته بالنقدين، وهو الذي عزاه الونشريسي لعز الدين المالكي وحكاه العدوي عن البرزلي على ما مضى بيانه.
" تنبيه ":
قد يحتج بعض الناس لمشروعية اتخاذ القلم من النقدين بخبر باطل أورده ابن الجوزي في الموضوعات، بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هبط
__________
(1) الفتاوى الهندية ج 5 ص 335.
(2) المعيار المعرب ج 11 ص 166.
(3) العدوي على الخرشي ج 1 ص 98، 99، ج 2 ص 182.(68/337)
علي جبريل عليه السلام ومعه قلم من ذهب إبريز» . . . فذكر الخبر بطوله وبين أن في سنده مجاهيل، قال ابن الجوزي بعد أن ساق الخبر المذكور: (قال المصنف: هذا حديث موضوع وما أبرد الذي وضعه، ولقد أبدع فيه وأكثر رجاله مجهولون) . اهـ. كلام ابن الجوزي رحمه الله فلا يغتر بمثل هذا الخبر مغتر.(68/338)
و - زكاة حلية المصاحف وكتب العلم وآلته:
ولأهل العلم في وجوب زكاة حلية المصاحف، وكتب العلم وآلته قولان:
أحدهما: الوجوب وهو مذهب الحنفية، والشافعية (1) ، والحنابلة، وبه جزم ابن حزم في المحلى.
__________
(1) وجزم في المهذب ج 1 ص 158 بوجوب الزكاة في حلية المصحف(68/338)
والقول الثاني: أن الزكاة غير واجبة في الحلية المذكورة، وهو مذهب المالكية (1) ، وبه أفتى الغزالي من الشافعية (2) ، وفرق قوم بين ما تباح تحليته، وبين ما تحرم فأوجبوا الزكاة في الثاني دون الأول، وهو اختيار ابن جزي المالكي (3) ، والله أعلم بالصواب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) الخرشي ج 2 ص 182
(2) أفتى الغزالي أنه لا تجب على ما نقله عنه في أسنى المطالب ج 1 ص 380.
(3) وظاهر كلام ابن جزي في القوانين ص 91 عدم وجوب الزكاة في حلية المصحف وكل ما جاز تحليته.(68/339)
تحلية المصاحف والكتب وآلاتها:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذا مجمل للبحث الموسوم أعلاه، جعلته على هيئة فقرات يتميز بعضها عن بعض بالرمز لكل فقرة منها بحرف من حروف المعجم.
أ - لا خلاف بين العلماء في أن الأصل في المصاحف وكتب العلم أن تكون مجردة عن أي تحلية أو زخرفة للأمر بتجريد المصاحف، وأن التحلية المذكورة أمر طارئ على ذلك الأصل وعارض له.
ب - وإنما كان الخلاف بين أهل العلم في مشروعية تلك التحلية وما(68/339)
شاكلها، فمنهم من لم ير بذلك العمل بأسا بل عده مشروعا، ومنهم من لم ير للمشروعية وجها بل عده أمرا منكرا.
ج - وسبب الخلاف بينهم والله أعلم هو التعارض بين الآثار والتعارض في النظر أيضا، فالذين لم يروا في التحلية بأسا قد عولوا في هذا الشأن على أثر موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه يقتضي نفي البأس، ورأوا أيضا أن في تحلية المصاحف تعظيما لها وتكريما، في حين أن القائلين بعدم المشروعية قد اعتمدوا فيما ذهبوا إليه على جملة من الآثار المتضمنة للوعيد على تحلية المصاحف والمروية عن جماعة من الصحابة كأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي ذر وأبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، بالإضافة إلى أثرين آخرين عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ظاهرهما الإنكار على من حلى المصاحف أو زخرفها، كما استدل المانعون من مشروعية التحلية المذكورة من طريق النظر أيضا فقالوا: بأن القائل بمشروعية التحلية إنما رام القربة التي هي تعظيم المصحف وإكرامه ومعلوم أن ما طريقه القرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يشرع فعله وإن كان فيه تعظيم ورفعة إلا بتوقيف، لا يقال: بأن التوقيف مستفاد من أثر ابن مسعود رضي الله عنه في نفي البأس فإنه معارض بما روي عن ابن مسعود أيضا من كراهة التحلية وإنكارها، ثم إن التحلية ضرب من زينة الدنيا يجب أن يصان عنها المصحف(68/340)
كالمسجد، وإذا انتفت مشروعيتها تمحضت فيها إضاعة المال وقد نهينا عن إضاعته.
د - والجمهور على منع التحلية بالنقدين مطلقا، وخصت طائفة منهم المنع بما كان داخل المصحف دون ما كان على جلده، وفرق قوم بين مصاحف الرجال وبين مصاحف النساء، فمنعوا في الأولى ورخصوا في الثانية، ولم يظهر لي وجه هذا الترخيص، وألحق قوم بمصاحف النساء في الحكم مصاحف غير المكلفين من الذكور كالصبيان والمجانين.
هـ - وحكم التمويه بالنقدين كحكم التحلية عند الجمهور وقال قوم: التمويه ممنوع حتى على القول بجواز التحلية لكون التمويه إضاعة محضة للمال، وسوى فريق من أهل العلم بين التحلية والتمويه في الإباحة.
ووالجمهور على القول بتحريم كتابة المصاحف بالذهب حتى أمر بعضهم بحكه لمكان البدعة فيه ولكونه إضاعة للمال كالتمويه، ورخصت قلة من أهل العلم في كتابة المصاحف بالذهب ومنعت قياسه على التمويه؛ لأن إكرام الحروف لا يتأتى إلا به في زعمها.
ز - ومنع جمهور الفقهاء تحلية كتب العلم أيضا، وحكى بعضهم الاتفاق على ذلك وعد القول بجوازها قولا شاذا.
ح - والجمهور أيضا على القول بتحريم تحلية آلات الكتابة كالدواة(68/341)
والقلم وما شاكلهما بل قد حكى غير واحد من أهل العلم انعقاد الإجماع على ذلك، فكأنه لا يعتد بخلاف الظاهرية ومن تابعهم.
ط - ثم تناول البحث بعد ذلك مسألة زكاة الحلية المذكورة إذا وجدت، فبين أن قوما قالوا: بوجوب الزكاة فيها إذا حصل منها ما يتمول، وقال قوم: تزكى إذا بلغت نصابا، وقال قوم: إن حرمت ففيها الزكاة وإن أبيحت فلا زكاة فيها، وقال قوم: لا تجب الزكاة في الحلية المذكورة مطلقا.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،(68/342)
المزاح في السنة
للدكتور \ محمد بن عبد الله ولد كريم (1) .
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4)
أما بعد:
فهذا بحث متواضع في مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أستاذ في جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين، قسم الكتاب والسنة
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(68/343)
جمعت فيه الأحاديث المرفوعة الواردة في الموضوع، وقد قمت بترتيبها ودراستها وتخريجها.
وجعلت عنوانه " المزاح في السنة " وقسمته إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أهله.
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أبنائه ومع غيرهم من الصغار.
المبحث الثالث: الأحاديث الواردة في مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من الرجال.
وقد جمعت مادة هذا البحث من كتب السنة مع تخريجها والحكم عليها بناء على منهج المحدثين، فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فإني أكتفي بالعزو إلى من أخرجه.
فإن لم يكن في الصحيحين أو أحدهما فإني أجتهد في تخريجه من الكتب الأخرى وأحكم عليه.
وقد رتبت الأحاديث في كل مبحث حسب درجتها بدءا بالصحيح ثم الحسن، ثم ما كان من الضعيف الذي ينجبر. - أنقل أقوال أهل العلم في الحكم على الحديث إن وجدت، وإن لم توجد فإني أجتهد في الحكم عليه من خلال الإسناد.(68/344)
- ترجمت للرواة الذين تدعو الحاجة إلى الترجمة لهم، كمن يدور الحكم في الحديث عليه من كتب الرجال باختصار.
- أبين الغريب الذي يحتاج إلى بيان من كتب الغريب واللغة.
- أبين ما في الحديث من فوائد من كتب شروح الحديث.
- عملت ثبتا للمصادر والمراجع، وفهرسا للموضوعات.
وأخيرا فإني حاولت حسب جهدي وطاقتي إخراج هذا البحث على الوجه اللائق، فما كان من صواب فهو من توفيق الله عز وجل وأحمده على ذلك، وما كان فيه غير ذلك فاسأل الله أن يعفو عني فيه ويتجاوز، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(68/345)
تمهيد:
وفيه تعريف المزاح لغة واصطلاحا وبيان أحكامه.
لقد عرفه أهل اللغة بأنه الدعابة ونقيض الجد.
قال ابن منظور: المزح الدعابة، وفي المحكم: المزح نقيض الجد، مزح يمزح مزحا، ومزاحا ومزاحة، وقد مازحه ممازحة ومزاحا، والاسم المزاح بالضم والمزاحة أيضا. . . والمزاح بالكسر: مصدر مازحه، وهما يتمازحان. . والمزح من الرجال الخارجون(68/345)
عن طبع الثقلاء، المتميزون من طبع البغضاء (1) .
وأما في عرف الشرع فقد عرفه الزبيدي بقوله: هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية حتى يخرج الاستهزاء والسخرية، وقد قال الأئمة: الإكثار منه، والخروج عن الجد مخل بالمروءة والوقار، والتنزه عنه بالمرة والتقبض مخل بالسنة والسيرة النبوية المأمور باتباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها (2) .
__________
(1) لسان العرب: 2 \ 593
(2) تاج العروس من جواهر القاموس: 2 \ 322.(68/346)
وأما حكمه: فإن المزاح الخالي من الموانع التي تعكر صفو الخواطر مندوب إليه، وهو خلق كريم حث عليه الشارع الحكيم.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فمن المتفيهقون؟ قال: المتكبرون (1) »
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، من حديث جابر بن عبد الله، رقم (2018) وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وللحديث شواهد من حديث أبي ثعلبة الخشني عند أحمد في المسند، حديث (17732، 17743) وابن أبي شهبة في المصنف: 8 \ 515، والخرائطي في مكارم الأخلاق ص 5، وابن حبان: (482) والطبراني في الكبير: (22 \ 588) والبيهقي في شعب الإيمان حديث (7989) وله شاهد آخر من حديث ابن عباس عند البيهقي في الشعب حديث (7988) وحديث أبي ثعلبة قال عنه الهيثمي في المجمع: رجال أحمد رجال الصحيح. المجمع: 8 \ 21. وأما حديث ابن عباس فقد حسنه السيوطي. انظر: فيض القدير: (3 \ 619) ، وصححه الشيخ ناصر الدين في صحيح الجامع الصغير: (3 \ 118) حديث (3255) ، وحسن حديث جابر في السلسلة الصحيحة (791) وقال: حديث حسن الإسناد وله شواهد، ذكر حديث أبي ثعلبة، وحديث ابن عباس كشواهد له(68/346)
إن المسلم الذي يجمع إلى الجد الذي يسعى إليه روح الدعابة ومفاكهة الحديث وعذوبة المنطق، وترفه الحكمة يملك القلوب بجاذبية حديثه، ويأسر النفوس بلطيف معشره وكريم مداعبته.
ولكن هل للمسلم أن ينطلق في المزح والدعابة، كما يشاء وحيث أراد أم أنه يتقيد بالضوابط الشرعية.
والحقيقة أنها لا بد من التقيد بالشرع في كل ذلك لمعرفة المكروه من المزاح والمندوب إليه منه.
فالمكروه منه ما كان فيه إفراط بحيث يخرج المسلم عن مهمته الأساسية التي خلق من أجلها والتي هي عبادة خالقه جل وعلا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(68/347)
والمقصود بالعبادة معناها الشامل، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة (1) .
أما إذا لم يكن فيه إفراط ولا شغل عن الله فهذا سنة وقد فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في مدرسة النبوة، فقد كانوا يتمازحون فيما بينهم ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال.
روى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ) ، (2) فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال (3) .
إن المزاح المنهي عنه هو ما فيه إفراط؛ لأنه يسبب قسوة القلب ويشغل عن ذكر الله، والفكر في مهمات الدين، ويؤول في الكثير من الأوقات إلى الإيذاء، والحقد وسقوط المهابة والوقار (4) .
__________
(1) انظر: العبودية لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت 1403 هـ
(2) أي يترامون به، يقال: بدح يبدح إذا رمى. النهاية: (1 \ 104)
(3) الأدب المفرد للبخاري: 202، حديث 266، والحديث في السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الدين، حديث (435)
(4) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود: 14 \ 106(68/348)
ويقول الشيخ بدر الدين الغزي: "قد ورد في ذم المزح ومدحه أخبار، فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، فإنه إزاحة عن الحقوق، ومخرج إلى القطيعة والعقوق، يصم المازح ويضيم المازح، فوصمه المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجرئ عليه الغوغاء والسفهاء، ويورث الغل في قلوب الأكابر والنبهاء.
وأما إضامة الممازح فلأنه إذا قوبل بفعل ممض أو قول مستكره، وسكت عليه أحزن قلبه وأشغل فكره، أو قابل عليه جانب مع صاحبه حشمة وأدبا، وربما كان للعداوة والتباغض سببا، فإن الشر إذا فتح لا يستد، وسهم الأذى إذا أرسل لا يرتد، وقد يعرض العرض للهتك، والدماء للسفك، فحق العاقل (أن) (1) يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساويه " (2) وعلى هذا يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدة فتخلفه (3) »
__________
(1) ليست في الأصل وزدناها للتوضيح
(2) المراح في المزاح لبدر الدين الغزي: 7، 8
(3) سنن الترمذي في كتاب البر والصلة، حديث: 1995 وقال: (حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) والحديث فيه الليث بن أبي سليم، صدوق اختلط جدا ولم يميز حديثه فترك. ت: 464 وت ت: 8 \ 465. فقد أعل الحديث به زين الدين العراقي في المغني عن حمل الأسفار، حديث: 187، والمناوي في فيض القدير: 6 \ 546، وأورده الشيخ ناصر الدين في ضعيف الجامع الصغير: 6 \ 77(68/349)
وكما قرر الشيخ بدر الدين - رحمه الله - أن المزاح في أصله طريق إلى السرور والفرح، فإن الفرح نوعان كما أن المزاح نوعان، ففي الفرح خير وشر، كما أن في المزاح خيرا وشرا.
ولهذا فإن نظير هذا التفصيل وإن كان من قبيل آخر مع اجتماعه مع هذا الموضوع بجامع السرور الموجود في المزاح الطيب والسرور المحظور في المزاح السيئ، أقول: نظير ما جاء من التوجيه الرباني الذي يأمر الله تعالى فيه بالفرح فحينما يحصل الإنسان على النعم وينظر إلى ما بين يديه مما تفضل الله تعالى عليه به من النعمة الجزيلة التي تسره وتجعله يتوجه بها إلى استعمالها فيما يرضي الله عز وجل ليؤدي بعمله هذا واجب الشكر.
يقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) هكذا جاء الأمر في الآية بصيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، وجاء النهي في كتاب الله تعالى عن الفرح المؤدي إلى الأشر
__________
(1) سورة يونس الآية 58(68/350)
والبطر والطغيان حيث يستعمل الإنسان نعم الله تعالى فيما يسخطه، فيكون بذلك جاحدا لفضله عليه سبحانه وتعالى، وهذا ما ذكره الله تعالى على لسان الناصحين لقارون حينما بطر نعم الله عليه وتفاخر وتعالى فقالوا له: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (1) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2) {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (3) وأما المزاح المندوب إليه فهو ما يجري بين الأهل والأقارب والإخوان والأصدقاء بشرط أن لا يكون فيه أذية لأحد، أو استخفاف به، وأن يكون قصد به تطييب نفس المخاطب ومؤانسته. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على ندرة لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهو سنة مستحبة (4) .
قال الماوردي: (العاقل يتوخى بمزاحه حالين لا ثالث لهما:
أحدهما: إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخاطبين، وهذا
__________
(1) سورة القصص الآية 76
(2) سورة القصص الآية 77
(3) سورة القصص الآية 78
(4) فتح الباري: 10 \ 526، وتحفة الأحوزي: 6 \ 125(68/351)
يكون مما أنس من جميل القول وبسط من مستحسن الفعل.
والثاني: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه وحدث به من هم وقد قيل لا بد من المصدور أن ينفس (1) . وقد أوصى أحد السلف ابنه بوصية بليغة ينبغي لكل مازح استحضارها لئلا تزل قدمه، فقال: (لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيء فتهون عليه) (2) .
ولم يكن مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عن الحالين السابقين.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا (3) » .
قال المناوي:. رحمه الله قوله: «ولا (أقول إلا حقا (4) » لعصمتي
__________
(1) انظر فيض القدير 3 \ 18
(2) ذكره الحافظ في ترجمته في الإصابة: 3 \ 98
(3) سنن الترمذي البر والصلة (1990) ، مسند أحمد بن حنبل (2/360) .
(4) سنن الترمذي البر والصلة (1990) ، مسند أحمد بن حنبل (2/360) .(68/352)
من الزلل في القول والعمل.. وإنما كان يمزح؛ لأن الناس مأمورين بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة ولزم العبوس والقطوب لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما فيه مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا (1) .
قلت: وهذا رحمة من الله بهذه الأمة، فحياة المسلم لو كانت كلها على سمت واحد لما رأيت أحدا يأنس بأخيه، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحس أصحابه على بث روح المحبة والألفة بينهم رضي الله عنهم أجمعين فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق (2) » .
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة على مزاحه ستأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم كثير المزاح، وإذا مازح فعل
__________
(1) فيض القدير 3 \ 18
(2) مسلم باب استحباب طلاقة الوجه 144 \ 2626، وأحمد في المسند 5 \ 63(68/353)
ذلك لأهداف تربوية سامية تفضي إلى حياة القلوب بالتعلق بالله سبحانه وتعالى كما أن فيها التودد إلى أفراد المجتمع صغيرة وكبيرة، وإبراز محاسن هذا الدين.(68/354)
المبحث الأول:
مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته
في هذا المبحث بعض ملاطفاته ومزاحه المليء بالتربية، وهذا نتيجة حتمية لما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من الخيرية لأهله ولأمته عامة.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي (1) »
ومن الخيرية بعد أداء الواجبات، الصفح والألفة وحسن المعاشرة وطلاقة الوجه وهذا بعض تلك الأخلاق.
الحديث الأول:
روى البخاري ومسلم.
بسندهما إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: «يا عايش هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته (2) »
__________
(1) أبو داود في السنن (4899) ، والترمذي: 5 \709 وقال: حسن غريب صحيح وأورده الشيخ ناصر الدين في صحيح جامع الترمذي برقم: 3057
(2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الفضائل باب فضل عائشة. الفتح: 7 \ 106، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل عائشة، حديث 91 \ 2447(68/354)
قال النووي: (فيه أي في هذا الحديث من الفوائد فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها، وفيه دليل لجواز الترخيم (1) وقال الحافظ: (في هذا الحديث منقبة عظيمة لعائشة) (2) .
قلت: فترخيمه صلى الله عليه وسلم لاسم عائشة من باب المزاح والملاطفة للأهل.
__________
(1) شرح النووي على مسلم: 8 \ 227
(2) فتح الباري: 7 \ 108(68/355)
الحديث الثاني:
ومن طيب معاشرته صلى الله عليه وسلم لأهله والمبالغة في حسنها وطيبها قوله لعائشة: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع (1) » وهذا جزء من حديث طويل اقتصرنا على محل الشاهد منه.
__________
(1) متفق عليه، البخاري في النكاح باب حسن المعاشرة مع الأهل من حديث عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا. . . الفتح: 9 \ 254، ومسلم في الفضائل باب ذكر حديث أم زرع: 92 \ 2448. قال القرطبي معلقا على هذا الحديث: الصحيح أنه كله من قول عائشة رضي الله عنها إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم لها (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) هذا هو المتفق عليه عند أهل الصحيح، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 6 \ 333 وكذا قال الحافظ في الفتح: 9 \ 276 وقال: وجاء باقيه خارج الصحيح مرفوعا كله(68/355)
قال النووي: قال العلماء هو تطييب لنفسها، وإيضاح لحسن معاشرته إياها ومعناه: أنا لك كأبي زرع. . . وقال: قال العلماء في حديث أم زرع هذا فوائد، منها: استحباب حسن المعاشرة للأهل، وجواز الإخبار عن الأمم الخالية، وأن المشبه بالشيء لا يلزم كونه مثله في كل شيء. ومنها: أن كنايات الطلاق لا يقع بها طلاق إلا بالنية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع (1) » ومن جملة أفعال أبي زرع أنه طلق امرأته أم زرع. ولم يقع على النبي صلى الله عليه وسلم طلاق بتشبيهه لكونه لم ينو الطلاق (2) . وقال الحافظ: في هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع.
وفيه المزح أحيانا وبسط النفس به ومداعبة الرجل أهله وإعلامه لمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه وإعراضها عنه. . وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطا للنفوس (3) .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5189) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2448) .
(2) شرح النووي على مسلم: 8 \ 238
(3) الفتح 9 \ 276(68/356)
الحديث الثالث:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأهله حتى ولو كان ذلك في(68/356)
حالة الشكوى والمرض ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند من طريق محمد بن إسحاق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: «رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه فقال: (بل أنا يا عائشة، وارأساه) ثم قال: (ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك) قلت: لكأني بك، والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه (1) » .
__________
(1) رواه أحمد في المسند: 6 \ 228 ومن طريقه ابن ماجه في سننه حديث: 1465 والبيهقي في دلائل النبوة من طريق ابن إسحاق قال: حدثنا يعقوب بن عتبة 7 \ 167 - 169، وفي سننه الكبرى 3 \ 530، وأورده المزي في تحفة الأشراف 11 \ 482 حديث (16313) ، وعزاه للنسائي في الوفاة من سننه الكبرى، وابن هشام في السيرة: 4 \ 292، ورواه ابن حبان في صحيحه كما في التلخيص: 2 \ 107، ونقل عن البيهقي أنه أعله بابن إسحاق، وقال الحافظ: لم يتفرد به، بل تابعه عليه صالح بن كيسان عند أحمد: 6 \ 144 عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه فقلت: وارأساه، فقال: وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك ودفنتك، قالت: فقلت غيرى: كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك، قال: وأنا وارأساه. . . ورواه البخاري في كتاب المرضى باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، أو وارأساه، واشتد بي الوجع من طريق القاسم بن محمد عن عائشة. البخاري مع الفتح 10 \ 123 حديث (5666) ، وأورده البوصيري في زوائد ابن ماجه وقال إسناد رجاله ثقات وأشار إلى رواية البخاري بقوله ورواه البخاري من وجه آخر عن عائشة مختصرا، ورواه النسائي في كتاب الوفاة وليس في روايتنا. مصباح الزجاجة على زوائد ابن ماجه 2 \ 25، وصححه الشيخ ناصر الدين في إرواء الغليل: 3 \ 160 وأيضا صحح إسناده د \ بشار عواد في تعليقه على سنن ابن ماجه ونبه على تصريح ابن إسحاق بالتحديث في سيرته: 4 \ 292، وعند البيهقي في دلائل النبوة: 7 \ 168، 169 كما ذكر ذلك قبله الشيخ ناصر الدين(68/357)
الحديث الرابع:
ومن مزاحه وملاطفته لأهله، ما رواه أبو داود بسنده إلى هشام بن عروة عن أبيه وأبي سلمة عن عائشة رضي الله(68/358)
عنها «إنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود في سننه، حديث: 2578، والنسائي في الكبرى: 5 \ حديث (8945) والبيهقي في السنن الكبرى: 10 \ 31، ورواه أحمد في المسند: 6 \ 39 كلهم عن أبي إسحاق الفزاري عن هشام بن عروة، ورواه ابن ماجه في سننه، حديث (1979) ، والنسائي في الكبرى: 5 \ 303، حديث: 8942، والطبراني في الكبير: 23 \ 47 حديث: (125) ، وابن حبان في صحيحه، حديث: (4672) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة به. ورواه النسائي في الكبرى: 5 \ 304 من طريق هشام بن عروة عن رجل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، قال المزي: فيه اختلاف على هشام وغيره. تحفة الأشراف: 12 \374. وذكر قبل هذا أنه اختلف فيه على أبي إسحاق الفزاري وغيره. تحفة الأشراف: 12 \ 369، والحديث رواه هشام بن عروة عن أبيه عروة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وقد رجح ابن التركماني رواية سفيان بن عيينة عن هشام على رواية أبي إسحاق الفزاري فقال: أخرجه النسائي من حديث أبي إسحاق الفزاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وكذلك أخرجه النسائي وابن ماجه من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام عن أبيه، عن عائشة، فينبغي أن يكون هذا هو الصواب، لاجتماع عدة من الرواة عليه، ويحتمل أنه سمع الحديث من أبيه ومن أبي سلمة. انظر: الجوهر النقي بهامش السنن الكبرى للبيهقي: 10 \ 31 والحديث صحح سنده الشيخ ناصر الدين في تعليقه على المشكاة، حديث (3251) والدكتور بشار عواد في تعليقه على سنن ابن ماجه، حديث: (1979)(68/359)
الحديث الخامس:
ومن مزاحه مع أهل بيته ما رواه النعمان بن بشير قال: «استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه من الرجل. قال: فمكث أبو بكر أياما ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا (2) » .
__________
(1) الحديث رواه أحمد في المسند، حديث: (18394) وأبو داود في السنن، حديث: (4999) ، والنسائي في الكبرى، حديث: (9155) وقد صحح إسناده شعيب الأرناؤوط، فقال: إسناد صحيح على شرط مسلم وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة، حديث: (4891) ولم يعلق عليه المحقق الشيخ ناصر الدين
(2) (1) ، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: كيف رأيتني أنقذتك(68/360)
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في مزاحه صلى الله عليه وسلم مع الصغار.
أن المتأمل لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مزاحه ودعابته مع الصبيان يجد أنموذجا فريدا، فهو مع كونه صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وقائدا ومعلما، ومربيا لهذه الأمة لم ينس الصبيان علماء المستقبل فكان أرحم الناس بالصبيان والعيال.
وقد أشار النووي إلى أن الحديث يروى «ما رأيت أحدا أرحم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيال (1) » .
وهذا هو المشهور الموجود في النسخ والروايات، وفي بعض الروايات بالعباد، ثم قال: ففيه بيان كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للعيال والضعفاء، وفيه: فضيلة رحمة العيال والأطفال
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2316) ، مسند أحمد بن حنبل (3/112) .(68/361)
وتقبيلهم (1) .
الحديث الأول:
روى البخاري ومسلم بسنديهما إلى أبي التياح قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: « (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير) (2) »
قلت: هذا الحديث من الأحاديث التي أفردها العلماء بتآليف خاصة دفاعا عن السنة المطهرة، فمن العلماء الذين أفردوه. بمؤلف خاص ابن القاص وسمى كتابه: (فوائد حديث ابن عمير) وذكر في مقدمة هذا الكتاب سبب تأليفه وأن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها ومثل بحديث أبي عمير هذا
__________
(1) شرح النووي على مسلم 8 \ 85
(2) تصغير النغر، وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار، ويجمع على: نغران. النهاية: 5 \ 86. والحديث متفق عليه أخرجه البخاري في الأدب، باب الانبساط إلى الناس: 8 \ 37 ومسلم في كتاب الأدب، حديث: 3 \ 2150(68/362)
وقال رحمه الله: أنه استخرج منه ستين وجها من الفقه وسردها جميعا ونحن نذكر بعض ما ذكر فقال: في قوله (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء مزاحه) ما يدل على أنه كان يمازحه كثيرا، وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان:
أحدهما: أن الممازحة مع الصبيان مباح.
والثاني: إنها إباحة سنة لا إباحة رخصة؛ لأنها لو كانت إباحة رخصة لأشبه أن لا يكثرها. وفيه ما يدل على حسن الخلق وأنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل عن حاله إذا برز، فيكون في المنزل أكثر مزاحا، وإذا خرج أكثر سكينة ووقارا إلا من طريق الرياء.
وفيه أنه كان من صفاته صلى الله عليه وسلم أنه كان يواسي بين جلسائه حتى يأخذ كل بحظ. وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخوله على أم سليم، صافح أنسا، ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم، حتى نال الجميع من بركته (1) .
__________
(1) جزء فيه فوائد حديث أبي عمير: 13 - 25 - 26 - 33(68/363)
الحديث الثاني:
روى الزهري عن محمود بن الربيع قال: «عقلت من(68/363)
النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو (1) » .
وفي هذا الحديث من هديه صلى الله عليه وسلم ممازحة الأطفال جبرا لخواطر آبائهم.
قال الحافظ: قوله (مجة) أي بفتح الميم وتشديد الجيم، والمج هو إرسال الماء من الفم، وقيل لا يسمى مجا إلا إن كان على بعد.
وفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع محمود إما مداعبة معه، أو ليبارك عليه بها كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة (2) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب متى يصح سماع الصغير: 1 \ 172، والبغوي في شرح السنة: 1 \ 242
(2) فتح الباري: 1 \ 172(68/364)
الحديث الثالث:
ما ساقه البخاري بسنده إلى أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنه سنه. قال عبد الله (1) وهي بالحبشية: حسنة. قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة،
__________
(1) البخاري مع الفتح: 10 \ 425 باب من ترك صبي غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها(68/364)
فزبرني أبي (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي قال عبد الله: فبقيت حتى ذكر. . يعني من بقائها) » .
إن المتأمل لحديث أم خالد الصغيرة ليجد فيه عظم خلقه صلى الله عليه وسلم وطيب نفسه. فقد اشتمل على الممازحة بالقول والفعل مع هذه البنت الصغيرة.
قال الحافظ أثناء شرحه لهذا الحديث: إن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك (2) .
__________
(1) الزبر بزاي وموحدة ساكنة هو: الزجر والمنع. الفتح: 10 \ 425
(2) الفتح 10 \ 425(68/365)
الحديث الرابع:
في بيان حرص الصبيان على التقرب من النبي صلى الله عليه وسلم وملاقاتهم له في الطرقات روى ثابت عن أنس رضي الله(68/365)
عنه قال: «أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا. فبعثني إلى حاجة فأبطأت عن أمي. فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة قالت: ما حاجته قلت: إنها سر، قالت لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا.
قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت (1) » .
وقد أجمل القرطبي فوائد هذا الحديث بقوله: فيه دليل على تخلية الصغار ودواعيهم من اللعب والانبساط ولا نضيق عليهم بالمنع مما لا مفسدة فيه، وفيه دليل على مشروعية السلام على الصبيان، وفائدته تعليمهم السلام وتمرينهم على فعله وإفشائه ... وكتمان أنس سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمه، دليل على كمال عقله (2) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفضائل باب فضائل أنس بن مالك حديث 145 \ 2482، وأحمد في المسند 3 \ 109
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي: 6 \ 412(68/366)
الحديث الخامس:
ومن أساليبه صلى الله عليه وسلم في المزاح والمداعبة للأبناء ترخيم (1) أسمائهم أو تصغيرها.
فعن أنس بن مالك رضي عنه
__________
(1) وقد تقدم تعريف الترخيم(68/366)
قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة قلت: والله لا أذهب - وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: (يا أنيس اذهب حيث أمرتك) قال: قلت: نعم أذهب يا رسول الله قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟ (1) » .
قال النووي في هذا الحديث: بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته وحلمه وصفحه (2) .
وقال القرطبي: وقول أنس: (والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب) هذا القول: صدر من أنس في حال صغره، وعدم كمال تمييزه إذ لا يصدر مثله ممن كمل تمييزه ولم يؤدبه صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بل داعبه، وأخذ بقفاه وهو يضحك رفقا به، واستلطافا له، ثم قال: (يا أنيس اذهب حيث أمرتك) فقال له:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفضائل باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، حديث 54 \ 2310، وأبو داود في كتاب الأدب، حديث: (773)
(2) شرح النووي على مسلم 8 \ 79(68/367)
أنا أذهب، وهذا كله مقتضى خلقه الكريم، وحلمه العظيم (1) .
__________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6 \ 104(68/368)
الحديث السادس:
ومن ملاطفته وتأنيسه للصبيان ما رواه ابن عباس قال: «كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف الباب. قال: فجاء فحطأني حطأة قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدني قفدة (2) » .
قلت: أما فوائد هذا الحديث فأجملها النووي بقوله: فيها جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام. واعتماد الصبي فيما يرسل فيه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب. حديث 96 \ 2604
(2) (1) وقال: (اذهب وادع لي معاوية) قال: فجئت فقلت: هو يأكل. قال: ثم قال لي: (اذهب فادع معاوية) قال: فجئت فقلت: هو يأكل. فقال: (لا أشبع الله بطنه)(68/368)
من دعاء إنسان ونحوه من حمل هدية وطلب حاجة وأشباهه. وجواز إرسال الصبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا ولا يقال: هذا تصرف في منفعة الصبي، لأن هذا قدر يسير ورد الشرع بالمسامحة للحاجة، واطرد به العرف وعمل المسلمين (1) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم: 8 \ 402(68/369)
الحديث السابع:
ومن مزاحه مع الأطفال وخاصة البنات ما رواه أنس بن مالك قال: «كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس. فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: (أنت هيه؟ لقد كبرت، لا كبر سنك) فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم ألا تكبر سني فالآن لا تكبر سني أبدا. أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما لك يا أم سليم) فقالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي؟ قال (وما ذاك يا أم سليم) قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها قال: فضحك (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب حديث 95 \ 2603
(2) هو بالمثلثة في آخره أي تجير على رأسها. شرح النووي على مسلم 8 \ 401 (1)(68/369)
ثم قال: يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة» .
قال النووي: في هذا الحديث: (لا كبر سنك) وفي حديث معاوية (لا أشبع الله بطنك) ونحو ذلك، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا (1) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم 8 \ 400(68/370)
الحديث الثامن:
ومن مزاحه قوله لخادمه ممازحا: يا ذا الأذنين، وهذا من المزح الذي لا يدخله كذب قال أنس بن مالك: «قال لي النبي صلى الله عليه وسلم (يا ذا الأذنين) (1) » .
__________
(1) الحديث رواه أحمد في المسند 3 \ 127، 260، وأبو داود في سننه في كتاب الأدب باب ما جاء في المزاح: حديث (4994) والترمذي في كتاب الأدب باب ما جاء في المزاح حديث (2059) وزاد وقال محمود: قال أبو أسامة أحد رواته: إنما يعني به أنه يمازح ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10 \ 419، والبغوي في مصابيح السنة: 3 \ 335 وحسنه وأورده الشيخ ناصر الدين في صحيح الجامع الصغير 6 \ 288 برقم 7786(68/370)
قال أبو سليمان الخطابي معلقا على هذا الحديث: كان مزح النبي صلى الله عليه وسلم مزحا لا يدخله الكذب والتزيد، وكل إنسان له أذنان فهو صادق في وصفه إياه بذلك، وقد يحتمل وجها آخر وهو أن لا يكون قصد بهذا القول المزاح وإنما معناه الحض والتنبيه على حسن الاستماع، والتلقف لما يقوله ويعلمه إياه وسماه ذا الأذنين إذا كان الاستماع إنما يكون بحاسة الأذن، وقد خلق الله تعالى له أذنين يسمع بكل واحدة منها، وجعلهما حجة عليه فلا يعذر معهما إن أغفل الاستماع له ولم يحسن الوعي والله أعلم (1) .
__________
(1) معالم السنن: 4 \ 126(68/371)
الحديث التاسع:
ومن مداعبته ومزاحه صلى الله عليه وسلم تصغيره لأسماء المخاطبين من أبناء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فيكون بذلك مؤانسا لهم ولذويهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول: يا زوينب. . يا زوينب مرارا (1) » .
__________
(1) رواه الضياء المقدسي في المختارة: 2 \ 45 كما في السلسلة الصحيحة: (2141) عن أحمد بن حرب: ثنا علي بن عبد الحميد: ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني. قال: قال علي: أحسبه - عن أنس مرفوعا. قال الشيخ ناصر الدين: قلت: وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات، وأورده في ترتيب أحاديث الجامع وزياداته وصححه: 3 \ 185(68/371)
الحديث العاشر:
ومن مزاحه ومداعبته لأحب الأطفال إليه صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قال أبو هريرة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصبي حمرة لسانه، فيبهش إليه (3) » .
__________
(1) رواه البغوي في شرح السنة: 13 \ 180، وفي الأنوار في شمائل النبي المختار: 1 \ 254. وأورده العراقي في المغني عن حمل الأسفار. حديث (2928) وزاد فيه قال ابن عيينة بن بدر الفزاري: والله ليكونن لي الابن رجلا قد خرج وجهه وما قبلته قط، فقال: '' إن من لا يرحم لا يرحم '' وعزاه لأبي يعلى من هذا الوجه، دون ما في آخره. من قول عيينة بن بدر وهو عيينة بن حصن بن بدر ونسب إلى جده، وحكى الخطيب في '' المبهمات '' قولين في قائلي ذلك: أحدهما أنه عيينة بن حصن، والثاني أنه الأقرع بن حابس، وعند مسلم من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة '' أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدا منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''من لا يرحم لا يرحم '' حديث 65 \ 2318 من رواية سفيان بن عيينة ومعمر فرقهما كلاهما عن الزهري عن أبي هريرة، ورواه البخاري من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: '' من لا يرحم لا يرحم ''. البخاري مع الفتح: 10 \ 426. قال الحافظ: ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن أخرجه أبو يعلى بسند رجاله ثقات إلى أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية الإسماعيلي عن هشام بن عروة عن أبيه قوله: '' جاء أعرابي يحتمل أن يكون الأقرع بن حابس ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم السعدي. . ثم قال: ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم فقد وقع في رواية مسلم ''قدم ناس من الأعراب فقالوا. . '' الفتح: 10 \ 430. والحديث قال فيه العراقي سنده جيد، المغني عن حمل الأسفار: (2928) ووثق رجاله الحافظ في الفتح: 10 \ 430 وحسنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على شرح السنة: 13 \ 180، والشيخ ناصر الدين في السلسلة الصحيحة: 1 \ 110 حديث (70) وقال رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وهذا إسناد حسن
(2) أي يخرجه حتى ترى حمرته فيبهش إليه، يقال دلع وأدلع. النهاية: 2 \ 130 (1)
(3) يقال للإنسان إذا نظر إلى شيء فأعجبه واشتهاه وأسرع نحوه بهش إليه النهاية: 1 \ 166 (2)(68/372)
المبحث الثالث:
ويتضمن هذا المبحث مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وفيه من التوجيه والإرشاد والأنس للقلوب والتواضع والنصح ما لا يعلمه إلا الله، وذلك عملا منه بقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) وسيأتي تفصيل ذلك.
الحديث الأول:
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في هذا المجال ما جاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في قصة جمله المشهورة «قال جابر بن عبد الله (2)
__________
(1) سورة الحجر الآية 88
(2) صحيح البخاري البيوع (2097) ، صحيح مسلم الرضاع (715) ، سنن النسائي البيوع (4638) .(68/373)
غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي، وتحتي ناضح لي قد أعيا ولا يكاد يسير قال: فقال لي: " ما لبعيرك؟ " قال: فقلت: عليل، قال: فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير قال: فقال لي: " كيف ترى بعيرك؟ " قال: قلت: بخير، قد أصابته بركتك. قال: " أفتبيعينه؟ " فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره. قال: فقلت: نعم، فبعته إياه، على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة. قال: فقلت: له: يا رسول الله إني عروس فاستأذنته. فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة حتى انتهيت فلقيني خالي فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعت، فلامني فيه فقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي حين استأذنته: " ما تزوجت أبكرا أم ثيب " فقلت له: تزوجت ثيبا. قال: " أفلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ " فقلت له يا رسول الله توفي والدي أو استشهد ولي أخوات صغار. فكرهت أن أتزوج إليهن مثلهن فلا تؤدبهن، ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيبا لتقوم عليهن وتؤدبهن. قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدوت إليه بالبعير، فأعطاني ثمنه ورده علي» .(68/374)
وقد أجمل النووي فوائد هذا الحديث بقوله: فيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في انبعاث جمل جابر وإسراعه بعد إعيائه، وجواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته، وجواز المماكسة في البيع، وسؤال الرجل الكبير أصحابه عن أحوالهم والإشارة عليهم بمصالحهم واستحباب نكاح البكر (1) .
قلت: وفيه جواز الممازحة من الكبير لمن هو دونه، وقد ذكر صاحب سبيل الهدى والرشاد أنه وقع في رواية لجابر: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمني ويمازحني.
__________
(1) شرح النووي على مسلم: 6 \ 40(68/375)
الحديث الثاني:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم في تفسيره للخيط الأبيض من الخيط الأسود «قال عدي بن حاتم (1) : قلت: يا رسول الله إني
__________
(1) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في التفسير. باب '' وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر '' الفتح: 8 \ 182، مسلم في الصيام: حديث 33 \ 1090(68/375)
أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود. أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وسادتك لعريض، إنما هي سواد الليل وبياض النهار» .
قال النووي: قوله: «إن وسادتك لعريض (1) » قال القاضي: معناه إن جعلت تحت وسادتك الخيطين اللذين أرادهما الله تعالى وهما الليل والنهار فوسادك يعلوهما ويغطيهما، وحينئذ يكون عريضا، وهو معنى الرواية الأخرى في صحيح البخاري: «إنك لعريض القفا (2) » . لأن من يكون هذا وساده يكون عظم قفاه من نسبته بقدره، وهو معنى الرواية الأخرى " إنك لضخم ".
وأنكر القاضي قول من قال: إنه كناية عن الغباوة أو السمن لكثرة أكله على بيان الخيطين.
وقال بعضهم: المراد بالوساد النوم، أي نومك كثير، وقيل: أراد به الليل، أي من لم يكن النهار عنده إلا إذا بان له العقالان طال ليله وكثر نومه. والصواب ما اختاره القاضي (3) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4509) ، صحيح مسلم الصيام (1090) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2971) ، سنن النسائي الصيام (2169) ، سنن أبو داود الصوم (2349) ، مسند أحمد بن حنبل (4/377) ، سنن الدارمي الصوم (1694) .
(2) انظر: البخاري في باب '' وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ''. الفتح: 8 \ 182
(3) شرح النووي على مسلم: 4 \ 218(68/376)
الحديث الثالث:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما حصل لعوف بن(68/376)
مالك الأشجعي قال عوف: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في قبة من أدم، فسلمت فرد وقال: "ادخل" فقلت: أكلي يا رسول الله؟ قال: " كلك " فدخلت (1) » . وفي رواية عثمان بن أبي عاتكة عند أبي داود: أدخل كلي من صغر
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأدب باب ما جاء في المزاح حديث (5000) ، وابن ماجه في كتاب الفتن باب أشراط الساعة حديث (4042) ، وأحمد في المسند: 6 \ 25، 27، وأخرجه البخاري مطولا في الجزية باب ما يحذر في الغدر وليس فيه قصة الدخول. الفتح: 6 \ 277 حديث (3176) ، وابن حبان (6675) ، والطبراني في الكبير: 18 \ حديث (70) ، والبيهقي في السنن الكبرى: 9 \ 223، وفي دلائل النبوة: 6 \ 320، 383، والبغوي في شرح السنة: 15 \ 43 وقال: هذا حديث صحيح وليس فيه قصة الدخول(68/377)
القبة.
قال محمد شمس الحق العظيم آبادي: وفيه أنه كما كان يمازح الصحابة كذلك كانوا يمازحونه (1) .
__________
(1) عون المعبود: 13 \ 280(68/378)
الحديث الرابع:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم ما رواه أنس بن مالك «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا حاملك على ولد ناقة " قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وهل تلد الإبل إلا النوق "؟ (1) » .
قال العلماء: إن هذا المزاح قاله صلى الله عليه وسلم مباسطا لهذا الرجل بما عساه أن يكون شفاء لبلهه، حيث توهم أن الولد لا
__________
(1) رواه أبو داود في سننه في كتاب الأدب حديث: (4990) ، والترمذي، في السنن حديث: (2060) ، وفي الشمائل 120 حديث 238 وقال: حديث صحيح غريب، وأحمد في المسند: 3 \ 267، والبغوي في مصابيح السنة وحسنه: 3 \ 335، والبيهقي في السنن الكبرى: 10 \ 419، والحديث صححه الترمذي والبغوي وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لشرح السنة: سنده صحيح. شرح السنة: 13 \ 182(68/378)
يطلق إلا على الصغير وهو غير قابل للركوب. فقال له صلى الله عليه وسلم: " هل تلد الإبل " أي جنسها من الصغار والكبار " إلا النوق "؟ وهي أنثى الإبل، والمعنى أنك لو تدبرت لم تقل ذلك. ففيه مع المباسطة له الإشارة إلى إرشاده وإرشاد غيره بأنه ينبغي لمن سمع قولا أن يتأمله ولا يبادر إلى رده إلا بعد أن يدرك غوره (1) .
وقال صاحب عون المعبود: في هذا الحديث والأحاديث بعده في الباب إباحة المزاح والدعابة (2) .
__________
(1) تحفة الأحوذي شرح الترمذي بتصرف
(2) عون المعبود شرح سنن أبي داود: 13 \ 278(68/379)
الحديث الخامس:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما رواه الإمام أحمد في المسند بسنده إلى عبد الحميد بن صفي عن أبيه (1) عن جده (2) قال: «إن صهيبا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز، فقال: " ادن فكل " قال: فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بعينك رمدا" فقال: يا
__________
(1) زياد بن صفي، بفتح المهملة وسكون التحتانية بن صهيب الرومي، صدوق. ت: 220، وت ت: 3 \ 374
(2) صفي بن صهيب بن سنان مقبول من الثالثة. ت: 278، وقال الذهبي: وثق. الكاشف: 2 \ 33(68/379)
رسول الله: إنما آكل من الناحية الأخرى، قال: فتبسم النبي (1) » .
وفي هذا الحديث إشكال وهو: كيف استجاز صهيب رضي الله عنه أن يعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزح في جوابه؟ وقد أجاب عن هذا الإشكال بدر الدين الغزي بقوله: إنما استجاز صهيب أن يعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزح في جوابه؛ لأن استخباره قد كان يتضمن المزح، فأجابه عنه بما وافقه من المزح مساعدة لغرضه، وتقربا من قلبه، وإلا فليس لأحد أن يجعل جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم مزحا؛ لأن المزح هزل ومن جعل جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل أحكامه المؤدي إلى خلقه أوامره هزلا ومزحا فقد عصى الله تعالى، وصهيب كان أطوع لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من
__________
(1) رواه أحمد في المسند: 27 \ 136 حديث (16591) ، وابن ماجه في سننه: 5 \ 119 حديث (3443) ، والطبراني في الكبير: 8 \ 41 حديث (7304) كلهم من طريق ابن المبارك ورواه الحاكم في المستدرك: 3 \ 399 من طريق سعيد بن سليمان الواسطي عن ابن المبارك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في سننه الكبرى: 9 \ 344 من طريق سهل بن عثمان عن ابن المبارك عن عبد الحميد بن زياد.. والحديث صحح إسناده البوصيري فقال: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. انظر سنن ابن ماجه: 2 \ 1139 بتحقيق محمد فؤاد، وأورده الشيخ ناصر الدين في صحيح ابن ماجه: 2 \ 253، وقال فيه العراقي في المغني عن حمل الأسفار: 2 \ 1798 رجاله ثقات(68/380)
أن يكون بهذه المنزلة (1) .
__________
(1) المراح في المزاح لبدر الدين الغزي: 20(68/381)
الحديث السادس:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أنس «أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا (2) ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من يشتري العبد؟ " فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكن عند الله لست بكاسد، أو قال: لكن عند الله أنت غال "» .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/161) .
(2) (1) ، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلا دميما فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره فقال الرجل: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو أي لا يقصر(68/381)
الحديث السابع:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما جاء عن سفينة مولى لأم سلمة رضي الله عنها قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل كل من ثقل عليه متاعه من أصحابه حمله علي، حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنت اليوم إلا سفينة (1) » .
__________
(1) رواه أحمد في المسند: 5 \ 220، 221، 222، والحاكم في المستدرك: 3 \ 606، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ورواه الطبراني في الكبير: 7 \ 97، وأبو نعيم في الحلية: 1\ 369، وفي معرفة الصحابة: 3 \ 1392، وأورده الذهبي في السير: 3 \ 173، 13 \ 179 في ترجمة أبي قلابة، وقال هذا حديث حسن من العوالي، بل هو أعلى ما وقع لأبي قلابة. وصححه الشيخ ناصر الدين في السلسلة الصحيحة (2959)(68/382)
الحديث الثامن:
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم العملي ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير رجل من الأنصار قال: «بينما هو يحدث القوم - وكان فيه مزاح - بينا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بعود، فقال: أصبرني، فقال:: "اصطبر" قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، فاحتضنه وأخذ يقبل كشحه قال: إنما أردت هذا يا رسول الله (5) » .
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5224) .
(2) يريد أقدني من نفسك، وقوله: '' اصطبرني '' معناه استقد يريد بالصبر القود. معالم السنن: 4 \ 144 (1)
(3) الكشح ما بين الخاصرة إلى الضلع الأقصر من أضلاع الجنب. عون المعبود: 14 \ 107 (2)
(4) ما أردت بقولي '' اصطبرني '' إلا هذا التقبيل وما أردت حقيقة القصاص. عون المعبود: 14 \ 107 (3)
(5) (4)(68/383)
الاصطلاحات الواردة في البحث في الهوامش
ت ... لتقريب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
ت ت ... لتهذيب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
الكاشف ... الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، لمحمد بن عثمان الذهبي.
السير ... سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
العبر ... العبر في خبر من غبر، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
الميزان ... ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.
اللسان ... لسان الميزان، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
الفتح ... فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
المجمع ... مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي.(68/384)
حديث شريف
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا (1) » .
(متفق عليه واللفظ لمسلم)
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2607) ، سنن الترمذي البر والصلة (1971) ، سنن أبو داود الأدب (4989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .(68/385)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)
(سورة آل عمران الآية 7)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7(69/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(69/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(69/3)
المحتويات
الافتتاحية
أسباب حصول الفتن وسبيل النجاة منها لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 59
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 73
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 85(69/4)
البحوث
منقصات التوحيد لفضيلة الدكتور / عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 99
أكثر ما قيل في التعزير بالجلد والسجن وبدائل السجن لمعالي الشيخ الدكتور / عبد الله بن محمد المطلق
والشيخ خالد بن علي العرفج 173
أحاديث فضائل الأضحية جمع ودراسة لفضيلة الدكتور: عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد 211
مع السلف الصالح في الحج لفضيلة الدكتور: بدر بن ناصر البدر 251
بيان من هيئة كبار العلماء حول أحداث الرياض 367
بيان من هيئة كبار العلماء حول ما جرى مؤخرا في المملكة من تفجيرات 375(69/5)
صفحة فارغة(69/6)
أسباب حصول الفتن
وسبيل النجاة منها
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن المتأمل في حال أمة الإسلام وما آلوا إليه من تفرق وضعف وما يجري عليهم من مصائب وفتن ليتألم أشد الألم، لكن المؤمن الحق لا ييأس من روح الله {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (1) فواجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أوصلتنا لهذه الحالة ومن ثم نتلمس طرق العلاج على ضوء الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه حكيم عليم ربط الأسباب بمسبباتها وهو سبحانه لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، هذا وإن أخطر ما بليت به أمة من الأمم أن تؤتى
__________
(1) سورة يوسف الآية 87(69/7)
من داخلها من أبنائها وهذا من أخطر الأدواء وأعظم المصائب، يقول الله عز وجل مهددا ومتوعدا: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (1)
فهذا من أعظم أنواع العذاب فأعظمها أن يأتي العذاب من فوق، ثم من تحت الأرجل، ثم أن يلبس الناس شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، فعن جابر رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك. قال: قال: أعوذ بوجهك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أهون - أو هذا أيسر- (5) » أخرجه البخاري.
فإذا كان هذا النوع على ما فيه من الشدة والبلاء هو أيسر نوعي العذاب الذي توعد الله به عباده فالواجب الحذر.
أيها الإخوة في الله.. إن خطر هذا النوع من العذاب يكمن في أمور:
أولا: أنه نوع من أنواع العذاب التي تنبي عن سخط الجبار عز وجل.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 65
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4628) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3065) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .
(3) سورة الأنعام الآية 65 (2) {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}
(4) سورة الأنعام الآية 65 (3) {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}
(5) سورة الأنعام الآية 65 (4) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}(69/8)
وثانيها: أن نبي الهدى والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم علم خطرها واستشعرها، ومن رحمته بأمته جعلها إحدى ثلاث دعوات دعا بهن ربه عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربى: ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها (1) » أخرجه مسلم.
وثالثها: أن الأمة حيث تصاب من داخلها تكون مصيبتها في نفسها وعدوها منها، فإن حاربت وقاتلت فإنما يقاتل المرء أخاه، وإن سكتت وكفت سكتت على بلاء عظيم يزداد سوءا وخطرا فهي فتنة يظل فيها الحليم حيرانا.
ومعنى أن يلبس الناس شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأهواء والاختلاف) . وقال مجاهد: يعني ما فيهم من الاختلاف والفتن. وعنه: أنها الأهواء المتفرقة.
وقال ابن زيد: الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك دماء بعضهم بعضا (2) .
ولما كان التفرق والتحزب بلاء ونقمة نهى الله عباده عن القصد إليه وأمرهم بالاجتماع على الحق، فقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) وأخبر أن نبيه صلى الله عليه وسلم بريء
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2890) ، مسند أحمد بن حنبل (1/182) .
(2) جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري (سورة الأنعام آية رقم 265) .
(3) سورة آل عمران الآية 103(69/9)
من الذين فرقوا دينهم، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (1) وكذلك حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من التفرق والتحزب والتشيع. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (2) » . وفي بعض الروايات بزيادة «كلها في النار إلا فرقة (3) » .
والمقصود أن التفرق عقوبة من الله عز وجل وهو أيضا محرم على أهل الإسلام فلا يجوز لهم السعي في الافتراق والبعد عن هذا الصراط المستقيم، كما أنه سبب للفرقة والافتراق فهو سبب لحصول الاقتتال والعداوات، كل هذا إنما يحصل بسبب الجهل أو البغي والظلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن كثرة القتل في آخر الزمان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج - وهو القتل القتل - حتى يكثر فيكم المال فيفيض (4) » . أخرجه البخاري ومسلم بنحوه.
هذا وإنه لما ظهر في زماننا بعض من حادوا عن الصراط المستقيم وخرجوا على جماعة المسلمين وشذوا عنهم ووقعت بسببهم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 159
(2) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/120) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (1036) ، سنن ابن ماجه الفتن (4047) ، مسند أحمد بن حنبل (2/530) .(69/10)
فتنة عظيمة في الأمة كان لزاما على أهل العلم أن يبينوا الحق ويدلوا الناس على صراط الله المستقيم، وهذا ما انعقد عليه عزمنا في هذه الرسالة المختصرة، سائلين الله العون والتوفيق فنعرض باختصار للأسباب الحاملة على تقحم بعض الشباب لهذه البلايا، ثم نبين أسباب حصول المصائب والفتن في المجتمعات، ثم نبين وسطية أهل السنة والجماعة بعرض بعض صورها وبيان استمدادها وكيفية تطبيقها والتحذير من الانحراف عنها.(69/11)
فأما الأسباب التي حملت بعض من زلت بهم القدم إلى الخروج عن الجادة وسفك دماء المعصومين والاعتداء على أموالهم وترويع الآمنين، سنذكر جملة منها، نصيحة لله ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم، وحتى يكون المسلم على بصيرة فيما يأتي ويذر.
فمن ذلك: الجهل، فإن الجهل داء قاتل يردي صاحبه، وأعظم أنواعه: الجهل المركب فيسير المرء في حياته على جهل وهو لا يعلم أنه جاهل بل يظن نفسه على الحق والهدى، يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (1) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (2) وهذه الآية والتي كانت في اليهود والنصارى فهي عامة بلفظها، كل من عمل عملا يظنه حسنا
__________
(1) سورة الكهف الآية 103
(2) سورة الكهف الآية 104(69/11)
وإلى الله مقربا، وحقيقة عمله أنه سيء وهو فيه لله مسخط والعياذ بالله وهذا من الجهل بدين الله، ومن ذلك قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (1)
وقد قيل:
ما يبلغ الناس من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
__________
(1) سورة فاطر الآية 8(69/12)
ومن الأسباب: البغي: فقد يكون المرء عنده علم من الكتاب والسنة، لكنه يبغي ويظلم، يقول الله تعالى عمن هذه حاله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ويقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (2)
قال ابن جرير: حدتني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
__________
(1) سورة البقرة الآية 213
(2) سورة يونس الآية 93(69/12)
قال ابن زيد: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (1) قال: (العلم كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيا بينهم، أهل الأهواء هل اقتتلوا إلا على البغي؟ قال: والبغي وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغي في العلم يرى هذا جاهلا مخطئا ويرى نفسه مصيبا عالما فيبغي بإصابته وعلمه على هذا المخطئ) اهـ (2) .
فالبغي في العلم وبالعلم كلاهما من الظلم وهما من أسباب الافتتان والاعتداد بالرأي.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيا، والبغي مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر: الكبر والحسد، وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم ولا قصد به البغي كتنازع العلماء السائغ، والبغي إما تضييع للحق وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب وإما فعل محرم فعلم أن موجب التفرق هو ذلك) (3) .
وقال في موضع آخر: (إذ أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء) (4) .
__________
(1) سورة يونس الآية 93
(2) جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري [سورة يونس، آية رقم 293] .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية (1\14) .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية (4\170) .(69/13)
ومن الأسباب أيضا: عدم التوفيق بين النصوص من الكتاب والسنة فينزع المستدل منهم بدليل يرى أنه كاف في الدلالة على مقصوده ومراده ويترك الأدلة الأخرى من الكتاب والسنة، وربما تعسف الجواب عنها إبقاء لاستدلاله على حاله. وهذا من أعظم الأسباب التي أهلكت السابقين واللاحقين، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)
قال أبو غالب: (كنت بدمشق فجيء بسبعين رأسا من رءوس الحرورية فنصبت على درج المسجد، فجاء أبو أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين، ثم خرج فوقف عليهم فجعل يهريق عبرته ساعة ثم قال: ما يصنع إبليس بأهل الإسلام، ثلاث مرات، ثم قال: كلاب جهنم، ثلاث مرات ثم قال: شر قتلى قتلت تحت ظل السماء، ثلاث مرات، تم أقبل علي، فقال: يا أبا غالب إنك ببلد أهويته كثيرة، هؤلاء به كثير، قلت: أجل، قال: أعاذك الله منهم قال: ولم تهريق عبرتك؟ قال: رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام قال: أتقرأ سورة آل عمران؟ قلت: نعم،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7(69/14)
قال: اقرأ هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (1) إلى آخر الآية، قلت: هؤلاء كان في قلوبهم زيغ فزيغ بهم، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) قال: فقلت: إنهم هؤلاء، قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم (3) » فقال رجل إلى جنبي: يا أبا أمامة أما ترى ما يصنع السواد الأعظم؟ قال: عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين، قال: السمع والطاعة خير من المعصية والفرقة، يقضون لنا ثم يقتلوننا، قال: فقلت له: هذا الذي تحدث به شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تقوله عن رأيك قال: إني إذا لجريء أن أحدثكم ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين حتى قالها سبعا) .
وأنكر ربنا عز وجل على من آمن ببعض وكفر ببعض وقال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4)
والناس أمام النصوص التي ظاهرها التعارض قسمان، قسم جعل هذا المتبادر من التعارض ذريعة للطعن في الدين وهذا والعياذ بالله من شرار الخلق، نسأل الله السلامة والعافية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 106
(3) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/145) .
(4) سورة البقرة الآية 85(69/15)
وقسم نزع بنوع من أنواع الأدلة وترك النوع الآخر، وربما تأوله على غير تأويله وهذه أيضا ضلالة عن الهدى واتباع للهوى.
أما أهل الحق فيعملون بجميع الأدلة ويحملونها على محاملها في مواضعها على ما يقتضيه النظر العلمي الشرعي المؤصل كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، فكانوا هم أسعد الناس بالعمل بالكتاب والسنة.
والواجب على من نظر في نصوص الوحيين أن يحسن نظره فيهما وأن يظن فيهما ما يوافق الحق، وإن توهم التعارض فليكل العلم إلى عالمه ولا يضرب النصوص بعضها ببعض. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح. وأخرج أيضا مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال ابن خزيمة - رحمه الله - في كتابه " التوحيد "، حين جمع بين عدة نصوص ظاهرها التعارض قال في خاتمة بحثه: (فمعنى هذه الأخبار لم يخل من أحد هذه المعاني؛ لأنها إذا لم تحمل على بعض هذه المعاني كانت على التهاتر والتكاذب، وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال علي بن أبي طالب: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به(69/16)
الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه) أ. هـ. كلامه رحمه الله.
وإنما يحمل الناس على ذلك اتباع الهوى، والله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (1)
ونقل ابن جرير عن ابن زيد قال: (وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسنت حال المؤمن، واستقامت طريقته كان الهوى ذليلا، وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل، والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب،
__________
(1) سورة الجاثية الآية 23(69/17)
فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم) (1)
__________
(1) جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري [سورة الواقعة، آية رقم 7] .(69/18)
ومن الأسباب أيضا: إساءة الظن بالعلماء من جهة وبالولاة والأمراء من جهة أخرى: فينظرون إلى تصرفات الأمير ويحملونها على أسوأ المحامل ثم يحكمون عليه بأهوائهم بالبدعة أو الكفر والعياذ بالله، ويترتب على هذا عندهم جواز الخروج ووجوب إنكار المنكر بالقوة، وينظرون إلى أن العلماء ساكتون عن المنكر مداهنون للسلطان فيضلونهم ولا يقبلون كلامهم، فيبقى الشاب بعد ذلك بلا خطام ولا زمام فلا أمير يسمع له ويطيع ويسير تحت قيادته، ولا عالم يثق فيه ويأخذ من علمه ويقبل توجيهه، فتتلقفه أيدي المفسدين من أعداء الدين ويستغلونه في تحقيق مآربهم ضد أمة الإسلام باسم الدين، وهذا الأمر لم يكن في وقتنا هذا وليس هو وليد العصر، بل حصل منذ عهد الخليفة الراشد ذي النورين أحد المبشرين بالجنة إمام المسلمين في وقته وأفضلهم في زمانه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد عاب عليه سفهاء الأحلام بعض تصرفاته في الحكم واستحلوا دمه، ولم يقبلوا من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علماء وقتهم، لم يقبلوا توجيههم ونصحهم، فقتلوا خير البشر في زمانه رضي الله عنه وأرضاه ووضعوا السيف وكانت بسببهم الفتنة بين أهل الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(69/18)
والواجب على شباب الأمة وعلى عامتها وخاصتها إحسان الظن بالمسلمين وبعلمائهم وولاتهم، يقول الله تعالى في حق الأنصار مع المهاجرين ومن جاء بعدهم من المسلمين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2)
وليعلموا أن السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في غير معصية الله واجبة لا خيار لمسلم فيها ومن عصى الأمير فقد عصى الله تعالى، ولا يجوز الخروج عليهم وإن جاروا وإن ظلموا، وأدلة ذلك مبسوطة في كتب الحديث والعقائد فإن السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين من عقائد أهل السنة والجماعة التي فارقوا بها أهل البدعة والضلالة من المعتزلة والخوارج ونحوهم. ومن الأدلة في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يغل عليهن
__________
(1) سورة الحشر الآية 9
(2) سورة الحشر الآية 10
(3) سورة النساء الآية 59(69/19)
قلب امرئ مسلم، إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم (1) » . أخرجه الترمذي وابن ماجه.
ومن أقوال السلف في هذا قول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد) . قال ابن المبارك: (يا معلم الخير، من يجترئ على هذا غيرك) .
وقد سبق أن ذكرنا أثر أبي أمامة رضي الله عنه في الحرورية الخوارج وما قاله فيهم وما أمر أتباعه به من السمع والطاعة، وبيان فضل ذلك.
وكذلك علماء السلف يجب احترامهم وتوقيرهم والأخذ عنهم. يقول الطحاوي - رحمه الله - في أواخر عقيدته: (وعلماء السلف السابقين، ومن بعدهم من التابعين - أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل) .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2658) .(69/20)
هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم: فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا) . وهم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وليتفطن شبابنا لمخططات أعداء الدين وليسألوا أنفسهم من المستفيد من التفريق بين المسلمين وولاة أمورهم وقادة بلدانهم؟
من المستفيد من زعزعة أمن البلاد المسلمة ووضع السيف عليهم وإراقة دمائهم؟
من المستفيد من نزع الثقة من علماء المسلمين وترك العامة يهيمون لا يدرون من يسألون ولا من يوجههم ويدلهم على الحق؟
إن من تأمل هذا حقا علم أن الأمة إنما تصاب مصيبة عظيمة حين تنزع الثقة من ولاة أمرها ومن علمائها، وتكون الأمة هائمة يقودها كل ناعق ويزج بها في أودية الهلاك كل مفسد تحت شعارات وروايات الله أعلم بما ورائها.(69/21)
ومن الأسباب أيضا: الغلو في الدين: إما في فهمه وإما في(69/21)
تطبيقه، والغلو آفة عظيمة مهلكة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » . أخرجه الإمام أحمد. يقول محمد بن نصر المروزي - رحمه الله -: (وهكذا عامة أهل الأهواء والبدع إنما هم بين أمرين غلو في دين الله وشدة ذهاب فيه حتى يمرقوا منه بمجاوزتهم الحدود التي حدها الله ورسوله، أو إحفاء وجحود به حتى يقصروا عن حدود الله التي حدها ودين الله موضوع فوق التقصير ودون الغلو) (2) أ. هـ. والله تعالى يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (3) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو وبين عاقبته الوخيمة يقول صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا (4) » أخرجه مسلم.
هذا وإن من تعلم دين الله على الحقيقة علم أنه دين السماحة والرفق واللين دين الرحمة والعدل فهو الدين الذي وضع الله به الآصار والأغلال عن العباد {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5)
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) تعظيم قدر الصلاة، لمحمد نصر المروزي [2\ 645] .
(3) سورة المائدة الآية 77
(4) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(5) سورة الأعراف الآية 157(69/22)
وكان من دعاء المؤمنين الذي استجاب الله له: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1)
والأصل في هذا الدين السماحة والرفق ولم يأت بالعنف، فيجب على المسلم أن يعي هذا ويفهم دينه وفق هذا الأصل العظيم. يقول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (3) » . أخرجه البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه (4) » . أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) صحيح البخاري الإيمان (39) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) .
(4) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، مسند أحمد بن حنبل (6/135) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .(69/23)
شيء إلا شانه (1) » . أخرجه مسلم.
فالواجب على الشاب المسلم وعلى عموم أهل الإسلام أن يعوا هذا الأصل وأن يطبقوه في حياتهم ويدينوا الله به ويعلموا أن طريق الإصلاح لا يكون بالعنف أبدا، فالإسلام ليس دين عنف بل دين الرحمة بالإنسان بل والحيوان. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (2) » أخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، وجاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن بالرحمة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) والله سبحانه رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف.
ومتى تصور المسلمون الإسلام بغير هذا التصور أو طبقوه على خلاف هذا الأصل فإنهم سيحرمون الخير. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير (4) » . أخرجه مسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1924) ، سنن أبو داود الأدب (4941) .
(3) سورة التوبة الآية 128
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .(69/24)
ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل فينتقم لله بها (1) » . متفق عليه واللفظ للبخاري.
والغلو في فهم الدين ينتج عنه أمور تجر عواقبا سيئة وخيمة منها الغيرة غير المنضبطة بضابط الشرع، فتجر على صاحبها وعلى مجتمعه بلاء عظيما، لا شك أن المؤمن يجب عليه أن يغضب لله عز وجل ولا يرضى أن تنتهك محارمه، لكن يجب عليه أيضا أن يكون عمله وإنكاره وفق شرع الله، فإنه إن زاد عن الحد المشروع فقد وقع في منكر ومحرم من حيث يريد الإصلاح، فيجب على المسلم ألا تخرج به غيرته عن الضوابط الشرعية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » . أخرجه مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتغيير ولم يأمر بالإزالة، ولو أمر بالإزالة لكان فيه حرج شديد، والتغيير ينظر فيه إلى قاعدة الشرع العامة وهي النظر في المصالح والمفاسد اجتماعا وافتراقا، وأيضا يجب على من تصدى لتغيير المنكر أن يكون عنده علم بأن هذا منكر وعلم بأسلوب التغيير المناسب بحيث لا يعقبه منكر أشد منه، أو يفوت مصلحة أعظم، وأيضا يكون رفيقا حليما حال إنكاره
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3560) ، صحيح مسلم الفضائل (2327) ، سنن أبو داود الأدب (4785) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) ، موطأ مالك الجامع (1671) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(69/25)
صبورا على ما يصيبه من الأذى ولا ينتقم لنفسه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في إنكار المنكر كلاما جامعا يحسن إيراده حيث يقول - رحمه الله -:
(القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل إما أن يفعلوهما جميعا أو يتركوهما جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به؛ وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل(69/26)
يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف؛ ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.
فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه.
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية [28\ 129 - 131] .(69/27)
ثم قال - رحمه الله-: (وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر، وإرادته لهذا، وكراهته لهذا: موافقة لحب الله وبغضه، وإرادته وكراهته الشرعيين، وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان.
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته: فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل) (2) .
وقال - رحمه الله تعالى -: (فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستحبا في هذه الأحوال: وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف وروي مرفوعا؛ ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه) (3) .
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية [28\131] .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية [28\ 137] .(69/28)
ومما ينتج عن الغلو في فهم الدين ما يثار حول الجهاد في سبيل الله وتصوره على غير وجهه الصحيح، فهناك من استغل حال الأمة وما ابتليت به من الأعداء فرفع شعار الجهاد ليجلب إليه شباب الأمة وليس الجهاد الذي يقصده هو الجهاد في سبيل الله، وذلك يتضح من أمور نص عليها أهل العلم.
أولا: الأصل في الجهاد أنه فرض كفاية، وأن أمره موكل للإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته في ذلك.
ثانيا: أنه للإمام أن يؤخر الجهاد لعذر، كأن يكون بالمسلمين ضعف في عددهم أو عتادهم أو غير ذلك من الأعذار، أو يكون في تأخيره مصلحة لأهل الإسلام أو رجاء إسلام من يراد جهادهم.
ثالثا: أن الجهاد لا يتعين، أي لا يكون فرض عين إلا في ثلاثة مواضع نص عليها أهل العلم وهي بإجمال:
1 - إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان فحينئذ يحرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (1)
2 - إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهل البلد قتالهم ودفعهم.
3 - إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (2)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 41
(2) سورة التوبة الآية 38(69/29)
الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استنفرتم فانفروا (1) » متفق عليه.
رابعا: أن لإمام المسلمين عقد الذمة مع الكفار وله أن يعقد عقد أمان وعهد ولا يجوز لأحد أن يخفر تلك العقود بقتل أو اعتداء على مال أو عرض ومن فعل ذلك فهو آثم مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، وليس هذا الفعل من الجهاد في سبيل الله، بل ولا هو من سبيل المسلمين الذين يخافون الله ويخشون عذابه، وقد حذرنا الله عز وجل من اتباع غير سبيل المؤمنين فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2)
والمشاهد أن من تجرأ على هذا العمل فإنه لا بد وأن يصيب المسلمين في أنفسهم وأموالهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن هذا فعله، يقول صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبته أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي لذي
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن النسائي البيعة (4170) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) ، سنن الدارمي السير (2512) .
(2) سورة النساء الآية 115(69/30)
عهدها فليس مني ولست منه (1) » . أخرجه مسلم.
فالأمر خطير، والواجب على المسلم أن يوطن نفسه على معرفة شرع الله بالأدلة والعمل به على بصيرة والأخذ عن العلماء الراسخين فإن هذا هو دأب السلف، قال بعضهم: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/306) .(69/31)
ثم إن هناك أسبابا للعقوبات والمصائب التي تحل بالمجتمعات منها:
أولا: الذنوب والمعاصي: يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) ويقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) ويقول سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (3)
والنصوص في هذا الباب كثيرة متنوعة وهذا الأصل مقرر عند المسلمين أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. يقول الله
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة فاطر الآية 45(69/31)
تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ومهما تعاظم الذنب فإن الله يتوب على من تاب {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2)
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الزمر الآية 53(69/32)
وثاني الأسباب العامة: ترك القيام بحقوق الله ونسيان الآخرة وعدم الاستعداد لها بالعمل الصالح: يقول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (1)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج (2) » . وقرأ هذه الآية. أخرجه الإمام أحمد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: في ضمن حديث له: «فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم (3) » . متفق عليه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 44
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/145) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4015) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2961) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2462) ، سنن ابن ماجه الفتن (3997) ، مسند أحمد بن حنبل (4/137) .(69/32)
وثالث الأسباب العامة: الركون إلى الدنيا والرضا بها(69/32)
والدعة وكثرة الترفه وظهور الفسق:
والمراد بالترف: الترف الزائد عن الحد، الصارف عن القيام بحقوق الله، الحامل على ظهور الفسق والجهر به.
وقد أخرج أبو داود في سننه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه (1) » .
يقول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (2) ومعنى أمرنا مترفيها أي أكثرنا فساقها، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه وغيره من الأئمة: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض» والمطيطاء: مشية فيها اختيال.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (3) » . أخرجه أبو داود.
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5058) ، سنن أبو داود الترجل (4160) ، مسند أحمد بن حنبل (6/22) .
(2) سورة الإسراء الآية 16
(3) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .(69/33)
والمقصود أن الانغماس في النعيم والترفه الزائد عن الحد الصارف عن القيام بحقوق الله عز وجل سبب للذل والهلاك، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا أهل دنيا وإنما هم من عرف هذه الدنيا وأنها إنما تكون مزرعة للآخرة وليست دار خلود وبقاء، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير بجلده فجعلت أمسحه عنه وأقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه، فقال: مالي وللدنيا، فإنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها (1) » . أخرجه أبو داود الطيالسي بسند صحيح. والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فالدنيا دار ممر وعبور لا دار قرار وخلود وهي دار الامتحان والابتلاء ودار الآخرة هي دار الجزاء.
هذه جملة من الأسباب العامة لحصول العقوبات والمصائب وإنما نذكرها هنا للتحذير منها، فمن وقع فيها ليقلع عنها ومن لم يقع فيها ليحذرها فلا يقربها.
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2377) ، سنن ابن ماجه الزهد (4109) .(69/34)
هذا وإن العدل في الأقوال والأعمال والاعتدال في جميع الأحوال سبب لدفع النقم ورفعها وحصول النعم واستجلابها وهو مما أمر الله به وحث عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 90(69/34)
والله سبحانه قد من على أمة الإسلام بأن جعلها أمة وسطا أي عدولا خيارا، يقول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1)
فأمة الإسلام وسط بين الأمم، وسط بين من غلا في الدين وتشدد فيه فشدد الله عليهم، وبين من تساهل وجفا فضلوا عن سواء الصراط، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل النحل، كما أن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل.
والوسطية هي: اتباع دين الله والقيام به عقيدة وشريعة، فمن قام بهذا فهو المتبع لكتاب الله، ومن اتبع كتاب الله حقا كان على الطريق الأقوم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2)
والوسطية هي دين الله الحق الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بسؤال الله الهداية إليها، أصل ذلك قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الفاتحة الآية 7(69/35)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (فأمر سبحانه في " أم الكتاب " التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، التي لا تجزئ صلاة إلا بها: أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم: كاليهود، ولا الضالين كالنصارى.
وهذا (الصراط المستقيم) هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو " السنة والجماعة " فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه من وجوه متعددة رواها أهل السنن والمسانيد كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: «ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة (1) » وفي رواية: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) » .
وهذه الفرقة الناجية (أهل السنة) وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل) (3) .
فأهل السنة والجماعة وسط في جميع أبواب السنة والعقيدة؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/145) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية [3\ 369، 370] .(69/36)
وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وهكذا (أهل السنة والجماعة) في الفرق. فهم في (باب أسماء الله وآياته وصفاته) ، وسط بين (أهل التعطيل) الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين (أهل التمثيل) الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل.
وهم في (باب خلقه وأمره) وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148(69/37)
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وهم في (باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد) وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله(69/38)
عليه وسلم ادخر لأهل الكبائر من أمته.
وهم أيضا في (أصحاب رسول الله) صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيا أو إلها، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته.
وكذلك في سائر (أبواب السنة) هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (1) .
والذي يجب التنبيه له أن الوسطية في الإسلام ليست أمرا مكتسبا، أي أنها لم تترك لأهواء الناس ومقاييسهم وما يراه كل طائفة من الناس أنه هو الوسط، ولو كلفنا بذلك لكان فيه أشد الضيق والعنت إذ كيف يصل المرء إلى الوسطية وكل طائفة من الناس لها من الآراء والأهواء ما يحصل به التعارض بل والتناقض، ومن رحمة الله أن دلنا على طريق الوسطية، فنحن لم نؤمر بوسطية
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية [3\ 373 - 375] .(69/39)
مطلقة، بل أمرنا باتباع الصراط المستقيم الذي هو شرع الله ودينه، فمن اتبع دين الله الحق الموافق للكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة فهو المتبع للصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) ويقول سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2)
فمن استقام على الصراط المستقيم الذي أوضحه الله بأجلى بيان وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم أعظم بلاغ، من استقام عليه فقد استحق وصف الوسطية ودخل في عموم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3)
ومجانبة صراط الله المستقيم والحيدة عن وسطية هذا الدين سبب للضلال والعياذ بالله، والعدول عن الصراط المستقيم يكون بالغلو في الدين أو الجفاء عنه، وكلا الطريقين من مطايا إبليس ولا يبالي بأيهما ظفر من العبد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فصل وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه. والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الجاثية الآية 18
(3) سورة البقرة الآية 143(69/40)
بأيهما ظفر: إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه. وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قد اعترض الشيطان كثيرا ممن ينتسب إليه؛ حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود) رضي الله عنهم، وغير هؤلاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم أو فقاتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (1) » . وفي رواية: «شر قتيل تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه (2) » وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ما زوى لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل (3) » .
وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي الزكاة (2578) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) .
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3000) ، سنن ابن ماجه المقدمة (176) .
(3) سنن أبو داود السنة (4768) .(69/41)
- رضي الله عنه - قاتلهم هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام.
وهكذا كل من فارق جماعة المسلمين وخرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته من أهل الأهواء المضلة والبدع المخالفة) (1) .
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم خطورة العدول عن الصراط المستقيم؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي عنه قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا فقال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله فقال: وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ (3) » . أخرجه الإمام أحمد.
هذا ما قصدنا إلى بيانه إبراء للذمة ونصحا للأمة وإني لأسأل الله العلي العظيم بمنه وكرمه وبعزته وقدرته أن يصلح أحوال المسلمين ويبصرهم في دينهم ويهدي ضالهم ويثبت على الحق مطيعهم ويزيد الجميع هدى وتوفيقا وبرا، وأن يعز الإسلام وأهله، ويرفع من في رفعته عز للإسلام والمسلمين، ويضع من في ضعته وذله
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية [3\ 381 - 383] .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6417) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2454) ، سنن ابن ماجه الزهد (4231) ، مسند أحمد بن حنبل (1/435) ، سنن الدارمي المقدمة (202) .
(3) سورة الأنعام الآية 153 (2) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(69/42)
وهوانه عز للإسلام والمسلمين، كما أسأله سبحانه أن يحول ذل المسلمين عزا، وضعفهم قوة، وتفرقهم اجتماعا على الحق، وأن يرهب بهم أعداءه أعداء الدين، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين وقادتهم، ويدلهم على الخير، ويوفقهم للحكم بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يجعلهم رحمة على رعاياهم أعوانا على البر والتقوى، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولي أمرنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياه من المتعاونين على البر والتقوى، ويرزقنا البطانة الصالحة، ويصلح لنا جميعا العقب والعاقبة إنه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.(69/43)
صفحة فارغة(69/44)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(69/45)
صفحة فارغة(69/46)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
إمامة شارب الدخان
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ن. ع. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن إمامة شارب الدخان إلى آخره.
الجواب: الدخان خبيث محرم، والذي يجاهر بشربه فاسق لا يصلح للإمامة، ولا ينبغي أن يولى الإمامة في الصلاة إلا بمثله. كما لو كانوا كلهم يشربون الدخان - والعياذ بالله - فيصلي بهم أقرؤهم للضرورة؛ لعدم وجود من ليس كذلك. إلا إذا كان الذي لا يشرب الدخان أميا بمرة لا يحسن قراءة الفاتحة وأذكار الصلاة ووجد من يحسن ذلك ممن يشربون الدخان، فحينئذ يصلي بهم هذا للضرورة؛ لعدم وجود من يحسن الفاتحة وغيرها من أذكار الصلاة. والله أعلم.(69/47)
من عمله إعطاء فسوح
ورخص بالتعامل بالدخان
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ع. م. ر. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلنا خطابك وفهمنا ما تضمنه من أنك موظف في مالية الدمام، وأن من عملك إعطاء فسوح ورخص بالتعامل بالدخان بيعا وشراء واستيرادا، وأنك إمام مسجد جامع، وتسأل عن إمامتك والحال أن عملك ما وصفت.
والحقيقة أن رضاك بهذا العمل، والحال أنك من منسوبي أهل الخير والصلاح مستغرب، والذي ننصحك به التخلي عن هذا العمل والبحث بعد ذلك عن غيره، فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، فأبواب الرزق ليست محصورة في مثل عملك، فإن أصررت على البقاء فيه فيلزمك الابتعاد عن الإمامة في المسجد؛ لأن وظيفتها تتنافى تمام التنافي مع عملك. هذا ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد. والسلام.
مفتي الديار السعودية(69/48)
إمامة من يقول: خذوه يا جن
س: ما حكم الصلاة خلف من يستعمل هذه الألفاظ وهي: خذوه يا جن، وكمن يرد على من يدعوه بقوله: جني ونحوه، وما حكم ذبيحته؟
ج: ذبيحته حلال ما لم يعتقد معنى هذه الكلمات. وأما الصلاة خلفه فلا ينبغي للإنسان أن يصلي خلفه وهو يجد من هو خير منه، مع صحة الصلاة خلفه على الصحيح ما دامت صلاته في نفسه صحيحة.(69/49)
إمامة من لا يستطيع السجود على رجله
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ت. م. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد بلغنا ما حصل لكم من مشقة في الإمامة، وعلمنا أنه يحصل في إمامتكم نقص حيث إنك لا تستطيع السجود على رجلك المصابة بل تمدها أمامك، وهذا فيه نقص في الإمامة كبير، وأنت لا يخفى عليك مثل هذا. قال في (حاشية الروض المربع) ج1 ص250 قوله: ولا عاجز عن ركوع أو سجود. الظاهر أن الذي يمد رجله عند(69/49)
سجوده أو لا يقدر على السجود على شيء من الأعضاء السبعة لا تصح إمامته إلا بمثله، إلا إمام الحي المرجو زوال علته.
وحيث لا ضرورة هناك تدعو لبقائك إماما فقد رأينا إعفاءك من إمامة المسجد. فاعتمدوا ذلك والسلام.(69/50)
هل تصح إمامة من ينطق بالضاد ظاء
من محمد بن إبراهيم إلى الأستاذ إ. ب. المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي ذكرت من أن جماعة من الأعاجم غيروا حرفا من القرآن الكريم بحرف آخر. فينطقون بحرف الضاد ظاء مشالة، وتستفتي: هل تصح قراءتهم أم لا؟
الجواب: الحمد لله، لقد امتن الله على عباده بتعليم البيان. وأنزل كتابه بلسان عربي مبين، فيتعين على من قرأه أن يقيم حروفه ما استطاع، مراعيا بذلك قواعد التجويد التي قررها العلماء - رحمهم الله -، ولا يجوز أن يبدل حرفا بحرف أو يدغم حرفا بحرف غير ما ورد إدغامه.
أما هؤلاء الأعاجم الذين ذكرتم، فإن كانوا لا يستطيعون النطق ببعض الحروف؛ لأن ألسنتهم لا تساعدهم على النطق بها لعجمتهم(69/50)
فهم معذورون؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) مع أن العلماء - رحمهم الله - سهلوا في أمر إبدال الضاد ظاء لا سيما من يعجزه النطق بالضاد. قال في (الإقناع وشرحه) : وحكم من أبدل منها - أي الفاتحة - حرفا بحرف لا يبدل كالألثغ الذي يجعل الراء غينا ونحوه حكم من لحن فيها لحنا يحيل المعنى. فلا يصح أن يؤم من لا يبدله لما تقدم. إلا ضاد (المغضوب) و (الضالين) إذا أبدلها بظاء فتصح إمامته بمن لا يبدلها ظاء؛ لأنه لا يصير أميا بهذا الإبدال، وظاهره ولو علم الفرق بينهما لفظا ومعنى، كما تصح إمامته بمثله؛ لأن كلا منهما - أي الضاد والظاء - من طرف اللسان ومن الأسنان، وكذلك مخرج الصوت واحد، قاله الشيخ في شرح العمدة. وإن قدر على إصلاح ذلك أي ما تقدم من إدغام حرف في آخر لا يدغم فيه، أو إبدال حرف بحرف غير ضاد المغضوب والضالين بظاء، أو على إصلاح اللحن المحيل للمعنى لم تصح صلاته ما لم يصلحه؛ لأنه أخرجه عن كونه قرآنا.
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(69/51)
حكم صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح،
والمغرب خلف من يصلي العشاء
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أ. ع. غ.
محكمة الباحة المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ 19\11\1381 هـ المتضمن الاستفتاء عن المسائل الآتية وقد جرى تأملها والجواب عليها بما يلي:
(المسألة الأولى) : في حكم إتمام المفترض بالمتنفل كصلاة العشاء خلف من يصلي التراويح.
والجواب: الحمد لله. هذه المسألة فيها خلاف في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله-. فالمشهور من المذهب عدم الجواز، اختاره جملة من الأصحاب، وهو قول الزهري ومالك وأصحاب الرأي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم.
«إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه (1) » . متفق عليه.
وفيه رواية أخرى عن الإمام أحمد أنها تصح، اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وهو قول عطاء والأوزاعي والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، ويستدل لهذا بحديث معاذ «أنه كان يصلي مع النبي
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (722) ، صحيح مسلم الصلاة (414) ، سنن النسائي الافتتاح (921) ، سنن أبو داود الصلاة (603) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (846) ، مسند أحمد بن حنبل (2/314) ، سنن الدارمي الصلاة (1311) .(69/52)
صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة (1) » متفق عليه. وهذا هو الراجح عندنا. بمعنى أننا لا نأمره بالإعادة، ولكن الخروج من الخلاف أولى وأحوط.
وأما "المسألة الثانية": وهي حكم رجل وجد الجماعة يصلون العشاء فدخل معهم ونوى صلاة المغرب هل تصح صلاته؟
والجواب: أن هذه المسألة كالتي قبلها خلافا ومذهبا، وقد عرفت الراجح آنفا.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6106) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن الترمذي الجمعة (583) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .(69/53)
صلاة الفذ خلف الصف
س: ما حكم صلاة الفذ خلف الصف أو خلف الإمام؟
ج: المشهور أن صلاة الرجل فذا خلف الصف أو خلف الإمام لا تصح إن صلى ركعة فأكثر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لفرد خلف الصف (1) » رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وفي حديث آخر «أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة (2) » رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وإسناده ثقات، إلا أن يكون الفذ امرأة منفردة وحدها فتصح صلاتها، «لحديث أنس أن جدته مليكة دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته فأكل، ثم قال: قوموا لأصلي لكم. فقمت
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (230) ، سنن أبو داود الصلاة (682) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1004) ، مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي الصلاة (1285) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (230) ، سنن أبو داود الصلاة (682) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1004) ، مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي الصلاة (1285) .(69/53)
إلى حصير قد اسود من طول ما لبس، فنضحته. بماء فقام، عليه - صلى الله عليه وسلم - وقمت أنا واليتيم وراءه وقامت العجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف (1) » . رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
واستدل المحققون بهذا الحديث أن الرجل المعذور الذي لم يجد له محلا في الصف يقف فيه، ولم يحصل له بعد أن نبه أحد المأمومين بجذب أو غيره أن يتأخر من أجله ليصف معه، ولم يتمكن أن يقف عن يمين الإمام أن صلاته فذا صحيحة للحاجة؛ لأنه اتقى الله ما استطاع، واختاره الشيخ تقي الدين وغيره، وهو الصواب إن شاء الله.
وإن ركع الرجل فذا لعذر بأن خشي فوات الركعة، ثم دخل في الصف قبل سجود الإمام، أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت صلاته قولا واحدا، «لقصة أبي بكرة حين ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: زادك الله حرصا ولا تعد (2) » رواه البخاري. والله أعلم. والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (380) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (658) ، سنن الترمذي الصلاة (234) ، سنن النسائي الإمامة (801) ، سنن أبو داود الصلاة (612) ، مسند أحمد بن حنبل (3/131) ، موطأ مالك النداء للصلاة (362) ، سنن الدارمي الصلاة (1287) .
(2) صحيح البخاري الأذان (783) ، سنن النسائي الإمامة (871) ، سنن أبو داود الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (5/42) .(69/54)
س: رجل دخل المسجد للصلاة فوجد المصلين في الركعة الأخيرة، ووجد الصف مستكملا، وأراد جذب أحد المأمومين معه في الصف الثاني فامتنع فصلى مع الإمام وحده في الصف، ثم أكمل صلاته بعد فراغ الإمام من الصلاة، هل تبطل صلاته؟(69/54)
ج: تذكر أن هذا الإنسان بذل استطاعته في حصوله على من يقف معه في الصف.
ونفيدكم أنه يلزمه بذل استطاعته في ذلك، فإذا لم يجد من يصافه فينبغي له أن يصف مع الإمام عن يمينه، فإذا لم يستطع وقد تعذر حصوله على من يقف معه في الصف وصلى وحده في الصف فصلاته صحيحة.
أما صلاة من صلى فذا في الصف خلف الإمام بلا عذر، فصلاته باطلة؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وابن ماجه والأثرم: «لا صلاة لفرد خلف الصف (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (230) ، سنن أبو داود الصلاة (682) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1004) ، مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي الصلاة (1285) .(69/55)
الصلاة في السرحة المنفصلة عن المسجد
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة قاضي ضرما سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى الاستفتاء الموجه إلينا من إمام جامع المسجد لديكم بخصوص الصلاة في السرحة الجديدة في الليل؛ طلبا للبراد، وأن بعض الجماعة شكك في جواز ذلك، حيث إن السرحة منفصلة عن المسجد، وأن المسجد يهجر في بعض الأوقات. وتذكرون أنكم لم تلتفتوا إلى هذا الاستشكال، رفقا بالضعفاء.(69/55)
ونفيدكم أنه ينبغي إفهام من وقع في نفسه شيء من الصلاة في السرحة أنه لا بأس بالصلاة فيها ولو كانت منفصلة عن المسجد، ولا يعد ذلك هجرانا للمسجد. وبالله التوفيق والسلام عليكم.(69/56)
إذا سمعوا صوت الإمام بدون مكبر
وبينهم وبينه حائل
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم خ. ن. حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابك لنا المؤرخ في 1\11\1386 هـ، وصل وذكرت فيه أنكم تقتدون بصوت إمام مسجد سجن الملز في صلاة الجمعة، وأن بينكم وبينه ومن معه حائلا، وتسأل عن حكم هذا الاقتداء.
الجواب: إذا كان الصوت الذي تسمعونه هو صوت الإمام بدون مكبر فلا مانع من الاقتداء، وإذا كان. بمكبر فلا يجوز. والسلام عليكم.(69/56)
المصاب بالسلس هل يعذر بترك الجماعة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ح. ع. ب. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى اطلاعنا على استفتائك الموجه إلينا منك بخصوص(69/56)
ذكرك أنك مصاب بسلس في البول والغائط. وتسأل هل تعذر في ترك صلاة الجماعة في المسجد؟
ونفيدك أنه إذا أمكنك التحفظ من تلويث المسجد فيتعين عليك الصلاة جماعة في المسجد. أما إذا لم يمكنك ذلك فتعذر في صلاتك في بيتك. والسلام عليكم.(69/57)
جنود المرور هل تلزمهم الجماعة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير الرياض وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 4636 وتاريخ 11\10\1375 هـ بخصوص ما رفعه لسموكم مدير الشرطة عن جنود المرور الذين مهمتهم المحافظة على أموال الناس وأرواحهم وطلبه السماح لهم بتأدية الصلاة في مراكزهم.
أفيدكم أن من كان في مركز هام بإخلائه إياه يخشى ضرر على الأنفس والأموال إذا أخلاه وذهب لصلاة الجماعة فإنه يسوغ له ملازمة مركزه، ويسقط عنه حضور الجماعة في المسجد. وإن أمكن فعلها جماعة في المركز كاثنين فأكثر تعين صلاتهم جماعة.
والله يحفظكم.(69/57)
كيفية صلاة المريض
س: عن كيفية صلاة المريض والمسافر والمرأة والصبي والعبد.
ج: أما المريض ففيه حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب (1) » رواه الجماعة إلا مسلما، زاد النسائي «فإن لم تستطع فمستلقيا» وحديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يصلي المريض قائما، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلى قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة» رواه الدارقطني.
وأما المسافر فإنه يستبيح رخص السفر، وهي أربع رخص: قصر الرباعية، والجمع بين الصلاتين، والفطر في رمضان، وزيادة المسح على الخفين إلى ثلاثة أيام بلياليها. والمرأة كالرجل في ذلك، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ إلا في ستر العورة فهناك فروق مذكورة في كتب الفقه.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .(69/58)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتى عام المملكة العربية السعودية سابقا " رحمه الله "
الدعاء للميت بالتثبيت
يكون بعد الفراغ من الدفن
س: التثبيت للميت متى يكون أثناء الدفن أو بعده؟ (1) .
ج: يكون بعد الفراغ من الدفن؛ لأن النبي عليه الصلاة السلام كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل (2) » أما عند الدفن فيقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله.
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت وقت الانصراف برقم 2804.(69/59)
التلقين بعد الدفن بدعة
س ما حكم التلقين بعد الدفن؟(69/59)
ج: بدعة وليس له أصل، فلا يلقن بعد الموت وقد ورد في ذلك أحاديث موضوعة ليس لها أصل، وإنما التلقين يكون قبل الموت.(69/60)
شبهة في التلقين بعد
الدفن والجواب عليها
س: ما رأيكم فيمن يقول: "إذا كان الميت يسمع قرع النعال فإنه يسمع التلقين "؟
ج: الأمور ليست بالقياس وإنما العبادة توقيفية، وسماع قرع النعال لا ينفعه ولا يضره، والميت إذا مات انتقل من الدنيا دار العمل وختم على عمله وانتقل إلى دار الجزاء.(69/60)
حكم الصدقة عن الميت ساعة الدفن
س: الصدقات على الميت ساعة الدفن وقراءة القرآن بالأجرة حلال أم حرام؟ (1) .
ج: الحمد لله، لا تشرع الصدقة عن الميت حين الموت؛ لأن ذلك لم يرد في الشرع في هذه الحالة الخاصة، والعبادات توقيفية، ولكن إذا تصدق عنه بدون تقيد بساعة الموت فلا بأس، بل ذلك
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة إلى سماحته في مجلسه(69/60)
قربة وفيه أجر للمتصدق وللميت، لما في الحديث الصحيح «أن امرأة توفيت، فقال ابنها: يا رسول الله، ألها أجر إن تصدقت عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم (1) » .
وقد أجمع أهل العلم على انتفاع الميت بالصدقة والدعاء. وأما القراءة بالأجرة فلا تجوز سواء كانت لحي أو لميت؛ لأن ذلك لم يرد في الشرع المطهر. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يعلم نزاعا بين أهل العلم في تحريم أخذ الأجرة على تلاوة القرآن. وفي الحديث الصحيح «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . أي: مردود. وهكذا القراءة للموتى وغيرهم ولو بدون أجرة ليس لها أصل في الشرع يعتمد عليه.
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب موت الفجأة برقم (1388) ، ومسلم في (الزكاة) باب وصول ثواب الصدقة عن الميت برقم (1004) .
(2) رواه البخاري معلقا في (البيوع) باب النجش 4\355 فتح الباري، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .(69/61)
الأفضل رفع القبر عن الأرض شبرا ونحوه
س: نرى كثيرا من الناس عند دفن الميت يرفعونه أكثر من شبر وإذا نهيتهم قالوا: إن ذلك وقاية له من السيل. كذلك أراهم يزيدون حصباء فوق القبر بعد الدفن زيادة على ترابه الأصلي،(69/61)
كذلك يرشون عليه ماء. فما حكم ما يفعلون؟ (1) .
ج: كل هذا لا بأس به، الأفضل شبر ونحوه، وإذا زاد يسيرا بالحصباء أو نحوها فالأمر سهل في هذا؛ حتى تعلم القبور وتعرف، حتى لا تمتهن. وإذا دفنوه بترابه، وجعلوا عليه حصباء ورشوه بالماء حتى لا تمتهن. وإذا دفنوه بترابه، وجعلوا عليه حصباء ورشوه بالماء حتى يثبت بها التراب، فكل هذا لا بأس به؛ لأن فيه حفظا لترابه وبقاء له.
س: أي حد يكون ارتفاع القبر عن الأرض؟ (2) .
ج: المشروع شبر أو ما حوله، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا شبرا، أما رفعه كثيرا فلا يجوز، لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي - رضي الله عنه -: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (3) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (1) .
(2) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.
(3) رواه مسلم في (الجنائز) برقم (969) ، والنسائي في (الجنائز) برقم (2031) .(69/62)
حكم الوعظ عند القبر
س: ما حكم الموعظة عند القبر؟ (1) .
ج: لا بأس بذلك عند القبر قبل الدفن وليست بدعة، وقد
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(69/62)
فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث علي والبراء بن عازب - رضي الله عنهما -.
س: الأخ ع. م. من الزلفى يقول في سؤاله: هل يوجد دليل على مشروعية الوعظ عند القبر؛ لأن بعض الناس ينكرون ذلك؟ نرجو إفادتنا، أعظم الله لكم الأجر والمثوبة (1) .
ج: لقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة أنه وعظ الناس عند القبر وهم ينتظرون الدفن، وبذلك يعلم أن الوعظ عند القبر أمر مشروع قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما في ذلك من التذكير بالموت والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة، والحث على الاستعداد للقاء الله. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1560) في 14 جمادى الأولى 1417 هـ.(69/63)
لا حرج في جلب
الماء البارد للشرب عند القبر
فضيلة مفتي عام المملكة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأطال في عمره.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لدي سؤال: لقد توفي شخص في يوم جوه حار، وذهبوا به(69/63)
إلى المقبرة لدفنه رحمه الله، وقد تعبوا من الجو الحار، وقام شخص وجلب لهم ماء باردا من أجل أن يشربوا منه بعد تعبهم، وقال بعضهم: هذا لا يجوز. وقال بعضهم: هذه بدعة. فضيلة الشيخ هل هذا العمل فيه شيء؟ أفيدونا أفادكم الله، والله يحفظكم ويرعاكم. ع. أ. ع. ع. (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لا حرج في ما ذكرتم، بل ذلك من الإحسان والمساعدة على الخير. وفق الله الجميع.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم (743\1ش) في 12\ 6\ 1418 هـ.(69/64)
يقدم الأفضل إلى القبلة
س: كيف يجعل الاثنان في القبر الواحد؟ (1) .
ج: يقدم أفضلهما إلى القبلة ثم يجعل المفضول يليه، كل واحد منهما على جنبه الأيمن موجها إلى القبلة، وإن دعت الحاجة إلى دفن ثالث معهما فلا بأس؛ لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - «أنه
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(69/64)
أمر يوم أحد أن يدفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وأمر أن يقدم الأكثر قرآنا إلى القبلة (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1016) ، سنن أبو داود الجنائز (3136) .(69/65)
حكم دفن المرأة والرجل في قبر واحد
س: هل يجوز دفن المرأة والرجل في قبر واحد؟
ج: لا حرج في ذلك إذا دعت الحاجة ككثرة الموتى في القتل أو بالطاعون.(69/65)
حكم تخصيص بعض
أجزاء المقبرة للنساء
س: هل يجوز تخصيص بعض أجزاء المقبرة للنساء، وبعضها للرجال حتى يكون أدعى لمعرفة أهل القبور؟
ج: لا أعلم لهذا أصلا، وإنما المشروع أن تكون المقبرة للجميع؛ لما في ذلك من التسهيل والتيسير، ولأن هذا العمل هو الذي درج عليه المسلمون من عصره - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا فيما نعلم، وكان البقيع مشتركا بين الرجال والنساء في عهده - صلى الله عليه وسلم -، والخير كله في السير على منهاجه - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -، ومن سلك سبيلهم بإحسان(69/65)
يجوز الدفن ليلا
س: هل يجوز دفن الميت ليلا؟ (1) .
ج: يجوز ذلك إذا تمكن أهله من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فقد دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأموات ليلا، ودفن هو ليلا - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا الصديق وعمر وعثمان كلهم دفنوا ليلا، فعلم بذلك جواز الدفن ليلا إذا توفرت الأمور المشروعة.
أما ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن الدفن في الليل فذلك محمول عند أهل العلم على ما إذا كان الدفن في الليل يفضي إلى عدم أداء الواجب في حق الميت، ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه؛ (2) » فدل ذلك على أن الميت إذا صلي عليه جاز دفنه ليلا. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته جوابا على استفتاء شخصي.
(2) صحيح مسلم الجنائز (943) ، سنن النسائي الجنائز (1895) ، سنن أبو داود الجنائز (3148) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1521) ، مسند أحمد بن حنبل (3/295) .(69/66)
س: هل الدفن في النهار أفضل من الليل؟ (1) .
ج: يجوز الدفن في الليل أو النهار حسب التيسير باستثناء
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(69/66)
الثلاث ساعات التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا كما جاء في حديث عقبة بن عامر، وهذه الثلاث: عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند قيامها حتى تزول.(69/67)
الأوقات التي ينهى عن الدفن فيها
س: هل هناك أوقات ينهى عن الدفن فيها؟ (1) .
ج: ثبت من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. فهذه الأوقات الثلاثة لا يصلى على الميت فيها ولا يدفن فيها.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته جوابا على استفتاء شخصي.
(2) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها برقم (831) ، والنسائي في الجنائز باب الساعات التي نهي عن إقبار الميت فيهن برقم (2013) .(69/67)
لا يختلف الدفن في مكة عن غيرها
س: هل يختلف الدفن في مكة عن أي بلد آخر؟ وهل فيه(69/67)
زيادة حسنات ودرجات للميت؟ (1) .
ج: لا يختلف الدفن في مكة عن غيرها، فالدفن في جميع البلدان واحد، وهو أن يحفر للميت قدر نصف قامة الرجل، ويلحد له في الجانب القبلي، ويوضع على جنبه الأيمن، ثم يوضع عليه اللبن وتسد المنافذ بالطين، ثم يهال عليه التراب. كما فعل الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا قول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: «إذا أنا مت فألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. والسنة أن يدفن الإنسان في بلده، ولا ينقل إلى مكة ولا إلى غيرها، كما فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن بعضهم مات بالكوفة، وبعضهم مات بالشام، وبعضهم مات في البصرة، وبعضهم مات في غيرها، ولم ينقلوا إلى مكة وإلى المدينة، ولم يوصوا بذلك - رضي الله عنهم -.
والسبب في ذلك: أن المعول في ذلك على العمل لا على الأماكن، وأيضا لما في النقل من المشقة من دون سبب شرعي يقتضي ذلك. ولو كان النقل مشروعا لأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم -،
__________
(1) استفتاء مقدم من (مجلة الدعوة) أجاب عليه سماحته في 24\12\1418 هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند سعد بن أبي وقاص برقم (1453) ، ومسلم في (الجنائز) باب في اللحد ونصب اللبن على الميت برقم (966) .(69/68)
ولو فعل ذلك لنقله الصحابة - رضي الله عنهم - وبينوه؛ لأنهم قد نقلوا سنته، وأوضحوا ما شرع الله لعباده من أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته. والخير كله في اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) وقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) والله ولي التوفيق. .
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 100(69/69)
السنة أن يدفن الميت
في البلد الإسلامي الذي مات فيه
س: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء، حفظه الله وأمد في عمره ونفع به الإسلام والمسلمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فما توجيهكم وإرشادكم حفظكم الله حول مسألتنا هذه، نعرضها عليكم، حيث توفي ابن أخينا ع. ع. ع. مصري(69/69)
الجنسية، هنا في المملكة غفر الله له ورحمه.
وقد كان وحيد أهله وأسرته يعولهم ويسعى بطلب الرزق له ولهم، فأصبح بيته الآن متكونا من نساء وأطفال وأيتام في أحوج ما يكونون للمساعدة والبذل والعطاء، وقد طلبوا ترحيل جثمانه إليهم في مصر. فلما بلغ كفيله أنهم طلبوا ترحيله وعلم حرصهم استعد بكل ما يتطلبه ترحيله من لوازم مادية.
فما توجيه سماحتكم أيدكم الله في هذا العمل؛ لأننا سمعنا بعض الناصحين أشاروا بأن يدفن في البلدة التي توفي فيها، وتكون الأموال التي ستنفق لترحيله تصرف لأهله وأبنائه الأيتام يتوسعون بها ويسدون بها حاجتهم؟ أفيدونا مأجورين (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
المذكور توفي في بلد إسلامي، فدفنه في البلد الذي توفي فيه أولى وأوفق في السنة. ولم يبلغنا أن أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - نقل من بلد الغربة الذي مات فيه إلى المدينة أو غيرها.
وفي هذه القضية مصلحة أخرى، وهي توفير النفقة لأهله وأولاده، وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته في 8\4\ 1419 هـ.(69/70)
الكافر لا يدفن
في الجزيرة العربية بل ينقل إلى غيرها
س: إذا كان الميت عاملا وافدا، وطلب أهله نقله، وهذا يسبب إزالة أحشائه وتحنيطه ووضعه في تابوت، وتكليف كفيله مبالغ باهظة، فهل يقبره كفيله حيث مات ولا يلتفت إلى طلب أهله؟ (1) .
ج: المشروع دفن العامل وغيره حيث مات إذا كان مسلما، ويدفن في مقابر المسلمين ولا يجوز نقله إذا كان نقله يترتب عليه ما ذكر من التمثيل؛ لأن المسلم محترم حيا وميتا. إلا أن يكون نقله يترتب عليه أمور شرعية تفوت بعدم نقله فلا بأس بنقله إذا كان لا يترتب على ذلك تمثيل به من إزالة أحشائه أو شيء منها. أما العامل إذا كان كافرا فإنه لا يدفن في الجزيرة العربية بل ينقل إلى غيرها إذا أمكن ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة وقال: «لا يجتمع فيها دينان (2) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (25820) ، ومالك في (الجامع) برقم (1651) .(69/71)
حكم تنفيذ وصية الميت
بدفنه في بلد غير الذي مات فيه
س: إذا أوصى الميت بنقله إلى بلد ليدفن فيه، هل تنفذ وصيته؟
ج: تنفيذ الوصية هنا ليس بلازم، فإذا مات في بلد مسلم فيدفن فيه والحمد لله.
س: الأخ ع. م. ع. من الرياض يقول في سؤاله: بعض الناس وخاصة من كبار السن يكون مقيما في الرياض إقامة دائمة، وقبل وفاته يوصي بدفنه في مسقط رأسه، وقد يبعد هذا المكان عن الرياض أكثر من مائة كيلو متر، وبعضهم يصلى عليه في الرياض وفي المكان الذي سيدفن فيه، فهل هذا موافق للشرع، وهل يلزم الورثة الوفاء بهذه الوصية؟ (1) .
ج: المشروع دفنه في بلده التي مات فيها إذا كانت بلدا إسلامية، ولا يشرع نقله إلى غيرها، ولا يلزم الورثة تنفيذ وصية من أوصى بنقله، لعدم الدليل على ذلك، ولأن ذلك يخالف ما درج عليه سلف الأمة، ولما في ذلك من الكلفة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .(69/72)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: يقول السائل: عند التعامل في بيع الذهب وشرائه؟ هل يجوز تأخير دفع الثمن، فبعض الأقارب خاصة يشتري من عندي قطعة معينة من الذهب على أن يدفع ثمنها بعد شهر مثلا وآخرون يدفعون بعض الثمن ويأخذون الباقي، وكل ذلك طبعا برضاي فهل ذلك جائز؟
ج: الظاهر من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع هذا التعامل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب بالذهب يدا بيد مثلا بمثل (1) » ، أي: الذهب يباع بالذهب بشرطين أولا: التقابض، وثانيا: التساوي فلا بد أن يكون الذهب إذا بيع بالذهب متساويا، وإن بيع بغير الذهب كالفضة وسائر العملات فلا بد من التقابض؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » ، فلا يحق لك أن تبيع قطع الذهب إلا وثمنها حاضر ولا تبعها بثمن مؤجل ولا تأخذ بعض الثمن وتؤخر
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(69/73)
البعض هذا كله لا يجوز.(69/74)
س: يقول السائل أيضا: بعض الزبائن يشتري من عندي بعض القطع وعند دفع الثمن لا يدفع بالعملة الوطنية وإنما بالعملة الأجنبية فهل يجوز ذلك؟ وآخرون يدفعون القيمة بشيك فهل يجوز أيضا؟
ج: أولا: إذا بيع الذهب بغيره من أي عملة كانت جاز وإن حصل التفاضل لكن يشترط التقابض فيجوز بيع الذهب بالدينار والجنيه وغيره؛ لأن الذهب إذا بيع بغيره جاز التفاضل ولم يشترط التماثل، لكن يشترط في هذه الحالة التقابض قبل التفرق.
ثانيا: الشيك إن كان مصدقا فإنه يعتبر قبضا فإذا أعطاك شيكا فقد أعطاك الثمن إذا كان هذا الشيك مصدقا، أما إذا كان الشيك غير مصدق فإن الاحتمال متطرق إليه فالأولى أن لا يتم به البيع، وأما الشيك المصدق المحجوز قيمته فكأن الثمن بيدك حاضرا.(69/74)
س: يقول السائل: بعض القطع الذهبية يوجد عليها صور فهل يجوز بيعها والمتاجرة فيها؟ وغالبا تلصق هذه القطع الذهبية التي فيها الصور على قطع ذهبية أخرى للزينة أو على قطعة(69/74)
حريرية لتتزين بها المرأة وجهونا جزاكم الله خيرا.
ج: التصوير حرام وبيع الصور حرام والمصورون ملعونون والنبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المصورين والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة فهذه القطع التي تشتمل على الصور لا يجوز بيعها ولا يحق لامرأة أن تلبسها؛ لأنها قد تدركها الصلاة وهي عليها، ولا يحل لها أن تصلي وفي ثوبها صورة أو معلق على نحرها أو في أحد أجزاء ثوبها صورة فهذا كله لا يجوز، والواجب على الصاغة وغيرهم أن يتقوا الله في أنفسهم وأن لا يتعاطوا فيما يسبب نقص أعمالهم الصالحة ودخولهم في عموم لعنة الله.(69/75)
س: يقول السائل: هل يجوز بيع الخواتم التي يستعملها الناس للخطوبة وهو ما يسمى بخاتم الخطوبة أو لا يجوز؟
ج: الغالب أن هذه الخواتم يكتب عليها اسم المرأة يلبسها الرجل واسم الرجل تلبسها المرأة المخطوبة فالخاطب والمخطوبة يتبادلان الخواتم مكتوب اسم الزوج على ما تلبسه المرأة واسم المرأة على ما يلبسه الرجل نقول: هذا مظهر غربي ليس من أخلاق المسلمين وينبغي للمسلمين الترفع عن هذا التقليد الأعمى وأن تكون أمورهم سائرة على الشرع على المنهج الصحيح بعيدين عن التشبه(69/75)
بأعداء الله في الأقوال والأعمال.(69/76)
س: يقول السائل: ما حكم الشرع في مهنة صياغة الذهب هذه جملة وتفصيلا؟
ج: صياغة الذهب وبيع الذهب وضرب الذهب لا مانع منها هي من المهن التي يحتاج الناس إليها ولا أحد يستطيع أن يمنع الناس منها بل ما زال الصاغة موجودين في عهد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وعهد خلفائنا الراشدين على قدرهم، المهم ليس الصياغة، المهم ما يتعامل به الصاغة فإن تعاملوا بشرع الله ووافقوا أمر الله ووقفوا عند حدود الله فلا مانع وتلك حرفة من الحرف ومهنة من المهن ولا مانع منها إذا لم تخالف شرع الله، وجميع المهن والحرف لا يعاب أهلها، العيب فيما فيه مخالفة للشرع فالأمور المحرمة مصانع الخمور والعياذ بالله الأمور المحرمة شرعا هذه ممنوعة، وأما الأمور المباحة فلا مانع منها، وصياغة الذهب وضرب الذهب لا مانع منه المهم التزامهم شرع الله في بيعهم وشرائهم وأن يتعلموا من شرع الله ما يصحح معاملاتهم.(69/76)
س: تقول السائلة: أخت لها قضية تتعلق بالذهب تقول عندما كنت صغيرة في الثامنة أو التاسعة تقريبا نزلت السوق مع(69/76)
أخت لي متزوجة وعندما كانت تشتري الذهب من التاجر غافلته وسرقت من دكانه حلية تعليقات وكفا وكانت التعليقات صغيرة استطعت أن أخبئها في جيب بنطلوني وبعد أن ذهبنا للبيت أخرجتها وأعطيتها لأختي فأخذتها مني كلها، ولم تبق لي سوى تعليقه أو اثنتين فقد نسيت عددها فهل أنا آثمة في ذلك وهل علينا شيء أم أن الآثمة هي أختي؛ لأنها لم ترجعها ولأنها هي التي أخذتها وكانت كبيرة وتعرف بأن هذا حرام أفيدوني؟
ج: الحكم متعلق بك أنت فواجب عليك أن ترديه لمن أخذته منه وإن جهلتيه فتصدقي بقيمته، ولا شك أن أختك الكبرى وقعت في الإثم حيث لم تسألك عن مصدر الحلي ولا من أين أتيت به، فهي آثمة؛ لكونها تعلم أنه لم يشتر وأن هذا الذهب أخذ بطريقة غير مشروعة فعليها نصيب من الإثم إن كانت مدركة لهذا الخطأ، وأنت بعد ما عرفت الخطأ وجب عليك رد الذهب إلى صاحبه بأي طريقة كانت، وإن جهلت صاحبه ولم تعرفيه وغاب عنك تصدقي بقيمته بنية وصولها إلى صاحبها.(69/77)
س: يقول السائل: هل هناك سور معينة يستحب قراءتها في صلاة الوتر وصلاة الضحى أم أن أي سورة كانت تجزئ؟ وهل ركعات السنن التي نصليها قبل وبعد الصلاة الواجبة نقرأ فيها(69/77)
سورة بعد الفاتحة أم أن الفاتحة كافية؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الله جل وعلا قال في الفرائض: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (1) أي: فاقرءوا ما تيسر من القرآن وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته: «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن (2) » أما الصلوات المفروضة فالواجب فيها الفاتحة فهي ركن من أركانها وكذلك كل صلاة نافلة أو مفروضة فالفاتحة ركن فيها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (3) » فهو عام في الفرائض والنوافل فلا صلاة إلا بأم القرآن، وأما ما زاد على الفاتحة فهو من باب السنن ولا ينبغي الإخلال به في الفرائض والأولى المواظبة عليه في النوافل.
والوتر جاءت السنة بأن يقرأ فيه بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (4) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (5) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) في الركعات الثلاث، وإن قرأ بغيرها فهو مجزئ، والسنن الرواتب تقرأ فيها بأم القرآن فهو الأصل، ويستحب أن يقرأ غير الفاتحة بعدها على قدر ما ييسر الله له.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) صحيح البخاري الأذان (757) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(3) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .
(4) سورة الأعلى الآية 1
(5) سورة الكافرون الآية 1
(6) سورة الإخلاص الآية 1(69/78)
س: تقول السائلة: هناك بعض الناس يقولون بأنه لا يجوز التوضؤ في الحمام فهل هذا صحيح أين نتوضأ إذا؟ وإذا كان صحيحا هل من توضأ بدون ذكر اسم الله قبل الوضوء بأن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم لا يصح الوضوء فقد سمعت بأن من لم يذكر اسم الله في الوضوء فلا وضوء(69/78)
له فهل هذا صحيح؟
ج: أظن السائلة سمعت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى أن يتوضأ الإنسان في موضع بوله» وهذا الحديث المراد منه إبعاد الإنسان عن الوساوس؛ لأنه علل النهي من خوف الوسوسة فبعض الناس لو توضأ في المكان الذي قريب من موضع البول منه لأوشك إذا جاءه رشاش من هذا أن يظنه من آثار البول فينبغي أن يبتعد عن موضع بوله ولا يتوضأ فيه إلا أن يتبعه الماء، أما دورات المياه الآن فإنه إذا أتبع بالماء انتهى الموضوع المهم أن الأولى للإنسان إذا بال في مكان أن يجعل وضوءه بعيدا عن ذلك المكان، ثم إن السنة عند دخول الخلاء أن يقول قبل أن يدخل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث الرجس النجس الشيطان الرجيم.(69/79)
س: إذا كان هناك شخص عليه دين لأحد أو دين لله مثل صيام يقضى أو مثل النذر ثم مات وكان في نيته أن يقضي ولكن الموت سبقه ولم يقض شيئا وليس له أحد من أهله يستطيع أن يقضي عنه ماذا عليه وهل يكون إثما أم أن الأعمال بالنيات كما يقولون؟ . لأنه كان ينوي القضاء، جزاكم الله خيرا.
ج: لا يخلو حال الشخص إما أن يكون مفرطا بمعنى أنه أفطر(69/79)
في رمضان ومضى عليه بعد رمضان وقت يمكن أن يقضي فيه فلم يقض، مضى شوال وذو القعدة وذو الحجة حتى قارب رمضان آخر ومات ولم يقض فهذا يخشى عليه من الإثم؛ لأنه فرط في القضاء وتهاون به وكذلك من عليه نذر، أما من مات قبل أن يمضي وقت يمكن أن يقضي فيه فلعل الله يسامحه لكونه لم يكن مفرطا، أما حقوق العباد فتقضى من التركة فإن لم يكن فمن تبرع أوليائه أو أحد إخوانه المسلمين، وإلا فهو مرتهن بدينه، فإن كان حريصا على قضائه وسعى في ذلك ولم يقدر فلعل الله أن يقضي عنه ويعفو عنه.(69/80)
س: يقول السائل: إن لي أما كبيرة في السن وهي مريضة أيضا بمرض الصدر وعليها أيضا صيام شهر رمضان من قبل حوالي ثلاثين سنة فقد كانت مريضة بالمستشفى ثم لم تكن تعلم بأنه يجب عليها أن تقضي الشهر فقد كانت تجهل كثيرا من أمور دينها وقد نسيت ذلك بعد أن علمت أن عليها القضاء ولكنها تذكرت قبل سنة تقريبا أن عليها ذلك الشهر وهي الآن لا تستطيع الصيام بسبب مرضها وهي حتى الآن تطعم في رمضان عن كل يوم مسكينا ولا تصوم، فماذا يجب عليها الآن بعد كل هذه السنوات؟ مع العلم أيضا بأنها كانت في السنوات الماضية قبل أن تصاب بالمرض تصوم الست من شوال وتصوم أيضا بعض(69/80)
النوافل فهل يجزئ ذلك عنها أم لا بد من القضاء؟
ج: الواجب عليها الآن الإطعام عن كل يوم مسكينا، وما سبق من النوافل لا تجزي عن هذا الفرض؛ لأنها لم تنوها قضاء.(69/81)
س: سائلة تسأل عن قضايا عرضت لها في الحج تقول: إنها زوجة لصيدلي وقدر الله لهم القيام بفريضة الحج مفردين، وقد أحرموا بالحج وذهبوا قبل فجر يوم عرفة وحاضت تسأل هل يجب عليها هدي أم لا؟ ثم تقول: قمت بالاستحمام استعدادا للإحرام وبعد الاستحمام سرحت شعري قبل أن أنوي الإحرام وقبل صلاة الركعتين أو التلبية للحج فهل هذا صحيح، أم أنه يجب علي هدي؟ وهل يبدأ الإحرام من الاستحمام أم بعد النية والتلبية وصلاة الركعتين من السنة؟
ج: الإحرام حقيقته نية الدخول في النسك فليس الاغتسال بإحرام ولا لبس الرجل الإزار والرداء بإحرام ولا مشط المرأة شعرها بإحرام إنما حقيقة الإحرام نية المحرم الدخول في هذا النسك، وعلى ذلك ففعلها صحيح ولاشيء عليها.(69/81)
س: أخوات في هذه الرسالة تقول إحداهن: جدتي امرأة كبيرة في السن تستخدم ما يسمى الخط للتسلية وتخبرنا بما ترى(69/81)
فيه دون أن تصدق ما تراه، وقد نصحتها مرارا على أن تتركه لكن لا تسمع لي وذلك؛ لأنها امرأة كبيرة ليس لديها أطفال أو زوج تنشغل بهم فتأخذ هذا الخط وتتسلى به وبما تراه، وتقول لقد رأيت فلانة ستنجب ولدا وفلان سيأتيه رزق دون أن تصدق ما تراه، هل هي آثمة ويجب عليها تركه؟ ويقولون إن: السيدة عائشة - رضي الله عنها - كانت تتسلى بالخط هل هذا القول صحيح؟
ج: الظاهر أن هذه المرأة تشتغل بالعرافة ولعل لها اتصالا بالكهان والعرافين واتصالا بالجان يخبرونها عن بعض المغيبات وتتوقع حدوث أشياء سينال فلان الرزق وسيرزق فلان بولد وفلان ببنت إلى آخره هذا كله من أخلاق الكهان، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (1) » فواجب أن تنصحوها وتخوفوها من الله وتبينوا لها أن التسلية لا تكون بهذا، تسلي نفسها بالتسبيح والتحميد وذكر الله والصلوات النوافل والتقرب إلى الله بصالح العمل أما ما تفعله فهو من أعمال الشياطين ودليل على اتصالها بالكهان والجان فلا يجوز لها الاستمرار على هذه الحالة، وقد برأ الله أم المؤمنين عائشة عن هذه الأخلاق الذميمة. حاشاها أن تكون متصفة بهذا الخلق الذميم وهي أخلاق العرافين والكهان فأم المؤمنين بعيدة كل البعد عن هذا.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(69/82)
س: تقول السائلة أخت لكم مصرية في أحد أسئلتها تقول:
هل يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ بعض الكتب والكتيبات الدينية التي يوجد بها بعض آيات القرآن الكريم، وما الحكم فيما إذا قرأت القرآن وهي حائض بدون لمسه وهي تقرأ بالنظر فقط؟
ج: قراءة الحائض للكتيبات أو الكتب العلمية وإن كان في بعض صفحاتها آيات من القرآن لا بأس به؛ لأن الآيات لم تكن مقصودة إنما المقصود قراءة الكتاب ومرور هذه الآيات ضمن القراءة لا يؤثر، وأما قراءة الحائض القرآن من غير مسه، وإنما بالنظر فيه فقط فإنه لا مانع من ذلك فتضع المصحف وتنظر إليه وتقلب أوراقه بحائل بينه وبين يدها فإن ذلك لا بأس به.(69/83)
س: سائلة تسأل وتقول: تكثر أسئلة إخوتنا وأخواتنا عن هذا الأمر الذي فطرت عليه المرأة هل من كتاب يوضح لهن مسائل الحيض بالأدلة؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الأحكام الشرعية موجودة في كتب أهل العلم عموما على اختلافها، وإن كانت المرأة المسلمة إذا أشكل عليها شيء من الأحكام الشرعية إن تكن مؤهلة علميا استفادت من كلام العلماء في الكتب، وإن أشكل عليها شيء فالله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(69/83)
س: يقول السائل: بعض الناس يقرءون القرآن على الماء ثم يستحمون به في الحمام فما حكم ذلك؟
ج: الاستحمام بهذا الماء خارج الحمام هو الأولى والأكمل محافظة على حرمة القرآن.(69/84)
س: تقول السائلة: قرأت في كتيب أنه لا يجوز أن يقرأ الإنسان على ورق أو على طبق ويغتسل به ويشرب للاعتقاد أنه يشفيه، فهل يجوز أن يقرأ القرآن على الماء للشرب أم أن تلكم الكيفية غير جائزة أيضا؟
ج: كتابة القرآن في طبق بمادة كالزعفران مثلا ثم غسله بماء وشربه هذا لا مانع منه أفتى به بعض السلف يكتبون في الطبق آيات من القرآن وأدعية من المأثور من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيغسلون ذلك بماء ويشربونه فهذا لا مانع منه، وكذلك القراءة في الماء وشرب ذلك الماء المقروء فيه أيضا لا مانع منه(69/84)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 5545
السؤال الثاني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (1) » وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر في صحيح مسلم: «وإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان (2) » .
سؤالي هو: إذا نام المسلم عن صلاة الفجر ولم يستيقظ إلا عند طلوع الشمس فهل يصلي أم يمسك عن الصلاة حتى ترتفع الشمس وكيف نوفق بين هذين الحديثين؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
__________
(1) موطأ مالك وقوت الصلاة (26) .
(2) أخرجه أحمد في المسند 4\111، 112، 385، واللفظ من حديث عمرو بن عبسة أبي نجيم السلمي، وأخرجه مسلم في الصحيح رقم 832.(69/85)
إذا نام المسلم عن صلاة الفجر ولم يستيقظ إلا حين طلوع الشمس، أو قبل طلوعها بقليل أو بعد طلوعها بقليل وجب عليه أن يصلي الفجر حين يقوم، سواء طلعت عليه وهو يصلي أو بدأ الصلاة حين طلوعها أو بدأ الصلاة بعد طلوعها وأتمها قبل أن تبيض، وكذا الحكم في صلاة العصر إذا نام عنها أو نسيها فيصلها حين يستيقظ أو يذكر ولو غابت الشمس وهو فيها، وله أن يبدأ صلاتها حين غروبها كل ذلك بعد أن يتطهر قبل الدخول فيها، وليس له أن يمسك عن صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس وتبيض، ولا عن صلاة العصر حتى تغيب؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1) » ، رواه البخاري ومسلم. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها ليس لها كفارة إلا ذلك (2) » . وأما ما ذكرت من الحديثين فالجمع بينهما عند المحققين من أهل العلم هو: حمل أحاديث النهي على صلاة
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2\254 و 282 و 412 و 348 و 459 من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري في الصحيح رقم 579، ومسلم في الصحيح رقم 608 واللفظ له، والترمذي برقم 186، ومالك في الموطأ 1\6، وأبو داود برقم 408، والنسائي 1\205 ط الحبي
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (614) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (695) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .(69/86)
النوافل غير ذوات الأسباب وعلى غير الفريضة المنسية والتي نام المسلم عنها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/87)
من الفتوى رقم 6576
السؤال الخامس: إذا نام الرجل حتى أشرقت عليه الشمس هل يصلي ركعتي الفجر أو لا يصلي الفجر؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
من غلبه النوم فلم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس فليصل الفجر كما كان يصليها من قبل ويصلي سنة الفجر قبلها، فقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلبه النوم في سفر فلم يستيقظ هو وأصحابه، إلا بعد طلوع الشمس فأذن لها وصلى راتبتها قبلها ثم صلاها صلوات الله وسلامه عليه(69/87)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/88)
من الفتوى رقم 7942
السؤال الثاني عشر: ما حكم من رتب وقته بحيث يستيقظ من نومه غالبا بعد الشروق ولذلك يصلي الصبح بعد الشروق؛ وذلك لأنه يحتاج إلى السهر لمذاكرة دروسه هل يجب إنكار ذلك عليه؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يجب أداء كل صلاة مفروضة في وقتها المحدد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) ووقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني ويمتد إلى طلوع الشمس، ولا يعتبر ما ذكرت
__________
(1) سورة النساء الآية 103(69/88)
عذرا لتأخير الصلاة عن وقتها، يجب عليه أن يأخذ بأسباب اليقظة ليؤديها في وقتها، فإن لم يفعل وجب الإنكار عليه بالحكمة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/89)
من الفتوى رقم 8371
السؤال الأول: رجل يصلى صلاة الصبح بعد طلوع الشمس واتخذ ذلك عادة له في كل يوم لمدة سنتين، حيث يدعي أن النوم يغلب عليه بأنه يسهر في المقاهي وعلى الملاهي إلى بعد نصف الليل هل تصح صلاته؟
السؤال الثاني: هل تجوز مؤاكلته ومجالسته والسكن معه علما بأنني أقوم بنصحه ولم يستجب؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يحرم تأخير الصلاة عن وقتها، ويجب على المسلم المكلف أن(69/89)
يحتاط للصلاة في وقتها - صلاة الصبح وغيرها- بإيصاء من ينبهه لها أو بوضع منبه له، ويحرم عليه أن يسهر على الملاهي وغيرها مما حرم الله سهرا يفوت عليه صلاة الصبح في وقتها أو مع الجماعة، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السهر بعد العشاء بغير مصلحة شرعية؛ ولأن كل عمل يسبب تأخير الصلاة عن وقتها يحرم عليه فعله، إلا ما استثناه الشرع المطهر. ومن كانت حاله كما ذكرت ونصح فلم ينتصح شرع هجره والابتعاد عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/90)
من الفتوى رقم 7976
السؤال الثاني: إن لي أخا يكبرني بسنة لا يحافظ على الصلاة خاصة في رمضان وأنا آمره بالمحافظة على الصلاة لكنه(69/90)
يقول: لا تتدخل فيني وعليك بنفسك فقط وتصل به بعض الأوقات أن يتشاجر معي فماذا أفعل هل آثم بأن أتركه وشأنه، أم أداوم على ذلك، علما أنه ينام عن الصلاة ولا يصليها إلا إذا قام من نومه فيقول: النائم معذور حتى يستيقظ، علما أنه ثقيل في نومه، وهل صلاته صحيحة في ذلك الأمر؟ أفتوني جزاكم الله خيرا.
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: نوصيك بتقوى الله، والاستمرار على ما أنت عليه من خير، والاستمرار كذلك على مخالطة أهلك ومناصحتهم بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر على ما قد تلاقيه منهم، احتسابا لثواب الله واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيا: الذي يتعمد النوم عن الصلاة ويوقظ لها من نومه مرارا ويتركها عمدا، أو يصليها إذا استيقظ في غير وقتها في حكم من يتركها عمدا، وكذا من يتعمد النوم عن أدائها في وقتها دون الأخذ بأسباب يقظته لها في وقتها، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » . وصح عنه أيضا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(69/91)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/92)
الفتوى رقم 2259
س: والدي البالغ من العمر اثنين وتسعين عاما قد صدمته في رجله سيارة ودخل المستشفى، وسبعة عشر يوما وهو ما صلى فلما أفاق يسأل ويريد أن يقضيها أفيدونا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان عقله معه في مدة الترك فإنه يقضيها على حسب استطاعته قائما أو جالسا أو على جنب أو مستلقيا يرتبها بالنية والعمل فيصلي صلوات اليوم الأول منها على حسب ترتيبها، يبدأ من أول فرض تركه فالذي بعده وهكذا ثم اليوم الثاني ثم الثالث حتى تنتهي، أما إذا كان قد اختل عقله حينذاك فلا قضاء عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز(69/92)
فتوى رقم 2883
س: يوجد رجل صار عليه حادث اصطدام سيارة ووقع في درك الموت وأخذ مدة طويلة منها شهر رمضان المبارك وهو في غيبوبة الخطر لا يعرف شيئا وبعد مدة منحه الخالق الكريم العظيم الشفاء، واكتملت صحته فماذا عليه من قضاء الصوم والصلاة؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من أن الرجل غاب عقله مدة طويلة لا يعي شيئا فيها من تأثير الصدمة، ومن هذه المدة شهر رمضان فليس عليه قضاء ما مضى من الصوم والصلاة أيام غيبوبة عقله في أصح قولي العلماء؛ لكونه غير مكلف بهما تلك المدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/92)
فتوى رقم 4701
س: وقع علي حادث سيارة ورقدت في المستشفى ثلاثة شهور ولم أع نفسي ولم أصل كل هذه المدة، هل تسقط عني أم أعيد كل الصلاة الماضية. راجيا الإجابة بأسرع وقت؟
ج: تسقط عنك الصلاة في المدة المذكورة ما دمت لا تعقل في تلك المدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/94)
من الفتوى رقم 9440
السؤال الرابع: إذا أغمي على إنسان لمدة شهر ولم يصل طوال هذه الفترة، وأفاق بعده فكيف يعيد الصلوات الفائتة؟
ج: لا يقض ما تركه من الصلوات في هذه المدة، لأنه في(69/94)
حكم المجنون والحال ما ذكر، والمجنون مرفوع عنه القلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/95)
فتوى رقم 4227
س: إن ابنتي تبلغ من العمر ثلاثين عاما ولديها أطفال مصابة باختلال عقلي منذ أربعة عشر عاما، وكان في السابق يصيبها هذا المرض مدة وينقطع عنها مدة أخرى، وقد أصابها هذه المرة على خلاف العادة؛ حيث لها الآن ثلاثة أشهر تقريبا مصابة به، وبذلك فهي لا تحسن صلاتها ولا وضوءها إلا بواسطة إنسان يرشدها كيف وكم صلت؟ والآن وبعد دخول شهر رمضان المبارك صامت يوما واحدا فقط ولم تحسن صيامه، أما الأيام الباقية فإنها لم تصمها، أرشدوني أثابكم الله في هذا الموضوع بما يجب علي وبما يجب عليها، علما أنني ولي أمرها؟
ج: إذا كان الواقع من حالها كما ذكرت لم يجب عليها صوم(69/95)
ولا صلاة أداء ولا قضاء ما دامت كذلك، وليس عليك سوى رعايتها لأنك وليها، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » الحديث، وإذا قدر أنها أفاقت في بعض الأحيان وجبت عليها الصلاة الحاضرة وقت الإفاقة، وكذلك إذا قدر أنها أفاقت يوما أو أياما من شهر رمضان فيما بعد صامت ما أفاقت فيه فقط.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2 \ 5، 55، 74، 108، 111، 121 من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري: في الصحيح رقم 893، 2409، ومسلم في الصحيح رقم 1829.(69/96)
فتوى رقم 8302
س: هل يعاقب المجنون على الأعمال التي قام بها قبل حدوث الجنون والتي لا ترضي الله عز وجل مثل ترك الصلاة والصوم والزكاة وغيرها؛ حيث إنه في بداية الحياة كان عاقلا(69/96)
ولكن الإصابة بالجنون حدثت في وقت متأخر؟
ج: حكمه أيام عقله حكم المكلفين العقلاء في الحساب والثواب والعقاب، وحكمه أيام جنونه حكم سائر المجانين في أنه رفع عنه القلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/97)
من الفتوى رقم 11293
السؤال الثاني: ما حكم الشريعة الإسلامية في الذي يتناول الخمر ليلا وفي الصباح يقيم الصلاة، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، هل صلاته صحيحة أم باطلة؟
ج: إذا صلى الإنسان الصلاة مستوفاة أركانها وشروطها وواجباتها فهي صحيحة، وله أجرها وعليه وزر شرب الخمر، وهو ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (1) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2)
__________
(1) سورة الزلزلة الآية 7
(2) سورة الزلزلة الآية 8(69/97)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/98)
من الفتوى رقم 11636
السؤال الثاني: مرضت عدة أيام ولم أصل في هذه المدة كيف أقضيها؟
ج: يجب على المكلف أداء الصلاة في وقتها ولو كان مريضا ما دام أنه يعقل، وما فات من الصلوات يجب عليك المسارعة إلى القضاء مرتبا فتصلي ما فاتك في اليوم الأول، مثلا: الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء، ثم اليوم الثاني كذلك، وهكذا إلى أن تنتهي الأيام التي فاتتك مع الاستغفار والتوبة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(69/98)
منقصات التوحيد
لفضيلة الدكتور / عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (1)
التمهيد:
قبل أن نبدأ في الكلام على الأمور المنقصة للتوحيد نذكر الفرق بين منقصات التوحيد ونواقضه:
فمنقضات التوحيد: هي الأمور التي تنافي كمال التوحيد ولا تنقضه بالكلية، فإذا وجدت عند المسلم قدحت في توحيده، ونقص إيمانه، ولم يخرج من دين الإسلام، وهي المعاصي التي لا تصل إلى درجة الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وعلى رأسها: الشرك الأصغر والكفر الأصغر والنفاق الأصغر.
أما نواقض التوحيد: فهي الأمور التي إذا وجدت عند العبد خرج من دين الله بالكلية، وأصبح بسببها كافرا أو مرتدا عن دين الإسلام، وهي كثيرة، تجتمع في الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر (الاعتقادي) .
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض.(69/99)
وسأتكلم عن كل منقض من منقضات التوحيد السابقة في فصل مستقل فيما يلي إن شاء الله تعالى.
الفصل الأول: الشرك الأصغر: وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريفه وحكمه:
تعريفه في الاصطلاح هو: كل ما كان فيه نوع شرك لكنه لم يصل إلى درجة الشرك الأكبر ويمكن أن يقال: هو كل قول أو عمل بالقلب أو الجوارح جعل العبد فيه ندا لله تعالى، ولم تصل هذه الندية إلى إخراج صاحبها من الملة. وهذا التعريف أسلم من جهة عدم استعمال لفظ المعرف في التعريف، ولكن الأول أوضح. أما تعريفه بأنه: (كل ما ورد تسميته شركا ولم يصل إلى درجة الشرك الأكبر) . فهو غير جامع، وكذلك تعريفه بأنه (كل ما يؤدي إلى الشرك) غير مانع، لأنه يدخل فيه كثير من البدع والمعاصي التي ليست من الشرك الأصغر، كالتصوير لغير التعظيم، فهو وسيلة للشرك، ولكن ليس فيه نوع إشراك حتى يكون شركا، ومثله التساهل بالصلاة عند القبر من غير تعظيم له ولا قصد للصلاة عنده، وغير ذلك مما ليس فيه عند فعله نوع إشراك من الفاعل له فلا يدخل في الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه إشراك أصلا. وينظر المفردات ص 425، القول السديد باب الخوف من الشرك، وباب الذبح ص 34- 59، حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ص 50، فتاوى اللجنة الدائمة 1 / 517. وقد أطلق بعض العلماء الشرك الأصغر على جميع المعاصي؛ لأن فيها اتباعا للهوى، وتقديما له على طاعة الله تعالى، مستدلين بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) الجاثية:23 وقد ذهب كثير من المفسرين، وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهما- إلى أن الآية السابقة في المشرك الذي يعبد ما تهواه نفسه من معبودات، فما استحسن من شيء عبده.
وهذا القول هو الأقرب، وعليه فإن المعاصي لا يدخل منهما في الشرك الأصغر إلا ما كان فيه نوع إشراك لمخلوق آخر. والله أعلم.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 23(69/100)
أما حكمه فيتلخص فيما يأتي:
1 - أنه كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو أكبر الذنوب بعد نواقض التوحيد
والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد رجل حلقة من صفر: "ما هذه؟ " قال: من الواهنة. قال: "انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا"، وسيأتي تخريجه عند الكلام على التمائم. ويؤيد هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا". وسيأتي تخريجه عند الكلام على الحلف بغير الله، فجعل الحلف بالله كاذبا، الذي هو من كبائر الذنوب، أخف من الحلف بغيره صادقا؛ لأنه من الشرك الأصغر هذا وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشرك الأصغر لا يغفر إذا مات العبد وهو لم يتب منه، لعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (1)
لكن أجيب عن هذا الاستدلال بأمرين: 1- أن الآيتين في الشرك الأكبر؛ لأنهما وردتا في ضمن آيات تتحدث عن المشركين والمنافقين وأهل الكتاب. 2- أن الآيات الأخرى في كتاب الله تعالى رتب فيها الحكم على وصف الشرك لم يختلف أهل العلم في أن المراد به في هذه الآيات الشرك الأكبر، كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} (2) وكقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (3) فكذلك آيتا النساء وهذا هو الأقرب
__________
(1) سورة النساء الآية 48L48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة الزمر الآية 65(69/101)
2 - أن هذا الشرك قد يعظم حتى يؤول بصاحبه إلى الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، فصاحبه على خطر عظيم من أن يؤدي به الوقوع في الشرك الأصغر إلى الخروج من دين الإسلام. 3 - أنه إذا صاحب العمل الصالح أبطل ثوابه، كما في الرياء وإرادة الإنسان الدنيا وحدها بعمله الصالح، والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه جل وعلا: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (1) » رواه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2985) ، سنن ابن ماجه الزهد (4202) ، مسند أحمد بن حنبل (2/301) .(69/102)
المبحث الثاني: أنواع الشرك الأصغر: للشرك الأصغر أنواع كثيرة، أشهرها: النوع الأول: الشرك الأصغر في العبادات القلبية:(69/102)
ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الرياء: الرياء في اللغة: مشتق من الرؤية، وهي: النظر، يقال: رائيته، مراءات، ورياء، إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم.(69/103)
فمن أراد وجه الله والرياء معا فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلا سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
والرياء له صور عديدة، منها:
1 - الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود.(69/104)
2 - المراءاة بالقول، كسرد الأدلة إظهارا لغزارة العلم، ليقال: عالم.
3 - المراءاة بالهيئة والزي، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياء ".(69/105)
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه.
، منها: حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه - مرفوعا: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك(69/106)
الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله- عز وجل- لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاء (1) » ، وحديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه - الآخر، قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيها الناس، إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر (2) » .
وحديث أبي هريرة في خبر الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم: «رجل قاتل في الجهاد حتى قتل، ليقال: جريء، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ليقال: عالم وقارئ، ورجل تصدق ليقال: جواد (3) » . راوه مسلم.
ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه،
__________
(1) راوه أحمد 5/ 428، 429، والبغوي (4135) بإسناد حسن. وقال المنذري في الترغيب 1/ 82، 83: '' رواه أحمد بإسناد جيد، وقد رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج، وقيل: إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع بن خديج فيه
(2) رواه ابن أبي شيبة2/ 481، وابن خزيمة (937) بإسناد حسن
(3) صحيح مسلم: الإمارة باب: من قاتل للرياء والسمعة (1905) ، ورواه الترمذي (2383) ، وابن خزيمة (2482) ، وابن حبان (408) مطولا بإسناد صحيح(69/107)
وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها:
1 - تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه؛ ويعرض عن من سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان، ومن الانقياد لشهوات النفس.
2 - التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية، ليكون ذلك حرزا له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضا مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها.
3 - الإكثار من الالتجاء إلى الله تعالى ودعائه أنه يعيذه من شر نفسه ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية التي هي حصن من شرور النفس والشيطان.
4 - تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
5 - التفكر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء ومن السفلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة ونجاته من عذاب القبر وشدة القيامة وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على(69/108)
منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا سئل الإمام مالك - رحمه الله- من السفلة؟ قال: "من أكل بدينه".
6 - الحرص على كل ما هو سبب في عدم الوقوع في الرياء، وذلك بالحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المداحين وأهل الرياء، ونحو ذلك.
وفي ختام الكلام على مسألة الرياء يحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يرمي مسلما آخر بالرياء، فإن الرياء من أعمال القلوب ولا يعلمه إلا علام الغيوب، واتهام المسلمين بالرياء هو من أعمال المنافقين.(69/109)
والأصل في المسلم السلامة، وأنه إنما أراد وجه الله، وأيضا فإن المسلم يندب له في بعض المواضع أن يظهر عمله للناس، إذا أمن على نفسه من الرياء، كما إذا أراد أن يقتدى به في الخير، فليس كل من حرص على إظهار عمله للناس يعتبر مرائيا (1) .
__________
(1) ينظر: الرعاية ص 315- 324، الإحياء 3\334- 336، مختصر منهاج القاصدين ص 287(69/110)
المثال الثاني: من أمثلة الشرك الأصغر في العبادات القلبية: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا: المراد بهذا النوع: أن يعمل الإنسان العبادة المحضة ليحصل على مصلحة دنيوية مباشرة.
وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ينقسم من حيث الأصل إلى أقسام كثيرة، أهمها:(69/110)
1 - أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، وهذا القسم محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر (1) ، ويبطل العمل الذي يصاحبه.
ومن الأدلة على تحريم هذا القسم وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه:
أ- قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (2) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) [هود: 15، 16] .
ب- حديث عمر رضي الله عنه مرفوعا: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (4) » . رواه البخاري ومسلم.
__________
(1) وقد سبق عند ذكر حكم الرياء قول بعض العلماء: إن هذا النوع من الشرك الأكبر، ولعل الأقرب أنه من الأصغر
(2) سورة هود الآية 15
(3) سورة هود الآية 16
(4) صحيح البخاري (1) ، ومسلم (1907)(69/111)
ج- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة (1) » . يعني ريحها.
2 - أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معا، كمن يحج لوجه الله وللتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله وللدنيا، وكمن يصوم لوجه الله وللعلاج، وكمن يتوضأ للصلاة وللتبرد، وكمن يطلب العلم لوجه الله وللوظيفة، فهذا الأقرب أنه مباح؛ لأن الوعيد إنما ورد في حق من طلب بالعبادة الدنيا وحدها، ولأن الله رتب على كثير من العبادات منافع دنيوية عاجلة، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) [الطلاق:2، 3) ، وكما في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (4) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (5) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (6) [نوح:10-12] ، والنصوص في هذا
__________
(1) رواه أحمد 2\338، وأبو داود (3664) ، وابن حبان (78) بإسناد حسن إن شاء الله، رجاله رجال الصحيحين، وله شواهد بنحوه هو بها صحيح، وقد ذكرتها في رسالة النية في تخريج هذا الحديث تحت رقم (33) ، وله شواهد أخرى كثيرة في تحريم طلب الدنيا بالعمل الصالح، ذكرتها في المرجع نفسه برقم (31، 32، 35، 42) . وتفسير العرف بالريح هو من تفسير بعض رواة الحديث، وفي حديث عبد الله بن عمرو في صحيح البخاري (6914) : ((وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما))
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة نوح الآية 10
(5) سورة نوح الآية 11
(6) سورة نوح الآية 12(69/112)
المعنى كثيرة، فهذه النصوص تدل على جواز إرادة وجه الله وهذه المنافع الدنيوية معا بالعبادة.
لأن هذه المنافع الدنيوية(69/113)
ذكرت على سبيل الترغيب في هذه العبادات.
وهذا القسم لا يبطل العلم الذي يصاحبه، ولكن أجر هذه العبادة ينقص منه بقدر ما خالط نيته الصالحة من إرادة الدنيا.(69/114)
المثال الثالث من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القلبية: الاعتماد على الأسباب:
السبب لغة: الحبل، ويطلق على" كل شيء يتوصل به إلى غيره" استعير من الحبل الذي يتوصل به إلى الماء.
وفي الاصطلاح هو: الأمور المحسوسة التي يفعلها الإنسان ليحصل له ما يريده من مطلوب، أو يندفع عنه ما يخشاه من مرهوب في الدنيا أو في الآخرة.
فمن الأسباب في أمور الدنيا: البيع والشراء أو العمل في وظيفة ليحصل على المال، ومنها: أن يطلب من سلطان أو غني مالا؛ لينفق منه على نفسه وعلى أولاده، ومنها: أن يستشفع بذي جاه عند السلطان ليسلم من عقوبة دنيوية، أو ليدفع عنه ظلما، أو لتحصل له منفعة دنيوية، كوظيفة أو مال أو غيرهما، ومنها: أن يذهب إلى طبيب ليعالجه من مرض، ونحو ذلك.
ومن الأسباب في أمور الآخرة: فعل العبادات رجاء ثواب الله تعالى والنجاة من عذابه (1) .، ومنها: أن يطلب من غيره أن يدعو الله له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك.
والذي ينبغي للمسلم في هذا الباب هو أن يستعمل الأسباب
__________
(1) مجموع الفتاوى 8/ 175، 176(69/115)
المشروعة التي ثبت نفعها بالشرع أو بالتجربة الصحيحة.
مع توكله على الله تعالى.(69/116)
وأنه لا أثر له إلا مشيئة الله تعالى، إن شاء نفع بهذا السبب، وإن شاء أبطل أثره.
أما إن اعتمد الإنسان على السبب فقد وقع في الشرك، لكن إن اعتمد عليه اعتمادا كليا، مع اعتقاد أنه ينفعه من دون الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن اعتمد على السبب مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار فقد وقع في الشرك الأصغر، فالمؤمن مأمور بفعل السبب مع التوكل على مسبب الأسباب جل وعلا.(69/117)
وعليه فإن ترك الأسباب واعتقاد أن الشرع أمر بتركها، وأنها لا نفع فيها كذب على الشرع، ومخالفة لما أمر الله به وأجمع عليه أهل العلم، ومخالفة لمقتضى العقل، ولهذا قال بعض أهل العلم: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع (1) .
ومن الشرك في الأسباب: أن يجعل ما ليس بسبب سببا، فإن اعتقد أن هذا السبب يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله فهو شرك أكبر، كحال عباد الأصنام وعباد القبور الذين يعتقدون أنها تنفع وتضر استقلالا، وإن اعتقد أن الله جعله سببا، مع أن الله لم يجعله
__________
(1) مجموع الفتاوى 8/ 169، وينظر آخر مدارج السالكين 3/ 521، وشرح الطحاوية: الدعاء ص 679(69/118)
سببا فهو شرك أصغر؛ لأنه شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بالسببية مع أن الله لم يجعله سببا. .(69/119)
المثال الرابع من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القبلية: التطير: التطير لغة: مصدر (تطير) ، ويسمى (الطيرة) ، و (الطير) ينظر: الصحاح، والقاموس المحيط، والنهاية (مادة: طير) ، إكمال المعلم 7 / 141، جامع الأصول 7 \ 628. .
وفي الاصطلاح: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو غيرهما.
ومعنى ذلك أن يكون الإنسان قد عزم على أمر ما، فيرى أو يسمع أمرا لا يعجبه فيحمله ذلك على ترك ما يريد فعله، ويلحق به في الحكم: عكسه، بأن يرى أو يسمع أمرا يسر به، فيحمله على فعل أمر لم يكن عازما على فعله.(69/119)
ومن أمثلة التطير: ما كان يفعله أهل الجاهلية من أن أحدهم إذا أراد سفرا زجر أو أثار طيرا، فإن اتجه ذات اليمين تفاءل، فعزم على السفر، وإن اتجه ذات الشمال تشاءم، وترك هذا السفر، وقد كثر استعمال أهل الجاهلية للطيور في هذا الأمر حتى قيل لكل من تشاءم (تطير) ، ومن أمثلة التشاؤم أيضا: التشاؤم بسماع كلمة لا تعجبه كـ (يا هالك) ، أو بملاقاة الأعور أو العجوز الشمطاء، أو برؤية الغراب، أو البوم، أو صاحب عاهة في أول سفره، أو في أول نهاره فيترك هذا السفر، أو يترك البيع والشراء في هذا اليوم، ومن أمثلته: التشاؤم ببعض الأشهر كصفر، والتشاؤم ببعض الأرقام كثلاثة عشر، كما يفعله كثير من أصحاب الفنادق والعمارات وغيرهم في هذا العصر، فتجد بعضهم لا يضع هذا الرقم في أدوار العمارة أو في المصعد أو في مقاعد الطائرات، ونحو ذلك تشاؤما.
والتطير محرم، وشرك أصغر. ومثله: الفعل الذي يقدم(69/120)
عليه العبد أو يعزم عليه لرؤيته أو سماعه ما يسر به -كما سبق- ويستثنى منه الفأل الحسن، وهو: أن يكون الإنسان قد عزم على أمر معين فيرى أو يسمع أمرا حسنا من غير قصد له، فيسر به ويستبشر به، ويزيده ذلك اطمئنانا بأن ما كان قد عزم على فعله سيكون فيه خير وبركة بمشيئة الله تعالى، ويعظم رجاؤه في الله تعالى في تحقيق هذا الأمر، من غير اعتماد على هذا الفأل، فهذا حسن، فالفأل حسن ظن بالله تعالى، ورجاء له، وباعث على الاستعانة به، والتوكل عليه، وعلى سرور النفس، وانشراح الصدر، وهو مسكن(69/121)
للخوف، باعث للآمال، والطيرة على النقيض من ذلك: فهي سوء ظن بالله، وتوكل على غيره، وقطع للرجاء، وتوقع للبلاء، وقنوط للنفس من الخير، وهو مذموم وباطل شرعا وعقلاء.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على بطلان التطير،.، وتحريمه ومن ذلك ما ثبت عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك (1) »
__________
(1) رواه الإمام أحمد (3687 تحقيق شاكر) ، وابن أبي شيبة (6442) ، وأبو داود (3910) ، والترمذي (1614) ، وابن حبان (6122) ، والحاكم 1/ 17، 18. وإسناده صحيح. وقد صححه الترمذي، والحاكم، وصححه أيضا الذهبي والعراقي كما في فيض القدير 4/ 294، وابن العربي في عارضة الأحوذي 7/ 116، وتمامه: ((وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)) ، وهذه التتمة من قول ابن مسعود -رضي الله عنه- كما في سنن الترمذي، والمعنى: وما منا أحد إلا وقد يعتريه التطير. وهذا يدل على أن ما يقع في القلب من التطير من غير قصد من العبد ولم يستقر في القلب معفو عنه، لكن إن ترتب عليه إقدام أو إحجام فهو محرم، ويؤيد هذا حديث معاوية بن الحكم عند مسلم (537) : قال قلت: ومنا رجال يتطيرون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم)) . وفي رواية: ((فلا يصدنكم)) .(69/122)
ومما يدل على تحريم الطيرة أيضا وإباحة الفأل: ما رواه عروة بن عامر، قال: «ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت (2) » ، وقوله صلى الله عليه
__________
(1) رواه أبو داود في الطب (3919) ، وابن أبي شيبة في الأدب (6443) ، وابن السني (293) ، والبيهقي في كتابه ((الدعوات)) (500) . وإسناده صحيح إن ثبت سماع حبيب من عروة، والأقرب أن عروة صحابي، فقد أثبت صحبته جماعة، ونفاها آخرون، والمثبت مقدم على النافي. ينظر الإصابة 2/ 469، تهذيب التهذيب 2/ 185، وقد صحح هذا الحديث النووي في رياض الصالحين (1686) . وله شاهد من مرسل الشعبي رواه عبد الرزاق في الجامع لشيخه معمر باب الطيرة (19512) . وسنده صحيح، ومراسيل الشعبي قوية، وله شاهد آخر من مرسل عبد الرحمن بن سابط، رواه أبو داود في المراسيل (59) ، وإسناده حسن، فحديث عروة حسن لغيره بهذين الشاهدين في أقل أحواله
(2) (1) ، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك(69/123)
وسلم: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الحسن، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم (1) » رواه البخاري ومسلم. .
قال الحافظ ابن رجب بعد ذكره أن التشاؤم باطل شرعا وعقلا، قال: (وفي الجملة فلا شؤم إلا المعاصي والذنوب فإنها تسخط الله -عز وجل- فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله، واليمن هو طاعة الله وتقواه كما قيل:
إن رأيا دعا إلى طاعة الله ... لرأي مبارك ميمون
والعدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي، فمن قاربها وخالطها وأصر عليها هلك، وكذلك مخالطة أهل المعاصي، ومن يحسن المعصية ويزينها ويدعو إليها من شياطين الإنس، وهم أضر من
__________
(1) صحيح البخاري (5754) ، وصحيح مسلم (2223) من حديث أبي هريرة(69/124)
شياطين الجن، قال بعض السلف: شيطان الجن تستعيذ بالله منه فينصرف، وشيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية، وفي الحديث: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل (1) » ، وفي حديث آخر: «لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي (2) » ، فالعاصي مشؤوم على نفسه وعلى غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس خصوصا من لم ينكر عليه عمله، فالبعد عنه متعين، فإذا كثر الخبث هلك الناس عموما) (3) .
__________
(1) رواه أبو داود (4833) ، والترمذي (2378) ، وسنده حسن.
(2) رواه أحمد 3/ 38، وأبو داود (4832) ، والترمذي (2395) ، وابن حبان (554) ، وسنده حسن
(3) ينظر: لطائف المعارف: وظيفة شهر صفر ص 77(69/125)
النوع الثاني من أنواع الشرك الأصغر: الشرك في الأفعال: ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الرقى الشركية. .(69/125)
الرقى في اللغة: جمع رقية، والاسم منه (رقيا) ، يقال: رقيته، أرقيه، رقيا، والمرة (رقية) (1) .
وفي الاصطلاح: الأذكار التي يعوذ بها لرفع البلاء أو دفعه.
والرقية الشرعية هي الأذكار من القرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة أو الأدعية الأخرى المشروعة التي يقرأها الإنسان على نفسه أو يقرأها عليه غيره ليعيذه الله من الشرور بأنواعها، من الأمراض وشرور جميع مخلوقات الله الأخرى من السباع والهوام والجن والإنس وغيرها، فيعيذه منها بدفعها قبل وقوعها، بأن لا تصيبه، أو يعيذه منها بعد وقوعها بأن يرفعها ويزيلها عنه، وغالبا يصحب قراءة هذه الأذكار نفث من الراقي، وقد تكون الرقية
__________
(1) النهاية، والمصباح، (مادة: رقى)(69/126)
بالقراءة والنفث على بدن المرقي أو في يديه ويمسح بهما جسده ومواضع الألم إن وجدت، وقد تكون بالقراءة في ماء ثم يشربه المرقي أو يصب على بدنه، وبعضهم يقوم بكتابة الأذكار(69/127)
بزعفران أو غيره على ورق أو في إناء، ثم يغسله بماء، تم يسقيه المريض.(69/128)
والرقى التي يفعلها الناس تنقسم إلى نوعين:(69/128)
النوع الأول: الرقى الشرعية، وهي الرقى التي سبق ذكرها، وقد أجمع أهل العلم على جوازها في الجملة.
ويشترط في الرقية أيضا أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، وأن لا يعتمد عليها المرقي بقلبه، وأن يعتقد أن النفع إنما هو من الله تعالى، وأن هذه الرقية إنما هي سبب من الأسباب المشروعة، ويشترط أن لا تكون هذه الرقية من ساحر أو متهم بالسحر، وحكم هذه الرقية أنها مستحبة، وهي من أعظم أسباب الشفاء من الأمراض بإذن الله تعالى.(69/129)
والدليل على استحباب الرقية في حق المرقي: ما رواه(69/130)
البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. .(69/131)
والدليل على استحبابها في حق الراقي: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: «كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب؟ فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (1) » . .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب السلام باب استحباب الرقية رقم (2199)(69/132)
النوع الثاني: الرقى المحرمة:
ومنها: الرقى الشركية، وهي الرقى التي يعتمد فيها الراقي أو المرقي على الرقية، فإن اعتمد عليها مع اعتقاده أنها سبب من الأسباب، وأنها لا تستقل بالتأثير فهذا شرك أصغر.، وإن اعتمد عليها اعتمادا كليا حتى اعتقد أنها تنفع من دون الله، أو تضمنت صرف شيء من العبادة لغير الله، كالدعاء، أو الاستعاذة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
والدليل على تحريم جميع الرقى الشركية: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة (2) » ، وما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: «كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم،
__________
(1) رواه الإمام أحمد 1\ 381، وأبو داود (3883) ، وابن ماجه (3530) ، والطبراني (8863) ، وابن حبان (6090) ، والحاكم 4\ 217 من طرق عن ابن مسعود. وهو صحيح بمجموع طرقه.
(2) (1) . شرك(69/133)
لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيها شرك (1) » رواه مسلم.
ومن الرقى المحرمة: أن تكون الرقية فيها طلاسم، أو ألفاظ غير مفهومة، والغالب أنها رقى شركية، وبالأخص إذا كانت من شخص غير معروف بالصلاح والاستقامة على دين الله تعالى، أو كانت من كافر كتابي أو غيره.
__________
(1) صحيح مسلم: السلام (2200) .(69/134)
المثال الثاني من أمثلة الشرك الأصغر في الأفعال: التمائم الشركية:
التمائم في اللغة: جمع تميمة، وهي في الأصل خرزة كانت تعلق(69/134)
على الأطفال يتقون بها من العين ونحوها (1) ، وكأن العرب سموها بهذا الاسم لأنهم يريدون أنها تمام الدواء والشفاء المطلوب (2) .
وفي الاصطلاح: هي كل ما يعلق على المرضى أو الأطفال أو البهائم أو غيرها من تعاويذ لدفع البلاء أو رفعه.
ومن أنواع التمائم: الحجب والرقى التي يكتبها بعض المشعوذين ويكتبون فيها طلاسم وكتابات لا يفهم معناها، وغالبها شرك، واستغاثات بالشياطين، وتعلق على الأطفال أو على البهائم، أو على بعض السلع أو أبواب البيوت يزعمون أنها سبب لدفع العين أو أنها سبب لشفاء المرضى من بني الإنسان أو من الحيوان، ومنها: الخلاخيل التي يجعلها بعض الجهال على أولادهم يعتقدون أنها سبب لحفظهم من الموت، ومنها: لبس حلقة الفضة للبركة أو للبواسير،
__________
(1) ينظر: تأويل مختلف الحديث ص 226، والصحاح، والنهاية، والقاموس، ولسان العرب (مادة: تمم) .
(2) كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (مادة: تم) ، وكما قال ابن الأثير في النهاية (مادة: تمم) .(69/135)
ولبس خواتم لها فصوص معينة يعتقدون أنها تحفظ من الجن، ولبس أو تعليق خيوط عقد فيها شخص له اسم معين كـ "محمد" عقدا(69/136)
للعلاج من بعض الأمراض، ومنها الحروز وجلود الحيوانات والخيوط وغيرها مما يعلق على الأطفال أو على أبواب البيوت ونحو ذلك، والتي يزعمون أنها تدفع العين أو المرض أو الجن أو أنها سبب للشفاء من الأمراض، وهذه كلها محرمة، وهي من الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة فقد أشرك (2) » ، فهي من الشرك؛ لأنهم ظنوا أن لغير الله تأثيرا في الشفاء (3) ، وطلبوا دفع الأذى من غيره تعالى مع أنه لا يدفعه أحد سواه جل وعلا (4) ، لكن
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(2) رواه الإمام أحمد 4\ 156، والحاكم 4\ 219 بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر، وأول الحديث: أن عقبة رضي الله عنه جاء في ركب عشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبايع تسعة، وأمسك عن بيعة رجل منهم، فقالوا: ما شأن هذا الرجل لا تبايعه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ''إن في عضده تميمة''، فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ''من علق تميمة فقد أشرك''. وله شاهد بنحوه رواه ابن وهب في الجامع (666) من حديث رجل من صداء من الصحابة، وسنده حسن. وله شاهد ثالث رواه الإمام أحمد 4\ 445، وابن حبان (6085) عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة، فقال: ''ويحك، ما هذه؟ '' قال: من الواهنة. قال: ''أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، أنبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا'' وسنده حسن.
(3) التمهيد 17\ 163، الدر النضيد للشوكاني ص 9.
(4) النهاية لابن الأثير (مادة: تمم) ، حاشية ابن عابدين: أول البيع 5\ 233.(69/137)
إن اعتقد متخذها أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أن الله هو النافع وحده، لكن تعلق قلبه بها في دفع الضر، فهو شرك أصغر؛ لاعتماده على الأسباب؛ ولأنه جعل ما ليس بسبب سببا، فهذه التمائم السابق ذكرها كلها ليس فيها نفع بوجه من الوجوه، وهي من خرافات الجاهلية التي ينشرها السحرة والمشعوذون، ويدجلون بها على السذج والجهلة من الناس.
ويدخل في التمائم أن تكتب آيات من القرآن أو بعض الأذكار الشرعية (الرقى) في ورقة ثم توضع في جلد أو غيره ثم تعلق على الأطفال أو على بعض المرضى، وقد اختلف في جواز تعليقها، ولعل(69/138)
الأحوط المنع من هذه التمائم، لعدة أمور، أهمها:
1 - أن الأحاديث جاءت عامة في النهي عن التمائم، ولم يأت حديث واحد في استثناء شيء منها.
2 - أن تعليق التمائم من القرآن والأدعية والأذكار المشروعة نوع من الاستعاذة والدعاء، فهي على هذا عبادة من العبادات، وهي بهذه الصفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها (1) .
__________
(1) هذا التعليل لم أقف على من ذكره، ولكنه فيما ظهر لي تعليل صحيح.(69/139)
3 - أن في تعليقها تعريضا للقرآن وكلام الله تعالى وعموم الأذكار الشرعية للإهانة، إذ قد يدخل بالتميمة أماكن الخلاء، وقد ينام عليها الأطفال أو غيرهم، وقد تصيبها بعض النجاسات، وفي منع تعليقها صيانة للقرآن ولذكر الله تعالى عن الإهانة.
4 - سد الذريعة؛ لأن تعليق هذه التمائم يؤدي إلى تعلق القلوب بها من دون الله، ويؤدي إلى تعليق التمائم الشركية، كما هو الواقع عند كثير من المسلمين.(69/140)
النوع الثالث: الشرك الأصغر في العبادات القولية:
ومن أمثلة هذا النوع:
المثال الأول: الحلف بغير الله:
الحلف في اللغة، مصدر حلف، يحلف، وهو الملازمة؛ لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، ويسمى "اليمين"؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه، ويسمى أيضا "القسم".
وفي الاصطلاح: توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى مصدرا بحرف من حروف القسم.
وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل: والله، أو بالله، أو تالله، واختلفوا فيما عدا ذلك.(69/141)
واليمين عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله (1) ، فيحرم الحلف بغيره تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله، وإلا فليصمت (2) » متفق عليه، فمن حلف بغير الله سواء أكان نبيا أم وليا أم الكعبة أم غيرها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب،
__________
(1) بدائع الصنائع: الأيمان 3\ 2.
(2) صحيح البخاري: الأدب (6108) ، وصحيح مسلم: الأيمان (1646) .(69/142)
ووقع في الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » ، ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائنا من كان فقد جعله شريكا لله -عز وجل-
__________
(1) رواه الإمام أحمد (329، 4904، 5375 تحقيق شاكر) ، وأبو داود (3251) ، والترمذي (1535) ، وابن حبان (4358) ، والحاكم 1\ 18، و4\ 297، وإسناده صحيح، رجاله رجال مسلم. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال الذهبي في مختصر الكبائر (الكبيرة 23) : ''إسناده على شرط مسلم''. وأوله: أن ابن عمر سمع رجلا يقول: (لا والكعبة) ، فقال ابن عمر: ويحك لا تحلف بغير الله، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. فذكر. وله شاهد يأتي في التشريك في الألفاظ قريبا -إن شاء الله تعالى.(69/143)
في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غير، إما إن كان الحالف قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثير من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياء وأمواتا، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم(69/144)
أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجل وأعظم وأخوف من الله تعالى.(69/145)
المثال الثاني من أمثلة الشرك الأصغر في الأقوال: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ"الواو ":
العطف بالواو يقتضي مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ولذلك فإنه يحرم العطف بها بين الله وبين أحد من خلقه(69/145)
في أي أمر من الأمور التي يكون للمخلوق فيها دخل في وقوعها، كأن يقال: "ما شاء الله وشئت"، أو يقال: "هذا من بركات الله وبركاتك"، أو يقال: "ما لي إلا الله وأنت"، أو يقال: "أرجو الله وأرجوك"، ونحو ذلك، فمن تلفظ بأحد هذه الألفاظ أو ما يشبهها فقد وقع في الشرك، والدليل قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 22(69/146)
وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها (فلان) ، فإن هذا كله به شرك" (1) ، وما روته قتيلة بنت صيفي - رضي الله عنها - «مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد التاسع والستون - الإصدار: من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1424هـ > البحوث > منقصات التوحيد > الفصل الأول الشرك الأصغر > المبحث الثاني أنواع الشرك الأصغر > النوع الثالث الشرك الأصغر في العبادات القولية > المثال الثاني التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بالواو
المثال الثاني من أمثلة الشرك الأصغر في الأقوال: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ"الواو ":
العطف بالواو يقتضي مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ولذلك فإنه يحرم العطف بها بين الله وبين أحد من خلقه
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره في تفسير هذه الآية، رقم (230) وسنده حسن.(69/147)
في أي أمر من الأمور التي يكون للمخلوق فيها دخل في وقوعها، كأن يقال: "ما شاء الله وشئت"، أو يقال: "هذا من بركات الله وبركاتك"، أو يقال: "ما لي إلا الله وأنت"، أو يقال: "أرجو الله وأرجوك"، ونحو ذلك، فمن تلفظ بأحد هذه الألفاظ أو ما يشبهها فقد وقع في الشرك، والدليل قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 22(69/146)
وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها (فلان) ، فإن هذا كله به شرك" (1) ، وما روته قتيلة بنت صيفي - رضي الله عنها - «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنكم تنددون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة،
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره في تفسير هذه الآية، رقم (230) وسنده حسن.(69/147)
ويقولون: ما شاء الله ثم شئت (1) » ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليهودي على تسمية هذا العطف شركا، لكن إن كان هذا القائل يعتقد أن ما نسبه إلى المخلوق الذي عطفه على اسم الله تعالى بـ "الواو" ليس على سبيل الاستقلال، ولكن نسبه إلى هذا المخلوق لأنه هو المباشر لهذا الأمر لا غير، مع اعتقاده أن الله هو الخالق المقدر، فهو شرك أصغر، من أجل هذا اللفظ الذي فيه تشريك. وإن كان يعتقد أن هذا المخلوق مشارك لله تعالى على سبيل الاستقلال، وأن تصرفه في ذلك بدون مشيئة الله تعالى فهو شرك أكبر.
__________
(1) رواه الإمام أحمد 6\371، 372، والنسائي في المجتبي: الأيمان (3282) ، والطحاوي في مشكل الآثار (328) من طريقين أحدهما صحيح، عن معبد بن خالد عن عبد الله بن يسار عن قتيلة، ورجاله ثقات، وقد صححه الحافظ في الإصابة 4\378 ورواه بنحوه أخصر منه الإمام أحمد 5\ 484، وأبو داود (4980) ، وابن أبي شيبة: الأدب 9\117، والدعاء: 10\346 من طرق عن شعبة عن منصور عن عبد الله بن يسار عن حذيفة. ورجاله ثقات، وقد صححه النووي في الأذكار كتاب حفظ اللسان ص 308، وفي رياض الصالحين كتاب الأمور المنهي عنها (1754) ، ورجحه البخاري على حديث قتيلة كما في العلل للترمذي (658) . وله شواهد بنحوه أخصر منه، منها حديث الطفيل بن سخبرة الذي رواه الإمام أحمد 5\ 72، والحاكم 3\462، وسنده صحيح. ومنها حديث ابن عباس الذي رواه أحمد 1 \214، والبخاري في الأدب المفرد (743) ، وسنده حسن، ولفظه: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: '' أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده''. وقد صحح الألباني في السلسلة الصحيحة (136 -139) هذه الأحاديث الأربعة.(69/148)
المثال الثالث من أمثلة الشرك الأصغر في الأقوال: الاستسقاء بالأنواء:
الاستسقاء في اللغة: من سقى، يسقي، والمصدر: سقيا، بفتح السين وتسكين القاف، والاسم: السقيا، والمراد: إنزال الغيث (1) ، والسين والتاء في "الاستسقاء" تدل على الطلب، أي طلب السقيا، كالاستغفار، فهو طلب المغفرة، فمادة "استفعل" تدل على الطلب غالبا (2) .
والأنواء: جمع نوء، وهو النجم، وفي السنة الشمسية ثمانية وعشرون نجما، كنجم الثريا، ونجم الدبران.
فالاستسقاء بالأنواء: أن يطلب من النجم أن ينزل الغيث، ويدخل فيه أن ينسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، والنهاية (مادة: سقي) .
(2) القول المفيد باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.(69/149)
يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون: هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث.
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن ينسب المطر إلى النجم معتقدا أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جل وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع.
القسم الثاني: أن ينسب المطر إلى النوء معتقدا أن الله جعل هذا النجم سببا في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سببا (1) ، فالله تعالى لم يجعل شيئا من النجوم سببا في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأي وجه، وإنما أجرى الله
__________
(1) القول المفيد باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء2\19.(69/150)
العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم.(69/151)
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها:
أ- ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح من الناس شاكر، ومنهما كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا". قال: فنزلت هذه الآية: حتى بلغ: (3) » ومعنى الآية الأخيرة: أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تكذبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى.
2 - ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على
__________
(1) صحيح مسلم: الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء (73) .
(2) سورة الواقعة الآية 75 (1) {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}
(3) سورة الواقعة الآية 82 (2) {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
(4) صحيح البخاري (846) ، وصحيح مسلم (71) . وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (72) ، ومن حديث معاوية الليثي عند أحمد (3\429) وسنده حسن.(69/151)
الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (1) » . وهذا الحديث يشمل على الصحيح النوعين السابقين، فهذا القول كفر، لكن إن نسب الغيث إلى النجم من دون الله فهو كفر وشرك أكبر، وإن نسبه إليه نسبة تسبب فهو كفر نعمة وشرك أصغر.
3 - ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعا: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة (2) » .
هذا وإذا قال المسلم: "مطرنا بنوء كذا وكذا" ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم، معتقدا أنه ليس للنجم أدنى
__________
(1) أي بعد مطر نزل في الليل وسمى المطر سماء لأنه ينزل من السماء. ينظر: شرح السنة 4\420. (4)
(2) صحيح مسلم: الجنائز (934) .(69/152)
تأثير لا استقلالا ولا تسببا فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ: فقيل: هو محرم.
وقيل: مكروه. وقيل: مباح (1) ، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته"، وهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في الحديث القدسي، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول: "هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا"، أو يقول: "مطرنا في نوء كذا" (2) ، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول: «مطرنا بنوء كذا (3) » أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي:
__________
(1) شرح السنة: الاستسقاء 4\421، النهاية (مادة: نوأ) ، جامع الأصول: النجوم 11\578.
(2) مغني المحتاج: صلاة الاستسقاء 1\326، الفرع 1\163، الإنصاف 5\439.
(3) صحيح البخاري الجمعة (1038) ، صحيح مسلم الإيمان (71) ، سنن النسائي الاستسقاء (1525) ، سنن أبو داود الطب (3906) ، مسند أحمد بن حنبل (4/117) ، موطأ مالك النداء للصلاة (451) .(69/153)
1 - أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقا بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفرا بالله تعالى، وإيمانا بالكوكب.
2 - أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في العصر قد يؤدي بجهلتهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء (1) .
3 - أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد (2) .
__________
(1) ينظر قول الحافظ ابن حجر السابق، وقول القرطبي الآتي.
(2) ينظر قول الباجي الذي سبق نقله قريبا، وينظر فتح المجيد ص 373.(69/154)
4 - أن فيه استبدالا للفظ المندوب إليه شرعا في هذه الحال، وهو قول: "مطرنا بفضل الله ورحمته " بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك للسنة وتشبه بالمشركين، وقد نهينا عن التشبه بهم.
هذا وهناك أمثلة أخرى كثيرة للشرك الأصغر تركتها خشية الإطالة، ومن ذلك: التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله(69/155)
تعالى، كملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوها، ومنها التسمي بأسماء الله تعالى، ومنها التسمي باسم فيه تعبيد لغير الله تعالى، كعبد الرسول، وعبد الحسين، ونحوهما ومنها التبرك البدعي، ومنها(69/156)
التصوير لذوات الأرواح، ومنها سب الدهر، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، وبالأخص إذا كان في قضية واحدة.(69/157)
الفصل الثاني: الكفر الأصغر:
وفيه مبحثان:(69/157)
المبحث الأول: تعريفه وحكمه:
الكفر الأصغر هو: كل معصية ورد في الشرع تسميتها كفرا ولم تصل إلى حد الكفر الأكبر المخرج من الملة (1) .
فكل معصية ورد في الشرع أنها كفر أو أن من فعلها كفر ولم تصل إلى درجة الكفر الأكبر المخرج من الملة فهي كفر أصغر، وبعض أهل العلم يطلق عليه اسم "كفر دون كفر" وبعضهم يطلق عليه اسم "كفر النعمة"، وهو تسمية له بمثال من أشهر
__________
(1) ينظر: أعلام السنة المنشورة ص 185.(69/158)
أمثلته.
وحكم هذا الكفر: أنه محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنه من أعمال الكفار التي حرمها الإسلام، ولكنه لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام.(69/159)
المبحث الثاني: أمثلته:
للكفر الأصغر أمثلة كثيرة، أهمها:
1 - كفر النعمة والحقوق، وذلك بأن لا يعترف العبد بنعمة الله تعالى عليه، ومنه أن ينكر معروفا أسداه إليه أحد المخلوقين،(69/159)
ومن أوضح الأدلة على هذا المثال ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما- في ذكر صلاة الكسوف، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأريت النار، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن(69/160)
الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط (1) » .
2 - قتال المسلم لأخيه المسلم، ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (2) » .
3 و 4- الطعن في أنساب الآخرين (3) ، والنياحة على الميت، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «اثنتان في
__________
(1) صحيح البخاري: الكسوف (1052) ، وصحيح مسلم: الكسوف (907) .
(2) صحيح البخاري (48) ، وصحيح مسلم (64) ، وله شاهد من حديث جرير عند البخاري (121) . ومسلم (65) ، ومن حديث ابن عمر عند البخاري (4403) ، ومسلم (66) ، ولفظهما: '' لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض''.
(3) وذلك كأن يقدح في نسب قبيلة بقادح، وكأن يقول: إن نسبهم وضيع، ونحو ذلك.(69/161)
الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت (1) » .
5 - إباق العبد -أي هروبه- عن سيده، ففي صحيح مسلم عن جرير قال: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم" 6 - انتساب الإنسان لغير أبيه، ففي الصحيحين عن أبي ذر مرفوعا: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر (2) »
__________
(1) صحيح مسلم: الإيمان (67) .
(2) صحيح البخاري (3508) ، وصحيح مسلم (61) ، وله شاهد عند البخاري (6768) ، ومسلم (62) عن أبي هريرة مرفوعا: ((لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر)) .(69/162)
الفصل الثالث: النفاق الأصغر:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريفه وحكمه:
النفاق الأصغر هو: أن يظهر الإنسان أمرا مشروعا ويبطن أمرا محرما يخالف ما أظهره(69/162)
فكل من فعل أو قال قولا مشروعا واجبا أو مستحبا أو مباحا، وقد أبطن ضد ما أظهره فقد فعل خصلة من خصال النفاق الأصغر، ويسميه بعض أهل العلم (النفاق العملي) لأنه يتعلق بالأعمال، وليس في الاعتقاد وأطلق عليه بعض أهل العلم أيضا (نفاقا دون(69/163)
نفاق) (1) . وحكم هذا النفاق أنه محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، ومن فعل خصلة من خصاله فقد تشبه بالمنافقين ولكنه لا يخرج من ملة الإسلام بإجماع أهل العلم
__________
(1) ينظر عارضة الأحوذي: الإيمان 10/ 98، الإيمان الأوسط لشيخ الإسلام ابن تيمية ص66.(69/164)
المبحث الثاني: خصاله وأمثلته:
للنفاق خصال كثيرة، أهمها:
1 - أن يكذب في كلامه متعمدا، ومن يسمع كلامه مصدق له.
2 - أن يعد وفي نيته وقت الوعد أن لا يفي بما وعد به ثم لا يفي فعلا بهذا الوعد.
3 - أن يخاصم غيره، ويفجر في خصومته، بأن يعدل عن الحق إلى الباطل متعمدا، فيدعي ويحتج بالباطل والكذب، ليأخذ ما لا(69/165)
يجوز له أخذه.(69/166)
4 - أن يعاهد غيره بعهد، وفي نيته وقت العهد أن لا يفي به، ثم لا يفي فعلا بهذا العهد.
والدليل على كون هذه الخصال الأربع من النفاق الأصغر: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا (1) وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
__________
(1) صحيح البخاري (34) ، وصحيح مسلم (58) .(69/166)
حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .
5 - الخيانة في الأمانة، وذلك بأن يأخذ الأمانات من الآخرين وفي نيته وقت أخذها أن يجحدها، ثم لا يؤديها إليهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (1) »
__________
(1) صحيح البخاري (33) ، وصحيح مسلم (59) ، وفي رواية لمسلم: ((من علامات المنافق ثلاث.)) وفي رواية أخرى له: ((آية المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) .(69/167)
- 6- الرياء في الأعمال الصالحة فقد ثبت عن النبي صلى(69/167)
الله عليه وسلم أنه قال: «أكثر منافقي أمتي قراؤها (1) » والمراد بنفاق القراء: الرياء.
7 - الإعراض عن الجهاد (2) ، فقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق (3) » .
8 - إظهار مودة الغير، والتقرب إليه بما يجب، مع إضمار بغضه، أو التكلم فيه في غيبته بما لا يرضيه (4) فقد روى البخاري
__________
(1) رواه الإمام أحمد 2\175، والفريابي (36) من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد حسن، ورواه أيضا أحمد 4\151-154، والفريابي (33) من حديث عقبة بن عامر بإسناد حسن. وللحديثين طرق أخرى وشواهد تنظر في فيض القدير 2\81، والسلسلة الصحيحة (750) .
(2) ينظر شرح النووي لصحيح مسلم: الإمارة 13\56، مجموع الفتاوى 28\436.
(3) صحيح مسلم: الإمارة (1910) .
(4) النواقض الاعتقادية 2\157.(69/168)
عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، قال: قال أناس لابن عمر: إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعد هذا نفاقا(69/169)
9 - بغض الأنصار رضي الله عنهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار (1) » .
10 - بغض الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه «لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق (2) » .
وهناك أمثلة أخرى كثيرة لهذا النفاق وبالجملة، فإن من
__________
(1) صحيح البخاري (17) ، وصحيح مسلم (74) . وله شاهد من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق)) رواه البخاري (3783) ، ومسلم (75) . قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (1\59) : ((محبة أولياء الله عموما من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرم، فهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالبا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شر ممن كتمه وأخفاه)) .
(2) صحيح مسلم (78) . قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار 1\63 بعد ذكره لهذا الحديث: ((وهذا جار باطراد في أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين)) .(69/169)
اجتمعت فيه أكثر خصال هذا النفاق، واستمر عليها فهو على خطر عظيم، ويخشى أن يقع في النفاق الأكبر (1) ولذلك خاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعمر رضي الله عنه وحنظلة (2)
__________
(1) ينظر: ما سبق قريبا عند شرح لفظه: ((كان منافقا خالصا)) في حديث عبد الله بن عمرو.
(2) صحيح مسلم: التوبة (هـ 2750) .(69/170)
وغيرهم وخاف السلف الصالح على أنفسهم من الوقوع في النفاق الأصغر.(69/171)
صفحة فارغة(69/172)
أكثر ما قيل في التعزير بالجلد
والسجن وبدائل السجن
لمعالي الدكتور عبد الله بن محمد المطلق
والشيخ \ خالد بن علي العرفج
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فهذا بحث موجز في: (أكثر ما قيل في عقوبة التعزير بالجلد والسجن وما يقترح من البدائل لعقوبة السجن) اجتهدنا في جمع أقوال الفقهاء فيه وأدلتهم وما يرد عليها من مناقشات.
وقد تحدثنا فيه عن أكثر ما ذكره الفقهاء في العقوبة التعزيرية بالجلد، وما ذكروه عن أكثر مدة السجن، وما ورد عنهم من(69/173)
العقوبات التعزيرية التي تصلح بديلا لعقوبة السجن، كالتعزير بالإقامة الجبرية، والتعزير بالحرمان من الحقوق، والتعزير بالمال.
ونسأل الله تعالى أن ينفع به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أكثر ما ورد في التعزير بالجلد والسجن
تعريف مفردات العنوان:
أولا: التعزير لغة: مصدر عزر بتشديد الزاي وهو من أسماء الأضداد حيث يطلق على التأديب والمنع.
ومنه قول الشاعر:
وليس بتعزير الأمير خزاية ... علي إذا ما كنت غير مريب
كما يطلق على النصرة والتعظيم (1) ومن ذلك قول الله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (2)
وهو في الاصطلاح: العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها (3) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 4\311، لسان العرب مادة ((عزر)) 4\561.
(2) سورة الفتح الآية 9
(3) المغني 12\523.(69/174)
ثانيا: الجلد لغة: مصدر جلده، أي: ضربه فأصاب جلده، وجالدناهم أي ضاربناهم، وقد يطلق ويراد به الإكراه على الشيء، وجلد الكتاب أي كساه جلدا ليحفظه.
وهو في الاصطلاح: لا يخرج عن المعنى اللغوي فهو ضرب الجلد بما يؤلم.
ثالثا: السجن لغة: الحبس وهو بمعنى المنع (1) .
وعرف شيخ الإسلام ابن تيمية الحبس في مجموع الفتاوى بما يلي: (الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص من التصرف بنفسه سواء في بيت أو مسجد أو بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه؛ ولهذا أسماه النبي صلى الله عليه وسلم أسيرا) (2) .
__________
(1) لسان العرب 2\102، تاج العروس 9\231، المصباح المنير 1\286.
(2) محموع الفتاوى 35\398(69/175)
أكثر ما قيل في التعزير بالجلد
اختلف الفقهاء في أكثر التعزير بالجلد على أربعة أقوال:
القول الأول:
لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهذا هو المعتمد في المذهب الحنبلي، وهو مذهب الظاهرية، وبه قال إسحاق والليث(69/175)
وبعض الشافعية.
قال في المغني (1) : (واختلف عن أحمد في قدره فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات، نص أحمد على هذا في مواضع، وبه قال إسحاق ... ) اهـ.
وقال في الإنصاف (2) : (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع، هذه إحدى الروايات نقلها ابن منصور قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب، وجزم به في الوجيز، وقدمه في الفروع، إلا في وطء الجارية المشتركة.. قال القاضي في كتاب الروايتين: المذهب عندي أنه لا يزاد على عشر جلدات، إلا في وطء الجارية المشتركة وجارية زوجته إذا أحلتها له) اهـ. قال الشارح: هو حسن) أهـ.
وقال ابن حزم في المحلى (3) (وقالت طائفة: أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل لا يجوز به أكثر من ذلك، وهو قول الليث بن سعد وقول أصحابنا) اهـ.
استدل أهل هذا القول بالدليل التالي:
عن أبي بردة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله
__________
(1) المغني 12\524.
(2) الإنصاف 10\244.
(3) المحلى 13\482(69/176)
عليه وسلم يقول: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله (1) » متفق عليه.
ونوقش هذا الحديث بأن المراد بحدود الله هي ما حرم لحق الله تعالى فقد جعل الله الطلاق البدعي تعديا لحدوده تعالى، حيث قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (2) أما تسمية العقوبات المقدرة حدودا فهي اصطلاح حادث، وحديث أبي بردة المذكور في تأديب الرجل امرأته وولده وعبده فإنه لا يزيد في ذلك على عشرة أسواط، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
__________
(1) البخاري في كتاب الحدود باب كم التعزير والأدب برقم (6848) ، مسلم في كتاب الحدود باب قدر أسواط التعزير برقم (1708) .
(2) سورة الطلاق الآية 1(69/177)
القول الثاني:
أن التعزير بالجلد ليس له حد معين، بل هو موكول إلى اجتهاد القاضي حسب المصلحة، وهو مذهب المالكية، وقول لأبي يوسف اختاره الطحاوي، قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: والحاصل أن الإمام إذا أداه اجتهاده إلى أن يعزره بما يزيد على الحد، ولا يأتي على النفس كمأتي سوط أو بما يأتي على هلاكه كألف كرباج مثلا، فإنه يفعله ويجوز له القدوم على ذلك، ولا ضمان عليه(69/177)
إذا مات حيث لم يظن الهلاك ابتداء، بل ظن سلامته أو جزم بها) (1) .
وقال أبو البركات الدردير (2) : [وإن زاد] ، التعزير (على الحد) بالجلد كأن زاد على مائة أو أتى على النفس بأن نشأ عنه موت، فلا إثم ولا دية، إن ظن السلامة من فعله، وإنما قصد التشديد لما صدر منه كسب الصحابة وإلا يظن السلامة فإن شك منع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) : وأما مالك وغيره، فحكي عنه: أن من الجرائم ما يبلغ به القتل، ووافقه بعض أصحاب أحمد، في مثل الجاسوس المسلم، إذا تجسس للعدو على المسلمين.
وقد استدل فقهاء المالكية لمذهبهم في جواز التعزير بما يزيد على الحد بما يلي:
1 - ما روي أن معن بن زائدة، عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال، فأخذ منه مالا، فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة، وحبسه، وكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد، فضربه مائة، ونفاه (4) .
2 - ما روي أن عليا رضي الله عنه- (أتي بالنجاشي قد شرب
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4\355.
(2) الشرح الصغير 6\236، 237
(3) السياسة الشرعية ص 93
(4) قال الحافظ ابن حجر في تخريجه لهذا الأثر: لم أجده، انظر تلخيص الحبير 4\81.(69/178)
خمرا في رمضان فأفطر، فضربه ثمانين، تم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: إنما ضربتك هذه العشرين لجرأتك على الله وإفطارك في شهر رمضان) (1) .
ويمكن أن يستدل لهم بالدليلين التاليين:
(أ) ما روى البزار بسنده عن سعيد بن المسيب قال: «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قال: "هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته.
قال: فأخبرني عن قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال فأخبرني عن قال: هي السفن، ولولا أني سمعت
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق 7\ 382، البيهقي 8\ 321، وقال الألباني: إسناده حسن، إرواء الغليل 8\57.
(2) رواه البزار، انظر البحر الزخار 1\423، 424، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7\116 وقال: (رواه البزار وفيه أبو بكر بن أبي سبرة وهو متروك) .
(3) سورة الذاريات الآية 1 (2) {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}
(4) سورة الذاريات الآية 2 (3) {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا}
(5) سورة الذاريات الآية 4 (4) {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}(69/179)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: ثم أمر به فضرب مائة، وجعله في بيت، فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: امنع الناس من مجالسته، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى، فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: ما أخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس (1) » .
(ب) جلد أبو بكر وعمر رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة؟ (2) .
وقد أورد العلامة ابن دقيق العيد على هذا الرأي إيرادات عدة: فقال: (وبلغني عن بعض أهل العصر (3) أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بهذه المقدرات أمر اصطلاحي فقهي، وأن العرف في أول الشرع في أول الإسلام لم يكن كذلك، أو يحتمل أن لا يكون كذلك -هذا أو كما قال- فلا يخرج عنه إلا التأديبات التي ليست عن محرم شرعي. وهذا - أولا: خروج في لفظ- (الحد) عن
__________
(1) سورة الذاريات الآية 3 (5) {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}
(2) ورد في ذلك عدة آثار جاءت في مصنف عبد الرزاق 7\401، 402) .
(3) يقصد بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.(69/180)
العرف فيها. وما ذكره هذا العصري يوجب النقل والأصل عدمه.
وثانيا: أنا إذا حملنا لفظ الحد على ذلك، وأجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد فيه لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط. إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة ليس إلا ما ليس بمحرم، وأصل التعزير فيه ممنوع. فلا يبقى لخصوص منع الزيادة معنى. وهذا ما أوردناه على ما قاله المالكي في إطلاقه لحقوق الله. وقد يعتذر عنه بما أشرنا إليه من أنه لا يخرج عنه إلا التأديبات على ما ليس بمحرم، ومع هذا فيحتاج إلى إخراجها عن كونها من حقوق الله.
وثالثا: على أصل الكلام وما قاله العصري- فيما نقل عنه- ما تقدم في الحديث قبله من حديث عبد الرحمن (أخف الحدود ثمانون) فإنه يقطع دابر هذا الوهم، ويدل على أدق مصطلحهم في الحدود إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها الفقهاء اسم (الحد) فإن ما عدا ذلك لا ينتهي إلى مقدار أربعين فهو ثمانون. وإنما المنتهى إليه هي الحدود المقدرات. وقد ذهب أشهب من المالكية إلى ظاهر الحديث. كما ذهب إليه صاحب التقريب من الشافعية، والحديث متعرض للمنع من الزيادة على العشرة ويبقى ما دونها لا تعرض للمنع فيه. وليس(69/181)
التخيير فيه ولا في شيء مما يفوض إلى الولاة تخيير شهوة (1) بل لا بد عليهم من الاجتهاد.
وقد دفعت إيرادات العلامة ابن دقيق العيد بما يلي:
1 - أما إيراده الأول على أن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله وأن هذا القول خروج في لفظة الحد على العرف فيها وأن هذا يوجب النقل والأصل عدمه.
فيدفع هذا الإيراد بأن تفسير الحد بما حرم لحق الله قد جاء به النقل في نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2)
2 - وأما إيراده الثاني: وقوله: إنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد، لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط، إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة ليس إلا ما ليس بمحرم وأصل التعزير فيه ممنوع فلا يبقى لخصوص منع الزيادة معنى.
ويجاب عن هذا: بأن الجلد بالعشرة فما دون محمول على التأديب الصادر من غير الولاة.
__________
(1) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 4\139
(2) سورة البقرة الآية 229(69/182)
3 - وأما إيراده الثالث: وقوله: (وثالثا على أصل الكلام وما قاله العصري ... إلخ) أي يرد على أصل كلام العصري إيراد ثالث، وهو قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أخف الحدود ثمانون، فإنه دال على أن لفظ الحدود في لغة الصحابة هي في المقدرات الشرعية التي عليها يطلقها الفقهاء وأنه لا نقل فيها ولا يراد بها مجرد حقوق الله تعالى وأوامره ونواهيه هنا.
ويرد على هذا بأن الحد في لسان الشرع أعم من ذلك:
1 - فقد يطلق ويراد به جملة ما أذن في فعله الشرع، سواء كان ذلك عن طريق الوجوب أو الندب أو الإباحة، ومعنى تعدى الحد هنا: هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهي عنه، ودليل ذلك قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (2)
2 - وقد يطلق ويراد به نفس المحارم، فيقال: لا تقربوا حدود الله، ودليل ذلك من كتاب الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (3) والمراد: النهي عن ارتكاب ما نهى الله عنه في الآية من محظورات الصيام والاعتكاف في المساجد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 187(69/183)
3 - وقد يطلق الحد ويراد به العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة، كما يقال حد الزنا وحد السرقة وحد القذف، ودليل ذلك حديث عائشة لما شفع أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أتشفع في حد من حدود الله (1) » وينظر في هذه الإطلاقات الثلاثة على الحدود جامع العلوم والحكم (2) .
الجواب الثاني: أن هذا الحديث منسوخ: ذهب جماعة من الحنفية والشافعية إلى أن هذا الحديث منسوخ، ودليل النسخ عندهم هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخلافه من غير نكير.
قال الحافظ ابن حجر (3) : (ومنها أنه منسوخ دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار) .
وقال العلامة ابن دقيق العيد (4) : (واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر عنه، فقال بعض مصنفي الشافعية: إنه منسوخ بعمل الصحابة بخلافه وهذا ضعيف جدا؛ لأنه يتعذر عليه إثبات
__________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 5\381.
(2) ص 247، 246
(3) فتح الباري 12\178
(4) إحكام الأحكام 4\379(69/184)
إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل بعضهم أو فتواه بخلافه لا يدل على النسخ) .
وكذلك لو سلمنا أن الصحابة أجمعوا على ترك العمل به -أي حديث أبي بردة - فالصحيح أن الإجماع لا ينسخ السنة، لكن الإجماع إذا ثبت صار دليلا على نص ناسخ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (ومحال أن ينسخ الإجماع السنة ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ) .
وقال الحافظ ابن حجر متعقبا دعوى نسخه بالإجماع (2) : (نعم لو ثبت الإجماع لدل على أن هناك ناسخا) .
ويقول الصنعاني: (ولا دليل لهم إلا فعل بعض الصحابة ولا يخفى أن فعل بعض الصحابة ليس بدليل ولا يقاوم النص الصحيح ولعله لم يبلغ الحديث من فعل ذلك من الصحابة (3) .
3 - الجواب الثالث: إن الحديث موجه فيما جلد بالسياط، فإن كان بالدرة والعصا فتجوز الزيادة فيها لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخري من الشافعية.
__________
(1) الطرق الحكمية ص 309
(2) تلخيص الحبير 4\79
(3) انظر سبل السلام 4\37(69/185)
قال ابن حجر في الفتح (1) : (وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم ومنها قصره على الجلد، وأما الضرب بالعصا مثلا وباليد فتجوز الزيادة، لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخري من الشافعية، وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب) .
وقال الحافظ ابن حجر: (وتفريقه بين السياط والدرة مستفاد من تقييد الخبر بالأسواط وفيه نظر) (2) وقال الحافظ أيضا في الفتح (3) : (وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب) .
وهذه الزيادة التي أشار إليها ابن حجر في البخاري من طريق عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله (4) » .
4 - الجواب الرابع: أن الحديث مقصور على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر.
قال العلامة ابن دقيق العيد (5) : (وقال بعض المالكية: وتأول
__________
(1) فتح الباري 12\178
(2) تلخيص الحبير 4\79
(3) فتح الباري 12\ 178
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري 12\176.
(5) إحكام الأحكام 4\380.(69/186)
أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر. وهذا في غاية الضعف أيضا؛ لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص) .
5 - الجواب الخامس: معارضة الحديث لما هو أقوى منه، وهو الإجماع على أن التعزير يخالف الحدود، وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها فيصير مثل الحد، وقد تعقب هذا القول بأن الحد لا يزاد فيه ولا ينقص فاختلف، وبالإجماع على أن التعزير موكول إلى رأي الإمام فيما يرجع إلى التشديد والتخفيف لا من حيث العدد (1) .
6 - الجواب السادس: فرق ابن حجر بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه، وما لم يرد فيه تقدير، فإن كان كبيرة جاز الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، قال في الفتح (2) : (ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير: لا يزاد عليه -وهو المستثنى في الأصل- وما لم يرد فيه تقدير: فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد -كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى- وإن كان
__________
(1) انظر فتح الباري 12\178
(2) فتح الباري 12\178(69/187)
صغيرة: فهو المقصود بمنع الزيادة) .(69/188)
القول الثالث: أن لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود، وهو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عند الحنابلة.
قال في حاشية ابن عابدين (1) : أكثره تسعة وثلاثون سوطا، لحديث: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» وحد الرقيق أربعون فنقص منه سوط ...
وقال أبو يوسف: أكثره في العبد تسعة وثلاثون سوطا وفي الحر خمسة وسبعون سوطا) اهـ.
وقال النووي في منهاج الطالبين (2) : فإن جلد وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة وفي حر عن أربعين وقيل عشرين) .
وقال في المغني (3) : الرواية الثانية ولا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع ... فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا؛ لأنها حد العبد في الخمر. وإن قلنا: إن حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حق العبد وأربعين في حق الحر، فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة وثلاثين سوطا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4\65
(2) منهاج الطالبين ص123
(3) المغني 12\524(69/188)
الأدلة:
1 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين (1) » رواه البيهقي.
ونوقش بأن البيهقي قال عنه المحفوظ مرسل، وكذلك رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن الضحاك بن مزاحم (2) .
2 - أن العقوبة على قدر المعصية، والمعاصي المنصوص على حد عقوبتها أعظم من غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها (3) .
ويناقش هذا بأن خطورة المعصية وضررها على المجتمع يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، فترك تقدير عقوبتها للقاضي، وقد يكون ضرر معصية أصغر من معصية الحد كبيرا في زمن أو حال، بحيث يكون أشد من ضرر معصية الحد.
__________
(1) سنن البيهقي 8\327 كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين.
(2) نصب الراية 3\354.
(3) المغني12\526.(69/189)
القول الرابع: أن لا يبلغ في التعزير على معصية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، وعلى هذا فالتعزير(69/189)
الذي سببه الوطء لا يجوز أن يبلغ المائة (حد الزنا) وما كان سببه الشتم والسب لا يجوز أن يبلغ الثمانين (حد القذف) وهكذا.
وهذا قول للشافعية ورواية للحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال النووي في روضة الطالبين (1) : إن رأى الإمام التعزير بالجلد فيجب أن ينقص عن الحد، وفي ضبطه أوجه: أحدها: أنه يفرق بين المعاصي، وتقاس كل معصية بما يناسبها من الجناية الموجبة للحد، فيعزر في الوطء المحرم الذي لا يوجب حدا وفي مقدمات الزنا، دون حد الزنا، وفي الإيذاء والسب بغير قذف دون حد القذف) .
وقال المرداوي في الإنصاف (2) : وقال المصنف والشارح وصاحب الفروع: ويحتمل كلام الإمام أحمد والخرقي رحمهما الله أن لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا من جنسها، ويجوز أن يزيد على حد من غير جنسها. وإليه ميل الشيخ تقي الدين رحمه الله، وقال الزركشي: وهو أقعد من جهة الدليل) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تنازع العلماء في مقدار أعلى التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال: أحدها: وهو
__________
(1) روضة الطالبين 10 \174.
(2) الإنصاف 10\247.(69/190)
أحسنها ... أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة وفي السرقة المحرمة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف ولا يبلغ بذلك الرجم) (1) .
الأدلة:
1 - حديث النعمان بن بشير (السابق) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين (2) » ونوقش بأن البيهقي قال عنه المحفوظ مرسل.
2 - آثار وردت عن الصحابة منها:
أ- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بجارية كانت بين رجلين فوطئها أحدهما فاستشار فيها بعض الصحابة فقالوا: نرى أن يجلد الحد إلا سوطا) رواه ابن أبي شيبة (3) .
ب- أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جلدا رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة جلدة (4) .
__________
(1) الفتاوى 35 \ 404.
(2) سنن البيهقي 8\327.
(3) المصنف 11\71.
(4) تقدم أن لأهل العلم كلام طويل في الاستدلال بذلك الأثر يراجع في ذلك (مصنف عبد الرزاق) 7\401، 402.(69/191)
ج- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب رجلا دون المائة وجد مع امرأة في العتمة (1) .
د- أن ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل وجد مع امرأة في لحاف، فضربهما لكل واحد منهما أربعين سوطا، فذهب أهل المرأة وأهل الرجل فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لابن مسعود: ما يقول هؤلاء؟ قال: قد فعلت ذلك (2) .
__________
(1) المحلي13\483.
(2) المحلي 13\483(69/192)
أكثر ما قيل في مدة السجن تعزيرا
اختلف العلماء في أكثر مدة السجن تعزيرا:
القول الأول:
ذهب فريق منهم إلى أنه لا تحديد لأكثر مدة السجن، بل ذلك راجع إلى ما يراه الإمام كافيا للردع والزجر، وهذا قول جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة، ففي كشاف القناع (1) : (ونص أحمد في المبتدع الداعية: يحبس حتى يكف عنها) .
ومن عرف بأذى الناس أو آذى ما لهم بعينه ولم يكف عن ذلك. (حبس حتى يموت أو يتوب) قال في الأحكام السلطانية:
__________
(1) كشاف القناع 6\102.(69/192)
للوالي فعله لا القاضي) .
وفي حاشية ابن عابدين (1) : (قوله حتى يتوب) المراد حتى تظهر أمارات توبته. إذ لا وقوف لنا على حقيقتها ولا يقدر بستة أشهر، إذ قد تحصل التوبة قبلها وقد لا تظهر بعدها. كذا حققه الطرسوسي، وأقره ابن الشحنة.
وقال أبو يعلى في الأحكام السلطانية (2) : (ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غير غاية مقدرة) .
وقال ابن فرحون (3) : (فإذا ادعي عليه تهمة فهذا يحبس حتى ينكشف حاله) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4\76.
(2) الأحكام السلطانية ص 279.
(3) تبصرة الحكام 2\131.(69/193)
القول الثاني:
إن للتعزير حدا أعلى في مدة الحبس لا يحوز تجاوزها، وأصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال:
1 - منهم من حدد ذلك بأربعه أشهر روي هذا عن ابن الماجشون من المالكية (1) .
2 - ومنهم من حدد ذلك بستة أشهر وقد ذهب إلى هذا بعض
__________
(1) تبصرة الحكام 2\238.(69/193)
الحنفية وبعض الشافعية.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية (1) ما يلي:
(وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي: تقدر غايته بشهر للاستبراء والكشف وبستة أشهر للتأديب والتقويم) .
3 - ومنهم من حدد مدة السجن تعزيرا بالنسبة للحر ألا يصل إلى سنة والعبد ألا يصل نصف سنة، هذا مذهب الشافعية ففي مغني المحتاج (2) : (وقضيته أيضا أنه لا يتعين للحبس مدة وليس مرادا أيضا، بل شرطه النقص عن سنة. كما نص عليه في الأم وصرح به الأصحاب) .
وفي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (3) ما يلي:
(فينقص في تعزير الحر بالضرب عن أربعين وبالحبس أو النفي عن سنة، وفي تعزير غيره بالضرب عن عشرين والحبس أو النفي عن نصف سنة) .
وقال الماوردي (4) : (فالظاهر من مذهب الشافعي تقديره بما دون الحول ولو بيوم واحد لئلا يصير مساويا لتعزير الحول في الزنا) .
__________
(1) ص236.
(2) 4\192.
(3) 8\21.
(4) الأحكام السلطانية ص236.(69/194)
المناقشة:
لم أجد في الواقع لمن حدد بأربعة أشهر أو ستة أشهر دليلا يمكن أن يصار إليه بهذا التحديد، ولعل من حدد من الأئمة لم يقصد أن التقدير حتم لازم، ولكنه ورد في ظروف معينة جاء تحديدها من باب السياسة الشرعية والمصالح المرسلة على حسب الجناة في ذلك الوقت وعلى حسب نوع الجريمة، حيث إن تحديد بعض الأئمة هو في الأمور المالية لمن ماطل فيها، وحينئذ لا يصح مع ذلك أن تؤخذ كقاعدة عامة في كل الجناة والجريمة.
أما الشافعية الذين جعلوا الحد الأعلى في التعزير في الحبس أن لا يصل سنة، فإن دليلهم في ذلك ما أخرجه البيهقي بسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» .
وجه الدلالة من الحديث:
أن الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبلغ بالعقوبة التعزيرية مقدار حد من حدود الله تعالى، وحد الزاني غير المحصن هو جلده مائة مع تغريب سنة، والتغريب والسجن نوعان من أنواع الحبس، وعليه فلا يجوز أن يبلغ بالسجن تعزيرا حد الزاني غير المحصن وهو تغريبه سنة لهذا الحديث.(69/195)
المناقشة:
أجاب أصحاب القول الأول على هذا الحديث بأنه حديث ضعيف ضعفه ابن عبد الهادي الحنبلي وقال: (لا يثبت ولا يعرف له إسناد موصول صحيح، ولكن رواه أبو داود مرسلا، والحديث رواه البيهقي مرسلا أيضا، وقال: (والمحفوظ أن هذا الحديث مرسل وعلى هذا فلا يمكن أن يحتج به) .
فالغاية من سجن المعزر تأديبه وإصلاحه، وصلاحه لا يعرف إلا بظهور علامات التوبة عليه، وظهور هذه العلامات لا يقدر بمدة ولا يمكن ذلك، فقد يتوب الجاني في مدة وجيزة وقد لا يتوب مدى الحياة.. فالمدار في ذلك توبة الجاني طالت المدة أم قصرت.. والله أعلم.(69/196)
بدائل السجن
ظهر في هذا العصر مشكلة كبيرة أقلقت كثيرا من المسئولين المصلحين في الدولة، وهي كثرة السجناء حتى امتلأت بهم عنابر السجون، وأصبحوا يعدون بالآلاف، وترتب على ذلك مفاسد عظيمة تأثرت بها كثير من الأسر والمجتمعات؛ مما جعل التفكير في بدائل عقوبة السجن أمرا محتما، وكان من أهم أسباب ذلك ما يأتي:
أولا: الآثار السيئة لعقوبة السجن:
فإن المتأمل في عقوبة السجن يجد أن لها سلبيات كثيرة قد(69/196)
تفوق في أحيان كثيرة الإيجابيات التي شرعت من أجلها هذه العقوبة ومن أبرز هذه السلبيات:
1 - ضياع أسرة السجين:
حيث يغيب عنهم ولي أمرهم الذي يتكفل بحفظهم والإنفاق عليهم والدفاع عنهم؛ وذلك يعرضهم للفساد ويفتح لهم أبواب الانفلات، حيث غاب الرقيب واشتدت الحاجة، وفي هذا العصر الذي يعظم واجب التربية وتشتد مسئولياته على الوالدين يظهر أثر ذلك واضحا في العيان.
2 - قتل الشعور بالمسئولية:
فإن كثيرا من السجناء يتبلد إحساسهم بطول مكثهم ويألفون السجن ومن فيه من الرفقة السيئة، ويجدون فيه مأوى ضمنت فيه الأسباب الضرورية للحياة من المطعم والملبس والعلاج، فتألف أنفسهم الكسولة ذلك ويزيدهم قناعة به ما يعرفون من قلة الفرص المتاحة لهم في العمل خارج السجن.
3 - تعلم الجرائم:
فإن السجن يضم مجرمين محترفين، كما يضم فئات كثيرة من البسطاء والمغفلين ممن عثرت بهم الأرجل واستزلهم الشيطان، فيتعلم هؤلاء من أولئك ويشرحون لهم عن وسائل كثيرة من الإجرام يقضون(69/197)
بها حاجاتهم ويشبعون بها غرائزهم المسعورة، فيتخرج بعض هؤلاء البسطاء على أيدي أولئك المحترفين في مدرسة السجن وتكون النتيجة زيادة الإجرام وتعدد وسائله.
4 - كثرة النفقات العامة:
إذا كثر السجناء ازداد صرف الأموال العامة في هذا المرفق حيث تصرف الأموال في توفير الخدمات الضرورية للسجناء، وقيام المرافق الخاصة بهم، وازدياد الموظفين المكلفين بحفظهم ورعايتهم ومتابعة معاملاتهم، وكل ذلك يمكن أن يستفاد به في جهات أخرى أنفع لعامة الأمة من هذا المجال الذي يمكن الاستغناء عن أكثره.(69/198)
ثانيا: مراعاة مقاصد الشريعة من العقوبات:
إن المتأمل في مقاصد الشريعة الإسلامية -حين شرعت العقوبات التعزيرية- يجد أنها تهتم بالمصالح التي تحفظ الضروريات الخمس من الدين والنفس والعقل والعرض والمال وتدرأ عنها المفاسد، وتلزم المجتهد بالنظر المتعمق في معاني الأحكام بعد معرفة عللها؛ لتكون الأحكام التي يتوصل إليها المجتهد من خلال اجتهاد متناسقة في النتيجة مع السنن العام الذي مضى عليه الشارع في تشريعه من مراعاة جلب المصالح التي تنفع العباد ودرء المفاسد عنهم؛ ولهذا رأى الشاطبي رحمه الله أن من الإسراف المذموم العمل بالظواهر على تتبع(69/198)
وتغال بعيدا عن مقصود الشارع، كما أن إهمال الظواهر إسراف أيضا، وعليه فإن عقوبة السجن شرعت لمقاصد نبيلة، من أهمها: إصلاح الجناة ودفع شرهم عن المجتمع فإذ نتج عن تطبيقها ما يزيد الإجرام ويفسد الجناة فلا بد من إعادة النظر في تطبيق ذلك؛ رعاية للمصالح التي قصدها الشارع في هذه العقوبة؛ لأن العقوبات الشرعية كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: شرعت رحمة من الله لعباده فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان إليهم؛ ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض) (1)
__________
(1) منهاج السنة 5\237.(69/199)
نماذج من بدائل السجن:
حيث إن السجن عقوبة تعزيرية موكول أمر تعيينها وتقديرها إلى اجتهاد الوالي بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، فإن مما ينبغي على الوالي عمله أن يجتهد في اختيار العقوبات التعزيرية المناسبة لمكافحة الجريمة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولما كانت مفاسد الجرائم متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في(69/199)
أنفسهم فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع (1) .
ويمكن أن نعرض لبعض صور التعزير التي ذكرها الفقهاء في كتبهم؛ لنعرف سعة هذا المجال أمام القاضي وهو يكافح الجريمة ويستصلح المجرم، فمن ذلك:
أولا: العقوبة المالية:
لم يتفق الأئمة على جواز الأخذ بالعقوبة المالية بأنواعها سواء بالإتلاف أو الغرامة أو المصادرة، فقد اتجه فريق من العلماء إلى أن التعزير بالمال منسوخ، وحكوا الإجماع على ذلك فلا تشرع العقوبة به (2) .
وقد رد ذلك العلامة ابن القيم قائلا: (ومن قال إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك، فقد غلط على مذهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل سائغ في مذهب أحمد وغيره وكثير منها سائغ عند مالك.
وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضا لدعوى نسخها، والمدعون للنسخ ليس معهم
__________
(1) أعلام الموقعين 2\128.
(2) انظر: حاشية الدسوقي 4\355، نيل الأوطار 5\121(69/200)
كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها فمذهب أصحابه عيار للقبول والرد؟ وإذا ارتفع عن مذهب الطبقة: ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ -أيضا- فإن الأمة لم تجمع على نسخها، ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ) (1) اهـ.
وللعلماء في تلك المسألة قولان:
القول الأول: أن التعزير بالمال لا يجوز، وهذا مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وهو قول المالكية في المشهور عنهم، قال الدسوقي: (ولا يجوز التعزير بأخذ المال إجماعا) وذلك في حاشيته على الشرح الكبير لدردير (2) .
وهذا القول هو مذهب الشافعي في الجديد (3) .
قال الشافعي في الأم: (لا يعاقب رجل في ماله، وإنما يعاقب في بدنه، إنما جعل الله الحدود على الأبدان، وكذلك العقوبات فأما على الأموال فلا عقوبة عليها، (4) ، وأخذ به عند طائفة من الحنابلة فقد قال ابن قدامة: (والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع
__________
(1) الطرق الحكمية ص227، 226.
(2) حاشية الدسوقي 4\355.
(3) المجموع 5\334.
(4) الأم 4\265.(69/201)
شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله) (1) وأدلتهم:
1 - قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2)
2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وكذلك عموم الأحاديث التي تدل على حرمة مال المسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (4) » .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم (5) » .
وهذه النصوص حجة لمن يرى أن أخذ مال المسلم بغير رضاه وطيب نفس منه لا يجوز، وأخذ ماله عقوبة لا تطيب بها نفس المعاقب فعليه لا يجوز التعزير به (6) .
__________
(1) المغني 12\526.
(2) سورة البقرة الآية 188
(3) سورة النساء الآية 29
(4) أخرجه أحمد في المسند 5\ 425، والبيهقي في الكبرى 6\100.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه فتح 8\135، مسلم حديث رقم 1679.
(6) انظر: نيل الأوطار 5\123.(69/202)
وقالوا أيضا: إن التعزير بأخذ المال يغري الظلمة من الولاة بأخذ أموال الناس بالباطل فيمنع سدا للذريعة. وقالوا أيضا: إن التعزيرات المالية منسوخة وإن الإجماع قد قام على نسخها فلا تشرع العقوبة بها.
والصحيح أن دعوى الإجماع غير صحيحة وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة مبطل لدعوى نسخها (1) .
وقد سبق قول العلامة ابن القيم: (ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل سائغ في مذهب أحمد وغيره وكثير منها سائغ عند مالك) (2) .
__________
(1) انظر: تهذيب السنن لابن القيم 2\194.
(2) الطرق الحكمية ص226(69/203)
القول الثاني: إن التعزير بأخذ المال جائز وسائغ، وهذا القول هو قول أبي يوسف من الحنفية وهو قول عند المالكية نسبه إليهم ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام، وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (التعزير بالمال سائغ إتلافا وأخذا وهو جار على أصل أحمد) (1) .
وقال ابن القيم: فأكثر هذه المسائل سائغ في مذهب أحمد
__________
(1) مجموع الفتاوى 28\109 - 111.(69/203)
وغيره (1) .
وقد استدل هؤلاء الأئمة بأدلة كثيرة منها ما يلي:
1 - قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (2)
2 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمر المعلق فقال: «من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة (3) » .
فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم على من خرج بشيء من التمر المعلق غرامة مثليه، وأوجب على من أخذ الحريسة أيضا أن فيها ثمنها مرتين، وهذا دليل على جواز العقوبة بأخذ المال.
3 - عن عوف بن مالك قال: «قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه، ومنعه خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك، فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه قال استكثرته يا رسول الله، فقال: ادفعه إليه، فمر خالد بعوف فجر
__________
(1) الطرق الحكمية ص226
(2) سورة الحشر الآية 5
(3) سنن أبي داود 2\335، وحسنه الترمذي 3\584، النسائي 8\85.(69/204)
بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد هل أنتم تاركون لي أمرائي (1) » .
4 - عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيء (2) » .
والتعزير بالمال يكون بثلاثة أشياء هي:
أولا: الإتلاف، والمراد به كل ما يؤدي إلى ذهاب المال وضياعه وخروجه من يد صاحبه.
وثانيا: بالغرامة، وعقوبة الغرامة أثبتها وعاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم من سرق من غير حرز حيث غرمه مثليه كما سبق.
وثالثا: المصادرة، وهي حكم ولي الأمر بانتقال ملكية أشياء معينة من الشخص المعاقب إلى بيت المال (3) .
وأصل العقوبة بالمصادرة جاءت بالسنة، وفعلها عمر رضي الله
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه برقم 1753.
(2) سنن أبي داود 2\233، وسنن النسائي 5\15، 16.
(3) انظر التعريفات للجرجاني 114.(69/205)
عنه، ونص بعض الفقهاء على مصادرة بعض الأموال، فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد الساعدي قال للرجل الذي استعمله على الصدقات وهو ابن اللتبية «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا (1) » ثم صادر ما كان معه من تلك الهدايا كما جاء ذلك في الصحيحين.
وثبت عن عمر أنه صادر بعض عماله فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوها بجاه العمل واختلط ما يختصون به بذلك فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين (2) .
ومنها أنه استعمل أبا هريرة على البحرين فاجتمع له اثنا عشر ألفا، فلما قدم على عمر قال له: يا عدو الله وعدو المسلمين أسرقت مال الله؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله والمسلمين ولكني عدو من عاداهما، ولم أسرق مال الله، ولكن خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق وسهامي اجتمعت، قال أبو هريرة: فأخذ مني عمر اثني عشر ألفا فلما صليت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر (3) .
وإذا صودر المال المعين فإن مآله إما إلى بيت المال، كما فعل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الحيل) باب احتيال العامل يهدى له برقم (6464) ومسلم في كتاب (الإمارة) 27.
(2) الطرق الحكمية ص227.
(3) الأموال لأبي عبيد ص381، وفتوح البلدان للبلاذري ص 112.(69/206)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صادر عماله بأخذ شطر أموالهم التي اكتسبوها بسبب الولاية، ووضعها في بيت المال.
وإما أن يتصدق بها للفقراء، كما أفتى بهذا طائفة من أهل العلم، منهم الإمام مالك في اللبن المغشوش؛ لأن في التصدق به عقابا لصاحبه لما فيه من حرمانه منه، وفيه نفع للمساكين والمحتاجين في الوقت نفسه.(69/207)
ثانيا: العقوبة المقيدة للحرية:
والعقوبات المقيدة للحرية كثيرة، وأشهرها الحبس وقد سبق، ومنها الإقامة الجبرية بأن يحبس في بيته ويمنع الخروج منه ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لا يجب حبس المدين في مكان معين بل المقصود منعه من التصرف حتى يؤدي الحق فيحبس ولو في دار نفسه بحيث لا يمكن من الخروج، وليس له إخراجه حتى يتبين أمره (1) .
وقال ابن عابدين: (ومن ضرب غيره بغير حق فإنه يعزر وصح حبسه ولو في بيته بأن يمنع من الخروج منه مع ضربه إذا احتيج لزيادة تأديب) (2) وقد طبق هذا العقاب في بعض الدول وألبس السجين ساعة لا يستطيع خلعها ولا إيقافها وقد جعل من خصائصها
__________
(1) مجموع الفتاوى 35\398، كشاف القناع 3\408.
(2) حاشية ابن عابدين 4\66.(69/207)
أنها تعطي إشارة عند الخروج من المنزل يستدل بها رجال الأمن على عدم التزامه بالعقوبة.
وقد ذكر في المعيار المعرب: أن أحد قضاة المسلمين حكم على غلمان مرد بطالين يفسدون بالدراهم بأن يوضع القيد في أرجلهم ويحبسون في بيوت آبائهم (1) .
__________
(1) المعيار المعرب 8\258(69/208)
ثالثا: العقوبة المعنوية:
وهي التي تتعلق بشخصية المجرم وسمعته وكلام الناس عليه، والتشهير عقوبة معنوية وهي في الاستعمال الفقهي المناداة بالمجرم وإعلان ذنبه للناس ليعرفوه، فقد كان الولاة المحتسبون السابقون عندما يريدون التشهير بالمذنب يركبونه حمارا أو جملا، ويلبسونه الطرطور، ويدار به في السوق، ويأمر من يطوف به أن يقول: هذا فلان قد فعل كذا فاحذروه، وكذا قال ابن فرحون المالكي في التبصرة: (1) ، وقال الماوردي: للأمير إذا رأى من الصلاح في ردع السفلة أن يشهرهم وينادي عليهم بجرائمهم ساغ له ذلك (2) .
وقال في منهاج الطالبين (3) : (أو قيام من المجلس أو كشف
__________
(1) تبصرة الحكام 2\150.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص275.
(3) مناهج الطالبين 8\21.(69/208)
رأس أو تسويد وجه أو حلق رأس لمن يكره في زماننا، لا لحية، وإن قلنا بكراهته وهو الأصح، وإركابه الحمار منكوسا، والدوران به كذلك بين الناس.
ومن التعزيرات المعنوية: الحرمان من ممارسة بعض الحقوق، وقد حرم رسول الله القاتل من حقه في السلب، لسوء معاملته لأميره، رواه مسلم في صحيحه (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن علم منه أنه يغبن المسلمين فإنه يستحق العقوبة بل يمنع من الجلوس في سوق المسلمين، حتى يلتزم طاعة الله ورسوله، وللمغبون أن يفسخ البيع فيرد السلعة ويأخذ الثمن) (2) .
وقال أيضا في تعزير المدين المماطل: (ولو كان قادرا على أداء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك، إذ التعزير لا يختص بنوع معين وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله) (3) .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) مسلم في (كتاب الجهاد) باب استحقاق القاتل سلب القتيل برقم (1753) .
(2) مجموع الفتاوى 29\390.
(3) الاختيارات الفقهية ص239.(69/209)
صفحة فارغة(69/210)
أحاديث فضائل الأضحية
جمع ودراسة
لفضيلة الدكتور\ عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فإنه مما لا شك فيه أن للأضحية شأن عظيم؛ إذ هي من شعائر الله تعالى ومعالمه التي تدل على تقوى العبد وخشيته، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) قال القرطبي (3) رحمه الله: (الشعائر جمع شعيرة وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك، وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة، وفيه إشارة لطيفة وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه فلا يدل على الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء. بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب) .
والذبح لله تعالى والتقرب إليه بالقرابين من أعظم العبادات، وأجل الطاعات، ويكفي المؤمن في هذا أن الله عز وجل قد قرن الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه العظيم لبيان عظمه وكبير شأنه وعلو منزلته.
فإذا تبين لك عظم هذه الشعيرة، ومنزلتها من الدين، فاعلم أخي الكريم أنه لا يشترط في كل عبادة يتقرب فيها إلى الله تعالى أن يرد في شأنها فضل من آية أو حديث، بل إن الواجب على المؤمن أن يسلم لله تعالى في كل أمر من أوامره ونواهيه، سواء ورد في شأن هذا الأمر فضل أو لم يرد، فإن هذا من كمال العبودية، وتطبيق لأمر الله تعالى في قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4)
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية
(2) سورة الحج الآية 32
(3) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن الكريم)) للقرطبي (12\56)
(4) سورة الأحزاب الآية 36(69/211)
قال الحافظ ابن كثير (1) معلقا على هذه الآية: هذه الآية عامة في جميع الأمور وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وفي الحديث «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (3) » ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4) كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5)
فإذا تبين لك ما تقدم: فاعلم أن الأضحية من العبادات التي جاءت الشريعة بمشروعيتها، وقد ورد في فضلها بضع أحاديث، أسانيدها ضعيفة، بل أكثرها يميل إلى الضعف الشديد، بل إلى الوضع، كما سترى إن شاء الله تعالى، حتى قال العالم الجليل أبو بكر بن
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم (3\491)
(2) سورة النساء الآية 65
(3) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .
(4) سورة الأحزاب الآية 36
(5) سورة النور الآية 63(69/213)
العربي رحمه الله: (ليس في فضل الأضحية حديث صحيح) (1) ، وقد نقل كلام ابن العربي هذا عدد من علماء الحديث وأقروه، أمثال: ابن الملقن (2) ، وابن حجر (3) ، والسخاوي (4) ، والعجلوني (5) ، والمناوي (6) ، والمباركفوري (7) رحمهم الله تعالى.
أسباب اختيار الموضوع:
وقد حداني إلى الكتابة في مثل هذا الموضوع عدة أسباب، أهمها:
1 - التثبت من صحة ما ذكره أبو بكر بن العربي من أنه لا يصح في فضل الأضحية حديث.
2 - أن الأسانيد الواردة في فضل الأضحية ليست بصحيحة، بل هي ضعيفة أو شديدة الضعف، بل بعضها يصل إلى حد الوضع.
3 - أن كثيرا من الوعاظ والخطباء والمؤلفين- وفقهم الله-
__________
(1) انظر: (عارضة الأحوذي) (6\288)
(2) انظر فيض القدير (1\496) .
(3) انظر (تلخيص الحبير) (4\83) .
(4) انظر (المقاصد الحسنة) (1\114) .
(5) انظر (كشف الخفاء) (1\133) .
(6) انظر: (فيض القدير) (1\496)
(7) انظر (تحفة الأحوذي) (5\63)(69/214)
يوردون هذه الأحاديث الواردة في فضل الأضحية في مواعظهم وخطبهم وكتبهم على أن أسانيدها صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الصواب خلاف ذلك.
4 - حث السلف من أهل الحديث- رحمهم الله- على اتباع الصحاح من الأحاديث والآثار والابتعاد كل البعد عن رواية الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
5 - أنني لم أر أحدا - فيما أعلم- سبقني إلى البحث في مثل هذا الموضوع.
وإذا تبين لك أخي الكريم ضعف هذه الأحاديث، فإنه لا يجوز رواية الحديث الضعيف فضلا عن العمل به، وهذا هو مذهب جمهور المحققين من أهل الحديث، قال الشيخ أحمد شاكر (1) رحمه الله: (والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال؛ لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح ... وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث صحيح أو حسن) والحديث في هذا
__________
(1) انظر: شرح ألفية الحديث ص (94)(69/215)
الباب طويل جدا (1) .
وفي الختام: أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) للاستزادة انظر كتاب: ((حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال))(69/216)
مشروعية الأضحية
لا شك أن للأضحية منزلة عظيمة، وشأن كبير في الإسلام، ولا أدل على ذلك ما ورد في شأنها من الآيات والأحاديث التي تدل على مشروعيتها وعظم مكانتها إذ هي من شعائر الله التي تدل على تقوى العبد وخشيته، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) قال ابن كثير: (يقول تعالى هذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} (2) أي أوامره {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (3) ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال مجاهد عن ابن عباس {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} (4) قال: الاستسمان، والاستحسان والاستعظام. وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون. رواه البخاري) .
والأصل في مشروعيتها الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله تعالى ... {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (5) وقد اختلف في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: أحدها: الذبح يوم النحر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء، ومجاهد،
__________
(1) سورة الحج الآية 32
(2) سورة الحج الآية 32
(3) سورة الحج الآية 32
(4) سورة الحج الآية 32
(5) سورة الكوثر الآية 2(69/217)
والجمهور (1) ، واختاره ابن كثير في تفسيره، قال رحمه الله (2) : (المراد بالنحر ذبح المناسك؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه، ويقول: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له (3) » ) .
وأما السنة: فقد ورد فيها أحاديث كثيرة، وأخبار مستفيضة غزيرة، تدل بمجموعها على مشروعية الأضحية، وعظم منزلتها من الدين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا من أشد الناس حرصا عليها، بل والحرص على نحرها بأيديهم.
__________
(1) انظر: زاد المسير (9\249) .
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) (4\560) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (955) ، صحيح مسلم الأضاحي (1961) ، سنن أبو داود الضحايا (2800) .(69/218)
ومن خلال النظر في مجمل هذه الأحاديث الشريفة والتي رواها جمع من الصحابة نستطيع أن نستنبط منها ما يدل على شريف منزلة الأضحية، وعلو قدرها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا باتباع سنته، واقتفاء أثره، لنفوز بالمطلوب، وننجو- بإذن الله- من المرهوب، فنقول -وبالله التوفيق:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي، ويداوم على فعل الأضحية، وقد استمر على ذلك عشر سنين منذ أن قدم المدينة، ويدل على ذلك: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:(69/218)
«أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي (1) » .
وكذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى، وكبر ووضع رجله على صفاحهما (2) » .
قال ابن حجر رحمه الله (3) : (قول أنس: «أنه كان يضحي بكبشين (4) » ؛ للاتباع وفيها أيضا إشعار بالمداومة على ذلك فتمسك به) .
وكذلك حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: «أن رسول الله
__________
(1) أخرجه الترمذي (ح\1507) ، وابن ماجه (ح\3224) ، وأحمد (2\38) ، قال الترمذي: هذا حديث حسن
(2) أخرجه البخاري (ح \5558) ، ومسلم (ح\1966) ، وأبو داود (ح\2793) ، والترمذي (ح\494) ، والنسائي (7\220) في المجتبى، وأيضا في الكبرى (3\58) ، وابن ماجه (ح\2120) ، والشافعي في مسنده (ح\174) ، وأحمد (3\99، 115، 170، 178، 183، 211) ، وعبد بن حميد في المنتخب (ح\1385) ، والروياني (2\377) ، وأبو يعلى (ح\2806) ، والبغوي في مسند ابن الجعد (ح\1485) ، وأيضا في شرح السنة (ح\1118) ، وابن الجارود في المنتقى (ح\ 902، 909) ، وابن خزيمة (ح\2895، 2896) ، وابن حبان (ح\5870) ، وعبد الرازق في المصنف (ح\8129) ، والطبراني في الدعاء (ح\949) ، والدارمي في سننه (ح\1951) والبيهقي في الصغرى (9\259) ، والحربي في غريب الحديث (ح\3\1193) ، والقطيعي في جزء الألف دينار (ح\129) .
(3) انظر: فتح الباري (10\10)
(4) صحيح البخاري الأضاحي (5553) ، صحيح مسلم الأضاحي (1966) ، سنن الترمذي الأضاحي (1494) ، سنن النسائي الضحايا (4415) ، سنن أبو داود الضحايا (2794) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3120) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) ، سنن الدارمي الأضاحي (1945) .(69/219)
صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين، ثم قال حين وجههما: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، بسم الله، الله أكبر، اللهم منك ولك عن محمد وأمته (1) » .
وكذلك «حديث زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله بايعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو صغير) فمسح رأسه ودعا له، وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله (2) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود (ح\2795) ، والترمذي (1520) ، وابن ماجه (ح\3121) ، وأحمد (3\375) ، وأبو يعلي (ح\1792) ، وأبو حنيفة في مسنده (ح\146) ، والدارمي (ح\1952) ، والدارقطني (4\285) ، والبيهقي في الكبرى (9\273) ، وأيضا في فضائل الأوقات (ح\211، 212) ، وابن خزيمة (ح\2899) ، والحاكم (1\639) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4\177)
(2) أخرجه البخاري (ح\6784) ، وأحمد (4\233) ، والحاكم (3\516) ، والبيهقي في الكبرى (9\268) .(69/220)
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص أشد الحرص على انتقاء الأضحية انتقاء دقيقا بحيث تكون سالمة من العيوب،(69/220)
وذات منظر جميل، وصفات معينة، ويدل على ذلك حديث أنس السابق: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى، وكبر ووضع رجله على صفاحهما (1) » ، قال الحافظ ابن حجر (2) : (واستدل به على مشروعية استحسان الأضحية صفة ولونا) .
وكذلك مما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالأضحية، والحرص على انتقائها، حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين، جذعين، مخصيين (3) » .
وكذا حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين، سمينين، أقرنين، أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه، فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم إن هذا عن أمتي جميعا ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر، فيذبحه بنفسه، ويقول: هذا عن محمد وآل محمد، فيطعمهما جميعا
__________
(1) صحيح البخاري الأضاحي (5565) ، صحيح مسلم الأضاحي (1966) ، سنن الترمذي الأضاحي (1494) ، سنن النسائي الضحايا (4415) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3120) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الأضاحي (1945) .
(2) المصدر السابق (10\11)
(3) أخرجه أحمد (5\196) ، والدارقطني في علله (ح\6\209) ، وأيضا في المؤتلف والمختلف (4\2235) ، والبيهقي في الكبرى (9\272) ، والخطابي في إصلاح غلط المحدثين (ح\53)(69/221)
المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم (1) »
وبنحوه من حديث عائشة أو أبي هريرة رضي الله عنهما، ومن حديث أبي هريرة وحده (2) ، ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (3) ومن حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه (4) ، ومن حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (5) ، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (6) ، ومن حديث ابن عباس (7) رضي الله عنهما.
وكذلك مما يدل على شدة اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه أحمد (6\391) ، البزار (9\318) ، والحاكم في المستدرك (2\425) ، والطبراني في الكبير (1\311) ، والبيهقي في الكبرى (9\259، 268) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4\177) .
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (2\250) ، والدارقطني في سننه (4\276)
(3) أخرجه الدارقطني في سننه 4\285)
(4) أخرجه أبو يعلى (3\111) ، والطبراني في الكبير (5\106)
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (3\183) ، والحاكم (3\386)
(6) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (ح\1209)
(7) أخرجه الطبراني في الكبير (11\150)(69/222)
بانتقاء الأضحية، حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتى به ليضحى به، فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر. ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد. ثم ضحى به (1) » وبنحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
__________
(1) أخرجه مسلم (ح\1967) ، وأبو داود (ح\2792) ، وأحمد (6\78) والطبراني في الدعاء (ح\948) ، وابن حبان في صحيحه (ح\5916) ، والبيهقي في الكبير (9\267) ، وابن قتيبة في غريب الحديث (1\188)(69/223)
3 - ومما يدل على عظم مكانة الأضحية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص أشد الحرص ما استطاع على أن ينحر أضحيته بيده الشريفة، ولا يوكل فعل ذلك إلى أحد من أصحابه، ويدل على ذلك حديث أبي رافع، وعائشة رضي الله عنهما المتقدم ذكرهما. قال النووي (1) رحمه الله: (يستحب أن يتولى الإنسان
__________
(1) انظر: شرح صحيح مسلم (13\120)(69/223)
ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكل في ذبحها إلا لعذر) .(69/224)
5 - ومما يدلل أيضا على عظم مشروعية الأضحية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من لم يضح -وهو قادر مستطيع- عن حضور صلاة العيد، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا (1) »
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (ح\3123) ، وأحمد (2 \321) ، والدارقطني (4\285) ، والحاكم (4\258) ، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (23\191) : الأغلب عندي في هذا الحديث أنه موقوف على أبي هريرة والله أعلم ا. هـ، وقال ابن حجر في الفتح (10\3) : ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره ا. هـ(69/224)
6 - ومما يدلل أيضا على عظم مشروعية الأضحية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها من سنة المسلمين، ومن علاماتهم التي يعرفون بها، ومن ذلك ما رواه البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء. فقام أبو بردة بن نيار، وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة. فقال: اذبحها، ولن تجزي عن أحد بعدك (1) » قال مطرف: عن عامر عن البراء: قال النبي صلى الله
__________
(1) صحيح البخاري الأضاحي (5545) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (4/282) .(69/224)
عليه وسلم: «من ذبح بعد الصلاة تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين، (1) » وأن من ذبح أضحيته قبل الصلاة، فهي لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد الصلاة، فقد أصاب سنة المسلمين.
__________
(1) أخرجه البخاري (ح\5225) ، ومسلم (ح\1961) ، والنسائي (3\183) ، والبيهقي (9\269) ، وابن حبان (ح\5907)(69/225)
7 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على جمع الدرهم والدينار لشراء أغلى الأضاحي وأطيبها، ويدل على ذلك حديث أبي الأشد السلمي عن أبيه عن جده قال: «كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمرنا نجمع لكل رجل منا درهما فاشترينا أضحية بسبع الدراهم، فقلنا: يا رسول الله لقد أغلينا بها. فقال رسول الله عليه وسلم: إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها وأمر رسول الله عليه وسلم فأخذ رجل برجل، ورجل برجل، ورجل بيد، ورجل بيد ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع، وكبرنا عليها جميعا (1) » كما أن عليا رضي الله عنه لم يدعها بعد ما أمره النبي بها، «فعن علي رضي الله عنه: أنه كان يضحي بكبشين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه، فقيل له. فقال: أمرني به يعني النبي صلى الله عليه وسلم فلا
__________
(1) أخرجه أحمد (3\427) ، والحاكم (4\257) ، والبيهقي في الكبرى (9\268) ، والدولابي في الكنى (1\171)(69/225)
أدعه أبدا (1) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي (ح\1495) ، وأيضا في علله (ح\442) ، وأحمد (1\149) ، وأيضا في فضائل الصحابة (2\698) ، والبيهقي في الكبير (9\278) ، والدولابي في الكنى (2\119)(69/226)
8 - ومما يدل على الاهتمام بها: أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون على تسمين الأضاحي، فعن أبي أمامة بن سهل: «كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون (1) » بل قد تأول حبر الأمة وترجمان القرآن قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} (2) بتعظيم وتسمين الهدايا والبدن، كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها. وقال مجاهد عن ابن عباس {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} (3) قال: الاستسمان، والاستحسان والاستعظام.
__________
(1) أخرجه البخاري معلقا مجزوما به (ح\5231) . قال ابن حجر في الفتح (10\10) : وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق أحمد بن حنبل عن عباد بن العوام أخبرني يحيى بن سعيد وهو الأنصاري ولفظه: كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها في آخر ذي الحجة. قال أحمد: هذا الحديث عجيب.
(2) سورة الحج الآية 32
(3) سورة الحج الآية 32(69/226)
وأما الإجماع على مشروعية الأضحية:
فقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على مشروعيتها، وأنها من شعائر الدين وأعلامه التي ينبغي للمسلمين أن يستشعروها ويعظموها.(69/226)
قال ابن قدامة (1) : (وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية) .
وقال ابن مفلح: (وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها) .
وقال الغزالي (2) : (الضحايا من الشعائر والسنن المؤكدة) .
وقال النووي (3) : (التضحية سنة مؤكدة، وشعار ظاهر ينبغي لمن قدر أن يحافظ عليها) .
وقال ابن حجر (4) : (ولا خلاف في كونها من شرائع الدين) .
وقال الشوكاني (5) : (لا خلاف في مشروعية الأضحية، وأنها قربة عظيمة) .
__________
(1) ((المغني)) (9\345)
(2) (الوسيط) (7\131) .
(3) (روضة الطالبين)) (3\192)
(4) (فتح الباري) (10\3) .
(5) (السيل الجرار) (4\73) .(69/227)
ولنختم المقال ها هنا بكلام نفيس لشيخ الإسلام حول الأضحية ومشروعيتها، فإنه قال (1) رحمه الله: (فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار والنسك مقرون
__________
(1) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) (23\1)(69/227)
بالصلاة في قوله: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) وقد قال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة، وقد قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (3) وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4) {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (5) وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته، وبها يذكر قصة الذبيح فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج في بعض السنين، وقد قالوا: إن الحج كل عام فرض على الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام، والضحايا في عيد النحر كذلك، بل هذه تفعل في كل بلد هي والصلاة، فيظهر بها عبادة الله وذكره، والذبح له، والنسك له ما لا يظهر بالحج، كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة الحج الآية 34
(4) سورة الحج الآية 36
(5) سورة الحج الآية 37(69/228)
وإذا علم أن المسلمين أجمعوا على مشروعيتها، كما نقله غير واحد من أهل العلم، فليعلم أن أهل العلم قد اختلفوا: هل هي سنة مؤكدة، أو واجبة لا يجوز تركها؟ على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة مؤكدة، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد في المشهور عنهما.
وذهب آخرون إلى أنها واجبة، وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (1) وقال: هو أحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب.
وبسط أدلة القولين ليس ذا محله، وإنما المقصود الإشارة.
__________
(1) انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) (23\163)(69/229)
الحديث الأول:
عن زيد بن أرقم قال: «قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال: (سنة أبيكم إبراهيم) قالوا: فما لنا فيها؟ قال: (بكل شعرة حسنة) قالوا: فالصوف؟ قال: (بكل شعرة من الصوف حسنة) (1) »
تخريجه:
أخرجه أحمد في مسنده (4\368) والحميدي في مسنده (1\112) . والحاكم في المستدرك (2\422) عن محمد بن سلمة
__________
(1) سنن ابن ماجه الأضاحي (3127) ، مسند أحمد بن حنبل (4/368) .(69/229)
الواسطي. وقال: صحيح. ثلاثتهم عن يزيد بن هارون. وأخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الأضاحي، باب ثواب الأضحية (2\1045 ح\3127) عن محمد بن خلف العسقلاني عن آدم بن أبي إياس.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5\197) ومن طريقه أخرجه المزي في تهذيب الكمال (14\93 - وابن حبان في المجروحين (3\55) ، والبيهقي في سننه الكبرى (9\261) . ثلاثتهم من طريق هدبة بن خالد.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (5\355) من طريق شيبان النحوي.
وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (3\ 419) وابن قانع في معجم الصحابة (1\228) كلاهما من طريق عاصم بن علي.
خمستهم: (يزيد بن هارون، وهدبة بن خالد، وآدم بن أبي إياس، وشيبان النحوي، وعاصم بن علي) عن سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود عن زيد بن أرقم مرفوعا.
دراسة الحديث:
من خلال تخريج هذا الحديث يتضح أن مداره على أبي داود نفيع بن الحارث، وقد تفرد عنه برواية هذا الحديث عائذ الله المجاشعي(69/230)
وكلاهما قد تكلم فيه، وإليك بيان ذلك:
عائذ الله المجاشعي:
قال البخاري: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين، لا يصح حديثه. وقال أيضا: يتكلمون فيه.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث وقال ابن حبان: منكر الحديث على قلته. وذكره ابن الجوزي، والذهبي كلاهما في الضعفاء. وقال ابن حجر: ضعيف.
أبو داود نفيع بن الحارث الأعمى الهمداني:
قال ابن معين: أبو داود الأعمى يضع ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال الترمذي: يضعف في الحديث. وقال النسائي، والدولابي، والدارقطني: متروك الحديث. وقال النسائي في موضع آخر: ليس(69/231)
بثقة ولا يكتب حديثه. وقال ابن حبان في الضعفاء: نفيع أبو داود الأعمى يروي عن الثقات الموضوعات توهما لا يجوز الاحتجاج به. وقال الساجي: كان منكر الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه، وكذبه بعضهم، وأجمعوا على ترك الرواية عنه.
ولخص الحافظ ابن حجر حاله، فقال: متروك.
والحديث صححه الحاكم كما سبق لكن تعقبه الذهبي بقوله: (1) (عائذ الله قال أبو حاتم: منكر الحديث) .
قلت: وقد حكم إمام الجرح والتعديل في زمانه البخاري رحمه الله بعدم صحة حديث المجاشعي هذا، إضافة إلى ذلك فقد قال الحفاظ بضعف روايته كما سبق
وأيضا ممن تعقب الحاكم في تصحيحه لهذا الحديث الحافظ المنذري، فقد قال (2) : (بل واهية، عائذ الله هو المجاشعي، وأبو داود واسمه نفيع بن الحارث، وكلاهما ساقط) .
فالحديث من هذا الطريق إسناده ضعيف جدا، والله أعلم.
__________
(1) انظر: المستدرك (2\389)
(2) انظر: الترغيب والترهيب (2\154) .(69/232)
الحديث الثاني:.
«عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من(69/232)
هراقة دم، وإنها لتأتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا (1) » .
تخريجه:
أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأضاحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الأضحية (4\83 ح 1493) عن مسلم بن عمرو بن مسلم الحذاء المدني.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام بن عروة إلا من هذا الوجه، وأبو المثنى اسمه: سليمان بن يزيد روى عنه ابن أبي فديك. قال أبو عيسى: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية: «لصاحبها بكل شعرة حسنة (2) » . ويروى: «بقرونها (3) » .
وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأضاحي، باب ثواب الأضحية (2\1045 ح 3126) ، وابن حبان في المجروحين (3\ 150) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5\480) ، والبغوي في شرح السنة (4\342) ، والمزي في تهذيب الكمال (34\ 253) جميعهم من طريق دحيم. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4\246) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2\570) من طريق يحيى بن المغيرة كلاهما من طريق أبي سلمة يحيى بن المغيرة المديني. ثم قال 402\234 \ 402 الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى (9 \261) من طريق محمد بن إسحاق المدني. أربعتهم: (مسلم بن عمرو بن مسلم الحذاء، ودحيم عبد الرحمن بن إبراهيم، وأبو سلمة يحيى بن المغيرة، ومحمد بن إسحاق المدني) عن عبد الله بن نافع الصائغ عن أبي المثنى عن هشام بن عروة عن عائشة مرفوعا.
دراسة الحديث:
من خلال تخريج هذا الحديث يتضح أن مداره على أبي المثنى: سليمان بن يزيد الخزاعي.
ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره أيضا في المجروحين، فقال: أبو المثنى شيخ يروي عن هشام بن عروة روى عنه عبد الله بن نافع الصايغ يخالف الثقات في الروايات لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ليس بقوي. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حجر أيضا: ضعيف. فسليمان ضعيف الحديث كما ترى، وضعف سند الحديث ليس منصبا على كون سليمان هذا
__________
(1) سنن الترمذي الأضاحي (1493) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3126) .
(2) سنن ابن ماجه الأضاحي (3127) ، مسند أحمد بن حنبل (4/368) .
(3) سنن الترمذي الأضاحي (1493) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3126) .(69/233)
ضعيف فقط؛ بل إن هناك علة أخرى خفية، هي: أن أبا المثنى لم يسمع من هشام بن عروة، فقد سأل الترمذي شيخه البخاري عن هذا الحديث فقال (1) : (هو حديث مرسل، لم يسمع أبو المثنى من هشام بن عروة) .
أما تصحيح الحاكم له، فلا يلتفت إليه، خاصة أنه معارض بقول الإمام البخاري الذي حكم بإرساله، كما أن الحافظ الذهبي قد تعقب الحاكم في تصحيحه لهذا الحديث، فقال: (فيه سليمان بن يزيد أبو المثنى، وهو واه، وبعضهم تركه) . فالحديث بهذا السند ضعيف، والله أعلم.
__________
(1) انظر: علل الترمذي الكبير ص (244) .(69/235)
الحديث الثالث:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أضحى: ما عمل ابن آدم في هذا اليوم أفضل من دم يهراق إلا أن يكون رحما مقطوعة توصل» .
تخريجه:
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11\ 32) قال: حدثنا عبدان بن أحمد ثنا هشام بن خالد ثنا الحسن بن يحيى الخشني عن إسماعيل بن عياش عن ليث عن طاوس عن ابن عباس مرفوعا.(69/235)
دراسته:
هذا الحديث مسلسل إسناده بالعلل، وإليك بيانها:
1 - الحسن بن يحيي الخشني (1) .
قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: صدوق سيئ الحفظ. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا ويروي عن الثقات ما لا أصل له. وعن المتقنين ما لا يتابع عليه، وكان رجلا صالحا يحدث من حفظه كثير الوهم فيما يرويه حتى فحشت المناكير في أخباره حتى يسبق على القلب أنه المتعمد لها، فلذلك استحق الترك. وقال الدارقطني: متروك.
2 - إسماعيل بن عياش العنسي الدمشقي، وهو ثقة في روايته عن أهل بلده من الشاميين، أما حديثه عن غير الشاميين من العراقيين والحجازيين فقد وقع له اختلاط فيها، أما إطلاق الضعف فيه كما فعل النسائي، وإخراجه عن حد الاحتجاج به كما زعم ابن حبان فإنه لا يصح، فضعفه إنما جاء من اختلاطه في الرواية عن
__________
(1) انظر في ترجمته: تهذيب الكمال (6\339) ، ميزان الاعتدال (1\524) ، تهذيب التهذيب (2 \326) .(69/236)
غير الشاميين، ويمكن حمل تضعيف من ضعفه على روايته عن غير أهل بلده، والله تعالى أعلم. وإسماعيل بن عياش هنا قد روى عن ليث بن أبي سليم وهو كوفي.
3 - ليث بن أبى سليم الكوفي قال الحافظ الذهبي في سيره: لين في حديثه ضعف لنقص حفظه. إلى أن قال: بعض الأئمة يحسن لليث، ولا يبلغ مرتبة الحسن، بل عداده في مرتبة الضعيف المقارب، فيروى في الشواهد والاعتبار وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف سيئ الحفظ.
فالحديث بهذا السند ضعيف، والله تعالى أعلم.(69/237)
الحديث الرابع:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقت الورق في شيء أحب إلى الله من نحير ينحر في يوم عيد» .
تخريجه:
أخرجه الطبراني -واللفظ له- في المعجم الكبير (11\17) .(69/237)
البيهقي في سننه الكبرى (9\260) . وقال: تفرد به محمد بن ربيعة عن إبراهيم الخوزي وليسا بالقويين. وأيضا في شعب الإيمان (5\ 482) . والدارقطني في سننه (4\282) . وابن عدي في الكامل (1\ 227) . وابن الجوزي في العلل المتناهية (2\569) . كلهم من طريق محمد بن ربيعة الكلابي.
وأخرجه ابن حبان في المجروحين (1\101) من طريق عثمان بن عبد الرحمن. كلاهما: (محمد بن ربيعة الكلابي، وعثمان بن عبد الرحمن) عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس مرفوعا.
دراسته:
هذا الحديث مداره على إبراهيم بن يزيد الخوزي (1) وقد كذبه جمع من الأئمة منهم: مالك، والقطان، وابن معين، وابن المديني، والبخاري، وأبو داود، وأبو حاتم الرازي، والبزار، وابن حبان. فالحديث بهذا السند ضعيف جدا.
أما قول البيهقي: تفرد به محمد بن ربيعة عن إبراهيم الخوزي ا. هـ. فمتعقب برواية عثمان بن عبد الرحمن عند ابن حبان، والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر في ترجمته: تهذيب الكمال (2\186) ، الكاشف (1\91) ، ميزان الاعتدال (1\57) ، تهذيب التهذيب (1\158) .(69/238)
الحديث الخامس:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمائها كل ذنب عملتيه، وقولي: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} (1) إلى قوله {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) قال عمران: قلت: يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة قال: لا، بل للمسلمين عامة» .
تخريجه:
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18\239) ، وأيضا في الأوسط (3\69) ، وأيضا في الدعاء (1\295) ، واللفظ له. والروياني في مسنده (1\134) والحاكم في المستدرك (4\247) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في سننه الكبرى (5\238، 9\283) ، وأيضا في شعب الإيمان (5\483) وأيضا في فضائل الأوقات ص (403) ، وابن عدي في الكامل (7\2492) . والخطيب في الموضح (1\525) كلهم من طريق النضر بن إسماعيل البجلي عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن عمران بن الحصين مرفوعا.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163(69/239)
دراسته:
هذا الحديث مداره على أبي حمزة الثمالي، وقد تفرد برواية هذا الحديث عن سعيد بن جبير.
وأبو حمزة الثمالي، هو: ثابت بن أبي صفية دينار الثمالي ضعيف الحديث، قال أحمد: ضعيف الحديث ليس بشيء. وكذلك قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال مرة: متروك.
كما أن الراوي عن أبي حمزة الثمالي هو: النضر بن إسماعيل وهو ليس بالقوي. فالحديث سنده ضعيف لضعف أبي حمزة. والنضر بن إسماعيل وهو ليس بالقوي، ولا يلتفت إلى تصحيح الحاكم لهذا الحديث، فقد تعقبه الحافظ الذهبي، بقوله (1) : فيه أبو حمزة الثمالي، وهو ضعيف جدا.
وورد لحديث عمران بن حصين هذا شاهدان آخران،
__________
(1) انظر المستدرك (4\222) .(69/240)
أحدهما من حديث أبي سعيد الخدري، والآخر من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنهما إلا أن كليهما ضعيف جدا، بل أحدهما - وهو حديث علي - سنده موضوع، وإليك بيان ذلك:
وأما حديث أبي سعيد الخدري: فأخرجه الحاكم (4\247) واللفظ له، وابن أبي حاتم في علل الحديث (2\38) ، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2\37) كلهم من طريق داود بن عبد الحميد عن عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها الصلاة والسلام: «قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك. قالت: يا رسول الله: هذا لنا أهل البيت خاصة أو لنا وللمسلمين عامة قال: بل لنا وللمسلمين عامة» .
والحديث بهذا السند فيه علتان، هما:
1 - عطية وهو ابن سعد العوفي: ضعيف، مدلس.
2 - داود بن عبد الحميد (1) قال أبو حاتم: حديثه يدل على
__________
(1) انظر في ترجمته: ميزان الاعتدال (3\17) ، المغني في الضعفاء (219) ، لسان الميزان (2\420) .(69/241)
ضعفه. وقال الذهبي: وقال إذنه: روى عن عمرو بن قيس الملائي أحاديث لا يتابع عليها، منها: عن الملائي عن عطية عن أبي سعيد «يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها» . وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء.
فالحديث بهذا السند ضعيف جدا، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث فقال (1) : هو حديث منكر. اهـ. وهو كما قال رحمه الله.
وأما حديث علي:
فأخرجه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب) (1\128) ، وأحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية (رقم 2299) ، والبيهقي في سننه الكبرى (9\283) وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1\241) كلهم من طريق سعيد بن زيد أخي حماد بن زيد عن عمرو بن خالد عن محمد بن علي عن آبائه عن علي رضي الله عنه مرفوعا.
وأخرجه أيضا أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي في كتابه الترغيب والترهيب كما في نصب الراية (4\ 220) ، والدراية (2\ 218) .
__________
(1) انظر علل الحديث (2\38) .(69/242)
والحديث بهذا الإسناد موضوع، لأجل عمرو بن خالد (1) ، فقد كذبه جمع من الأئمة منهم: وكيع، وإسحاق، وأحمد، وابن معين، وأبو داود، وأبو زرعة وابن البرقي، وغيرهم.
فخلاصة القول: أن قصة أمر النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة أن تشهد أضحيتها ضعيفة من جميع الوجوه، والله أعلم.
__________
(1) انظر في ترجمته (3\257) ، تهذيب التهذيب (8\26) .(69/243)
الحديث السادس:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ضحوا وطيبوا بها أنفسكم، فإنه ليس من مسلم يوجه ضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة، وكان يقول: أنفقوا قليلا تؤجروا كثيرا، إن الدم وإن وقع في التراب فهو في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة» .
تخريجه:
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4\388) - ومن طريقه الخطيب في الموضح (2\274) - عن أبي سعيد الشامي.
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (23\179) من طريق سليمان بن موسى. كلاهما (أبو سعيد الشامي، وسليمان بن موسى) عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة مرفوعا.(69/243)
دراسته:
من خلال تخريج هذا الحديث يتضح أن مداره على عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال قاله الحافظ ابن حجر (1) وقد رواه عنه:
1 - أبو سعيد الشامي، وهو: عبد القدوس بن حبيب الشامي (2) ، متروك الحديث.
قال البخاري: تركوه منكر الحديث. وقال أيضا: ويروي عبد القدوس عن نافع عن مجاهد، والشعبي، ومكحول، وعطاء أحاديث مقلوبة. وقال عبد الرزاق: ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله كذاب إلا لعبد القدوس. وقال الفلاس: أجمعوا على ترك حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة الإسناد والمتن. وقال ابن عمار: كان سفيان - يعني الثوري - يروي عن أبي سعيد الشامي وإنما هو عبد القدوس كناه ولم يسمعه، وهو ذاهب الحديث. وقال مسلم: ذاهب الحديث. وقال أبو داود: ليس بشيء وابنه شر منه.
__________
(1) انظر في ترجمته: تقريب التهذيب (ت4591)
(2) انظر في ترجمته: التاريخ الكبير (6\119) ، ميزان الاعتدال (4\382) ، لسان الميزان (4\45)(69/244)
2 - سليمان بن موسى: أبو أيوب، ويقال: أبو الربيع القرشي الدمشقي. قال الحافظ ابن حجر (1) : صدوق، فقيه، في حديثه لين، وخولط قبل موته بقليل.
وعلاوة على ما في سليمان هذا من ضعف، فإن الإسناد إليه لا يصح، إذ أن فيه نصر بن حماد البجلي البصري (2) قال يعقوب بن شيبة: ليس بشيء. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال مسلم: ذاهب الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة وصالح بن محمد الحافظ: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم، وأبو الفتح الأزدى: متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا ويهم في الإسناد، فلما كثر ذلك منه بطل الاحتجاج به. فالحديث إسناده ضعيف جدا، والله أعلم.
__________
(1) انظر: تقريب التهذيب (ت 2616) .
(2) انظر في ترجمته: تهذيب الكمال (29\342) ، ميزان الاعتدال (4\250) ، تهذيب التهذيب (10\425) .(69/245)
الحديث السابع:
عن علي رضي الله عنه قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها، فإن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله» .(69/245)
تخريجه:
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (8\176) حدثنا موسى بن زكريا نا عمرو بن الحصين نا محمد بن عبد الله بن علاثة عن عبد الملك بن أبي غنية عن الحكم عن حنش الكناني عن علي مرفوعا.
دراسته:
من خلال تخريج هذا الحديث يتضح أن في سنده عمرو بن الحصين (1) ، متروك الحديث.
قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وقال: تركت الرواية عنه ولم يحدثنا بحديثه، وقال: هو ذاهب الحديث، وليس بشيء أخرج أول شيء أحاديث مشتبهة حسانا، ثم أخرج بعد لابن علاثة أحاديث موضوعة فأفسد علينا ما كتبنا عنه، فتركنا حديثه. قال: وسئل عنه أبو زرعة فقال: ليس هو في موضع من يحدث عنه، وهو واهي الحديث. وقال ابن عدي: حدث عن الثقات بغير ما حديث منكر، وهو مظلم الحديث. وقال الأزدي: ضعيف جدا يتكلمون فيه. وقال الدارقطني: متروك. فالحديث سنده ضعيف جدا، قال الهيثمي (2) : رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمرو بن الحصين وهو متروك الحديث.
__________
(1) انظر في ترجمته: تهذيب الكمال (21\587) ، ميزان الاعتدال (2\306) ، تهذيب التهذيب (8\19) .
(2) انظر مجمع الزوائد (4\17) .(69/246)
الحديث الثامن:
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضحى طيبة بها نفسه محتسبا لأضحيته كانت له حجابا من النار» .
تخريجه:
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3 \84) قال: حدثنا أحمد بن محمد النخعي القاضي الكوفي ثنا عمار بن أبي مالك الجنبي ثنا أبو داود النخعي عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضحى طيبة بها نفسه، محتسبا لأضحيته، كانت له حجابا من النار» .
دراسته:
من خلال تخريج هذا الحديث يتضح أن في سنده أبا داود نفيع بن الحارث النخعي، متروك الحديث، وقد سبق بيان حاله بالتفصيل في الحديث الأول. فالحديث بهذا السند ضعيف جدا، والله أعلم.(69/247)
الحديث التاسع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استفرهوا ضحاياكم، فإنها مطاياكم على الصراط» .
تخريجه: أخرجه القاضي عبد الجبار في أماليه كما في التدوين في أخبار قزوين (3\219) . والديلمي في مسند الفردوس، كما في التلخيص الحبير (4\152) . كلاهما من طريق عبد الله بن المبارك ثنا يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استفرهوا ضحاياكم، فإنها مطاياكم على الصراط» .
درا سته:
من خلال تخريج هذا الحديث يتضح أن في سنده يحيى بن عبيد الله، وهو ضعيف جدا، قاله ابن حجر، والسخاوي (1) .
قال العجلوني (2) : رواه الديلمي بسند ضعيف جدا عن أبي هريرة رفعه، ووقع في نهاية إمام الحرمين، ثم في وسيط الغزالي
__________
(1) انظر التلخيص الحبير (4\152) ، المقاصد الحسنة ص (114) ، وانظر: تقريب التهذيب (ت 7599)
(2) انظر: كشف الخفاء (1\133) .(69/248)
ووجيزه بلفظ «عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» ، لكن قال ابن الصلاح: هذا معروف، وليس ثابت فيما علمناه. وقال أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح ا. هـ.
وقال المناوي (1) : «استفرهوا ضحاياكم» من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة. قال المصنف في الدرر: ويحيى ضعيف. وقال السخاوي: يحيى ضعيف جدا ا. هـ.
والحديث ورد أيضا بلفظ «عظموا ضحاياكم» قال ابن الملقن (2) : حديث «عظموا ضحاياكم إنها على الطريق مطاياكم» غريب، قال ابن الصلاح: معروف، وليس ثابت فيما علمناه قلت: وأسنده صاحب مسند الفردوس بلفظ «استفرهوا بدل عظموا» ا. هـ.
قلت: وقد سبق تخريجه، وسنده ضعيف جدا.
تم البحث والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
__________
(1) انظر: فيض القدير (1\496) .
(2) انظر خلاصة البدر المنير (2\377) .(69/249)
صفحة فارغة(69/250)
مع السلف الصالح في الحج
للدكتور \ بدر بن ناصر البدر (1)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الأمين والمبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن من شعائر الإسلام الحج إلى بيت الله الحرام، وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وحج معه أصحابه رضي الله عنهم الذين نقلوا لنا هديه وسنته في ذلك، وكان لهم معه عليه الصلاة والسلام وبعده مواقف محمودة وأحوال مرضية في اتباع السنة والعناية بها وتعليم الناس إياها، مع استغلال تلك الأزمان الشريفة والمناسك العظيمة بما هي جديرة به من الأعمال الصالحة والقربات المتنوعة وغير ذلك.
__________
(1) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين(69/251)
وقد جمعت من تلك المواقف والأحوال مع دراستها والإفادة مما ذكره أهل العلم والتعليق عليها، وإبراز الفوائد المستنبطة منها والدروس النيرة التي جاءت فيها، مع بيان بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بذلك، ما جاء في هذا البحث الذي جعلت عنوانه (مع السلف الصالح في الحج) ، وقد سرت في كتابته حسب المخطط التالي:
- المقدمة:
- المبحث الأول: فرضية الحج والترغيب فيه وبيان حكمه وأسراره.
- المبحث الثاني: قدسية البيت الحرام ومكانته.
- المبحث الثالث: حث السلف على أداء الحج مع العناية بتصحيح النية وطيب النفقة.
- المبحث الرابع: أقوالهم في بيان الحج المبرور وتطبيقهم ذلك.
- المبحث الخامس: فضل يوم عرفة وأحوالهم فيه.
- المبحث السادس: فضل يوم العيد وأيام التشريق وأقوالهم في ذلك.
- المبحث السابع: عنايتهم بمعرفة السنة وتأدبهم في تعلمها.(69/252)
- المبحث الثامن: تمسكهم بالسنة وتحذيرهم من الخلاف.
- المبحث التاسع: حرصهم على اتباع السنة وتطبيقها.
- المبحث العاشر: الاهتمام بالسنة وثمار اتباعها.
- المبحث الحادي عشر: المداومة على العمل الصالح بعد الحج.
- الخاتمة.
وقد قمت في هذا البحث بترقيم الآيات وتخريج الأحاديث والآثار، وتوثيق النقول وإحالتها إلى مصادرها الأصلية ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
ولا أدعي بهذا العمل الإحاطة بتلك المواقف والدروس المستنبطة منها، فما ذكرته أمثلة موجزة، وفي بطون كتب السنة والسير والتراجم الشيء الكثير.
أسأل الله عز وجل أن ينفع به، وأن يغفر لي خطئي وزللي وتقصيري إنه غفور رحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(69/253)
المبحث الأول: فرضية الحج والترغيب فيه وبيان حكمه وأسراره
الحج أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فرضه الله على عباده في العمر مرة واحدة، وما ازداد به العبد بعد ذلك فهو تطوع، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- (هذه آية وجوب الحج عند الجمهور، وقيل: بل هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) والأول أظهر، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع) (3) .
وقد تضمن قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (4) من الحكم والأسرار ما يحث النفوس المؤمنة على أداء فريضة الحج، ويقوي العزائم وينهض الهمم للقيام بهذا النسك العظيم، إيمانا بالله ورضا بفرضيته واستسلاما لأمر الله وحكمه، واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم القائل: «لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (5) » ، وفي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) تفسير القرآن العظيم 1\ 383
(4) سورة آل عمران الآية 97
(5) جزء من حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 9\ 44.(69/254)
بيان أسرار هذه الآية ونكاتها ولطائفها يقول ابن القيم: (ومن فوائد هذه الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه، يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر، أو بلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم، نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (1) {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (3) وفي الحج أتي بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه: أنه قدم اسمه تعالى، وقدم عليه لام الاستحقاق والاختصاص، ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف (على) ، ثم أبدل منه أهل الاستطاعة، ثم نكر السبيل في سياق الشرط، إيذانا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال، فعلق الوجوب: بحصول ما يسمى سبيلا، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر، فقال: {وَمَنْ كَفَر} (4) أي: بعد التزام هذا الواجب وتركه، ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، والله تعالى هو الغني الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد.. ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عموما، ولم يقل: فإن الله غني عنه، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم، فله الغنى الكامل التام من كل وجه.. وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بأداة " إن " الدالة على التوكيد " (5) .
وقد جاءت الأحاديث النبوية آمرة بالحج حاثة عليه ومرغبة فيه،
__________
(1) سورة البقرة الآية 183
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة البقرة الآية 126
(5) ينظر: بدائع الفوائد 2\ 45.(69/255)
ومحذرة من أعرض عنه وتكاسل في أدائه، متى استجمعت فيه شروط الحج، فإنه حينئذ واجب على الفور، ففي الأمر بالحج وبيان أنه أحد أركان الإسلام ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا (1) » رواه البخاري ومسلم، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (2) » .
ومما ورد في الترغيب في الحج ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح -كتاب الإيمان- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم 1\49 رقم (8) ، ورواه مسلم في صحيحه بشرح النووي -كتاب الإيمان - باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1\176
(2) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج - باب فرض الحج مرة في العمر 9\100-101(69/256)
«العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (1) » ، ورويا أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (2) » ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء (3) » رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث في فضل الحج والترغيب فيه.
قال ابن القيم -رحمه الله: (ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب -أي إيجاب الحج- بذكر محاسن البيت، وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه، وإن لم يطلب ذلك منها، فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (4) {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (5) فوصفه بخمس صفات، أحدهما: أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض، الثاني: أنه مبارك،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب العمرة- باب وجوب العمرة وفضلها 3\597 برقم 1773، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب العمرة- باب فضل الحج والعمرة 9\ 117
(2) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج باب فضل الحج المبرور 3\ 382 برقم 1521 واللفظ له، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج باب فضل الحج والعمرة 9\ 119
(3) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب فضل يوم عرفة 9\ 117
(4) سورة آل عمران الآية 96
(5) سورة آل عمران الآية 97(69/257)
والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه، ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدى.. الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات ... الخامس: الأمن لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده، ما يبعث النفوس على حجه، وإن شطت بالزائرين الديار، وتناءت بهم الأقطار.
وهذا يدلك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (1) لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حبا له وشوقا إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين، يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرا أبدا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا) (2) . ا. هـ مختصرا.
لقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالحج والترغيب في أدائه ومتابعة هذا العمل الصالح، وأبانت الأدلة آثاره على أهله في الدنيا والآخرة، إبانة تدفع النفوس المؤمنة إلى المسارعة والمبادرة في طلب ذلك الفضل، بل ويهون أنواع المتاعب والمشاق، وأنواع الإعطاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) ينظر: بدائع الفوائد 2\ 45(69/258)
والإنفاق، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (2) الآيات، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور (3) » ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين) رواه البخاري (4) .
ثم إن في شريعة الإسلام وأحكامها الغراء المصالح الشريفة والحكم العظيمة، وقد يظهر لأهل العلم شيء من ذلك، وذكرهم لهذه الحكم من هذه العبادات إنما هو حث على أدائها طاعة لله عز وجل بفعلها، والتزود منها، وهناك من الحكم والأسرار في شرعيتها الشيء الكثير الذي لا نعلمه، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (5)
ومن العبادات التي تكلم أهل العلم في حكمة مشروعيتها وبيان
__________
(1) سورة الحج الآية 27
(2) سورة الحج الآية 28
(3) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج باب فضل الحج المبرور 3\ 381 برقم 1519، ومسلم في صحيحه -كتاب الإيمان- باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 2\ 72
(4) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج باب الحج على الرحل 3\ 380 تعليقا
(5) سورة الإسراء الآية 85(69/259)
أسرار فرضيتها الحج وشعائره، قال ابن القيم رحمه الله: (وأما الحج فشأن آخر، لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجل من أن تحيط به العبارة، وهو خاصة هذا الدين الحنيف.. وسائر شعائر الحج مما شهدت بحسنه العقول السليمة والفطر المستقيمة، وعلمت بأن الذي شرع هذه لا حكمة فوق حكمته) (1) ا. هـ مختصرا.
وممن تحدث في بيان حكم الحج وأسراره ابن قدامة، فمما ذكره: أن يتذكر بتحصيل الزاد زاد الآخرة من الأعمال، وليحذر أن تكون أعماله فاسدة من الرياء والسمعة، فلا تصحبه ولا تنفعه، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر، فيبقى صاحبه وقت الحاجة متحيرا.
وإذا فارق وطنه ودخل البادية وشهد تلك العقبات والصعاب والشدائد، فليتذكر بذلك خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة، وما بينهما من الأهوال.
ومن ذلك أن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه أنه يلبس كفنه، وأنه سيلقى ربه بزي مخالف لزي أهل الدنيا، وأنه يأتي ربه متجردا من الدنيا ورفعتها وغرورها، ما معه إلا عمله إن خيرا فخير،
__________
(1) مفتاح دار السعادة 2\ 4(69/260)
وإن شرا فشر، وإذا لبى فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (1) وليرج القبول وليخش عدم الإجابة، وليتذكر خير من لبى وأجاب النداء، محمدا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وليعزم على الاقتداء به واقتفاء سنته واتباع طريقه.
وإذا وصل إلى الحرم فينبغي أن يرجو الأمن من العقوبة، وأن يخشى أن لا يكون من أهل القرب عند الله، معظما رجاءه في ربه محسنا ظنه به، فإذا رأى البيت الحرام استحضر عظمة الله في قلبه وعظمت خشيته منه وازداد له هيبة وإجلالا، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه، وليستشعر عظمة الطواف به فإنه صلاة.
وأما الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ثم في منى فيتذكر بما يرى من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم موقف القيامة، واجتماع الأولين والآخرين في ذلك الموطن وما فيه من أهوال وشدائد {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (2) {كَلَّا لَا وَزَرَ} (3) {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (4) {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (5)
وإذا جاء رمي الجمار فاقصد بذلك الانقياد للأمر، وإظهار الرق والعبودية والحاجة والفاقة، وامتثال السنة واتباع الطريقة،
__________
(1) سورة الحج الآية 27
(2) سورة القيامة الآية 10
(3) سورة القيامة الآية 11
(4) سورة القيامة الآية 12
(5) سورة القيامة الآية 13(69/261)
وتقديمها على حظوظ النفس ورغباتها (1) ا. هـ.
لقد جمع الحج بمناسكه عبادتين عظيمتين، مادية بالبذل والنفقة، وبدنية بالقيام بشعائره وأداء مناسكه، كما حج عليه الصلاة والسلام القائل: «لتأخذوا مناسككم (2) » ، ولذلك كان الصالحون من عباد الله يتحسرون على فوات الحج وعدم تمكنهم منه، على أن المتخلف لعذر شريك السائر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك: «إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر (3) » . يحدوهم قول الشاعر:
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا ... ومن أقام على عذر كمن راحا
ولهؤلاء وغيرهم يقال ليست العبرة بكثرة العمل، إنما العبرة بقبوله مع إخلاص النية وسلامة القلب وطهارته من كل ما يشوبه، وقوة التعلق بالله، خشية منه ومحبة وإجلالا وتعظيما له، ورغبة فيما عنده وزهدا في الدنيا وما عند الناس.
قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: (أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرا
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين ص 42-43
(2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(3) رواه البخاري في صحيحه- كتاب الجهاد- باب من حبسه العذر عن الغزو 6\46 برقم 2839 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(69/262)
منكم، قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة) ، وقال أبو بكر المزني: (ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره) ، قال بعض أهل العلم: (الذي وقر في صدره حب الله والنصيحة لخلقه) ، وقال بعض السلف: (ما بلغ من بلغ عندنا بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاوة النفوس وسلامة الصدور والنصح للأمة) .
فعلى المسلم المبادرة إلى الطاعة والتزود من نوافل القربات والمسارعة في ميادين الصالحات وسؤال الله القبول بعد هذا كله، كما هي دعوة الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بعد أن عملا أفضل الأعمال وأشرفها، حيث رفعا الكعبة وبنياها، قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 127(69/263)
المبحث الثاني: قدسية البيت الحرام ومكانته:
جعل الله بيته الحرام ملتقى جموع المؤمنين وقبلة أهل الإسلام أجمعين، تتوجه إليه القلوب، وتفد إليه الوفود من كل فج عميق في كل وقت وحين، وما برح هذا البيت المعظم بحفظ الله ورعايته، يتطلع إليه المسلمون ويتنافس في بلوغ رحابه المتنافسون، يعيشون في أمنه وأمانه، وتوافر خيراته وأرزاقه، ينعمون في ظلاله ويتفيئون ما ينالهم(69/263)
من بركاته، قال تعالى ممتنا على عباده بذلك ومذكرا بهذه النعم المترادفة والآلاء الجمة: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (3)
لقد جمع الله لهذا البيت وأهله وقاصديه مزيتين بهما تحصل السعادة بتمامها، والطمأنينة بكمالها: سعة الرزق والأمان من الخوف، قال عز وجل: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (4) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (5)
فمن خصائص هذا الحرم أنه حقيق بالتعظيم والإجلال والاحترام، وقد اتفقت قبائل العرب طرا على احترام هذا البيت وتعظيم، حتى إن الرجل يرى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمسه بسوء؛ لأنه في أمان أنه في الحرم، مضى على هذا عمل الجاهلية، مع ما بين أهلها من اختلاف المنازع وتباين الأهواء والمشارب، وتعدد الأوثان والمعبودات، وكثرة الضغائن والأحقاد.
__________
(1) سورة القصص الآية 57
(2) سورة العنكبوت الآية 67
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) سورة قريش الآية 3
(5) سورة قريش الآية 4(69/264)
وقد أقر الإسلام هذه الميزة لبيت الله الحرام، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك ولأجل أن يعبد الله وحده، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي (1) » الحديث.
على أن فتح مكة لم يؤثر على أمر الجرم وقدسيته شيئا، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن (2) » . وقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته سواء كانت في النفس أم فيما دونها، واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ به ولجأ إليه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتص منه ما دام فيه، لكن لا يجالس ولا
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في مواضع، منها: - كتاب جزاء الصيد- باب لا يعضد شجر الحرم 4 \41 برقم 1832، ومسلم في صحيحه- كتاب الحج- باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام 9\ 123- 126
(2) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه- كتاب الجهاد- باب فتح مكة 12\ 133.(69/265)
يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتص منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم، اقتص منه، وقال مالك والشافعي: يقتص منه في الحرم لذلك كله، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعبيد الله بن عمير وسعيد بن جبير وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل، قال ابن عباس: ولكنه لا يجالس ولا يؤوى حتى يخرج من الحرم فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحد، وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه الحد، وكان يقول في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1) كان هذا في الجاهلية، لو أن رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، أما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره، ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد (2) .
وإن ساكن البلد الحرام وقاصده يعيش هاتين المزيتين، ويشهدهما واقعا ملموسا، رغد في العيش، واستتباب في الأمن، وتوفر في المطاعم والمشارب، يجبى إليه ثمرات كل شيء، كل هذا يسهل عليه العيش في أجواء روحانية وأيام مباركة بجوار بيت الله العتيق، يرجو رحمة الله ويؤمل مغفرته، يتطلع إلى عمل مبرور وسعي مشكور، قد لاذ بربه، متذللا منكسرا بين يديه، يسأله العفو والصفح عما سلف وكان من الذنوب والعصيان.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 9\ 124، جامع البيان 7\ 30-33(69/266)
وقد استجاب الله دعاء خليليه ونبيه إبراهيم عليه السلام حين دعا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1) فما من مسلم في صقع من أصقاع الأرض نور الله قلبه بالإيمان وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا وقلبه يأمل زيارة البيت الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تزال هذه الأمنية تتلجلج في صدره وتختلج في فؤاده، وتكون معه دائما في كل حركاته وسكناته وخطراته (2) .
إن المسجد الحرام هو أول بيت بني على الأرض لعبادة الله وحده، بناه إبراهيم الخليل وشاركه ابنه إسماعيل عليهما السلام، ونبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ثمرة دعوة صدرت من هذين النبيين الكريمين البانيين هذا البيت العتيق، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4) {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 37
(2) انظر كلاما لابن القيم في هذا. زاد المعاد 1\ 51- 52
(3) سورة البقرة الآية 127
(4) سورة البقرة الآية 128
(5) سورة البقرة الآية 129(69/267)
لقد أقيم هذا البيت العتيق على قاعدة التوحيد ليبقى خالدا عامرا بإذن الله تعالى، قال عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) وكان -بفضل الله وإحسانه- القبلة الواحدة لهذه الأمة، به قيامها وإليه مثابتها، قال عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (2) وقال سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (3)
ولما أقيم هذا البيت على قواعد التوحيد ومبادئ الحنيفية، والخلوص من الشرك وأهله، أمر الله خليله بالأذان للناس لحج هذا البيت وتعظيم حرمات الله وشعائره، مع ما يكون لهم من منافع في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (4) الآيات.
ومنذ ذلك النداء ووفود الرحمن تتوافد من كل فج، على الأقدام وركبانا على ما سخر الله لهم، وما فتئت النفوس المؤمنة تتطلع إلى رؤية هذا البيت والطواف حوله والصلاة في جنباته، وفي
__________
(1) سورة الحج الآية 26
(2) سورة المائدة الآية 97
(3) سورة البقرة الآية 125
(4) سورة الحج الآية 27(69/268)
ذلك من الأنس والراحة والنعيم ما تعجز العبارة عن وصفه. يقول الشاعر:
أخي إن زرت بيت الله تبغي ... رضا أو تشتكي هما وحزنا
ففي تلك الرياض نعيم أنس ... لناء إن دعاه الشوق حنا
ولعل هذا من أسرار عظمة الحج وأثره في النفوس، وقد أبان ذلك الماوردي بقوله: "ثم فرض الحج، فكان آخر فروضه؛ لأنه يجمع عملا على بدن وحقا في مال، فجعل فرضه بعد استقرار فروض الأبدان وفروض الأموال، ليكون استئناسهم بكل واحد من النوعين ذريعة إلى تسهيل ما جمع بين النوعين، فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر بمفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل في الوقوف بين يديه، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه والرغبة إليه، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه، فقل من حج إلا وأحدث له الحج توبة من ذنب، وإقلاعا من معصية (1) .
إن أسرار الحج وحكمه لا يحس بها ولا يعرفها حق المعرفة إلا من أدى حجه على الوجه الأكمل، فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قال أهل العلم: الحج المبرور هو الذي قام به صاحبه متحريا سنة النبي صلى الله عليه وسلم مع الإخلاص لله عز وجل، وعن جابر
__________
(1) ينظر: أدب الدنيا والدين ص96(69/269)
رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الحج المبرور؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام (1) » رواه أحمد والطبراني والحاكم، وسئل سعيد بن جبير: أي الحج أفضل؟ قال: (من أطعم الطعام وكف اللسان) (2) وقال الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي: (هو الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل) (3) . فمعاني الحج وأهدافه السامية إنما تتحقق بحج مبرور، قد وفق صاحبه لاتباع السنة واقتفاء الأثر، مع الحذر مما يخدش حجه أو ينقص من أجره، من قول أو فعل مخالف، صغر أم كبر.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك 1\ 483 وصححه ووافقه الذهبي، ورواه أحمد في المسند 3\ 325، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3\ 207 وقال ((رواه أحمد وفيه محمد بن ثابت وهو ضعيف، ورواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن))
(2) ينظر: لطائف المعارف 411
(3) ينظر: فتح الباري 3\ 382(69/270)
المبحث الثالث: حث السلف على أداء الحج مع العناية بتصحيح النية وطيب النفقة:
وكما جاءت الأدلة من الكتاب والسنة في بيان فرضية الحج وفضله فقد كثرت أقوال الصحابة وسلف الأمة في بيان فريضة آكدية الحج ووجوب أداء الفرض منه على الفور والتحذير من تأخيره، والحث على التزود منه، وجاءت أفعالهم واقعا حيا وتطبيقا جليا لسنة النبي(69/270)
صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج فرأى ركبا فقال: (من الركب؟ قالوا: حاجين، قال: ما أنهزكم غيره؟ -أي ما أخرجكم غيره- ثلاث مرات، قالوا: لا، قال: لو يعلم الركب بمن أناخوا لقرت أعينهم بالفضل بعد المغفرة، والذي نفس عمر بيده ما رفعت ناقة خفها ولا وضعته إلا رفع الله له درجة وحط عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة (1) ، وروى أيضا عن كعب أنه قال: (وفد الله ثلاثة: الحاج والعمار والمجاهدون، دعاهم الله فأجابوه، وسألوا الله فأعطاهم) (2) .
وأداء الحج والقيام بالعمرة عمل صالح حري من ختمت حياته به أن يكون علامة على حسن خاتمة صاحبه من الدنيا، فإن العبد يبعث على ما مات عليه، ولهذا كان السلف يحرصون على الإكثار من الحج لعله أن تختم حياتهم به، قال طلحة اليامي: (كنا نتحدث أنه من ختم له بإحدى ثلاث -إما قال: وجبت له الجنة، وإما قال: برئ من النار-: من صام شهر رمضان فإذا انقضى الشهر مات، ومن خرج حاجا فإذا قدم من حجته مات، ومن خرج معتمرا فإذا قدم من
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\ 4-5، وانظر: مجمع الزوائد 3\ 274- 277
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\ 5، وانظر: مجمع الزوائد 3\ 211.(69/271)
عمرته مات) (1) .
إن فضل الحج عظيم وثوابه جزيل؛ إذ ليس له جزاء إلا الجنة إذا كان مبرورا خالصا لله عز وجل، موافقا للسنة، فكيف يعدل به غيره من الأعمال الصالحة الأخرى، فالحج عبادة مالية بدنية، قال رجل لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (يا أبا موسى إني كنت أعالج الحج -أي أزاوله وأمارسه- وقد ضعفت وكبرت، فهل من شيء يعدل الحج؟ قال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟ فأما الحل- أي النزول- والرحيل، فلا أجد له عدلا -أو قال مثلا) (2) ، وقال أبو الشعثاء: (نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيام كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل) (3) .
وقد ذكر بعض أهل العلم الخلاف في تفضيل: الحج تطوعا أو الصدقة النافلة، حيث ذهب أكثر السلف في تفضيل حج التطوع، روى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن بكار بن عبد الله اليماني قال (سئل طاوس: الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ فقال: أين الحل
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\ 9
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\ 7.
(3) ينظر: صفة الصفوة 3\ 237، لطائف المعارف 408(69/272)
والرحيل والسهر والنصب والطواف بالبيت والصلاة عنده والوقوف بعرفة وجمع ورمي الجمار؟) كأنه يقول: الحج (1) ، فلهذه العبادات الفاضلة في تلك المشاعر المقدسة كان الحج أفضل الأعمال مع الأجر الجزيل والثواب العظيم لمن قام به.
وذهب آخرون إلى تفضيل الصدقة على الحج.
ومنهم من فصل في المسألة فقال: (إن كان ثم رحم محتاجة أو زمن مجاعة فالصدقة أفضل، وإلا فالحج، وهو نص أحمد، وروي عن الحسن معناه، وأن صلة الرحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج) (2) .
ومن فقه السلف الصالح رحمهم الله عنايتهم بتصحيح النية في أعمالهم، ومن ذلك الحج، وإخلاصهم في أدائه، فلا يقصدون بحجهم رياء ولا سمعة، ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء، إنما يقصدون به وجه الله ورضوانه، فكان أحدهم يتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه، استشعارا لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (3) » رواه مسلم، وروى الإمام أحمد والطبراني
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\12
(2) ينظر مصنف عبد الرزاق 5\ 12، ولطائف المعارف 408
(3) رواه مسلم في صحيحه- كتاب الزهد- باب تحريم الرياء 18\ 115من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(69/273)
عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء (1) » ، وروى أنس رضي الله عنه أن «النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم ثم قال: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة (2) » .
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لأصحابه وهو بطريق مكة: (تشعثون وتغبرون وتتفلون وتضحون ولا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا، ما نعلم سفرا خيرا من هذا) (3) يعني الحج، وروي عنه أنه قال: (إنما الحاج الشعث التفل) (4) ، وروي عن بعض التابعين قال: (رب محرم يقول: لبيك اللهم لبيك، فيقول الله: لا
__________
(1) رواه أحمد في المسند 5\ 428- 429، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1\ 102 ''رجاله رجال الصحيح''، والطبراني في الكبير رقم 4301، قال الهيثمي في المجمع 10\ 222 ''رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن شبيب بن خالد وهو ثقة'' وحسن الحافظ إسناده في بلوغ المرام ص 302
(2) رواه ابن ماجه في سننه- كتاب المناسك- باب الحج على الرحل، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه رقم 2337 / 2\ 149
(3) ينظر: لطائف المعارف 420
(4) ينظر: لطائف المعارف 420.(69/274)
لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك، قيل له: لم؟ قال: لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم ورحلا بمائتي درهم ومفرشا بكذا وكذا، ثم ركب ناقته ورجل رأسه ونظر في عطفيه، فذلك الذي يرد عليه) (1) .
فعناية السلف من الصحابة والتابعين كانت متوجهة إلى إخلاص العمل وتصحيح النية، فليست العبرة بكثرة العمل وتنوعه إنما العبرة بالقبول القائم على الإخلاص لله فيه، فلا يكون لمخلوق حظ ونصيب فيه، ويكون أيضا موافقا للكتاب والسنة، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس أمرنا فهو رد (2) » ، فكانوا ينظرون في قبول الأعمال إلى هذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) وسئل الفضيل بن عياض عن قوله سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4) قال: (أخلصه وأصوبه) (5) .
__________
(1) ينظر: لطائف المعارف 420
(2) رواه مسلم في صحيحه- كتاب الأقضية- باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 12\ 16
(3) سورة الكهف الآية 110
(4) سورة الملك الآية 2
(5) ينظر: الاستقامة 2\309، جامع العلوم والحكم 1\ 72.(69/275)
ولهذا لما قال رجل لابن عمر ما أكثر الحاج، أجابه ابن عمر بقوله: (بل ما أكثر الركب وما أقل الحاج، ثم رأى رجلا على بعير، على رحل رث، خطامه حبل، فقال: لعل هذا) (1) ، وقال شريح: (الحاج قليل والركبان كثير) (2) ، فما أكثر الذين يعلمون الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجه الله.
وهذا حق، فما أكثر من يقصد البيت الحرام لحج أو عمرة لكن قد تكون نفقته من حرام، أو يكون حجه أو عمرته رياء وسمعة، وتكثرا أو مباهاة عند الناس، أو يكون حجه على غير سنة ولا موافقة للشريعة، ومن الناس من أعانهم جل وعلا على إخلاص نياتهم وطيب مكاسبهم وحل أموالهم، ثم وفقهم سبحانه وتعالى لأداء الحج أو العمرة حسب السنة، موافقة لعمل النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأسوة، بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3)
وهكذا كانت أعمال السلف الصالح صغيرها وكبيرها إخلاصا لله تبارك وتعالى وإخفاء لها حتى عن أقرب الناس إليهم، صيانة لها من الرياء والسمعة وحب الظهور، يحكي ذلك عنهم
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\ 19
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\ 19
(3) سورة الأحزاب الآية 21(69/276)
الحسن البصري رحمه الله بقوله: (إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور- أي الضيف الزائر- وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، ذلك أن الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا فرضي فعله، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (2) .
وكانت عنايتهم رحمهم الله أيضا شديدة بالنفقة في الحج من حيث كسبها وجمعها، فلا تكون إلا من حلال لا شبهة فيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: وقال:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 55
(2) سورة مريم الآية 3
(3) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الزكاة- باب كل نوع من المعروف صدقة 7\ 100(69/277)
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (2) » رواه مسلم.
وطيب النفقة في الحج أصل في قبول العمل، روى الطبراني وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور (3) » .
وروى عبد الرزاق عن أبي إدريس الخولاني قال: (أربع في أربع لا تقبل في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة، الخيانة والسرقة والغلول ومال اليتيم) (4) ، ومما قيل في ذلك شعرا:
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(2) سورة البقرة الآية 172 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(3) رواه المنذري في الترغيب 2\ 180 وقال: ''رواه الطبراني في الأوسط'' وذكره الهيثمي في المجمع 10\ 292 وقال: ''رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف''
(4) رواه عبد الرزاق في المصنف 5\20(69/278)
إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور
وكان بعض السلف لسخاء نفسه وكرمه وجوده ينفق على أصحابه في الحج رغبة فيما عند الله، وبذلا لماله في أشرف العبادات، ومن أجل تحقيق وتحصيل أفضل القربات الجج، وكانوا رحمهم الله يتسابقون إلى هذا الأمر ويتفانون فيه، ومن أشهر من روي عنه ذلك، الإمام عبد الله بن المبارك، أمير المؤمنين في الحديث، يقول عنه الحافظ الذهبي: (شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته. أكثر من الترحال والتطواف -وإلى أن مات- في طلب العلم وفي الغزو وفي التجارة وفي الإنفاق على الإخوان في الله وتجهيزهم معه إلى الحج) (1) .
ثم ذكر حاله معهم بقوله: (كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8\ 378(69/279)
فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته، عليها اسمه) (1) .
روي أنه قال له الفضيل بن عياض: (أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ -أي كان تاجرا- قال: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، فقال الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا) (2) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8\ 385، 386 وانظر: تاريخ بغداد 10\ 157، 158
(2) سير أعلام النبلاء 8\ 387، وانظر: تاريخ بغداد 10\ 160(69/280)
المبحث الرابع: أقوالهم في الحج المبرور وتطبيقهم ذلك
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (1) » ، وللسلف رحمهم الله في المراد بالحج المبرور أقوال كثيرة، وكانت أفعالهم وأحوالهم في
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2622) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .(69/280)
الحج تطبيقا لهذه المعاني الفاضلة، والصفات الشريفة.
فمن معاني الحج المبرور فعل الطاعات كلها، والإتيان بأعمال البر، وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} (1) قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: (فتضمنت الآية أن أنواع البر ستة أنواع، من استكملها فقد استكمل البر، أولها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة، وثانيها: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وثالثها: إقام الصلاة، ورابعها: إيتاء الزكاة، وخامسها: الوفاء بالعهد، وسادسها: الصبر على البأساء والضراء وحين البأس.
وكلها يحتاج الحاج إليها، فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان، ولا يكمل حجه ويكون مبرورا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض، فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في
__________
(1) سورة البقرة الآية 177(69/281)
المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحج، وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه، ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، فهذه خصال البر، فمن حج من غير إقام الصلاة، لا سيما إن كان حجه تطوعا كان بمنزلة من سعى في ربح درهم وضيع رأس ماله، وهو ألوف كثيرة) (1) .
وقد كان السلف -رحمهم الله- يواظبون على فعل الطاعات ونوافل القربات في حجهم، ويستثمرون ساعاته ويعمرون أيامه بالأعمال الصالحة، كانوا حريصين على قيام الليل، وتلاوة القرآن وأنواع الذكر، على العكس من حال بعض الحجاج الآن -هدانا الله وإياهم- الذين شغلوا بالقيل والقال والخوض في أعراض الناس والمجادلة بالباطل، مع كثرة اللهو واللعب والمزاح، وقد يتعدى الأمر بهم إلى السب والشتم وفعل ما لا يليق بالمسلم، خصوصا في تلك المشاعر المقدسة وفي أجل القربات وأفضل الطاعات الحج.
كان مسروق -رحمه الله- يكثر من السجود والإطالة فيه، لعلمه أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، كما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان محمد بن واسع يكثر من نوافل الصلوات، وإذا ركب راحلته أومأ إيماء، ويأمر حاديه أن يرفع صوته
__________
(1) لطائف المعارف 414، 415(69/282)
خلفه حتى يشغل عنه الناس بسماع صوته فلا يتفطن له، وكان المغيرة بن الحكم الصنعاني يحج من اليمن ماشيا وكان له ورد من الليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن (1) . ومن معاني بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّين} (2) {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (4) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (5) {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ} (6) {وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (7) فانظر -أخي الحاج- كيف أمر الله بذكره واستغفاره ودعائه في هذه المواضع، ونبه على ذلك حثا لحجاج بيته الحرام أن يستغلوا تلك الأزمات الشريفة والأماكن الفاضلة بما هي أهله من الطاعات
__________
(1) ينظر هذه الآثار: لطائف المعارف 415
(2) سورة البقرة الآية 198
(3) سورة البقرة الآية 199
(4) سورة البقرة الآية 200
(5) سورة البقرة الآية 201
(6) سورة البقرة الآية 202
(7) سورة البقرة الآية 203(69/283)
والقربات، وأعظمها ذكره جل وعلا واستغفاره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى (1) » رواه أبو داود والترمذي وصححه، ولفظه: «إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى (2) » ورواه غيرهما، قال بعض أهل العلم: إنما كان ختام الأعمال الصالحة، ومنها الحج بالذكر والاستغفار لأن العبد محل تقصير في أداء تلك الطاعة، يعتوره النقص والخلل وعدم أداء ما وجب عليه حق القيام. ومن الذكر في الحج التلبية فيه ورفع الصوت بذلك والدعاء معه، كما هو فعل الصحابة رضي الله عنهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهم، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل -أي رفع صوته- فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك (3) » ، وكان عبد الله يزيد مع هذا: «لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل (4) » متفق عليه.
__________
(1) رواه الترمذي- كتاب الحج- باب ما جاء كيف ترمى الجمار- 3\246 رقم 902، وأبو داود -كتاب المناسك- باب في الرمل 2\ 179 رقم 1888
(2) سنن الترمذي الحج (902) ، سنن أبو داود المناسك (1888) ، مسند أحمد بن حنبل (6/75) ، سنن الدارمي المناسك (1853) .
(3) صحيح مسلم الحج (1184) .
(4) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج -باب التلبية 3\408 برقم 1459، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب التلبية وصفتها ووقتها 8\88(69/284)
وعن جابر رضي الله عنه قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبية. مثل حديث ابن عمر، والناس يزيدون " ذا المعارج (1) ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئا (2) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نصرخ بالحج صراخا (3) » الحديث، أي: نرفع أصواتنا بالتلبية، وما ذاك إلا لأن التلبية من شعار الحاج في الظاهر، وفيها اشتغال بذكر الله المتضمن كلمة التوحيد وتحقيقها ونفي الشرك ومخالفة المشركين.
ومن معاني الحج المبرور الإحسان إلى الناس ومعاملتهم بالمعروف وحسن الخلق معهما، ففي صحيح مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال: حسن الخلق (4) » ، وهذا الأمر يحتاج إليه الحاج كثيرا، فينبغي له أن يتحلى به ويجاهد نفسه في تحقيقه، فيعامل الناس بالمعروف ويحسن إليهم بالقول والفعل، وما سمي السفر
__________
(1) رواه أبو داود في سننه -كتاب الحج- باب كيف التلبية 2\162 برقم 1813
(2) قال الهيثمي في المجمع 3\ 223'' رواه البزار مرفوعا وموقوفا، ولم يسم شيخه في المرفوع''
(3) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب جواز التمتع في الحج والقران 8\ 232
(4) رواه مسلم في صحيحه -كتاب البر والصلة والآداب- باب تفسير البر والإثم 16\ 111 من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه(69/285)
سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
ويتبع ذلك إطعام الطعام وإفشاء السلام، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام (1) » ، وفي لفظ آخر: «وطيب الكلام (2) » حديث حسن رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج وصية النبي صلى الله عليه وسلم أباجري الهجيمي بقوله: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك المسلم فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض (3) » حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وأقوال الصحابة ومن بعدهم في بر الحج ومروءة السفر وحقوقه كثيرة، منها قول ابن عمر رضي الله عنهما: (البر شيء هين، وجه طليق وكلام لين) ، وسئل سعيد بن جبير: أي الحاج أفضل؟ قال:
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2629) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .
(2) سبق تخريجه
(3) رواه أحمد في المسند 5\ 63-64، وأبو داود في سننه -كتاب اللباس- باب ما جاء في إسبال الإزار رقم 4084 / 4\ 56(69/286)
(من أطعم الطعام وكف لسانه) ، وقال ربيعة: (المروءة في السفر: بذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله عز وجل) ، وقال أبو جعفر الباقر: (ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاثة: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يكف به غضبه، وحسن صحابة لمن يصحبه من المسلمين) ، وجاء رجلان إلى ابن عون يودعانه ويسألانه أن يوصيهما، فقال لهما: (عليكما بكظم الغيظ وبذل الزاد) ، وروى عبد الرزاق عن الثوري قال: (سمعنا أن بر الحج طيب الطعام وطيب الكلام) (1) .
وفي حج السلف من الصحابة والتابعين -رحمهم الله- تحقيق لهذه المعاني، قال مجاهد: (صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني) ، وكان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان، وخدمتهم لأصحابهم ليس لعدم شغلهم بشيء، بل كانوا في خدمة أصحابهم مع اشتغالهم بطاعة الله، وروي عن كثير من السلف أنه كان يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم، اغتناما لأجر ذلك، منهم عامر بن عبد قيس وعمرو بن عتبة بن فرقد، مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما، وروي عن بعضهم أن كان يصحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره، فيشترط
__________
(1) ينظر لهذه الآثار: لطائف المعارف 411، 412(69/287)
عليهم أن يخدمهم، (فكان إذا رأى رجلا يريد أن يغسل ثوبه قال له: هذا من شرطي فيغسله، وإذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال: هذا من شرطي فيغسله) (1) .
إن المسلم في أوقات العبادة والحضور في الرحاب الطاهرة، يلتزم بأكمل الآداب، ويتحلى بشريف الخصال، فكيف بالحضور في بيت الله المحرم والمشاعر المقدسة، فمما يكمل بر الحج اجتناب الإثم والمعاصي فيه، قال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} (2) وفي الحديث الصحيح: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (3) » متفق عليه، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال أهل العلم: (الرفث: الجماع ودواعيه، والفسوق: المعاصي، والجدال: المخاصمة بالباطل) (4) ، فنهى سبحانه عن هذا كله، وأمر حجاج بيته وهم في رحابه أن يتزودوا بزاد التقوى، فهو
__________
(1) ينظر لهذه الآثار: لطائف المعارف 412، 413، سير أعلام النبلاء 4\ 17
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) صحيح البخاري الحج (1820) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن الترمذي الحج (811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(4) ينظر: تفسير القرآن العظيم 1\ 543- 547.(69/288)
خير الزاد، فيتحرى الحاج كل بر، ويتباعد عن كل منكر وإثم، فما تزود حاج ولا غيره بأفضل من زاد التقوى، ولا وصية أجل من الوصية بالتقوى وتحقيقها، وهكذا كان السلف يوصي بعضهم بعضا، قال بعضهم لمن ودعه: (اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عليه) ، وقال آخر لمن ودعه للحج: أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين ودعه «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن (1) » .
إن تقوى الله عز وجل جنة يستجن بها العبد من المعاصي والذنوب، وزاد مبارك يبلغه رضوان الله وجنته، يقول علي رضي الله عنه: (التقوى الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة من الدنيا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر) (2) ، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: (التقوى ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك) .
ومن بر الحج سقي الماء وبذله للآخرين، فالحجاج في تلك
__________
(1) رواه الترمذي - كتاب البر والصلة - باب ما جاء في معاشرة الناس 4 \ 313 رقم 1987.
(2) رواه عنه الطبري في تفسيره 7 \ 65.(69/289)
المشاعر، وبخاصة في وقت الزحام الشديد، بأمس الحاجة إلى الماء يروون به عطشهم، ويستعينون به على قضاء نسكهم، تبذل ذلك -أيها الحاج- لإخوانك بنفس طيبة، ويد حانية، عن ابن عباس أنه سئل أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة سقي الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: (2) » ،.
__________
(1) سنن النسائي الوصايا (3664) ، مسند أحمد بن حنبل (6/7) ، موطأ مالك الأقضية (1489) .
(2) سورة الأعراف الآية 50 (1) {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه}(69/290)
المبحث الخامس: فضل يوم عرفة وأحوالهم فيه
إن من الأيام الفاضلة عند الله عز وجل يوم عرفة، فهو يوم أهل الموقف، حيث يقف الحجاج فيه على صعيد عرفات، يقول عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة (1) » ، وفضائل هذا اليوم العظيم كثيرة: منها أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأديان وأفضلها،
__________
(1) رواه أبو داود في سننه -كتاب المناسك- باب من لم يدرك عرفه 2 \ 196 برقم 1949، والنسائي في سننه -كتاب المناسك- باب فرض الوقوف بعرفة 5 \ 256، والترمذي في سننه -كتاب الحج- باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 3 \ 228 برقم 889.(69/290)
لا يقبل من أحد دين سواه، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا من اليهود قال له: (يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة) .
ومن فضائل يوم عرفة أنه يوم عيد لأهل الإسلام، كما قال ذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حيث قال ابن عباس: (نزلت في يوم عيد، في يوم جمعة، ويوم عرفة) (2) ، وقال عمر: (كلاهما بحمد الله لنا عيد) (3) ، وهو عيد لأهل الموقف خاصة، ويشرع صيامه لغيرهم كما سيأتي.
ومن فضائله أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) رواه الترمذي -كتاب التفسير- باب ومن سورة المائدة 5 \ 233 برقم 3044.
(3) رواه الطبري في تفسيره 9 \ 524، 525.(69/291)
عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء (1) » ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا (2) » ، رواه أحمد وسنده صحيح. وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز -رحمه الله- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رئي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة (3) » ، رواه مالك في الموطأ مرسلا.
ومن فضائل يوم عرفة ما قيل إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه، وأن الوتر يوم النحر، قال تعالى: {وَالْفَجْر} (4) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (5) {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (6) وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر فيما رواه الإمام أحمد وغيره (7) ، وقيل إنه الشاهد
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب فضل يوم عرفة 9 / 117.
(2) رواه أحمد في مسنده 3 \ 224، والمنذري في الترغيب 2 \ 204، وقال: ''رواه أحمد والطبراني في الكبير والصغير، وإسناد أحمد لا بأس به ''.
(3) رواه مالك في الموطأ -كتاب الحج- باب جامع الحج 1 \ 422، مرسلا.
(4) سورة الفجر الآية 1
(5) سورة الفجر الآية 2
(6) سورة الفجر الآية 3
(7) رواه أحمد في المسند 3/ 327، وانظر: تفسير الطبري 30 \ 108 - 110.(69/292)
الذي أقسم الله به في كتابه، قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود} (1) ففي المسند وغيره عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفا عليه: «الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة (2) » .
فمن طمع في العتق من النار، ورجا مغفرة ذنوبه، وإقالة عثراته، والتجاوز عن سيئاته في يوم عرفة، فليحرص على الإتيان بالأسباب التي يرجى بها -بعد فضل الله ورحمته- العتق من النار، وأعظم الأسباب صيام ذاك اليوم لغير الحجاج، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده (3) » ، أما الحجاج فالسنة في حقهم الفطر، كما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة البروج الآية 3
(2) رواه أحمد في المسند 2 \ 298، والترمذي -كتاب التفسير- باب ومن سورة البروج برقم 3339 / 5 \ 406، والطبراني في الكبير 3 \ 298.
(3) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه -كتاب الصيام- باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر 6 \ 50 - 51.(69/293)
ومن الأسباب أيضا الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق ودعاء الله بها، فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله في ذلك اليوم، والدعاء فيه له مزية على غيره، فقد روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) » .
ومن الأسباب أيضا الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة (2) » ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء (3) » .
__________
(1) رواه الترمذي -كتاب الدعوات- باب في دعاء يوم عرفه 534 برقم 3585، وقد كان هذا أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، كما روى ذلك الإمام أحمد في المسند 2 \ 210 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وذكره الهيثمي في المجمع 3 \ 252 وقال '' رواه أحمد، ورجاله موثقون ''.
(2) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الزكاة- باب اتقوا النار ولو بشق تمرة 3 \ 283 برقم 1417، ومسلم في صحيحه -كتاب الزكاة- باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة 5 \ 101، 102 من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(3) حديث صحيح روي من عدة طرق عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، ينظر: السلسلة الصحيحة 4 \ 535 - 539 برقم 1908.(69/294)
مع الحذر من الذنوب والإقلاع عنها، والتوبة الصادقة منها، وحفظ جوارحه عن المحرمات، ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة، هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له (1) » .
وقد كان سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان -رحم الله الجميع- حريصين أشد الحرص على استغلال هذا اليوم العظيم -يوم عرفة- والإفادة منه، والمحروم من حرم فضل الله وجوده، والشقي من تمر عليه هذه الأزمان الفاضلة، والأوقات الشريفة دون استغلال لها، أو إفادة منها. فكانت أقوالهم -رحمهم الله- حاثة على شغل هذا اليوم بما هو جدير به من الأعمال الصالحة، وكانت أحوالهم وأفعالهم تطبيقا لذلك، روى ابن أبي الدنيا عن علي رضي الله عنه قال: (ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار، وليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة، فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عني فسقة الجن والأنس) ، وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة، ومائة رقبة - أي من
__________
(1) رواه أحمد في المسند 1 \ 329، وذكره الهيثمي في المجمع 3 \ 251 وقال '' رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات ''، وانظر: معجم الطبراني الكبير 18 \ 289.(69/295)
العبيد الأرقاء - فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء، ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا من النار. وقال ابن المبارك: (جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم) ، وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى الناس وتسبيحهم وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا -يعني سدس درهم- أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق، يقول الشاعر:
وإني لأدعو الله أطلب عفوه ... وأعلم أن الله يعفو ويرحم
لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ... وإن عظمت في رحمة الله تصغر (1)
__________
(1) ينظر لهذه الآثار: لطائف المعارف 494، 496 - 498.(69/296)
المبحث السادس: فضل يوم العيد وأيام التشريق وأقوالهم في ذلك
جعل الله عز وجل لهذه الأمة عيدين يأتيان في كل عام مرة.
الأول: عيد الفطر بعد صوم رمضان، حين يستكمل المسلمون صيامه، فيجتمعون في هذا العيد، يشكرون الله ويكبرونه على ما هداهم، وهو يوم الجوائز، يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم، ويرجعون من عيدهم بالمغفرة والعتق من النار، بفضل الله ورحمته.(69/296)
الثاني: عيد الأضحى يوم النحر، وهو أكبر العيدين وأفضلهما لحديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القر (1) » رواه أحمد وغيره، وهو مترتب على إكمال الحج، وشرع فيه للجميع -الحجاج وغيرهم- التقرب إلى الله فيه بالنسك، وهو إراقة دماء القرابين مع الصلاة والذكر والدعاء.
لقد أبدل الله هذه الأمة بما كان عند الجاهلية يومي الفطر والأضحى، للذكر والشكر والمغفرة، والفرح بإتمام الطاعة وإكمالها، الصيام والحج، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «إن الله أبدلكم يومين خيرا منهما، يوم الفطر والأضحى (2) » .
إن العيد موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين الخلص وسرورهم في الدنيا، إنما هو برضا مولاهم عنهم، إذا فازوا بإكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم، ونالوا فضله ومغفرته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون} (3)
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/350) .
(2) رواه أحمد في المسند 3 \ 103 و 178 و 235 و 250، والنسائي في سننه - كتاب صلاة العيدين 3 \ 179 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) سورة يونس الآية 58(69/297)
هكذا فهم السلف الصالح -رحمهم الله- معنى العيد، يقول الحسن البصري: (كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد، كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد) ، وقال بعضهم: (ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافل يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بطاعة مولاه) (1) . ثم يأتي بعد يوم العيد أيام التشريق، روى مسلم في صحيحه عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله (2) » ، وهذه الأيام هي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} (3) وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وأفضلها: أولها وهو يوم القر، لأن الحجاج في منى يستقرون فيه ولا ينفرون، ففي حديث عبد الله بن قرط السابق «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر (4) » . وذكر الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق أنواع متعددة، منها: ذكره عز وجل عقب الصلوات المكتوبات، بالتكبير في أدبارها، وهو مشروع إلى آخر أيام التشريق، وهو التكبير المقيد، مروي عن
__________
(1) ينظر لهما: لطائف المعارف 485.
(2) رواه مسلم في صحيحه بشرح النووي -كتاب الصيام- باب تحريم صوم أيام التشريق 8 \ 17.
(3) سورة البقرة الآية 203
(4) سنن أبو داود المناسك (1765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/350) .(69/298)
عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، ومنها: ذكره جل وعلا بالتسمية والتكبير عند ذبح النسك، فإن وقت ذبح الهدي والأضاحي يمتد إلى آخر أيام التشريق، ومنها: ذكره بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق، وهذا خاص بالحجاج، إلى غير ذلك.
ومما ينبغي في هذه الأيام، وبخاصة في آخرها، الاستغفار والدعاء، وقد استحب كثير من السلف -رحمهم الله- الدعاء بقوله سبحانه: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار} (1) وقد قال تعالى قبل ذلك: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (2) قال عطاء: (ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار} (3) ، وقال عكرمة: (كان يستحب أن يقال في أيام التشريق: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار} (4) ، وهذا الدعاء من أجمع الأدعية لخيري الدنيا والآخرة، لذا فقد كان عليه الصلاة والسلام يكثر منه، وكان إذا دعا بدعاء جعله معه، قال الحسن: (الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة) ، وقال سفيان: (الحسنة في الدنيا العلم والرزق الطيب، وفي الآخرة الجنة) ، وكان أبو موسى الأشعري
__________
(1) سورة البقرة الآية 201
(2) سورة البقرة الآية 200
(3) سورة البقرة الآية 201
(4) سورة البقرة الآية 201(69/299)
رضي الله عنه يقول في خطبته يوم النحر: (بعد يوم النحر ثلاثة أيام، التي ذكر الله الأيام المعدودات لا يرد فيهن الدعاء، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل) (1) .
وقد ذكر بعض أهل العلم، أن من الحكمة في ختام الطاعات بالذكر والاستغفار، أن العبد لا يؤدي ما فرض عليه على التمام، وعمله يعتوره النقص والخلل، فشرع له الاستغفار مكفرا لما قد حصل منه من تقصير وخلل، لعل الله أن يقبله منه ويرضى به عنه، ومن الحكمة أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا يفرغ منه، وقد أمر الله بذكره عند انقضاء الصلاة، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُم} (2) وقال في صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (3) وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب} (4) {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (5) قال الحسن: (أمره إذا فرغ من غزوه أن يجتهد في الدعاء والعبادة، فالأعمال كلها يفرغ منها، والذكر لا فراغ له ولا انقضاء) . وقال
__________
(1) ينظر لهذه الآثار وغيرها تفسير الطبري 4 \ 203 - 206، لطائف المعارف 503.
(2) سورة النساء الآية 103
(3) سورة الجمعة الآية 10
(4) سورة الشرح الآية 7
(5) سورة الشرح الآية 8(69/300)
بعض الصالحين: (ما طابت الدنيا إلا بذكره عز وجل، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته) ، قال بعض أهل العلم: (أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعم) (1) .
وذكر بعض شراح الحديث أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل (2) » ، إشارة إلى أن الأكل والشرب في أيام العيد والتشريق، إنما يستعان به على ذكر الله وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات، وقد أمر الله تعالى بالأكل من الطيبات والشكر له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} (3) فمن استعان بنعم الله على معاصيه، فقد كفر نعمة الله وبدلها كفرا، وقد يسلبها (4) ، نعوذ بالله من الخذلان.
كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كلما قلب بصره في نعم الله عليه قال: (اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرا، وأن أكفرها بعد أن عرفتها، وأن أنساها ولا أثني بها) ، ويقول ابن القيم
__________
(1) ينظر: لطائف المعارف 504.
(2) صحيح مسلم الصيام (1141) ، مسند أحمد بن حنبل (5/75) .
(3) سورة البقرة الآية 172
(4) ينظر لطائف المعارف 504.(69/301)
رحمه الله: (الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور -سبحانه- وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره) (1) .
__________
(1) ينظر: مدارج السالكين 2 \ 244.(69/302)
المبحث السابع: عنايتهم بمعرفة السنة وتأدبهم في تعلمها
لقد أكرم الله هذه الأمة حين أرسل إليها أفضل رسله محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والسلام، أخرجهم به من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم، واختار لصحبته صحابته الأخيار، رضي الله عنهم وأرضاهم، الذين تمسكوا بهذا الدين، وعضوا عليه بالنواجذ، واعتصموا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل هذا الدين ونشره بين العالمين، دون كلل ولا ملل، ولا خور ولا ضعف، مستنين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مقتفين أثره، سائرين على منهجه في صغير الأمور وكبيرها، وصدق ربنا تعالى القائل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (1)
كيف لا يكون هذا الجيل كذلك، والله عز وجل قد اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، أفضل البشر وخير من وطئت
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 23(69/302)
قدمه الأرض، روى أبو داود والطيالسي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم، فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده، فاختار له أصحابه، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه.) (1) ، وفي فضلهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (2) » رواه البخاري ومسلم، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان متأسيا، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم في عمره مرة واحدة، وحج معه أصحابه الذين نقلوا لنا صفة حجه عليه الصلاة والسلام،
__________
(1) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده 1 \ 33، وأحمد في مسنده 1 \ 379.
(2) رواه البخاري في صحيحه -كتاب فضائل الصحابة- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لو كنت متخذا خليلا)) 7 \ 21 برقم 3673، ومسلم في صحيحه -كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم- باب تحريم سب الصحابة 16 \ 93 كلاهما عن أبي سعيد الخدري، واللفظ للبخاري.(69/303)
وعلموها الناس، وثبتوا على سنته بعد مماته، يحرصون على معرفة السنة ويحذرون من الخلاف والجدل العقيم، يعلمون الجاهل ويذكرون الغافل، إذا جهل أحدهم أمرا سأل عنه، وإذا سئل أحدهم عن شيء يعلمه، أفتى بما يعلم، فإن لم يكن عنده في هذه المسألة علم، أحال السائل إلى غيره، مع أمرهم الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر بحكمة وأسلوب حسن، فكان لهم في ذلك مواقف محمودة، وأحوال مرضية، ومن تلك:
المثال الأول: ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن حنين «أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما اختلفا بالأبواء -وهو مكان بين مكة والمدينة - فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني -القائل هو عبد الله بن حنين - ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستتر بثوب، قال فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب اصبب، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما(69/304)
وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل (1) » . وفي رواية أخرى قال: (فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه جميعا على جميع رأسه، فأقبل بهما وأدبر، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا) (2) .
اشتمل هذا الموقف على بعض الدروس والفوائد أهمها:
1 - أنه يجوز للمحرم أن يغسل رأسه وجسده، فإن كان من جنابة وجب عليه ذلك، أما غسله تبردا فجائز بلا كراهة، ويجوز له إمرار يده على شعره، لكن لا يتعمد نتف شعر رأسه، «فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى، حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) » متفق عليه.
2 - حسن أدب الصحابة وقطعهم دابر الخلاف، وحسم مادته بسؤال أهل العلم، فإن ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، لم يطل خلافهما في هذه المسألة ولم تظهر له آثار سيئة، بل وكلا العلم إلى عالمه، وأرسلا من يسأل لهما في هذه المسألة، وهكذا
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1840) ، صحيح مسلم الحج (1205) ، سنن النسائي مناسك الحج (2665) ، سنن أبو داود المناسك (1840) ، سنن ابن ماجه المناسك (2934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/421) ، موطأ مالك الحج (712) ، سنن الدارمي المناسك (1793) .
(2) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه 8 \ 125.
(3) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب الاغتسال عند دخول مكة 3 \ 435 برقم 1573، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة 9 \ 5.(69/305)
ينبغي للمسلم عموما أن يسأل عما يشكل عليه في دينه، وهو مطالب بهذا، فإن شرطي قبول العمل الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما روته عائشة رضي الله عنها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، أي مردود عليه، وقد أمر الله بسؤال أهل العلم في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} (2) وقال الشاعر:
شفاء العمى طول السؤال وإنما ... دوام العمى طول السكوت على الجهل
كما أنه ينبغي للمسلم أن لا يستحي من السؤال، ولا يستكبر عن طلب الحق والعمل به، فمع عظيم منزلة هذين الصحابيين إلا أنهما أرسلا من يسأل لهما في هذه المسألة.
3 - ينبغي لمن استبان له الحق أن يعمل به، فلا اجتهاد ولا قياس مع وجود النص، وهكذا كان عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك هذا الموقف، فإن المسور بن مخرمة قبل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ووافق ابن عباس، بل عاهد نفسه ألا يناقش ابن عباس أو يستوقفه في مسألة، إقرارا منه له بوفور العلم وجلالة القدر، ولم يستكبر عن الرجوع إلى الحق وترك ما هو عليه، بل استجابة تامة وطواعية كاملة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الأقضية- باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 12/ 16.
(2) سورة الأنبياء الآية 7(69/306)
4 - مع أن الحق كان مع ابن عباس في هذه المسألة، فإن المسور بن مخرمة لم يكن في صدره شيء على ابن عباس، ولم ينقل إلينا وجود شحناء أو كراهية أو حقد بينهما للخلاف في هذه المسألة، بل محبة وتراحم وترابط، وهكذا ينبغي للمسلم إذا خولف في رأي وكان الحق في غير قوله، أن يقبل الحق ولا يوغر صدره حقدا ولا حسدا على أخيه، أو تتعدى الأمور إلى أعظم من هذا انتصارا لنفسه، ولو على حساب الحق.
5 - من فوائد هذه القصة، جواز السلام على المتطهر في وضوء أو غسل، وجواز الاستعانة بمن يعين المتوضئ أو المغتسل، وقبول خبر الواحد، وأن ذلك كان مشهورا عند الصحابة رضي الله عنهم (1) .
__________
(1) ينظر: شرح النووي 8 \ 126.(69/307)
المثال الثاني: من مجالس الصحابة رضي الله عنهم العامرة بذكر الله عز وجل، والمذاكرة في العلم، والمناقشة في مسائله، والسؤال عما يشكل، معرفة للسنة وحرصا على تطبيقها، ما رواه عروة بن الزبير قال: «كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟(69/307)
قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه، قال: وابن عمر يسمع، فما قال لا، ولا نعم، سكت (1) » .
في هذه القصة وقفات:
الوقفة الأولى: حرص الصحابة والتابعين على طلب العلم وسؤال العلماء عما يشكل، وهذا هو الواجب على المسلم، أن يسأل أهل العلم عن دينه، قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} (2) وفي قصة الرجل الذي أصابته جنابة في برد شديد وهو مثخن بالجراح، فأفتاه من معه بالغسل، مع أن له التيمم والحالة هذه، فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال (3) » ، وروى الإمام البخاري في
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب العمرة- باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم 3 \ 599 برقم 1775، 1776، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن 8 \ 236، 237 واللفظ له.
(2) سورة الأنبياء الآية 7
(3) رواه عدد من الأئمة منهم الإمام أحمد في مسنده 1 \ 330، وأبو داود في سننه -كتاب الطهارة- باب في المجروح يتيمم 1 \ 93 برقم 336، 337، وابن ماجه في سننه -أبواب التيمم- باب في المجروح تصيبه جنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل 1 \ 93 برقم 464، وصححه الألباني، كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(69/308)
صحيحه عن الإمام المفسر مجاهد بن جبر أنه قال: لا يطلب العلم مستح ولا مستكبر، وتقول عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (1) ، كل هذا أخذا من سؤال عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله- وهو التابعي المشهور، أحد المكثرين من رواية الحديث، وبخاصة عن خالته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، حيث سأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ثم سأل عائشة عن عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية: في قول عروة بن الزبير لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، وقوله لعائشة أي أمتاه، أدب جم، وحسن مخاطبة، وطيب كلام مع من يسأله، فإن من الأدب مناداة الشخص بكنيته لا باسمه، أو بما يحبه ويليق به، وهذا من آداب طالب العلم، وقد أكد على أدب الطلب كثير ممن كتب في هذا الموضوع، حيث ذكروا أن تحلي طالب العلم بالأدب وحسن الخلق، أكبر معين -بعد الله عز وجل- على استفادته من شيخه، ثم العمل بهذا العلم.
الوقفة الثالثة: في قول عائشة رضي الله عنها: (يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب) ، حسن خطابها مع
__________
(1) ذكرهما البخاري في صحيحه -كتاب العلم- باب الحياء في العلم 1 \ 228.(69/309)
من خالفها، وإن كان هو المخطئ وهي المصيبة، ومع ذلك لم تعنفه ولم تتهمه بالقصور، أو الجهل أو نحو ذلك، بل دعت له بالمغفرة لما وقع فيه من خطأ واضح، ثم بينت الصواب، وكون ابن عمر ما قال: لا أو نعم، بل سكت، قال العلماء: هذا يدق على أنه اشتبه عليه، أو نسي، أو شك، ولهذا سكت رضي الله عنه لما بينت عائشة الصواب في ذلك، ولم يراجعها بالكلام، لأن في ذلك جدلا عقيما، وشقاقا ومنازعة لا فائدة منها (1) ، وهكذا يجب على المسلم أن يقبل الحق ويترك ما كان عليه من خطأ، فالحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها، ولا يجادل بالباطل، أو يماري بغير حق.
الوقفة الرابعة: ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته، عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته (2) » ، فقد
__________
(1) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8 \ 235، فتح الباري 3 \ 602.
(2) رواه البخاري في صحيحه -كتاب العمرة- باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم 3 \ 600 برقم 1778 - 1780، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن 8 \ 234 - 235 واللفظ له.(69/310)
اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع مرات:
الأولى: في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة، فصدتهم قريش عنها، فتحللوا وحسبت لهم عمرة.
الثانية: في ذي القعدة سنة سبع، وهي عمرة القضاء.
الثالثة: في ذي القعدة سنة ثمان، وهي عام الفتح، حين قسم غنائم حنين.
الرابعة: وكانت مع حجته، وقد أحرم بها في ذي القعدة وأداها في ذي الحجة، ولم يعتمر عليه الصلاة والسلام عمرة قط في رجب.
الوقفة الخامسة: قال العلماء: إنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العمر في ذي القعدة لمخالفة أهل الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا يرون العمرة في ذي القعدة من أفجر الفجور، بهتانا وزورا، ففعله صلى الله عليه وسلم أربع مرات ليكون أبلغ في بيان جوازه، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه من عادات وموروثات ما أنزل الله بها من سلطان (1) .
وبعد، فهذه صورة حية من مجالس الصحابة التي كانت عامرة بالعلم والحرص على اتباع السنة، واقتفاء الأثر، والالتزام بالدليل مع حسن الأدب، وكريم العشرة، ونبل الخصال، وكريم الأخلاق، لا
__________
(1) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8 \ 235، 236.(69/311)
تعرف الخصومات والمنازعات إلى مجالسهم طريقا، وليس للجدل العقيم والنفرة عن قبول الحق والتنكب عنه إلى اجتماعاتهم سبيلا وهكذا كان السلف من بعدهم، كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا سمع قوما يتجادلون يقول: (هؤلاء ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا) ، وهم بذلك يقتدون بأفضل الخلق ومعلم البشرية صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج (1) » ، كرره البخاري ومواضع، ففي كتاب العلم بوب عليه قائلا: (باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها) (2) ، وقال: (باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار) (3) ، وفي كتاب الحج قال: (باب الفتيا على الدابة عند الجمرة) (4) ، وغير ذلك، وهكذا ينبغي للحاج أن يعلم الناس
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1736) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، سنن ابن ماجه المناسك (3051) ، مسند أحمد بن حنبل (2/217) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري 1 \ 180.
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري 1 \ 222.
(4) صحيح البخاري مع الباري 3 \ 569.(69/312)
مناسك الحج، ويرشدهم إلى السنة، ويحثهم على التمسك بها، وينبههم إلى ما يقع منهم من أخطاء ومخالفات لحج النبي صلى الله عليه وسلم، يحث الحجاج على استغلال تلك الأوقات الشريفة، والأزمان الفاضلة، والبقاع الطاهرة، والمشاعر المقدسة بالذكر والتلبية، والصدقة والإحسان، وبذل المعروف، وإسداء الخير بجميع أنواعه، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والصبر على ذلك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.(69/313)
المثال الثالث: من صور تعليم الصحابة غيرهم ميراث النبوة، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان كلام الله عز وجل، إزالة لما يرد من إشكال، وفهما صحيحا للآية، ما رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: «سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كان لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله 3 \ 497 برقم 1643 واللفظ له، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به 9 \ 22.(69/313)
عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله الآية، قالت عائشة: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (1) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 158 (1) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(69/314)
المبحث الثامن: تمسكهم بالسنة وتحذيرهم من الخلاف
كانت للصحابة رضي الله عنه وسلف الأمة -رحم الله الجميع- عناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، تطبيقا وامتثالا، إرشادا وتعليما، تبليغا ودلالة إليها، وحثا على التمسك بها والتحذير من مخالفتها، ومن ذلك هديه عليه الصلاة والسلام، وسنته في الحج، وقد كان لهم معه في حجته وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، مواقف محمودة، ودروس نيرة، حرصا على اتباع السنة واقتفاء الأثر، وترك الخلاف والشقاق، والبعد عن المنازعات والخصومات، وهو السبيل الحق والمنهج الصدق، ولهذا أمثلة كثيرة اشتملت على فوائد وأحكام هامة.
المثال الأول: ما رواه البخاري وغيره عن ابن شهاب سالم قال: (كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في(69/314)
الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنه وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج، فخرج وعليه ملحفة معصفرة، فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة، فقال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج، فسار بيني وبين أبي، فقلت -القائل هو سالم - فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله، قال: صدق) (1) .
اشتملت هذه الحادثة على الأحكام والفوائد التالية:
أولا: في أمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أميره الحجاج بن يوسف الثقفي أن يأخذ بقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مناسك الحج وألا يخالفه، احترام العلماء من قبل العامة والخاصة، وتقديرهم وقبول قولهم في الأحكام، يقول الحافظ ابن حجر: (وأن الأمير يعمل في الدين بقول أهل العلم، ويصير إلى رأيهم) (2) ، ثم إن الواجب على العلماء النصح والإرشاد، والصدق والإخلاص في ذلك قولا وعملا.
ثانيا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، أنه حين
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب التهجير بالرواح يوم عرفة 3 \ 511 برقم 1660.
(2) فتح الباري 3 \ 512.(69/315)
صلى الفجر بمنى، غدا إلى عرفة، حتى نزل نمرة، وهي موضع بقرب عرفات بين طرف الحرم وطرف عرفات، حتى إذا كان صلاة الظهر وزالت الشمس، راح صلى الله عليه وسلم مهجرا -أي مبكرا- فخطب، ثم جمع بين الظهر والعصر، فصلاهما جمع تقديم، ثم راح فوقف إلى غروب الشمس، والسنة أيضا كما قال سالم بن عبد الله وصدقه أبوه عبد الله بن عمر، أن يقصر الخطبة ويعجل الوقوف، استغلالا للموقف بما هو جدير به من التضرع والدعاء، والذكر والابتهال إلى الله عز وجل.
ثالثا: في قول عبد الله بن عمر وابنه سالم للحجاج: (إن كنت تريد السنة) ، بيان لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وترغيب فيها وتشويق إليها، فإن المؤمن محب للرسول صلى الله عليه وسلم ولسنته، وبخاصة في تلك المشاعر المقدسة التي وفد إليها تاركا أهله وماله ووطنه، طالبا رضا ربه ومغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته، فالحاج والحالة هذه حريص غاية الحرص على الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بها والعض عليها بالنواجذ.
رابعا: في حديث سالم بن عبد الله بين يدي والده أمام الحجاج بن يوسف، جواز فتوى طالب العلم بين يدي شيخه أمام السلطان وعامة الناس، وفي صنيع سالم ابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل(69/316)
عنها، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ثم إن الحجاج طلب علو الإسناد في العلم، حيث تشوف إلى سماع تصديق ما تحدث به سالم عن أبيه، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق (1) .
خامسا: جاء في رواية أخرى أن ابن شهاب قال لسالم بن عبد الله بن عمر: (أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سالم: وهل يتبعون بذلك إلا سنته) (2) ، فيه حرص السلف على التثبت في الرواية والتأكد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك لهم من قبل شيوخهم، فالصحابة ومنهم عبد الله بن عمر كانوا من أشد الناس حرصا على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره وتعليمها للأمة وحثهم على العمل والأخذ بها.
سادسا: هذه الحادثة التي كانت بين عبد الله بن عمر وابنه سالم مع الحجاج بن يوسف الثقفي، الأمير من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، صورة واضحة على تطبيق الصحابة وسلف الأمة مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمور، واحترامهم وتقديرهم، ونصحهم وإرشادهم بإخلاص وصدق وحسن تعليم وإرشاد، يظهر هذا في احترام عبد الله بن عمر وابنه سالم أميرهم الحجاج بن يوسف،
__________
(1) فتح الباري 3 \ 512.
(2) رواها البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب الجمع بين الصلاتين بعرفة - 3 \ 513 برقم 1662.(69/317)
حيث تأدبهم في مخاطبته وحديثهم معه، وذهابهم معه في الحج، ودخولهم تحت إمرته، وعدم افتياتهم أو خروجهم عليه وإثارة الخلاف والشقاق ضده، فما كان من ابن عمر وابنه إلا السمع والطاعة فرارا من الفتنة، ونبذا للشقاق والاضطراب، وتحقيقا للمصلحة العامة بطاعة ولاة الأمور، لما يكون في ذلك من النفع العام والخاص للبلاد والعباد.
فالسمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، أصل من أصول العقيدة السلفية، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالافتيات عليهم وشق عصا الطاعة وإثارة الشقاق والخلاف معهم، فساد الدين والدنيا، قال عمر - رضي الله عنه -: " لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة " رواه الدارمي، وقال الحسن بن علي البربهاري في كتاب السنة: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى، وإذ سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى، يقول الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان " (1) . إن ولاة الأمر لهم المكانة العلية والمنزلة الرفيعة في الإسلام،
__________
(1) طبقات الحنابلة 2\36.(69/318)
منحهم الشارع ذلك ليتناسب قدرهم مع علو وظيفتهم ورفيع منصبهم، وهذا هو عين الحكمة والمصلحة التي يرعاها الإسلام في تشريعاته وأحكامه، لذا فقد فرض الإسلام طاعتهم ولزوم جماعتهم، وحذر من مفارقتهم وشق عصا طاعتهم ومخالفة كلمتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (2) » ، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة شبرا فمات، فميتة جاهلية (3) » الحديث، وروى أيضا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك (4) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام - باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية 13\121 برقم 7144، ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 12\326 واللفظ له.
(3) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 12\240.
(4) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 12\224.(69/319)
المثال الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل، قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، قال فكنت أفتي به الناس حتى كان في خلافة عمر - رضي الله عنه -، فقال له رجل: يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس، رويدك بعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فأتموا، قال: فقدم قدم عمر - رضي الله عنه - فذكرت ذلك له فقال: إن نأخذ بكتاب الله، فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى بلغ الهدي محله (1) » .
في هذه القصة مسائل:
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز تعليق الإحرام 8\198 - 200، ورواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أهل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - 3\416 برقم 1559 بأخصر من هذا.(69/320)
الأولى: جواز تعليق الإحرام، فإذا قال أحرمت بإحرام كإحرام زيد، صح إحرامه وكان إحرامه كإحرام زيد، فإن كان زيد محرما بحج أو عمرة أو قارنا، كان المعلق مثله.
الثانية: في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري: " أحسنت " الثناء الجميل على من فعل فعلا حسنا، وأعظمه وأجله اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى الطواف ثم السعي بين الصفا والمروة ولم يذكر الحلق؛ لأنه كان مشهورا عندهم، فإذا فعل هذه الأمور الثلاثة، تحلل من عمرته فبقي حلالا حتى يوم التروية، فيحرم بالحج بعد ذلك، قال النووي - رحمه الله -: " فإن قيل قد علق علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنهما - إحرامهما بإحرام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر عليا بالدوام على إحرامه قارنا، وأمر أبا موسى بفسخه إلى عمرة، فالجواب: أن عليا - رضي الله عنه - كان معه الهدي كما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي، فبقي على إحرامه كما بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - على إحرامه، وكل من معه هدي، وأبو موسى لم يكن معه هدي، فتحلل بعمرة كمن لم يكن معه هدي، ولولا الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعلها عمرة " (1) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 10\199.(69/321)
الرابعة: كان أبو موسى يفتي بما علم مما أرشده نبي الأمة ومعلم البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم أخبر - رضي الله عنه - بأن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين - رضي الله عنه - آنذاك كان يفتي بعدم الإحلال بالعمرة، وأن يظل الواحد منهم على نسكه، فأمسك أبو موسى عن الفتيا وأمر المسلمين بمتابعة إمامهم، وعدم مخالفته فقال - رضي الله عنه -: " يا أيها الناس من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا ".
الخامسة: كل ما سبق دليل على أنه يجب على المسلم السمع والطاعة لولي الأمر، وعدم الافتيات عليه، أو الخروج عن جماعة المسلمين ومنازعتهم، ولا يعني هذا أن أبا موسى ترك الحق أو تهاون في هذه السنة، لكنه لما علم أن فتياه ستحدث شقاقا ومنازعة وخلافا وفرقة بين المسلمين، ترك ذلك رغبة في اجتماع كلمة المسلمين تحت إمامهم وولي أمرهم الذي لم يأت بأمر جديد، ولم يأمر ببدعة أو فجور، فالقران الذي دعا إليه عمر أحد أنساك الحج الثلاثة، وهو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السادسة: في قول أبي موسى: " فذكرت ذلك له - أي ما كان يفتي به الناس - فقال: إن نأخذ بكتاب الله، فإن كتاب الله يأمر(69/322)
بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى بلغ الهدي محله "، في هذا أنه ينبغي مناقشة أهل العلم وسؤالهم عما يشكل بأدب تام وخلق جميل، وقد قيل: الأدب قبل الطلب، فأبو موسى لم يترك ما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبة عنه، بل ذهب يسأل من خالفه ويناقشه رغبة في الوصول إلى الحق، واتباع السنة، وجمع كلمة الناس على ذلك، وقد أجابه عمر - رضي الله عنه - بأن كتاب الله عز وجل أمر بإتمام العمرة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى نحر هديه، فالكل صحيح وقد جاء به الدليل.
وقد جاء في رواية أخرى في صحيح مسلم أن عمر قال: " ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم " (2) ، ومعنى كلامه: كرهت التمتع لأنه يقتضي التحلل ووطء النساء إلى حين دخولهم في نسك الحج.
السابعة: في هذه الحادثة وجوب التثبت في الأمور والتؤدة في إصدار الأحكام، وعدم التعجل في الآراء، ولو كان الأمر بخلاف ذلك، لكان الشقاق والخلاف، وافتراق الكلمة، وكثرة الخصومات والمنازعات، وكلها شر.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح مسلم - كتاب الحج - باب جواز تعليق الإحرام 10\201.(69/323)
المثال الثالث: ما رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب قال: «اجتمع علي وعثمان - رضي الله عنهما - بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنهى عنه، فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك، أهل بهما جميعا (1) » .
قال النووي - رحمه الله -: " المختار أن المتعة التي نهى عنها عثمان هي التمتع المعروف في الحج، وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهي تنزيه لا تحريم، وإنما نهيا عنها؛ لأن الإفراد أفضل - أي في رأيهما - فكان عمر وعثمان يأمران بالإفراد لأنه أفضل، وينهيان عن التمتع نهي تنزيه؛ لأنه مأمور بصلاح رعيته، وكان يرى الأمر بالإفراد من جملة صلاحهم، والله أعلم " (2) ا. هـ.
ومن صلاحهم أن يكثر ترددهم على البيت فلا يبقى مهجورا، وينشئون سفرا آخر للعمرة، وبذلك يكثر زوار البيت، ويعظم الأجر لقاصديه لما بذلوه من جهد ومال ووقت من أجله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والقران والإفراد بالحج - 3\423 برقم 1569، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز التمتع - 8\202.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 8\202.(69/324)
إن ما قصده عمر وعثمان - رضي الله عنهما - من زيارة البيت الحرام عمرة وحجا، من أفضل الأعمال، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه (1) » ، وفي الحث على المتابعة بين العمرة إلى العمرة، والحج إلى الحج وعدم الانقطاع عن البيت العتيق، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة (3) » .
وفي قول عثمان لعلي: " دعنا منك "، ثم قول علي له: " إني لا أستطيع أن أدعك " إشاعة العلم وإظهاره وإحياء السنة والعمل بها بحكمة وأسلوب حسن، وحجة ناصعة ونية طيبة، بعدا عن الخلاف، وإثارة النزاع وشق عصا الطاعة (4) ، وهذا كله ينبثق من قاعدة الإسلام العظيمة التي جاءت في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن الترمذي الحج (811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/229) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(2) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2629) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .
(3) رواه أحمد في المسند 1\25، 387، والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة 3\175 برقم 810، والنسائي في سننه - كتاب الحج - باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة 5\115، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1\560 برقم 2901.
(4) ينظر: فتع الباري 3\425.(69/325)
النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » ، وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (2) » متفق عليه، وقد جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من واجب المسلم على أخيه المسلم في قوله: «وإذا استنصحك فانصح له (3) » ، يقول بعض السلف: " أد النصيحة على أكمل وجه، واقبلها على أي وجه، ومن وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانية فقد فضحه وشانه ".
وهنا مسألتان تجب العناية بهما وامتثالهما:
إحداهما: أن على المسلم، وبخاصة طالب العلم، أن يكون حسن السمت والهدي الصالح، ودوام السكينة والوقار والتواضع، بعدا عن المنازعات والخصومات، واللغط ورفع الأصوات، طلب الحق والوصول إليه هدفه وغايته، وهكذا كان سلف الأمة من
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة - 2\37.
(2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدين النصيحة 1\137 رقم 57، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة - 2\39.
(3) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - كتاب السلام - باب من حق المسلم على المسلم رد السلام 14 / 143(69/326)
الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان - رحم الله الجميع -. قال محمد بن سيرين رحمه الله: " كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم "، فعلى طالب العلم الباحث عن الحق، أن يتحلى بالثبات والتأمل، فإن من تأمل أدرك، لا سيما في الملمات والمهمات، والأمور المشكلة التي قد تزل فيها أقدام الكثير، بسبب العجلة وعدم التؤدة، ولنا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضي الله عنهم - خير أسوة وأمثل قدوة، قال ابن القيم رحمه الله: " إذا جلست إلى عالم فسل تفقها لا تعنتا "، وقال أيضا: " للعلم ست مراتب، أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته، العمل به ومراعاة حدوده " (1) .
وإياك - أخي المسلم - من المماراة في المحاورات والمناظرات، فإنها تحجج ورياء، ولغط وكبرياء عن الحق، كما أنها اختيال وشحناء، ومجاراة للسفهاء، فاحذرها تسلم من المآثم وهتك المحارم، وهكذا فالعلم النافع له علامات أهمها: العمل به، وكراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق، والهرب من حب الترأس والشهرة والدنيا، وقد كان عبد الله بن المبارك، أمير المؤمنين في الحديث، إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
__________
(1) مفتاح دار السعادة ص 184.(69/327)
لا تعرضن بذكرهم في ذكرنا ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد (1)
المسألة الثانية: تبين مما سبق، عناية الصحابة بامتثال السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، وحرصهم على تطبيق ذلك، وعدم منازعتهم والافتيات عليهم؛ لأن السمع والطاعة لولي الأمر، أصل من أصول العقيدة، له أهميته البالغة، إذ بالسمع والطاعة لولاة الأمر، تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالافتيات عليهم ومنازعتهم، قولا أو فعلا، فساد الدين والدنيا معا، واهتمام السلف - رحمهم الله - بهذا، تحمله صور كثيرة، وأمثلة متنوعة، وأقوال مسطرة، مما يدل على أنهم كانوا يولونه اهتماما خاصا، نظرا لما يترتب على الجهل به وإغفاله من الفساد العريض في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد، قال الحسن البصري في الأمراء: " هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم " (2) .
__________
(1) ينظر لما سبق: حلية طالب العلم 16، 17 - 49.
(2) جامع العلوم والحكم لابن رجب 2\117.(69/328)
المثال الرابع: ما رواه البخاري في صحيحه، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلى بنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فاسترجع، ثم(69/328)
قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان (1) » .
لي مع هذا الحديث الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: بوب البخاري على هذا الحديث وغيره بـ " باب الصلاة بمنى "، ولم يذكر حكم المسألة لقوة الخلاف فيها، وخص منى بالذكر؛ لأنها المحل الذي وقع فيه الخلاف قديما، ومع ذلك فقد دلت السنة على أن الحاج يقصر الصلاة الرباعية بمنى ركعتين دون جمع، بل يصلي كل صلاة في وقتها.
الوقفة الثانية: اختلف أهل العلم في سبب إتمام عثمان صلاته بمنى، فقيل لكونه تأهل - أي تزوج - بمكة، فكان له بها أهل، واستدلوا بالحديث الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث عثمان، «أنه لما صلى بمنى أربع ركعات، أنكر الناس عليه، فقال: إني تأهلت بمكة لما قدمت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهل ببلدة، فإنه يصلى صلاة مقيم (2) » ، لكن هذا الحديث لا يصح، وفي رواته
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الصلاة بمنى - 3 9 برقم 1657، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 5\204.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده 1\62، وفي سنده عكرمة الأزدي وهو ضعيف، ينظر فيمن حكم عليه بالضعف: مجمع الزوائد 2\156، نصب الراية 3\271 وقال: '' رواه البيهقي في المعرفة في باب صلاة المسافر، ولم يصل سنده به، ثم قال: هذا حديث منقطع، وعكرمة الأزدي ضعيف ''.(69/329)
من لا يحتج به، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر بزوجاته ويقصر.
القول الثاني: أن عثمان كان أمير المؤمنين، وكل موضع له دار، ورد هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك، ومع ذلك فإنه لم يتم بل كان يقصر.
القول الثالث: أنه عزم على الإقامة بمكة، ورد هذا بأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام، كما جاء ذلك في عدة أحاديث، ومن أقرب ما قيل في سبب إتمامه أقوال منها: أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان سائرا في الطريق، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، وقيل: إن عثمان كان يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك لأمته، وقيل: روى أبو داود وغيره عن الزهري قال: " إنما صلى عثمان بمنى أربعا، لأن الأعراب قد كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع " (1) ، ويؤيده هذا ما رواه البيهقي، «أن عثمان أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ولكنه حدث طغام - أي جهال - فخفت أن يستنوا (2) » ، وعن ابن جريج أن أعرابيا نادى عثمان في منى
__________
(1) رواه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب الصلاة بمنى 2\200 برقم 1964.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى - كتاب الصلاة - باب من ترك القصر في السفر غير رغبة عن السنة - 3\144.(69/330)
فقال: " يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول - أي لما كان يقصر - ركعتين " (1) ، وبكل حال ففعل عثمان - رضي الله عنه - اجتهاد منه، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القصر دون الجمع في منى، والإتمام جائز.
الوقفة الثالثة: في قول الراوي عن ابن مسعود، أنه استرجع - أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون -، ما ينبغي للمسلم إذا رأى أمرا غريبا أو مستنكرا، أن يسترجع أو يقول: سبحان الله، أو الله أكبر.
الوقفة الرابعة: في قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: " فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان "، أنه كان يرى جواز الإتمام، وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها، فإنها تكون فاسدة كلها، ولذلك فقد أتم مع عثمان، قال ابن قدامة: " المشهور عن أحمد أنه على الاختيار - أي بين الإتمام والقصر - والقصر عنده أفضل، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين " (2) .
الوقفة الخامسة: كان استرجاع ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى وهو القصر، ويؤيده ما رواه أبو داود والبيهقي " أن ابن مسعود صلى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان، ثم صليت أربعا،
__________
(1) ينظر لما سبق فتح الباري 2\564 - 565.
(2) ينظر: شرح النووي 5\204، فتح الباري 2\565.(69/331)
فقال: الخلاف شر "، وفي رواية البيهقي: " إني لأكره الخلاف " (1) ، وروى مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان " إذا صلى مع الإمام صلى أربعا - أي مع عثمان - وإذا صلاها وحده صلى ركعتين " (2) ، وفي هذا كله طاعة ولي الأمر، وعدم شق عصا طاعته ومنابذته، وحرمة إثارة الناس عليه ومنازعته، فابن مسعود يعلم أن السنة القصر، والإتمام جائز، ومع ذلك لما رأى أمير المؤمنين عثمان بن عفان يتم أتم معه، ولم يعتزل الأمير، ولم يثر عليه الناس، بل دعا إلى الصلاة خلفه والإتمام به، لما يعلم من أضرار مخالفة ولي الأمر، وما يكون بعدها من الفساد العريض، وقال - رضي الله عنه - قولته التي تنم عن علم وبصيرة، وحكمة وروية: " الخلاف شر "، فهو يكره الخلاف والنزاع، ويبغض المشاقة ونزع يد الطاعة، وفي قوله وعمله دعوة لغيره كي يقتفوا أثره ويسيروا على نهجه، أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني (3) » رواه الشيخان عن أبي
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى فيما سبق 3\144.
(2) رواه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها 5\203.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2957) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .(69/332)
هريرة - رضي الله عنه -.
هذه النصوص وغيرها كثير، دالة على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية، فهذا الأصل من الأصول المقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة، وفي المقابل فقد حذر - عليه الصلاة والسلام - من الفرقة والخلاف، وإثارة الناس ونزع يد الطاعة، وتوعد من فعل ذلك، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية (1) » رواه مسلم، وعلى السمع والطاعة كان عليه الصلاة والسلام يبايع أصحابه، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في السر والعلن، وعلى النفقة في العسر واليسر والأثرة، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان (2) » رواه الشيخان.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 12\240.
(2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام - باب كيف يبايع الإمام الناس 13\192 برقم 7199، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 12\228 واللفظ له.(69/333)
المثال الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى (1) » ، قال نافع: " فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ".
اشتمل هذا الحديث على الفوائد الآتية:
الأولى: جاء في حديث ابن عمر هنا، أنه عليه الصلاة والسلام أفاض يوم النحر، أي: طاف طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج بإجماع العلماء، ويستحب فعله يوم النحر أول النهار، بعد الرمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق، أجزأه ولا دم عليه بالإجماع، فإن أخره إلى ما بعد أيام التشريق، وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عند أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا طال تأخيره لزمه معه دم.
الثانية: في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر يوم النحر بمنى، بعد ما فرغ من طواف الإفاضة، وجاء في حديث
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1308) ، سنن أبو داود المناسك (1998) ، مسند أحمد بن حنبل (2/34) .(69/334)
جابر - رضي الله عنه - الطويل في صفة حجته - صلى الله عليه وسلم - أنه أفاض عليه الصلاة والسلام يوم النحر، فصلى بمكة الظهر (1) ، قال الإمام النووي: " ووجه الجمع بينهما، أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى، وهذا كما ثبت في الصحيحين في صلاته - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف، فإنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة من أصحابه الصلاة بكمالها وسلم بهم، ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى، فكانت له صلاتان ولهم صلاة، وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل، فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه، لا لطواف الإفاضة، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث " (2) .
الثالثة: في قول نافع: " فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله "، دليل على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على اتباع سنة النبي - صلى
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 8\194.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 8\193.(69/335)
الله عليه وسلم - واقتفاء أثره، ولهم في ذلك مواقف محمودة، تدل دلالة واضحة على صدق محبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - من آثار ذلك اتباع سنته، واقتفاء أثره قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) ويقول جل وعلا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (2)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة النور الآية 54(69/336)
المثال السادس: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، عن عبد العزيز بن رفيع قال: «سألت أنس بن مالك قلت: أخبرني بشيء عقلته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النحر؟ قال: بالأبطح، ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك (1) » "، وفي رواية «انظر حيث يصلي أمراؤك فصل (2) » .
في هذا الحديث الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: ذكر الحافظ ابن حجر أن سبب تسمية يوم التروية بهذا الاسم، أن الناس كانوا يروون فيه إبلهم، ويتروون من
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1653) ، صحيح مسلم الحج (1309) ، سنن الترمذي الحج (964) ، سنن النسائي مناسك الحج (2997) ، سنن أبو داود المناسك (1912) ، مسند أحمد بن حنبل (3/100) ، سنن الدارمي المناسك (1872) .
(2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب أين صلى الظهر يوم التروية 3\507 برقم 1653 - 1654، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر 9\58.(69/336)
الماء؛ لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وقد قيل في سبب التسمية أقوال شاذة منها: أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها، ومنها أن إبراهيم رأى ليلته أنه يذبح ابنه إسماعيل، فأصبح متفكرا يتروى، ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج، وقيل غير ذلك، وكلها أقوال شاذة لا تصح (1) .
الوقفة الثانية: دل هذا الحديث وغيره على أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية وكذا العصر والمغرب والعشاء وفجر يوم التاسع بمنى، هذا مذهب الجمهور، وقد جاء في حديث جابر الطويل في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم: «فلما كان يوم التروية، توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر (2) » ، هذا هو السنة، لكن لو لم يصل هذه الصلوات بمنى يوم التروية فلا شيء عليه، لكنه خالف الأفضل والأولى، وقد روي عن بعض الصحابة أنهم كانوا لا يصلون الظهر يوم التروية بمنى، إنما يصلونها بمكة، روي هذا عن ابن الزبير وابن عباس وعائشة وغيرهم - رضي الله عنهم -، فعدم صلاتهم بمنى لضرورة أو لبيان الجواز، قال ابن المنذر: " إن من السنة أن يصلي الإمام الظهر
__________
(1) فتح الباري3\507.
(2) صحيح مسلم - كتاب الحج - باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 8\180.(69/337)
والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا " (1) .
الوقفة الثالثة: في قول أنس: " افعل ما يفعل أمراؤك "، الأمر بطاعة ولي الأمر ومتابعته وعدم مخالفته، والالتزام بجماعة المسلمين وعدم الخروج عليهم، أو الافتيات على أمرائهم، قال الحافظ ابن حجر: " وفي الحديث أيضا الإشارة إلى متابعة أولي الأمر، والاحتراز عن مخالفة الجماعة " (2) ، فقد أمر أنس السائل بأن يصلي مع الأمراء حيث يصلون، ولا يتخلف عن جماعة المسلمين، فالصلاة للحجاج في غير منى يوم التروية جائزة، وإن كان الأفضل الصلاة بها، لكن لا يكون هذا مدعاة إلى مخالفة ولي الأمر، وإثارة الفرقة والخلاف بين الناس، وزعزعة الصف واضطراب الأمور، عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا. . . (3) » الحديث، رواه أحمد والحاكم والطبراني، وروى
__________
(1) ينظر: فتح الباري 3\509، شرح النووي على صحيح مسلم 8 \180.
(2) فتح الباري 3\509.
(3) رواه أحمد في المسند 6\19، والطبراني في المعجم الكبير 18\306 برقم 788، والحاكم في المستدرك - كتاب العلم - 1\119 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 2\81 برقم 542.(69/338)
أحمد عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب (1) » .
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4\278، وقال الهيثمي ''رجاله ثقات'' مجمع الزوائد 5\218، 8\182، وقال الألباني '' هذا إسناد حسن رجاله ثقات '' السلسلة الصحيحة 2\272 برقم 667.(69/339)
المبحث التاسع: حرصهم على اتباع السنة وتطبيقها
لقد ضرب الصحابة - رضي الله عنهم - المثل الأعلى في اتباع السنة والتمسك بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حفلت كتب السنة بنقل ذلك بالأسانيد الصحيحة، فكانوا قدوة لمن بعدهم في اتباع السنة وسرعة الاستجابة، والانقياد التام لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما جاء في الحج ومن أمثلته:
المثال الأول: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها، وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك (1) » .
قوله: " بذي الحليفة " هذا من مواقيت الحج المكانية لأهل المدينة، ولمن أتى عليه ممن أراد الحج أو العمرة، ومعنى " أناخ "، أي برك بعيره، والمراد أنه نزل بها، وقوله: " فصلى بها "، يحتمل أن يكون للإحرام، ويحتمل أن يكون للفريضة، ولكن جاء بيان ذلك
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - 3\391 برقم 1532.(69/339)
في حديث أنس - رضي الله عنه - «أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر بذي الحليفة ركعتين (1) » ، وكان ابن عمر، وهو المعروف بحرصه على اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، كما صنع القدوة المعلم عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح3\407 برقم 1547.(69/340)
المثال الثاني: ما رواه نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أنه كان إذا صلى الغداة بذي الحليفة، أمر براحلته فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما، ثم يلبي حتى يبلغ المحرم، ثم يمسك حتى إذا جاء ذا طوى، بات به حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك» ، وفي رواية أخرى «كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة، ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد الحليفة فيصلي ثم يركب، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل (1) » .
اشتمل هذا الحديث على مسائل:
الأولى: بوب البخاري في صحيحه على هذا الحديث بقوله:
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الإهلال مستقبل القبلة 3\412 - 413 برقم 1553 - 1554 واللفظ له، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان أن الأفضل أن يحرم حين تنبعث به راحلته 8\96 - 97.(69/340)
" باب الإهلال مستقبل القبلة "، قال الحافظ ابن حجر: " قوله: " استقبل القبلة قائما " أي مستويا على ناقته، أو وصفه بالقيام لقيام ناقته، وقد جاء في الرواية الثانية بلفظ " فإذا استوت به راحلته قائمة ".
المسألة الثانية: قوله: " ثم يلبي حتى يبلغ المحرم ثم يمسك، حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح "، ظاهره أنه كان يترك تكرار التلبية والمواظبة عليها ورفع الصوت بها، الذي يفعله في أول الإحرام، لا أنه كان يترك التلبية إذا جاء الحرم، أما قطع التلبية، فقد دلت الأحاديث الصحيحة، أن المعتمر يقطع التلبية إذا بدأ بالطواف، أما الحاج فيقطع التلبية عند رمي جمرة العقبة يوم العيد.
قال المهلب: " استقبال القبلة بالتلبية هو المناسب؛ لأنها إجابة لدعوة إبراهيم، ولأن المجيب لا يصلح له أن يولي المجاب ظهره، بل يستقبله "، قال الحافظ ابن حجر: " من لازم الموجه إلى مكة في ذلك الموضع أن يستقبل القبلة " (1) ، أما ذو طوى، فيقال بضم الطاء وفتحها، واد معروف بقرب مكة، ويعرف ببئر الزاهر وهو مقصور منون وقد لا ينون (2) ، وقد ذكر العلماء الخلاصة في اغتساله - صلى
__________
(1) فتح الباري 3\414.
(2) معجم البلدان 4\45، فتح الباري 3\413.(69/341)
الله عليه وسلم - بذي طوى، أنه لطول السفر ومشقة الطريق. قال ابن التين: " لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة، وإنما ذكروه للطواف، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف " (1) .
المسألة الثالثة: قوله: " وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك "، القائل هو نافع الراوي عن ابن عمر، والزعم هنا يطلق على القول الصحيح، وقد جاء في رواية: " ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك " (2) ، وليس المراد بالزعم هنا الافتراء والكذب، وهنا جمع ابن عمر بين تطبيق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفعل، ثم بين أن ما صنعه هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الجمع بين الأمرين ما يدل على حرصه على التمسك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا، وثانيا إرشاد الناس وتعليمهم هذه السنة، ودعوتهم إلى العمل بها، كما صنع هو - رضي الله عنه -.
__________
(1) فتح الباري 3\435.
(2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الاغتسال عند دخول مكة3\435 برقم 1573.(69/342)
المثال الثالث: ومن تطبيق الصحابة للسنة وفرحهم بذلك، ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة بن عمران الضبعي قال:(69/342)
" تمتعت، فنهاني ناس، فسألت ابن عباس - رضي الله عنه - فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: أقم عندي فأجعل لك سهما من مالي "، قال شعبة - الراوي عن أبي جمرة - فقلت: لم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت (1) .
كان سؤال أبي جمرة لابن عباس زمن ولاية عبد الله بن الزبير، وكان ينهى عن المتعة كما رواه مسلم من حديث جابر (2) ، فسأل ابن عباس، فأمره أن يستمر في عمرته ثم يحل منها، ثم يحرم بالحج، وهذا أحد أنساك الحج الثلاثة، قال الحافظ ابن حجر: " ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم. بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا الموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل" (3) ، ففي هذه القصة من إرشاد ابن عباس السائل إلى الأخذ بسنة النبي - صلى الله
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والقران والإفراد بالحج 3\422 برقم 1567.
(2) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز التمتع في الحج والقران 8\233.
(3) فتح الباري 3\431.(69/343)
عليه وسلم - ثم فرحه بهذه الرؤيا الصالحة، وإكرامه له بأن أعطاه جزءا من ماله، ما يدل دلالة واضحة على حرص الصحابة على الأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقديمها والعمل بها.(69/344)
المثال الرابع: من هذه الأمثلة والمواقف: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور، أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، ثم قال: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك (1) » ، هذا الخبر عن عمر، يدل على تمام الانقياد والطاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ظهرت الحكمة في فعل هذا الأمر أو تركه أم لم تظهر، قال الطبري: " إنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس، أن استلامه اتباع لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان " (2) ، وقال الحافظ ابن حجر: " وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما ذكر في الحجر الأسود 3\462 برقم 1597، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف 9\17.
(2) فتح الباري 3\462، 463.(69/344)
الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد، أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك " (1) .
__________
(1) فتح الباري 3\463.(69/345)
المثال الخامس: ومثل عمر في اتباعه السنة وحرصه على تطبيقها والعمل بها، ابنه عبد الله حيث روى البخاري أن رجلا سأل ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن استلام الحجر، فقال: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله، قال قلت: أرأيت إن زحمت؟ أرأيت إن غلبت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله " (1) .
السائل هنا هو الراوي عن ابن عمر فيما رواه أبو داود الطيالسي وهو الزبير بن العربي (2) ، وإنما قال له ذلك؛ لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي، فأنكره عليه ذلك، وأمره إذا سمع الحديث
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب تقبيل الحجر 3\475 برقم 1611.
(2) ينظر: مسند أبي داود الطيالسي ص254 برقم 1864(69/345)
أن يأخذ به ويتقي الرأي، والظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرا في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: " رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى " (1) هذا رأي ابن عمر - رضي الله عنهما -، لكن قد ثبت في الأحاديث الأخرى، أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتقبيل الحجر الأسود، فإن لم يتيسر استلمه بيده أو عصاه، فإن لم يتيسر الاستلام أشار إليه وكبر، ولا يزاحم الناس ويضايقهم، وقد روى الفاكهي من طرق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كراهة المزاحمة، وقال: " لا يؤذي ولا يؤذى " قال الحافظ ابن حجر: " فائدة: المستحب في التقبيل ألا يرفع به صوته، وروى الفاكهي عن سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فالا ترفع بها صوتك كقبلة النساء " (2) .
__________
(1) ينظر: فتح الباري 3\476.
(2) ينظر: فتح الباري 3\476.(69/346)
المثال السادس: جاء في إحدى روايات حديث عمر السابق في آخره أنه قال: «ما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه (1) » ، (2) الرمل بفتح الراء والميم الإسراع، قال ابن دريد: (هو شبيه
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1605) .
(2) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الحج والعمرة 3\ 471 برقم 1605.(69/346)
بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، وهو سنة في الثلاثة الأشواط الأولى) ، وجاء في رواية أبي داود «فيم الرملان بالكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » ، والمراد به الاضطباع، وهو أن يدخل رداءه تحت إبطه الأيمن تم يرد طرفيه على منكبه الأيسر، فيبدي منكبه الأيمن ويستر الأيسر، وهو مستحب عند الجمهور، وفي سؤال عمر هذا ثم قوله: (شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه) ، دليل على صدق المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واتباع سنته واقتفاء أثره، وقول عمر هنا (مالنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين) ، معناه: أي أريناهم بذلك أنا أقوياء، قال الحافظ ابن حجر (ومحصله: أن عمر كان هم بترك الرمل في الطواف؛ لأنه عرف سببه وقد انقضى، فهم أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها، فرأى أن الاتباع أولى من طريق المعنى، وأيضا كأن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك، فيتذكر نعمة
__________
(1) رواه أبو داود في سننه- كتاب المناسك- باب في الرمل 2\178، 179 برقم 1887.(69/347)
الله على إعزاز الإسلام وأهله) (1) ، وفي هذه القصة مسألتان:
إحداهما: أنه استشكل قول عمر (راءينا) مع أن الرياء بالعمل مذموم، والجواب أن صورته وإن كانت صورة رياء، لكنها ليست مذمومة؛ لأن المذموم أن يظهر العمل ليقال إنه عامل، ولا يعمله بغيبة إذا لم يره أحد، وأما الذي وقع في هذه القصة، فإنما هو من قبيل المخادعة في الحرب، لأنهم أوهموا المشركين أنهم أقوياء لئلا يطمعوا فيهم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة (2) »
الثانية: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاثة الأشواط الأولى لم يقضه في الأربع الباقية، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والرمل خاص بالرجال، فلا رمل على النساء خشية تكشفهن، قال النووي: (واتفق العلماء على أن الرمل لا يشرع للنساء، كما لا يشرع لهن شدة السعي بين الصفا والمروة) (3) ، وقال الطبري: (قد
__________
(1) فتح الباري 3\472.
(2) جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه -كتاب الجهاد والسير- باب الحرب خدعة 6\158 برقم 3029- 3030، ومسلم في صحيحه -كتاب الجهاد- باب جواز الخداع في الحرب 12\45 من حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 9\7.(69/348)
ثبت أن الشارع رمل ولا مشرك يومئذ بمكة -يعني في حجة الوداع- فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية، بل لصفتها ولا شيء عليه) (1) .
__________
(1) ينظر: فتح الباري 3\472.(69/349)
المثال السابع: ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم، فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين (1) » ، وفي رواية أخرى «أنه كان إذا دخل الكعبة، مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاث أذرع فيصلي، يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى فيه، وليس على أحد بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء (2) » هكذا كان ابن عمر
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء 3\463 برقم 1598، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره 9 \86.
(2) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب الصلاة في الكعبة 3\467 برقم 1599.(69/349)
رضي الله عنهما حريصا على تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك صلاته -عليه الصلاة والسلام - في الكعبة، فسأل ابن عمر عن موضعه الذي صلى فيه، لأنه لم يكن قد دخل معه، ثم صلى فيه. قال الحافظ ابن حجر: (وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- ليعمل بها) (1) .
__________
(1) فتح الباري 3\466.(69/350)
المثال الثامن: من أمثلة حرص الصحابة والتابعين على تتبع السنة والعمل بها، والبحث عن الأفضل، ما جاء في صلاة الركعتين اللتين بعد الطواف، فهما سنة تصليان خلف المقام إن تيسر، فإن لم يتيسر لزحام أو غيره صلاهما في أي موضع، قال البخاري: (قال نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصلي لكل سبوع ركعتين، وقال إسماعيل بن أمية: قلت للزهري إن عطاء يقول: تجزئه المكتوبة من ركعتي الطواف، فقال: السنة أفضل، لم يطف النبي -صلى الله عليه وسلم- سبوعا قط إلا صلى ركعتين، ثم روى البخاري بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعا، ثم صلى خلف المقام ركعتين، وسعى بين الصفا والمروة، وقال: (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1624) ، صحيح مسلم الحج (1234) ، سنن النسائي مناسك الحج (2960) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .
(2) سورة الأحزاب الآية 21 (1) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(69/350)
ومما يدل على تمسكهما بالسنة واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن الأدب وكريم التعامل مع المخالف، ما رواه مسلم عن وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال: «كنت جالسا عند ابن عمر، فجاء رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم، فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تأخذ، أو بقول ابن عباس إن كنت صادقا (1) » .
وفي رواية قال: (سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما، أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج؟ فقال: وما يمنعك؟ قال: إني رأيت ابن فلان يكرهه، وأنت أحب إلينا منه، رأيناه قد فتنته الدنيا، فقال: وأينا وأيكم لم تفتنه الدنيا، ثم قال: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، فسنة الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع من سنة فلان إن كنت صادقا) (2) قال النووي: (هذا الذي قاله ابن عمر هو إثبات
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1233) ، سنن النسائي مناسك الحج (2929) .
(2) صحيح مسلم -كتاب الحج- باب استحباب طواف القدوم للحاج والسعي بعده 8\217-218.(69/351)
طواف القدوم للحاج، وهو مشروع قبل الوقوف بعرفات، وبهذا الذي قاله ابن عمر، قال العلماء كافة سوى ابن عباس، وكلهم يقولون: إنه سنة ليس بواجب، إلا بعض أصحابنا ومن وافقه، فيقولون واجب يجبر تركه بالدم، والمشهور أنه سنة ليس بواجب ولا دم في تركه) (1) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 8\217.(69/352)
المبحث العاشر: الاهتمام بالسنة وثمار اتباعها
إن أحق ما اعتنى به المسلم، وأولى ما صرف فيه أوقاته العمل الدؤوب على اقتفاء آثار النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بها في حياته، فهي الهداية الموصلة إلى دار السعادة، قال عز وجل: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) وقد جمع هذا كله في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3) قال ابن كثير عند هذه الآية: (أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله) (4) .
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) تفسير القرآن العظيم 6\391.(69/352)
لذا فقد بذل علماء السنة والجماعة جهودا ظاهرة في خدمة السنة النبوية، تأليفا وتحقيقا وتعليما وحثا للناس على التمسك بها وإرشادا إليها، تلك الجهود المبذولة، التي فنيت فيها الأعمار، وتجشمت من أجلها الأخطار، وأوثر في سبيلها الإعسار على الإيسار، فوصلت إلينا سنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- محفوظة مكلوءة بعناية الله، لينصب جهدنا في تعلمها وتعليمها، ودعوة الناس إلى العمل بها، وفي أولئك يقول أبو عبد الله الحاكم: (قوم سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين لسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين) (1) .
إن شرف المؤمن ومنزلته إنما تقاس باتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما كان تحريه للسنة عملا بها أكثر، كان بالدرجات العلى أحق وأجدر، قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) قال الحسن البصري: (فكان علامة حبهم إياه، اتباع سنة رسوله عليه الصلاة والسلام) (3) ، ولقد حثنا صلوات الله وسلامه عليه على الأخذ
__________
(1) معرفة علوم الحديث ص2.
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره 2\633، وروى الطبري نحوه في تفسيره 6\ 323.(69/353)
بسنته والعمل بها، روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: « (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » وفي المسند وغيره عن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا، قال: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين (2) » الحديث.
أما أقوال الصحابة والتابعين في الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكثيرة منها: ما رواه الدارمي عن الزهري قال (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة) (3) ، وروى المروزي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: (السنن السنن،
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الجمعة- باب خطبته صلى الله عليه وسلم في الجمعة 6\153-154.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 4\126، وصححه شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم 2\579.
(3) رواه الدارمي في سننه -باب اتباع السنة 1\45.(69/354)
فإن السنن قوام الدين) (1) ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الأوزاعي أنه قال: (كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله) (2) ، وروى الدارمي عن عبد الله الديلمي أنه قال: (بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة) (3) .
ومتى حافظ المسلم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، علما وعملا وتعليما، حصل له من الفوائد والنتائج الطيبة والثمار المباركة ما لا يخطر ببال، يقول ابن قدامة رحمه الله: (وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم) (4) ، ومن آثار العمل بالسنة: الوصول إلى درجة المحبة، محبة الله عز وجل لعبده المؤمن، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته
__________
(1) رواه المروزي في كتاب السنة ص 342.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية 6\142.
(3) ، رواه الدارمي في سننه -باب اتباع السنة 1\45.
(4) ذم الموسوسين لابن قدامة ص41.(69/355)
كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (1) » ، بمعنى أن الله يوفقه لاستعمال جوارحه في حدود الشرع والمباح، ويكفه عن الحرام، وفي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض (2) » هذا لفظ البخاري.
ومن فوائد العمل بالسنة: أن في العمل بها عصمة من الوقوع في البدع، قال بعض السلف: (لم يضيع أحد فريضة من الفرائض، إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلى بالبدع) (3) .، فالبدع إنما تفشو إذا انطفأ نور السنة، وقل العاملون بها والداعون إليها، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما يأتي على الناس من عام، إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الرقاق- باب التواضع 11\340 برقم 6502.
(2) رواه البخاري في صحيحه -كتاب بدء الخلق- باب ذكر الملائكة 6/ 303 برقم 3209، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب البر والصلة والآداب- باب محبة الله للعبد 16\183-184،
(3) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية ص 52(69/356)
حتى تحيا البدع وتموت السنن) (1) ، ومنها أن الحرص على القيام بالسنن من تعظيم شعائر الله، وفي ذلك يقول عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) قال الإمام الشنقيطي: (وشعائر الله عام في جميع شعائر الله، ومنها المناسك كلها، ومعنى تعظيمها إجلالها والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وتعظيم هذه الشعائر لا يقوم إلا بقلب بلغ من التقوى ذراها، لأن المعظم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه، فتعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله) (3) ، وإن من أعظم شعائر الله تعالى، السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحافظة عليها، والوصية بها، من إجلال هذه الشعائر وتعظيمها.
__________
(1) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية ص 52
(2) سورة الحج الآية 32
(3) أضواء البيان 5\692(69/357)
المبحث الحادي عشر: المداومة على العمل الصالح بعد الحج
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (1) أجلها وأعظمها الهداية لدين الإسلام، والتوفيق للطاعة، والإعانة على أدائها والقيام بها، ومن أجل الطاعات وأفضل القربات، حج بيت الله الحرام؛ حيث يقوم الحجاج بقصد بيت الله
__________
(1) سورة النحل الآية 53(69/357)
العتيق، والتنقل بين تلك المشاعر المقدسة، وأداء تلك المناسك العظيمة، راجين ما عند الله من الرحمة والرضوان، والعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان، «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (1) » ، أما من لم يتيسر له الحج، فقد وفق- بإذن الله- للاجتهاد في أيام العشر الفاضلة، وتعرض لنفحات المولى جل وعلا في أيامها المباركة؛ حيث الصلاة والصيام، والتكبير وتلاوة القرآن.
إنه ليس شيء أحب إلى المؤمن الصادق من أن يبذل ما يملك ويترك ما يحب، من أجل نيل رضا ربه عنه، ومغفرته ذنوبه، ومحو زلاته، وإقالة عثراته، لذا فقد ترك الزوجة والأولاد، وهجر المال والدار، متجشما الصعاب، متحملا المتاعب في سبيل الوصول إلى، أشرف بقعة وأطهر مكان، ليتنقل بين شعائرها بقلب منيب وجل خائف، أمله في الله لا ينقطع، ورجاؤه في رحمة أرحم الراحمين لا يخيب.
ومع هذا البذل والعطاء وتلبية النداء، فإن الخسارة العظمى والفادحة الكبرى، لمن رجع من حجه على غير طائل، خرج من حجه خائبا محروما، لم يظفر من حجه إلا الذهاب والإياب، والجهد والمشقة، والنصب والتعب والعناء، نعوذ بالله من الخذلان، لذا فقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .(69/358)
ويخافون من رده، وهؤلاء هم المؤمنون الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (1) «قالت عائشة: يا رسول الله! هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: لا يا بنت أبي بكر، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف الله عز وجل (3) » ، وفي رواية «وهم يخافون ألا يقبل منهم (4) » ، ولذلك لما قيل لابن عمر رضي الله عنهما، ما أكثر الحاج، قال: (بل ما أكثر الركب وأقل الحاج) ، وقال علي رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (5) ، (6) وقال أبو الدرداء: (لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (7) (8) ، وقال عبد العزيز بن أبي رواد - حاكيا حال السلف رحمهم الله-: " أدركتهم يجتهدون
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 60
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3175) ، سنن ابن ماجه الزهد (4198) .
(3) سورة المؤمنون الآية 60 (2) {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}
(4) رواه الإمام أحمد في المسند 6\ 159، والترمذي في سننه- كتاب تفسير القرآن- باب من سورة مريم 5\ 306- 307 برقم 3175.
(5) سورة المائدة الآية 27
(6) ينظر: لطائف المعارف 375.
(7) سورة المائدة الآية 27
(8) ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 85 وعزاه لابن أبي حاتم عنه(69/359)
في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم، أيقبل منهم أم لا؟) (1) .، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل (أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا بها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل) (2) .
وإن من الخسارة كذلك، أن يلوث الحاج ما عاشه فيما مضى من لذة المناجاة ونعيم الطاعة بالمعاصي والذنوب، وأن ينقض تلك العهود التي قطعها على نفسه ألا يعود إلى الخطأ والزلل مرة أخرى، وإذا كان فعل السيئة قبيحا، والوقوع قي الخطيئة جرما، فإن ذلك يعظم ويقبح إذا كان بعد طاعة من أجل الطاعات، ألا وهي حج بيت الله الحرام.
إن الخير كل الخير، والطهر كل الطهر، أن يحج أحدنا وترى أثار حجه عليه، بلزوم العهد القديم والمسلك القويم، الذي كان عليه في الحج، وليكن خروجنا من هذه الطاعات خروج الغانم الكاسب المغتبط بما وفقه الله لطاعته ولزوم عهده، فالمؤمن الصادق يخرج من طاعة إلا ويدخل في أخرى، محياه ومماته لله رب العالمين، قال الحسن البصري رحمه الله: (آية الحج المبرور: أن يرجع زاهدا
__________
(1) ينظر: لطائف المعارف 376
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور 2\485 وعزاه لابن أبي الدنيا عنه(69/360)
في الدنيا راغبا في الآخرة) (1) ، وإن من علامة قبول الطاعة أن توصل بالطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية، فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك) (2) ، وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم رحمه الله: (اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة) (3) . وقد تضعف النفس في الاستمرار على العمل الصالح والمداومة عليه، ولمعالجة هذا الداء لا بد من العزيمة الصادقة على لزوم العمل والمداومة عليه، أيا كانت الظروف والأحوال، وهذا يستلزم نبذ العجز والكسل والدعة والخمول، وإذا كان الإنسان يكره الموت الذي فيه انقطاع حياته، ويكره الهرم الذي فيه انهيار شبابه وقوته، ألا يدرك أن هناك أمرا- لربما كان أشد منهما- وهو العجز والكسل، وضعف الهمة والتراخي، والتسويف وركوب بحر التمني، مما يقعده عن كل عمل صالح، ويثبطه عن كل بر وطاعة.
وقد كانت حياة السلف، رحمهم الله، معمورة بطاعة الله حتى يلقوا ربهم، وأقوالهم وأحوالهم في ذلك كثيرة، قال ميمون بن مهران:
__________
(1) ينظر لطائف المعارف125
(2) ينظر: لطائف المعارف129
(3) ينظر: لطائف المعارف129(69/361)
(لا خير في الحياة إلا لتائب، أو رجل يعمل في الدرجات، ومن عداهما فخاسر) ، وقال بعضهم يحكي حالهم: (كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس) (1) .، يريد: أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله، قيل: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله (2) » .
فالمؤمن الصادق لا يزداد بطول عمره إلا خيرا، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب (3) » ، وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا (4) » ، وعنه أيضا: قال رسول
__________
(1) ينظر لطائف المعارف517
(2) رواه الترمذي- كتاب الزهد- باب رقم 22، 4\489 ورقم الحديث 2330، ورواه أحمد في المسند 5\40 و 43
(3) رواه البخاري في صحيحه- كتاب المرضى- باب تمني المريض الموت 10\127 برقم 5673
(4) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الذكر والدعاء- باب كراهة تمني الموت لضر نزل به 17/ 8(69/362)
الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم ألا يكون نزع (1) » ، فإذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة من العمل الصالح، فكيف يكون حال المسيئ؟ وكان السلف رحمهم الله لا يفرحون بمرور الأيام والليالي، يقول أبو الدرداء: (إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك) ، وقال بعضهم: (كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة) ، ولذا كانوا يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم الصالحة بالموت، بكى معاذ - رضي الله عنه - عند موته وقال: (اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا لا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، إنما أبكي لظمأ الهواجر وقيام الليالي المظلمة، ومزاحمة العلماء بالركب، ومجالسة أناس ينتقون أطايب الكلام، كما ينتقى أطايب الثمر) ، وقال أحد الصالحين عند موته: (إنما أبكي على أن يصلي المصلون ولست فيهم، وأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم) (2) .
فما أعظم الانتكاسة بعد الطاعة، وما أقبح العود إلى الغفلة بعد الذكرى والموعظة، كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم
__________
(1) رواه الترمذي في سننه- كتاب الزهد- باب رقم58، 4\ 522 برقم 2404.
(2) ينظر لما سبق: لطائف المعارف519.(69/363)
ثبت قلبي على دينك (1) » ، ومن دعائه أيضا: «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور (2) » .
وإن للمداومة على الأعمال الصالحة أثارا حميدة منها: دوام اتصال القلب بخالقه وبارئه، مما يعطيه قوة وثباتا، وتعلقا بالله عز وجل، وتوكلا عليه، ومن ثم يكفيه همه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) ومن الآثار كذلك: تعاهد النفس عن الغفلة، وترويضها على لزوم الخيرات، حتى تسهل عليها فلا تكاد تنفك عنها رغبة فيها، وقد قيل: (نفسك إن لم تشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية)
__________
(1) رواه بهذا اللفظ: ابن ماجه في سننه- كتاب الدعاء- باب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم 2\ 325، وصححه الألباني، ورواه الترمذي في سننه- كتاب الدعوات- باب 89 بلفظ '' يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك 5\ 503 برقم 3522، ورواه أحمد في المسند 2\168 بلفظ ''اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك '' وله روايات أخرى.
(2) جزء من حديث رواه عبد الله بن سرجس رضي الله عنه، روي ''الكور'' و ''الكون ''، رواه عنه الإمام أحمد في مسنده 5 / 3، وابن ماجه في سننه- كتاب الدعاء- باب ما يدعو به الرجل إذا سافر 2\ 336 وصححه الألباني، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب الذكر إذا ركب دابته متوجها لسفر حج أو غيره 9\ 111، والمعنى: أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية، أو الرجوع من شيء إلى شيء من الشر، وقيل: الرجوع عن حالة مستقرة جميلة '' ينظر: شرح النووي 9\111.
(3) سورة الطلاق الآية 3(69/364)
ومن أثار المداومة على العمل الصالح، أنه سبب لمحبة الله تعالى عبده وولايته له، وذلك فضل عظيم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل (1) » . متفق عليه، قال النووي: (وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرا من الكثير المنقطع، لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة) (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها (3) » الحديث رواه البخاري، ومن آثار المداومة على العمل الصالح، أنها سبب لحسن الختام، لأن المؤمن لا
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الرقاق- باب القصد والمداومة على العمل 11\ 294 برقم 6464، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب صلاة المسافرين- باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 6/ 72 واللفظ له
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 6\ 71
(3) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(69/365)
يزال يجاهد نفسه بفعل الطاعات وترك المحرمات، حتى يقوى عزمه، ويستقيم حاله، ويستمر على العمل الصالح حتى الممات {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (1) هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27(69/366)
بيان من هيئة كبار العلماء
حول أحداث الرياض
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه. أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية المنعقدة في مدينة الرياض يوم الأربعاء 13\3\1424 ا. هـ. استعرض حوادث التفجيرات التي وقعت في مدينة الرياض مساء يوم الأثنين 11\ 3\1424 هـ. وما حصل بسب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من الناس من المسلمين وغيرهم.
ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل.(69/367)
ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة، والأنفس المعصومة في دين الإسلام إما أن تكون مسلمة، فلا يجوز بحال الاعتداء على النفس المسلمة وقتلها بغير حق، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام. يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1)
ويقول سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (2) الآية. قال مجاهد رحمه الله: في الإثم. وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة (3) » متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (4) » متفق عليه. من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة المائدة الآية 32
(3) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (1/382) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(69/368)
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم (1) » .
ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) .
كل هذه الأدلة وغيرها كثير تدل على عظم حرمة دم المرء المسلم وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية، فلا يحل لأحد أن يعتدي على مسلم بغير حق. يقول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: «بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله (قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (2) » متفق عليه. وهذا لفظ البخاري.
وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال لما ظفروا به وتمكنوا منه، نطق
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1395) ، سنن النسائي تحريم الدم (3987) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4269) ، صحيح مسلم الإيمان (96) ، سنن أبو داود الجهاد (2643) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) .(69/369)
بالتوحيد، فتأول أسامة - رضي الله عنه - قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عذره وتأويله، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها.
وكما أن دماء المسلمين محرمة فإن أموالهم محرمة محترمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1) » أخرجه مسلم. وهذا الكلام قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبة يوم عرفة، وأخرج البخاري ومسلم نحوه في خطبة يوم النحر.
وبما سبق يتبين تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق.
ومن الأنفس المعصومة في الإسلام: أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما (2) » أخرجه البخاري.
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يرح رائحة الجنة (3) » وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين. ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1739) ، سنن الترمذي الفتن (2193) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .
(2) صحيح البخاري الجزية (3166) ، سنن النسائي القسامة (4750) ، سنن ابن ماجه الديات (2686) ، مسند أحمد بن حنبل (2/186) .
(3) صحيح البخاري الجزية (3166) ، سنن النسائي القسامة (4750) ، سنن ابن ماجه الديات (2686) ، مسند أحمد بن حنبل (2/186) .(69/370)
بذمتهم أدناهم (1) » .
ولما أجارت أم هانئ - رضي الله عنها - رجلا مشركا عام الفتح، وأراد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يقتله، ذهبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال - صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هاني» أخرجه البخاري ومسلم.
والمقصود أن من دخل بعقد أمان أو بعهد من ولي الأمر لمصلحة رآها، فلا يجوز التعرض له ولا الاعتداء لا على نفسه ولا ماله. إذا تبين هذا فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه:
أ- أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها.
2 - أن فيه قتلا للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
3 - أن هذا من الإفساد في الأرض.
4 - أن فيه إتلافا للأموال المعصومة.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك، إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته- والعياذ بالله- والشيطان لا
__________
(1) سنن ابن ماجه الديات (2683) .(69/371)
يبالي بأيهما ظفر من العبد؛ لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه.
وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة (1) » أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا (2) » وهو في البخاري بنحوه.
ثم ليعلم الجميع أن الأمة الإسلامية اليوم تعاني من تسلط الأعداء - عليها من كل جانب، وهم يفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام وإذلالهم واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم في مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرا لهم فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم وهذا من أعظم الجرم.
كما أنه يجب العناية بالعلم الشرعي المؤصل من الكتاب
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6047) ، صحيح مسلم الإيمان (110) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3770) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3257) ، مسند أحمد بن حنبل (4/33) .
(2) صحيح البخاري الطب (5778) ، صحيح مسلم الإيمان (109) ، سنن الترمذي الطب (2044) ، سنن النسائي الجنائز (1965) ، سنن أبو داود الطب (3872) ، سنن ابن ماجه الطب (3460) ، مسند أحمد بن حنبل (2/478) ، سنن الدارمي الديات (2362) .(69/372)
والسنة وفق فهم سلف الأمة وذلك في المدارس، والجامعات، وفي المساجد، ووسائل الإعلام، كما أنه تجب العناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي على الحق، فإن الحاجة بل الضرورة داعية إليه الآن أكثر من أي وقت مضى، وعلى شباب المسلمين إحسان الظن بعلمائهم والتلقي عنهم، وليعلموا أن مما يسعى إليه أعداء الدين الوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها، وبينهم وبين حكامهم حتى تضعف شوكتهم وتسهل السيطرة عليهم. فالواجب التنبيه لهذا، وقى الله الجميع كيد الأعداء، وعلى المسلمين تقوى الله في السر والعلن والتوبة الصادقة الناصحة من جميع الذنوب، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، نسأل الله أن يصلح حال المسلمين ويجنب بلاد المسلمين كل سوء ومكروه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
رئيس المجلس
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
صالح بن محمد اللحيدان ... عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
د\ صالح بن فوزان الفوزان ... حسن بن جعفر العتمي ... محمد بن عبد الله السبيل
د\ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... محمد بن سليمان البدر ... د\ عبد الله بن عبد المحسن التركي
محمد بن زيد آل سليمان ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... د\ عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان
د\ صالح بن عبد الله بن حميد ... د\ أحمد بن علي سير المباركي ... د\ عبد الله بن علي الركبان
د\ عبد الله بن محمد المطلق(69/373)
بيان من هيئة كبار العلماء
حول ما جرى مؤخرا في
المملكة العربية السعودية من تفجيرات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والخمسين التي انعقدت في مدينة الطائف ابتداء من تاريخ 11\6\1424هـ قد استعرض ما جرى مؤخرا في المملكة العربية السعودية من تفجيرات استهدفت تخريبا، وقتل أناس معصومين، وأحدثت فزعا وإزعاجا، كما استعرض ما اكتشف من مخازن للأسلحة، ومتفجرات خطيرة معدة للقيام بأعمال تخريب ودمار في هذه البلاد، التي هي حصن الإسلام وفيها حرم الله، وقبلة المسلمين، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن مثل هذه الاستعدادات الخطيرة المهيأة لارتكاب الإجرام من أعمال التخريب والإفساد في الأرض مما يزعزع الأمن ويحدث قتل الأنفس وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة، ويعرض مصالح الأمة لأعظم الأخطار؛ ونظرا لما يجب على علماء البلاد من البيان تجاه هذه الأخطار من وجوب التعاون(69/375)
بين كافة أفراد الأمة لكشفها ودفع شرها، والتحذير منها، وتحريم السكوت عن الإبلاغ عن كل خطر يبيت ضد هذا الأمن، رأى المجلس وجوب البيان لأمور تدعو الضرورة إلى بيانها في هذا الوقت، براءة للذمة، ونصحا للأمة، وإشفاقا على أبناء المسلمين من أن يكونوا أداة فساد وتخريب، وأتباعا لدعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وقد أخذ الله تعالى على أهل العلم الميثاق أن يبينوا للناس، قال الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) .
لذلك كله، وتذكيرا للناس، وتحذيرا من التهاون في أمر الحفاظ على سلامة البلاد من الأخطار، فإن المجلس يرى بيان ما يلي:
أولا: أن القيام بأعمال التخريب والإفساد من تفجير وقتل وتدمير للممتلكات، عمل إجرامي خطير، وعدوان على الأنفس المعصومة، وإتلاف للأموال المحترمة، فهو مقتض للعقوبات الشرعية الزاجرة الرادعة؛ عملا بنصوص الشريعة ومقتضيات حفظ سلطانها وتحريم الخروج على من تولى أمر الأمة فيها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه (2) » . أخرجه مسلم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/306) .(69/376)
ومن زعم أن هذه التخريبات وما يراد من تفجير وقتل، من الجهاد، فذلك جاهل ضال، فليست من الجهاد في سبيل الله في شيء.
ومما سبق فإنه قد ظهر وعلم أن ما قام به أولئك، ومن وراءهم، إنما هو من الإفساد والتخريب، والضلال المبين، وعليهم تقوى الله عز وجل، والرجوع إليه، والتوبة، والتبصر في الأمور وعدم الانسياق وراء عبارات وشعارات فاسدة ترفع لتفريق الأمة وحملها على الفساد، وليست في حقيقتها من الدين وإنما هي من تلبيس الجاهلين والمغرضين، وقد تضمنت نصوص الشريعة عقوبة من يقوم بهذه الأعمال، ووجوب ردعه والزجر عن ارتكاب مثل عمله، ومرد الحكم بذلك إلى القضاء.
ثانيا: وإذ تبين ما سبق فإن مجلس هيئة كبار العلماء يؤيد ما تقوم به الدولة- أعزها الله بالإسلام- من تتبع لتلك الفئة، والكشف عنهم لوقاية البلاد والعباد شرهم ولدرء الفتنة عن ديار المسلمين وحماية بيضتهم، ويجب على الجميع أن يتعاونوا في القضاء على هذا الأمر الخطير؛ لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله به في قوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) .
ويحذر المجلس من التستر على هؤلاء أو إيوائهم، فإن هذا من كبائر الذنوب، وهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا (2) » متفق عليه، وقد فسر العلماء (المحدث) في هذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح البخاري الحج (1870) ، صحيح مسلم الحج (1370) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2127) ، سنن النسائي القسامة (4734) ، سنن أبو داود المناسك (2034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/119) .(69/377)
الحديث بأنه من يأتي بفساد في الأرض.
فإذا كان هذا الوعيد الشديد فيمن آواهم، فكيف بمن أعانهم أو أيد فعلهم.
ثالثا: يهيب المجلس بأهل العلم أن يقوموا بواجبهم ويكثفوا إرشاد الناس في هذا الشأن الخطير، ليتبين بذلك الحق.
رابعا: يستنكر المجلس ما يصدر من فتاوى وآراء تسوغ هذا الإجرام، أو تشجع عليه؛ لكونه من أخطر الأمور وأشنعها، وقد عظم الله شأن الفتوى بغير علم وحذر عباده منها وبين أنها من أمر الشيطان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (1) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) ، ويقول سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (3) {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) ، ويقول جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (5) ، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا (6) » متفق عليه.
ومن صدر منه مثل هذه الفتاوى أو الآراء التي تسوغ هذا الإجرام، فإن على ولي الأمر إحالته إلى القضاء، ليجري نحوه ما
__________
(1) سورة البقرة الآية 168
(2) سورة البقرة الآية 169
(3) سورة النحل الآية 116
(4) سورة النحل الآية 117
(5) سورة الإسراء الآية 36
(6) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(69/378)
يقتضيه الشرع؛ نصحا للأمة وإبراء للذمة، وحماية للدين، وعلى من آتاه الله العلم التحذير من الأقاويل الباطلة وبيان فسادها وكشف زورها، ولا يخفى أن هذا من أهم الواجبات وهو من النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويعظم خطر تلك الفتاوى إذا كان المقصود بها زعزعة الأمن وزرع الفتن والقلاقل، ومن القول في دين الله بالجهل والهوى؛ لأن ذلك استهداف للأغرار من الشباب، ومن لا علم عنده بحقيقة هذه الفتاوى، والتدليس عليهم بحججها الواهية، والتمويه على عقولهم بمقاصدها الباطلة، وكل هذا شنيع وعظيم في دين الإسلام، ولا يرتضيه أحد من المسلمين ممن عرف حدود الشريعة وعقل أهدافها السامية ومقاصدها الكريمة، وعمل هؤلاء المتقولين على العلم من أعظم أسباب تفريق الأمة، ونشر العداوات بينها.
خامسا: على ولي الأمر منع الذين يتجرأون على الدين والعلماء ويزينون للناس التساهل في أمور الدين والجرأة عليه وعلى أهله، ويربطون بين ما وقع وبين التدين والمؤسسات الدينية.
وإن المجلس ليستنكر ما يتفوه به بعض الكتاب من ربط هذه الأعمال التخريبية بالمناهج التعليمية، كما يستنكر استغلال هذه الأحداث للنيل من ثوابت هذه الدولة المباركة القائمة على عقيدة السلف الصالح، والنيل من الدعوة الإصلاحية التي قام بها شيخ(69/379)
الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
سادسا: أن دين الإسلام جاء بالأمر بالاجتماع وأوجب الله ذلك في كتابه، وحرم التفرق والتحزب، يقول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ، ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2) . فبرأ الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الذين فرقوا دينهم وحزبوه وكانوا شيعا، وهذا يدل على تحريم التفرق وأنه من كبائر الذنوب.
وقد علم من الدين بالضرورة وجوب لزوم الجماعة وطاعة من تولى إمامة المسلمين في طاعة الله، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك ... (4) » أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني (5) » متفق عليه. وقد سار على هذا سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم، في وجوب السمع والطاعة.
لكل ما تقدم ذكره فإن المجلس يحذر من دعاة الضلالة والفتنة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 159
(3) سورة النساء الآية 59
(4) صحيح مسلم الإمارة (1836) ، سنن النسائي البيعة (4155) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2957) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .(69/380)
والفرقة الذين ظهروا في هذه الأزمان فلبسوا على المسلمين أمرهم، وحرضوهم على معصية ولاة أمرهم، والخروج عليهم، وذلك من أعظم المحرمات، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» أخرجه مسلم، وفي هذا تحذير لدعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وتحذير لمن سار في ركابهم عن التمادي في الغي المعرض لعذاب الدنيا والآخرة، والواجب التمسك بهذا الدين القويم والسير فيه على الصراط المستقيم المبني على الكتاب والسنة وفق فهم الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان، ووجوب تربية النشء والشباب على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم حتى يسلموا - بتوفيق من الله - من التيارات الفاسدة ومن تأثير دعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وحتى ينفع الله بهم أمة الإسلام ويكونوا حملة علم وورثة للأنبياء وأهل خير وصلاح وهدى، ويكرر التأكيد على وجوب الالتفاف حول قيادة هذه البلاد وعلمائها، ويزداد الأمر تأكدا في مثل هذه الأوقات أوقات الفتن، كما يحذر الجميع حكاما ومحكومين من المعاصي، والتساهل في أمر الله، فشأن المعاصي خطير، وليحذروا من ذنوبهم، وليستقيموا على أمر الله، ويقيموا شعائر دينهم، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر.
وقى الله بلادنا وجميع بلاد المسلمين كل سوء، وجمع الله(69/381)
كلمة المسلمين على الحق والهدى، وكبت الله أعداءه أعداء الدين، ورد كيدهم في نحورهم إنه سبحانه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
هيئة كبار العلماء
رئيس المجلس
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
صالح بن محمد اللحيدان ... عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
د\ صالح بن فوزان الفوزان ... حسن بن جعفر العتمي ... محمد بن عبد الله السبيل
د\ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... محمد بن سليمان البدر ... د\ عبد الله بن عبد المحسن التركي
محمد بن زيد آل سليمان ... د\ بكر بن عبد الله أبو زيد ... عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان
د\ صالح بن عبد الله بن حميد ... د\ أحمد بن علي سير المباركي ... د\ عبد الله بن علي الركبان
د\ عبد الله بن محمد المطلق(69/382)
حديث شريف
حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير يعني ابن حازم، حدثنا غيلان بن جرير عن أبي قيس بن رباح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبه أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه (1) » .
(أخرجه مسلم) .
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، سنن ابن ماجه الفتن (3948) ، مسند أحمد بن حنبل (2/306) .(69/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1)
(سورة المائدة، الآية 33)
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(70/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(70/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(70/3)
المحتويات
الافتتاحية
حقيقة مصطلح الإرهاب لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 13
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 25
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 55
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 73(70/4)
البحوث
الإرهاب أسبابه ووسائل العلاج لسماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 99
الجهل لفضيلة الدكتور / مسفر بن سعيد الغامدي 127
فقه التعامل مع غير المسلمين لفضيلة الدكتور: محمد بن عمر عتين 205
مسئولية الجاني عن علاج المجني عليه وضمان تعطله عن العمل لمعالي الدكتور / عبد الله بن محمد المطلق 287
الأخذ والتحمل عند القراء لفضيلة الدكتور / محمد بن سيدي محمد الأمين 329(70/5)
صفحة فارغة(70/6)
حقيقة مصطلح الإرهاب
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . . وبعد:
فإنه قد ظهر في الآونة الأخيرة مصطلح الإرهاب وشنت الحرب عليه من غير تحديد لمفهومه وهذا من الخطأ الواضح.
فإن محاربة مصطلح وشن الحملات المتتابعة على أعلى المستويات الإعلامية والأمنية والدولية عليه، مع عدم معرفة حدوده، تعتبر حربا على المجهول، وهذا من شأنه أن يوقعنا في إشكالات كثيرة، منها: أن نعادي أطرافا على أنهم إرهابيون وليسوا كذلك، وهذا ظاهر فيمن يحارب ويقاوم لأجل أن يخلص بلاده من المحتل مثلا.
وأيضا من الإشكالات أن يترك أطراف هم أشد عنفا وعداوة وإفسادا فلا يقاومون ولا ينكر فعلهم؛ لأن هذا المصطلح لم يطلق عليهم وإن كان منطبقا عليهم.(70/7)
نحن في دين الإسلام لا نقر استخدام الألفاظ المحتملة لعدة معان من غير تمييز المعنى المراد؛ لأن ديننا إنما جاء بالوضوح والصراحة والصدق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1) .
وديننا جاء بالعدل فلا يمكن أن يحملنا بغضنا وعداوتنا لأقوام على أن نعتدي عليهم ولو بالألقاب التي لا تنطبق عليهم {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
وتعلمنا في دين الإسلام أنه لا يمكن أن يحمل أطراف ذنوب أطراف أخرى، وبعبارة أخرى لا يمكن أن يؤخذ أطراف بجرائر آخرين مهما كان، يقول الله عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) . .
أما حقيقة هذا اللفظ من الناحية الشرعية فإنا لم نجد هذا اللفظ بعينه في النصوص الشرعية وإنما يوجد أصله الثلاثي وما تصرف منه وكذلك أيضا ما تصرف من أصله الرباعي.
ومن هنا نعلم أن مصطلح الإرهاب بهذه الصيغة لم يرد في الشرع أصلا حسب علمنا، وإنما ورد بعض ما تصرف من جذره.
هذا وإنما يكون من تصرفات عدوانية إجرامية فإن له أسبابا أجملها فيما يلي:
فأول الأسباب وأعظمها خطرا وأوسعها ظهورا وانتشارا هو:
__________
(1) سورة التوبة الآية 119
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) سورة الأنعام الآية 164(70/8)
الإعراض عن تطبيق شرع الله في الأرض.
ومن الأسباب: الغلو: وهو مجاوزة الحد، وهذا الغلو أو ما قد يصطلح عليه بـ"التطرف" خطير جدا في أي مجال من المجالات حتى ولو كان لباسه دينيا.
ومن الأسباب: التصور الخاطئ.
ومن الأسباب: العوائق التي تقام في وجه الدعوات الصادقة. وعلاج ذلك يتلخص في أمور:
منها: العمل الجاد على تعميم تعاليم الإسلام وتطبيقها.
ومن وسائل العلاج: تأصيل العلم الشرعي الرصين المبني على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
ومن وسائل العلاج: الوضوح والصراحة في محاربة هذه الآفة.
ومن الوسائل: تحرير المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط واضحة حتى لا تكون مجالا لتجار الظلام والإفساد.
وقد كان لنا بحث في هذه القضية يجده القارئ في ثنايا هذا العدد من هذه المجلة المباركة، نفع الله به كاتبه وقارئه.
أسأل الله تعالى أن يديم علينا نعمته ويرزقنا شكرها، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يصلح أحوال المسلمين ويكبت أعداءهم، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(70/9)
صفحة فارغة(70/10)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(70/11)
صفحة فارغة(70/12)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
إذا عزموا على الإقامة عشرة أيام لم يجمعوا، لا تجمع العصر إلى الجمعة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فنشير إلى برقية جلالتكم رقم 837 وتاريخ 16 \ 1 \ 1378 هـ بشأن استفتائكم هل يجوز لكم الجمع في سفركم هذا، وهل يجوز جمع العصر إلى صلاة الجمعة.؟
ونبدي لجلالتكم ما يأتي:
لقد فرض الله الصلاة الرباعية أربعا بيقين فلا بد من فعلها أربعا إلا فيما تحقق شرعا قصره. ولم يتحقق القصر والجمع ويجزم به إلا في مسألتين:
إحداهما: السفر بشروطه المعتبرة شرعا وهو الحل والترحال(70/13)
والسير، ويلحق به الإقامة التي هي أربعة أيام فما دون فإنها في حكم السفر.
والحالة الثانية: الإقامة لحاجة يأمل صاحبها أن تنقضي اليوم أو غدا، وإذا انقضت حاجته سافر.
أما ما عدا هذا فتبقى الصلاة الرباعية على أصلها من وجوب فعلها أربعا. ومن ذلك مسألتكم فإن فيها العزم على إقامة عشرة أيام فيجب في حقكم الإتمام وفعل كل صلاة في وقتها؛ لكن لأجل خفاء الحكم عليكم وكون في المسألة قول، وإن كان غير معول عليه في الإفتاء والعمل فلا يلزمكم إعادة صلوات ما مضى في غير ما يأتي التنبيه بلزوم إعادته وهو جمعكم صلاة العصر إلى الجمعة، فإنه يلزمكم قضاء صلاة العصر عن تلك الأيام التي جمعتم العصر فيه إلى الجمعة؛ لأن جمع العصر إلى الجمعة لا يصح بحال، وأنتم - حفظكم الله - غير معذورين في ترككم السؤال من أول وهلة، وهذه الأمور الهامة لا يلتفت فيها إلا إلى قول مفت وعالم راسخ يتصور الحجة ويعرف الحكم بدليله، ولا سيما وأنتم قدوة فيما تفعلون ويتأسى بكم غيركم ظنا أنكم عملتموه عن فتوى، ومثل هذه المسائل التهاون فيها يجر العامة إلى التساهل إلى ما لا حد له قياسا منهم لبعض المسائل على بعض وهم أبعد شيء عن العلم ومعرفة القياس. نسأل الله تعالى(70/14)
أن يتولاكم بتوفيقه ويحمي بكم حوزة الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله(70/15)
إذا تناول المريض حقنة تستمر أربع ساعات أو خمس
س: سئل سماحته عن الجمع بين الصلاتين للمريض الذي يبقى مدة تحت العلاج باستمرار، مثل من يتناول حقنة كبيرة تنفذ في العرق وتعلق مدة أربع ساعات أو خمس متوالية ولا يمكن فصلها حتى تنتهي.
ج: لا مانع من الجمع في مثل هذه الحالة، إلا أنه ينبغي التفاهم مع الطبيب بأن لا يجعلها وقت الصلاة، بل يقدمها أو يؤخرها، فإن ما أمكن هذا فلا بأس بالجمع؛ لأنه من جملة الأعذار المبيحة للجمع.(70/15)
لا يجمع بين الظهر والعصر للبرد
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. إ. غ سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على استفتائك الموجه إلينا منك، وفيه:
تسأل عن جواز جمع العصر مع الظهر والعشاء مع المغرب إذا(70/15)
كان في يوم شديد البرد والظلام.
والجواب: لا بأس بجمع العشاء مع المغرب إذا كان في الليلة ريح شديدة باردة.
أما جمع العصر مع الظهر فالذي عليه أئمة الدعوة رحمهم الله وعليه العمل عدم الجمع، حيث إن المشقة في النهار أخف بكثير من المشقة في الليل.(70/16)
وفى تقريره على هذه المسألة (الجمع بين الظهرين)
ذكر زيادة تعليل لمنع الجمع بينها، قال رحمه الله:
الظهر والعصر لا يجمعان للمطر، إلا في رواية عن أحمد ذكر صاحب الإفصاح أنها هي المذهب، والرواية الأخرى اختصاص ذلك بين المغرب والعشاء، وهذا قول الجماهير ودليله واضح، بخلاف الجمع بين الظهر والعصر فإن دليله في ذلك غير واضح؛ ولهذا الذي عليه الناس في هذا البلد ونحوها من عشرات السنين هو عدم الجمع بين الظهر والعصر، ومخالفة ما مضى عليه علماء الوطن المحققون سبب نقص في الدين لا زيادة ولا ركود، بل يسبب النزاع والشقاق، ويهون عند العوام أمر الدين، حتى لا يكتفون أن يسألوا من وجدوا لتحصيل الرخص بل يسلكون بنيات الطريق بخلاف ما إذا ساروا(70/16)
على طريقة بعيدة عن النزاع والشقاق.
ولو لم يكن من مصلحة إلا خروج من خلاف من يرى أن الصلاة لا تصح.
والجمع في مثل هذه الأمور الشواذ نشأ عن أشياء: أحدها الجهل. الثاني: الضعف والكسل، فيؤخذ بالقول المرجوح حقيقة أو نسبيا. ومن الناس من يجتهد ويرى أن هذا مقتضى الدليل ولا يكون هو مقتضى الدليل، فيعدل عن الراجح إلى المشتبه، وهو ما حقق ولا دقق وفى الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يربيك (1) » . أمر آخر وهو المشار إليه أولا أن الخلاف شر في نفسه، مع قطع النظر هل يحدث شرا بالنسبة على المفروضات، وبالنسبة إلى ما يزعزع كيان الاجتماع على البر والتقوى. والذين قالوه قالوا هو رخصة لا واجب. وإذا أفتاهم مفت فهو غلطان، سدا للذريعة، وعدم شق عصا المسلمين.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(70/17)
وجوب الجمعة على العمال في الشركات
من محمد بن إبراهيم على حضرة السمو الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد بلغني أنه يوجد في مقر أعمال الشركة في المقاطعة ورأس(70/17)
تنورة مسلمون يعملون عند الشركة وقت أداء صلاة الجمعة، ولا يشهدونها في المساجد.
كما قد بلغني أن الشركة وضعت مدارس تدرس فيها، وتتخلل دراستهم أوقات الصلاة ولا يقومون - أي المسلمون - بتأديتها جماعة؛ بل من أراد أن يصلي صلاها منفردا.
فأحببنا إخبار سموكم بذلك لشهامتكم وغيرتكم الدينية.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم ورحمة الله.(70/18)
حث الحسبة على ملاحظة المتخلفين عنها
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الفضيلة الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة نجد وتوابعها المحترم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد لوحظ أن كثيرا من المكلفين يجلسون في الصفاة يوم الجمعة، وبعضهم على سطوح الدكاكين والعمائر المحيطة بها؛ استعدادا للتفرج بعد الصلاة على الذين تقام عليه الحدود والتعزيرات ولا يصلون الجمعة. وأن ذلك قد كان منذ زمن طويل ولا يزال في ازدياد. فرأينا لفت نظر فضيلتكم إلى هذا المنكر الظاهر لإزالته وجعل عدد من النواب يراقبونه ويكافحون وجوده. وفقكم الله والسلام عليكم.(70/18)
وجوبها على من يقصد المنتزهات التي فيها مساجد
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الموقر حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد اتصل بعلمنا بأنه يحصل في مشتل الخرج (السيح) في بعض الأيام وخاصة يوم الخميس وليلة الجمعة ويومها مفاسد كبيرة وكثيرة مع ترك صلاة الجمعة من أكثر من يقصده.
لذا نرجو الأمر بما ترونه حائلا دون ذلك؛ لأن هذا من الأشياء الظاهرة التي لا ينبغي التساهل بها بحال من الأحوال. وفق الله الجميع للخير، وسدد خطاكم.(70/19)
لا دليل على اشتراط الأربعين لصحة الجمعة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم م. س. د. الموقر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلنا كتابكم المؤرخ 28 \ 2 \ 1377هـ وفهمنا سؤالكم عن العدد الذي تقام به صلاة الجمعة. فلا يخفى أن المسألة خلافية، والخلاف فيها قديم. ولا أعلم دليلا صريحا صحيحا يجب المصير إليه في اشتراط الأربعين؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء المحققين إلى عدم(70/19)
اشتراط الأربعين. وعلى هذا فإذا اجتمع عدد كثير وإن نقصوا عن الأربعين فلا بأس إن شاء الله بإقامتهم الجمعة. والسلام عليكم.(70/20)
الأربعون شرط للوجوب، لا للجواز والصحة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أ. س. ع. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على استفتائك الموجه إلينا بخصوص سؤالك عن أهل قرية لا يبلغ عددهم الأربعين، وليسوا قريبين من بلدة تقام فيها الجمعة، إذ أن أقرب قرية إليهم تبعد ما بين الساعة والساعتين. وتسأل هل يسوغ لهم إقامة جمعة، أو يصلونها ظهرا؟
والجواب: الحمد لله. إذا كان الأمر كما ذكرت، ولم يكن بين القريتين المشار إليهما في الاستفتاء مسافة عامرة بمباني أو المزارع بل هي أرض فلاة، ولم تكن إحدى القريتين تابعة للأخرى في الإمارة ونحوها، بل كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى فيسوغ لهم إقامتهم الجمعة في قريتهم، وإن صلوها ظهرا فلا بأس بذلك، حيث إن عددهم ينقص عن الأربعين رجلا، حيث إنه لم يثبت وجوبها على من دونهم، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث جاء في الاختيارات ما نصه:(70/20)
وتنعقد الجمعة بثلاثة واحد يخطب واثنان يستمعان، وهو إحدى الروايات عن أحمد، وقول طائفة من العلماء. وقد يقال بوجوبها على الأربعين؛ لأنه لم يثبت وجوبها على من دونهم، وتصح ممن دونهم لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين كالمريض. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.(70/21)
الجمعة لا تقام في السجن
من محمد بن إبراهيم إلى صاحب الفضيلة
رئيس المحكمة الكبرى بأبها سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
بالإشارة إلى خطابكم رقم 3209 وتاريخ 14 \ 6 \ 1388هـ، بخصوص طلب سجناء المشرف إقامة صلاة الجمعة بالسجن، وتسألون عن حكم ذلك.
والجواب: لم يبلغنا أن أحدا من السلف فعل ذلك. مع أنه كان في السجون أقوام من العلماء المتورعين، والغالب أنه يجتمع معهم أربعون وأكثر موصوفون بصفات من تنعقد بهم الجمعة، فلو كان ذلك جائزا لفعلوه. ووجه عدم جواز إقامتها في السجن أن المقصود من الجمعة إقامة الشعار؛ ولذلك اختصت بمكان من البلد ما لم يوجد(70/21)
مسوغ شرعي يوجب تعددها من ضيق المسجد وحصول العداوة وغير ذلك من الأسباب. والسلام عليكم.(70/22)
إقامة جمعة في محطة ضخ مياه تبعد ثمانية كيلو والطريق رمال وجبال.
من محمد بن إبراهيم إلى سعادة رئيس مصلحة المياه في الرياض سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد اطلعنا على كتابكم المتضمن طلب الإذن لسكان حي محطة مشروع الحائر بإقامة صلاة الجمعة للمسوغات التي أشرتم إليها. وبتأمل ما ذكر لم نر مانعا من الإذن لهم بإقامة صلاة الجمعة إذا توافرت الشروط الآتية:
أولا: أن يتم العدد المشترط لصلاة الجمعة بأن يكون أربعين فصاعدا.
ثانيا: أن يكونوا ساكنين في تلك المحطة صيفا وشتاء بحيث تعتبر المحطة كقرية مستقلة بنفسها.
ثالثا: أن تكون المسافة التي ذكرتم بينها وبين الحائر صحراء غير معمورة بالسكان، والنخيل غير متصلة بينها وبين الحائر، فإذا(70/22)
انضم إلى هذا ما ذكرتم من الأمور التي تخشون من حدوثها على مكائن المياه إذا غادرها العمال وذهبوا لصلاة الجمعة في قرية الحاير.
ونظرا لما في هذا من المصلحة العامة فأرجو أن لا بأس لمثل هؤلاء بالانفراد بصلاة الجمعة. والله يحفظكم. والسلام عليكم.(70/23)
عمال غير مستوطنين
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم قاضي بقيق فضيلة الشيخ أحمد بن غنيم سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلني خطابكم رقم 350 بتاريخ 20 \ 5 \ 1377هـ وما برفقه وفهمت مضمونه من سؤالكم الذي نصه: فيه مكان من ملحقات بقيق عن البلد ثلاثة عشر كيلو مترا تقريبا، وهو لشخص وبنى فيه مساكن وسكنها أناس من عمال الشركة بالإيجار الشهري، وأقام فيها مالكها جمعة في شهر صفر من هذا العام، وسكانها تارة يبلغون العدد المشترط في المذهب، وتارة ينقصون عنه وكل منهم في عمل مؤقت، وقسم منهم بلاده الهند، والقسم الثاني فلسطين باعتبار الموجودين فيه الآن. وحيث إن هذه الجمعة أقيمت بهذه الصفة نأمل من سماحتكم التكرم بإفادتنا بما ترونه من صحتها أو عدمها.(70/23)
والجواب: الحمد لله. صلاة الجمعة يشترط لصحتها شروط: منها استيطان أربعين رجلا من أهل وجوبها لا يرحلون عنه صيفا ولا شتاء، وأن يكون الاستيطان ببناء معتاد يشمله اسم واحد.
ومما تقدم يعلم أن صلاة الجمعة لا تجب ولا تصح من أهل ذلك المكان المسئول عنه؛ لأنهم غير مستوطنين. والسلام عليكم.(70/24)
صلاة الجمعة في الباخرة
س: عن صلاة الجمعة في الباخرة؟
ج: المسافر لا تشرع له صلاة الجمعة؛ لأن من شروطها أن يكونوا مستوطنين بقرية لا يرحلون عنها صيفا ولا شتاء. والسلام.(70/24)
البدو المتنقلون إذا أقاموا شهرا ونحوه
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ق. س. المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن البدو المتنقلين في البر إذا أقاموا مدة تقارب الشهر أو تزيد: هل تلزمهم صلاة الجمعة، أم لا؟
والجواب: لا جمعة على هؤلاء، ولا تصح منهم؛ لأن من شروطها أن يكونوا مستوطنين ببناء معتاد يشمله اسم واحد لا يرحلون عنه صيفا ولا شتاء. والله أعلم.(70/24)
من فتاوى سماحه الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا " رحمه الله "
حكم البناء على القبور
س: لاحظت عندنا على بعض القبور عمل صبة بالأسمنت بقدر متر طولا في نصف متر عرضا مع كتابة اسم الميت عليها وتاريخ وفاته وبعض الجمل ك (اللهم ارحم فلان بن فلان. .) وهكذا، فما حكم مثل هذا العمل؟ .
ج: لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها، ولا تجوز الكتابة عليها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يعقد عليه، وأن يبنى عليه (1) » ،، وخرجه الترمذي.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/299) .(70/25)
وغيره بإسناد صحيح وزاد: «وأن يكتب عليه (1) » ، ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه؛ ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية، وإنما يعاد تراب القبر عليه ويرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا يجوز اتخاذ المساجد عليها ولا كسوتها ولا وضع القباب عليها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » ، متفق على صحته. ولما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) »
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (532) .(70/26)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ونسأل الله أن يوفق المسلمين للتمسك بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، والثبات عليها، والحذر مما يخالفها، إنه سميع قريب.(70/27)
الكيفية الشرعية لترميم القبر إذا تهدم
س: قبر تهدم، وأريد إعادة حفره وبنائه وفيه عظام، فماذا أفعل بها؟ وهل يجوز بناء القبر بالحصى والإسمنت أو الطوب والإسمنت؟ .
ج: إذا تهدم القبر يعاد إليه التراب، ويسوى ظاهره كسائر القبور حتى لا يمتهن، أما بناؤه وتجصيصه فلا يجوز؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (1) » رواه مسلم في صحيحه؛ ولأن تجصيصه والبناء عليه من أسباب الغلو فيه ودعائه من دون الله، كما وقع ذلك لكثير من الناس، لما عظمت قبورهم وبنيت عليها القباب والمساجد، اتخذها الناس أربابا من دون الله، بدعائها، وبالاستغاثة بها والتبرك بها، وطلب المدد منها، كما يفعل ذلك كثير من الناس
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(70/27)
عند قبر الحسين وقبر البدوي وغيرهما؛ ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما «أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » .
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع المسلمين من حكومات وشعوب أن يتقوا الله سبحانه، وأن يحذروا من الغلو في القبور والبناء عليها واتخاذ
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) رواه البخاري في (الجنائز) باب بناء المسجد على القبر برقم (1341) واللفظ له، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (528) ، والنسائي في (المساجد) باب النهي عن اتخاذ المساجد على القبور برقم (704) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(70/28)
المساجد عليها؛ عملا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة له، وحذرا من مغبة ذلك، فإن ذلك وسيلة إلى الغلو في الأموات ودعائهم والاستغاثة بهم وطلبهم المدد والعون، وهذا هو الشرك الأكبر الذي كان يفعله كفار قريش وغيرهم من العرب والعجم، حتى أزال الله ذلك من هذه الجزيرة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده وجهاد أصحابه رضي الله عنهم وجهاد من تبعهم بإحسان من أئمة الهدى ودعاة التوحيد، جعلنا الله منهم، والله ولي التوفيق.(70/29)
لا يجوز دفن الميت في المسجد (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم \ هـ ع. م. م. سلمه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فإشارة إلى رسالتك الكريمة المتضمنة طلب بعض الكتب والإجابة عن السؤال الذي ذكرته، نشكر لك اهتمامك وغيرتك، ويسرنا تحقيق رغبتك بإرسال نسخة من زاد المعاد، والعقيدة الواسطية شرح محمد خليل الهراس، والقاعدة الجليلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وفتح المجيد، وشرح الطحاوية لابن أبي العز.
__________
(1) رسالة جوابية بعثها سماحته برقم 1998 \ 1 في 14 \ 8 \ 1412هـ.(70/29)
أما بالنسبة للسؤال فالواجب منع الدفن في المسجد، وإزالة ما أعده الشخص المذكور ليدفن فيه، وأن يستعان في ذلك بالله ثم بأهل العلم حتى يقنع الرجل بأن عمله لا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (2) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جندب ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (3) » .
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم بناء المساجد على القبور، ووضع القبور في المساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك الأكبر. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(70/30)
وما ذلك إلا أن البناء على القبور وتجصيصها ووضع الستور عليها والصلاة عندها وبناء المساجد عليها كل ذلك من وسائل الشرك. نسال الله أن يعافي المسلمين من ذلك، وأن يفقههم في الدين، وأن يعينهم على التمسك بشرع الله والاستقامة عليه، وأن يوفق علماءهم لتبصيرهم وتوجيههم إلى الخير على ضوء الكتاب والسنة، إنه سميع مجيب.
وأسأل الله لك التوفيق والإعانة على كل خير إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(70/31)
دفن الموتى في المساجد إحدى وسائل الشرك
بسم الله، والحمد لله، والصلاة الله والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على صحيفة الخرطوم الصادرة في 17 \ 4 \ 1415هـ، فألفيتها قد نشر فيها بيان بدفن السيد م. ح. أ. بجوار أبيه في مسجدهم بمدينة أم درمان. . إلخ. ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان إنكار المنكر رأيت التنبيه على أن الدفن في المساجد أمر لا يجوز، بل هو من وسائل الشرك، ومن أعمال اليهود والنصارى(70/31)
التي ذمهم الله عليها، ولعنهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، وفي صحيح مسلم، عن جندب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين في كل مكان - حكومات وشعوبا - أن يتقوا الله، وأن يحذروا ما نهى عنه، وأن يدفنوا موتاهم خارج المساجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يدفنون الموتى خارج المساجد وهكذا أتباعهم بإحسان.
وأما وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في مسجده صلى الله عليه وسلم فليس به حجة على دفن الموتى في المساجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيته - في بيت عائشة رضي الله عنها - ثم دفن صاحباه معه، فلما وسع الوليد بن عبد الملك المسجد أدخل الحجرة فيه على رأس المائة الأولى من الهجرة، وقد أنكر عليه ذلك أهل العلم، ولكنه رأى أن ذلك لا يمنع من التوسعة، وأن الأمر واضح لا يشتبه.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(70/32)
وبذلك يتضح لكل مسلم أنه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد، وإدخالهم فيه بسبب التوسعة ليس بحجة على جواز الدفن في المساجد؛ لأنهم ليسوا في المسجد، وإنما هم في بيته عليه الصلاة والسلام، ولأن عمل الوليد لا يصلح حجة لأحد في ذلك، وإنما الحجة في الكتاب والسنة، وفي إجماع سلف الأمة رضي الله عنهم، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
وللنصح وبراءة الذمة جرى تحريره في 14 \ 5 \ 1415هـ. والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، وأتباعهم بإحسان.(70/33)
حكم بناء المساجد قريبا من القبور (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: م. ص. سلمه الله،
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم (2191) وتاريخ 10 \ 6 \ 1407هـ، والذي تسأل فيه عن حكم بناء المسجد قريبا من القبور لانتفاع أهل القبور بذلك، وحكم الصلاة في
__________
(1) إجابة من سماحته على استفتاء مقدم من الأخ م. ص(70/33)
هذا المسجد، وحكم الصلاة في مسجد فيه قبور.
وأفيدك بأنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا يجوز بناء المساجد قريبا من القبور، من أجل أن ينتفع أهل القبور ببناء المسجد بجوارهم.
أما إذا كانت القبور خارج المسجد، ويفصل بينها وبينه طريق ونحوه، ولم يبن المسجد من أجل تلك القبور، فلا حرج في الصلاة فيه. وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(70/34)
حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
س: هل يصلى في المساجد التي فيها قبور؟ (1) .
ج: المسجد الذي فيه قبر لا يصلى فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(70/34)
لا يصلى في المساجد التي فيها قبور
س: الأخ م. أ. ن. من ميت طريف - دقهلية - بمصر يقول(70/34)
في سؤاله: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟ .
ج: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، يجعل رفات كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى في المساجد قبور، لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة رضي الله عنها: " يحذر ما صنعوا (1) » . متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(70/35)
فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق؛ فالواجب الحذر من ذلك. ومعلوم أن كل من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجدا، ومن بنى عليه مسجدا فقد اتخذه مسجدا.
فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد، وألا يجعل فيها قبور؛ امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذرا من اللعنة التي صدرت من ربنا عز وجل لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور قد يزين له الشيطان دعوة الميت أو الاستغاثة به، أو الصلاة له، أو السجود له؛ فيقع الشرك الأكبر، ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم وأن نبتعد عن طريقهم وعن عملهم السيئ.
لكن لو كانت القبور هي القديمة ثم بني عليها المسجد فالواجب هدمه وإزالته؛ لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم؛ حسما لأسباب الشرك وسدا لذرائعه.
هنا شبهة يشبه بها عباد القبور، وهي: وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده.
والجواب عن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدفنوه في مسجده، وإنما دفنوه في بيت عائشة رضي الله عهنا، فلما وسع(70/36)
الوليد بن عبد الملك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر القرن الأول أدخل الحجرة في المسجد، وقد أساء في ذلك، وأنكر عليه بعض أهل العلم، ولكنه اعتقد أن ذلك لا بأس به من أجل التوسعة.
فلا يجوز لمسلم أن يحتج بذلك على بناء المساجد على القبور، أو الدفن في المساجد؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة، ولأن ذلك أيضا من وسائل الشرك بأصحاب القبور. والله ولي التوفيق.(70/37)
الصلاة في مسجد فيه قبر كالصلاة في مسجد فيه قبران أو أكثر
س: هناك من يقول: إن الصلاة يختلف حكمها في المسجد الذي فيه قبر، عن الذي فيه قبران، عن المسجد الذي فيه ثلاثة أو أكثر. نرجو التوضيح في هذا، وكيف الحكم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ؟ مع العلم بأن بعض الناس الذي يأتون من المدينة المنورة يحتجون بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيه قبره عليه الصلاة والسلام وقبر صاحبيه رضي الله عنهما، فهو كعامة المساجد تجوز الصلاة فيه، أرجو التوضيح (2) .
38
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (62) .(70/37)
ج: الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من يتخذ المساجد على القبور، وحذر من ذلك، كما في الحديث السابق، وقال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (1) » رواه مسلم في الصحيح. وروى الشيخان، عن عائشة رضي الله عنها، «أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » .
فبين صلى الله عليه وسلم أن الذين يبنون المساجد على القبور هم شرار الخلق عند الله، وحذر من فعلهم.
فدل ذلك على أن المسجد المقام على قبر أو أكثر، فإن كان المسجد هو الذي بني أخيرا على القبور وجب هدمه، وأن تترك القبور بارزة ليس عليها بناء، كما كانت القبور في عهده صلى الله عليه وسلم، في البقيع وغيره، وهكذا إلى اليوم في المملكة العربية السعودية، فالقبور فيها بارزة ليس عليها بناء ولا قباب ولا مساجد ولا بناء، ولله الحمد والمنة.
أما إن كان المسجد قديما ولكن أحدث فيه قبر أو أكثر فإنه ينبش القبر وينقل صاحبه إلى المقابر العامة التي ليس عليها قاب ولا
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .(70/38)
مساجد ولا بناء، ويبقى المسجد خاليا منها حتى يصلى فيه.
أما احتجاج بعض الجهلة بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه في مسجده فلا حجة في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفن في بيته وليس في المسجد، ودفن معه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن لما وسع الوليد بن عبد الملك بن مروان المسجد أدخل البيت في المسجد؛ بسبب التوسعة، وغلط في هذا، وكان الواجب أن لا يدخله في المسجد؛ حتى لا يحتج الجهلة وأشباههم بذلك، وقد أنكر عليه أهل العلم ذلك، فلا يجوز أن يقتدى به في هذا، ولا يظن ظان أن هذا من جنس البناء على القبور أو اتخاذها مساجد؛ لأن هذا بيت مستقل أدخل في المسجد؛ للحاجة للتوسعة، وهذا من جنس المقبرة التي أمام المسجد مفصولة عن المسجد لا تضره، وهكذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم مفصول بجدار وقضبان.
وينبغي للمسلم أن يبين لإخوانه هذا؛ حتى لا يغلطوا في هذه المسألة. والله ولي التوفيق.(70/39)
لا يصلى في المسجد الذي فيه قبر ولو كان الوحيد في البلد
س: إذا كان المسجد الذي فيه قبر هو الوحيد في البلد فهل(70/39)
يصلي المسلم فيه؟ (1) .
ج: لا يصلي المسلم فيه أبدا، وعليه أن يصلي في غيره أو في بيته إن لم يجد مسجدا سليما من القبور، ويجب على ولاة الأمور نبش القبر الذي في المسجد إذا كان حادثا ونقل رفاته إلى المقبرة العامة ويوضع في حفرة خاصة يسوى ظاهرها كسائر القبور، وإذا كان القبر هو الأول فإنه يهدم المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما رأتا كنيسة في الحبشة وما فيها من الصور، قال لهما عليه الصلاة والسلام: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (2) » متفق على صحته. ومن صلى في المساجد التي فيها القبور فصلاته باطلة وعليه الإعادة؛ للحديثين المذكورين وما جاء في معناهما.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .(70/40)
المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحباه لم يدفنوا في المسجد وإنما دفنوا في حجرة عائشة
س: من المعلوم أنه لا يجوز دفن الأموات في المساجد، وأيما(70/40)
مسجد فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه، فما الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته في المسجد النبوي؟ .
ج: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، وثبت عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » متفق عليه، وروى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » . وروى مسلم أيضا عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(70/41)
يبنى عليه (1) » . فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم اتخاذ المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، كما تدل على تحريم البناء على القبور واتخاذ القباب عليها وتجصيصها؛ لأن ذلك من أسباب الشرك بها وعبادة سكانها من دون الله، كما قد وقع ذلك قديما وحديثا؛ فالواجب على المسلمين أينما كانوا أن يحذروا مما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وألا يغتروا بما فعله كثير من الناس، فإن الحق هو ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة لا بآراء الناس وأعمالهم، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد، وإنما دفنوا في بيت عائشة، ولكن لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك أدخل الحجرة في المسجد في آخر القرن الأول، ولا يعتبر عمله هنا في حكم الدفن في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم ينقلوا إلى أرض المسجد وإنما أدخلت الحجرة التي هم بها في المسجد من أجل التوسعة، فلا يكون في ذلك حجة لأحد على جواز البناء على القبور أو اتخاذ المساجد عليها أو الدفن فيها؛ لما ذكرته آنفا من الأحاديث الصحيحة المانعة من ذلك، وعمل الوليد ليس فيه حجة على ما يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(70/42)
شبهة لمن أجاز الصلاة في المساجد التي فيها قبور والجواب عليها
س: من أجاز الصلاة في المساجد التي فيها قبور يحتج بأن المسجد النبوي فيه قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فما رأيكم في ذلك؟ (1) .
ج: يبين له أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لا في المسجد، والمخطئ هو الذي أدخل القبر في المسجد.
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(70/43)
حكم تحويل مصلى العيد إلى مقبرة
س: ما حكم تحويل مصلى العيد إلى مقبرة؛ لأنه أصبح داخل البلد، ولأنه مجاور للمقبرة الأولى؟
ج: مثل هذا العمل تراجع فيه المحكمة وهي تنظر فيما يقتضيه الحكم الشرعي.(70/43)
حكم الكتابة على القبر
س: هل يجوز وضع قطعة من الحديد أو " لافتة " على قبر(70/43)
الميت مكتوب عليها آيات قرآنية بالإضافة إلى اسم وتاريخ وفاته. . . . إلخ؟ .
ج: لا يجوز أن يكتب على قبر الميت لا آيات قرآنية ولا غيرها، لا في حديدة ولا في لوح ولا في غيرهما؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم «نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (1) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه، زاد الترمذي والنسائي بإسناد صحيح: «وأن يكتب عليه (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .(70/44)
حكم كتابة دعاء دخول المقبرة عند البوابة
س: ما حكم كتابة دعاء دخول المقبرة عند بوابة المقبرة؟ (1) .
ج: لا أعلم لهذا أصلا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(70/44)
عن الكتابة على القبر، ويخشى أن تكون الكتابة على جدار المقبرة وسيلة إلى الكتابة على القبور.(70/45)
حكم إضاءة المقابر والطرق التي بين القبور
س: هل يجوز إضاءة المقابر والطرق التي بين القبور؟
ج: إذا كان لمصلحة الناس عند الدفن أو كان في السور فلا بأس، أما وضع السرج والأنوار على القبور فلا يجوز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » . وإذا كانت الإضاءة في الشارع الذي يمر بقربها فلا بأس، وإذا وضع لمبة عند الحاجة تضيء لهم عند الدفن أو أتوا بسراج معهم لهذا الغرض فلا بأس.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (2598) ، والترمذي في (الصلاة) برقم (320) ، والنسائي في (الجنائز) برقم (2043) ، وأبو داود في (الجنائز) برقم (3236)(70/45)
ما يجوز وما لا يجوز إهداؤه من القرب للميت
س: هل تصل الأعمال إلى الموتى؟(70/45)
ج: يصل إليهم ما دل الشرع على وصوله إليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » رواه مسلم في صحيحه، ولأحاديث أخرى وردت في ذلك، ومن ذلك الصدقة، والدعاء، والحج، والعمرة، وما خلفه الميت من نشر العلم.
إما إهداء الصلاة والقراءة إلى الموتى، أو الطواف أو صيام التطوع فلا أعلم لذلك أصلا، والمشروع تركه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8627) ، ومسلم في (الوصية) برقم (1631) ، وقد روياه بلفظ: '' إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة. . . '' إلخ
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(70/46)
س: هل يجوز إهداء أعمال الخير إلى الميت؟ (1) .
ج: يجوز إهداء ما ورد به الشرع المطهر من الأعمال؛ كالصدقة، والدعاء، وقضاء الدين، والحج والعمرة إذا كان المحجوج عنه ميتا أو عاجزا، لكبر سنه، أو مرض لا يرجى برؤه، وهكذا من
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1648) في8 \ 3 \ 1419 هـ.(70/46)
تؤدى عنه العمرة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ما يدل على ذلك، وجاء في الكتاب العزيز ما يدل على شرعية الدعاء للمسلمين أحياء أو أمواتا، مثل قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا قال له: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم (3) » متفق عليه. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضا «أن رجلا قال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (4) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الحشر الآية 10
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) من حديث أبي أسيد الساعدي برقم (15629) ، وأبو داود في (الأدب) باب في بر الوالدين برقم (5142) .(70/47)
الدليل على تخصيص انتفاع الميت ببعض الأعمال دون بعض
س: ما هو الدليل على تخصيص انتفاعهم بأعمال دون أخرى؟ (1) .
ج: هذه الأمور توقيفية لا مجال للرأي فيها، وإنما يعمل فيها بما يقتضيه الدليل؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(70/48)
حكم الصدقة والحج عمن كان يذبح لغير الله
س: سائل يقول: إن والده يذبح لغير الله فيما قيل له عن ذلك، ويريد الآن أن يتصدق عنه ويحج عنه، ويعزو سبب وقوع والده في ذلك إلى عدم وجود علماء ومرشدين وناصحين له، فما الحكم في ذلك كله؟ (1) .
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1648) في 8 \ 3 \ 1419هـ.(70/48)
ج: إذا كان والده معروفا بالخير والإسلام والصلاح، يجوز له أن يصدق من ينقل عنه ذلك ممن لا تعرف عدالته، ويسن له الدعاء والصدقة عنه حتى يعلم يقينا أنه مات على الشرك، وذلك بأن يثبت لديه بشهادة الثقات العدول اثنين أو أكثر أنهم رأوه يذبح لغير الله من أصحاب القبور أو غيرهم، أو سمعوه يدعو غير الله، فعند ذلك يمسك عن الدعاء له، وأمره إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن الله له، مع أنها ماتت في الجاهلية على دين الكفار، ثم استأذن ربه أن يزورها فأذن له، فدل ذلك على أن من مات على الشرك ولو جاهلا لا يدعى له، ولا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، ولا يحج عنه، أما من مات في محل لم تبلغه دعوة الله، فهذا أمره إلى الله سبحانه. والصحيح من أقوال أهل العلم، أنه يمتحن يوم القيامة، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.(70/49)
عشاء الوالدين
س: الأخ أ. م. ع. من الرياض يقول في سؤاله: نسمع كثيرا عن عشاء الوالدين أو أحدهما، وله طرق متعددة، فبعض(70/49)
الناس يعمل عشاء خاصة في رمضان ويدعو له بعض العمال والفقراء، وبعضهم يخرجه للذين يفطرون في المسجد، وبعضهم يذبح ذبيحة على بعض الفقراء وعلى بعض جيرانه، فإذا كان هذا العشاء جائزا فما هي الصفة المناسبة له؟ (1) .
ج: الصدقة للوالدين أو غيرهما من الأقارب مشروعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لما سأله سائل قائلا: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (2) » . ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم «لما سأله سائل قائلا: إن أمي ماتت ولم توص أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم (4) » . ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (5) » . وهذه الصدقة لا مشاحة في تسميتها بعشاء الوالدين،
__________
(1) من ضمن الأسئلة الوجهة لسماحته من (المجلة العربية)
(2) سنن أبو داود الأدب (5142) ، سنن ابن ماجه الأدب (3664) .
(3) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل صلة أصدقاء الأب برقم (2552) .
(4) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .
(5) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(70/50)
أو صدقة الوالدين سواء كانت في رمضان أو غيره. وفق الله الجميع لما يرضيه.(70/51)
تحديد وقت معين للإطعام عن الميت من البدع المحدثة
س: مسلم مات وله كثير من الأولاد، ولهم مال وخير، أيحل لهم أن يذبحوا من الغنم للميت، أو يعجن له الخبز في اليوم السابع أو الأربعين هدية له، ويجمع المسلمون عليها؟ (1)
ج: الصدقة عن الميت مشروعة، وإطعام الفقراء والمساكين، والتوسعة عليهم ومواساة الجيران، وإكرام المسلمين من وجوه البر والخير التي رغب الشرع فيها، ولكن ذبح الغنم أو البقر أو الإبل أو الطير أو نحوها للميت عند الموت أو في يوم معين كاليوم السابع أو الأربعين أو يوم الخميس أو الجمعة أو ليلتها للتصدق به على الميت في ذلك الوقت من البدع والمحدثات التي لم تكن على عهد سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فيجب ترك هذه البدع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (760)(70/51)
رد، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(70/52)
من يذبح لأبيه وجده كل سنة
س: يوجد لي ابن عم يذبح لأبيه وجده بعد مضي كل حول، ونصحته أكثر من مرة، ويقول لي: إني سألت، وقالوا: ليس في ذلك إثم. أفيدونا هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ .
ج: إذا ذبح وقصد أضحية في يوم العيد وأيام النحر عن أبيه أو جده أو غيرهما فلا بأس، أو ذبح وقصد الصدقة عنهما على الفقراء في أي وقت فلا بأس؛ لأن الصدقة تنفع الميت والحي باللحوم وغير اللحوم من النقود والطعام وغير ذلك، كل ذلك ينفع الميت والحي، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه سئل عن الرجل يتصدق لأمه بعد وفاتها أفلها أجر؟ فقال: " نعم» ، وفي صحيح مسلم - رحمه الله - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم(70/52)
ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » .
والخلاصة: أن الصدقة للميت نافعة له بإجماع المسلمين، وهكذا الدعاء له، فإذا أراد بهذه الذبيحة الصدقة بها عن أبيه أو جده أو غيرهما، أو ذبحها أضحية عنه في أيام النحر تقربا إلى الله سبحانه وتعالى - لكن ليس له أن يخص يوما معينا أو شهرا معينا بالذبح غير أيام النحر إلا إذا تحرى الأوقات الفاضلة، كرمضان وتسع ذي الحجة - فلا بأس وله أجر وللميت أجر على حسب إخلاصه لله وكسبه الطيب، أما إذا أراد التقرب إليه كما يتقرب الذين يذبحون لأصحاب القبور أو الشمس أو القمر أو الجن فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتقرب إلى أحد بذبح أو نذر أو غيرهما من العبادات سوى الله سبحانه وتعالى؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) ، ولقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (4) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (5) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من ذبح لغير الله (6) » رواه مسلم في الصحيح.
فالذبح للجن أو لأصحاب القبور أو
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) سورة الكوثر الآية 1
(5) سورة الكوثر الآية 2
(6) رواه مسلم في الصحيح، كتاب (الأضاحي) باب تحريم الذبح لغير الله برقم (1978) .(70/53)
غيرهما من المخلوقات كالأصنام والكواكب ونحوها، يرجو الذابح شفاعتهم أو أنهم ينفعونه أو يدفعون عنه مرضا أو غيره منكر وشرك، وهكذا من ذبح لجده أو لأبيه، يعتقد فيه أنه ينفعه، أو يشفي مريضه، أو يقربه إلى الله بهذا الذبح، فهو مثل من يذبح للشمس أو للقمر والنجوم كل ذلك شرك. نسأل الله السلامة.(70/54)
إهداء ثواب الطواف للغير لا يجوز
س: الأخ ن. ع. ب. من تمير يقول في سؤاله: عندما أسافر إلى مكة المكرمة للحج أو العمرة هل يجوز أن أطوف سبعة أشواط وأنوي ثوابها لوالدتي المتوفاة؟ أرجو الإفادة يا سماحة الشيخ؟ (1) .
ج: لا أعلم في الأدلة الشرعية ما يدل على جواز ذلك أو شرعيته، ومعلوم أن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع، فالذي أرى عدم جواز التطوع بالطواف عن الغير؛ لعدم الدليل على ذلك. ولكن يشرع لك الدعاء في الطواف لوالديك وللمسلمين ولغيرهما من المسلمين؛ لعموم الأدلة الشرعية في ذلك. وفق الله الجميع.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .(70/54)
من فتاوى سماحة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: يقول السائل: طلقت زوجتي وهي في العذر الشرعي، وكانت في اليوم الرابع، وأرجعتها في اليوم الخامس وهي في العذر أيضا ولم تطهر فهل يقع الطلاق حينئذ؟ وهل تحسب عليها طلقة وجهونا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الأصل في الطلاق أن المسلم يطلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها وهي حامل قد استبان حملها؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) أي: في إقبال عدتهن بأن تطلقوهن طاهرات لم تمسوهن بجماع، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ابنه عبد الله طلق امرأته وهي حائض غضب صلى الله عليه وسلم وقال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1(70/55)
تطلق لها النساء (1) » متفق عليه.
قال العلماء رحمهم الله: الطلاق المشروع أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه أي: عقب انقضاء حيضتها، أو يطلقها وهي حامل فهذا هو الطلاق المسنون، وأما أن يوقع الطلاق عليها في حيضها، أو يوقع الطلاق عليها في طهر قد جامعها فيه، أو يجمع الطلاق الثلاث في لفظ واحد بقوله: أنت طالق بالثلاث، فهذا يسميه العلماء طلاقا بدعيا أي: ليس على وفق ما شرعه الله ورسوله، قالوا: لأنه إذا طلقها في الحيض فهذه المدة في الحيض لا تحسب من عدتها، وإنما يحسب عليها حيضة مستقبلة فتطول عليها المدة.
ثانيا: أن المطلق طلاقا رجعيا مأمور بأن يبقي المرأة عنده في منزله عساه أن يعود إليها، وعسى نظرة تحدث في القلب محبة ومودة، لكن إذا طلقها وهي حائض فإنه لا يرغب فيها؛ لكون جماع الحائض محرما، فقد يكون صدوده عنها أثناء الحيض يزيد الأمر بعدا. أما تطليقه لها في الطهر الذي جامعها فيه فإنه يضرها من ناحيتين من طول العدة؛ لأن الحامل عدتها بوضع حملها كما قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) ، فالمرأة الحامل عدتها بوضع الحمل فطلاقها في طهر جامعها فيه قد يطيل عليها عدتها، ومن ناحية ثانية لعلها إذا طلقها في هذه الحال أن تكون حاملا فيندم على هذا
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5252) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3390) ، سنن أبو داود الطلاق (2179) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(2) سورة الطلاق الآية 4(70/56)
الطلاق ولعل هذا الطلاق يكون الأخير فيكون فيه ضرر عليها وندم عليه، فالمقصود أن الطلاق في الحيض وفي الطهر الذي جومعت فيه أو جمع الثلاث بلفظ واحد طلاق مبتدع، ولكن هل هذا الطلاق إذا صدر من الزوج يقع ويعتبر أم لا؟
هذا مما اختلف العلماء فيه؛ فمن العلماء من قال: إن هذا الطلاق مخالف للشرع، وواقع على خلاف الشرع، ومنهي عنه إذا فلا اعتبار للطلاق في الحيض، ولا اعتبار للطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، وإذا جمع الثلاث عليها بلفظ واحد فهي واحدة، قالوا: لأنه خالف الشرع فمخالفته للشرع لا تجعل هذا الأمر نافذا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، ومن العلماء من قال: إن الطلاق في الحيض ولو كان إثما فإنه يقع، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه، وإذا جمع الثلاث بلفظ واحد فإنها ثلاث، وإن كان بخلاف المشروع، فالزوج إذا أوقع الطلاق وقع الطلاق دون النظر إلى المحل هل المرأة حائض، هل هي جومعت في طهرها، ودون النظر بأنه تلفظ بثلاث بلفظ واحد، فأوقعوا الطلاق البدعي مع اعتقادهم حرمته، وهذه مسألة خلافية لكل من الفريقين دليل يستدل به، ولعل أخانا السائل يتصل بالإفتاء ويجد الجواب الشافي له.
وعلى السائل أن يستفتي ذا علم واجتهاد، فإن أفتاه بما يظهر له وبما يراه موافقا للشرع عمل المستفتي بفتواه، ونسأل الله للجميع التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(70/57)
س: يقول السائل: كيف تتم صلاة رجل أدرك الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وكيف يقرأ، هل يقرأ جهرا أم سرا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: هذا مبني على مسألة هل ما يدركه المسبوق مع الأمام هو أول صلاته أو آخر صلاته، فمن قال: إن المدرك هو آخر الصلاة قال: في هذه الركعات يقرأ الفاتحة وسورة معها، وكذلك في الركعة الثانية، ومن قال: إن المدرك أول الصلاة قرأ الفاتحة فقط والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيتم الصلاة فأتوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا (1) » فمن أخذ بهذا الحديث قال: إن المدرك آخر الصلاة؛ لأن المقضي هو أولها.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (636) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (602) ، سنن الترمذي الصلاة (327) ، سنن النسائي الإمامة (861) ، سنن أبو داود الصلاة (572) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (775) ، مسند أحمد بن حنبل (2/533) ، موطأ مالك النداء للصلاة (152) ، سنن الدارمي الصلاة (1282) .(70/58)
س: يقول السائل: رجل يتلوا القرآن ولكن بصورة غير سليمة رددت عليه أكثر من مرة فبماذا توجهوننا والحال ما ذكر؟ جزاكم الله خيرا هل ننصحه بالاستمرار في القراءة أم كيف؟
ج: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق له أجران أجر التلاوة وأجر المشقة (1) » . فالذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فهو مثاب، لكن لا ينبغي أن يرفع صوته بتلك القراءة التي قد يكون فيها لحن فيؤذي من يستمع إليه، وقد يقتدي به
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(70/58)
في خطئه من لا يحسن القراءة ثم ينبغي لمن سمعه أن يحاول تعليمه إن تمكن، وتوجيهه وإرشاده للطريقة السليمة، ثم ولله الحمد والمنة قد وجد القرآن في أشرطة تعليمية لقراء معتبرين، فبإمكان هذا الأخ الذي يعانى من ضعف في قراءته أن يستمع لأشرطة أولئك القراء، ويفتح المصحف، ويتبع بقراءتهم، وفيها أيضا أشرطة تسمى كيف تقرأ القرآن، وهذا إن شاء الله يعين على تصحيح تلاوته وإقامة ما أعوج من تلاوته.(70/59)
س: يقول السائل: ما حكم الخمار في الإسلام وكذلك النقاب والبرقع؟ جزاكم الله خيرا.
ج: أما الخمار للمرأة فواجب والله - جل وعلا - يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (1) فدلت الآية على أن ستر الوجه وتغطيته وحجابه أمر واجب، ووضع الخمار على الوجه؛ حماية للمرأة وصيانة لكرامتها، وإبقاء لشرفها، ومنع لتطلع الأراذل والفساق إليها، فإن من تركت الخمار حاول الأراذل التعرض لها، إذ الوجه عنوان جمال المرأة
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59(70/59)
والمبرهن عن جمالها فهو العضو الذي يحكي حسن المرأة من قبحها؛ ولهذا ستر الوجه وتغطيته من كمال ستر المرأة، ومن ينادي بأن الوجه ليس بعورة، وينادي بكشفه، وأنه يمكن الحجاب بتغطية الشعر، وسائر البدن مع إبداء الوجه، دعوة لو تأملوا ضررها وخطرها وما تجلبه للمرأة من الشرور؛ لأيقنوا بخطئهم، وأيقنوا بأنهم قالوا قولا خاطئا وتصوروا تصورا غير صحيح، فما أبقت المرأة الخمار على وجهها إلا كان عزا وشرفا، وما خلع الحجاب وأبدت وجهها سافرة أمام الرجال، إلا انحطت وانحدرت في مهاوي الرذيلة، وصار ذلك سببا لجلب فساد كبير.
نسأل الله أن يحفظ بنات المسلمين جميعا من كل سوء، وأن يرزقهن التمسك بشرع الله، والبعد عن مشابهة الكافرات في أخلاقهن ولباسهن وسائر أحوالهن. وأما النقاب فجائز إذا كان لا يؤدي إلى افتنان بالمرأة، فبعض النقاب وبعض البراقع ربما تكون سببا للافتنان بالمرأة، فإذا كان البرقع والنقاب على عين المرأة لتتمكن من الرؤية دون أن يحدث فتنة فلا مانع من ذلك.(70/60)
س: يسأل أخونا عن مساجد مكة يقول: هل مساجد مكة كلها حرم والصلاة فيها كأجر الصلاة في الحرم نفسه جزاكم الله خيرا؟
ج: جميع مساجد الحرم حرم؛ فما كان داخل الأميال فيسمى(70/60)
حرما؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية كان نازلا خارج الحرم، فإذا أراد أن يصلي دخل الحرم أي صلى داخل الأميال» ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، لم يحرمها الناس فهي حرام بتحريم الله لها (1) » ، فجعل الحرم عموما حرام سفك الدم فيه، وعضد شجره، والتقاط لقطته لم يخصصه بالمسجد الحرام، وإنما علقه بعموم الحرم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام (2) » يشمل جميع الحرم؛ لأن الله يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (3) وهو أسري به من بيته، ومن الأدلة أيضا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (4) الآية، ومعلوم أن الكافر لا يجوز إدخاله الحرم كله، وليس هذا الحكم مختصا بمسجد الكعبة. فجميع الحرم فيه الفضل، ولا يختص بذات المسجد، وإن كان الإنسان يرى في نفسه أن قربه ومشاهدة الكعبة أولى من غيره، وأنه إذا صلى في المسجد الحرام وشاهد الكعبة يرى لهذا في نفسه شأنا ليس كما إذا صلى في سائر مساجد مكة، لكن مع هذا كله نقول: إن الصحيح أن جميع الحرم تضاعف فيه الصلاة، ويدخل
__________
(1) صحيح البخاري الجزية (3189) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن النسائي مناسك الحج (2892) ، سنن أبو داود المناسك (2017) ، مسند أحمد بن حنبل (1/259) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1190) ، صحيح مسلم الحج (1394) ، سنن الترمذي الصلاة (325) ، سنن النسائي المساجد (694) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) ، موطأ مالك النداء للصلاة (461) .
(3) سورة الإسراء الآية 1
(4) سورة التوبة الآية 28(70/61)
في عموم حديث المضاعفة. والله أعلم.(70/62)
س: يقول السائل: حججت العام قبل الماضي وأنا مقيم بمكة وبعد الانتهاء من الحج خرجت إلى جدة لزيارة أقاربي في شهر ذي الحجة، ولم أكن قد طفت طواف الوداع هل علي شيء؟
ج: طواف الوداع واجب من واجبات الحج، وتركه يجبر بدم، فالأحوط لك أن تذبح كبشا بمكة وتوزعه على فقراء الحرم.(70/62)
س: يقول السائل: ما حكم صبغ اللحية بالسواد، هل هو حرام أو مكروه؟
ج: جاء فيها أحاديث ظاهرها النهي، والمسلم ينبغي له ترك الأشياء المشتبهة، على كل أقل الأحوال فيها الكراهة، وبعضهم يرى تحريمها، فترك الصبغ بالسواد أحوط.(70/62)
س: تقول السائلة: حججت مفردة وأكملت النسك وعند طواف الإفاضة والوداع شعرت بريح قد خرجت مني بالشوط الأخير فلم أخرج، هل عليها شيء مع العلم بأن الفتاة لم تتزوج ماذا يجب عليها؟(70/62)
ج: الطهارة من شروط صحة الطواف، فإذا أيقنت الحدث فقد بطل الطواف، ويجب عليك إعادته بعد الوضوء. أما إذا كنت لم تتيقني الحدث، فالأصل الطهارة وطوافك صحيح.(70/63)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ هل من نصيحة للذين يتهاونون في نغمات الجوال في المساجد ويسببون الإزعاج للمصلين؟
ج: لا شك أن الجوال وسيلة اتصال نافعة، لكن بيوت الله لها حرمتها، وإذا كان إنشاد الضالة فيها محرما فكيف بهذه الأصوات المزعجة للمصلين والتالين والذاكرين! فيجب عليك البعد عن الإضرار بإخوانك، والحرص على احترام بيوت الله، فاحرص على إغلاق الجوال داخل المسجد أو على الأقل إغلاق صوته؛ احتراما لبيوت الله. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) .
__________
(1) سورة الحج الآية 32(70/63)
س: يقول السائل: أعاني من أمراض نفسية كثيرة مزمنة حرمتني من مصاحبة الأخيار، فهي تجعلني انطوائيا فاقد الثقة في نفسي، علما بأنني محافظ على الصلوات وتلاوة القرآن فبماذا(70/63)
تنصحوني؟
ج: هذه الوساوس من نزغات الشيطان، فعليك بذكر الله والإكثار منه، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) ثم عليك يا أخي أن تحاول التخلص من عزلتك، وأن تحمل نفسك على الاتصال بالناس والاختلاط بهم، فإن العزلة تجلب الهم والغم، وتجعل الإنسان في بعد عن الناس، وتكثر عليه الوساوس، ويتسلط عليه عدو الله إبليس. شفاك الله وعافاك.
__________
(1) سورة الرعد الآية 28(70/64)
س: يقول السائل: أنا من سكان مكة ونويت الحج العام الماضي، وخرجت يومي السابع والثامن من ذي الحجة إلى الطائف لزيارة والدتي وعدت إلى مكة ليلة التاسع ولم أحرم من الميقات أي السيل، بحكم أني من سكان مكة، أحرمت يوم التاسع من منزلي بمكة، هل عملي صحيح؟
ج: ما دمت قد مررت بالميقات وأنت ناو للنسك فالواجب عليك عدم مجاوزته إلا بإحرام، وأنت تقول: إنك لم تحرم إلا بعد دخول مكة، فيجب عليك دم تذبحه بمكة وتوزعه على فقراء الحرم. والله أعلم.(70/64)
س: يقول السائل: هل لأهل مكة طواف وداع في الحج والعمرة؟
ج: ليس على أهل مكة وداع.(70/65)
س: يقول السائل: دخلنا المسجد ونحن جماعة، ووجدنا الإمام يصلي التراويح فهل يحق لنا أن نقدم أحدنا للإمامة أو ندخل معهم في صلاة التراويح، ونحن لم نصل صلاة العشاء؟
ج: ما دمتم جماعة فصلوا وحدكم العشاء، ثم ادخلوا مع الإمام في صلاة التراويح.(70/65)
س: يقول السائل: رجل مسافر وجد مسجدا على الطريق يصلي فيه جماعة مقيمون، ودخل معهم في التكبيرة الأولى، ولما قاموا من التشهد الأول لم يقف؛ لكونه مسافرا ولكنه بقي جالسا، حتى سلم الإمام فسلم معه فما حكم صلاته؟
ج: المسافر إذا صلى خلف مقيم فإنه يتم؛ لحديث ابن عباس يقول موسى بن سلمة: «كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (1) » . وعليه فإنك تعيد صلاتك
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (688) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1444) ، مسند أحمد بن حنبل (1/216) .(70/65)
فتصليها أربع ركعات.(70/66)
س: يقول السائل: أنا رجل أقسط السيارات المستعملة على الآخرين هل في هذا المال زكاه؟
ج: إذا مضى حول على الديون التي في ذمة المقسطين لك، ففيها الزكاة؛ لأن الغالب أنهم يسددون ويدفعون.(70/66)
س: يقول السائل: إذا كان لدي لحية كثيفة، ولكنها متفرقة، بعض الشعر طويل، وبعضه قصير، هل يجوز لي أن أساوي بينها؟
ج: السنة أن تبقي اللحية على ما هي عليه؛ اقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(70/66)
س: يقول السائل: نعمل في العمارات المباشرة المطلة مباشرة على الحرم، ونؤدي الصلاة في أحد الأدوار العلوية مع جماعة المسجد بإمام واحد، مع العلم بأننا نرى أحيانا بعض الصفوف وأحيانا لا نراها هل تصح صلاتنا؟
ج: إن كنتم ترون الصفوف فنعم، وإلا فلا؛ لأن من شرط الائتمام لمن كان خارج المسجد أن يرى الإمام أو المأمومين.(70/66)
س: يقول السائل: ما حكم السفر والإقامة في بلاد الكفار من أجل العمل فقط؟
ج: أسأل الله للجميع العفو والعافية، وأن يحفظ المسلمين بحفظه، وأن يحفظهم من شرور أنفسهم، لا شك أن الإقامة في بلاد الكفر خطر وأضرارها عظيمة، إن سلم منها الرجل الكبير السن فأولاده وبناته لا يسلمون، إلا النادر، بل عندهم في بعض الدول الأوربية الإجبار للتعليم لكل فرد لا بد أن ينخرط في سلك التعليم الذي على مناهجهم، ومعلوم ما فيها فينشأ الأبناء والبنات نشأة بعيدة عن دينهم، وقد يتأثرون بدين الدولة التي يدرسون فيها، فالأمر خطير، ومن كان في بلاد الكفار ولا يستطيع إظهار دينه أو خشي على نفسه أو دينه، فيجب علية تركها والبحث عن مكان يظهر فيه دينه، ويأمن على نفسه وأولاده. نسأل الله أن يهدي المسلمين لطاعته.(70/67)
س: يقول السائل: ما صحة قراءة سورة الفاتحة مائة وعشر مرات لتلبية وقضاء الحوائج، وإذا لم تكن واردة فما هو الورد الذي صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لقضاء الحاجات؟
ج: أما قراءة الفاتحة مائة مرة أو أكثر لقضاء الحوائج فلا أصل له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبد هم ولا غم(70/67)
ولا حزن فيقول: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أبدله الله من حزنه فرحا (1) » فهذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم تقوله أيها المسلم في كل حاجة، وقل: يا حي يا قيوم، يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، والجأ إلى الله وألح عليه بأنواع الدعاء، فإنه سبحانه يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (2) . ويقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (3) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/391) .
(2) سورة النمل الآية 62
(3) سورة البقرة الآية 186(70/68)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ هل جميع الأنبياء من العرب؟
ج: أما العرب العاربة ففيهم الأنبياء قبلنا: هود وصالح وشعيب عليهم السلام، وأما العرب المستعربة ففيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم. وليس كل نبي من العرب ولا أعلم في هذا دليلا صحيحا.(70/68)
س: سائلة تسأل: ما هو الواجب على المرأة المسلمة عند خروجها من بيتها للسوق أو للمسجد أو لزيارة أقربائها؟
ج: عليها أن تتقي الله فتبتعد عن الطيب، وتكون ملازمة للحجاب، وتترك الملابس الضيقة التي ربما تحدد تقاطيع جسمها، وأن تكون متسترة متحفظة حريصة أن تقضي غرضها وترجع في الحال، ولا تتخذ الأسواق لها مجالا للتسكع والانتقال من محل إلى آخر، بل تخرج إلى حاجتها فتقضيها وتعود في الحال.(70/69)
س: يقول السائل: أعمل في الطائف وأسكن في مكة والمسافة التي أقطعها ثلاثمائة كيلو متر، السؤال ما حكم الصلوات في الجمع والقصر كالظهر مثلا، وهل أصلي مع العصر؟ وإذا وصلت إلى مكة قبل صلاة العصر وقد صليتها قصرا مع الظهر هل أصليها سنة؟
ج: إذا كانت المسافة كما تقول، فإنك تعتبر مسافرا ولك الترخص برخص السفر ومنها الجمع، فإذا جمعت الظهر مع العصر، ثم سافرت إلى مكة، ووصلتها وهم يصلون العصر، فلا يلزمك الدخول معهم؛ لأنك قد صليتها.(70/69)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ هل من توجيه للآباء والأمهات بكيفية قضاء أوقات أبنائهم في أيام الإجازات والعطل؟
ج: الواجب على الوالدين الحرص على حفظ أولادهم بنين(70/69)
وبنات وتوجيههم، فإنهم أمانة في أعناقهم وهم مسئولون عنهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » .
فأول ما يجب عليهم تعاهدهم في أمر الصلاة، يقول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (2) .
ومن ثم حملهم على فعل الخيرات، ومجانبة المنكرات بأنواعها، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3) .
وفي أوقات الإجازات والعطل يحرص الوالدان على العناية بأوقات أولادهم، إما في حفظ القرآن الكريم أو في الأعمال النافعة وصلة الأرحام، أو في سفر مستحب كالعمرة وزيارة المسجد النبوي، أو مباح للترويح عن النفس مع البعد عن المنكرات، المهم أن يكون الأولاد مقيمين لأوامر الله بعيدين عن حدوده ومحرماته. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة التحريم الآية 6(70/70)
س: ما حكم الغش في الامتحانات الدراسية؟
ج: الغش محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من(70/70)
غشنا فليس منا (1) » . وهذا عام يشمل الامتحانات وغيرها.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (101) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(70/71)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ هل يجوز أن يتقدم لإمامة الناس من يشرب الدخان ويحلق لحيته؟
ج: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا من أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله» ، وإذا كان الإمام سيئا يتعاطى الدخان، ويسبل الثياب، ويحلق لحيته كيف يؤم الجماعة؟ والواجب عليه تقوى الله، ويقدر الإمامة قدرها، ويجب عليه أن يبتعد عن المحرمات سواء أم الناس أو لم يؤمهم.(70/71)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ هل الحسنات تضعف في مكة وكذلك السيئات؟
ج: أما الحسنات فنعم بالنص فإن الصلاة في الحرم بمائة ألف صلاة، وأما السيئات فإنها تعظم في الحرم، فالسيئة في الحرم أعظم من سيئة خارج الحرم، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) فمن هم بالسيئة في الحرم وإن لم يفعلها عاقبه الله، قال بعضهم: لو هم بالسيئة وهو في الصين لأوشك أن ينزل به عذاب الله.
__________
(1) سورة الحج الآية 25(70/71)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 12082
السؤال الأول: هل تصح الصلاة إذا شرب المسلم الخمر ولم يمتنع عنها مع علمه بحرمته، فهل للصلاة دخل في هذا؟
ج: يحرم شرب الخمر مطلقا في أي وقت، قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وإذا صلى الإنسان وهو مخمور لا يعقل، فإن صلاته غير صحيحة، ويجب عليه الإعادة، وإذا كان غير مخمور فإن صلاته صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(70/73)
من الفتوى رقم 7269
السؤال الأول: على الشخص قضاء صلاة المغرب ونسيها وصلى العشاء وبعد صلاة العشاء ذكر أنه ما صلى ما عليه من القضاء، فهل صلاته صحيحة أم باطلة، أم ماذا يجب أن يفعل؟
ج: صلاته العشاء صحيحة على الصحيح من قولي العلماء ولا إثم عليه؛ لكونه معذور بالنسيان، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) ، «ولقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله - عز وجل - أنه قال: (قد فعلت) » رواه مسلم في صحيحه (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) رواه الأمام مسلم برقم 126، والترمذي برقم 2995.(70/74)
الفتوى رقم 8488
س: نسيت أن أصلي صلاة العصر وتذكرت بعد حوالي(70/74)
ساعة ونصف أي في الوقت الذي تكره في الصلاة فتركتها لأصليها مع المغرب، فما الحكم؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت فأنت مخطئ في تأخير صلاة العصر إلى المغرب، وعليك التوبة والاستغفار من ذلك. والواجب عليك إذا نسيت صلاة الفريضة أو نمت عنها أن تصليها حينما تذكرها أو تستيقظ من نومك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(70/75)
من الفتوى رقم 8972
السؤال الأول: ما حكم من نام أو نسي صلاة واحدة من الصلوات الخمس، مثلا نام أو نسي صلاة الصبح ولم يذكرها حتى صلى العشاء الآخرة فماذا يفعل. هل يصلي صلاة الصبح التي لم يصلها هي وحدها، أو يعيد ما صلى جميعا فيصلى الصبح(70/75)
والظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومع أن الظهر والعصر والمغرب والعشاء صلاها جميعا إلا الصبح؟ أفيدونا يرحمكم الله.
ج: عليه أن يصلي الصبح فقط، وليس عليه أن يعيد الصلوات المذكورة؛ لكونه صلاهن ناسيا أن عليه صلاة الصبح، قال الله عز وجل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قال: " قد فعلت" (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 126، والترمذي في الجامع رقم 2995 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(70/76)
من الفتوى رقم 5133
السؤال الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » هل المقصود بالسنة السابعة عند ما يتم ست سنوات
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(70/76)
ويبدأ في السابعة، أم عندما ينهي السابعة ويدخل في الثامنة؟
ج: إذا بلغ الولد سبع سنين يأمره وليه بالصلاة ليعتادها؛ لما روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » ، وبهذا يعلم أن المراد كمال السبع لا البدء فيها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2 \ 187، 180 وأبو داود في السنن رقم 495، والدارقطني في السنن 1 \ 230، والحاكم في المستدرك 1 \ 197، 201 وصححه من حديث ابن عمرو، وأخرجه أبو داود في السنن رقم 494، والترمذي في الجامع رقم 407 وقال: هذا حديث حسن صحيح من حديث ميسرة.(70/77)
من الفتوى رقم 13135
س: أنا عندي عيالي أعمارهم من 9 سنوات إلى 11 سنة وأقيمهم للصلاة، وعند صلاة الفجر يصير به برد، ونهوني(70/77)
بعض الخطباء قالوا: إنك تكسب إثما في هؤلاء الجهال، والآن نسألكم هل علي إثم أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا وعافية.
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت فقد أحسنت - جزاك الله خيرا - ونرجو أن يثيبك الله، وأن يجعلك قدوة حسنة لغيرك من ذوي الأولاد، وقد أخطأ من قال: إنك آثم، ونرجو أن يعفو الله عنه، وأن يوفقه للصواب والتشجيع على فعل الخير، روى أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » . وهذا الحديث الشريف يعم أوقات الشتاء وغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(70/78)
الفتوى رقم 3432
س: هل يجب علي الصيام والحج والصلاة وعمري تسع سنوات؟(70/78)
ج: يكلف الذكر إذا بلغ خمس عشرة سنة، أو أنزل المني في نومه مطلقا، أو في يقظته بشهوة، أو نبت حول قبله شعر خشن، والمرأة تشارك الذكر في هذه العلامات الثلاث وتزيد عليه الحيض، لكن لو صليت وصمت وحججت قبل ذلك فكل منها صحيح ولكنها كلها نافلة، ولا يجزئ الحج عن حجة الإسلام؛ لأن الحج لا تسقط به الفريضة إلا بعد التكليف، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » ، ونسأل الله لك المزيد من الهداية والتوفيق والصلاح، وأن يجعلك قرة عين لأبويك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(70/79)
من الفتوى رقم 8439
السؤال الثاني: أنا أسأل: أنا لي ولدان واحد عمره 16 سنة وواحد عمره 14 سنة أحثهم على الصلاة، وأضربهم وأعلمهم، وهم مرة يصلون ومرة ما يصلون، ماذا أفعل فيهم(70/79)
حيث إن بعض الناس يقول: ما لك صلاة وهم ما يصلون؟ أخبروني جزاكم الله خيرا.
ج: استمري في أمرهم بالصلاة وحثهم على المحافظة عليها، وإبعادهم عن جلساء السوء، وأما قول الناس: ليس لك صلاة إذا ترك أولادك الصلاة، فليس بصحيح بل صلاتك صحيحة، ولك أجر عظيم في قيامك على أولادك أصلحهم الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(70/80)
من الفتوى رقم 2255
السؤال الثاني: إذا كانت تؤخر الصلوات عن أوقاتها، وتشجع بناتها الكبيرات والصغيرات على ذلك فما الحكم؟
ج: إذا كان حالها كما ذكر فهي مرتدة مفسدة لبناتها وبنات زوجها، فتستتاب، فإن تابت واستقامت أحوالها فالحمد لله، وإن أصرت على ما ذكر رفع أمرها على الحاكم ليفرق بينها وبين زوجها، وليقيم عليها الحد الشرعي وهو القتل؛ لحديث ابن عباس(70/80)
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » ، هذا إذا كانت تؤخر الصلاة عن وقتها كتأخير العصر حتى تغرب الشمس أو الفجر حتى تطلع الشمس؛ لأن تأخيرها عن وقتها بدون عذر شرعي حكمه حكم الترك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 1 \ 282، والبخاري برقم 6922 فتح الباري، وأبو داود برقم 4329، والترمذي برقم 1483، والنسائي 7 \ 96 ط الحلبي واللفظ له.(70/81)
من الفتوى رقم 443
السؤال الأول: ما حكم رجل يسمي نفسه مسلما مع تركه الصلوات الخمس، وصومه رمضان من أوله إلى آخره يفطر بالخمر بعد الغروب، ويحرم على نفسه ذبائح النصارى؟
ج: لا يكون الرجل مسلما بمجرد قوله: أنا مسلم " فإن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال " (1) كل من الإيمان والإسلام له أركان جاء بيانها في حديث
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم رقم 56 موقوفا على الحسن البصري رحمه الله.(70/81)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه قال: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي، الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت - الحديث - إلى أن قال. . ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (1) » ففي هذا الحديث بيان درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان،
__________
(1) مسلم برقم 8، والترمذي برقم 2738، وأبو داود برقم 4706، والإمام أحمد 1 \ 51.(70/82)
فأما الإسلام فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأول ذلك شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وهو عمل اللسان، ثم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
وهي منقسمة إلى عمل بدني كالصلاة والصوم، وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة، فمن أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلما حقا مع أن من أقر بالشهادتين صار مسلما حكما، فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام.
فإن جميع الأعمال الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام، ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (1) » ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (2) » ، وما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن
__________
(1) البخاري برقم 10 و6484، ومسلم برقم 40، وأحمد في المسند 2 \ 160 و163 و187 و191 و192 و195 و205 و206 و209.
(2) الإمام أحمد 2 \ 169 و170 و196 و295 و323 و324 و391 و442 و493 و495 و512، والبخاري برقم 6236، ومسلم برقم 39.(70/83)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتوحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا جميعا لا تراجعوا، وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، والصراط الإسلام والسوران حدود الله عز وجل، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم (1) » ، زاد الترمذي: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) ففي هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه، ونهى عن مجاوزة حدوده، ومن ارتكب شيئا من المحرمات فقد تعدى حدوده.
وأما الإيمان فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتقادات الباطنة، وهذا التفسير للإيمان يكون في حالة إذا ما اجتمع مع الإسلام كما في الحديث السابق، وبيان ذلك أنه إن ذكر الإسلام مفردا دخل فيه الإيمان كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3)
__________
(1) أحمد 4 \ 182 و183 واللفظ له، والترمذي في الجامع برقم 2863 وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث النواس بن سمعان، وقال ابن كثير في التفسير 1 \ 56: إسناده حسن.
(2) سورة يونس الآية 25
(3) سورة آل عمران الآية 19(70/84)
وإذا ذكر الإيمان مفردا دخل في الإسلام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1) » أخرجاه في الصحيحين واللفظ لمسلم.
أما إذا اجتمعا فإن الإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، والإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (2) فإن هؤلاء لم يكونوا منافقين على أصح التفسيرين، وهو قول ابن عباس وغيره (3) ، بل كان إيمانهم ضعيفا، ويدل على ذلك قوله تعالى في آخر الآية: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (4) الآية. يعني لا ينقصكم من أجورها، فدل على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، فأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو إتيانه بعض المحرمات، وإنما ينتفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية كترك الصلاة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (5) » أو أتى بناقض من نواقض الإسلام التي
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .
(2) سورة الحجرات الآية 14
(3) ابن جرير في تفسيره 26 \ 142، وابن مردويه كما في الدر المنثور 7 \ 584.
(4) سورة الحجرات الآية 14
(5) أحمد في المسائل 55، والدارقطني في السنن 2 \ 52، وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة رقم 923 إلى 929 من حديث ابن عباس والمسور بن مخرمة عن عمر بن الخطاب موقوفا، والآجري في الشريعة 134، وابن سعد في الطبقات 3 \ 351، واللالكائي في شرح أصول السنة 2 \ 825.(70/85)
أوضحها أهل العلم في باب حكم المرتد.
وأما الإيمان فإنه يكون إيمانا كاملا أو إيمانا ناقصا. فمن أتي بأركان الإيمان وأركان الإسلام وفعل الواجبات وترك المحرمات فهو المؤمن إيمانا مطلقا، أي كاملا، ومن أتى بأركان الإيمان وأركان الإسلام وترك شيئا من الواجبات مع اعتقاد وجوبها، أو فعل شيئا من المحرمات مع اعتقاد تحريمها فهذا مؤمن إيمانا ناقصا.
وأما الإحسان فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ودرجة الإحسان أعلى من درجة الإسلام وأعلى من درجة الإيمان، وإذ بينا هذا الأصل في هذا الباب، فإن الذي يترك الصلاة لا يخلو من إحدى حالتين:
الأولى: أن يتركها جاحدا لوجوبها فهذا يكفر إجماعا؛ لأنه ترك ركنا من أركان الإسلام معلوما بالضرورة جاحدا لوجوبه.
الثانية: أن يتركها تهاونا وكسلا مع إقراره بوجوبها، فهذا يكفر في أصح قولي العلماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمدا برئت منه ذمة الله ورسوله (1) » . رواه الإمام أحمد،
__________
(1) الإمام احمد 6 \ 421 من حديث أم أيمن، والطبراني في الكبير 24 \ 190، وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة برقم 912 من حديث أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم واللفظ له، ورقم 913(70/86)
وهذا يدل على إباحة قتله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » رواه مسلم، فهذا يدل على كفره، وأما كون هذا الشخص يفطر على الخمر، فمن كان مسلما وأفطر على الخمر فقد أفطر على ما حرم الله، فإن كان يعلم أنه محرم واعتقد حله فهو كافر، وإن كان يشربه وهو يعتقد حرمته فهذا كبيرة من كبائر الذنوب لا يخرج بها من الإسلام، والخمر هي أم الخبائث فلا يجوز لمسلم تعاطيها؛ لما يترتب عليها من الأضرار الدينية والدنيوية والبدنية والنفسية والاجتماعية، وأما كون هذا الشخص يحرم ذبائح النصارى فيحسن التنبيه هنا أن هذا الشخص إن كان يعتقد تحريمها وهو يعلم أن الله أباحها فإنه يكون بذلك كافرا؛ لأنه اعتقد تحريم ما أحل الله وهو يعلم في باطن الأمر أنه حلال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2618) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(70/87)
من الفتوى رقم 3291
السؤال الثاني: فيه رجل تارك فروض الصلاة، أو متهاون فيها ما عدا يوم الجمعة أول شخص يدخل الجامع هو، فما حكم(70/87)
ذلك علما أنه ليس بأمي بل متعلم؟
ج: الصلاة ركن من أركان الإسلام فمن تركها جاحدا لوجوبها فهو كافر بالإجماع، ومن تركها تهاونا وكسلا فهو كافر على الصحيح من قولي العلماء في ذلك، والأصل في ذلك عموم الأدلة التي دلت على الحكم بكفره، ولم تفرق بين من تركها تهاونا وكسلا، ومن تركها جاحدا لوجوبها، فروى الإمام أحمد وأهل السنن في سند صحيح من حديث بريدة بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » . وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » . وروى عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة (3) ، رواه الترمذي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) الترمذي برقم 2757.(70/88)
من الفتوى رقم 6787
السؤال السابع: قرأت لفضيلتكم فتوى بكفر تارك الصلاة كسلا، فإن لم يصل فهل يستتاب، وكم عدد مرات الاستتابة؟ وإن لم يتب فما الحكم في ذلك؟
ج: يستتاب تارك الصلاة عمدا ثلاثة أيام على الصحيح، فإن تاب فالحمد لله، وإلا قتل بواسطة الحاكم الشرعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » ، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنه الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) البخاري 8 \ 50، المكتبه الإسلامية، استانبول.(70/89)
من الفتوى رقم 4345
السؤال الثاني: مات أخ لي وعمره يتجاوز 24 سنة ولم يصل ولا ركعة في حياته وقد يكون صام شهرا واحدا في حياته،(70/89)
وكان مدمن خمر، وكان يزني ويسرق، ومات وهو شارب للخمر مصطدما بسيارته مع شجرة، وأطلب من سيادتكم هل يجوز لوالديه وأحبابه أن يستغفروا له أم لا؟
ج: إذا كان حال أخيك في حياته حتى مات كما ذكرت، فلا يجوز لمن علم حاله أن يستغفر له، لكفره بتركه الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » . أخرجه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح مع أدلة أخرى في ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(70/90)
من الفتوى رقم 5130
السؤال الثالث: شخص لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس تكاسلا، والعصر لا يصلي إلا قبيل غروب الشمس بحجة(70/90)
أنه يأتي من العمل متأخرا مع أذان العصر وتعبان فينام ويترك الصلاة، فما حكم صلاته، وهل يؤثر على الصيام؟
ج: تركه لصلاة الصبح من غير نوم ولا نسيان بل تكاسلا عنها حتى تطلع الشمس كفر أكبر على الصحيح من قولي العلماء؛ وعلى هذا القول صيامه غير صحيح، وأما تأخيره لصلاة العصر إلى قبيل غروب الشمس فذلك من صفات المنافقين كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه إذا أداها في ذلك الوقت أجزأته، ولا يفسد بذلك التأخير صيامه، وعليه التوبة من ذلك، والواجب عليه أن يصليها قبل أن تصفر الشمس في المسجد جماعة مع المسلمين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(70/91)
من الفتوى رقم 6299
السؤال الثالث: دخل رجل الإسلام وعمره أربعون سنة هل يقضي ما فاته من الصلاة؟(70/91)
ج: لا يقضي من أسلم ما فاته من الصلاة والصيام والزكاة أيام كفره؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما قبله (2) » ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا ممن أسلم بقضاء ما فاته من شعائر الإسلام أيام كفره، ولإجماع أهل العلم على ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) صحيح مسلم الإيمان (121) ، مسند أحمد بن حنبل (4/204) .(70/92)
من الفتوى رقم 8569
س: لقد سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1396هـ لغرض الدراسة، وأمضيت هناك خمس سنوات حتى حصلت على البكالوريوس، وأثناء إقامتي هناك لم أصم الخمس(70/92)
رمضانات، وسبب ذلك أنني كنت والعياذ بالله بعيدا عن الدين، أي فاسقا بمعنى آخر فما الحكم؟ علما بأنني لم أحاول صيام تلك الخمس رمضانات بل تركتها عمدا بسبب الفسوق والعياذ بالله، والحمد لله على الهداية، أرجو إفتائي بذلك، والله يحفظكم، كما آمل منكم إفتائي في كيفية قضاء الصلاة إذا تركت عمدا وليس سهوا؛ لأنني كنت لا أصلي خلال تلك المدة التي أمضيتها في أمريكا، فكيف أقضي تلك الصلاة والصيام؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من التوبة وسلوكك طريق الهدى فليس عليك قضاء ما تركته عمدا من الصلاة والصيام؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر وردة عن الإسلام، وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، والمرتد إذا أسلم لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة والصيام في ردته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (1) » ، وعليك أن تحافظ مستقبلا على أداء الصلاة جماعة في وقتها مع المسلمين في المساجد، وأداء صيام رمضان، ويشرع لك الإكثار من الأعمال الصالحة، ونوافل العبادة من صلاة وصيام وصلة رحم وصدقات وغير ذلك من أعمال الخير حسب الاستطاعة؛ لقول الله تعالى:
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (121) ، مسند أحمد بن حنبل (4/204) .(70/93)
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) .
ونسأل الله لنا ولك الثبات على الحق والتوفيق إلى أقوم طريق.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 82(70/94)
من الفتوى رقم 687
السؤال الثاني: رجل ترك الصلاة عدة شهور أو سنوات فهل يجب عليه قضاءها؟
ج: جمهور الفقهاء يقول بوجوب قضاءها؛ لأنها دين في ذمته، ويستدلون بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق بالقضاء (1) » . ويرى بعض الفقهاء أنه لا قضاء على من تركها
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1 \ 212، 224، 227، 240، 258، 279، 345، 359، 362، من حديث ابن عباس، وأخرجه البخاري في الصحيح رقم 1852، 6699، 7315، ومسلم في الصحيح رقم 1148 واللفظ له، وأبو داود برقم 3286، والترمذي برقم 712.(70/94)
عمدا؛ لأنه كفر بتركه للصلاة كفرا خرج به من ملة الإسلام، والعياذ بالله، وحبط عمله، وقالوا: إنما يجب القضاء على من تركها ناسيا أو لنومه؛ لأنه معذور، فشرع له قضاؤها ليتدارك ما فاته، بخلاف من تركها عمدا فإنه غير معذور، وليس أهلا لإعطائه فرصة يتدارك فيها ما فاته، وليس له جزاء إلا النار، إلا أن يتوب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي(70/95)
من الفتوى رقم 3901
السؤال الثاني: أنا شاب مسلم بدأت أصلي وعمري حوالي ثماني عشرة سنة، فهل من الواجب علي قضاء الصلاة التي وجبت علي قبل ذلك، وإذا كان هناك قضاء فمن أي سنة؟
ج: تستغفر وتتوب إلى الله عما مضى وليس عليك قضاء؛ لأن ترك الصلاة كفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » . ولأحاديث
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(70/95)
أخرى، وكفارة الكفر التوبة إلى الله سبحانه مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة كما قال الله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 82(70/96)
من الفتوى رقم 2873
السؤال السادس: فاتتني عدة صلوات مكتوبة فذهبت إلى المسجد الحرام للعمرة، فاغتنمت وجودي بمكة المكرمة، فشرعت بقضاء هذه الفوائت، فأيهما أفضل هل أقوم بصلاة عدة ركعات نافلة بدون أذان ولا إقامة، أم أقوم بإقامة الصلاة، وأنوي قضاء الوقت الفلاني الفائت مثلا؟
ج: تنوي بصلاتك قضاء الصلوات التي فاتت، وتقيم لكل صلاة، أما إن كنت تركت الصلوات التي فاتت عمدا وتهاونا(70/96)
وكسلا فليس عليك قضاء، ولكن عليك التوبة النصوح والاستغفار والرجوع إلى الله جل وعلا؛ لأن ترك الصلاة المكتوبة عمدا كفر أكبر يحبط العمل، وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (2) » ، والكافر إذا أسلم لا يقضي ما ترك من الصلوات؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) الآية، أما من جحد وجوب الصلوات الخمس أو واحدة منها فأنه يكفر كفرا أكبر بإجماع العلماء، نسأل الله العافية والسلامة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرازق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) سورة الأنفال الآية 38(70/97)
صفحة فارغة(70/98)
الإرهاب
أسبابه ووسائل العلاج
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . . وبعد:
فإنه لما كان انعقاد الدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي لهذا العام 1424هـ بمكة المكرمة، وكان في جدول أعماله مواضع هامة تمس حاجة المسلمين، وتعالج قضاياهم، وعلى رأس هذه المواضع مشكلة التهديدات الإرهابية؛ أسبابها وآثارها وحكمها الشرعي، ووسائل الوقاية منها.
ونظرا لأهمية الموضوع خصوصا في هذا الزمان، وللحاجة الماسة إليه رأينا المشاركة فيه ببحث حول حقيقة الإرهاب، ومن ثم(70/99)
نبين أسباب هذه الآفة ووسائل علاجها.
وقبل أن نتكلم عن الأسباب والعلاج نحب أن نقدم الكلام عن مصطلح الإرهاب، وما يتعلق بهذا المصطلح، وما يراد به، وبعض النقاط التي نرى أنها هامة، ويجب تنبيه أهل الإسلام وغير المسلمين إليها، مستمدين من الله العون والتوفيق.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(70/100)
مصطلح الإرهاب:
هذا المصطلح ظهر في الآونة الأخيرة وخصوصا بعد ما يطلق عليه (أحداث 11 سبتمبر2001) وكان الاهتمام به على أعلى المستويات الإعلامية والدولية، وركزت الحملة فيه على هذه القضية وعلى هذا المصطلح (الإرهاب) ومحاربته، ومحاربة من ينتسب إليه، وهو ما يسمى بالإرهابي، ولكننا نرى أن هذه الحملة بدأت تحدد مسارها شيئا فشيئا وتضيق أطرها حتى كاد ينحصر هذا المصطلح في الإسلام والمسلمين، فصارت الأصابع تشير إليهم دائما بهذه التهمة، والتي تعتبر في العرف الدولي جريمة من أعظم جرائم العصر.
لكن اللافت هو أن هذا المصطلح وإلى الآن لم يتحدد مفهومه، بل تشن الحملة ضده بدون تحديد واضح المعالم لما هو الإرهاب ومن هو الإرهابي ومتى يكون إرهابيا، وكيف يكون هذا الشخص أو تلك الجماعة أو الدولة أو الدول إرهابية.
كل هذا لم يتحدد دوليا، وقد ذكر البعض أن عدم التحديد هذا مقصود.
وبكل حال فإن محاربة مصطلح وشن الحملات المتتابعة على أعلى المستويات الإعلامية والأمنية والدولية عليه، مع عدم معرفة حدوده تعتبر حربا على مجهول، وهذا من شأنه أن يوقعنا في(70/101)
إشكالات كثيرة منها: أن نعادى أطرافا على أنهم إرهابيون وليسوا كذلك، وهذا ظاهر فيمن يحارب ويقاوم لأجل أن يخلص بلاده من المحتل مثلا.
وأيضا من الإشكالات أن يترك أطراف هم أشد عنفا وعداوة وإفسادا، فلا يقاومون ولا ينكر فعلهم؛ لأن هذا المصطلح لم يطلق عليهم وإن كان منطبقا عليهم.
نحن في دين الإسلام لا نقر استخدام الألفاظ المحتملة لعدة معان من غير تمييز المعنى المراد؛ لأن ديننا إنما جاء بالوضوح والصراحة والصدق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1) .
وديننا جاء بالعدل فلا يمكن أن يحملنا بغضنا وعداوتنا لأقوام على أن نعتدي عليهم ولو بالألقاب التي لا تنطبق عليهم {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
وتعلمنا في دين الإسلام أنه لا يمكن أن يحمل أطراف ذنوب أطراف أخرى، وبعبارة أخرى لا يمكن أن يؤخذ أطراف بجرائر آخرين مهما كان، يقول الله عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) .
إذن الدين الإسلامي واضح في هذه القضية أشد الوضوح، ولذا
__________
(1) سورة التوبة الآية 119
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) سورة الأنعام الآية 164(70/102)
نجد أن العقيدة والأحكام الشرعية والعبادات وأحكام المعاملات وفقه الأسرة ونحو ذلك واضحة جلية في الشريعة الإسلامية.
وعلى هذا كله نقول: إن المسلمين انطلاقا من دينهم يطالبون بتحديد الألفاظ والمصطلحات وتحديد معانيها، ولا يمكن أن يكون المسلم الحق ساعيا في تعمية المصطلحات لأن دينه ينهاه عن ذلك. وإن كنا نعلم بما نشاهد في الواقع أن من المصطلحات ما يقصد إجمالها وعدم بيانها، ويكون في ذلك مصلحة ومكاسب لمن يسعى إلى عدم بيانها ويقصد إلى غموضها، بينما ديننا الإسلامي ينهانا عن ذلك، فلا تغرير ولا خداع ولا غدر ولا خيانة ولا كذب في الإسلام، بل هو الدين الواضح الصادق وهو المحجة البيضاء.
وإذا كنا نريد تحديدا لهذا المفهوم في ديننا، فإنه ينبغي لنا أن نبحث عن الأصل اللغوي لهذه الكلمة إذ الدين الإسلامي جاء بلغة العرب، فننظر لأصلها وماذا تعنى في اللغة ثم ننظر إلى الاستعمال الشرعي من خلال النصوص لهذه الكلمة.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا السياق أن الحقائق اللفظية عندنا ثلاثة أقسام: الحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية، فإذا كنا بصدد البحث في لفظ أو مصطلح فالنظر أولا هل بحثنا عنه من جهة دلالته اللغوية، فالعبرة إذن بقول أهل اللغة في ذلك، أو(70/103)
يكون النظر فيه من جهة دلالته الشرعية فالعبرة فيه بقول أهل الشرع من خلال النصوص الشرعية، أو يكون النظر فيها من جهة دلالتها العرفية فيكون المعتبر قول أهل العرف وعملهم.
والإرهاب الذي نحن بصدد الحديث عنه. أصله في اللغة من مادة (ر هـ ب) وهذه المادة كما يقول ابن فارس - يرحمه الله - لها أصلان في اللغة: أحدهما يدل على خوف، والآخر يدل على دقة وخفة.
فالأول (وهو الخوف) : الرهبة تقول رهبت الشيء رهبا ورهبا ورهبة. والترهب: التعبد، ومن الباب الإرهاب، وهو قدع الإبل من الحوض وذيادها.
وفي اللسان رهب بالكسر، يرهب رهبة ورهبا بالضم ورهبا بالتحريك أي خاف، ورهب الشيء رهبا ورهبا ورهبة: خافه. . . إلى أن قال:. . وأرهبه رهبه واسترهبه، أخافه وفزعه.
ونلاحظ هنا أن أصل الكلمة اللغوي يدل على الخوف وعلى استدعاء الخوف، فالإرهاب من قولك أرهب يرهب إرهابا، فأصله أرهب، أي خوف وفزع كما مر.
وهذا المعنى في نفسه لا يقتضي مدحا ولا ذما، فالخوف والتخويف ليس مذموما مطلقا ولا ممدوحا مطلقا.(70/104)
فحين يخاف الإنسان من السبع فهذا خوف طبيعي لا يمكن أن يذم به الإنسان، وحين يخوف المرء عدوه الذي يريد الاعتداء عليه فهذا أيضا لا يمكن ذمه، فهذه جبلة في الإنسان بل والحيوان، وقد هيأ الله لكل مخلوق ما يدافع به عن نفسه الأخطار {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) . واستخدام ذلك عند وقوع الخطر أو توقعه لا يمكن أن يذم.
أما حقيقة هذا اللفظ من الناحية الشرعية فإنا لم نجد هذا اللفظ بعينه في النصوص الشرعية، وإنما يوجد أصله الثلاثي وما تصرف منه، وكذلك أيضا ما تصرف من أصله الرباعي.
فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) . ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (3) .
ومنه أيضا قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (4) . ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (5) .
__________
(1) سورة طه الآية 50
(2) سورة البقرة الآية 40
(3) سورة الأعراف الآية 154
(4) سورة النحل الآية 51
(5) سورة الأنبياء الآية 90(70/105)
وكل هذه النصوص تدل على طلب الخوف من الله تعالى، ومدح ذلك وأنه من العبادات، وأقرب ما جاء من التصاريف لهذا المصطلح في النصوص هو قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1) .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (يقال منه أرهبت العدو ورهبته، فأنا أرهبه وأرهبه إرهابا وترهيبا، وهو الرهب والرهب، ومنه قول طفيل الغنوي:
ويل أم حي دفعتم في نحورهم ... بني كلاب غداة الرعب والرهب
ويقول في معنى الآية:
(وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله ما استطعتم من قوة، يقول: ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم من السلاح والخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم يقول تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين) .
من هنا يظهر أن المراد إعداد القوة وإظهارها لإخافة من يخشى منهم الخيانة والغدر والاعتداء علينا.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(70/106)
وهذا الأمر مشروع، وهو أمر مصلحي ظاهر لدى كل الأعراف والدول. ولا يمكن لأي دولة أن تتخلى عن هذا؛ لأن معنى التخلي عن هذا الاستسلام لكل عدو أراد أن يعتدي على الدولة، فتكون الدولة لقمة سائغة لأعدائها.
وهذا زيادة على كونه محرما على المسلمين في شريعة الإسلام، فإنه أيضا مخالف لصريح العقول بل إن الأنظمة الدولية تنص على ذلك من باب الدفاع عن النفس، وهذا يدل على أنه عرف عام لكل البشر، وقد جاء ذلك في الفصل لسابع من ميثاق الأمم المتحدة حيث نصت المادة (51) منه على أنه: (ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة) إلى آخر المادة.
والمقصود أن هذا حق لا يمكن لأي أحد أن يعترض عليه. ومن هنا نعلم أن مصطلح الإرهاب بهذه الصيغة لم يرد في الشرع أصلا حسب علمنا، وإنما ورد بعض ما تصرف من جذره.
وعليه فلا يمكن أن نجد لهذا المصطلح تعريفا شرعيا، وإن كانت دلالته اللغوية واضحة، وهي استدعاء الخوف، ونحن حين نقول لا نجد لهذا المصطلح تعريفا شرعيا لا نعنى أن الشرع قد قصر(70/107)
عن بيان الأعمال التي تصنف على أنها أعمال إرهابية، كلا فإن الإسلام قد بينها أجلى بيان، وسنأتي على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، لكن كما قدمنا فإن ديننا دين الوضوح، فلا يمكن أن نأتي بتعريف شرعي لمصطلح لم يرد أصلا في الشريعة الإسلامية ينبني عليها أحكام وحدود، وهذا كله لا يمكن أن يكون جزافا.
ومع هذا فإن الحقيقة اللغوية ظاهرة فيه، وهي أن هذا المصطلح " الإرهاب " يعني استدعاء الخوف والفزع أو بعبارة أخرى هو التخويف.
بقي من الحقائق الحقيقة العرفية، وهي ما لم تتبلور إلى الآن.
ونحن نعرض هنا لبعض التعاريف التي وقفنا عليها:
1 - في موسوعة السياسة: (الإرهاب هو استخدام العنف غير القانوني أو التهديد به، بأشكاله المختلفة: كما الاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب، بغية تحقيق هدف سياسي معين مثل كسر روح المقاومة عند الأفراد، وهدم المعنويات عند الهيئات والمؤسسات، كوسيلة من وسائل الحصول على معلومات أو مال، أو بشكل عام استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية) .
2 - الموسوعة العربية العالمية: " الإرهاب: استخدام العنف أو(70/108)
التهديد به لإثارة الرعب) .
3 - قاموس أكسفورد: جاء تعريف الإرهابي بأنه: الشخص الذي يستعمل العنف المنظم لضمان نهاية سياسية.
وبالنظر في هذه التعاريف نجد أنها تتفق مع التعريف اللغوي في اللغة العربية، من حيث إن الإرهاب هو تعمد التخويف، أو استدعاء الخوف والفزع، لكن يبقى بعض ألفاظ في هذه التعاريف لا تنضبط؛ فمثلا كلمة " غير القانوني " وكلمة " طرف مناوئ " في التعريف الأول يرد عليها أن هذا القانون المذكور ينطبق على أي قانون؟ ! ثم لو طبقته كل دولة حسب قانونها يبقى الإرهاب الدولي فمتى يكون العمل إرهابا بأي قانون نضبطه؟ !
وكذلك قولهم " طرف مناوئ " يمكن أن يقال من هو الطرف الأصيل؟ ! وهل كل مخالف يكون المضاد له إرهابيا؟ !
هناك كلمات لم تحدد.
وفي التعريف الثاني كذلك يمكن أن يقال: وهل كل عنف يثير الرعب يعتبر إرهابا؟ بالتأكيد الجواب سيكون كلا! ذلك أننا نشاهد في حياتنا اليومية آلاف الحوادث التي تثير الرعب بدرجة ما، ولكنها لا تسمي إرهابا.
وهكذا ما جاء في تعريف قاموس أكسفورد فإنه تعريف غير(70/109)
جامع إذ قد يكون العمل إرهابا وإن لم يقصد القائم به الوصول إلي نهاية سياسية.
إذن فالجميع أو الغالب متفقون على أن الإرهاب هو تعمد التخويف، لكن بأي درجة وبأي طريقة ومتى يصل إلي هذا الحد؟ كل هذه تساؤلات أدت وجهات النظر المختلفة حيالها إلى عدم الوصول إلى تعريف مشترك معترف به.
أما متى كان أول ظهور لهذا المصطلح؛ فإنه وبحسب ما جاء في الموسوعة العربية العالمية: أنه ظهر إلى حيز الوجود إبان الثورة الفرنسية عام 1789 - 1799 م. حين تبنى الثوريون الذين استولوا على السلطة في فرنسا العنف ضد أعدائهم؛ وقد عرفت فترة حكمهم باسم عهد الإرهاب) .
وبعد ذلك توالت العمليات والجماعات والحركات الإرهابية، ومن أبرز ذلك:
جماعة كوكلوكس كلات، وهي جماعة أمريكية استخدمت العنف لإرهاب المواطنين السود والمتعاطفين معهم.
وهناك جماعة الألوية الحمراء في إيطاليا، وزمرة الجيش الأحمر في ألمانيا وكلاهما في ستينيات القرن العشرين.
وكلا الجماعتين تقصد إلى تخريب الأنظمة السياسية والاقتصادية في بلديهما بقصد تطوير نظام جديد.(70/110)
وهناك عصابات يهودية إرهابية اشتهرت قبيل استيلاء اليهود على فلسطين منها منظمة الهاغانا الهاشومير، وفرق العمل، والبالماخ، والأرغون، وعصابة شيترن، ومنظمة كاخ.
ومن أبرز الشخصيات التي استخدمت العنف والإرهاب لإخماد أعدائها أدولف هتلر في ألمانيا، وبنيتو موسولني في إيطاليا، وجوزيف ستالين في الاتحاد السوفيتي (سابقا) .
وبهذه اللمحة التاريخية الموجزة نستفيد عدة أمور منها:
1 - أن ظهور هذا المصطلح (الإرهاب) كان في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي بينما ظهور الإسلام كان قبل ذلك بأكثر من اثني عشر قرنا.
2 - أن أول من أطلق عليهم مصطلح الإرهاب تاريخيا هم في أوربا، فلا هم عرب ولا هم مسلمون.
3 - أن تاريخ هذا المصطلح وتدرجاته كلها تسجل أن الإرهابيين ليسوا مسلمين بل ليسوا عربا.
4 - وجود جماعات وأفراد يمكن أن ينطبق عليهم هذا المصطلح (الإرهاب) بوجه أو بآخر - بمعناه المذموم - وهم ينتمون إلى الإسلام، هذا لا يعني إطلاقا أن دينهم هو سبب هذا الإرهاب، وهذا يثبته التاريخ كما مر، ويثبته العقل أيضا إذ لو كان الأمر كذلك وسلمنا بهذه الدعوى ونحن نعلم أن ظهور الإسلام كان قبل أكثر(70/111)
من (1400 عام) من الآن والإسلام على هذه الفرضية هو السبب في الإرهاب، إذن سيتكون في العالم مجتمع إرهابي متراكم عمره أكثر من (1400 عام) وهذا لا يمكن تصوره فضلا عن تصديقه.
بقي أن نعلم أن دين الإسلام قد صنف أعمالا ضمن أشد الأعمال جرما وأعظمها إثما، وذلك منذ أكثر من (1400) هي الآن تصنف في القوانين المعاصرة ضمن الأعمال الإرهابية وهذا يسجل للإسلام تقدمه وسبقه في مكافحة هذه الآفة.
ومن تلك الإعمال:
1 - القتل العمد العدوان لمعصوم الدم: وهذا محرم مؤكد التحريم وجزاؤه في الإسلام القتل.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (2) .
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (3) .
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 32
(2) سورة البقرة الآية 178
(3) سورة النساء الآية 93
(4) سورة الأنعام الآية 151(70/112)
2 - الإفساد في الأرض، بقطع الطريق وترويع الآمنين ويدخل فيه التفجيرات واختطاف الطائرات والسفن والقطارات وغيرها: وهذا من كبائر الذنوب وجزاؤه مغلظ، إما القتل أو الصلب أو تقطع الأيدي والأرجل من خلاف أو السجن، زيادة على عذاب الله يوم القيامة.
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
3 - محاولة تغيير النظام بالقوة مع شرعية الحاكم، وهذا من الكبائر وعقابه القتل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه (2) » أخرجه مسلم.
وهذا من حرص الإسلام على المحافظة على النظام العام في المجتمع الإسلامي.
4 - السرقة: وجزاؤها في الإسلام قطع اليد {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .
(3) سورة المائدة الآية 38(70/113)
وغير هذا كثير لذا نجد أن هذا التشريع الإلهي هو الصالح فقط لأن يطبق في جميع الأرض على اختلاف الطبقات والدول واللغات والأعراف، وأنه متى طبق سعدت البشرية وأمنت.
هذا وقد عرف المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة عام 1422 هـ بمكة المكرمة الإرهاب في بيانه وجاء فيه أن الإرهاب هو:
(العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان (دينه، وعقله، وماله، وعرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلي إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر، ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر، فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين عنها) . وهو من أمثل التعاريف في هذا الباب.
هذا وإن مما يجب التنبيه عليه هنا من الأمور الخطيرة التي تنذر بشر عظيم للبشرية كافة، ألا وهو محاولة إقصاء ومحو بعض(70/114)
المصطلحات الإسلامية الشرعية والتي وردت في كتاب الله عز وجل، وذلك من نحو الجهاد في سبيل الله، الولاء والبراء، ونحو ذلك من المصطلحات.
فإن هناك من الدول والأفراد من يطالب بمحو ذلك من التعليم والحياة العامة، ويواصلون الضغط في هذا الجانب بحجة مكافحة الإرهاب ونشر التسامح. إن هذا الأمر هو السبب الأعظم في نشر الإرهاب المقيت لماذا؟ لعدة أمور:
أولا: أن هذا تدخل سافر في شريعة أنزلها رب العالمين ورضيها وأمر بها، وهذا التدخل في نفسه من أعظم أنواع الإرهاب الفكري والعقدي.
ثانيا: أن هذه المصطلحات الشرعية مهما بذلت الجهود في محوها فإنها ستبقى لسبب يعرفه المسلم والكافر، ألا وهو أن هذا الدين وهذا القرآن مما تكفل الله بحفظه وبقائه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
ومحاولات طمس الألفاظ الشرعية والعبادات الربانية لن تصل في قمة ضغطها، وتواصل الجهود فيها إلا إلى نتيجة، وهي محاولة إزاحة تعليم هذه الألفاظ في الظاهر أي في النور أي بشكل واضح وصريح
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(70/115)
مع العلم أنها ستبقى في القرآن، وفي قلوب المسلمين عقيدة يدينون بها، وهذا يعني أن ذكرها سيبقى، وهذا يعني أنه سيكون هناك مناخ جيد لتجار الظلام الذين سيستغلون هذه الأوضاع - وهي المنع من إظهار التعليم لهذه الألفاظ والعبادات تعليما شرعيا صحيحا منضبطا - فيرفعون شعارات تهتف بها، ويبقى تفسيرها حسب توجهاتهم وأهوائهم، وهنا يكون الخطر إذ اللفظ لا يمكن لمسلم أن ينكر شرعيته وقد جاء في كتاب الله أصدق كلام وأصح كتاب.
لكن يبقى المعنى، فلما منع وحجب بيان المعنى الصحيح المنضبط ظهر المعنى الباطل في أجلى صورة وبلا مقاومة شرعية ظاهرة، وعندئذ ستسخر البشرية، وستعاني من الإرهاب أجيالا وعقودا حتى يتراجعوا عن هذه المبادئ السيئة التي تجر إلي الخراب والدمار. هذا ما أحببنا بيانه حول هذا المصطلح وبعض ما يتعلق به(70/116)
أسباب الإرهاب:
أما من جهة أسباب الإرهاب فسأجملها فيما يلي:
فأول الأسباب وأعظمها خطرا وأوسعها ظهورا وانتشارا هو: الإعراض عن تطبيق شرع الله في الأرض:
إن الله سبحانه وتعالى لما خلق خلقه كان هو سبحانه الأعلم بما يصلحهم يقول سبحانه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) .
__________
(1) سورة الملك الآية 14(70/116)
وقد وضع الله سبحانه في هذا الدين الإسلامي الذي هو خاتم الأديان كل ما يصلح البشرية في دنياها وأخراها إن هي طبقته، والله سبحانه قد حفظ هذا الدين للعالمين بحفظه لدستوره وهو القرآن الكريم الذي هو في الحقيقة كلام رب العالمين.
وهنا حقيقة قد تغيب عن الأذهان ألا وهي أننا كمسلمين حين نطالب بتطبيق الشريعة في العالم بأجمعه لا يعني أننا نطالب بإجبار الجميع على الدخول في دين الإسلام فإن هذا ليس مرادا قطعا لأن الله تعالى يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) نحن ندعو الجميع للدخول في هذا الدين ونرغب في عموم الخير للجميع، لكننا لا نجبر أحدا على الدخول فيه، والله تعالى يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (2) .
إننا في هذا السياق بالخصوص نطالب الجميع بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، عند ذلك سيأمن الجميع ويهنأ الجميع، إن البشرية في العهود الأولى من الإسلام قد نعمت بحكم مستقر آمن ونعمة سابغة استفاد منها المسلم وغير المسلم، وكلهم كان داخلا تحت حكم الإسلام.
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة يونس الآية 99(70/117)
والله تعالى يوجهنا لكيفية التعامل مع غير المسلمين في الحكم والتحاكم {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) .
إن البعد عن شريعة الله هو سبب الضلال والعمى والشقاء الذي نعاني منه الآن فالله تعالى يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) . والمعيشة الضنك هي الضيقة وهي الشقاء.
إذن فالبعد عن تطبيق الأنظمة المتوافقة مع الشريعة الإسلامية في شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها - وكل هذه الشئون قد جاء بيانها في الدين الإسلامي بيانا واضحا - هو سبب للشقاء، ومن أنواع الشقاء الإرهاب.
ومن الأسباب: الغلو: وهو مجاوزة الحد، وهذا الغلو أو ما قد يصطلح عليه بـ (التطرف) خطير جدا في أي مجال من المجالات، حتى ولو كان لباسه دينيا، وديننا الإسلام قد حذر منه حتى ولو كان
__________
(1) سورة المائدة الآية 42
(2) سورة طه الآية 124(70/118)
بلباس الدين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون (2) » .
والغلو أو التطرف، تارة يكون في الدين وهذا منهي عنه، وتارة يكون في محاربة الدين وهذا تطرف مقابل، ومعلوم أن هذين طرفا نقيض، والعلاقة بينهما أن كل واحد منهما يغذي صاحبه، فالغلو في محاربة الدين ينتج غلوا في الدين وتنطعا فيه وكذا العكس.
ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وأمة الإسلام وسط بين الأمم، والغلاة ليسوا متمسكين بالدين على الحقيقة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمثال هؤلاء: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه.
ويقابلهم من أعرض عن الدين بل وحاربه، فهذا تطرف في الجفاء عن الدين، وقد ينتج منه أنواع من الإرهاب الفكري أو المسلح، أو يكون هو سببا في نمو الإرهاب كردة فعل لهذا النهج الخاطئ الضال.
ومن الأسباب: التصور الخاطئ:
وذلك أن من يقوم بمثل هذه العمليات لا يقوم بها إلا بعد إعداد ذهني وفكري، وقد يكون الخلل من هذا الإعداد، فإما أن يكون هو في نفسه جاهلا فيتصور الأمور على خلاف الواقع، أو يكون
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3057) .
(2) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .(70/119)
صاحب هوى غلب عليه هواه حتى نسي الحق أو تناساه، وصار يبحث عما يبرر له أعماله الإجرامية.
وقد يأتي التصور الخاطئ عن طريق التضليل فتصل إلى يديه معلومات مضللة يعمل بناء عليها فيقع فيما لا تحمده عقباه.
وقد أخبر الله عز وجل عن أقوام هم من أهل النار والعذاب الشديد مع أنهم يتصورون أنهم على حق {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (1) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (2) {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (3) .
ومن الأسباب: العوائق التي تقام في وجه الدعوات الصادقة:
إن وضع العوائق الإعلامية أو الأمنية أو غيرها في وجه الدعوة الحق التي تدعو إلي دين الله على بصيرة، وتنقي الدين من شوائب الغلو والجفاء، من شوائب التطرف بجميع أشكاله، كل هذا سبب في ظهور الإرهاب، بل إنه هيأ لظهوره وسهل طريقه في دخول عقول فارغة أو مضللة، والأمر دائر بين الحق والباطل فمتى ضعف جانب الحق ظهر جانب الباطل والعكس كذلك {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 103
(2) سورة الكهف الآية 104
(3) سورة الكهف الآية 105
(4) سورة يونس الآية 32(70/120)
علاج الإرهاب
علاج الإرهاب يكمن في أمور عدة:
منها: العمل الجاد على تعميم تعاليم الإسلام وتطبيقها، وذلك من خلال العرض المبسط لتعاليم الإسلام ونظمه في الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وبثها في الناس والمطالبة بتطبيقها لأنها هي فقط الكفيلة بتحقيق العدالة ونبذ الشر بكافة صوره، وهذا يحمل المختصين من العلماء والمنظرين والإعلاميين في العالم الإسلامي مسئولية كبيرة يجب أن ينهضوا بها طاعة لله وابتغاء مرضاته.
ومن وسائل العلاج: تأصيل العلم الشرعي الرصين المبني على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. إننا حين نقرر أن الوسطية هي الحل ضد التطرف بكافة أشكاله المعلوم منها لدينا الآن والمجهول، يجب أن نبحث عن طريق الوسطية وماهيته؛ إن طريق الوسطية الحقيقي الذي سيضمن لها القوة والاستمرار هو الالتزام التام بالكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح؛ لأنهم عاصروا التنزيل وهم أعلم بمراد الله عز وجل، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غيرهم.
والله تعالى يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(70/121)
فليس ثمت إلا طريق الله المستقيم أو طريق الضلالة والغواية والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
وتأصيل هذا المنهج الوسطي الرصين يجب أن يكون من خلال مناهج التعليم، وكذلك عبر وسائل الإعلام من خلال حملة إعلامية قوية ومركزة ومكثفة. ومن خلال العلماء والدعاة والواعظين يجب أن يستنفر المجتمع لهذا الأمر الجليل محتسبين في ذلك لله عز وجل وعندئذ سنسعد جميعا بالأمن والأمان والسعادة.
ومن وسائل العلاج: الوضوح والصراحة في محاربة هذه الآفة من خلال الطروحات الإعلامية والدعوية وغيرها، فلا مجال لألفاظ محتملة، ولا مجال لمعان واسعة الدلالة إننا أمام داء خطير بدأ يدب في المجتمعات الإسلامية بل وغيرها، فإما أن نقف معه بحزم مستشعرين مسئوليتنا أمام الله عز وجل، وإما أن نتهاون في ذلك وسينتج عن هذا التهاون ما لا تحمد عقباه وسنكون شركاء في المسئولية والتبعة أمام الله عز وجل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) سورة آل عمران الآية 187(70/122)
ومن الوسائل: تحرير المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط واضحة حتى لا تكون مجالا لتجار الظلام والإفساد.
وذلك كمصطلح الجهاد؛ ودار الحرب؛ ودار الإسلام؛ وولي الأمر ما يجب له وما يجب عليه؛ والعهود عقدها ونقضها لمن يكون؛ والخروج على الولاة ما حكمه. . . وغيرها من الموضوعات التي تثار في الساحة الإسلامية ولها تأثيرات قوية.
إن من الواجب علينا ضبط هذه المصطلحات.
وأنا من هذا المكان أدعو مجمعكم الفقهي الموقر إلى عقد دورة استثنائية خاصة يجتمع لها العلماء المسلمون، ويكون الطرح فيها واضحا لنخرج بضوابط شرعية لهذه المصطلحات حتى لا تكون مجالا للمزايدة عليها من قبل تجار الظلام.
وقبل أن أختم الكلام أحب أن أنبه إلى أن أعظم أسباب المصائب والبلايا من الإرهاب وغيره هي ظهور الذنوب وانتشارها يقول الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) .
ويقول سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) .
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) سورة الشورى الآية 30(70/123)
وطريق العلاج هو التوبة، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.
وفق الله الجميع للتوبة النصوح، وأصلح الله أحوال المسلمين ووقانا الشرور والبلايا إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.(70/124)
خلاصة البحث وأهم النتائج:
1 - الإرهاب مصطلح جندت لمحاربته وسائل الإعلام والأمن من قبل الدول لكن لم يتحدد مفهومه حتى الآن.
2 - الإرهاب في اللغة هو استدعاء الخوف أو الفزع، أي التخويف.
3 - لم يرد لفظ الإرهاب في النصوص الشرعية وإنما ورد ما تصرف من جذره.
4 - لا يوجد تعريف شرعي للإرهاب لأن هذه اللفظة لم ترد في نصوص الشرع.
5 - بداية ظهور مصطلح (الإرهاب) كان في الفترة بين عامي 1789 - 1799 م على يد الفرنسيين وكان يسمى (عهد الإرهاب) .
6 - لا علاقة بين الإسلام والإرهاب، يثبت ذلك التاريخ والنقل والعقل.(70/124)
7 - الإسلام قد سجل سبقا كبيرا في مكافحة هذه الآفة.
8 - وردت عدة تعاريف اصطلاحية للإرهاب أمثلها تعريف المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة بمكة المكرمة عام 1422 هـ حيث جاء فيه: " العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان (دينه، وعقله، وماله، وعرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر. ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر، فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين عنها) .
9 - القصد إلى محاربة بعض الشعائر الدينية بحجة حرب الإرهاب ونشر التسامح هو في نفسه إرهاب فكري عقدي، وسبب في نمو الإرهاب بكافة صوره.
10 - للإرهاب أسباب منها: تعطيل شرع الله وعدم تطبيقه في الأرض؛ الغلو والتطرف؛ التصور الخاطئ؛ العوائق التي تقام في(70/125)
وجه الدعوات الصادقة.
11 - علاج الإرهاب يكون بوسائل منها: تعميم تطبيق الشريعة الإسلامية، تأصيل العلم الشرعي، الوضوح والصراحة في مكافحة هذه الآفة، ضبط المصطلحات الشرعية.
12 - الدعوة إلى إقامة ندوة يشترك فيها العلماء لبيان المصطلحات الشرعية الهامة في هذا الباب وضبطها بالضوابط الشرعية.
13 - من أعظم أسباب المصائب بكافة صورها انتشار الذنوب وظهورها مع عدم من يقاومها وينكرها وأعظم علاج هو التوبة لله عز وجل.
هذا وإني لأسأل الله العلي القدير أن ينفع بهذا الجهد كاتبه وقارئه ومن اطلع عليه، وأن يقي أمتنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(70/126)
الجهل
لفضيلة الدكتور \ مسفر بن سعيد دماس الغامدي
توطئة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1(70/127)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (1) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (2) .
وبعد: فإن الجهل داء عضال، وهو ضد العلم، والعلم نور، والجهل ظلمة، وضرره على الإنسان أعظم الضرر في الدنيا والآخرة، بل آثاره السلبية الخطيرة تصيب الإنسان في: عقله، وقلبه، وجوارحه، ورزقه، وصحته، وعلاقته بربه وعلاقته بغيره، وعلاقته بالكون كله، لأن العلم ينير للإنسان حياته كلها؛ فإذا لم يتعلم قاده الجهل إلى تصور الأمور بغير ما هي عليه، وتعامل مع غيره بعكس ما يجب أن يتعامل به، وعمل عكس ما يجب أن يعمل؛ ولذلك أمر الله ورسوله بالعلم، وحثا عليه، وحذرا من مغبة الجهل وما يترتب عليه؛ نسأل الله أن يعلمنا من لدنه علما، وأن يزيل عنا الجهل بمنه وكرمه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 70
(2) سورة الأحزاب الآية 71(70/128)
تعريف الجهل:
الجهل: ضد العلم، وتجاهل: أظهر الجهل وهو ليس بجاهل، واستجهله: عده جاهلا واستخفه، والجهالة: أن تفعل فعلا بغير علم، وجهلت الشيء: إذا لم تعرفه، والجاهل ضد العاقل، والجهل ضد الخبرة، والجاهلية: زمن الفترة ولا إسلام، وهي حال العرب(70/128)
قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه، ورسوله وشرائع الدين، وما كانوا عليه من المفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر وغير ذلك من الأخلاق المذمومة (1) .
قال ابن القيم: الجهل قسمان:
1 - بسيط وهو عبارة عن عدم المعرفة مع عدم تلبس بضده.
2 - ومركب وهو جهل أرباب الاعتقادات الباطلة.
والقسم الأول هو الذي يطلب صاحبه العلم، أما صاحب الجهل المركب فلا يطلبه (2) .
وقال أيضا: الجهل نوعان:
1 - جهل علم ومعرفة.
2 - وجهل عمل وغي.
وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، وكما أن العلم يوجب نورا، وأنسا؛ فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله سبحانه وتعالى (العلم) الذي بعث به رسولا نورا، وهدى وحياة. وسمى ضده: ظلمة وموتا وضلالا قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (3) (4) .
__________
(1) لسان العرب ج 11 ص 129، 130، النهاية ج 1 ص 322.
(2) بدائع الفوائد ج 4 ص 209 ط دار الكتاب العربي.
(3) سورة البقرة الآية 257
(4) سورة البقرة، الآية 257، مدارج السالكين ج 3 ص 162.(70/129)
قال ابن القيم على الآية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (1) .
قال: أي أومن كان كافرا ميت القلب، مغمورا في ظلمة الجهل، فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيا بعد موته. . . فأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، وأتبعه بعد إعراضه عنه. . . (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2) إغاثة اللهفان ج 1 ص 21 ط تحقيق محمد الفقي.(70/130)
المبحث الأول المشرك جاهل:
قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
قال ابن كثير: (يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى - عليه السلام - حين جاوزوا البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، {فَأَتَوْا} (3) أي فمروا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (4) قال بعض المفسرين: كانوا من الكنعانيين، وقيل: كانوا من لخم) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 138
(2) سورة الأعراف الآية 139
(3) سورة الأعراف الآية 138
(4) سورة الأعراف الآية 138(70/130)
قال ابن جرير: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك، فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) أي: تجهلون عظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} (2) أي: هالك {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) (4) .
وقال القرطبي: «نظيره قوم جهال الأعراب - وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط يعظمونها في كل سنة يوما -: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال - عليه الصلاة والسلام -: الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (6) » . وكان هذا في مخرجه إلى حنين (7) .
إن الجهل مصيبة عظيمة، وكارثة كبيرة؛ تجعل الإنسان يتخبط في هذه الحياة، فهو لا يعرف الله، ولا يعرف شرع الله، قلبه مظلم، بل ميت، يسير من دون هدى تتحكم فيه الأهواء
__________
(1) سورة الأعراف الآية 138
(2) سورة الأعراف الآية 139
(3) سورة الأعراف الآية 139
(4) تفسير ابن كثير ج 3 ص 464.
(5) أخرجه أحمد في المسند 5 \ 218، والترمذي في السنن، كتاب الفتن، بابما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، ج 4 ص 475 رقم 2180 ثم قال عنه: حديث حسن صحيح.
(6) سورة الأعراف الآية 138 (5) {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}
(7) تفسير القرطبي ج 7 ص 273.(70/131)
والشهوات، ويتحكم فيه الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء.(70/132)
المبحث الثاني الذين طلبوا من النبي أن يطرد المؤمنين:
جاهلون قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (1) {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (2) {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن نوح: لا أسألكم على نصحي مالا أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر من الله عز وجل: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} (4) كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه، احتشاما ونفاسة أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلسا خاصا، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (5) (6) .
وقال القرطبي: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (7) في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم (8) الملأ المتكبرون بغير الحق المتجبرون على
__________
(1) سورة هود الآية 28
(2) سورة هود الآية 29
(3) سورة هود الآية 30
(4) سورة هود الآية 29
(5) سورة الأنعام الآية 52
(6) تفسير ابن كثير ج 4 ص 251.
(7) سورة هود الآية 29
(8) تفسير القرطبي ج 9 ص 26.(70/132)
الضعفاء والمساكين الذين لم يستجيبوا للحق؛ طلبوا من الأنبياء والرسل طرد المؤمنين من الضعفاء والمساكين الذين آمنوا بما أرسل إليهم وصدقوا المرسلين، هؤلاء الكفار جهلهم وخبثهم ونجاستهم هي التي جعلتهم يطلبون مثل هذه الطلبات، وعدم علمهم ومعرفتهم بالله وبرسل الله وبشرع الله؛ جعلهم يفكرون بهذه الطريقة التي تنم عن استعلاء وتكبر، لكن وصفهم بأنهم (قوم يجهلون) له دلالته، بل هذا الوصف مطابق للحقيقة بدليل ما طلبوه وتمحلوا فيه. .(70/133)
المبحث الثالث: قوم لوط الذين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء قوم جهلاء عادون نجس.
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (1) {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (2) {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (3) {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} (4) {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} (5) .
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عبده لوط - عليه السلام -: أنه أنذر قومه نقمة الله بهم، في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكور دون الإناث، وذلك فاحشة عظيمة؛ استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، قال: 134 {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (6)
__________
(1) سورة النمل الآية 54
(2) سورة النمل الآية 55
(3) سورة النمل الآية 56
(4) سورة النمل الآية 57
(5) سورة النمل الآية 58
(6) سورة النمل الآية 54(70/133)
أي: يرى بعضكم بعضا، وتأتون في ناديكم المنكر؟ {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) أي: لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا. . . (2)
قال ابن سعدي: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} (3) أي: الفعلة الشنعاء، التي تستفحشها العقول والفطر، وتستقبحها الشرائع {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (4) ذلك، وتعملون قبحه، فعاندتم، وارتكبتم ذلك، ظلما منكم، وجرأة على الله.
ثم فسر تلك الفاحشة فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} (5) أي: كيف توصلتم إلى هذه الحال، فصارت شهوتكم للرجال، وأدبارهم، محل الغائط والنجو، والخبث، وتركتم ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة، التي جبلت النفوس على الميل إليها. وأنتم انقلب عليكم الأمر، فاستحسنتم القبيح، واستقبحتم الحسن. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (6) متجاوزون لحدود الله، متجرئون على محارمه. . . (7) هذا النجس وهذه النجاسة، وهذا الخبث وهذه الخبائث؛ لا تصدر إلا من الجهلاء الأنجاس، العادون، الذين قد مسخت فطرهم، فأصبح الحق عندهم باطلا، والباطل حقا، وأصبحت الرذيلة عندهم فضيلة، والفضيلة رذيلة، والطهر نجسا،
__________
(1) سورة النمل الآية 55
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 209.
(3) سورة النمل الآية 54
(4) سورة النمل الآية 54
(5) سورة النمل الآية 55
(6) سورة النمل الآية 55
(7) تيسير الكريم الرحمن ج 5 ص 587.(70/134)
والنجس طهرا، بل انقلبت عندهم الموازين رأسا على عقب ولا حول ولا قوة إلا بالله.(70/135)
المبحث الرابع: القوم الذين لم يستجيبوا لدعوة نبيهم قوم يجهلون ولا يعقلون ولا يفهمون قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1) {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (2) {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (3) {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (5) .
قال ابن كثير: يقول تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} (6) وهو هود - عليه السلام - بعثه الله إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف وهو واد بحضرموت مشرف على البحر بأرض يقال لها الشحر. . . استعجلوا عذاب الله وعقوبته، استبعادا منهم وقوعه، كقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} (7) {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} (8) أي: الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل ذلك بكم، وأما أنا فمن
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 21
(2) سورة الأحقاف الآية 22
(3) سورة الأحقاف الآية 23
(4) سورة الأحقاف الآية 24
(5) سورة الأحقاف الآية 25
(6) سورة الأحقاف الآية 21
(7) سورة الشورى الآية 18
(8) سورة الأحقاف الآية 23(70/135)
شأني أني أبلغكم ما أرسلت به، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (1) أي: لا تعقلون ولا تفهمون (2) .
قال ابن سعدي: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3) وهذا غاية الجهل والعناد {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} (4) فهو الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} (5) أي ليس علي إلا البلاغ المبين {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (6) أي: ولكنكم تجهلون ما تبعث به الرسل، لأن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه، وليس من وظيفتهم الإتيان بالعذاب، ولا تعيين وقت نزوله، ولذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة (7) .
وهكذا كانت خاتمة المكذبين المعاندين الجهلة بالله، وآياته وسننه؛ الدمار الشامل، نعوذ بالله من الجهل وما يترتب عليه من عذاب ونكال وشقاء.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (8) .
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 23
(2) تفسير ابن كثير ج 7 ص 268 - 269.
(3) سورة الأحقاف الآية 22
(4) سورة الأحقاف الآية 23
(5) سورة الأحقاف الآية 23
(6) سورة الأحقاف الآية 23
(7) تيسير الكريم الرحمن ج 7 ص 53 ط السعيدية.
(8) سورة الأنعام الآية 111(70/136)
يقول ابن كثير: يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلنا عليهم الملائكة، أي: تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} (1) و {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} (2) {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} (3) .
{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} (4) أي: فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} (5) من المقابلة والمعاينة. . . قال مجاهد: {قُبُلًا} (6) أفواجا، قبيلا قبيلا، تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فنخبرهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (7) أي: إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته، وسلطانه وقهره وغلبته، وهذه الآية كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} (8) {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (9) ، (10) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 92
(2) سورة الأنعام الآية 124
(3) سورة الفرقان الآية 21
(4) سورة الأنعام الآية 111
(5) سورة الأنعام الآية 111
(6) سورة الأنعام الآية 111
(7) سورة الأنعام الآية 111
(8) سورة يونس الآية 96
(9) سورة يونس الآية 97
(10) تفسير ابن كثير ج 3 ص 311.(70/137)
وقال القرطبي: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (1) أي: يجهلون الحق. وقيل: يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة (2) لفرط جهلهم وعنادهم طلبوا أن تنزل الملائكة، ويكلمهم الموتى، ويأتي بالأمم قبلا، ويأتي بالله، أو يرون الله. . . وهذه الطلبات تدل على جهلهم بالله وبآيات الله، وبشرع الله، وبمهمة رسل الله. . .، وتدل على أنهم لن يؤمنوا بدليل هذه الشروط وهذا التمحل، ولذلك قال الله تعالى: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) لأنه سبحانه وتعالى يعلم طبيعتهم الملتوية، وعقولهم الفاسدة، وجهلهم المطبق. .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 111
(2) تفسير القرطبي ج 7 ص 67.
(3) سورة الأنعام الآية 111(70/138)
المبحث الخامس: ما فعله إخوة يوسف دليل على جهلهم.
قال تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} (1) .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن يوسف - عليه السلام: أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه، مع ما هو فيه
__________
(1) سورة يوسف الآية 89(70/138)
من الملك والتصرف والسعة، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته، وبدره البكاء، فتعرف إليهم، يقال: أنه رفع التاج عن جبهته، وكان فيها شامة، وقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} (1) أي: إنما حملكم على هذا الجهل، بمقدار هذا الذي ارتكبتموه، كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} (2) إلى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)
والظاهر - والله أعلم - أن يوسف - عليه السلام - إنما تعرف إليهم بنفسه، بإذن الله له في ذلك، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر، فرج الله تعالى من ذلك الضيق، كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (4) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (5) فعند ذلك قالوا: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} (6) ثم اعترفوا له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق، والسعة والملك، والتصرف والنبوة أيضا. . . وأقروا له بأنهم أساءوا إليه واخطأوا في حقه (7) .
كم يكون حياؤهم وخجلهم من يوسف عندما ذكرهم ما فعلوه به وأخيه، لكن الجهل وتحكيم الهوى، وطاعة النفس الأمارة بالسوء وإتباع خطوات الشيطان؛ تجر الإنسان إلى أعظم من ذلك،
__________
(1) سورة يوسف الآية 89
(2) سورة النحل الآية 119
(3) سورة النحل الآية 119
(4) سورة الشرح الآية 5
(5) سورة الشرح الآية 6
(6) سورة يوسف الآية 90
(7) تفسير ابن كثير ج 4 ص 332.(70/139)
ولذلك كان اعتذارهم يحمل في طياته الاعتراف مع الندم المصاحب للألم من قبح فعلهم، والذي كان نتيجة من نتائج الجهل. . .(70/140)
المبحث السادس: من صفات عباد الرحمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (1) .
قال ابن كثير: أي: إذا سفه عليهم الجهال بالسيئ، لم يقابلوهم عليه. بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (2)
وقال الحسن البصري: (قالوا: سلاما) قال: حلماء لا يجهلون، وإن جهلوا عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل.
أخرج أحمد بسنده من «حديث النعمان بن مقرن المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسب رجل رجلا عنده قال: فجعل الرجل المسبوب يقول: عليك السلام. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إن ملكا بينكما يذب
__________
(1) سورة الفرقان الآية 63
(2) سورة القصص الآية 55(70/140)
عنك، كلما شتمك هذا قال له: بل أنت أحق به. وإذا قال له: عليك السلام، قال: لا، بل عليك، وأنت أحق به (1) » قال ابن كثير: إسناده حسن، ولم يخرجوه (2) ، (3) .
قال القرطبي: قال مجاهد: معنى (سلاما) سدادا. أي: يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين. . وقالت فرقه: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما؛ بهذا اللفظ. أي: سلاما أو تسليما، ونحو ذلك (4) .
أنعم به من خلق كريم بأن يرد المسلم على الجاهل السفيه الذي لم يتأدب بأدب الإسلام بهذه اللفظة الجميلة، التي تحمل السلام والسلامة، وتحمل أدب الإسلام الراقي المنضبط إنها [سلام] إما بلفظها أو بكلام يدل على السلام والسلامة، ويدل على الصفح والهجر الجميل.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (5) .
قال ابن كثير: أي: لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم بل كما
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/445) .
(2) مسند الإمام أحمد 5 \ 445.
(3) تفسير ابن كثير ج 6 ص 132، 131.
(4) تفسير القرطبي ج 13 ص 70.
(5) سورة القصص الآية 55(70/141)
قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (1) . وإذا سفه عليهم سفيه، وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب. ولهذا قال عنهم هذه الآية أي: لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. . . (2)
وقال القرطبي: أي: متاركة؛ مثل قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (3) أي: لنا ديننا ولكم دينكم. سلام عليكم أي: أمنا لكم منا فإنا لا نحاوركم، ولا نسابكم، وليس من التحية في شيء. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال. {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (4) أي: لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاغبة (5) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 72
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 254.
(3) سورة الفرقان الآية 63
(4) سورة القصص الآية 55
(5) تفسير القرطبي ج 13 ص 299.(70/142)
المبحث السابع من جهل المشركين أن دعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة آلهتهم.
قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (1) .
قال ابن كثير: ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره، عن ابن عباس: أن المشركين بجهلهم دعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت. .
__________
(1) سورة الزمر الآية 64(70/142)
وهي كقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
وقال السيوطي: أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن قريشا دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) إلى آخر السورة. وأنزل {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (3) .
كل من عصى الله فهو جاهل؛ وأعظم المعاصي الشرك بالله، ولو أن عندهم علما كانوا مؤمنين، وليس بعد الكفر والشرك ذنب، ودعوتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعبد أصنامهم وآلهتهم، وهم يعبدون إله محمد: من أعظم الأدلة على جهلهم وحمقهم، وتبلد إحساسهم، وعدم معرفتهم بالله وبشرع الله، وبسنن الله، وبمهمة نبي الله؛ وهذا لا شك أنه غاية في الجهل والبلادة - نسأل الله العافية -.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الكافرون الآية 1
(3) سورة الزمر الآية 64(70/143)
المبحث الثامن نهى الله - تبارك وتعالى - نبيه أن يكون من الجاهلين؛ لجزعه، وحزنه، وتحسره؛ على كفرهم.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (1) {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 35
(2) سورة الأنعام الآية 36(70/143)
قال ابن كثير: كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (2) .
قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (3) قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبر الله لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول (4) (5) .
قال القرطبي: أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون؛ كما أنه لا يستطيع هداهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (6) أي: لخلقهم مؤمنين وطبعهم
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة يونس الآية 100
(3) سورة الأنعام الآية 35
(4) تفسير الطبري 11 \ 340 رقم الأثر 13205.
(5) تفسير ابن كثير ج 3 ص 247.
(6) سورة الأنعام الآية 35(70/144)
عليه؛ بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردا على القدرية. وقيل المعنى: أي لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (1) أي: من الذين اشتد حزنهم وتحسرهم حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل؛ أي: لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين. . . (2)
هذا النهي من الله لنبيه؛ فيه بيان لحكمة الله، وأن الله لا يوفق للإيمان إلا من هو أهلا له، وقد سبق له في علم الله وقدره السعادة بالإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - وبامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه، أما من لم يكن أهلا للسعادة فإنه لا يؤمن بالله.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 35
(2) تفسير القرطبي ج 6 ص 418.(70/145)
المبحث التاسع أمر الله بالإعراض عمن تمادى في ضلاله واستعصى في جهله وغيه
قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) .
قال البخاري: باب {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2)
وأخرج بسنده من حديث ابن عباس قال: (قدم عيينة بن
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199
(2) سورة الأعراف الآية 199(70/145)
حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله) (2) .
قال ابن كثير: قال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه.
وإما مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (3) {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (4) {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (5) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب 5 رقم الحديث 4642 ج 8 ص 304.
(3) سورة المؤمنون الآية 96
(4) سورة المؤمنون الآية 97
(5) سورة المؤمنون الآية 98(70/146)
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (1) ، (2) .
الجاهل العاصي من المسلمين لعل العفو عنه والإعراض عنه؛ لعله يرده إلى الحق، ويكفه عن الغي الذي هو فيه، وعن تمرده والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة فصلت الآية 34
(2) تفسير ابن كثير ج 3 ص 537.(70/147)
المبحث العاشر: وعظ الله نبيه نوحا أن يكون من الجاهلين؛ بسبب قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (1) .
قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (2) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (3) .
قال ابن كثير: هذا سؤال استعلام وكشف من نوح - عليه السلام - عن حال ولده الذي غرق: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (4) أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟ {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (5) أي: الذين وعدت
__________
(1) سورة هود الآية 45
(2) سورة هود الآية 45
(3) سورة هود الآية 46
(4) سورة هود الآية 45
(5) سورة هود الآية 46(70/147)
إنجاءهم، لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك. ولهذا قال: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} (1) فكان هذا ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحا - عليه السلام (2) .
قال القرطبي: أي: أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. . قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين (3) .
لا شك أن جميع أنبياء الله من العالمين والعارفين والمؤمنين، وليس أحد منهم من الجاهلين، لكن نوحا عليه السلام وعظه الله أن تأخذه عاطفة الأبوة والقرابة، وتقديمها على رابطة العقيدة والدين، وهي أقوى من الأولى، ونوح عليه السلام لم يفعل ذلك، لكنه فهم من الآية الأخرى أن الله سينجي أهله جميعهم، وابنه على هذا الاعتبار من أهله، ثم تبرأ نوح من أن يسأل الله ما ليس له به علم، وهذا غاية في العلم والعبودية.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 27
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 258، 259.
(3) تفسير القرطبي ج 9 ص 48.(70/148)
المبحث الحادي عشر: إذا لم يعصم الله الإنسان من الوقوع في المعصية فإنه يكون من الجاهلين
قال تعالى:(70/148)
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (1) {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (2) .
قال القرطبي: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} (3) أي: إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (4) أي: ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله، ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه (5) .
وقال ابن كثير: وذلك يوسف - عليه السلام - عصمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة، ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك، خوفا من الله ورجاء ثوابه. ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه
__________
(1) سورة يوسف الآية 32
(2) سورة يوسف الآية 33
(3) سورة يوسف الآية 33
(4) سورة يوسف الآية 33
(5) تفسير القرطبي ج 9 ص 185.(70/149)
معلق بالمساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب، فقال: إني أخاف الله (1) » .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 313، والحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأذان باب '' من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ''. ومسلم في الصحيح، كتاب الزكاة، باب '' فضل إخفاء الصدقة ''.(70/150)
المبحث الثاني عشر: حمل الإنسان للأمانة دليل على ظلمه وجهله
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1) {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) .
أورد ابن كثير عدة أقوال في معنى الأمانة منها: أنها الفرائض، وقيل: هي الطاعة، وقيل: الدين والفرائض والحدود، وقيل: الغسل من الجنابة، وقيل: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة. . ثم قال: وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأمر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2) سورة الأحزاب الآية 73(70/150)
وظلمه، إلا من فوق الله، وبالله المستعان. . وقال ابن كثير عن معنى {ظَلُومًا جَهُولًا} (1) يعني: غرا بأمر الله.
قال ابن عباس: عرضت على آدم فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك. قال: قبلت فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم، حتى أصاب الخطيئة (2) .
وقال القرطبي: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (3) قال الحسن: المراد الكافر والمنافق {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} (4) لنفسه {جَهُولًا} (5) بربه. . . وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. . . (6)
وهذه الآية تدل على أن الإنسان عندما تحمل هذه الأمانة كان يجهل تكاليفها ووافق على شرط هذا التكليف وهو النعيم لمن أطاع والعذاب لمن عصى لكنه لفرط ظلمه لنفسه، وفرط جهله بربه وبشرعه تحملها ووقع فيما وقع فيه لكن الله وعده بالمغفرة والرحمة إذا أقبل إليه وتاب من ذنوبه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 477.
(3) سورة الأحزاب الآية 72
(4) سورة الأحزاب الآية 72
(5) سورة الأحزاب الآية 72
(6) تفسير القرطبي ج 14 ص 255.(70/151)
المبحث الثالث عشر: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب
قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 17
(2) سورة النساء الآية 18(70/151)
قال ابن كثير: يقول تعالى إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة، ثم يتوب ولو قبل معاينة الملك روحه قبل الغرغرة، قال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب.
وقال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدث: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. رواه ابن جرير.
ثم قال قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره.
وعن مجاهد قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (2) » .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 205، وانظر تفسير القرطبي ج 5 ص 92.
(2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب 99، من حديث ابن عمر ثم قال: حديث حسن غريب. ج 5 ص 547 رقم 3537، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 1899 ثم قال: حسن.(70/152)
وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
قال ابن كثير: قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة. . . (2)
وقال القرطبي: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} (3) أي خطيئة من غير قصد.
قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل. . . وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. . . (4)
وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
نعم كل عاص جاهل؛ لأنه لو كان عالما بالله، وبشرع الله، وبالحلال، والحرام، وبما تؤول إليه المعاصي في الدنيا، وفي الآخرة: لما
__________
(1) سورة الأنعام الآية 54
(2) تفسير ابن كثير ج 3 ص 257.
(3) سورة الأنعام الآية 54
(4) تفسير القرطبي ج 6 ص 435، 436.
(5) سورة النحل الآية 119(70/153)
أقدم على أي معصية؛ وإذا وقع في معصية نتيجة لاتباع الهوى، أو لوسوسة الشيطان، أو إطاعة للنفس الأمارة بالسوء؛ فإنه سرعان ما يرجع إلى الله، ويتوب إليه، ويستغفره، ويندم على فعل هذه المعصية؛ فيقبله الله لأن الله غفور رحيم. . . فإذا كان العبد أهلا للتوفيق، وفقه الله للعلم النافع الذي يعقبه فعل الصالحات؛ وترك المنهيات، لأن الجهل انتفى عنه بالعلم، وبالتالي انتفت المعاصي، أو محيت عنه.
نسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، وترك السيئات، والفوز بالجنات، والمعافاة من النار.(70/154)
المبحث الرابع عشر: المنافقون كانوا يعتقدون في الله اعتقاد أهل الجاهلية؛ من عدم النصر والظفر للمؤمنين، وأن المشركين سيظهرون، وأن الإسلام سيباد وأهله
قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 154(70/154)
قال ابن كثير: قال ابن مسعود: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان.
وقال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه (1) ، قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعنه، وأخذله للحق {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (2) كذبة، أهل شك وريب في الله عز وجل. . . الطائفة الأولى: أهل الإيمان واليقين والثبات، والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله وينجز له مأموله. . . والثانية: هم الذين لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف. . . اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة. . .
قال ابن الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير، ما أسمعه إلا كالحلم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (3) فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (4) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير باب 11.
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 154
(4) سورة آل عمران الآية 154(70/155)
وقال القرطبي: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} (1) يعني: المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين، فلم يغشاهم النعاس، وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل. . . وطائفة أي: إذ طائفة يظنون أن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - باطل، وأنه لا ينصر {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (2) أي: ظن أهل الجاهلية. . . وقال ابن عباس في قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (3) يعني التكذيب بالقدر. . . {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (4) أي: ما قتل عشائرنا. فقيل: إن المنافقين قالوا: لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا. فرد الله عليهم فقال: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ} (5) أي لخرج {الَّذِينَ كُتِبَ} (6) أي فرض. {عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} (7) يعني في اللوح المحفوظ. {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (8) أي مصارعهم (9) .
وقال ابن سعدي: ولاشك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وعلامة طمأنينة، لأن الخائف لا يأتيه النعاس، لما في قلبه من الخوف. فإذا زال الخوف عن القلب، أمكن أن يأتيه النعاس. وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس، هم المؤمنون الذين ليس
__________
(1) سورة آل عمران الآية 154
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 154
(4) سورة آل عمران الآية 154
(5) سورة آل عمران الآية 154
(6) سورة آل عمران الآية 154
(7) سورة آل عمران الآية 154
(8) سورة آل عمران الآية 154
(9) تفسير القرطبي 4 ص 242، 241.(70/156)
لهم هم إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين. وأما الطائفة الأخرى الذين {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} (1) فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم، أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس، ما أصاب غيرهم {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} (2) وهذا استفهام إنكاري، أي: مالنا من الأمر أي: النصر والظهور شيء، فأساءوا الظن بربهم، وبدينه، وبنبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله. . . (3) نعم المنافق خائف؛ خائف من الفضيحة، وخائف من الموت، وخائف من كل شيء، ولذلك لم يؤمنوا بالنعاس، ولم تثق نفوسهم، وتطمئن قلوبهم بوعد الله؛ ولذلك ذهبوا كل مذهب، وقالوا ما قالوا من الكلام الذي يحمل سوء الظن بالله، بل كانوا يعتقدون أن الله لن ينصر المؤمنين، وأن المشركين سيبيدون المؤمنين وأنها النهاية لهم وهذا الجهل بعينه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 154
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي ج 1 / 439.(70/157)
المبحث الخامس عشر: الذي يحكم بغير ما أنزل الله؛ فهو يحكم بحكم الجاهلية
قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (1) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50(70/157)
قال ابن كثير: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. . . قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (1) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. قال الحسن: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه (3) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) تفسير ابن كثير ج 3 ص 122، 123.(70/158)
وقال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وقيل المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو إشاعتها أو تنفيذها. وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ الجار بجاره، والحليف بحليفه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك كل ما كانوا يعتقدونه، والمراد منه ما جاء الإسلام بتركه كالطيرة والكهانة وغير ذلك. . . (1)
حكم الله هو الحكم الأكمل والأحكم، والأمثل، والأفضل؛ لأنه من عند الحكيم الخبير العليم القدير الحي القيوم. . . والذي يعدل عنه إلى غيره فلا شك أنه سيعدل إلى الجاهلية الجهلاء، وإلى الجهل المطبق، وإلى العمى والتخبط والضلال.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص 211.(70/159)
المبحث السادس عشر: اختلاط النساء بالرجال، وترك الحجاب، والتبرج: من أمور الجاهلية
قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) سورة الأحزاب الآية 34(70/159)
قال ابن كثير: قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة: إذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج؛ فنهى الله عن ذلك. وقال مقاتل بن حيان: التبرج: أنها تلقى الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدوا ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. . . (1)
وقال القرطبي: معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء؛ كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة. . . فأمر الله تعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} (2) وحقيقة التبرج إظهار ما ستره أحسن (3) .
إن تكشف المرأة أمام الرجال، والاختلاط بين الجنسين يؤدي إلى فساد كبير، وهو ما منعه وحرمه الإسلام وعده من أمر الجاهلية الأولى، والجاهلية الجهلاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 406.
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) تفسير القرطبي ج 14 ص 179.(70/160)
المبحث السابع عشر: المؤمنون التزموا بكلمة التقوى وهي:] لا إله إلا الله [والذين كفروا جعلوا في قلوبهم:] الحمية [؛ حمية الجاهلية
قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (1) .
قال ابن كثير: وذلك حين أبوا أن يكتبوا] بسم الله الرحمن الرحيم [، وأبوا أن يكتبوا:] هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله [، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (2) وهي قول] لا إله إلا الله [كما قال ابن جرير، وعبد الله بن أحمد بسنده من حديث أبي بن كعب: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (3) قال: (لا إله إلا الله) (4) .
وأخرجه الترمذي ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة، وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.
__________
(1) سورة الفتح الآية 26
(2) سورة الفتح الآية 26
(3) سورة الفتح الآية 26
(4) تفسير ابن كثير ج 7 ص 326.(70/161)
قال المباركفوري: {وَأَلْزَمَهُمْ} (1) أي المؤمنين {كَلِمَةَ التَّقْوَى} (2) أي من الشرك وهي] لا إله إلا الله [وأضيف إلى التقوى لأنها سببها، وبه قال الجمهور، وزاد بعضهم] محمد رسول الله [وزاد بعضهم] وحده لا شريك له [وقال الزهري: هي] بسم الله الرحمن الرحيم [وذلك أن الكفار لم يقروا بها، وامتنعوا عن كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير، فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها والأول أولى؛ لأن كلمة التوحيد هي التي يتقى بها الشرك بالله ويدل عليه حديث أبي بن كعب هذا قال: أي النبي- صلى الله عليه وسلم - في تفسير كلمة التقوى] لا إله إلا الله [أي هي] لا إله إلا الله [قوله: (هذا حديث غريب) وأخرجه أحمد وابن جرير والدارقطني في الأفراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات (3) .
__________
(1) سورة الفتح الآية 26
(2) سورة الفتح الآية 26
(3) تحفة الأحوذي تفسير سورة الفتح ج 7 ص 150.(70/162)
المبحث الثامن عشر: السب، والشتم، والكلام الفاحش، والسفه، والمقاتلة: من أفعال أهل الجاهلية
أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة أن رسول الله_ صلى الله عليه وسلم - قال: «الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم - مرتين (1) » - الحديث (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1894) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/273) ، موطأ مالك الصيام (689) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم رقم 1894 (فتح الباري ج 4 ص 103) .(70/162)
وأخرجه الترمذي بلفظ. . . «وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم، فليقل: إني صائم (1) » .
وقال ابن حجر: قوله ولا يجهل أي لا يفعل شيئا من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك. . . وللنسائي من حديث عائشة «وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه (2) » . . . (3)
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الصيام، باب فضل الصيام رقم 764 ج 3 ص 127.
(2) سنن النسائي الصيام (2234) .
(3) فتح الباري ج 4 ص 104.(70/163)
المبحث التاسع عشر: علمنا رسول الله أن نستعيذ بالله أن نفعل بالناس أو يفعل بنا فعل الجهال؛ من الإذاء وإيصال الضرر
أخرج الترمذي بسنده من حديث أم سلمة: أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله توكلت على الله. اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا (1) » قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قال المباركفوري: أي: أمور الدين أو حقوق الله أو حقوق الناس أو في المعاشرة والمخالطة مع الأصحاب أو نفعل بالناس فعل
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3427) ، سنن أبو داود الأدب (5094) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3884) ، مسند أحمد بن حنبل (6/306) .(70/163)
الجهال من الإذاء وإيصال الضرر إليهم. أو يجهل علينا بصيغة المجهول أي: يفعل الناس بنا أفعال الجهال. . . (1)
__________
(1) تحفة الأحوذي للمبارك فوري ج 9 ص 385.(70/164)
المبحث العشرون: حذر رسول الله من اتخاذ رؤساء جهالا يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون
أخرج البخاري بسنده من حديث ابن عمرو قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون (1) » .
قال ابن حجر: وفي رواية حرملة «ويبقى في الناس رؤساء جهالا» . . . وعند الطبراني «فيصير للناس رؤس جهال» هذه رواية هشام بن عروة، أما رواية الزهري عن عروة بعد أن يعطيهم إياه، ولكن يذهب العلماء كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم. . . (2)
إن زينة الأرض العلماء، وهم حياة الناس؛ وكيف يحيا العباد من دون علماء لكنه سيأتي على الناس زمن يقبض الله فيه العلم،
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب ما يذكر من ذم الرأي رقم 7307 (فتح الباري ج 13 ص 282) .
(2) فتح الباري ج 13 ص 284، 285.(70/164)
وقبضه ليس انتزعا ينتزعه إنما هو بموت العلماء، فإذا مات العلماء مات العلم معهم، فيتصدى للفتيا رؤساء جهالا؛ فيضلون أنفسهم ويضلون الناس لأنهم غير علماء، وهذه ثمرة الجهل: الضلال والعمى والتخبط في الظلمات من الرؤساء الذين نصبوا أنفسهم في منزلة العلماء فضلوا وأضلوا، ومن العامة الذين سألوا هؤلاء الجهال فأضلوهم لأنهم أفتوهم بغير الحق.(70/165)
المبحث الواحد والعشرون: سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أن يغفر له جهله
أخرج البخاري بسنده من حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه كان يدعو: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي (1) » . . . الحديث.
قال ابن حجر: الجهل ضد العلم (2) هذا فيه دليل على خطورة الجهل، وأنه ذنب يستغفر منه؛ وهو المفهوم المخالف لوجوب طلب العلم، والتفقه في دين الله، حتى يعبد الله على بصيرة.
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6398) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2719) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .
(2) فتح الباري ج 11 ص 198.(70/165)
المبحث الثاني والعشرون: من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات أو قتل تحت راية عمية مات ميتة جاهلية.
أخرج مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من «خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية (1) » . . . الحديث.
وأخرج مسلم أيضا بسنده من حديث جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية (2) » .
وهذا فيه دليل على خطورة خلع اليد من طاعة الإمام المسلم أو القتال عصبية أو النصر عصبية؛ فيموت، فإن موتته تكون موتة جاهلية، أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/306) .
(2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة حديث رقم 54، 57 ج 3ص 1477، 1478.(70/166)
المبحث الثالث والعشرون: الدعوى والنصرة عصبية: دعوى جاهلية
أخرج البخاري بسنده من حديث جابر بن عبد الله قال: «كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرين يا للمهاجرين. فسمع ذاك(70/166)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ " قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: " دعوها فإنها منتنة (1) » . . . الحديث (2) .
قال ابن حجر: الكسع: ضرب الدبر باليد أو بالرجل. . . وذلك شديد عند أهل اليمن. . . وقوله "يا للأنصار" هي للاستغاثة أي أغيثوني، وقوله: " دعوها فإنها منتنة " أي دعوة الجاهلية. . . " ومنتنة " من النتن أي: أنها كلمة قبيحة خبيثة. . . (3)
جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه العقيدة والشريعة؛ نقية صافية خالية من كل الشوائب؛ الولاء فيها لله ولرسوله، الأخوة فيها أخوة الدين، لا عصبية، ولا حمية، للعشيرة أو للقبيلة، أو لأي أمر من الأمور غير الدين، كل أمور الجاهلية وضعها الإسلام، وحذر منها، وحاربها. . . حتى يبقى المجتمع المسلم مجتمعا طاهرا نظيفا نقيا خاليا من كل المنغصات، ومن كل ما يؤثر على الأخوة والمحبة في الله، ولذلك جعل الانتصار للقبيلة أو للعشيرة من أمور الجاهلية التي لا يقبلها الإسلام بأي حال، وهذا قمة في تنقية النفوس والمجتمعات من أدران الجاهلية من عصبية وحمية وغير ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4905) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2584) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3315) ، مسند أحمد بن حنبل (3/393) .
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب 5 رقم 4905 (فتح الباري ج 8 ص 649.
(3) فتح الباري ج 8 ص 649.(70/167)
المبحث الرابع والعشرون: المعاصي من أمر الجاهلية
قال البخاري: المعاصي من أمر الجاهلية. ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امرؤ فيك جاهلية (1) » وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وأخرج بسنده من حديث المعرور قال: «لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. إخوانكم خولكم. جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم (3) » .
قال ابن حجر:. . . كل معصية تؤخذ من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية، والشرك أكبر المعاصي. . .
وأما قصة أبي ذر فإنما ذكرت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها سواء كانت من الصغائر أم من الكبائر، وهو واضح. . . واستدل أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر فيك جاهلية أي
__________
(1) صحيح البخاري الأشربة (5580) ، مسند أحمد بن حنبل (3/217) .
(2) سورة النساء الآية 48
(3) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية (فتح الباري ج1 ص 84) .(70/168)
خصلة جاهلية، مع أن منزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية، وإنما وبخه بذلك - على عظيم منزلته عنده تحذيرا له عن معاودة مثل ذلك. . . (1)
المعلم والمربي الأول، ربى أصحابه تربية فريدة؛ فخلعوا على عتبة الإسلام كل أمور الجاهلية كبيرها وصغيرها، فكانوا خير القرون على الإطلاق؛ على المستوى العام، وعلى مستوى الأفراد ذكورا وإناثا كبارا وصغارا، فرضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) فتح الباري ج 1 ص85.(70/169)
المبحث الخامس والعشرون: التفاخر بالأحساب من عبية الجاهلية
أخرج أبو داود بسنده من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرها بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن (1) » .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب، ج 4 ص331 رقم 5116.(70/169)
وذكره الألباني ثم قال: حسن، وعزاه إلى مسند أحمد، وأبي داود (1) .
قال العظيم آبادي: قال في القاموس: الفخر ويحرك والفخار والفخارة التمدح بالخصال كافتخار وتفاخر وأفخر بعضهم على بعض انتهى، والأحساب: جمع حسب وهو ما تعده من مفاخر أبائك. . . و (عبية الجاهلية) أي: فخرها وتكبرها ونخوتها، قال الخطابي: العبية: الكبر والنخوة، وأصله من العب وهو الثقل يقال: عبية وعبية بضم العين وكسرها (مؤمن تقي وفاجر شقي) قال الخطابي: معناه أن الناس رجلان مؤمن تقي فهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيبا في قومه، وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفا رفيعا أهـ، وقيل معناه أن المفتخر المتكبر إما مؤمن تقي فإذن لا ينبغي له أن يتكبر على أحد، أو فاجر شقي فهو ذليل عند الله والذليل لا يستحق التكبر، فالتكبر منفي بكل حال (2) .
إن التفاخر بالأحساب من فعل أهل الجاهلية الذين ليس لهم منهج صحيح، فهم فوضى؛ الأهواء والعواطف هي المتحكمة فيهم نظامهم نظام الغاب، القوي يفتخر ويتعالى على الضعيف. . .
__________
(1) صحيح الجامع رقم 1783.
(2) عون المعبود للعظيم آبادي ج 14 ص21، 22.(70/170)
لكن الإسلام جعل الناس صنفين فقط مؤمنون أتقياء، وفجار أشقياء، وفجار أشقياء، وحرم عليهم التفاخر بالآباء ودعوى الجاهلية؛ لأن أصل الجميع لآدم.(70/171)
المبحث السادس والعشرون: ما وضعه رسول الله في حجة الوداع من أمور الجاهلية
أخرج مسلم بسنده من حديث جابر بن عبد الله، في رواية حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل، وفيه، «فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم. كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل. وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله (1) » . . الحديث. . .
قال النووي:. . . في هذه الجملة إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(70/171)
التي لم يتصل بها قبض، وأنه لا قصاص في قتلها وأن الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - تحت قدمي فإشارة إلى إبطاله. . . قوله أنه موضوع كله معناه الزائد على رأس المال كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) (2) .
طهر النبي - صلى الله عليه وسلم - المجتمع الإسلامي من جميع أمور الجاهلية سواء كانت في الدماء، أو في المعاملات المالية، أو الاجتماعية أو غيرها من الحقوق العامة والخاصة، وكان ذلك في اجتماع عظيم للمسلمين يوم عرفة في حجة الوداع.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 8 ص182، انظر تحفة الأحوذي ج8 / 482.(70/172)
المبحث السابع والعشرون: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا
أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة قال: «قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم قالوا: يا نبي الله ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: أفعن معادن العرب تسألونني؟(70/172)
قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا (1) » .
قال ابن حجر: القسمة رباعية:
1 - فإن الأفضل من جمع بين الشرف في الجاهلية والشرف في الإسلام وكان شرفهم في الجاهلية بالخصال المحمودة من جهة ملائمة الطبع ومنافرته خصوصا بالانتساب إلى الآباء المتصفين بذلك، ثم الشرف في الإسلام بالخصال المحمودة شرعا.
2 - ثم أرفعهم مرتبة من أضاف إلى ذلك التفقه في الدين، ومقابل ذلك من كان مشروفا في الجاهلية واستمر مشروفا في الإسلام فهذا أدنى المراتب.
3 - القسم الثالث من شرف في الإسلام وفقه ولم يكن شريفا في الجاهلية، ودونه من كان كذلك لكن لم يتفقه
4 - والقسم الرابع من كان شريفا في الجاهلية ثم صار مشروفا في الإسلام فهذا دون الذي قبله، فإن تفقه فهو أعلى رتبة من الشريف الجاهل (2) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 14 حديث رقم 3374 (فتح الباري ج 6 ص414) .
(2) فتح الباري ج 6 ص 415.(70/173)
إنه خيار كريم فمن كان في الجاهلية ينفر من الخبائث والمحرمات التي بفطرة الإنسان وبطبعه يكرهها مع أصالة وشرف فهذا طهر ينضاف إليه ما دعت إليه الشريعة الغراء مع طهر وعفة ونقاء وصفاء وهذا شرف آخر، وزيادة على هذا كله الفقه في دين الله، لا شك أنه سيصبح أكرم الناس، نسأل الله من فضله العظيم.(70/174)
المبحث الثامن والعشرون: فضل العلم وقبح الجهل
الجهل ضد العلم وفيما يلي نعقد مقابلة بين العلم والجهل:
العلم ... الجهل
العلم يفرق به بين الشك واليقين ... الجهل لا يفرق به بين الشك واليقين
العلم يفرق به بين الغي والرشاد ... الجهل لا يفرق به بين الغي والرشاد
بالعلم يعرف الله ويعبد ... بالجهل لا يعرف الله ويعبد
بالعلم يذكر الله ويوحد ... بالجهل لا يذكر الله ويوحد
بالعلم يحمد الله ويمجد ... بالجهل لا يحمد الله ويمجد
بالعلم اهتدى إليه السالكون ... بالجهل ضل إليه السالكون
ومن طريق العلم وصل إليه الواصلون ... ومن طريق الجهل لم يصل إليه الواصلون(70/174)
العلم ... الجهل
ومن باب العلم دخل عليه القاصدون ... ومن باب الجهل لم يدخل عليه القاصدون
بالعلم تعرف الشرائع والأحكام ... بالجهل لا تعرف الشرائع والأحكام
بالعلم يتميز الحلال من الحرام ... بالجهل لا يتميز الحلال من الحرام
به توصل الأرحام وتعرف مراضي الحبيب ... به لا توصل الأرحام ولا تعرف مراضي الحبيب
العلم حياة القلوب ونور البصائر ... الجهل موت القلوب وظلمة البصائر
العلم شفاء الصدور ورياض العقول ... الجهل مرض الصدور وإغلاق العقول
العلم لذة الأرواح وأنس المستوحشين ... الجهل مرارة الأرواح ووحشة المستوحشين
العلم دليل المتحيرين ... الجهل محير المتحيرين
العلم ما قام بدليل. ورفع الجهل
ومعنى ذلك: أن للعلم علامة قبله، وعلامة بعده؛ فعلامته(70/175)
قبله: ما قام به الدليل، وعلامته بعده: رفع الجهل، وبهذا يتضح فضل العلم وقبح الجهل (1) .
__________
(1) أنظر مدارج السالكين ج 2 ص 469-471 بتصرف.(70/176)
المبحث التاسع والعشرون: الجهل له ظلمة تأتي بالحزن وتذهب بالسرور
الجهل نوعان:
1 - جهل علم ومعرفة.
2 - جهل عمل وغي.
وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله سبحانه وتعالى " العلم " الذي بعث به رسوله نورا، وهدى وحياة. وسمى ضده: ظلمة وموتا وضلالا.
قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (1) .
وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة الأنعام الآية 122(70/176)
وقال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (3) .
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) .
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (5) .
فجعله " روحا " لما يحصل به حياة القلوب والأرواح، و " نورا " لما يحصل به من الهدى والرشاد. . . (6)
ومثل هذا النور في قلب المؤمن: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (7) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة المائدة الآية 16
(3) سورة النساء الآية 174
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة الشورى الآية 52
(6) مدارج السالكين لابن القيم ج 3 ص 162 بتصرف بسيط
(7) سورة النور الآية 35(70/177)
ومثل حال من فقد هذا النور: بمن هو في {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (1) (2) .
وقال ابن القيم: الجهل موت لأصحابه كما قيل:
وفي الجاهل- قبل الموت- موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... فليس لهم حتى النشور نشور
فإن الجاهل ميت القلب والروح، وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (3) {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (4) . وقال تعالى {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} (5) . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (6) . وشبههم - في موت قلوبهم - بأهل القبور؛ فإنهم قد ماتت
__________
(1) سورة النور الآية 40
(2) مدارج السالكين لابن القيم ج3 ص 163.
(3) سورة يس الآية 69
(4) سورة يس الآية 70
(5) سورة الروم الآية 52
(6) سورة فاطر الآية 22(70/178)
أرواحهم، وصارت أجسامهم قبورا لها، فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور، كذلك لا يسمع هؤلاء. وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة' وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان، ولم تتحرك له: كانت ميتة حقيقة، وليس هذا تشبيها لموتها بموت البدن، بل ذلك موت القلب والروح. . . والمقصود: أن العلم حياة القلوب من الجهل، فالقلب ميت، وحياته بالعلم والإيمان (1) .
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم ج3 ص262، 261 بتصرف بسيط.(70/179)
المبحث الثلاثون: كفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه
قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) .
قال ابن كثير:. . . غير صراط المغضوب عليهم، الذين فسدت إرادتهم، فعلموا وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بلا، ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين، وهما طريقتا: اليهود والنصارى (3) .
قال ابن القيم:. . . ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7
(3) تفسير ابن كثير ج1ص45.(70/179)
هو عدم العلم بالحق؛ فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة؛ ومن عدم إرادته والعمل به أخرى فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غيره عليه بعد معرفته. فلم يكن ضلالا محضا. وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه. . . ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق. والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة؛ فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه، فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم، والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال، وكان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. . . فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، آمين إنه قريب مجيب (1)
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم ج2ص32 دار الكتاب العربي.(70/180)
المبحث الواحد والثلاثون: سمى الله العلم نورا، وسمى الجهل ظلمة
قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 257(70/180)
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلي نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك. . . ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات، لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة (1) .
قال ابن القيم:. . . وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا، فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله سبحانه وتعالى " العلم " الذي بعث به رسوله: " نورا وهدى وحياة ". وسمى ضده: " ظلمة وموتا وضلالا. . . " (2) .
وقال ابن سعدي: أخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله، وصدقوا إيمانهم، بالقيام بواجبات الإيمان، وترك كل ما ينافيه، أنه وليهم، يتولاهم بولايته الخاصة، ويتولى تربيتهم، فيخرجهم من ظلمات الجهل
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 462.
(2) مدارج السالكين ج 3 ص 162.(70/181)
والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والإقبال الكامل على ربهم، وينور قلوبهم، بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى.
وأما الذين كفروا، فإنهم لما تولوا غير وليهم، ولاهم الله ما تولوا لأنفسهم، وخذلهم، ووكلهم إلى رعاية من تولاهم، ممن ليس عنده نفع ولا ضر؛ فأضلوهم، وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع، والعمل الصالح، وحرموهم السعادة، وصارت النار مثواهم، خالدين فيها مخلدين، اللهم تولنا فيمن توليت (1) .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي ج 1 ص 318 ط السعدية.(70/182)
المبحث الثاني والثلاثون: من أسباب فتنة القبر: الجهل؛ حيث يجيب" بلا أدري"
أخرج البخاري وغيره بسنده من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه - وإنه ليسمع قرع نعالهم - أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد- صلى الله عليه وسلم - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا. . وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما(70/182)
يقول الناس. فيقال له: لا دريت ولا تليت. فيضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين (1) » .
قال ابن حجر: وفي حديث البراء فيقولان له: «من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري (2) » وهو أتم الأحاديث سياقا. . . قوله لا أدري المعنى لا دريت ولا اتبعت من يدري. . وقال الأصمعي: أي لا دريت ولا استطعت أن تدري، ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد «لا دريت ولا اهتديت (3) » وفي رواية البراء عند أبي داود: بعد أن يقول لا أدري قال: «فينادي مناد: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار (4) » . . . الحديث (5) .
ويتضح من الروايات أنه عاش حياته جاهلا، لم يبذل أدنى جهدا في التعلم، لم يكلف نفسه أي عناء في معرفة سر وجوده في الحياة، عاش عيشة البهائم، ومات ميتة البهائم، وانتبه بعد موته، فأجاب عن الأسئلة الثلاثة في القبر بلا أدري، وفي رواية: سمعت
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، رقم 1374 (فتح الباري ج 3 ص 232) .
(2) سنن أبو داود السنة (4753) ، مسند أحمد بن حنبل (4/288) .
(3) فتح الباري ج 3 ص 239.
(4) سنن أبو داود السنة (4753) ، مسند أحمد بن حنبل (4/288) .
(5) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب المسألة في القبر ج 4 ص 240.(70/183)
الناس يقولون شيئا فقلته، لم يعمل عقله الذي وهبه الله، لم يتفكر ويتذكر ويتأمل في نفسه وفي الكون من حوله، فكانت هذه النتيجة المخزية، وكان ذلك العذاب الأليم، نسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة.(70/184)
المبحث الثالث والثلاثون: من نواقض الإسلام: الجهل بدين الله وذلك؛ بالإعراض عنه تعلما وعملا
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (1) .
قال ابن كثير: أي: لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها، كأنه لا يعرفها.
قال قتادة: إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة، وأعوز أشد العوز، وعظم من أعظم الذنوب. ولذلك قال تعالى متهددا لمن فعل ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (2) أي: سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام. . . (3)
قال ابن باز: وذكر العلماء - رحمهم الله - في باب حكم المرتد:
__________
(1) سورة السجدة الآية 22
(2) سورة السجدة الآية 22
(3) تفسير ابن كثيرا ج 6 ص 371.(70/184)
أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله ويكون بها خارجا عن الإسلام؛ ومن أخطرها وأكثرها وقوعا عشرة نواقض. . . العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (1) ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره. (2) .
وقال محمد الأنصاري: فصل في نواقص الإسلام - أعاذنا الله من ذلك. . .
الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به ولا يريد بعلمه إلا الحياة الدنيا من شهادة ووظيفة كحال الأكثرين من الطلاب الدارسين لدى المستشرقين اليوم (3) .
إن الإعراض عن العلم الشرعي، وعدم تعلمه من أعظم الذنوب؛ لأنه هو النور الذي ينير للعبد طريقه إلى الله، ولو أراد الإنسان الوصول إلى الله من غير الطريق الذي جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلن يصل، بل سيصل إلى جهنم بأي طريق آخر ولذلك جعل العلماء الإعراض عن دين الله علما وعملا من
__________
(1) سورة السجدة الآية 22
(2) العقيدة الصحيحة لابن باز ص 27-30
(3) أصول الدين لمحمد بن عبد الوهاب ترتيب محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري.(70/185)
نواقض الإسلام لخطورة الجهل وما يترتب عليه من خسران في الدنيا والآخرة، نسأل الله العافية.(70/186)
المبحث الرابع والثلاثون: الجهل يمنع تحقيق معنى " لا إله إلا الله "
اشتملت أقسام التوحيد الثلاثة على معنى " لا إله إلا الله " وهو: لا معبود بحق إلا الله ولا يمكن تحقيق هذا المعنى إلا إذا أتى العبد بشروط " لا إله إلا الله " وشروطها ثمانية:
أولا: العلم بمعناها المراد منها نفيا وإثباتا المنافي للجهل بذلك، قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) ، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} (3) أي بلا إله إلا الله، وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} (5) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة فاطر الآية 28
(3) سورة الزخرف الآية 86
(4) سورة آل عمران الآية 18
(5) سورة الزمر الآية 9(70/186)
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (1) .
وفي الصحيح عن عثمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة (2) » (3) إذا تخلف شرط " العلم " فإنه "الجهل" وإذا لم يزيح العلم الجهل - وخاصة في العقائد- فإنه الكفر والضلال والشقاء والعناء، وإذا لم يتحقق هذا الشرط؛ فلا يمكن تحقيق معنى " لا إله إلا الله " ولا يمكن أن ينتفع قائلها بها في الدنيا والآخرة؛ من الدخول في الإسلام والفوز بالجنة والنجاة من النار.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 43
(2) أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، حديث رقم43.
(3) انظر معارج القبول للحكمي ج1ص378.(70/187)
المبحث الخامس والثلاثون: هل الجهل يؤثر على صحة الإسلام أو فساده وبطلانه؟ ، ودائرة تأثيره على التكليف، وما يصلح أن يكون عذرا ومالا يصلح.
قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 273(70/187)
أي: الذي لا يعلم بحقيقة حالهم، وهو المعنى الأول من معاني الجهل "فقد العلم"، وهو الذي سيكون مدار هذا المبحث عليه.
أولا: تأثير عارض الجهل على التوحيد أصل الدين هو معرفة الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له. وهذا لا عذر فيه بالجهل، سواء وجدت مظنة العلم - كدار الإسلام - أم لم توجد - كدار الحرب - وسواء ثبتت إقامة الحجة أم لم تثبت. ويجب اعتبار الجاهل فيه كافرا في ظاهر الأمر. وهذا القدر متفق عليه بين الأئمة قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (2) {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول لأهون أهل النار عذابا: لو أن لك ما في الأرض من شيء، كنت تفتدى به؟ قال: نعم. قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك (4) »
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172
(2) سورة الأعراف الآية 173
(3) سورة الأعراف الآية 174
(4) أخرجه البخاري بلفظه من حديث أنس، في كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته رقم 3334 (فتح الباري ج60 ص 363) ، ومسلم في الصحيح، المنافقين رقم51 ينحوه.(70/188)
قال ابن كثير على الآية: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (1) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية: على هذه الملة- فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء (2) » ؟
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم (3) » . . . وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد. . . وأن المراد بهذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. . . وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد. . . (4)
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(3) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) .
(4) تفسير ابن كثير ج 3 ص500، 501.(70/189)
وقال القرطبي: شهدنا أي من قول بني آدم، والمعنى شهدنا أنك ربنا وإلهنا. . . {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (1) بمعنى لست تفعل هذا ولا عذر للمقلد في التوحيد (2) .
قال ابن القيم: إنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (3) أي فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم، وهذا كثير في القرآن، روى مسلم من حديث عائشة قالت: «يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين؟ فهل ينفعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين (4) » (5) .
وروى مسلم في صحيحه: عن أنس «أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار قال: فلما قفى الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار (6) » .
فيتضح من الأحاديث السابقة أن جهل من مضى قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، لم يكن عذرا لهم سواء في الحكم عليهم في الدنيا بظاهر أمرهم، أو في حقيقة أمرهم عند الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 173
(2) تفسير القرطبىج7ص318.
(3) سورة الزخرف الآية 87
(4) صحيح مسلم الإيمان (214) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .
(5) عقيدة الموحدين ص327-331.
(6) صحيح مسلم الإيمان (203) ، سنن أبو داود السنة (4718) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) .(70/190)
تعالى. وذلك بإخبار الرسول عنهم أنهم في النار. .
قال الحكمي في معارج القبول: إن أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق. فأحدها يخرج من الملة بالكلية، - إلى أن يقول-: " وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق، فكفر الجهل والتكذيب ".
وقال ابن القيم: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرا، معاندا فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا؛ فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عنادا أو جهلا وتقليدا لأهل العناد اهـ (1) .
ونخلص إلى أن الجهل يؤثر على صحة الإسلام سلبا بل يفسد الإسلام ويبطله؛ لكون هذا الجاهل أشرك مع الله فلا يعذر لجهله؛ لأنه مفطور على الملة أولا، ولأنه أعرض عن العلم والعمل ثانيا، ولأن رسول الله أخبرنا عن الذين كانوا في الجاهلية ولم يتبعوا الرسل السابقين أنهم في النار، أي كفار. فالجاهل بالتوحيد صاحبه
__________
(1) عقيدة الموحدين ص331- 335.(70/191)
في الدنيا كافر، لأنه قد أخذ عليه العهد والميثاق في عالم الذر ومع ذلك أشرك فهو كافر.
ثانيا: تأثير عارض الجهل في الإسلام على الحقيقة أي في حقيقة التوحيد عند الله في الآخرة من ثواب وعقاب اختلف العلماء في هذا الأمر فمنهم من قال: أن العقل وحده هو مناط التكليف في هذا، وأن الإنسان قد فطر على إدراك التوحيد وحده فيجب عليه أن يصل إلى الحق بالنظر والاستدلال، وأنه سيحاسب في الآخرة على هذا الأساس حتى ولو لم يأته رسول من الله، ويدخل في هذا ما أطلق عليهم " بأهل الفترة " وهم غير معذورين.
وذهب آخرون: إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا في الدنيا أو في الآخرة إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه؛ وبالتالي فأهل الفترة عند أصحاب هذا المذهب معذورون.
وذهب فريق ثالث: إلى عدم وجود من لم تبلغه دعوة التوحيد في الدنيا قبل موته بأية صورة، وذلك لعموم الأدلة القرآنية الدالة على إرسال الرسل وإقامة الحجة في الدنيا على كل شخص، وأن الدنيا هي دار التكليف ولا تكليف بعدها.
وكل فريق له أدلته من الكتاب والسنة والمعقول على التفصيل الذي ذكره المؤلف في بحث " الجواب المفيد في حكم جاهل(70/192)
التوحيد " ثم يخلص المؤلف إلى النتيجة التالية:
ويجب أن نلاحظ أخيرا، أن كل ما نقلناه من خلاف بين العلماء في هذا الفصل، إنما هو في أحكام الآخرة فقط، أي في مآل الجهل يوم القيامة في أحكام الثواب والعقاب عند الله سبحانه وتعالى، وأما بالنسبة لأحكام الدنيا فلا خلاف بين العلماء في اعتباره كافرا في ظاهر أمره، وذلك لجريان الأحكام في الدنيا على هذا الأساس.
يقول ابن القيم: والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، أما كون زيد من الناس بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أم لا؟ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد:
1 - أن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر.
2 - وأن الله لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.
هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى الله، وهذا في أحكام الثواب والعقاب.
وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر اهـ.
ثالثا: تأثير عارض الجهل في أصول الشريعة (1) .
__________
(1) انظر عقيدة الموحدين ص 347.(70/193)
بمعنى: هل الجاهل بأحكام أصول الشريعة مثل: المتواتر من الأخبار والصفات الثابتة التي لا تعرف إلا بالعقل، ومواقع الإجماع، والمعلوم من الدين بالضرورة من مسائل الفروع يكفر؟
والإجابة على هذا السؤال: لا يكفر الجاهل به " قبل إقامة الحجة عليه " على تفصيل:
فإن كان المكلف في مكان تتوافر فيه مظنة العلم - كدار الإسلام - كان آثما ولم يعذر بجهله، ويقام عليه الحد إن انبنى على قوله عمل فيه حد، سواء كان متأولا أم غير متأول، وإن أنكر: كفر، وإن كان المكلف في مكان لا تتوفر فيه مظنة العلم - كدار الحرب - لم يكن آثما وعذر بجهله، فإن أقيمت عليه الحجة فأنكر، كفر بذلك. أما من كان في مكان أو في حال هو مظنة العلم، فيكفي فيه إمكان العلم، ولا يشترط تحقق العلم فعلا.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «طلب العلم فريضة على كل مسلم (1) » ، قال مالك: " الجاهل في الصلاة أو سائر العبادات كالمتعمد لا كالناسي " وقال الشافعي عن الفروع التي اشتهرت وعرفت من المتواتر وغيرها: " لا يسع أحدا غير مغلوب على عقله جهلها في دار الإسلام" القاعدة العامة:] سقوط العذر بالجهل في
__________
(1) حديث صحيح، ذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 3808.(70/194)
وجود مظنة العلم [فإن قامت الحجة على جاهل هذه الأمور؛ سواء الجاهل بها حيثما تتوفر مظنة العلم " الآثم الغير معذور"، أما الجاهل بها حيث لا تتوفر مظنة العلم "المعذور الغير الآثم " كدار الحرب أو الناشئ في بادية بعيدا عن المسلمين مثلا فأنكر أيا منها بعد بيان الحجة والإعلام بالدليل، كان كافرا بلا خلاف. والمدار في كفر منكرها بعد العلم بها هو أن منكرها إنما ينكر ما ثبت بصورة قطعية وقطعي الثبوت وقطعي الدلالة، والقواعد القطعية في أصول الشريعة التي ثبتت قطعيتها بالنص أو بالاستقراء الكلي للنصوص، وكل ما هو في مقام القطعية مثلها، كالمعلوم من الدين بالضرورة من مسائل الفروع مثل تحريم الخمر والزنا، ووجوب الصوم والحج والزكاة، هو الذي يكفر منكره بلا خلاف. . .
قال ابن القيم: ومن جحد فرضا من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه أو خبرا أخبر الله به. . . جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به. . . وقال ابن تيمية بعدم تكفير المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه. أما من أنكر أمرا مما ذكر فيعتبر كفرا، إلا في حالة عدم وجود مظنة العلم فيعذر الجاهل في هذه الأمور، لأنها تحتاج كلها إلى الإبلاغ بشرع فتقام الحجة أولا بالشكل الواضح القاطع، فإذا أنكر بعدها كفر. . .(70/195)
وعلى هذا المعنى تتنزل كل أقوال ابن تيمية في التوقف عن تكفير الجهال بأعيانهم حتى تقام الحجة عليهم أولا؛ وخاصة في المسائل الخفية، وليس في كل الأمور وتحت أي ظرف. . . قال ابن تيمية: أنا من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا تارة وعاصيا تارة أخرى أهـ.
ونخلص إلى أن من أنكر من الدين ما هو معلوم بالضرورة جهلا؛ فإن كان في مكان تتوفر فيه مظنة العلم وكان هذا الذي أنكره مما اشتهر وعلم لدى الخاصة والعامة؛ فهو كافر، وإن كان من الأمور التي ليست بمشتهرة فهو آثم بجهله ويعلم. فإن عاند فهو كافر.
وإن كان في مكان لا تتوفر فيه مظنة العلم؛ فهو آثم بجهله، وتقام عليه الحجة بالتعليم، سواء كانت المسألة معلومة ومشتهرة أو لم تكن كذلك، فإن عاند فهو كافر والله أعلم.
رابعا: تأثير عارض الجهل في الأصول الاعتقادية.
قال المؤلف: وهي الأمور التي تعتبر من أصول الاعتقاديات عند أهل السنة، ولكنها لم تثبت بطريقة قطعية، فهي ظنية الثبوت عند البعض.(70/196)
وما كان مثل هذا فلا يكفر جاهله قبل إقامة الحجة عليه، والجمهور على عدم تكفيره حتى لو أنكره بعد إقامة الحجة عليه - وذلك لعدم قطعية الدليل - بل يعتبر مبتدعا أو فاسقا أهـ (1) .
وما ذهب إليه المؤلف - وفقه الله - قد لا يوافق عليه حيث إن خبر الآحاد إذا توفرت فيه شروط الصحة فإنه يفيد العلم اليقيني لا الظني - كما تقرر عند جملة من المحققين ومنهم ابن القيم -. لأن الحديث الصحيح شرع، والشرع ليس بظن، ثم إن أحاديث الآحاد كما أنها تفيد العلم اليقيني فهي تفيد اليقين إذا تلقتها الأمة بالقبول أو احتفت بها قرائن أو تسلسلت بالأئمة أو وردت من أكثر من طريق.
قال ابن القيم في معرض الكلام على أن الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها هو المجمع عليه وهو قطعي الثبوت وله حكم المتواتر قال: " فهذا الذي اعتمده نفاه العلم عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا المعتزلة والجهمية والرافضة
__________
(1) عقيدة الموحدين ص 354.(70/197)
والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعوا بعض الأصوليين. . . " (1) .
والقائلون بإفادتها العلم والاحتجاج بها في العقائد كثير من السلف والخلف ومنهم:
داود الظاهري، وابن حزم، وابن طاهر المقدسي، والحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي، وهو قول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، واختاره من المتأخرين: صديق خان، ومن المعاصرين: أحمد شاكر، ومحمد الألباني، وصبحي الصالح. . . (2)
وإذا تقرر هذا وثبت فإن من جهل الأصول الاعتقادية أو بعضها وأنكرها، سواء ثبتت بالتواتر أو بالآحاد، وهو في مكان تتوفر فيه مظنة العلم، وهي من الأمور المعلومة والمشتهرة للعامة والخاصة فهو كافر؛ كما تقرر ذلك في أصول الشريعة في المبحث السابق ومن جهل وأنكر بعض الأمور في الأصول الاعتقادية والتي ليست بمشتهرة، فإنه تقام عليه الحجة بالتعليم وبيان الدليل، فإن عاند فهو كافر. ومن جهل وأنكر الأصول الاعتقادية أو بعضها وهو في مكان لم تتحقق فيه مظنة العلم، سواء كانت هذه الأمور معلومة ومشتهرة أم لا؛ فإنه تقام عليه الحجة بالتعليم وبيان الدليل، فإن عاند
__________
(1) أصول الاعتقاد ص 42، وعزاه الأشقر إلى الصواعق المرسلة ج 2 ص 474.
(2) أصول الإعتقاد ص 39.(70/198)
فهو كافر أما من جهل وأنكر شيئا مما ذكر متأولا، فإنه تقام عليه الحجة بالتعليم وبيان الدليل، فإن أصر وعاند فهو كافر بجهله وتأويله ثم إصراره وعناده وعدم تسليمه.
ثم نختم هذا المبحث والذي نسأل الله أن يجزي أخانا الشيخ \ أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الحميد خير الجزاء، وأن يجعله في ميزان حسناته؛ نختمه بفتوى صادرة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية برقم 9257 وتاريخ 22 \ 12 \ 1405 ھ.
والسؤال: هل كل من أتى بعمل من أعمال الكفر أو الشرك يكفر - علما بأنه أتى بهذا الشيء جاهلا - هل يعذر بجهله أم لا يعذر؟ وما هي الأدلة بالعذر أو عدم العذر؟
الجواب: لا يعذر المكلف بعبادته غير الله أو تقربه بالذبح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هي من اختصاص الله إلا إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة فيعذر لعدم البلاغ لا مجرد الجهل لما رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (1) » فلم يعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من سمع ومن يعيش في بلاد إسلامية قد سمع بالرسول
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/317) .(70/199)
صلى الله عليه وسلم - فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الأعضاء
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز (1)
__________
(1) عقيدة الموحدين ص 459، 458.(70/200)
المبحث السادس والثلاثون: احذروا فتنة العابد الجاهل
قال ابن القيم: وأما العابد الجاهل ففتنته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة: احذروا فتنة العالم الفاجر، وفتنة العابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه، وذلك بغيه يدعو إلى الفجور.
وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (1) {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (2) (3) .
ومن الكلام الباطل الذي يقوله العباد الجهال: نحن نأخذ
__________
(1) سورة الحشر الآية 16
(2) سورة الحشر الآية 17
(3) سورة الحشر، الآيتان 16، 17، الفوائد لابن القيم ص189.(70/200)
علمنا من الحي الذي لا يموت، وأنتم تأخذونه من حي يموت، وقول آخر وقد قيل له: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق، من يسمع من الخلاق؟ وقول آخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل. وقول آخر: إذا رأيت الصوفي يشتغل ب " أخبرنا " و" حدثنا " فاغسل يدك منه.
وقول آخر: لنا علم الحرف، ولكم علم الورق. وهذا كلام فيه صد عن دين الله وعن كلام الله، وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن القيم: ومن فارق الدليل، فقد ضل سواء السبيل.
ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة. وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم، والشيطان الرجيم. . . ثم قال: وأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتقيد بهما: فهو من لدن النفس والهوى والشيطان فهو لدني شيطاني. . . وهو ثمرة الإعراض عن الوحي، وتحكيم الهوى والشيطان. . . (1)
__________
(1) مدارج السالكين ج2 ص468 - 477.(70/201)
المبحث السابع والثلاثون: الإنسان تعترضه الآفات فيخلف علمه الجهل
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) ، وقال
__________
(1) سورة لقمان الآية 23(70/201)
سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (1) ، وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) ، وقال {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (3) .
الله سبحانه وتعالى هو العليم، وهو الذي يوصف بالعلم المطلق، وهو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق، وهو العلم على الحقيقة، وهو الذي أحاط علمه سبحانه بكل شيء. . . أما الآدميون - وإن كانوا يوصفون بالعلم - فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالما بالفقه غير عالم بالنحو، وعالما بهما غير عالم بالحساب وبالطب ونحوهما من الأمور. . . (4)
وعلى هذا فالإنسان تعترضه العوارض الكثيرة التي تؤثر على قواه وعلى علمه، ومن هذه العوارض: المرض، والنوم، والجوع، والظمأ، والخوف، والنسيان، وضعف القوى، وهذه وغيرها تؤثر
__________
(1) سورة يوسف الآية 76
(2) سورة الطلاق الآية 12
(3) سورة الجن الآية 28
(4) شأن الدعاء للخطابي ص57 بتصريف بسيط.(70/202)
على علم الإنسان، وعلى تصوره، وعلى فهمه، مما يجعل الإنسان يمر بأوقات، وأحوال يسيطر عليه الجهل فيها، ويعقب علمه جهلا؛ ولذلك أمر الشارع بالعلم، وبالتذكر والتفكر، وكرر سبحانه كثيرا من القصص والعبر والمسائل في القرآن لهذا الغرض وبأساليب متنوعة؛ حتى يبقى الإنسان عالما ومتذكرا، والله المستعان.(70/203)
المبحث الثامن والثلاثون: من مسائل الجاهلية الاقتداء بالعالم الفاسق، أو العابد الجاهل
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: هذه مسائل خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأميين مما لا غنى لمسلم عن معرفتها، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء. . .
" الخامسة ": الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم، فحذرهم الله تعالى من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (2) .
إلي آيات أخر تنادي ببطلان الاقتداء بالفساق وأهل الضلالة
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة المائدة الآية 77(70/203)
والغي، وذلك من سنن أهل الجاهلية وطرائقهم المعوجة (1) . يستوي العالم الفاسق والعابد الجاهل في الضلال والإضلال؛ فالأول جعل العلم كالبازي، يصيد به، ويحرفه على ضوء الأهواء والرغبات، والثاني يخدع بعبادته البسطاء وعامة الناس، ويظنون أنه على حق في عبادته وتنسكه، وما علموا أن الاقتداء به منزلة عظيمة، تزل بصاحبها إلى النار، وما ذاك إلا أنه اقتدى بهذا الجاهل؛ الذي عبد الله على غير بصيرة، نسأل الله العافية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) مسائل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب ط الجامعة الإسلامية.(70/204)
فقه التعامل مع غير المسلمين
لفضيلة الدكتور \ محمد بن عمر عتين (1)
تقديم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده للفقه في الدين، وسلك بهم سبيل الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله القائل: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فلقد من الله على هذه البلاد بنعم كثيرة وفضائل عظيمة، من أمن واستقرار ورغد عيش حتى صارت محط أنظار كثير من الناس ممن يطمع أن ينعم بخيراتها، وأن ينال من ثرواتها، ويعيش فيها ويتمتع بالأمن والأمان والرخاء والاستقرار: وحيث إن الدعوة إلى الله مطلب ديني لكل مسلم لإخراج المخلوقين من عبادة غير الخالق إلى عبادة الخالق: كان لزاما علينا أن ندعو الوافدين إلينا إلى
__________
(1) قاضي محكمة رأس تنورة.
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(70/205)
دين الإسلام الذي لن يقبل الله غيره {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) دين الله الكامل الذي قال الله فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) ، إذا: كان علينا دعوة غير المسلمين إلى الإسلام بفقه وحكمة وبصيرة في دعوتهم حسب ما سيوضح في هذه الرسالة إن شاء الله، وقد جعلتها في ثلاثة فصول وعدد من المباحث:
الفصل الأول: فيما ينبغي للمسلم عمله مع الوافدين وفيه مقدمة وأربعة مباحث:
المقدمة: في وجوب سؤال أهل الذكر والتحذير من الفتوى بغير علم
المبحث الأول: كثرة الوافدين للمملكة
المبحث الثاني: وجوب دعوتهم إلى الله
المبحث الثالث: الأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها الداعية
المبحث الرابع: النصيحة لمن ذهب إلى بلاد الكفر
الفصل الثاني: فقه التعامل مع غير المسلمين، وفيه ثمانية مباحث:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة المائدة الآية 3(70/206)
المبحث الأول: تعريف فقه التعامل
المبحث الثاني: استقدامهم لجزيرة العرب
المبحث الثالث: ما هي جزيرة العرب؟
المبحث الرابع: معاملتهم في استئجارهم وتأجير المسلم نفسه منهم
المبحث الخامس: تأجير الدور عليهم
المبحث السادس: معاملتهم في البيع والشراء
المبحث السابع: طعامهم
المبحث الثامن: نكاح نسائهم
الفصل الثالث: الأخلاق التي ينبغي أن تكون معهم، وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: السلام عليهم، وكيف يرد عليهم؟
المبحث الثاني: معنى السلام
المبحث الثالث: حكم التحية بغير السلام، ومخالطتهم في العمل
المبحث الرابع: تهنئتهم بالأفراح
المبحث الخامس: صلة الكفار
المبحث السادس: عيادة مرضاهم
المبحث السابع: تعزيتهم واتباع جنائزهم
المبحث الثامن: مخاطبتهم بيا رفيق ويا صديق
ثم الخاتمة:(70/207)
وأحسب أني قد قربت إلى الأذهان ما كنت أرجوه، والحكم للقارئ، وكنت زدت كثيرا في نشرها ثم رأيت بعد الإلحاح الشديد من بعض الإخوان أن أنقحها وأزيد منها وأنقص، وأنشرها لتعم الفائدة، وهو جهد المقل، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن غير ذلك فأستغفر الله. والفضل لله ثم لمن يسد الخلل وينبهني على ما وقع من سهو أو خطأ وزلل، والله - أسأل - أن ينفع بما كتبت من قرأه أو سمعه أو صححه أو نشره، وأن يعمني بمغفرة منه ورضوان وجميع المسلمين.(70/208)
الفصل الأول: فيما ينبغي للمسلم عمله مع الوافدين، وفيه مقدمة وأربعة مباحث:
المقدمة: في فضل العلم والتحذير من الفتيا بغير علم
للعلم فضل عظيم فقد أمر الله بالعلم قبل القول والعمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1) ، ثم حث تعالى على طلب العلم والازدياد منه.
يقول الله تعالى آمرا عبده ورسوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (2) ، ويقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3) ، وفيهما فضل العلم ورفعة درجات أهله، قال ابن حجر: والمقصود به العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه ودنياه، ومداره على التفسير والحديث والفقه (4) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (5) » .
ففضل العلم عظيم ومكانته عالية، لكنه سبحانه حذرنا من القول عليه بلا علم، قال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (6)
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة طه الآية 114
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) فتح الباري ج1 ص141.
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(6) سورة الإسراء الآية 36(70/209)
ويقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (1) .
ومما شاع وظهر في هذا الزمان كثرة المفتين بغير علم، وتجرأ العامة على الفتوى من رجال ونساء. وكان على العاقل أن لا يتجرأ على الفتوى بغير علم، فلقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتدافعون الفتوى خوفا من القول على الله بلا علم - رضي الله عنهم، بل كان كل واحد منهم - رضي الله عنهم - يود أن صاحبه كفاه الفتوى. قال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى.
وقال الإمام الشافعي: ما رأيت أحدا جمع الله فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة، وأسكت عن الفتيا منه، وقال إسحاق بن راهويه: قال ابن عيينة: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها، وقال عطاء بن السائب: أدركت أقواما كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم، وإنه ليرعد، وقال الأشعث كان محمد إذا سئل عن شيء من الفقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان. وحكي عن مالك أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 19(70/210)
قال الشيخ أبو بكر الحافظ - رحمه الله -: ويحق للمفتي أن يكون كذلك، وقد جعله السائل الحجة له عند الله، وقلده فيما قال، وصار إلى فتواه من غير مطالبة ببرهان ومباحثة عن دليل، بل سلم له وانقاد إليه، إن هذا لمقام خطر وطريق وعر.
قال محمد بن المنكدر: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل عليهم (1) . وفى سنن الدرامي " فليطلب لنفسه المخرج " (2) .
أما في عصرنا الحاضر فقد تجرأ كثير من الناس على الفتوى بغير علم، ولا سيما من العوام فيحللون ويحرمون، وما عرفوا أن الفتوى توقيع عن الله بالتحليل والتحريم، فاستخفوا بالأمر واستهانوا به، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد ورد النهي الشديد عن الفتوى بغير علم كما في قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (3) .
قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: أخرج ابن أبي حاتم أنه قال: قرأت هذه الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قال قلت
__________
(1) انظر الفقيه والتفقه ج 2 ص165، 1389 هـ تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.
(2) سنن الدرامي ج1 ص50.
(3) سورة النحل الآية 116(70/211)
صدق - رحمه الله - فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما يقع كثيرا من الجاهلين والمقلدين، فإنهم يفتون بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير؛ فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » الحديث أخرجه البخاري من رواية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.
وروي عن أنس وعلي وسلمة وأبي هريرة - رضي الله عنهم - بألفاظ متقاربة، ومعنى «ليتبوأ مقعده من النار (2) » فليتخذ لنفسه منزلا من النار، ولهذا كانوا يمتنعون من كثرة الفتوى. قاله ابن حجر - رحمه الله - (3) .
وقال في كتاب الفقيه والمتفقه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار (4) » .
وفي سنن البيهقي من رواية أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتا في جهنم،
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) .
(2) صحيح البخاري العلم (110) .
(3) فتح الباري ج1 ص199 وما بعدها من الباب.
(4) الفقيه والمتفقه ج2 ص155 من رواية علي بن أبي طالب.(70/212)
ومن أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه (1) » .
وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أفتى بغير علم لعنته الملائكة (2) » ، وعند ابن عساكر من رواية علي - رضي الله عنه -: «لعنته ملائكة السماء والأرض (3) » ، وورد عن ابن عباس أنه قال: من أفتى بفتيا يعمى عنها فإنما إثمها عليه. وفي سنن الدرامي " من أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه " (4) .
فكان الواجب على أصحاب العقول السليمة والفطر المستقيمة الابتعاد عن الفتيا بغير علم، وإحالة الفتوى إلى أهل العلم الذين لهم قدم راسخ فيه، يفتون الناس على علم وبصيرة؛ لقول الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) .
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يرزقنا الفقه في الدين، والصدق في القول والعمل، وأن يبعدنا عن القول على الله بغير علم، وأن يهدينا سواء السبيل.
__________
(1) السنن الكبرى ج1 ص116.
(2) الفقيه والمتفقه ج2 ص155.
(3) فيض القدير للمناوي ج6 ص77.
(4) سنن الدارمي ج1 ص53.
(5) سورة الأنبياء الآية 7(70/213)
المبحث الأول: كثرة الوافدين للمملكة.
لقد من الله على هذه البلاد المباركة بالخيرات والنعم التي لا تعد ولا تحصى، وفتح الله على أهلها من فضله فاستخرجت الثروات، وأقيمت المصانع العملاقة فيها، وجعل الناس يتوافدون من مشارق الأرض ومغاربها إلى هذه البلاد طمعا في ثروتها، وللنيل من خيراتها، مما يحتاج المسلم معه إلى التعرف إلى أحكام التعامل مع غير المسلمين من أهل الذمة، بما يظهر للإسلام محاسنه، وللمسلم كرم أخلاقة، وسمو معتقده على ضوء من الشريعة السمحة، والملة الحقة التي ارتضاها ربنا لعباده دينا، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، هذا وإن كان من الأفضل أن لا يقيم في جزيرة العرب، وأن يخرج من جزيرة العرب غير المسلمين. إلا أن دخولهم ومكثهم مؤقت ولحاجة. فإذا أدوا مهمتهم رجعوا إلى بلدانهم.
ولما للمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة من دور كبير في الدعوة إلى الله، واستجلاب محبة غير المسلمين للإسلام، فإنه يجب على المسلمين التحلي بالأخلاق الفاضلة والتفقه في الدين، والتبصر في أمور الدعوة، فلقد انتشر الإسلام بالمعاملة الحسنة من المسلمين في كثير من بلاد العالم، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: «من يرد به الله خيرا يفقهه في الدين (2) » أخرجه الشيخان من
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(70/214)
رواية معاوية بن أبي سفيان (1) . وهذه الجملة «يفقهه في الدين (2) » تعني الشيء الكثير، ويدخل في مضمونها وعمومها فقه التعامل مع غير المسلمين، فصلوات الله وسلامه على من أعطى جوامع الكلم، إذ من حق الوافدين علينا دعوتهم إلى الله على بصيرة، بالحكمة واللين مع ما يلزمنا من العلم بما ندعوهم إليه.
وليعلم كل مسلم أن الدعوة إلى الله هي سبيل الأنبياء والرسل، وأن من اتبع محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان عليه الدعوة إلى الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) ، والحمد لله تعالى الذي يسر لنا قدومهم إلينا. مما جعل الأمر سهلا في دعوتهم إلى الله، وإنقاذهم من الكفر والشرك إلى دين الإسلام، فهل من مغتنم؟ لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. كيف وقد كان الصحابة يسافرون الأيام الطويلة ويقطعون الفيافي والقفار للجهاد والدعوة إلى الله مع الفقر والحاجة، يربطون على بطونهم من الجوع فرضي الله عنهم.
واليوم وقد يسر الله لنا وصولهم إلينا فما علينا إلا أن نبذل لهم التعليم والتوجيه والإرشاد. نسأل الله الهداية للجميع، وأن يجعل العمل خالصا لوجهه الكريم، فبه يكون النجاح والفلاح، والله المستعان.
__________
(1) فتح الباري ج1 ص164. ومسلم ح1037، كتاب الزكاة ج4 ص137.
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) سورة يوسف الآية 108(70/215)
المبحث الثاني وجوب الدعوة إلى الله
لا شك أن كل مسلم يحب الخير للناس جميعا. وهذه من صفات المؤمنين. ومن أهم ما يحبه المسلم للآخرين أن ينقذهم الله من النار بدخولهم دين الإسلام، ونبذ ما سواه من الأديان، فكان على المسلم أن يبين لغير المسلمين أن الإسلام هو دين السماحة والصدق والوفاء، كما أنه دين عدل لا يفرق بين الأسود والأبيض إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) . فهو الدين الصالح لكل زمان ومكان، اختاره الله ورضيه لنا دينا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) . وأن ما عداه من الأديان السماوية منسوخ بشريعة الإسلام وغير مرضي ولا مقبول عند الله. يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) .
ويقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) .
وعليه أن يبين لهم أن رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - عامة لكل المخلوقين، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (5)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة سبأ الآية 28(70/216)
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
يبين لهم أن هذا القرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (2) ، بل بلاغ لكل من بلغه خبره وانتهى إليه أمره، في عصره - صلى الله عليه وسلم - وفي سائر العصور إلى يوم القيامة. لقول الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) قال الإمام الشوكاني: لأجل أن أنذركم به ومن بلغ إليه من الناس جميعا بجميع شعوبهم وأصنافهم من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلية، فأحكام القرآن شاملة للبشر والجن جميعا إذا بلغتهم دعوة الإسلام وسمعوا بهذا القرآن وهم مسئولون عن استجابتهم لدعوة الله وعن أعمالهم في الدنيا عند لقاء الله. انتهى (4) فرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - شاملة ودعوته عامة عالمية كما قال
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) فتح القدير ج2 ص105.(70/217)
- صلى الله عليه وسلم -: «بعثت إلى كل أحمر وأسود (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (2) » أخرجه الإمام مسلم (3) .
يبين لهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي ولا رسول بعده، يقول الله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (4) .
وأنه جاء بدين الحق ودين الهدى وهو الظاهر على كل الأديان. يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (5) .
يبين لهم أن القرآن الكريم مهيمن على كل الكتب السماوية السابقة، وأنه الحق. يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (6) قال الأستاذ عثمان بن جمعة ضميرة: تنوعت عبارات المفسرين من السلف ومن بعدهم رحمهم الله في التعبير عن معنى هذه الهيمنة فقالوا
__________
(1) مسلم بشرح النووي ج3 ص6.
(2) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/317) .
(3) مسلم بشرح النووي ج1 ص463.
(4) سورة الأحزاب الآية 40
(5) سورة التوبة الآية 33
(6) سورة المائدة الآية 48(70/218)
مهيمنا أي مؤتمنا وشاهدا ورقيبا وحاكما ودالا ومصدقا. فالقرآن الكريم مهيمن على كل كتاب قبله. انتهى (1) قلت: وهو كما ذكر. وانظر إن شئت فتح القدير للشوكاني (2) وتفسير الطبري تحقيق أحمد محمود شاكر (3) وتفسير ابن كثير مختصر محمد الرفاعي (4) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: السلف متفقون على أن القرآن هو المهيمن على ما بين يديه من الكتب، ومعلوم أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبة، ومن أسماء الله تعالى المهيمن، ويسمى الحاكم على الناس القائم بأمورهم انتهى. نقله عنه ابن ضميرة (5) .
قلت: وكما أن كتاب الله مهيمن على ما قبله. فكذا كانت رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لما قبلها من الرسالات والنبوات كما سبق. وكما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما قال لعمر - رضي الله عنه -: وقد رأى مع عمر صحيفة وفيها شيء من التوراة «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آتيك بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيا ما وسعة إلا اتباعي (6) » أخرجه الإمام أحمد (7) ، وحسنه الألباني.
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية عدد21 ص316.
(2) فتح القدير ج2 ص47.
(3) الطبري ج10 ص377.
(4) ابن كثير ج2 ص56.
(5) المجلة المشار إليها بعاليه.
(6) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .
(7) مسند الإمام أحمد ج5 ص57.(70/219)
قلت ولفظه في إرواء الغليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: أفي شك؟ الحديث أخرجه أحمد والدرامي، وابن أبي عاصم وابن عبد البر إلى آخره، وقال في آخر البحث: إنه حسن (1) .
يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالتصديق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وباتباع شريعته؛ فلقد أمر الله بذلك في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (2) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) .
يعرض عليهم ما في القرآن الكريم من الأخبار بما هو موجود في التوراة والإنجيل من أنه رسول الله ونبي أمي، وأنهم مأمورون باتباعه كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) .
__________
(1) إرواء الغليل ج6 ص36.
(2) سورة المائدة الآية 15
(3) سورة المائدة الآية 16
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة الأعراف الآية 158(70/220)
يدعوهم بالحكمة واللين، ويحبب إليهم الإسلام ويرغبهم فيه، وأن من اتبع محمدا وآمن به وأطاعه من أهل الكتاب كان له أجران كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيما رواه عنه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: «ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها وأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها؛ فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق سيده فله أجران (1) » أخرجه البخاري (2) .
يبين لهم أن عيسى - عليه السلام - سينزل في آخر الزمان فيحكم بشريعة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - منفذا لها مقرا بها. روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5083) ، صحيح مسلم الإيمان (154) ، سنن الترمذي النكاح (1116) ، سنن النسائي النكاح (3344) ، سنن أبو داود النكاح (2053) ، سنن ابن ماجه النكاح (1956) ، مسند أحمد بن حنبل (4/402) ، سنن الدارمي النكاح (2244) .
(2) فتح الباري ج4 ص414.(70/221)
ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد (1) » أخرجه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، ونكتفي بهذا القدر الوجيز في بيان ما ينبغي إيضاحه لغير المسلمين، وفيه الكفاية إن شاء الله. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2222) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(2) صحيح البخاري بشرح الباري ج1 ص190.
(3) مسلم بشرح النووي ج1 ص135.(70/222)
المبحث الثالث: الأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في دعوته
عرفنا أن كل مسلم ينبغي له أن يحب الخير للناس، بل ويحب لهم أن يبعدهم الله عن النار ويدخلهم الجنة، وهذا ما ينبغي أن يستشعره كل مسلم، ولذا فالمسلم يحب أن يدخل الناس كلهم في دين الإسلام حتى ينقذهم الله من النار ويزحزحهم عنها. فيدعوهم إلى الإسلام، ولكن يجب أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة والصدق والأمانة والعدل ولين الجانب، وأن تكون دعوته على بصيرة ورفق بالمدعوين. جاعلا نصب عينيه قوله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} (1) ، قال ابن كثير - رحمه الله - يقول الله تعالى: لرسوله إلى الثقلين الإنس والجن آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته ومسلكه، وهي
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(70/222)
الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي، وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} (1) أي أنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك ونظير (2) .
فالدعوة إلى الله واجب شرعي على هذه الأمة وحق للبشرية عليها، وعلى الداعية أن يكون حكيما حليما ملما بأحوال المدعوين، فالجاهل له معاملة في الدعوة، والعالم له معاملة في الدعوة، والمعاند له معاملة. فيعامل كل واحد بما يليق به؛ نبراسه وسراجه وقدوته قول الله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) .
هذا وتنقسم أحوال المدعوين إلى ثلاثة أقسام. كما يلي:
الأول: إذا كان المدعو جاهلا ولو بين له الحق لأخذ به؛ فهذا يدعى بالحكمة واللين واللطف والرأفة.
الثاني: إذا بين له الحق لم يسرع في قبوله والعمل به، بل يكون عنده كسل وفتور، فهذا يحتاج مع البيان إلى الموعظة الحسنة بأن يخوف من عقاب الله، ويبين له ثواب المطيعين وعقاب العاصين.
الثالث: من إذا بين له الحق لم يقبله ويحاول رده بالشبهات،
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) تفسير ابن كثير ج2 ص534.
(3) سورة النحل الآية 125(70/223)
فهذا يجادل بالتي هي أحسن لكشف شبهته وبيان خطئه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: لأن الجدال مظنة الإغضاب، فإذا كان بالتي هي أحسن حصلت منفعته بغاية الإمكان كدفع الصائل. انتهى.
وقد ذكر الشيخ صالح بن فوزان الفوزان جملة من شروط صفات الداعية ومنها: على الداعية أن يكون عالما بما يدعو إليه. يعلم الحلال والحرام، ويميز بين السنة والبدعة، والتوحيد والشرك، والطاعة والمعصية، حتى يعامل المدعوين بحسب ما عندهم من الخلل؛ فهو يحتاج إلى العلم الذي يستطيع به إقناع المعارض وإفحام المناظر، ودحض الشبه، وهذه البصيرة الواردة في قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وهي المجادلة بالتي هي أحسن، وأن يكون مخلصا في دعوته لا يريد رياء ولا سمعة ولا إظهارا لنفسه، وإنما يريد إظهار دين الله ونفع المدعوين. وأن يتحلى بالصبر والحلم؛ لأنه قد يتعرض لمشاق، والله أخبر عن لقمان الحكيم في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2) .
وأن يوقن أن العاقبة الحميدة للحق ولو تأخرت، ولا يقنط من تأخر حصول النتائج ولو على الأقل إقامة الحجة، وبراءة الذمة كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن الذين أنكروا على أصحاب السبت فعلتهم الشنيعة، وقال لهم من قال: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة الأعراف الآية 164(70/224)
قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: أي موعظتنا لهم معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين أوجبهما الله علينا، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم عليه من المعصية (1) . انتهى. وقد نقل الشيخ صالح الفوزان عن ابن القيم - رحمه الله - المراتب الثلاث في الدعوة إلى الله نحو ما ذكر (2) .
أقول: وهذه الأمور التي تجب على كل مسلم يدعو إلى الله أن يتحلى بها؛ حتى يقبل الله منه قوله وفعله، وتنجح مهمته ودعوته.
قلت ولا نقول: إن الناس كلهم يجب أن يكونوا على المستوى من العلم، لكن الذي يفوته العلم لا يفوته حسن الخلق والصبر والحكمة واللين وإرجاع المشكل إلى العلماء، كما أنه لا يفوته العدل والصدق والوفاء والأمانة، وكل هذا من خلق المسلم. ودافعة إلى الدخول في الإسلام مع التوجيه بقدر الإمكان، والله من وراء القصد.
__________
(1) فتح القدير للشوكاني ج2 ص257.
(2) مجلة البحوث العلمية ج31 ص165.(70/225)
المبحث الرابع: النصيحة لمن ذهب إلى بلاد الكفر
لما كان لبلاد الإسلام فضل كبير على غيرها من البلاد، حيث إنها تدين بالإسلام، وتحكم شرع الله من حيث الحلال والحرام،(70/225)
وتعلن فيها شعائر الإسلام من صلاة وصوم وحج وعمرة وغير ذلك كان الخوف على أبناء الإسلام فيها قليلا، أما غيرها فإن على الشباب من الذهاب إليها خطرا كبيرا؛ لأنها بلاد كفر وليس بعد الكفر من ذنب. وقد بينا فيما سبق لمن كان داخل البلاد المسلمة كيف يدعو إلى الإسلام.
أما إذا كان ممن ابتلي بالذهاب إلى بلاد الكفر لعمل أو علاج أو تدريس أو دراسة، أو دعوة إلى الله، فإنه يجب عليه التمسك بدينه وأهدافه السامية والنبيلة، وأن يدعو إلى الله على بصيرة في عمله في مدرسته في مسكنه، وأن تكون الحكمة رائده، وأن لا يسأم ولا يمل ولا يستبطئ الاستجابة لدعوته، فهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - مكث السنوات في مكة يدعو إلى الله ولم يستجب إليه إلا النفر القليل، وهذا نوح - عليه السلام - مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله محتسبا الأجر عند الله، وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الدعوة إلى الله وبين فضلها «فلأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » ، وليكن قدوته رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وقبلهم مصعب بن عمير، وغيرهم ممن أرسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعليم الناس وإبلاغ الحجة
__________
(1) البخاري باب الفتح ج7 ص70.(70/226)
حتى هدى الله على أيديهم الكثير وانتشر بهم الإسلام.
وإذا كان أعداء الإسلام يرسلون المبشرين بدين النصارى، ويتكبدون المشاق في رحلاتهم، ويبذلون الأموال لنشر دينهم، وهم على باطل فكيف بنا لا ندعو إلى الله، ونحن على الطريق الصحيح الذي اختاره الله ورضيه لنا دينا؟ ومن حسنت نيته، وصلحت سريرته فلن يضيع الله عمله، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (1) ، ويقول جل وعلا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، ويقول تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (3) .
ووصيتي لكل من خرج إلى البلدان غير المسلمة أن يراقب الله في السر والعلن، وأن لا يتبع نفسه هواها، وأن يتذكر دائما أن الله يعلم السر وأخفى، وأن معه حفظة كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون، يكتبون الحسنات والسيئات حتى الأنين يكتب، فكيف بالأعمال؟ وليعلم أن العبد محاسب ومجزى على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فليكن المسلم قدوة حسنة في دينه وخلقه، وتعامله وكافة أعماله ومعاملاته، متحليا بالصدق والأمانة، والنزاهة والابتعاد عن
__________
(1) سورة الكهف الآية 30
(2) سورة هود الآية 115
(3) سورة الأعراف الآية 170(70/227)
المحرمات في المأكل والمشرب والمنكح؛ ويجتنب الأمور المشتبهات، ليكون مثلا حيا وصورة رائعة لدينه الإسلام معتزا ومفتخرا به، ثابتا عليه متمسكا بشعائره من صلوات وصيام وغيرها، مجتنبا المحرمات في كل شئونه. هدى الله الجميع لما يحب ويرضى، وحفظنا وإياهم من كل سوء ومكروه، وثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. والله الهادي إلى سواء السبيل.(70/228)
الفصل الثاني: فقه التعامل مع غير المسلمين
المقدمة:
ينبغي للمسلم أن يعلم أن هدفه الأساسي في الحياة هو الجد والعمل في الدعوة إلى الله، وإنقاذ عباد الله من عبادة غير الله، وأن يحب أن يدخل الناس كلهم في دين الله حتى ينقذهم من عذابه وينجيهم من النار، وذلك بإخراجهم من ظلمة الكفر والضلال إلى نور البصيرة والإيمان، وأن يبتعد عن ظلمهم، وإن كان قادرا عليه، وليتذكر أن الله أقدر منه على قدرته على من قدر هو على ظلمه، وهو مع مخالطتهم يكره ما هم عليه من كفر وضلال، حذرا من محبتهم ومودتهم وموالاتهم التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} (1) ، ولو كان مرتكب الكفر من الآباء أو الأبناء أو الإخوان أو العشيرة يقول تبارك وتعالى في التحذير من ذلك: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (2) .
أما معاملتهم بالرفق والعدل واللين والإحسان، فهذا شيء
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 1
(2) سورة المجادلة الآية 22(70/229)
مطلوب، ويأمر به الإسلام، يقول العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعا في إسلامهم وإيمانهم، فهذا لا بأس به؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به. انتهى (1) ، أقول وما دمنا عرفنا أن الهدف من كل ما ذكر هو دعوتهم إلى الله أولا وقبل كل شيء، فلا بأس من الدخول في التفاصيل.
__________
(1) مجموع الفتاوى والمقالات ج2 ص31.(70/230)
المبحث الأول: تعريف فقه التعامل مع غير المسلمين:
تعريف كلمة فقه من حيث اللغة:
الفقه في اللغة: هو الفهم، وقيل فهم غرض المتكلم من كلامه (1) .
وقيل الفقه لغة العلم بالشيء. يقال فلان أوتي فقها في الدين أي فهما فيه.
قال الزبيدي في تاج العروس. نزل سلمان على نبيطه فقال: هل هناك مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهر قلبك، وصل حيث شئت. فقال سلمان: فقهت وفطنت. وقال ابن سيده: وقد غلب على علم الدين لشرفه وسيادته وفضله على سائر أنواع العلوم، كما
__________
(1) إرشاد الفحول ص3، ومعجم متن اللغة ج4 ص438، والقاموس ج4 ص288.(70/230)
غلب النجم على الثريا. قال: قال ابن الأثير: وقد جعلته العرب خاصا بعلم الشريعة وتخصيصا بعلم الفروع منها (1) .
وفي اصطلاح الفقهاء: العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بالاستدلال.
قال الإمام الشوكاني: ومعنى العلم بها [أي] ما يشتمل الظن؛ لأن غالب علم الفقه ظنون.
ولأصحاب أصول الفقه كلام على هذا التعريف يرجع من أراد الاستزادة إليها في مواطنها (2) .
وقال العلامة ابن سعدي - رحمه الله -: معرفة الأحكام الشرعية والفرعية بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح (3) .
وأما المعاملة فهو مصدر من قولك: عاملته وأنا أعامله معاملة (4) . وقيل: المصدر هو الاسم الدال على مجرد الحدث. وعامل فاعل كضارب وخاصم وقاتل (5) .
قال ابن منظور في لسان العرب: عاملت الرجل أعامله
__________
(1) المحصول في علم الأصول ج1 ص93، وتاج العروس ج9 ص402.
(2) تاج العروس ج9 ص402.
(3) مناهج السالكين ص17.
(4) معجم مقاييس اللغة ج4 ص145.
(5) معجم القواعد في النحو والصرف ص427، 429.(70/231)
معاملة والمعاملة عند أهل العراق هي المساقات في الحجاز (1) . وبمثله قال الزبيدي (2) .
قلت وأنت ترى: أن المعاملة من باب المفاعلة، وهي تدل على المشاركة في الأخذ والرد؛ لأنها من باب فاعل كضارب وخاصم. فكانت الحاجة داعية إلى الفقه في التعامل مع غير المسلمين على أصول صحيحة وقواعد سليمة تبعد المسلم عن سخط الله، وتقربه إلى مرضاته، وترغب غير المسلمين في دين الإسلام «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » .
ومن هذا نأخذ أن فقه التعامل مع أهل الذمة مطلوب، وإنه الفهم بكيفية التعامل معهم في دعوتهم إلى الله وكيفية التعامل معهم في البيع والشراء، وفهم كل ما يتطلبه الاحتكاك والاختلاط بهم في مجالات الحياة الدنيوية على ضوء الشريعة الإسلامية السمحة، وفي حدود تعاليمها السامية بلا إفراط ولا تفريط ولا غلو. على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
__________
(1) لسان العرب لا بن منظور ج11 ص476
(2) تاج العروس للزبيدي ج8 ص36
(3) ج3 ص1357 من صحيح البخاري. وانظر فتح الباري ج7 ص70.(70/232)
المبحث الثاني: حكم استقدام غير المسلمين للعمل في جزيرة العرب
جزيرة العرب لها فضل على ما سواها من بلدان العالم، لما فيها(70/232)
من وجود الحرمين الشريفين بها قبلة المسلمين، وأول بيت وضع للناس في الأرض، ومهبط الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم، وفيها مسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي تشد إليه الرحال، وقبره الشريف - عليه الصلاة والسلام - وغير ذلك من المزايا؛ لفضلها على غيرها ورد الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وعلى هذا فكان استقدام غير المسلمين لجزيرة العرب مخالفا لأمره - صلى الله عليه وسلم - سواء كان للعمل أم للخدمة، والأصل في ذلك ما أخرج الإمام مسلم - رحمه الله - من رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيه إلا مسلما (1) » ، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يترك في جزيرة العرب دينان (2) » ، وعند البخاري - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أخرجوا اليهود من جزيرة العرب (3) » .
قلت وعليه فلا يجوز استقدام الأيدي العاملة من غير
__________
(1) مسلم بشرح النووي ج3 ص1388.
(2) سنن الكبرى البيهقي، كتاب المساقات، باب المعاملة على النحل ج9 ص28.
(3) فتح الباري ج6 ص271.(70/233)
المسلمين لهذه الجزيرة المباركة: اللهم إلا إذا كان العمل لا يتقنه المسلمون ولا يستطيعون القيام به؛ فإن فقهاءنا يجيزون ذلك للضرورة. يقول العلامة محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله -: لا بأس من استقدام غير المسلمين للحاجة بحيث لا نجد مسلما يقوم بتلك الحاجة، فإنه يجوز بشرط أن لا يمنحوا إقامة مطلقة، وقال: وحيث قلنا بالجواز فإنه إن ترتب على استقدامهم مفاسد دينية في العقيدة أو في الأخلاق صار حراما، ومن المفاسد أن يخشى من محبتهم والرضا بما هم عليه من الكفر وذهاب الغيرة بمخالطتهم (1) .
وقال ابن باز - رحمه الله -: لا يجوز استقدام خادمة غير مسلمة ولا خادم غير مسلم، ولا سائق غير مسلم، ولا عامل غير مسلم بهذه الجزيرة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراجهم من الجزيرة العربية عند وفاته، وبإخراج جميع المشركين منها، ولأن في استقدامهم خطرا على المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم وتربية أولادهم؛ فوجب منع ذلك طاعة لله ولرسوله، وحسما لمادة الشرك والفساد (2) .
وقال - رحمه الله -: عن الخدم والسائقين لا يجوز أن يقر في جزيرة العرب المشركون إلا بصفة مؤقتة يراها ولي الأمر، كالذين يقدمون من دول كافرة لمهمات، والباعة الذين يجلبون البضاعة لبلاد المسلمين وما
__________
(1) مجموع الفتاوى ورسائل ج3 ص24
(2) فتاوى ومقالات ابن باز ج4 ص393.(70/234)
يحتاجون إليه، فيقيمون حسب المدة التي يضعها ولي الأمر.
وقال - رحمه الله -: وجود غير المسلمين في هذه الجزيرة فيه خطر عظيم على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم ومحارمهم، وقد يفضي إلى موالاة الكفار ومحبتهم، والتزي بزيهم، ومن اضطر إلى خادم أو خادمة أو سائق فليتحر الأفضل من المسلمين لا من الكفار، وليجتهد في الأقرب إلى الخير، والأبعد عن مظاهر الفساد؛ لأن بعض المسلمين يدعي الإسلام، وهو غير ملتزم بأحكامه فيحصل به ضرر كبير وفساد عظيم (1) .
قلت: وأنت ترى أن استقدام غير المسلمين لا يجوز إلا بشرط عدم وجود من يقوم بعملهم من المسلمين، فيكون من الحاجة، وللضرورات أحكامها، وأيضا فإن في استقدام المسلمين منفعة لإخوانك المسلمين بما يحصلون عليه من الأجر؛ فيكون ما أخذه من أجر يعود نفعه على المسلمين لا على الكافرين، نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين والعمل بما علمنا، والله أعلم.
__________
(1) فتاوى ومقالات ابن باز ج4 ص395 وما بعدها.(70/235)
المبحث الثالث: ما هي جزيرة العرب عند العلماء؟ وبيان كلام أهل العلم في الأمكنة التي يمنع أهل الذمة من سكناها.
رأينا أنه لا يجوز استقدام غير المسلمين لجزيرة العرب إلا إذا دعت الحاجة والضرورة، ويحسن بنا أن نعرف جزيرة العرب، ثم(70/235)
نبين ما هي الأماكن التي يمنعون من سكناها والإقامة بها في جزيرة العرب؟
فنقول: جزيرة العرب هي التي يسكنها العرب وبها مساكنهم ومنازلهم من قبل الإسلام. قال الخليل بن أحمد: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبشة ودجلة والفرات أحاطت بها وهي أرض العرب ومعدنها، وقال الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام.
وقال أبو عبيد: من أقصى عدن إلى العراق طولا، ومن جدة وما والاها من أطراف الساحل إلى أطراف الشام عرضا: وبمثله قال الأصمعي.
وسميت بجزيرة العرب لإحاطة البحار بها، يعني بحر الهند وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الحبشة.
وقيل: هي المدينة، وقال الزبير بن بكار قال غير مالك هي ما بين العذيب إلى حضرموت آخر اليمن قال: وهذا أشبه. قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: بعد أن نقل ما ذكر بعاليه لكن الذي يمنع المشركين من سكناه الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ وهذا مذهب الجمهور.(70/236)
وعند الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد، وعن الإمام مالك يجوز دخولهم الحرم لتجارة؛ وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة. قاله في الفتح عند الكلام على حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (1) » .
وقال ابن قدامة: قال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها: وهي مكة واليمامة وخيبر وينبع وفدك ومخاليفها، وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به هي المدينة وما والاها. قال: لأنهم لم يجلوا من تيما ولا من اليمن: أما إخراج أهل نجران منه؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على ترك الربا فنقضوا العهد، فأجلاهم عمر قال: فكأن جزيرة العرب في الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، قال: ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيما وفيد ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك.
قال ابن حجر - رحمه الله -: قال الطبري في الحديث: إن على
__________
(1) فتح الباري ج6 ص171 ومعجم البلدان لياقوت الحموي ج2 ص137 عن جزيرة العرب.(70/237)
الإمام إخراج كل من دان بغير الإسلام من كل بلد غلب عليه المسلمون عنوة، إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم كالعمل بالأرض ونحو ذلك، وعلى ذلك أقر عمر من أقر بالسواد والشام، وزعم أن ذلك لا يختص بجزيرة العرب بل يلتحق بها من كان على حكمها (1) .
قلت: وأنت ترى أن جزيرة العرب التي يمنع من سكناها والإقامة بها أهل الذمة والمشركون هي الحجاز وما والاها المدينة واليمامة وينبع ومخاليفها، ولا يمنعون من باقي جزيرة العرب: وعلى هذا فنحن في حاجة إلى فقه التعامل معهم وإن كانت إقامتهم لدينا مؤقتة لا دائمة، لا سيما وقد انتشروا في معظم جزيرة العرب للعمل في استخراج الزيت وصناعته وغيره وفي الخدمة في المنازل حتى في الأماكن الممنوعين منها ما عدا الحرمين - حماهما الله منهم - نسأل الله أن يغنينا عنهم بشباب الإسلام والمسلمين، والله المستعان.
__________
(1) فتح الباري ج6 ص272.(70/238)
المبحث الرابع: استئجار أهل الذمة وتأجير المسلم نفسه منهم.
«استأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماهرا خريتا من المشركين يدله الطريق فأمنه ودفع إليه براحلته (1) » ، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يخدمه يهودي وهو الذي مرض فعاده النبي - صلى
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج4 ص442.(70/238)
الله عليه وسلم - ودعاه للإسلام فأسلم (1) » . وهذا لا يختلف فيه اثنان. وأما إجارة المسلم منهم: فقد نقل ابن القيم الجوزية ثلاث روايات عن الإمام أحمد \ المنع مطلقا، وقيل الجواز مطلقا، والمنع في الخدمة خاصة: قال: وتلخيص المذهب أن إجارة المسلم نفسه للذمي ثلاثة أنواع:
أحدها: إجارة على عمل في الذمة فهذا جائز.
الثاني: إجارة للخدمة فهذه فيها روايتان أصحهما المنع منها.
الثالث: إجارة عينه منه لغير الخدمة فهذه جائزة، وقد أجر علي - رضي الله عنه - نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر. قال هذا كله إذا كان الإيجار لا يتضمن تعظيم شعائر دينه. فإن كان على عمل يتضمن ذلك لم يجز كما نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم، وقد سأله رجل بناء أبني ناووسا للمجوس؟ فقال لا تبن لهم. وقال الإمام الشافعي: وأكره للمسلم بناء أو نجارا أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم. وبمثله قال أبو الحسن الآمدي.
وقال العلامة محمد بن صالح بن عثيمين: أما تقديم الطعام
__________
(1) أحكام أهل الذمة ج1 ص275 - 277.(70/239)
لهم فإن كان على سبيل الخدمة بأن يكون يخدمهم في بيتهم ونحوه فلا ينبغي. بل وقد ذكر فقهاؤنا كراهة ذلك، وإن كان على غير هذا الوجه. مثل أن تقدمه لهم من بيتك فلا حرج فيه؛ لأن الحاجة داعية له (1) .
قلت: ومعلوم الفرق بين الأمرين فإن تقديم الطعام لهم لا إذلال فيه؛ لأن المقدم صاحب الفضل والمعروف بخلاف الخدمة لهم في المنازل، فإن فيها إذلالا وإهانة للمسلم، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (2) ، ومن ذلك نأخذ أنه لا ينبغي للمسلم أن يأجر نفسه على الكافر في خدمة المنازل كالكنس والطبخ والغسيل والكوي داخل المنازل، وكل ما فيه ذلة، وما عدا ذلك جائز إن شاء الله، والله أعلم.
__________
(1) مجموع فتاوى ورسائل ج3 ص41 جمع وترتيب فهد السليمان.
(2) سورة النساء الآية 141(70/240)
المبحث الخامس: حكم تأجير الدور على أهل الذمة
رأينا فيما سبق جواز استقدام غير المسلمين للحاجة والضرورة لغير الأماكن المحذورة؛ وعندها لا بد لهم من سكن يئويهم، وهم لا يحق لهم الإقامة الدائمة؛ فلا بد أن نعرف حكم تأجير الدور عليهم. ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى جواز التأجير عليهم، وتوقف الإمام أحمد.(70/240)
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: نقل إبراهيم بن الحارث والأثرم عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه كان إذا سئل عن إجار الدار من الذمي الذي يشرب المسكر فيها ويزني فيها يذكر لهم أن ابن عون كان لا يكري إلا من أهل الذمة، قال إبراهيم: وجعل أبو عبد الله يعجب لهذا من ابن عون فيما رأيت. قال: وقال ابن عون: إنه يكره أن يرعب المسلم إذا جاء يطلب منه الإيجار، فإذا كان ذميا كان أهون عنده، ونقل عن بعض العلماء الكراهية قياسا على البيع، حيث كان الإمام أحمد يكره البيع عليهم وذكر - رحمه الله - كلاما كثيرا لا يتسع له المقام (1) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -: إذا تبين أو غلب على الظن أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة عليه كجعلها كنيسة أو جعلها لصنع الخمر أو خلاف ذلك (2) .
وسيأتي كلام الشيخ ابن باز في معاملتهم بالبيع والشراء والتأجير عليهم.
قلت: ويظهر لي جواز التأجير عليهم ما لم يتبين أو يغلب الظن استعمال الدار لمحرم كالكنيسة أو صنع الخمور أو الدعارة أو بيع المخدرات أو لأي عمل فيه فساد، فإن التأجير عليهم والحال ما ذكر لا يجوز، ويحرم التأجير عليهم كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - أما لمجرد
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص232.
(2) أحكام أهل الذمة ج1 ص284.(70/241)
الانتفاع المباح فإن الإجارة عليهم جائزة إن شاء الله. والله أعلم.(70/242)
المبحث السادس: معاملة أهل الذمة في البيع والشراء
معاملة أهل الذمة وغيرهم من المشركين في البيع والشراء جائزة، ولم يخالف في ذلك أحد؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم، مات ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله - صلى الله عليه وسلم. روت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اشترى من يهودي طعاما ورهن درعه عنده (1) » ، وفي رواية «اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما إلى أجل ورهن درعه (2) » . وعنها - رضي الله عنها -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين، يعني صاعا من شعير (3) » أخرجها البخاري في صحيحه (4) .
وعن أنس - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه بشعير (5) » قال ابن حجر - رحمه الله -: واليهودي هو أبو الشحم اسمه كنيته من بني ظفر من بطن الأوس، وكان حليفا لهم، بينه الشافعي ثم البيهقي. قال: وفي الحديث جواز معاملة الكافر فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم، ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة من كان أكثر ماله
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2096) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(2) فتح الباري بشرح البخاري ج 5 ص140.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2916) .
(4) فتح الباري ج8 ص151.
(5) صحيح البخاري الرهن (2508) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) ، مسند أحمد بن حنبل (3/238) .(70/242)
حراما، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم. انتهى (1) .
وقال ابن القيم الجوزية: ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - اشترى من يهودي سلعة إلى ميسرة، وثبت أنه رهن درعه عند يهودي في ثلاثين وسقا من شعير، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - زارعهم وساقاهم، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل من طعامهم، وفي كل ذلك قبول قولهم أن ذلك الشيء ملكهم، وأنه شاركهم في زرع خيبر وثمرها. قال: وقال إسحاق ابن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يشارك اليهود والنصارى فقال: يشاركهم، ولكن يلي هو البيع والشراء، ذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال. انتهى. قال المعلق: ومثله في المدونة لسحنون: والمعنى أن هذا قول مالك بن أنس - رحمه الله - (2) .
وقال سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: لا مانع من معاملتهم في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك. فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد اشترى من الكفار عباد الأوثان واشترى من اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله (3) .
__________
(1) الفتح ج5 ص141.
(2) أحكام أهل الذمة ج1 ص269.
(3) فتاوى ومقالات ابن باز ج4 ص266(70/243)
قلت: وقد ذكر ابن قدامة في المغني: أن عمر - رضي الله عنه - كان يسمح لليهود والنصارى بدخول المدينة لبيع بضائعهم بعد أن أجلاهم من جزيرة العرب. ويشتري منهم المسلمون، غير أنهم لا يقيمون بها (1) .
ومما تقدم من أقوال العلماء القدامى والمعاصرين يتضح لنا جواز التعامل مع الكفار والمشركين في البيع والشراء والرهن والاقتراض والقرض، وهو منطوق الأحاديث الواردة في ذلك، وفي هذا التوسيع على المسلمين في جواز التعامل معهم، والله أعلم.
__________
(1) المغني لابن قدامة ج13 ص244.(70/244)
المبحث السابع: طعام أهل الكتاب
اتفق العلماء - رحمهم الله - على إباحة طعام أهل الكتاب وذبائحهم كما نص القرآن الكريم والسنة المطهرة على حل وإباحة طعام أهل الكتاب. ولا خلاف بين أهل السنة بحمد الله في ذلك؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) ، قال عبد الله بن أحمد قال أبي: لا بأس بذبائح أهل الحرب إذا كانوا من أهل الكتاب.
وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من يحفظ عنه من أهل العلم (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) أحكام أهل الذمة ج1 ص245.(70/244)
وفي صحيح البخاري «أن يهود خيبر أهدوا إلى رسول الله - عليه وآله وسلم - شاة مشوية فيها سم فأكل منها (1) » قال في الفتح: إن الشاة أهدتها امرأة من اليهود تسمى زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم.
قلت: وفي الحديث: سألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
قال ابن باز - رحمه الله -: قال ابن كثير - رحمه الله -: ثبت في الصحيح أن أهل خيبر أهدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة مصلية وقد سموا ذراعها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الذراع، فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه، وأثر ذلك في ثناياه وأبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات. فقتل
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الجزية (3169) ، مسند أحمد بن حنبل (2/451) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (69) .(70/245)
اليهودية التي سمتها به. قال: وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة (1) .
انتهى.
وقال العلامة محمد ابن عثيمين: يجوز الأكل مما مسته أيديهم؛ لأن نجاستهم معنوية لا حسية. قلت: «وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة امرأة مشركة (2) » . أخرجه البيهقي، والدارقطني.
قلت: وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تناول من لحم هذه الشاة التي أهداها اليهود وكانوا قد تولوا ذبحها وسلخها وطبخها وباشرتها أيديهم، وأكل من خبز اليهودي وإهالته السنخة
__________
(1) فتاوى ابن باز ج4 ص269.
(2) قصة مزادتي المرأة المشركة رواها البخاري في الصحيح. انظر الفتح ج1، باب الصعيد الطيب من كتاب التيمم ص477 ومسلم بشرح النووي 3 \ 199ط آل مكتوم، والبيهقي ج1 ص432، والدارقطني ج1 ص201 باب الوضوء والتيمم من آنية الكفار. وهي بألفاظ مختلفة وكلها عن عمران بن حصين الخزاعي. قال المعلق على الدارقطني: فيه دليل على طهارة آنية المشركين، ويدل أيضا على طهارة جلد الميتة بالدباغ؛ لأن المزادتين من جلود ذبائح المشركين وذبائحهم ميتة، ويدل على طهارة رطوبة المشركين، فإن المرأة المشركة قد باشرت الماء.(70/246)
ولم يترفع عن ذلك مع علو مكانته، ورفعة منزلته عند الله وعند خلقه. فصلى الله عليه وسلم. لقد كان قمة في التواضع، وفي هذا كله جواز الأكل من طعام أهل الكتاب وجواز استعمال ما باشرته أيديهم. والله أعلم.(70/247)
المبحث الثامن: حكم نكاح نساء أهل الكتاب
رأينا أن الحاجة داعية لفقه التعامل مع غير المسلمين لحل البيع والشراء معهم، وجواز استئجارهم واستقدامهم للحاجة والضرورة في جزيرة العرب لجلب البضائع والبريد ونحوها، وللقيام بالعمل الذي لا يتقنه سواهم من المسلمين.
وتقدم أنهم لا يمنعون من بعض البلدان التي أهلها مسلمون لا في جزيرة العرب كاليمن ولا في غيرها كالشام ومصر، وقد تدعو المخالطة إلي الرغبة في الزواج من نسائهم العفيفات المحصنات، والله جل ذكره قد أباح لنا ذلك في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) . فدلت الآية الكريمة على جواز نكاح نساء أهل الكتاب، وقد خالف في ذلك ابن عمر - رضي الله عنهما - واحتج بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2) . وفيه النهي عن نكاح المشركات، قال: ولا أعلم
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 221(70/247)
شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى.
قال ابن القيم - رحمه الله -: كان عمر - رضي الله عنه - ينهى عنه، وأمر من تزوج من الصحابة أن يطلق، قال: وقد تزوج حذيفة بن اليمان، وطلحة بن عبد الله، والجارود بن المعلى، فطلقوا إلا حذيفة، قال لعمر: تشهد أنها حرام؟ فقال: هي جمرة، فقال: قد علمت ذلك لكنها لي حلال، قال: ثم طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ فقال: كرهت أن يظن الناس أني ارتكبت أمرا لا ينبغي، قال: وقال أحمد: ما أحب أن يفعل ذلك، فإن فعل ذلك فقد فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وذكر صالح بن أحمد قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة أن حذيفة بن اليمان، وطلحة بن عبد الله، والجارود بن المعلى، وذكر آخر تزوجوا نساء من أهل الكتاب وذكر القصة مع عمر. انتهي (1) .
قال الإمام الفخر الرازي: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يحل التزوج بالذمية، وكان ابن عمر لا يرى ذلك. قال: ومن قال بقول ابن عمر: أجابوا عن الآية بوجوه.
الوجه الأول: المراد بالمحصنات من أهل الكتاب الذين آمنوا
__________
(1) أحكام أهل الذمة ج2 ص421، بتصرف.(70/248)
منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج منها أم لا؟ فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك.
الوجه الثاني: ما روي عن عطاء بأنه كان في المسلمات قلة، فأباح الله الزواج بالكتابيات، أما الآن ففيهن كثرة؛ فزالت الحاجة، فلا جرم زالت الرخصة.
الوجه الثالث: الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (1) ، وكقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} (2) ، ولأنة عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة، ويصير ذلك سببا لميل الزوج إلى دينها، وعند حصول الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة.
الوجه الرابع: قوله تعالى في خاتمة الآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة فلو كان المراد بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 1
(2) سورة آل عمران الآية 118
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5(70/249)
هذه الآية كالتناقض وهو غير جائز (1) .
وقال الشوكاني: يجاب عن استدلال ابن عمر بآية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (2) بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات، فيبنى العام على الخاص. انتهي (3) .
قال ابن باز - رحمه الله -: حكم ذلك الحل والإباحة عند الجمهور واستعراض كلامهم رحمه الله وإياهم. قال: ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمؤمنات أولى وأفضل، لما ورد عن عمر وابنه عبد الله، وجماعة من السلف الصالح - رضي الله عنهم؛ ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر، ولا سيما في هذا الزمان الذي استحكمت فيه غربة الإسلام، وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين، وكثر فيه الميل إلى النساء، والسمع والطاعة لهن إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته إلى دينها وأخلاقها، كما يخشى على أولاده منها من ذلك (4) .
الترجيح:
والظاهر لي الجواز إذا دعت الحاجة إلى ذلك كأن يكون في
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج11 ص147.
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) فتح القدير للشوكاني ج2 ص15.
(4) فتاوى ومقالات جمع الدكتور محمد الشويعر ج4 ص274.(70/250)
بلد في نساء المسلمين قلة كالطلاب في أمريكا وأوربا وغيرها، ويخشون على أنفسهم الوقوع في الحرام فلا بأس، مع ما في ذلك من المشاكل المتوقعة، ولا سيما في حال وجود أطفال بينهما، فإذا حصل الفراق تحصل المشاحنات والمضايقات والدعاوى والمرافعات وغير ذلك من الأمور التي الأولى للمسلم الابتعاد عنها، وما قصة حاتم وأبيه السعودي وأمه الأمريكية التي أبلغت على والده البوليس الدولي، فلم يستطع الأب الخروج من السعودية - حماها الله - بل وقد تراجع الدوائر الحكومية في سفارة بلدها ذات الحصانة الدبلوماسية، وقد حكم عليه في بلدها بحضانة الابن فهرب به إلى المملكة ليعيش مسلما وبين المسلمين. وقد حكم لها بالزيارة مع الخوف الشديد من أن تأخذه إلى بلادها، والأب لا يستطيع الخروج من هذه البلاد المباركة، فإن خرج قبض عليه البوليس الدولي. وهنا المأساة.
أما في حال غير ذلك فالأفضل للمسلم التزوج بالمسلمة المأمونة الجانب في الدين والخلق {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (1) . وهذا هو الأسلم للمسلم في دينه وخلقه ودنياه والله أعلم.
فائدة:
حذر ابن تيمية رحمه الله من طاعة النساء وأورد أحاديث
__________
(1) سورة النور الآية 26(70/251)
كثيرة في النهي عن طاعتهن ومنها: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم «هلكت الرجال حين أطاعت النساء (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكن صواحبات يوسف (4) » يريد صلى الله عليه وسلم أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما في الحديث الآخر «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن (5) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «هن شر غالب لمن غلب (6) » .
وعند الإمام أحمد من رواية أبي ذر: «ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء. إلا المتزوجون أولئك المطهرون المبعدون من الخنا، ويحك يا عكاف إنهن صواحب أيوب وداود ويوسف وكرسف فقال له بشر بن عطية: ومن كرسف يا رسول الله؟ قال: رجل كان يعبد الله بساحل البحر ثلاثمائة عام يصوم النهار ويقوم الليل ثم إنه كفر بالله بسبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من
__________
(1) فتح الباري ج9 ص137 والحديث من رواية أسامة بن زيد، وصحيح مسلم حديث رقم 1740 بيان الفتنة بالنساء.
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/45) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4425) ، سنن الترمذي الفتن (2262) ، سنن النسائي آداب القضاة (5388) ، مسند أحمد بن حنبل (5/45) .
(4) صحيح البخاري الأذان (687) ، صحيح مسلم الصلاة (418) ، سنن الترمذي المناقب (3672) ، سنن النسائي كتاب الإمامة (833) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1232) ، مسند أحمد بن حنبل (6/34) ، موطأ مالك النداء للصلاة (414) .
(5) صحيح البخاري كتاب الزكاة (1462) ، الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) ، سنن أبو داود السنة (4679) ، سنن ابن ماجه الفتن (4003) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) .
(6) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص224 وانظر تحقيق وتعليق د. ناصر بن عبد الكريم العقيل، فقد أشار إلى المراجع ج2 ص726.(70/252)
عبادة ثم استدركه الله ببعض مما كان منه فتاب عليه (1) » .
وفي هذه الأحاديث التحذير من طاعة النساء كما قال ابن تيمية - رحمه الله -: وإن طاعتهن تجر إلى المهلكة والشر، وقد قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (2) ، فحذر ربنا سبحانه وتعالى من النساء وأمرنا بأن نحذرهن، فمن أطاعهن سقنه إلى الهلاك وعدم الفلاح. أقول وقد تأثر كثير من رجال المسلمين في هذا الزمان باختلاطهم باليهود والنصارى وغيرهم في العمل دون أن يتزوجوا من كتابيات: فكيف لو تزوجوا منهن، فإن التأثر سيكون أكثر والخوف على ابن الإسلام أكثر وأعظم، ومن المعلوم أن الميل إلى الزوجة ومحبتها شيء جبلي وطبيعي فتحصل المودة، وتحصل الولاية والبطانة المنهي عنهما فكان الأفضل للمسلم الابتعاد عن نكاح الكتابيات دون تحريم ذلك. والله أعلم.
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج5 ص164.
(2) سورة التغابن الآية 14(70/253)
الفصل الثالث: في الأخلاق التي ينبغي أن تكون معهم.
المبحث الأول: معاملة الكفار عند اللقاء وكراهية أن يبدؤوا بالسلام. وكيف يرد عليهم؟
قال العلماء رحمهم الله تعالى: يكره أن يبدأ المسلم الكافر بالسلام؛ لما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (1) » .
ففي الحديث النهي عن بدئهم بالسلام، وأنه ينبغي مضايقتهم في الطرقات وعدم احترامهم وتقديرهم. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلم اليهودي فإنما يقول: السام عليك فقل وعليك (2) » هكذا بالواو وفي لفظ بغير الواو (3) وعند أحمد من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (4) » وفي رواية عليكم بلا واو (5) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص400، ط، آل مكتوم.
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6257) ، صحيح مسلم السلام (2164) ، سنن الترمذي السير (1603) ، سنن أبو داود الأدب (5206) ، مسند أحمد بن حنبل (2/9) ، موطأ مالك الجامع (1790) ، سنن الدارمي الاستئذان (2635) .
(3) فتح الباري ج11 ص 41، 42.
(4) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(5) مسند أحمد ج4 ص 77.(70/254)
وفي البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل رهط على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقلت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلت وعليكم (1) » ، وفي لفظ عند مسلم: «فقالت عائشة رضي الله عنها: ولعنكم الله وغضب عليكم فقال: مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما رددت عليهم؟ . إنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا (2) » وفي الأحاديث تعليم الأمة كيفية معاملة المسلم غير المسلمين. في رد سلامهم عليهم، وإنه ينبغي الرفق والحلم واللين وعدم الفحش. ألا!! فصلى الله وسلم عليك يا رسول الله. لقد أدبك ربك فأحسن تأديبك. يدعو عليك أعداؤك بالموت والهلاك وتجيبهم وعليكم، وتأمر زوجتك بالرفق واللين. حقا إنه غاية الحلم وحسن الخلق فيك يا رسول الله صلى الله عليك وبارك وسلم.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص 280.
(2) مسلم بشرح النووي ج 7 ص 398 ط آل مكتوم.(70/255)
أقول: وفي هذا النهي عن بدئهم بالسلام «لا تبدءوهم بالسلام (1) » حتى لا يشعروا بالعزة والمنعة واحترام المسلمين لهم، بل يشعروا أن مكانتهم المذلة والصغار والإهانة والاحتقار {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) ، فلا يذل المسلم نفسه وقد أعزه الله بالإسلام، وأذل المشركين والكفرة بالكفر.
قال العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: لا يجوز أن يبدءوا بالسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولأن في هذا إذلالا للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند الله عز وجل؛ فلا ينبغي أن يذل المسلم نفسه في هذا (3) .
قال ابن القيم الجوزية - رحمه الله -: السلام اسم الله ووصفه، والتلفظ به ذكر له، كما في السنن «أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه وقال: إني كرهت أن أذكر اسم الله إلا على طهارة (4) » ، فكان من حق هذه التحية - السلام عليكم - أن تصان عن بذلها لغير المسلمين وأن لا يحيا بها أعداء القدوس السلام، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبو داود الأدب (5205) .
(2) سورة التوبة الآية 29
(3) مجموع فتاوى ورسائل ج3 ص34.
(4) سنن الترمذي 1 \ 131، وسنن أبي داود 1 \ 33 رقم 16.(70/256)
إذا كتب إلى ملوك الكفار يكتب سلام على من اتبع الهدى ولم يكتب لكافر سلام عليكم أصلا، ولهذا «قال في أهل الكتاب: لا تبدءوهم بالسلام (1) » (2) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: المسلم لا يبدأ الكافر بالسلام ولكن متى سلم عليه اليهودي أو النصراني أو غيرهما من الكفار يقول: وعليكم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام (3) » وقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (4) » انتهى بتصرف (5) .
قال الإمام النووي رحمه الله: اختلف العلماء في رد السلام على الكفار وابتدائهم، فمذهبنا تحريم الابتداء به، ووجوب رده عليهم بأن يقول: وعليكم قال: وهذا قول أكثر العلماء وعامة السلف، وقال آخرون: بجواز ابتدائهم بالسلام، وروي عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيريز رضي الله عنهم قال: وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي وقال بعض أصحابنا بالكراهية وهو ضعيف. لأن النهي للتحريم قال: وحكى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب، وهو قول علقمة والنخعي. قال وعن
__________
(1) مسلم بشرح النووي ج 7 ص402، 403.
(2) أحكام أهل الذمة ص 197.
(3) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبو داود الأدب (5205) ، مسند أحمد بن حنبل (2/346) .
(4) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(5) مجموع فتاوى ومقالات ج4 ص267.(70/257)
الأوزاعي. أنه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. قال: وفي سب عائشة - رضي الله عنها - الانتصار من الظالم، والانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم. قال: وفي الحديث تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة. قال: وفي حديث فاضطروه إلى أضيقه قال أصحابنا بأن لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون، فإن خلت الطريق من الزحمة فلا حرج. وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار ونحوه والله أعلم. انتهى بتصرف (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: إذا تحقق السامع أن المشرك قال السام عليك أو شك في ذلك فإنه يرد عليه بقوله عليك أو وعليك.
أما إذا قال الذمي: سلام عليكم فالذي تقتضيه الأدلة وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل والإحسان، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (2) ، فندب إلى الفضل وأوجب العدل (3) .
وذكر ابن عثيمين رحمه الله مثل ما ذكر ابن القيم وانظر
__________
(1) مسلم بشرح النووي ج7 ص 403، 404، ط، آل مكتوم.
(2) سورة النساء الآية 86
(3) أحكام أهل الذمة ج1 ص200.(70/258)
لكتابه الولاء والبراء (1) ، وقال أحمد البنا في شرح ترتيب مسند الإمام أحمد. اضطروهم إلى أضيق الطريق أي جانبها بحيث لا يمشون وسط الطريق، وذلك لا بقصد إهانتهم إن كانوا من أهل الذمة، ولم يظهر منهم سوء نية للمسلمين، بل بقصد إظهار فضل المسلم وتقديمه على غيره؛ لأن إهانة الذمي ممنوعة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (2) .
أقول: والذي يظهر من ترجمة الإمام ابن القيم. كراهة أن يبدءوا بالسلام القول بالكراهة اللهم إلا إن كانت الكراهية عنده كالكراهية عند القدامى أنها للتحريم، والقول بالتحريم أولى وأظفر بالدليل. والله أعلم.
__________
(1) مجموع فتاوى ورسائل ج3 ص37، الفتح الرباني لترتيب المسند مع بلوغ الأماني ج18 ص 338.
(2) سورة الممتحنة الآية 8(70/259)
المبحث الثاني: معنى السلام
عرفنا فيما مضى أن اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين لا يبدءون بالسلام، وعرفنا كيف نرد عليهم إذا سلموا علينا، ويحسن بنا أن نعرف معنى السلام. يقول الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله: ولما كان السلام اسما من أسماء الله تبارك وتعالى، وهو(70/259)
اسم مصدر في الأصل كالكلام والعطاء. . بمعنى السلامة. كان الرب أحق به من كل ما سواه؛ لأنه السالم من كل آفة وعيب ونقص، فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وكماله من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك، فاسم السلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له، وسلب جميع النقائص عنه، وهذا معنى سبحان الله والحمد لله.
قال: وأما قول المسلم السلام عليكم فهو إخبار للمسلم عليه بسلامته من غيلة المسلم وغشه ومكره يناله منه، فيرد الراد عليه مثل ذلك، أي فعل الله بك ذلك وأحله عليك، فهو في الأول إخبار للمسلم عليه بالسلامة، وفي الثاني طلب. وفي هذا الوجه الأول والثاني.
ووجه ثالث: أن يكون المعنى: اذكر الله الذي عافاك من المكروه، وأمنك من المحذور، وسلمك مما تخاف، وعاملنا من السلامة والأمان بمثل ما عاملك به، فيرد عليه الراد بمثل ذلك، ويستحب أن يرد عليه بأكثر كصاحب الهدية يستحب أن تكافئه بزيادة عليها.
ووجه رابع: وهو أن يكون معنى سلام المسلم ورد الراد بشارة من الله سبحانه جعلها على ألسنة المسلمين لبعضهم بعضا بالسلامة من الشر وحصول الرحمة والبركة، وهي دوام ذلك وإثباته، وهذه البشارة لدخولهم في دين الإسلام، فأعظمهم أجرا أحسنهم(70/260)
تحية «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام (1) » .
ووجه خامس: وهو أن كل أمة لهم تحية بينهم من أقوال أو أعمال، كالسجود وتقبيل الأيدي. وانعم صباحا، وغيرها فكانت أحسن من جميع تحيات الأمم، لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها، قال والمقصود أن السلام اسمه ووصفه والتلفظ به ذكر له. قال وقد اشتق الله لأوليائه تحية بينهم اسما من أسمائه واسم دينه الإسلام الذي هو دين أنبيائه، ورسله، وملائكته قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (2) .
قال: وتحية أوليائه في الدنيا وتحيتهم يوم لقائه، «ولما خلق آدم وكمل خلقه فاستوى قال الله له: " اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك (3) » . انتهى بتصرف.
وقال البخاري: باب: السلام اسم من أسماء الله يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (4) ، وأورد حديث التشهد وفيه «فإن الله هو السلام (5) » ، قال في الفتح: وكذا
__________
(1) مسند أحمد ج4 ص144.
(2) سورة آل عمران الآية 83
(3) أحكام أهل الذمة ج1 ص 195.
(4) سورة النساء الآية 86
(5) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .(70/261)
ثبت في القرآن في أسمائه {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} (1) ومعنى السلام السالم من النقائص، وقيل: المسلم لعباده، وقيل: المسلم على أوليائه. قال: وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس موقوفا «السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة» " (2) . وشاهده «حديث المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى توضأ وقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر (3) » ، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره.
قال وقد اختلف في معنى السلام: فنقل القاضي عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك. وقيل معناه: إن الله مطلع على ما تفعل، وقيل معناه: أن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها، وقيل معناه: السلامة كما قال تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (4) ، فكأن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه وأنه لا خوف عليه منه.
ونقل عن ابن دقيق العيد: أنه قال: السلام يطلق بإزاء معاني منها: السلامة ومنها التحية ومنها اسم من أسماء الله. انتهى
__________
(1) سورة الحشر الآية 23
(2) فتح الباري ج11 ص13.
(3) أخرجه أبو داود ج1 ص5 حديث 27.
(4) سورة الواقعة الآية 91(70/262)
بتصرف (1) .
وقال النووي: وأما معنى السلام عليك فقيل: هو اسم الله تعالى فقوله: السلام عليك أي اسم الله عليك، والمعنى أنت في حفظه. كما يقال: الله معك والله يصحبك، وقيل السلام بمعنى السلامة أي: السلامة ملازمة لك (2) .
أقول: وأنت ترى كلام العلماء في معنى السلام، وأنه اسم من أسماء الله تعالى جعله الله تحية لأوليائه بينهم، وهو دعاء وذكر، دعاء للمسلم عليه بالسلامة، والحفظ، والرعاية، فلا يحيا به الكفرة والمشركون الذين هم أعداء الله ونبيه ودينه وعباده الصالحين. نسأل الله تعالى السلامة من كل إثم والفوز بالجنة وأن يرزقنا دار السلام، وأن يحيينا ربنا بالسلام مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
__________
(1) فتح الباري ج11 ص12، 13.
(2) مسلم بشرح النووي ج7 ص395، ط آل مكتوم.(70/263)
المبحث الثالث: حكم التحية بغير السلام لغير المسلمين ومخالطتهم والعمل معهم:
عرفنا أنه لا يجوز للمسلم أن يبدأ اليهود والنصارى والمشركين بالسلام، فهم في الحكم سواء. وأن الرد عليهم لو سلموا " عليكم أو وعليكم " وأنه إذا تيقن المسلم بأن المسلم منهم قال: السلام عليكم فإنه يرد عليه بمثل قوله: وعليكم السلام. لأنه(70/263)
من باب العدل الذي أمر الله به. ولكن إذا جاء المسلم إلى مجلس فيه مسلم وكافر، فإنه يسلم سلاما عاديا ويقصد بسلامه المسلم، للأحاديث الواردة في ذلك. أما إذا كان المجلس لا مسلم فيه فماذا يعمل المسلم؟؟ هل يبدؤهم بتحية غير السلام كأهلا وسهلا ومرحبا مثلا؟
قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: كابتداء السلام عليهم كأهلا وسهلا ومرحبا وما شابه ذلك؛ لما في ذلك من تعظيمهم، فهو كابتداء السلام عليهم، ولأن في ذلك إكراما وتعظيما لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول مثل ما يقولون لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه.
وقال رحمه الله: إذا مد يده إليك للمصافحة فمد يدك إليه وإلا فلا تبدأه.
قال وأما خدمته بالشاي وهو على الكرسي فمكروه، ولكن ضع الفنجان على الماصة ولا حرج.
وعن مخالطتهم والعمل معهم. قال: ينبغي أن يبحث له عن عمل مع غير الكفار فإذا لم يجد فلا حرج عليه ولكن بشرط أن لا يكون في قلبه مودة لهم، ولا يهنئهم بأعيادهم، ولا يشيع جنائزهم ولا يبدأهم بالسلام (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ورسائل ج3 ص 39، 38، 34 جمع وترتيب فهد السليمان.(70/264)
أقول وقد يقول قائل إن في عملكم هذا تنفيرا عن الإسلام أي لا تبدؤوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيق الطريق.
وقد أجاب عن هذا ابن عثيمين رحمه الله: فقال معناه لا تتوسعوا لهم إذا قابلوكم في الطريق حتى يكون لهم السعة ويكون لكم الضيق، بل استمروا في اتجاهكم وسيركم واجعلوا أضيق الطريق إن كان هناك ضيق في الطريق على هؤلاء، ومن المعلوم أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس إذا رأى الكافر ذهب يزاحمه حتى يرصه على الجدار، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا في اليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتح الأمصار.
فالمعني أنكم لا تبدؤوهم بالسلام ولا تفسحوا لهم، فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا بل استمروا على ما أنتم عليه، واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق. وليس في الحديث تنفير عن الإسلام، بل فيه إظهار لعزة المسلم وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل (1) .
قلت: وفي هذا الإرشاد والدلالة والتوجيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من العزة، وأنه لا يذل إلا لله وحده جل وعلا، بل يظهر عزة الإسلام، وقوته، في الطريق في العمل في المنزل في كل أمور حياته. لا يذل ولا يخضع إلا لله سبحانه وتعالى.
__________
(1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ج 3 ص 9.(70/265)
أقول وإن كانت الطرق الآن واسعة والحمد لله، ومحكمة بالأنظمة المرورية، والسير فيها محدد، وليس فيها فضل لأحد على أحد، ولكن لو وجد طريق مشاة على الأرجل، أو الدواب التي لا تحكمها أنظمة السير فإن على المسلمين أن يستمروا في سيرهم واتجاههم، وأن يضطروا الكفار والمشركين إلى أضيق الطريق إن كان في الطريق ضيق أقول: وإذا جاء على قوم جالسين من غير المسلمين فإن من المناسب أن يحييهم بتحية غير السلام. والله أعلم.(70/266)
المبحث الرابع: حكم تهنئتهم بالأفراح.
لما كان للبشر أمور يشترك فيها المسلم، وغير المسلم من الكفرة والمشركين، كالزواج وقدوم الغائب، والسلامة من المكروه، وما شابهها مما ليس له تعلق بالدين كان للمسلم أن يهنئهم بها في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
قال ابن القيم: أباحها الإمام أحمد مرة ومنعها مرة أخرى قال ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، كأن يقول متعك الله بدينك، وأعزك وأكرمك، ولكن يقول: أعزك الله بالإسلام وأكرمك به ونحو ذلك. قال: وقد كان أهل الورع يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس، تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن(70/266)
ابتلي الرجل بذلك فتعاطاه لشر يتوقعه منهم، فمشى إليهم، ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والسداد فلا بأس، قال: وأما التهنئة بشعائر الكفر كالأعياد المختصة بهم، فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو نهنئك بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات. فهو بمثابة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس. فمن هنأ عبدا بمعصية، أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. انتهى (1) .
وقال ابن تيمية رحمه الله: لا تجاب الدعوة لأعياد الكفار، ولا تقبل الهدية، ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت هدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد، أو إهداء البيض، واللبن، والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم (2) .
وقال العلامة محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى: مخالطة غير
__________
(1) أحكام أهل الذمة ج1 ص205، 206.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص227.(70/267)
المسلمين في أعيادهم ومشاركتهم فيها، محرمة لما في ذلك من الإعانة لهم على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) . ولأن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم على هذه الديانة، والرضا بما هم عليه من الكفر.
وقال رحمه الله: وقد اختلف العلماء فيما إذا أهدى إليك أحد من غير المسلمين هدية بمناسبة أعيادهم هل يجوز لك قبولها أم لا؟ فمن العلماء من قال: لا يجوز؛ لأن ذلك عنوان الرضا بأعيادهم، ومنهم من قال: لا بأس بها، قال: وعلى كل حال، إذا لم يكن في ذلك محذور شرعي، وهو أن يعتقد المهدي إليك أنك راض بما هم عليه فإنه لا بأس بالقبول وإلا فعدم القبول أولى (2) .
قلت: والذي يظهر لي أن تهنئتهم بأفراحهم التي لا مساس لها بالدين جائزة، كالزواج، وقدوم الغائب، ونحوها. وأما تهنئتهم بأعيادهم فلا تجوز، والله أعلم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) فتاوى ورسائل ج 3 ص32، 33.(70/268)
المبحث الخامس: حكم صلة الكفار والإحسان إليهم
العدل والإحسان مطلوب ومظهر من مظاهر الإسلام ومبدأ من مبادئه السمحة، ولذلك كان على المسلم أن يعامل غير المسلمين بالعدل والإحسان والصلة للكافر إن كان جارا أو قريبا ولين(70/268)
الجانب فيما لا يمنعه الشرع، مما لا يجوز كبدء السلام وتزويجه المسلمة ونحو ذلك، فهذا جائز سواء كان الكافر بعيدا أم قريبا.
قال سماحة المفتي ابن باز رحمه الله: على المسلم أن يعامل غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم بالعدل والإحسان، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) .
قلت: ويؤيده ما في صحيح البخاري رحمه الله: «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: أتتني أمي راغبة، وفي رواية قدمت إلى أمي وهي مشركة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت: النبي صلى الله عليه وسلم أصلها. قال: نعم (2) » قال ابن عيينة فأنزل الله {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} (3)
قال ابن حجر رحمه الله: والمعنى راغبة في صلتي قال: واسمها، قيلة بنت العزى بن سعد بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وكان أبو بكر قد طلقها وهي أم أسماء وعبد الله بن أبي بكر، وقدمت بهدايا زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها حتى استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) .
(3) سورة الممتحنة الآية 8(70/269)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرها بصلتها، حيث قال لها صلى الله عليه وسلم: صلي أمك: قال: وقال: الخطابي فيه أن الرحم الكافرة توصل بالمال ونحوه، كما توصل المسلمة قال: ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر، والأم الكافرة، وإن كان الولد مسلما. انتهى (1) .
قلت: وفي صحيح البخاري رحمه الله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أرسل حلة إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم (2) .
كما أن اللجنة الدائمة للإفتاء قالت ما نصه: " يجوز أن نطعم الكافر المعاهد، والأسير من لحوم الأضاحي، ويجوز إعطاؤه منها لفقره أو قرابته، أو جواره أو تأليف قلبه للآية الكريمة ولقصة أسماء رضي الله عنها وقد أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها بالمال وهي مشركة. والله أعلم " (3) .
قال ابن باز رحمه الله: إذا كان لك جار من غير المسلمين فإنك تحسن إليه ولا تؤذه في جواره وتتصدق عليه إن كان فقيرا وتهدي إليه إن كان غنيا، وتنصح له فيما ينفعه، لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه، ولأن الجار له حق عظيم؛ لقول النبي
__________
(1) فتح الباري ج5 ص233.
(2) فتح الباري ج10 ص 414.
(3) فتاوى اللجنة الدائمة ج1 ص98.(70/270)
صلى الله عليه وسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (1) » متفق عليه (2) ، ولعموم قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} (3) انتهى (4) .
قلت: ويؤخذ مما تقدم أن على المسلم أن يكون مثاليا في خلقه وتعامله، ملتزما بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة، داعيا إلى الله بقوله وفعله وتعامله، ليس بالفظ ولا الغليظ ولا المنفر عن دين الإسلام فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (5) » ، ومن ذلك صلة الرحم والإحسان إليها، وصلة الأقارب والجيران من المسلمين وغيرهم بالمال رجاء استمالة غير المسلمين وترغيبهم في الإسلام لعل الله أن ينقذهم من الكفر.
يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: إذا وجدت شخصا غير مسلم في الطريق فلا حرج أن تبره لأن الله تبارك وتعالى يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (6) (7) .
قلت: فأنت ترى بأن الإسلام يحثنا على مكارم الأخلاق
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6015) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (2/85) .
(2) أخرجه البخاري انظر: فتح الباري ج ص441، ومسلم بشرح النووي ج 8 ص 424.
(3) سورة الممتحنة الآية 8
(4) مجموع فتاوى ومقالات ج 4 ص267.
(5) أخرجه الإمام مالك في الموطأ من رواية أبي هريرة ج 3 ص 97.
(6) سورة الممتحنة الآية 8
(7) سورة الممتحنة، الآية 8. وانظر: فتاوى ورسائل ج3 ص 44.(70/271)
التي ترغب غير المسلم في الإسلام بالمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة وتدعو غير المسلمين إلى دين الإسلام. والله من وراء القصد.(70/272)
المبحث السادس: عيادة المرضى من غير المسلمين
عيادة المرضى من غير المسلمين جائزة شرعا لقصد دعوتهم إلى الإسلام، وترغيبهم فيه، ومحاولة إنقاذهم من الكفر الموجب لدخولهم النار، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عاد الغلام اليهودي الذي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم ودعاه للإسلام.
قال ابن القيم رحمه الله: قال المروذي: بلغني أن أبا عبد الله سئل عن رجل له قرابة نصراني، يعوده؟ قال: نعم، قال الأثرم قلت له: مرة أخرى يعود اليهود والنصارى، قال: أليس عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي ودعاه للإسلام.
قال رحمه الله: وقد ورد عن أحمد ثلاث روايات: المنع، والإذن والتفصيل، وذكر رحمه الله ما في صحيح البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا وعرض عليه الإسلام فأسلم، وعاد صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب فعرض عليه الإسلام فأبى، وعاد عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين» . انتهى (1) .
وقال الأثرم: روى أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى
__________
(1) أحكام أهل الذمة ج1 ص202.(70/272)
الله عليه وسلم كان إذا عاد رجلا على غير دين الإسلام لم يجلس عنده ويقول: كيف أنت يا يهودي يا نصراني؟ (1) »
قال ابن تيمية رحمه الله: وأما عيادته فلا بأس بها، فإنه قد يكون في ذلك مصلحة لتأليفه على الإسلام، فإذا مات كافرا وجبت له النار، ولهذا لا يصلى عليه. والله أعلم (2) .
وقال ابن حجر رحمه الله: بعد سياق حديث الغلام الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم: في الحديث جواز استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير وعرض الإسلام على الصبي ولولا صحته منه ما عرضه عليه (3) .
قلت: وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قعد عند رأسه وقال له: أسلم قال في الفتح قال ابن بطال: إنما تشرع إذا رجا أن يجيب إلى الدخول في الإسلام فإذا لم يطمع في ذلك فلا.
وقال ابن حجر: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال: وقال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة (4) .
__________
(1) شعب الإيمان. باب عيادة المريض ج6 ص547 من رواية أنس بن مالك.
(2) مجموع الفتاوى ج24 ص265.
(3) فتح الباري ج3 ص 219.
(4) فتح الباري ج10 ص 191.(70/273)
قلت: والظاهر لي الجواز مطلقا؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب وكرر عليه الدعوة إلى الإسلام، وعاد رسول الله رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول والنفاق أشد كفرا، ولم ينه صلى الله عليه وسلم عن عيادة المشركين كما نهى عن الصلاة على المنافقين. والله أعلم.(70/274)
المبحث السابع: حكم تعزية غير المسلمين واتباع جنائزهم
تعزية غير المسلمين في موتاهم لا بأس بها، وكذا تشييع جنائزهم، قال ابن القيم رحمه الله: توقف الإمام أحمد رحمه الله عن القول فيها وقال: لا أدري؟ قال: وقال الأثرم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو إسحاق بن منصور السلولي حدثنا هريم بن سفيان البجلي قال: سمعت الأجلح عزى نصرانيا فقال: عليك بتقوى الله والصبر، كما قال الأثرم عن منصور بن إبراهيم أنه قال: إذا أردت أن تعزي رجلا من أهل الكتاب فقل أكثر الله مالك وولدك، وأطال حياتك وعمرك. وقال الحسن: إذا عزيت الذمي فقل لا يصيبك إلا خيرا، وقال حرب: قلت لإسحاق فكيف يعزى المشرك؟ قال يقول: أكثر الله مالك وولدك (1) .
وقال ابن قدامة في تعزية الكافر يقال: أخلف الله عليك ولا نقص عددك، يعني زيادة عدده لتكثير جزيتهم. قال: وقد توقف
__________
(1) أحكام أهل الذمة ج1 ص 204.(70/274)
أحمد عن التعزية لأهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها روايتان.
الرواية الأولى: لا يعودهم فكذلك لا يعزيهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوهم بالسلام (1) » وهذا في معناه.
الرواية الثانية: يعودهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى غلاما من اليهود مريضا كان يعوده فقعد عند رأسه فعلى هذا نعزيهم (2) .
وأما اتباع الجنائز فقد نقل ابن القيم رحمه الله تعالى عن الإمام أحمد جواز تشييع المسلم جنازة المشرك. قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يموت وهو يهودي وله ولد مسلم كيف يصنع؟ قال: يركب دابته ويسير أمام الجنازة ولا يكون خلفه، فإذا أرادوا أن يدفنوه رجع مثل قول عمر. قال قلت أراد ما رواه سعيد بن منصور قال: حدثني عيسى بن يونس عن محمد بن إسماعيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر فسألته فقال: اركب في جنازتها وسر أمامها. وقد روى مثله في أم قيس بن شماس، وعلي بن أبي طالب «وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يواري أبا طالب» ، وعبد الله بن عمر، في «أم عبد الله بن ربيعة، حيث قال له: أحسن ولايتها، وكفنها ولا تقم على قبرها» . وابن عباس قال: يشهده ويدفنه، قال الخلال: كأن أبا عبد الله لم
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبو داود الأدب (5205) .
(2) المغني ج3 ص 486.(70/275)
يعجبه ذلك، ثم روي عن هؤلاء الجماعة أنه لا بأس به واحتج بالأحاديث يعني أنه رجع إلى هذا القول. والله أعلم (1) .
وقال ابن باز رحمه الله: لا بأس أن يعزيهم المسلم إذا رأى المصلحة في ذلك، بأن يقول جبر الله مصيبتك، أو أحسن الله لك الخلف بخير، وما أشبهه من الكلام الطيب، ولا يقول غفر الله له ولا رحمه الله إذا كان الميت كافرا أي: لا يدعو للميت وإنما يدعو للحي بالهداية وبالعوض الصالح ونحو ذلك (2) .
قلت: أخرج الإمام أحمد في المسند «أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا طالب مات، فقال: اذهب فواره فلما واريته رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: اغتسل (3) » . وفي رواية «إن عمك الشيخ الضال قد مات (4) » . وفي رواية «إن عمك الشيخ قد مات (5) » . وفي كلها يأمره صلى الله عليه وسلم بمواراته (6) .
أقول: ومن هذا نأخذ سماحة الإسلام، وسمو تعاليمه وإن المسلم يراعي حقوق ذوي القربى، وغيرهم، فيأمر بصلة الأم الكافرة بالمال، وبعيادة المرضى، ودعوتهم للإسلام، وترغيبهم فيه. وعرضه عليهم بالأسلوب الحسن والحكمة. قل يا عم: «لا إله إلا
__________
(1) أحكام أهل الذمة ج1 ص 204.
(2) فتاوى ومقالات ج4 ص267.
(3) سنن النسائي كتاب الطهارة (190) ، سنن أبو داود الجنائز (3214) .
(4) سنن النسائي الجنائز (2006) ، سنن أبو داود الجنائز (3214) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/103) .
(6) مسند أحمد ج1 ص97، 130، 131 ط المكتب الإسلامي.(70/276)
الله كلمة أحاج لك بها عند الله (1) » فإذا مات القريب من أب أو أم أو جار كان عليك أن تواريه، وتشيع جنازته، ولا بأس من تعزية أهله، والدعاء لهم بالهداية، والتقوى والخلف عليهم، وكل ذلك من أجل الترغيب في دين الله، ومحاولة إنقاذهم من النار، وإظهار سماحة الإسلام وإنه بعيد كل البعد عن ما يرمى به من التزمت والغلو وحاشاه من ذلك. نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3884) ، صحيح مسلم الإيمان (24) ، سنن النسائي الجنائز (2035) ، مسند أحمد بن حنبل (5/433) .(70/277)
المبحث الثامن: حكم التخاطب بلفظ صديق أو رفيق أو أخ
ظهر في الآونة الأخيرة نبرة تخاطب جديدة تقال للمسلم وغير المسلم، عندما كثر الاستقدام إلى هذه البلاد من جنسيات مختلفة وأشكال وألوان متغايرة، من الشرق والغرب والشمال والجنوب واحتاج الناس إلى التخاطب والتفاهم مع هؤلاء الوافدين، فأطلقوا في الغالب على من لا يعرفون اسمه صديقا أو رفيقا أو أخا. وفي الغالب أنهم لا يقصدون معاني الألفاظ من التودد والتلطف والتقرب. وإنما يقصدون المناداة فقط، وهذا لا شيء فيه إن شاء الله، أما إذا قصد بها معانيها فإنها لا تجوز على غير المسلم.
يقول العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله، لا يجوز أن يوصف الكافر بالأخ للمسلم، لأنه لا أخوة بين المسلم والكافر، ولا صداقة بينهما، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك فقال جل ذكره: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) .
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(70/277)
قال: فكل كلمات التلطف، والتودد، التي يقصد بها المودة لا يحل للمسلم أن يصف بها الكافر فلا يصفه بالأخ سواء كان الكافر يهوديا أم نصرانيا أم مجوسيا أم ملحدا؛ لأنه لا أخوة بين المسلمين والكفار، وقال تعالى عن نوح عليه السلام {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (1) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (2) .
قال: والأخوة إنما تكون للنسب، أو الرضاع، أو الدين، فإذا انتفت أخوة النسب، والرضاع، لم تبق إلا أخوة الدين، وهي منفية من الكافر، فالكافر ليس بأخ للمسلم في دينه. انتهى (3) .
وقال سماحة المفتي ابن باز رحمه الله: لا أخوة ولا محبة بين المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (4) ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم (5) » .
__________
(1) سورة هود الآية 45
(2) سورة هود الآية 46
(3) فتاوى ج 3 ص 43.
(4) سورة الحجرات الآية 10
(5) مسلم ج 8 ص 363 ط آل مكتوم.(70/278)
فدلت الآية والحديث أن الأخوة إنما تكون بين المؤمنين. انتهى (1) .
أقول: وأنت ترى أن الأخوة إنما تكون بين المسلمين والمؤمنين، ولا تكون بين مسلم وكافر، وأنه إن قصد المنادي بلفظ أخ التودد والتلطف، فإنه مخطئ آثم بنص القرآن الكريم، أما إذا كان قصده المناداة فقط، فلا بأس بذلك إن شاء الله، وفي الكل إذا لم يعرف اسمه، أما إذا عرف اسمه فإن المناداة والتخاطب تكون باسم المنادى وهو أولى وأسلم.
أما إذا كان من باب السخرية والاستهزاء أي يصف المنادى بصديق أو رفيق، على صفة الاحتقار والتشبيه له بالأجنبي وقد يكون يعرف اسمه ولقبه وكنيته، وأنه عربي اللسان ويناديه بهذا من باب التحقير، وكأن المنادى في نظره أجنبي اللسان والمعتقد، وأنه أفضل منه ولو كان مسلما، فهو لا يوازي طبقته العلية الرفيعة كسعودي، وربما كان هذا المحتقر أرفع منزلة عند الله وأعلى مكانة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا بالتقوى» قال ابن كثير: تفرد به أحمد من رواية أبي ذر أن رسول
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات ج 2 ص 73.
(2) سورة الحجرات الآية 13(70/279)
الله صلى الله عليه وسلم قال له. (1) . وهذا غاية الجهل والحماقة وهو من التنابز بالألقاب ولا يجوز للنهي عن التنابز بالألقاب {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (2) ، فهذا إثمه عظيم وذنبه كبير، نسأل الله العافية والسلامة والفقه في الدين والله أعلم.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 232.
(2) سورة الحجرات الآية 11(70/280)
الخاتمة:
بعد استعراض كلام العلماء رحمهم الله في بعض مواضيع فقه التعامل مع غير المسلمين فإنني أوصي نفسي وجميع المسلمين بتقوى الله، وحسن الخلق في المعاملة، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والتفقه في الدين، والتبصر فيما يدعون إليه، والتلطف بالجاهل حتى يعلم، وليعلموا أن الظلم محرم بين العباد، وأن على المسلم أن لا يظلم البشر من مسلمين أو غيرهم لا في مال ولا في عرض ولا في نفس، ألا وإن هناك شرائح من البشر لا تبالي بالمخالفات مهما كان نوعها من دينية أو خلقية.
قال سماحة المفتي رحمه الله: الواجب على المسلم أن لا يظلم غير المسلمين في مال ولا عرض إذا كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدا فإنه يؤدي إليه حقه، فلا يظلمه في ماله بالسرقة، ولا بالخيانة، ولا بالغش، ولا يظلمه في البدن بالضرب ولا بالقتل، لأن كونه معاهدا(70/280)
أو ذميا أو مستأمنا يعصمه، وليدعه إلى الله ويدله على الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير كان له مثل أجر فاعله (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا (2) » .
فدعوته وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أفضل القربات. ألا ومن الظلم جلب العمال غير المسلمين لجزيرة العرب مع وجود المسلمين الذين يمكنهم القيام بالذي يقوم به غيرهم في إجادة وحسن أداء، ويعلل المستقدم أنه لا يريد ظلم المسلمين، وكأن ظلم غير المسلمين مباح، وربما علل استقدام غير المسلمين أن المسلم يريد وقتا للصلاة، ووقتا للصوم بخلاف الكافر، وما عرف المسكين أنه باستقدام المسلم قد يبارك الله له في عمله وماله ووقته، وغير المسلم قد يضر به في دينه الذي من الواجب المحافظة عليه، والدعوة إليه، والترغيب فيه، كما قد يضر بدنياه، وكم من قضايا تعرض في المحاكم من اختلاس وسرقة وغيرها من عمال غير مسلمين.
ثم لا يبالي من ضعف عنده الوازع الديني " المستقدم " بظلم العمال والإضرار بهم والمماطلة بأجورهم، بل واقتطاع جزء كبير منها، وإهانتهم وغشهم، بل يصل الأمر أحيانا إلى ضربهم، مخالفا
__________
(1) مسلم ج 7 ص 45 ط آل مكتوم.
(2) مسلم ج8 ص480 ط آل مكتوم.(70/281)
بذلك أمر ربه، وطاعة نبيه، ظالم لنفسه، مطيع للهوى، عابد للمادة دون أي اعتبار سواها. نسأل الله العافية.
ونسي قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (1) » .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «دعوة المظلوم لا ترد (3) » ، وقال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «لأنصرنك ولو بعد حين (4) » ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا الغلام (5) » وفي رواية: «لله أقدر عليك منك عليه: قال فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا
__________
(1) أخرجه مسلم بشرح النووي ج8 ص375. ط آل مكتوم وصحيح ابن حبان ج2 ص8 حديث 618.
(2) البخاري ج2، كتاب المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم حديث 2448 ج5 ص100 فتح الباري.
(3) صحيح ابن خزيمة، كتاب الصيام، باب ذكر استجابة الله عز وجل حديث 1901.
(4) صحيح ابن حبان، كتاب أخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة باب وصف الجنة وأهلها رقم الحديث 7344 ج9 ص240، وسنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج7 ص194.
(5) صحيح مسلم الأيمان (1659) ، سنن الترمذي البر والصلة (1948) ، سنن أبو داود الأدب (5159) ، مسند أحمد بن حنبل (5/274) .(70/282)
رسول الله هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار أو قال: لمستك النار (1) » .
والنصيحة لهؤلاء أن يتقوا الله في أنفسهم، ولا يستقدموا لهذه الجزيرة إلا من كان مسلما، من خدم أو سواقين أو عمال أو خلافهم، ويراعوا الأمثل فالأمثل من المسلمين أيضا، وأن يؤدوا إليهم حقوقهم التي التزموا لهم بها، وليعلموا أن الظلم محرم للمسلم وغير المسلم، ويؤدوا إليهم أجورهم فقد قال نبي الهدى والرحمة: «أد الأجير أجره قبل أن يجف عرقه (2) » .
وليخف عقوبة الله ولا يكون الله خصمه، فمن كان الله خصمه خصمه، يقول الله في الحديث القدسي: «ثلاثة أنا خصمهم وذكر منهم رجلا استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره (3) » . ألا وكم من مشتك من العمال إن لم يكن غالبهم من عدم الوفاء لهم بأجورهم. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
والبعض يشكو من كفيله أنه يؤجره لمستأجر آخر فيأخذ الكفيل الجزء الأكبر من أجره ويعطيه الأقل، وهذا لا يجوز ويحرم المبلغ الذي يأخذه المستقدم وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء بمنعه
__________
(1) مسلم بشرح النووي ج11 ص 130.
(2) سنن ابن ماجه ج2 ص 817.
(3) فتح الباري ج4 ص 417.(70/283)
والتحذير منه بموجب القرار المعمم على المحاكم رقم 86 \ 12 \ ت في 28 \ 5 \ 1403 هـ وعلى هذا فالمبلغ الذي يأخذه الكفيل من أجرة العامل محرم(70/284)
عليه. بنص كلامهم والبعض الآخر يطلق العمال يبحثون لأنفسهم عن أعمال لقاء مبلغ يدفعونه له في آخر الشهر سواء حصل العامل على عمل أم لا، وفي حالة عدم الحصول على عمل يضطر العامل إلى ارتكاب أي مخالفة من سرقة أو صنع الخمور أو خلافها حتى يسدد ما عليه من التزام لكفيله، والكفيل قرير العين جذلان يأتيه معاشه آخر الشهر من عرق هذا العامل دون مبالاة بحله أو حرمته، نسأل الله العافية.
وهذا مع مخالفته الشرعية مخالف لتعليمات وتنظيمات ولي الأمر، ومن المعلوم أن طاعة ولي الأمر واجبة ما لم يأمر بمعصية. وليس في هذا معصية وهو قول هيئة كبار العلماء انظر التعليق السابق (1) .
ولا أجمل ولا أفضل من العمل بالشريعة الإسلامية وتعاليمها، فإذا كنت بحاجة إلى عمالة ومنحك ولي الأمر الحق في استقدام عمال، فاستقدم من المسلمين فإذا انتهت حاجتك فإما أن تعطيهم للمحتاج بنقل كفالتهم إليه إن سمح ولي الأمر بهذا، أو تعيده إلى بلده حسب عقد الإيجار معه، وليكن صنيعك جميلا وفعلك جميلا داعيا إلى الله بالقول والعمل. مجتنبا كل طمع أو جشع أو ظلم للبشر.
__________
(1) والتصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل ج1 ص 69 برقم 86 \ 12 \ ت.(70/285)
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وفقهنا في الدين، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وألحقنا اللهم بالصالحين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(70/286)
مسؤولية الجاني عن
علاج المجني عليه وضمان
تعطله عن العمل
لمعالي الدكتور \ عبد الله بن محمد المطلق (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فهذا بحث جمعت فيه أقوال العلماء وأدلتهم في مسألة احتاج الناس إليها كثيرا في هذا العصر بسبب كثرة الحوادث، وما يترتب عليها من إصابات بالغة تعيق الإنسان من العمل فترة طويلة؛ ألا وهي مسؤولية الجاني عن علاج المجني عليه وضمان تعطله عن العمل، وقد قسمت البحث في هذا الموضوع إلى مبحثين:
__________
(1) عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.(70/287)
الأول: بحثت فيه مسؤولية الجاني عن علاج المجني عليه فيما سببه الجناية.
الثاني: بحثت فيه مسؤولية الجاني عن ضمان تعطل المجني عليه الحاصل بسبب الجناية.
والله تعالى أسأل أن ينفع به من قرأه وأن يثيب من كتبه وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(70/288)
المبحث الأول: مسؤولية الجاني عن علاج المجني عليه فيما سببه الجناية:
إن تحمل الجاني نفقات علاج المجني عليه لمداواة ما أحدثه الجاني تختلف باختلاف ما يجب للمجني عليه حيث إنه تارة يجب له القصاص، وتارة تجب له دية مقدرة من الشارع، وتارة تجب له حكومة يقدرها القاضي، وسنتناول كل ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: إذا أوجبت الجناية قصاصا:
إذا كانت الجناية على النفس قد أوجبت القصاص واختاره المجني عليه فلا معنى لإيجاب العلاج على الجاني حيث يستحق أولياء الدم إزهاق روح الجاني فلا يجمع عليه إزهاق روحه قصاصا وأخذ ماله علاجا لما لم يستفد منه.
أما إذا كانت الجناية على ما دون النفس وأوجبت قصاصا(70/288)
فاختاره المجني عليه وتلك هي الجناية على الأطراف والجروح التي تنتهي إلى عظم ويمكن استيفاء القصاص فيها بلا حيف، فإنه لا يستحق مع القصاص نفقة علاج حيث إن الجاني سيقتص منه ويتولى علاج نفسه فيكون ذلك مقابل ما تحمله المجني عليه.
أما إذا أوجبت الجناية على ما دون النفس قصاصا فصالح على مال، فإنه يجوز له أن يصالح على أكثر من الدية عند الجمهور، وإذا تضمن ذلك نفقات العلاج صح ذلك ولزم.(70/289)
المطلب الثاني: إذا أوجبت الجناية دية مقدرة:
إذا أوجبت الجناية دية مقدرة كما في دية الأطراف المذكورة في حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه حيث ورد فيه: وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل. ويلحق(70/289)
بهذه الأطراف ما هو من نظائرها كالإليتين والثديين والحاجبين ونحوهما فتلحق باليدين والرجلين قياسا (1) . ومثل ذلك الجراحات التي قدر الشارع ديتها وهي الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة والدامغة والجائفة. ففي هذه الجنايات كلها هل يجب للمجني عليه نفقة علاج مع الدية المقدرة أم لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية في قول، والشافعية والحنابلة إلى أن الواجب فيها المقدرة فقط برأت على شين أم لا؛ لأن الشارع أوجب فيها الدية ولم يقيدها
__________
(1) انظر: المغني 12 \ 178.(70/290)
بحال دون حال فوجبت له بكل حال (1) . ولا يذكرون مع وجوب الدية شيئا آخر؛ لأن الشارع لما قدرها لم يذكر معها شيئا آخر زائدا عليها.
وبهذا أفتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - حيث قال: " وأما أجرة مدة تعطله بالمعالجة شهرين ونفقة تلك المدة وأجرة الطبيب فلا أعرف استحقاقه الرجوع به على من دعمه " (2) .
القول الثاني: ذهب المالكية في المشهور عندهم إلى أن موضحة الرأس والوجه إذا برئت على شين وعثل فيزاد على الدية المقدرة فيها بمقدار الشين بالاجتهاد. واستحسن بعضهم أن تكون الزيادة هنا أجرة الطبيب وثمن الدواء.
قال الدسوقي في حاشيته: " ثم إن الذي استحسنه ابن عرفة. .
__________
(1) انظر: كشاف القناع 6 \ 51.
(2) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 11 \ 342.(70/291)
وأما ما فيه شيء مقدر فليس فيه سواه ولو برئ على شين سوى موضحة الوجه والرأس فيلزم مع المقدر فيها أجرة الطبيب وثمن الدواء " (1) .
القول الثالث: ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى وجوب تحمل الجاني تكاليف العلاج الطبي للمجني عليه، ومن هؤلاء الدكتور مصطفى أحمد الزرقا، والدكتور محمد أحمد سراج واستدلوا لذلك بما يلي:
1 - أنه لولا العلاج ربما حصلت سراية في الجراحات قد تتلف النفس.
2 - أن أجرة الطبيب ضرر مالي يلحق بالمجني عليه غير الأذى الذي لحقه في جسمه، فإذا كانت أجرة الطبيب هي حكومة العدل
__________
(1) 4 \ 240.(70/292)
الواجبة بقي الضرر الذي أصاب جسمه بلا عوض؛ إذ لم يتضمن القول الآخر إزالته، وهذا مناف لعدل الشريعة الإسلامية الحكيمة واعتدالها (1) .
3 - أن تكاليف العلاج قد تستغرق معظم الدية في حال السراية إلى النفس، أو أكثرها في غير هذه الحالة، ومن ثم فلا يبقى لورثة المجني عليه في الحالة الأولى أو المجني عليه في الحالة الثانية من الدية سوى شيء يسير، وهذا خلاف المقصد الشرعي في جعل الدية عوضا عما فقد من نفس أو عضو أو ما شوه من البدن (2) .
4 - أن ذلك يتفق مع قواعد المسئولية في الشريعة؛ إذ هو داخل في باب إتلاف مال الغير بالتسبب أي فلا يتعارض مع وجوب الدية والأرش (3) .
__________
(1) الفعل الضار والضمان فيه لمصطفى أحمد الزرقا، ص 138.
(2) الفعل الضار والضمان فيه لمصطفى أحمد الزرقا، ص 138.
(3) انظر: ضمان العدوان في الفقه الإسلامي د. محمد أحمد سراج، ص440.(70/293)
المطلب الثالث: إذا أوجبت الجناية حكومة:
الجناية الموجبة للحكومة هي ما دون الموضحة في الشجاج كالباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، والمتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم، والسمحاق وهي التي تشق اللحم كله حتى تنتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم تسمى السمحاق ونحوها (1) . وهذا
__________
(1) الكافي لابن قدامة 5 \ 231.(70/293)
مما لا خلاف في وجوب الحكومة فيه بين الفقهاء. جاء في التمهيد لابن عبد البر: " قال مالك: ولم يعقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دون الموضحة من جراح الخطأ عقلا مسمى، قال مالك: وهو الأمر المجتمع عليه " (1) . وقال ابن رشد: " واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل وإنما فيها حكومة " (2) .
وما دون الجائفة من جروح سائر البدن فلا يجب فيها سوى الحكومة؛ لأنه لا تقدير فيها ولا يمكن قياسها على المقدر لعدم المشاركة في الشين والخوف عليه منها (3) . وهذا مما لا خلاف فيه أيضا بين الفقهاء.
فالواجب إذا في هذا القسم هو الحكومة بغير خلاف والحكومة جزء من الدية نسبته إليها نسبة ما تقتضيه الجناية من نقص في قيمة المجني عليه بتقدير التقويم (4) . وذلك بأن يقوم
__________
(1) 17 \ 369.
(2) بداية المجتهد 2 \ 541.
(3) انظر: الكافي لابن قدامة 5 \ 238، المغني للمؤلف نفسه 12 \ 78.
(4) العزيز 10 \ 347، 348، 350، مغني المحتاج 4 \ 77، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 7 \ 276، 277.(70/294)
المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من القيمة يكون له بقسطه من الدية، فإن قوم مثلا بعشرة دون الجناية وبتسعة بعد الجناية والتفاوت عشر فيجب له عشر الدية، وهكذا (1) . فإن كانت الحكومة في محل مقدر فلا يبلغ بها المقدر كشجة دون الموضحة لا تبلغ حكومتها دية الموضحة (2) . وهذه الطريقة في تقدير الحكومة مجمع عليها بين الفقهاء (3) . وسميت حكومة بذلك لاستقرارها بحكم الحاكم حتى لو اجتهد غيره في ذلك لم يكن له أثر (4) .
وإذا ثبت هذا فنقول: إن الفقهاء لا يختلفون في وجوب الحكومة في جنايات هذا القسم عندما تبرأ على شين وعثل (5) .
واختلفوا فيما إذا برئت على غير شين ولم يبق لها أثر هل يجب فيها شيء أم لا؟ ولهم في ذلك ثلاثة أقوال كالآتي:
القول الأول: أنه لا شيء فيها وبه قال الإمام أبو حنيفة
__________
(1) العزيز 10 \ 347، 348، 350، الكافي لابن قدامة 5 \ 239، الإجماع لابن المنذر ص 119.
(2) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 7 \ 277.
(3) الإجماع لابن المنذر ص 199.
(4) انظر: مغني المحتاج 4 \ 77.
(5) التمهيد 17 \ 369، بداية المجتهد 2 \ 541، 542.(70/295)
والمالكية، وهو وجه عند الشافعية، ومذهب الحنابلة (1) .
جاء في مختصر القدوري: " ومن شج رجلا فالتحمت الجراحة ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه أرش الألم وقال محمد رحمه الله: عليه أجرة الطبيب " (2) . وفي بدائع الصنائع: " وليس فيما قبل الموضحة من الشجاج أرش مقدر، وإن لم يبق لها أثر بأن التحمت ونبت عليها الشعر فلا شيء فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف: عليه حكومة الألم، وقال محمد: عليه أجرة الطبيب " (3) ، وفي موضع آخر: " وفيما سوى الجائفة من الجراحات التي في البدن إذا اندملت ولم يبق لها أثر لا شيء فيها عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف رحمهما الله: فيها أرش الألم، وعند محمد رحمه الله أجرة الطبيب " (4) .
__________
(1) انظر: المحرر 2 \ 144.
(2) ص 188، 189.
(3) 7 \ 316.
(4) 7 \ 324.(70/296)
وفي الهداية: " ومن شج رجلا فالتحمت ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لزوال الشين الموجب " (1) .
وجاء في النوادر والزيادات لأبي زيد القيرواني: " وأما ما لم يأت فيه توقيت من الجراح فإنما فيه بقدر شينه إن برئ على شين وإلا فلا شيء فيه، وكذلك كل كسر من يد أو رجل فبرئ وعاد لهيئته فلا شيء فيه " (2) . وفي المنتقى للباجي: " قال مالك: وليس في الجراح في الجسد إذا كانت خطأ عقل إذا برئ الجرح وعاد لهيئته " (3) . وفي قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي: " وأما ما قبل الموضحة فليس فيها دية معلومة وإنما فيها حكومة. . وهذا إذا برئت على عثل فإن برئت من غير عثل فلا شيء فيها " (4) . وفي كفاية الطالب لأبي الحسن: " وما برئ منها على غير شين أي عيب مما دون الموضحة وكذلك ما دون الجائفة مما لا عقل فيه يسمى فإنه لا شيء فيه على الجاني من عقل وأدب وأجرة طبيب " (5) .
__________
(1) 4 \ 187.
(2) 13 \ 418.
(3) 7 \ 75.
(4) ص380.
(5) 2 \ 279.(70/297)
وقال الإمام الغزالي: " إنما تقدر الحكومة بعد اندمال الجراحة، فلو لم يوجد تفاوت بأن التحم الجرح ولم يبق شين ففيه وجهان: القياس أن لا يجب شيء إلا تعزير كما في الضرب والصفع " (1) .
وفي بيان شرح المهذب للعمراني: " وإن لم يبق للجناية شين بعد الاندمال أو بقي لها شين لم ينقص به القيمة ففيه وجهان: أحدهما قال أبو العباس: لا تجب فيه الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب لنقص القيمة ولم تنقص به القيمة فلم تجب الحكومة كما لو لطمه فاسود الموضع ثم زال السواد " (2) .
وفي روضة الطالبين: " إنما يقوم لمعرفة الحكومة بعد اندمال الجراحة، ونقصان القيمة حينئذ قد يكون لضعف ونقص في المنفعة، وقد يكون لنقص الجمال باعوجاج، أو أثر قبيح، أو شين من سواد وغيره. فلو اندملت الجراحة ولم يبق نقص في منفعة ولا في جمال ولم تنقص القيمة فوجهان: أحدهما وينسب إلى ابن سريج لا شيء عليه سوى التعزير كما لو لطمه أو ضربه بمثقل فزال الألم ولم ينقص منفعة ولا جمال " (3) .
__________
(1) الوسيط 6 \ 337.
(2) 11 \ 566.
(3) 9 \ 309.(70/298)
وقال ابن قدامة: " وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع مثل قطع أصبع زائدة أو قلع سن زائدة أو لحية امرأة فاندمل الموضع من غير نقص أو زاده جمالا وقيمة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب شيء؛ لأنه لم يحصل بفعله نقص فلم يجب شيء كما لو لكمه فلم يؤثر. . " (1) . وقال في الإنصاف: " هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب " (2) .
التوجيه: يعلل الحنفية ذلك بأن الموجب للأرش هو الشين الذي يلحق المجني عليه بالجناية وزوال منفعة العضو وقد زال ذلك فلم يجب شيء. بينما يعلل الشافعية والحنابلة كما هو واضح من نصوصهم بالقياس فقالوا: هو كما لو لطمه أو ضربه مثقل فزال الألم ولم تنقص منفعة ولا جمال.
القول الثاني: أنه تجب فيها حكومة وقال به من الحنفية
__________
(1) الكافي 5 \ 240.
(2) 26 \ 49.(70/299)
أبو يوسف رحمه الله ومحمد في رواية (1) وهو الأصح عند الشافعية (2) ، وأحد الوجهين عند الحنابلة (3) . ويتم تقدير ذلك عند الشافعية والحنابلة بأن يعتبر أقرب نقص إلى الاندمال، وإن لم يظهر نقصان إلا حالة سيلان الدم اعتبرنا القيمة والجراحة دامية؛ لأنه لا بد من نقص لأجل الجناية.
جاء في مختصر القدوري: " وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه أرش الألم " (4) . وفي بدائع الصنائع: " وقال أبو يوسف: عليه حكومة الألم " (5) ، وفي موضع آخر: " وفيما سوى الجائفة من الجراحات التي في البدن إذا اندملت ولم يبق لها أثر لا شيء فيها عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف رحمهما الله: فيه أرش الألم " (6) .
وفي الهداية أيضا للمرغيناني: " وقال أبو يوسف -
__________
(1) انظر: المبسوط للسرخسي 26 \ 81، بدائع الصنائع 7 \ 316، 324، درر الحكام لملاخسرو 2 \ 98، 108.
(2) انظر: العزيز شرح الوجيز 10 \ 351، 352، مغني المحتاج 4 \ 79.
(3) انظر: الكافي لابن قدامة 5 \ 240، الإنصاف 26 \ 49.
(4) ص 188، 189.
(5) 7 \ 316.
(6) 7 \ 324.(70/300)
- رحمه الله - يجب أرش الألم وهو حكومة عدل؛ لأن الشين إن زال فالألم الحاصل ما زال فيجب تقويمه " (1) .
وجاء في البيان شرح المهذب للعمراني: " والثاني: قال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة وهو المنصوص؛ لأن الشافعي - رحمه الله - تعالى قال: " وإن نتف لحية امرأة أو شاربها فعليه الحكومة أقل من حكومة في لحية الرجل؛ لأن الرجل له فيها جمال ولا جمال للمرأة فيها، ولأن جملة الآدمي مضمونة فإذا أتلف جزءا منها وجب أن يكون مضمونا كسائر الأعيان " فإذا قلنا بهذا فإنه يقوم في أقرب أحواله كما قلنا في ولد الأمة إذا غر رجلا بحريتها إنه يقوم حالة الوضع؛ لأنه أول حالة لإمكان تقويمه " (2) .
وجاء في روضة الطالبين: " وأصحهما عند الأكثرين وبه قال أبو إسحاق وهو ظاهر النص أنه لا بد من وجوب شيء. فعلى هذا وجهان: أحدهما يقدر الحاكم شيئا باجتهاده بأن ينظر إلى خفة الجناية وفحشها في المنظر سعة أو غوصا وقدر الآلام المتولدة. وأصحهما: أنه ينظر إلى ما قبل الاندمال من الأحوال التي تؤثر في نقص القيمة ويعتبر أقربها إلى الاندمال،
__________
(1) 4 \ 187.
(2) 11 \ 566.(70/301)
فإن لم يظهر نقص إلا في حال سيلان الدم ترقبنا واعتبرنا القيمة والجراحة السائلة " (1) .
وقال الخطيب الشربيني: " وضابط ما يوجب الحكومة وما لا يوجبها: إن بقي أثر الجناية من ضعف أو شين أوجب الحكومة، وكذا إن لم يبق على الأصح " (2) .
وقال ابن قدامة: " والثاني يجب ضمانه؛ لأنه جزء مضمون فوجب ضمانه كغيره " (3) . وجاء في الفروع لابن مفلح: " فإن لم تنقصه الجناية حال البرء فحكومة، نص عليه " (4) . وقال المرداوي في الإنصاف: " أفاد المصنف بقوله قومت حال جريان الدم أن ذلك لا يكون هدرا وأن عليه فيه حكومة وهو صحيح وهو المذهب نص عليه وعليه أكثر الأصحاب " (5) .
الأدلة: استدل الحنفية لقول أبي يوسف بأن الشجة قد تحققت والألم منها وإذا تعذر إيجاب أرش الشجة لزوال
__________
(1) 9 \ 309.
(2) مغني المحتاج 4 \ 79.
(3) الكافي 5 \ 240.
(4) 6 \ 38.
(5) 26 \ 48.(70/302)
الشين فلا سبيل إلى إهدار الألم الحاصل منها فوجب تقويمه زجرا للسفيه وجبرا للضرر. ثم يعترضون عليه بأن مجرد الألم لا ضمان له؛ لأنه لا قيمة له كمن ضرب رجلا ضربا موجعا أو شتمه شتما مؤلما فإن ذلك لا يجب فيه أرش.
وأما الشافعية والحنابلة فيستدلون بأن جملة الآدمي مضمونة فوجب أن تكون أجزاؤه مضمونة كسائر المضمونات؛ ولأنها جناية على معصوم فلا يعتبر لوجوب المال فيها بقاء شين وأثر كالموضحة والجراحات المقدرة، ولأن الجراحة عظيمة الموقع فلا وجه فيها للإحباط والإهدار (1) .
القول الثالث: أنه ليس فيها سوى أجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مذهب عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، وشريح، ومسروق، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي والفقهاء السبعة من التابعين، ومحمد بن الحسن من الحنفية،
__________
(1) انظر: العزيز شرح الوجيز 10 \ 351، الشرح الكبير 26 \ 48، الكافي 5 \ 240، المغني 12 \ 181.(70/303)
ورواية عن أبي يوسف. وقول عند المالكية. وإليك الآثار التي تدل على نسبة هذا القول إلى علماء الصحابة والتابعين:
1 - ما روي عن ابن نافع عن أبي الزناد عن أبيه أن السبعة مع مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وخارجة بن زيد ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسليمان بن يسار كانوا يقولون في الجرح فيما دون الموضحة إذا برئ وعاد لهيئته إنما فيه(70/304)
أجر المداوي " (1) .
2 - ما روي عن إبراهيم بن أبي عبلة أن معاذا وعمر - رضي الله عنهما - جعلا فيما دون الموضحة أجر الطبيب ".
3 - ما روي عن عمرو بن ميمون قال: " كتب عمر ابن عبد العزيز: ليس فيما دون الموضحة إلا أجر الطبيب ".
4 - ما روي عن محمد بن سيرين: " أن شريحا قضى في الكسر إذا انجبر قال: لا يزيده ذلك إلا شدة، يعطى أجر الطبيب وقدر ما شغل عن صنعته ".
__________
(1) أخرجه سحنون في المدونة الكبرى 3 \ 398.(70/305)
5 - عن مسروق قال: " ليس فيما دون الموضحة إلا أجر الطبيب ".
6 - عن الحسن في رجل كسرت يده قال: " يعوض من يده. قال: وقال محمد - يعني ابن سيرين -: قال شريح: يعطى أجر الطبيب ".
7 - عن جابر عن الشعبي عن شريح ومسروق أنهما(70/306)
قالا: " في الضلع ونحوه إذا كسر وجبر على غير عثم قالا: فيه أجر الطبيب ".
8 - عن سفيان عن فراس عن عامر قال: " فيما دون الموضحة أجر الطبيب ".
9 - عن شبيب بن سليم عن الحسن قال: " شجني غلام فذهب بي هارون بن رياب إلى الحسن فأصلح بيننا على أجر الطبيب ".
وجاء في مختصر القدوري: " وقال محمد - رحمه الله -: عليه أجرة الطبيب " (1) . وفي بدائع الصنائع: " وقال محمد:
__________
(1) ص 188، 189.(70/307)
عليه أجرة الطبيب " (1) ، وفي موضع آخر: " وعند محمد - رحمه الله - أجرة الطبيب " (2) .
وفي الهداية أيضا للمرغيناني: " وقال محمد: عليه أجرة الطبيب؛ لأنه إنما لزمه أجرة الطبيب وثمن الدواء بفعله، فصار كأنه أخذ ذلك من ماله " (3) .
وجاء في مواهب الجليل: " وقيل: يعطى ما أنفقه من الأدوية قاله الفقهاء السبعة " (4) . وفي شرح زروق على الرسالة: " الفقهاء السبعة على وجوب أجر الطبيب فيما دون الموضحة من جراح الخطأ، وأخذه بعضهم من قول مالك مرة بوجوب رفو الثوب وهو أحرى؛ لأن الدماء أكبر من الأموال " (5) . وفي التاج والإكليل " [وفي أجرة الطبيب قولان] تقدم قول ابن يونس على الجاني أن يداوي، وما نقل غير هذا. وقد تقدم أن اللخمي حكي الخلاف، ثم قال: إن الأحسن أن على الجاني
__________
(1) 7 \ 316.
(2) 7 \ 324.
(3) 4 \ 187.
(4) 6 \ 259.
(5) 2 \ 238. ومثله في التاج والإكليل للمواق 6 \ 260.(70/308)
أجر طبيب والرفو " (1) .
وجاء في الشرح الصغير: " وعليه أي الجاني على الحر والعبد خطأ وليس فيه مال مقرر شرعا أو عمدا لا قصاص فيه ولا مال أجرة الطبيب، وهذا أحد القولين " (2) .
التوجيه: ويعلل الحنفية لهذا القول بأنه إنما لزمه أجرة الطبيب وثمن الدواء بفعله فصار كأنه أتلف عليه ذلك أو أخذ ذلك من ماله.
ثم اعترضوا عليه بأنه لا يتفق مع ما هو الأصل عندهم من أن المنافع لا تتقوم مالا إلا بعقد كالإجارة والمضاربة الصحيحتين، أو شبهة عقد كالإجارة والمضاربة الفاسدتين، ولم يوجد شيء من ذلك في حق الجاني وأجرة الطبيب من المنافع ومن ثم فلا تجب.
__________
(1) 5 \ 359.
(2) 5 \ 93.(70/309)
وعلى الرغم من هذا الاعتراض إلا أن بعض الحنفية كالسائحاني قد ذهب إلى ترجيحه استحسانا؛ لأن حق الآدمي مبني على المشاحة. بل وقد نقل ابن عابدين أن الفتوى عند الحنفية على هذا القول (1) .
وأما المالكية فقاسوا ذلك على ضمان المتعدي رفو الثوب واعتبر بعضهم ذلك من قبيل قياس الأولى؛ لأن النفس آكد حرمة من الأموال.
ويمكن الاعتراض على ذلك بإنكار الإمام مالك القول بلزوم الأجرة. فقد جاء في عقد الجواهر الثمينة: " وليس أجر الطبيب بأمر معمول به، وقد سئل مالك عمن انكسرت فخذه ثم انجبرت مستوية: أله ما أنفق في العلاج؟ فقال: ما
__________
(1) انظر: حاشية رد المحتار 6 \ 586.(70/310)
علمته من أمر الناس أرأيت إن برئ عن شين أيأخذ ما شانه وما أنفق؟ ! " (1) .
وعلى الرغم من هذا الاعتراض إلا أن من المالكية من استحسنه بل ومن رجحه فقد جاء في حاشية الدسوقي: " ثم إن الذي استحسنه ابن عرفة فيما إذا لم يكن في الجرح شيء مقدر القول بأن على الجاني أجرة الطبيب وثمن الدواء سواء برئ على شين أم لا مع الحكومة في الأول " (2) . وقال في موضع آخر عند التعليق على ذلك: " أي ثم ينظر بعد البرء فإن برئ على غير شين فلا يلزمه شيء إلا الأدب في العمد وإن برئ على شين غرم النقص وهذا القول هو الراجح " (3) . وفي التاج والإكليل: " وقد تقدم أن اللخمي حكى الخلاف، وقال: إن الأحسن أن على الجاني أجر الطبيب والرفو " (4) . وقال في موضع آخر: " وهو أحرى؛ لأن الدماء آكد من الأموال " (5) .
__________
(1) 3 \ 261، ونحوه في مواهب الجليل 5 \ 259، وشرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة 2 \ 238.
(2) 4 \ 270. ومثله في شرح الزرقاني على مختصر خليل 7 \ 34، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 6 \ 80.
(3) 3 \ 461. ومثله أيضا في حاشية الصاوي على الشرح الصغير 5 \ 93.
(4) 5 \ 359.
(5) 6 \ 260.(70/311)
وفي شرح زروق على الرسالة: " وهو أحرى؛ لأن الدماء أكبر من الأموال " (1) .
الترجيح: ولعل القول بتحمل نفقات العلاج هو الراجح لما يلي:
أولا: أنه ليس مع من منعه نص يجب الوقوف عنده بل إلى جانب ما تقدم من أنه قول الفقهاء السبعة فقد قال به أيضا بعض الصحابة وآخرون من التابعين، كما سبق ذلك.
وأما القول بوجوب أرش الألم فهو قريب من القول بأجرة الطبيب والدواء؛ لأن الألم أمر معنوي لا يمكن تقويمه فالذي يظهر أن مرده اعتبار ما أنفقه الجاني في علاج الجناية، ولهذا فسر بعض الحنفية أرش الألم بأجرة الطبيب فقالوا لا فرق بين قول أبي يوسف وقول محمد كما أشرنا إلى ذلك.
وإذا ثبت هذا كله فأقول: إن تحمل نفقات العلاج كثيرا ما يكون من مصلحة الجاني حتى في الجنايات التي فيها مقدر شرعا وذلك أن جمهور الفقهاء قد قرروا أن الجناية على ما دون النفس لا يقتص منها إلا بعد البرء؛ نظرا لأنها قبله لا يعلم استقرارها فقد تسري على غير محلها فيكون حكمها
__________
(1) 2 \ 238. ومثله في التاج والإكليل للمواق 6 \ 260.(70/312)
حكم ما انتهت إليه؛ بل وقد تسري على النفس فيكون حكمها حكم النفس، وقرروا أيضا أن الدية والحكومة كذلك لا يتم تقديرهما إلا بعد البرء للسبب نفسه، ولم يقيدوا ذلك كله بحالة ما لو فرط المجني عليه في علاج الجناية؛ بل صرح بعضهم كالشافعية والحنابلة بأن المجني عليه لو ترك علاج جرح مهلك فمات بسبب ذلك وجب فيه القصاص على الجاني إذا كانت الجناية عمدا، ودية النفس إذا كانت خطأ؛ باعتبار أن المداواة في الأصل غير واجبة، ثم إن البرء غير موثوق به لو عولج لا سيما وأن الجراحة في نفسها مهلكة -(70/313)
فإذا كان هذا كله مقررا - فلا يخفى أن مصلحة الجاني تحمل نفقة العلاج لا سيما فيما إذا كان من شأن الجناية السراية بسبب المضاعفات الناتجة عنها. وحتى لو مات المجروح بعد ذلك فإن الجاني يطمئن على أنه قد بذل السبب لإنقاذ حياة المجني عليه وإنقاذ نفسه في الوقت نفسه من القصاص فيما لو كانت الجناية عمدا، وقد يؤثر ذلك لدى الأولياء في التنازل إلى الدية والصلح.
وأما الجنايات التي ليس فيها شيء مقدر فلا أرى هناك ما يمنع من الأخذ بما استحسنه بعض المالكية من لزوم تحمل نفقات العلاج فيها مطلقا عملا بالقاعدة الشرعية: الضرر يزال. حيث إن العلاج وسيلة إزالة ضرر الجراحة وقد ألحق الجاني ضرر الجراحة بالمجني عليه فلزمه إزالته بالعلاج؛ لا سيما وأنها في الغالب ليست خطيرة كخطورة ما فيها شيء مقدر. ومن ثم فإذا برئت الجناية على شين أخذ زيادة على ذلك الحكومة.
وقد رأى بعض المعاصرين أن النفقات التي هي من قبيل تعويض العضو المفقود كتركيب رجل صناعية مثلا هي مشمولة حتما بمبلغ الأرش، ولكن النفقات اللازمة للوصول إلى حالة البرء والتي هدفها اجتناب سرية التلف وتفاقمه يمكن تحميلها كاملا أو بعضا على الجاني، والأفضل ترك ذلك(70/314)
لتقدير المحكمة (1) .
__________
(1) انظر: الفعل الضار والضمان فيه، مصطفى أحمد الزرقا ص 138.(70/315)
المبحث الثاني: مسؤولية الجاني عن ضمان تعطل المجني عليه عن العمل
إن محل البحث هنا هو تعطل المجني عليه عن الكسب فترة انتظار البرء وصدور الحكم في الجناية، أما بعد استقرار الجناية بالبرء وصدور الحكم فيها بالدية أو الحكومة أو القصاص إذا كانت الجناية مما يجري فيها القصاص فقد انتهت الخصومة بين الطرفين، والأثر المترتب على الجناية وهو ما قد يتمثل في العجز الدائم والمستمر بالشلل ونحو ذلك مشمول حتما في الدية أو الحكومة.
وهذه المسألة إنما برزت أهميتها في هذا العصر حيث كثرت فرص الكسب وتعدد الوظائف وزادت النفقات؛ ولهذا فقل أن تجد هذه المسألة في كتب الفقه المتقدمة، ولم يصرح ببحث هذه المسألة إلا علماء قلائل مروا بها على عجل دون تفصيل. وباستقراء تلك النقول نجد أنه يمكن حصر الآراء في هذه المسألة فيما يلي:
أولا: لم نجد أحدا من فقهاء المسلمين القدامى بحث(70/315)
تعويض المجني عما فاته بسبب الجناية بعد برئه والحكم عليه كما سبق في صدر هذه المسألة.
ثانيا: لم نجد أحدا من فقهاء المسلمين القدامى بحث تعويض المجني عليه عن الفرص التي ضاعت عليه بسبب الجناية مثل ضياع فرصة مسابقة في وظيفة ونحوها، حيث لا يوجد هناك كسب محقق وإنما هو أمر محتمل، والتعويض إنما يقوم على جبر الضرر الواقع (1) .
ثالثا: اختلف الفقهاء في تعويض المجني عليه عما فاته بسبب الجناية قبل البرء والحكم مما كان يتكسب به من صناعة أو تجارة أو نحوها. وتلخص من استعراض كلام الفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الجاني لا يضمن للمجني عليه تعويضا غير الدية أو الحكومة، وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإليك ما أمكن جمعه من أقوال الفقهاء في هذه المسألة:
__________
(1) انظر: التعويض عن الضرر ص 125.(70/316)
أ - رأي الحنفية:
جاء في الدر المختار: " رجل جرح رجلا فعجز المجروح عن الكسب يجب على الجارح النفقة والمداواة. . قال المصنف: والظاهر أنه مفرع عن قول محمد " قال ابن عابدين في حاشيته: " قوله: فعجز المجروح عن الكسب أي مدة الجرح، وانظر ما لو عجز عن الكسب أصلا. والظاهر أنه بعد الحكم بموجبه من الأرش أو حكومة العدل لا يجب شيء " (1) .
وفي حاشية ابن عابدين أيضا: " وفي الفتاوى النعمية لشيخ مشايخنا السائحاني: إذا ضرب يد غيره فكسرها وعجز عن الكسب فعلى الضارب المداواة والنفقة إلى أن يبرأ، وإذا برئ وتعطلت يده وشلت وجبت ديتها، والظاهر أنه بحسب المصروف من الدية " (2) .
وفي العقود الدرية لابن عابدين: " وقال أيضا في مجموعته التي بخطه: إذا ضرب يد غيره فكسرها وعجز عن الكسب فعلى الضارب المداواة والنفقة إلى أن يبرأ، وإذا برأ وتعطلت يده وشلت وجب ديتها. والظاهر أنه يحسب
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 562.
(2) حاشية ابن عابدين 6 \ 562.(70/317)
المصروف من الدية " (1) .
وجاء فيه أيضا نقلا عن جواهر الفتاوى وشرح التنوير فيمن جرح فعجز عن الكسب: " نعم رجل جرح رجلا فعجز المجروح عن الكسب تجب على الجارح النفقة والمداواة. أقول: ظاهره أن المراد بالنفقة غير المداواة وهي أن ينفق على المجروح من طعام وشراب وكسوة إلى أن يبرأ، والظاهر أن هذا فيما إذا كان المجروح فقيرا ينفق من كسبه بقرينة قوله: فعجز عن الكسب فلو كان له مال لم يلزم الجارح سوى المداواة " (2) .
ويستدل لهذا القول بأن التفويت حصل بتسبب الجاني فوجب أن يضمنه. ويسند ذلك ما روي عن محمد بن سيرين أن شريحا قضى في الكسر إذا أنجبر قال: لا يزيده ذلك إلا شدة يعطى أجر الطبيب وقدر ما شغل عن صنعته " (3) .
فعلى الرغم من أن الضمان هنا من قبيل ضمان المنافع، وقد تقدم أن الأصل عند الحنفية أن المنافع لا تضمن إلا بعقد
__________
(1) 2 \ 255.
(2) 2 \ 255.
(3) تقدم تخريجه.(70/318)
أو شبهة عقد ولم يوجد أي منهما هنا. فواضح من النقول المتقدمة أن المفتى به عند الحنفية كما هو هنا هو ضمان الجاني ما فوته على المجني عليه من الكسب والعمل؛ لأنه لم يتعطل عن ذلك إلا بسبب الجناية عليه. ولكنا نلاحظ أن النص على ضمان النفقة ليس شاملا جميع كسب المجني عليه قبل الجناية ومن ثم فهو ضمان جزئي، كما أنه ليس على سبيل الإطلاق بل هو على ما استظهره ابن عابدين مقيد بما إذا كان المجني عليه فقيرا لا ينفق إلا من كسبه، وأن ذلك يحسب من الدية أو الحكومة عندما يحكم له بها بعد البرء.(70/319)
ب- رأي المالكية: للمالكية في هذا المسألة وجهان:
الوجه الأول: أن الجاني يضمن تعطل المجني عليه عن العمل، وقد استظهره بعضهم من القول بضمان أجرة الطبيب وثمن الدواء. فقد جاء في حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل في من تعطلت منفعته بسبب الجرح وليس له ما يعيش عليه غيره كالخماس هل يجب على الجاني إعطاؤه أجيرا يخدم في محله؟ : " ويظهر من كلام اللخمي في الصانع وفي أجرة الطبيب أنه يلزم ذلك الجاني؛ لأن الظالم أحق أن يحمل عليه لا سيما وهو متعد ظالم للخماس مثلا " (1) .
__________
(1) 6 \ 233، 234.(70/319)
فهذا وإن كان نصا في لزوم إعطاء الجاني المجني عليه أجيرا يخدم في محله ليأتي له بما يعيش عليه لتعطله بسبب الجناية، فهو في النهاية تحميل لهذا الجاني ما عطله على المجني عليه من كسبه فترة انتظار البرء وهي مسألتنا. 234.
الوجه الثاني: أن الجاني لا يضمن ما يترتب على الجناية من تعطل المجني عليه عن العمل. فقد جاء في حاشية الرهوني في مقابل الرأي السابق: " إذ نصوص المتقدمين والمتأخرين مصرحة بخلافه؛ لقول المصنف تبعا لأهل المذهب: ومنفعة البضع والحر بالتفويت وغيرهما بالفوات. فالذي تعطلت منفعته بالجرح إن كان حرا لا شيء له على من فوتها عليه؛ لأنه لم يستعمله وإنما عطله عنها بالجرح كتعطيله بشد يده أو سجنه أو غير ذلك من موانع العمل " (1) .
وقد ظهر من النص السابق أن العلة في عدم الضمان هو عدم استغلال هذه المنفعة المتعطلة؛ إذ الأصل عند المالكية أن منافع الحر لا تضمن إلا بالتفويت - يعني الاستيفاء - بخلاف
__________
(1) 6 \ 234.(70/320)
منافع العبد وغيرها من الأموال فتضمن بمجرد الفوات - أي التعطيل(70/321)
ج - رأي الشافعية والحنابلة
وأما الشافعية والحنابلة فيمكن تخريج أقوالهم في المسألة على مسألة ضمان منافع الحر والمغصوب بجامع أن كلا من الغصب والجناية تعد ترتب عليه حبس الشخص عن الكسب، وإذا كان الحبس في الأول واقعا بصورة مباشرة وهي وضع(70/321)
اليد، وفي الثاني بصورة غير مباشرة وهي الجناية التي أدت إلى قعود المجني عليه وتعطله عن العمل فإن ذلك لا يؤثر؛ لأن القاعدة عندهم أن الحر لا يدخل تحت اليد. ويمكن تلخيص آراءهم فيما يأتي:
القول الأول: أن منافع الحر لا تضمن إلا بالاستغلال فإن لم تستغل فلا يجب ضمانها وهو الأصح عند الشافعية ووجه عند الحنابلة.
قال الغزالي: " وأما منفعة بدن الحر إن استخدامه إنسان ضمنه، وإن حبسه وعطله فوجهان أحدهما: بلى؛ للتفويت، والثاني: لا؛ لأنه فات تحت يد الحر المحبوس " (1) .
وفى البيان شرح المهذب للعمراني: " وإن حبس رجل حرا ومات عنده من غير أن يمنعه الطعام والشراب فلا يجب عليه ضمانه. . وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة فإن استوفى الغاصب منافعه وجب عليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه منافعه فهو كما لو أتلف عليه ماله، وإن لم يستوفها الغاصب ففيه
__________
(1) الوسيط 3 \ 393، 394.(70/322)
وجهان. . والثاني: لا يجب عليه شيء؛ لأن منافعه تلفت تحت يده " (1) .
وجاء في روضة الطالبين للنووي: " ومنها منفعة بدن الحر وهي مضمونة بالتفويت، فإذا قهر حرا وسخره في عمل ضمن أجرته. وإن حبسه وعطل منافعه لم يضمنها على الأصح؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد فمنافعه تفوت تحت يده بخلاف المال " (2) .
وفي مغني المحتاج للخطيب الشربيني: " وكذا لا تضمن منفعة بدن الحر إلا بالتفويت في الأصح، فإن حبسه ولم يستوف منفعته لم يستحق شيئا وإن كان صغيرا؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد فمنافعه تفوت تحت يده " (3) .
وفي المغني لابن قدامة: " وإن استعمله كرها لزمه أجر مثله؛ لأنه استوفى منافعه وهي متقومة فلزمه ضمانها كمنافع العبد، وإن حبسه مدة لمثلها أجر ففيه وجهان. . والثاني: لا
__________
(1) 7 \ 80.
(2) 5 \ 14.
(3) 2 \ 286.(70/323)
يلزمه؛ لأنها تابعة لما لا يصح غصبه فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه، ولأنها تلفت تحت يديه فلم يجب ضمانها " (1) .
وفي الكافي لابن قدامة أيضا: " وإن استعمل الكبير مدة كرها فعليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه ضمانه كإتلاف ماله، وإن حبسه مدة لمثلها أجرة ففيه وجهان. . والثاني: لا تلزمه؛ لأنها تلفت تحت يده فلم تضمن كأطرافه " (2) .
وفى الإنصاف للمرداوي: " قوله: وإن استعمل الحر كرها فعليه أجرته هذا المذهب وعليه الأصحاب وقطعوا به. . قوله: وإن حبسه مدة فهل تلزمه أجرته؟ على وجهين. . والوجه الثاني: لا تلزمه. صححه الناظم قال الحارثي: وهو الأصح وعليه دل نصه " (3) .
ويستدل لهذا بأن المنفعة تابعة لما لا يصح غصبه وهو الحر نفسه؛ لأن القاعدة أن الحر لا يدخل تحت اليد ومن ثم فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه فلم يجب ضمانها، ولأنها
__________
(1) 7 \ 429، 430.
(2) 3 \ 521.
(3) 15 \ 125، 126.(70/324)
تلفت تحت يديه فلم يجب ضمانها.
القول الثاني: أن منافع الحر تضمن وإن لم تستغل وهو الصحيح عند الحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية.
قال الغزالي: " وأما منفعة بدن الحر إن استخدمه إنسان ضمنه وإن حبسه وعطله فوجهان: أحدهما بلى؛ للتفويت " (1) .
وجاء في البيان شرح المهذب للعمراني: " وإن لم يستوفها الغاصب ففيه وجهان: أحدهما يجب عليه أجرته؛ لأن ما ضمن بالبدل في العقد الصحيح ضمن بالبدل في الغصب كالمال " (2) .
وفي مغني المحتاج للخطيب الشربيني: " والثاني: أنها تضمن بالفوات أيضا؛ لأن منافعه تقوم في الإجازة الفاسدة فأشبهت منافع الأموال " (3) .
وجاء في المغني لابن قدامة: " وإن حبسه مدة لمثلها أجر ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه أجر تلك المدة؛ لأنه فوت
__________
(1) الوسيط 3 \ 393، 394.
(2) 7 \ 80.
(3) 2 \ 286.(70/325)
منفعته وهي مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد " (1) .
وفي الكافي لابن قدامة أيضا: " وإن حبسه مدة لمثلها أجرة ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الأجرة؛ لأنها منفعة تضمن بالإجارة فضمنت بالغصب كنفع المال " (2) .
وفي الإنصاف للمرداوي: " قوله: وإن حبسه مدة فهل تلزمه أجرته؟ على وجهين. . أحدهما: تلزمه وهو الصحيح، صححه في التصحيح وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه ابن رزين في شرحه " (3) .
وفي كشاف القناع: " وإن استعمله أي الحر كبيرا كان أو صغيرا كرها أو حبسه مدة فعليه أجرته؛ لأن منفعته مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد " (4) .
ويستدل لهذا بأن منفعته مال يجوز أخذ العوض عنها وتضمن بالإجارة فضمنت بالغصب كمنافع العبد أي قياسا على منافع العبد.
__________
(1) 7 \ 429، 430.
(2) 3 \ 521.
(3) 15 \ 126.
(4) 4 \ 78.(70/326)
وإذا ثبت هذا فعلى الأصح عند الشافعية، وأحد الوجهين عند الحنابلة لا يتحمل الجاني ما نتج عن الجناية من تعطل المجني عليه عن الكسب؛ لأن هذه المنافع لم يستغلها الجاني ولم يستوفها. وعلى الصحيح عند الحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية يمكن القول بجواز تحمل الجاني لتعطل المجني عليه عن الكسب مدة انتظار البرء والحكم بالأرش أو الحكومة. ولكن يبقى عدد من التساؤلات عند القول بهذا الرأي: 1- هل تحمل الجاني لذلك مطلق فيلزم به سواء كان المجني عليه فقيرا أم غنيا؟
2 - وما مدى ما يتحمله الجاني؟ هل هو كامل ما كان المجني عليه يكتسبه قبل تعطله بسبب الجناية، أو يكون بمقدار نفقة المجني عليه، أو يكون مرجع ذلك إلى تقدير القاضي؟
3 - هل يحسب ذلك من الدية أو الحكومة عندما يحكم بها أم لا؟(70/327)
صفحة فارغة(70/328)
الأخذ والتحمل عند القراء
لفضيلة الدكتور \ محمد بن سيدي محمد الأمين (1)
المقدمة: - إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (2) {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (3) {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} (4) .
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وسيد الأتقياء، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، لا خير إلا
__________
(1) الأستاذ المشارك في كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية.
(2) سورة الكهف الآية 1
(3) سورة الكهف الآية 2
(4) سورة الكهف الآية 3(70/329)
دل عليه ولا شر إلا حذر منه. تركنا على المحجة البيضاء، نقية صافية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الذين تلقوا القرآن من فيه غضا وواظبوا على قراءته تلاوة وعرضا، حتى أدوه إلينا خالصا محضا. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن من تكريم الله للعبد أن يجعله من حملة كتابه التالين له العاملين به القائمين عليه المحافظين لحدوده قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (1) . فقرأة القرآن حملة سر الله المكنون، وحفظة علمه المخزون وخلفاء أنبيائه، وهم أهله وخاصته، وخيرته وأصفياؤه، فالخير كل الخير في تعلمه والعمل به، والشر كل الشر في هجره والابتعاد عنه وترك العمل بما فيه، من استظل بظله فهو من الله في حمى، ومن أعرض عنه فهو في غي وعمى ولقد أحسن من قال:
إن العلوم وإن جلت محاسنها ... فتاجها ما به الإيمان قد وجبا
هو الكتاب العزيز الله يحفظه ... وبعد ذلك علم فرج الكربا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه ... نور النبوة سن الشرع والأدبا
وبعد هذا علوم لا انتهاء لها ... فاختر لنفسك يا من آثر الطلبا
__________
(1) سورة فاطر الآية 32(70/330)
والعلم كنز تجده في معادنه ... يا أيها الطالب ابحث وانظر الكتبا
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت ... كل العلوم تدبره ترى العجبا
واقرأ هديت حديث المصطفى وسل ... مولاك ما تشتهي يقض لك الأربا
من ذاق طعما لعلم الدين سر به ... إذا تزيد منه قال واطربا (1)
لقد كان السلف الصالح لهذه الأمة من أشد الناس حرصا على الاهتمام بكتاب الله تلاوة وتعليما بعد سماعهم الأحاديث الدالة على الترغيب في تعلمه واستظهاره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » فلا يقدمون على تعلمه شيئا من العلوم، فما أن يعقل الطفل حتى يبدأ في تعليمه حروف أبي جاد ثم قصار السور من المفصل ويلقن ذلك تلقينا خمس آيات أو عشر آيات حتى يتم حفظ كتاب الله أو ما تيسر منه بحسب همته وسعة حفظه وجودة ذهنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم.
وعنه: «جمعت المحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فقيل له: ما المحكم؟ قال: " المفصل (3) » .
__________
(1) الوجيز في فضائل الكتاب العزيز: 139.
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) فتح الباري: 9 \ 83.(70/331)
قال ابن كثير: فيه دلالة على جواز تعليم الصبيان القرآن لأن ابن عباس أخبر عن سنه حين موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان جمع المفصل، وهو من الحجرات، وعمره إذ ذاك عشر سنين (1) .
وكان بعض الشيوخ من المحدثين لا يقبل في حلقة درسه من الطلاب إلا من درس القرآن أولا.
قال حفص بن غياث: أتيت الأعمش فقلت حدثني.
قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا.
قال: اذهب فاحفظ القرآن ثم هلم أحدثك.
قال: فذهبت فحفظت القرآن ثم جئته فاستقرأني فقرأته فحدثني (2) .
__________
(1) فضائل القرآن لابن كثير: 255
(2) أصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب: 107.(70/332)
وحيث إن القرآن الكريم لا يؤخذ إلا بالتلقي والمشافهة من الشيوخ العدول الضابطين كما نبه على ذلك العلماء فقد عقدت هذا البحث لبيان تلك الوسائل والطرق التي اتبعها علماء القراءات في الأخذ والتحميل واهتمامهم البالغ بطرفي العملية التعليمية وهما القارئ والمقرئ، وما يجب أن يتوفر في كل منهما من شروط وآداب تتفق مع حامل القرآن وما يجب أن يتصف به.
خطة البحث:
المقدمة.
الفصل الأول: صفات المقرئ والقارئ. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: المقرئ آدابه وصفاته.
المبحث الثاني: القارئ آدابه وصفاته.
الفصل الثاني: طرق الأخذ والتحمل عند القراء وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: العرض على الشيخ.
المبحث الثاني: السماع من لفظ الشيخ.
المبحث الثالث: الإجازة من الشيخ.
المبحث الرابع: الوجادة.
الخاتمة.(70/333)
الفصل الأول: صفات المقرئ والقارئ: وفيه مبحثان:
المبحث الأول: المقرئ آدابه وصفاته.
المبحث الثاني: القارئ آدابه وصفاته.
المبحث الأول: المقرئ آدابه وصفاته.
يقال: رجل قارئ من قوم قراء، وقرأة وقارئين. وأقرأ غيره يقرئه إقراء، ومنه قيل: فلان المقرئ (1) .
فالمقرئ: من علم بالقراءات أداء ورواها مشافهة عن الشيوخ الضابطين بالإسناد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدر للإقراء وعرف به، ومن شرطه أن يكون عاقلا حرا مسلما مكلفا ثقة مأمونا ضابطا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة (2) . وقد يكون المقرئ مستورا وهو من كان عدلا في الظاهر مجهول العدالة باطنا.
وقد اختلف علماء الحديث فيمن هذا حاله هل تقبل روايته أولا؟ والذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر بعد نقله الخلاف. قال: والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة على استبانة حاله (3) .
__________
(1) لسان العرب: 1 \ 129 مادة (ق ر أ) .
(2) منجد المقرئين: 3 - 6.
(3) نزهة النظر: 50.(70/334)
قال النويري: أما إذا كان مستورا - أي المقرئ - فهو ظاهر العدالة ولم تعرف عدالته الباطنة فيحتمل أنه يضره كالشهادة، والظاهر أنه لا يضره؛ لأن العدالة الباطنة تعسر معرفتها على غير الحكام، ففي اشتراطها حرج على الطلبة والعوام (1) . قلت: والذي ذهب إليه النويري في شأن المقرئ هو الحق فلا يعدل عن القراءة على المقرئين الضابطين العدول في الظاهر بسبب عدم معرفة عدالتهم باطنا فذلك أمره إلى الله، فكما قيل: نحن علينا بالظاهر والله يتولى السرائر.
وقد اشترط العلماء شروطا وصفات متى ما توفرت في المقرئ وجب الأخذ والتلقي عنه، ومتى ما تباعد عنها أو عن شيء منها وجب الحذر منه ومن التلقي عنه.
من تلك الصفات: سلامة معتقده، واتباعه السنة، وإخلاص النية فيما يعلم، وتمكنه مما يقرئ به وضبطه له ومعرفته بعلوم القرآن وتجويده، وأن يكون على دراية باللغة والنحو وما يقوم به لسانه، وأن لا يقرئ إلا بما قرأ وتلقى بالأسانيد المتصلة، وأن يكون على معرفة بحال الرواة والنقلة.
كما اشترطوا في صفاته الخلقية: التواضع والصبر والحلم والأناة،
__________
(1) شرح الطيبة: 1 \ 39.(70/335)
والسخاء والسكينة والوقار، وغير ذلك مما ذكروا من صفات يجب أن يتحلى بها كل معلم، ومعلم القرآن على وجه الخصوص، وسأذكر طرفا من تلك الصفات والآداب فيما يأتي.
قال الإمام مكي - رحمه الله تعالى - في كتابه الرعاية: باب صفة من يجب أن يقرأ عليه وينقل عنه: " يجب على طالب القرآن أن يتخير لقراءته ونقله وضبطه أهل الديانة، والصيانة، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علم العربية، والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم، فإذا اجتمع للمقرئ صحة الدين، والسلامة في النقل، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علوم العربية، والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن كلمت حاله ووجبت إمامته " (1) .
قال الإمام الجعبري في صفة الإمام الذي يعول عليه ويؤخذ
__________
(1) الرعاية لتجويد القرآن لمكي: 89.(70/336)
عنه: " وكل من أتقن حفظ القرآن الكريم، وأدمن درسه، وأحكم تجويد ألفاظه، وعلم مبادئه ومقاطعه، وضبط رواية قراءته، وفهم وجوه إعرابه ولغاته، ووقف على حقيقة اشتقاقه وتصريفه، ورسخ في ناسخه ومنسوخا وأخذ حظا وافرا من تفسيره وتأويله، وصان نقله عن الرأي وتجافى عن مقاييس العربية، ووسعته السنة، وجلله الوقار وغمره الحياء، وكان عدلا متيقظا ورعا معرضا عن الدنيا مقبلا على الآخرة، قريبا من الله تعالى، فهو الإمام الذي يرجع إليه ويعول عليه، ويقتدى بأقواله ويهتدى بأفعاله " (1) .
وبين الإمام ابن مجاهد: " أن من حملة القرآن الكريم المعرب
__________
(1) كنز المعاني شرح حرز الأماني لوحة: 28 \ أ.(70/337)
العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعيب القراءات المنتقد للآثار فذلك الإمام الذي يفزع إليه حافظ القرآن الكريم في كل مصر من أمصار المسلمين " (1) .
قال ابن الجزري: " ومن شرطه أن لا يقرئ إلا بما قرأ وروى مشافهة، فلو حفظ كتابا امتنع عليه إقراؤه بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا؛ لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة، ويلزمه أن يعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، ولا بأس من الزيادة في الفقه بحيث إنه يرشد طلبته وغيرهم إذا وقع له شيء، ويعلم من الأصول قدر ما يدفع به شبهة من يطعن في بعض القراءات، وأن يحصل جانبا من النحو والصرف بحيث إن يوجه ما يقع له من القراءات وهذا من أهم ما يحتاج إليه، وأن لا يخطئ في كثير مما يقع في وقف حمزة، والإمالة ونحو ذلك من الوقف والابتداء وغيره، وما أحسن قول الإمام أبي الحسن الحصري:
لقد يدعي علم القراءات معشر ... وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قيل ما إعراب هذا ووجهه ... رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
__________
(1) كتاب السبعة لابن مجاهد: 45.(70/338)
وليحصل طرفا من اللغة والتفسير، ولا يشترط أن يعلم الناسخ والمنسوخ كما اشترطه الإمام الجعبري، ويلزمه أيضا أن يحفظ كتابا مشتملا على ما يقرئ به من القراءات أصولا وفرشا، وإلا داخله الوهم والغلط في كثير، وإن قرأ بكتاب وهو غير حافظ له فلا بد أن يكون ذاكرا كيفية تلاوته به حال تلقيه من شيخه مستصحبا ذلك، فإن شك في شيء فلا يستنكف أن يسأل رفيقه أو غيره ممن قرأ بذلك الكتاب حتى يتحقق بطريق القطع أو غلبة الظن.
وأن يحذر الإقراء بما يحسن في رأيه دون النقل أو وجه إعراب أو لغة دون رواية " (1) .
ومن شرط المقرئ أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى في كل عمل يقربه من خالقه وأن يقصد بعمله رضا الله تعالى قال النووي: " أول ما ينبغي للمقرئ أن يقصد بعمله رضا الله تعالى قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) . والقيمة
__________
(1) منجد المقرئين: 3 - 6.
(2) سورة البينة الآية 5(70/339)
- أي: الملة المستقيمة.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » (2) وهذا الحديث من أصول الإسلام، وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما يحفظ الرجل على قدر نيته، وعن غيره إنما يعطى الناس على قدر نياتهم. وعن ذي النون - رحمه الله تعالى - قال: ثلاث من علامات الإخلاص، استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة " (3) .
قال ابن الجزري: " وينبغي له أن لا يحرم نفسه من الخلال الحميدة المرضية من الزهد في الدنيا والتقلل منها، وعدم المبالاة بها وبأهلها، والسخاء والحلم والصبر ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة.
وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار، والتواضع والخضوع، وليجتنب الملابس المكروهة، وغير ذلك مما لا يليق به، وليحذر كل الحذر من الرياء والحسد والحقد والغيبة واحتقاره غيره
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) فتح الباري: 1 \ 135، مسلم بشرح النووي: 13 \ 53.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن: 24، 25.(70/340)
وإن كان دونه والعجب " (1) .
قال الآجري: " وينبغي لمن قرأ عليه القرآن فأخطأ فيه أو غلط أن لا يعنفه وأن يرفق به ولا يجفوا عليه ويصبر عليه فإني لا آمن من أن يجفو عليه فينفر عنه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف» وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (2) » (3) .
قال النووي: " وينبغي أن يحنو على الطالب، ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه ومصالح ولده، ويجري المتعلم مجرى ولده في الشفقة عليه، والاهتمام بمصالحه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان، فإن الإنسان معرض للنقائص، لا سيما إذا كان صغير السن، وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره له ما يكره لنفسه من النقائص مطلقا فقد ثبت في
__________
(1) منجد المقرئين: 7.
(2) صحيح البخاري الوضوء (220) ، سنن الترمذي الطهارة (147) ، سنن النسائي الطهارة (56) ، سنن أبو داود الطهارة (380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/239) .
(3) أخلاق حملة القرآن: 53.(70/341)
الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » .
" ويقدم في تعليمهم إذا ازدحموا الأول فالأول، فإن رضي الأول بتقديم غيره قدمه، وينبغي أن يظهر لهم البشر وطلاقة الوجه، ويتفقد أحوالهم، ويسأل عمن غاب منهم " (2) .
ولما كان القراء يتفاوتون في الضبط والإتقان، والمعرفة بالقرآن وعلومه، والنحو وصناعته، والعلوم الأخرى المكملة لمعارف القارئ، نبه ابن مجاهد إلى بيان من يؤخذ عنه الإقراء ومن يترك فلا يؤخذ عنه.
نقل ابن الجزري عن أبي القاسم الهذلي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: " لا تغتروا بكل مقرئ إذ الناس على طبقات فمنهم من حفظ الآية والآيتين، والسورة والسورتين ولا علم له غير ذلك، فلا تؤخذ عنه القراءة، ولا تنقل عنه الرواية، ولا يقرأ عليه.
__________
(1) فتح الباري باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1 \ 56، ومسلم في كتاب باب الإيمان: 2 \ 16.
(2) التبيان في آداب حملة القرآن: 32 - 34.(70/342)
ومنهم من حفظ الروايات ولم يعلم معانيها، والاستنباط من لغات العرب ونحوها فلا تؤخذ عنه؛ لأنه ربما يصحف، ومنهم من علم العربية ولا يتبع الأثر والمشايخ في القراءة فلا تنقل عنه الرواية؛ لأنه ربما حسنت له العربية حرفا لم يقرأ به، والرواية متبعة والقراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، ومنهم من فهم التلاوة وعلم الرواية وأخذ حظا من الدراية من النحو واللغة فتؤخذ عنه الرواية ويقصد للقراءة " (1) .
__________
(1) منجد المقرئين: 53.(70/343)
المبحث الثاني: القارئ آدابه وصفاته
القارئ: مفرد جمعه قرأة (1) .
والقارئ في عرف المتأخرين هو طالب القرآن الراغب في أخذه وتلقيه وهو على قسمين:
أ - قارئ مبتدئ: وهو من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثا من القراءات.
ب - قارئ منته: وهو من نقل من القراءات أكثرها وأشهرها (2) . وهذا المصطلح في التفريق بين القارئ والمقرئ هو الذي مشى عليه العلماء المتأخرون.
__________
(1) الصحاح للجوهري: 1 \ 65. مادة (ق ر أ) .
(2) منجد المقرئين: 3.(70/343)
فهذا مكي بن أبي طالب حينما ألف كتابه الرعاية في التجويد قال: لينتفع به المقرئ والقارئ، والمبتدئ والمنتهي (1) . والداني في كتابه التحديد بين أن سبب تأليفه له هو ما رآه من إهمال قراء عصره ومقرئي دهره تجويد التلاوة وتحقيق القراءة (2) .
وابن الجزري بين في كتابه التمهيد أنه ذكر فيه " علوما جليلة تتعلق بالقرآن العظيم يحتاج القارئ والمقرئ إليها " (3) .
فأنت تراهم يفرقون بين القارئ والمقرئ وإن كان المصطلح الشائع عند المتقدمين إطلاق لفظ القارئ على المقرئ المنتهي أيضا، فقد جاء في ترجمة: سعد بن أبي عبيد بن النعمان بن قيس بن عمر بن زيد قتل شهيدا يوم القادسية سنة (16 هـ) كان يسمى بسعد القارئ (4) .
__________
(1) الرعاية: 51.
(2) التحديد: 66.
(3) التمهيد: 52، 53.
(4) طبقات ابن سعد: 1 \ 358.(70/344)
ومعاذ بن الحارث أبو الحارث ويقال: أبو حليمة الأنصاري المدني روى عنه نافع وابن سيرين توفي بالحرة سنة (63 هـ) كان يعرف بالقارئ (1) .
ويزيد بن القعقاع الإمام أبو جعفر المخزومي أحد القراء العشرة عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش، وعلى عبد الله بن عباس، وأبي هريرة، روى القراءة عنه نافع بن أبي نعيم، وسليمان بن جماز، وعيسى بن دردان، مات بالمدينة سنة: (102 وقيل 103 هـ) . كان يعرف بأبي جعفر القارئ (2) . وغيرهم.
ونحن نتناول في هذا البحث القارئ على مصطلح المتأخرين وهو الذي قسمه ابن الجزري إلى قارئ مبتدئ وآخر منتهي كما تقدم، فهو في مقابلة المقرئ.
وكما اشترط العلماء في المقرئ المتصدر للإقراء شروطا وصفات تقدم بيانها اشترطوا أيضا في القارئ آدابا وصفات يجب أن يتحلى بها منها:
أن يتخير في الأخذ والتلقي أهل الديانة والفهم في القرآن
__________
(1) غاية النهاية 2 \ 301.
(2) غاية النهاية: 2 \ 382.(70/345)
وعلومه، والنفاذ في العربية، ومعرفة التجويد بحكاية ألفاظ القرآن الكريم، وصحة النقل، وسلامة المنقول عنه من أسباب الفسق والبدع وخوارم المروءة.
قال النووي: " ولا يتعلم إلا ممن كملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته، فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " (1) .
ويجب عليه أن يخلص النية في تعلمه ويجد ويجتهد في شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل ولا يغتر بخدع التسويف فهذه آفة الطالب، ولا يستنكف عن أحد وجد عنده فائدة (2) .
وعليه أن ينظر معلمه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على طبقته فإنه أقرب إلى الانتفاع به، وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني، وقال الربيع صاحب الشافعي - رحمهما الله -: ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي
__________
(1) التبيان: 37.
(2) منجد المقرئين: 11.(70/346)
هيبة له (1) .
فإذا دخل على شيخه فليكن كامل الحال متنظفا متطهرا متأدبا وأن لا يدخل بغير استئذان إذا كان الشيخ في مكان يحتاج فيه إلى استئذان، وأن يسلم على الحاضرين إذا دخل ويخص شيخه دونهم بالتحية.
وأن يسلم عليه وعليهم إذا انصرف، ولا يتخطى رقاب الناس بل يجلس حيث ينتهي به المجلس إلا أن يأذن له الشيخ في التقدم أو يعلم من حالهم إيثار ذلك ولا يقيم أحدا من موضعه، فإن آثره غيره لم يقبل اقتداء بابن عمر رضي الله عنهما إلا أن يكون في تقدمه مصلحة للحاضرين أو أمره الشيخ بذلك، ولا يجلس في وسط الحلقة إلا لضرورة، ولا يجلس بين صاحبين إلا بإذنهما (2) .
قال الهذلي: " واعلم أنه يجب على القارئ أن يحسن الأدب مع المقرئ ويتباعد منه في الجلوس، ولا يستقبله بنفسه وينبغي أن لا يتناول من البصل والثوم والكراث إذا جلس لقراءة القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا» .
__________
(1) التبيان: 37
(2) التبيان: 38.(70/347)
وليجلس على رجليه ولا يقابله بعينيه بل يطأطئ رأسه ويشتغل بما هو بصدده، ولا يرفع صوته عليه ولا يتعنته في السؤال فإن علم أنه يعلم ما يسأله عنه فلا بأس بذلك، ولا يذكرن غيره ممن يعانده بين يديه ولا يذكرن أحدا إلا بخير، ويشتغل بالتعليم والتعلم والتوفير والتفهيم ليضع الله له البركة فيما علم وإن قل ولا يطلبن على شيخه الزلل، وليكن القارئ فطنا والأولى به أن لا يختلف إلى غير من قرأ عليه تبجيلا لا وجوبا ومن لم يعظم أستاذه لم ينتفع بعلمه. روي عن قالون أنه قال: ما علمت أني تناومت بين يدي نافع قط إلا يوما واحدا؛ لأني رأيته كالناعس فظننت أنه لا يسمع ما أقرأ فتناعست فانتهرني فتبت على يديه ولم أعد إلى ذلك.
قال اليزيدي: ولقد صحبت أبا عمرو ثمان عشرة سنة ما أكلت بين يديه لقمة قط (1) .
قال النووي: ومن آدابه أن يتحمل جفوة الشيخ وسوء خلقه ولا يصده ذلك عن ملازمته، واعتقاد كماله، ويتأول لأقواله وأفعاله التي ظاهرها الفساد تأويلات صحيحة فما يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق أو عديمه، وإذا جفاه الشيخ ابتدأ هو بالاعتذار إلى الشيخ وأظهر أن الذنب له والعتب عليه فذلك أنفع له في الدنيا والآخرة وأنقى لقلب الشيخ.
__________
(1) الكامل لوحة: 6.(70/348)
وقد قالوا: من لم يصبر على ذل التعلم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الآخرة والدنيا، ومنه الأثر المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما: " ذللت طالبا فعززت مطلوبا ".
وقد أحسن من قال:
من لم يذق طعم المذلة ساعة ... قطع الزمان بأسره مذلولا
(1) .
ونقل الهذلي عن أبي عبيد قال: اختلفت إلى الحجاج بن محمد أربع سنين وكان أعور فما رفعت عيني قط إليه لأعلم خبر عينيه حتى أخبرني رجل من أصحابنا فقلت له: ومن أعلمك بهذا؟ قال: نظرت إليه، فخفت أن لا يبارك له في علمه (2) .
قال ابن الجزري: " وينبغي أن لا يقرأ على الشيخ في حال شغل قلب الشيخ وملله، وغمه وجوعه وعطشه ونعاسه، وقلقه ونحو ذلك مما يشق على الشيخ أو يمنعه من كمال حضور القلب، وأن يحرص كل الحرص على أن يقرأ على الشيخ أولا فإنه أفود له وأسهل على الشيخ، وإذا أراد القراءة ينبغي له أن يستاك بعود من أراك فإنه أبقى للفصاحة وأنقى للنكهة، وينبغي أن يفرد القراءات كلها فإن أراد الجمع فلا بد من حفظ كتاب جامع في القراءات، وعليه أن
__________
(1) التبيان: 39.
(2) الكامل: 6.(70/349)
يحفظ كتابا في الرسم وليعلم حقيقة التجويد ومخارج الحروف وصفاتها وما يتعلق بها علما وعملا (1) .
قال النووي: " ومما يجب عليه وتتأكد الوصية به أن لا يحسد أحدا من رفقته أو غيرهم على فضيلة رزقه الله الكريم إياها، وأن لا يعجب بنفسه بما خصه الله (2) .
وقد ذكر العلماء آدابا كثيرة يجب أن يتصف بها القارئ خاصة وطالب العلم عامة أكتفي بما ذكرته منها فهنيئا لمقرئ القرآن وقارئه بما حباهم ربهم من عالي الجنان، والمغفرة والرضوان، وتثقيل الميزان بالحسنات يوم العرض على الملك الديان.
سئل ذو النون المصري عن حملة القرآن فقال: هم الذين مطرت عليهم سحائب الأشجان، ونصبوا ركبهم والأبدان، وتسربلوا بالخوف والأحزان، وشربوا بكأس اليقين، وراضوا أنفسهم رياضة المتقين، كحلوا أبصارهم بالسهر، وغضوها عن النظر، فقاموا ليلهم أرقا، وتبادرت دموعهم فرقا حتى ضنيت منهم الأبدان، وتغيرت منهم الألوان، صحبوا القرآن بأبدان ناحلة، وشفاه ذابلة، ودموع وابلة، وزفرات قاتلة، فحال بينهم وبين نعيم المتنعمين،
__________
(1) منجد المقرئين: 12.
(2) التبيان: 41.(70/350)
وشغلهم عن مطامع الراغبين، فاضت عبراتهم من وعيده، وشابت ذوائبهم من تحذيره، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (1) .
فائدة: قال الخطيب البغدادي: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعد عن الملهيات، وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق؛ لأنها تمنع خلو القلب (2) .
__________
(1) لطائف الإشارات: 1 \ 11.
(2) شرح طيبة النشر للنويري: 1 \ 23.(70/351)
الفصل الثاني: طرق الأخذ والتحمل عند القراء وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: العرض على الشيخ
المبحث الثاني: السماع من لفظ الشيخ
المبحث الثالث: الإجازة من الشيخ
المبحث الرابع: الوجادة
المراد بطرق الأخذ والتحمل هنا: هو نقل القراءة عن الشيوخ الضابطين لها العارفين بأحكامها المتصفين بالصفات السالف ذكرها.(70/351)
وطرق الأخذ والتحمل تأتي على أنواع ذكر المحدثون أنها ثمانية وهي باختصار:
السماع من لفظ الشيخ
القراءة على الشيخ
الإجازة
المناولة
المكاتبة
الإعلام
الوصية
الوجادة
ولكل واحد من هذه الأقسام عند علماء الحديث مبحث خاص وأمثلة ليس هذا محل ذكرها (1) .
والذي يعني القراء من هذه الأقسام أربعة وهي: (السماع من لفظ الشيخ، والقراءة على الشيخ، والإجازة، والوجادة) وهو ما سنوضحه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول: العرض على الشيخ
وهو قراءة الطالب على الشيخ، وعرض القارئ على المقرئ.
__________
(1) يراجع: مقدمة ابن الصلاح: 62. الإلماع للقاضي عياض: 99. تقريب النووي: 2.(70/352)
وهو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من «أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على جبريل ويعارضه القرآن في كل رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه القرآن مرتين (1) » .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرض على أبي رضي الله عنه كما ثبت في الصحيح «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي إن الله يأمرني أن أعرض القرآن عليك، فقال: أسماني لك ربك؟ قال: نعم فقال أبي: بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون (2) » . قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " معنى هذا الحديث عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك العرض على أبي أن يتعلم منه القراءة ويتثبت فيها، وليكون عرض القرآن سنة، وليس هذا على أن يستذكر النبي صلى الله عليه وسلم منه شيئا بذلك العرض " (3) «وعرض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على رسول الله صلى
__________
(1) فتح الباري: 1 \ 30.
(2) المصدر السابق: 7 \ 126.
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد: 359.(70/353)
الله عليه وسلم حينما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ من أول سورة النساء فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه من أول السورة حتى بلغ قوله تعالى:.
قال: حسبك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (2) » .
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب أحدا منا، وقرأت عليه قراءة سفرتها» (3) . أي سورة سورة. وعرض آخرون من الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم الذهبي في طبقاته فقال (4) :
الطبقة الأولى الذين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 - عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ت 35 هـ) .
2 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ت 40 هـ) .
__________
(1) فتح الباري: 8 \ 250، صحيح مسلم بشرح النووي: 6 \ 87.
(2) سورة النساء الآية 41 (1) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(3) النهاية في غريب الحديث: 2 \ 372.
(4) طبقات القراء 1 \ 5.(70/354)
3 - أبي بن كعب رضي الله عنه: (ت 22هـ) .
4 - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ت 32هـ) .
5 - زيد بن ثابت رضي الله عنه: (ت 45هـ) .
6 - أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ت 44هـ) .
7 - أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه: (ت 32هـ) .
فالعرض على الشيوخ هو المقدم عند القراء، وإنما كان مقدما عندهم؛ لأنه يلاحظ فيه كيفية الأداء من تجويد الحروف، فليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته وبتقديم العرض على السماع أخذ بعض العلماء والمحدثين قال مالك رحمة الله تعالى: (قراءتك علي أصح من قراءتي عليك) (1) .
وقال ابن فارس (2) : (السامع أربط جأشا وأوعى قلبا) (3) . وقال موسى بن داود: (القراءة أثبت من الحديث، وذلك أنك إذا قرأت علي شغلت نفسي بالإنصات لك وإذا حدثتك غفلت عنك) (4) .
__________
(1) الإلماع للقاضي عياض: 70، فتح المغيث: 2 \ 28.
(2) أحمد بن فارس بن زكريا القزويني من أئمة اللغة، توفي سنة: (395هـ) ، وفيات الأعيان: 1 \ 132.
(3) لطائف الإشارات: 181.
(4) الإلماع: 70، المحدث الفاصل: 96، الكفاية: 278.(70/355)
ومن هنا رجح وجه العرض على الشيخ على وجه السماع منه، لأن الشيخ لو غلط في القراءة وهيئتها لم يتهيأ للطالب الرد عليه، بخلاف ما لو غلط الطالب فإن الشيخ يرد عليه (1) . وإلى ما في العرض من تمام ضبط وإتقان وعناية نبه أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: " وإنما نرى القراء عرضوا القراءة على أهل المعرفة بها ثم تمسكوا بما علموا منها مخافة أن يزيغوا عما بين اللوحين بزيادة أو نقصان) (2) .
وبالعرض على الشيوخ أخذ الصحابة كما تقدم والتابعون وتابعوهم ومن بعدهم وإلى يومنا هذا منهم على سبيل المثال لا الحصر.
1 - رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي من كبار التابعين (ت 90هـ) أخذ القرآن عرضا عن أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن عباس، رضي الله عنهم، أخبر عن نفسه أنه قرأ القرآن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاث مرات وقيل أربع مرات (3) .
2 - مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي أحد الأعلام من التابعين
__________
(1) علوم الحديث لأبي شهبة: 14.
(2) فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم: 361.
(3) طبقات ابن سعد: 7 \ 113، طبقات القراء: 1 \ 37، غاية النهاية: 1 \ 285.(70/356)
والأئمة المفسرين (ت 103هـ) . قرأ على عبد الله بن السائب وقرأ على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بضعا وعشرين ختمة، ويقال ثلاثين عرضة ومن جملتها ثلاث سأله عن كل آية فيم كانت (1) .
3 - عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى بن عبد الصمد أبو موسى الملقب قالون قارئ المدينة ونحويها: (ت: 220هـ) ، قال عن نفسه: قرأت على نافع قراءته غير مرة. وقال النقاش: قيل لقالون كم قرأت على نافع؟ قال: ما لا أحصيه كثرة.
وقال قالون: قال لي نافع: كم تقرأ علي اجلس إلى اصطوانة حتى أرسل إليك من يقرأ (2) .
4 - يوسف بن عمر بن يسار ويقال سيار أبو يعقوب المدني المعروف بالأزرق: (ت: 240هـ) . أخذ القراءة عرضا وسماعا عن ورش وهو الذي خلفه في القراءة والإقراء بمصر.
قال عن نفسه: كنت نازلا مع ورش في الدار فقرأت عليه عشرين ختمة من حدر (3) وتحقيق (4) ، فأما التحقيق فكنت أقرأ عليه
__________
(1) طبقات القراء ك 1 \ 42، طبقات ابن سعد: 5 \ 466، غاية النهاية: 2 \ 41.
(2) طبقات القراء: 1 \ 174، غاية النهاية: 1 \ 615، البداية والنهاية: 10 \ 283.
(3) هو الإسراع في القراءة مع المحافظة على قواعد التجويد وأحكامه.
(4) هو القراءة بتؤدة مع تدبر المعاني ومراعاة أحكام التجويد وقواعده.(70/357)
في الدار التي كنا نسكنها في مسجد عبد الله، وأما الحدر فكنت أقرأ عليه إذا رابطت معه بالإسكندرية (1) .
5 - محمد بن غالب أبو جعفر الأنماطي البغدادي المقرئ (ت: 254هـ) ، أخذ القراءة عرضا عن شجاع عن أبي عمرو البصري قرأ عليه عشر ختمات ثلاثا بالإدغام وسبعا بالإظهار (2) .
6 - إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع بن أبي بكر أبو محمد الخزاعي المكي (ت: 308هـ) ، قال المطوعي سمعنا الخزاعي يقول: قرأت على ابن مفلح سبعا وعشرين ختمة، وقرأت على البزي ثلاثين ختمة (3) .
7 - محمد بن هارون بن نافع بن قريش بن سلامة أبو بكر الحنفي البغدادي المعروف بالتمار المتوفى بعد سنة (310هـ) ، أخذ القراءة عن رويس أخبر أنه قرأ على رويس أربعا وعشرين ختمة، وثلاثا وعشرين ختمة أخرى متقطعات (4) .
8 - أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي الحافظ أبو بكر البغدادي: (ت324هـ) ، قرأ على عبد الرحمن بن عبدوس عشرين.
__________
(1) طبقات القراء: 1 \ 209، غاية النهاية: 2 \ 402.
(2) طبقات القراء: 1 \ 256، غاية النهاية: 2 \ 226.
(3) طبقات القراء: 1 \ 271، غاية النهاية: 1 \ 156.
(4) طبقات القراء: 1 \ 331، غاية النهاية: 2 \ 271.(70/358)
ختمة (1) . 9 - محمد بن الحسن بن يونس بن كثير أبو العباس الهذلي الكوفي (ت: 332هـ) مقرئ مشهور ضابط قرأ على علي بن الحسن بن عبد الرحمن التميمي، قال: ومنه تعلمت القراءة حرفا حرفا حتى السجدات العزائم وحتى فاتحة الكتاب وأخذت القرآن جميعه من لفظه وعرضت عليه بعد أن ختمت ثلاث عشرة مرة كل عرضه من أوله إلى آخره (2) .
10 - حمدان بن عون بن حكيم بن سعيد أبو جعفر الخولاني المصري: (ت: 340هـ) ، قرأ على أحمد بن هلال ثلاثمائة ختمة ثم ذهب إلى إسماعيل النحاس فقال: هذا تلميذي وقد قرأ علي وجود فخذ عليه فأخذ علي وقرأت عليه ختمتين (3) .
11 - الحسن بن داود بن الحسن بن عون بن منذر بن صبيح أبو علي النقار المتوفى قبيل سنة: (350هـ) عرض على القاسم بن أحمد بن يوسف أبو محمد الخياط القملي قال النقار: قرأت عليه أربعين ختمة (4) .
__________
(1) طبقات القراء: 1 \ 333، غاية النهاية: 1 \ 139، السبعة لابن مجاهد: 88.
(2) طبقات القراء: 1 \ 360، غاية النهاية: 2 \ 125.
(3) طبقات القراء: 1 \ 373، غاية النهاية: 1 \ 260.
(4) طبقات القراء: 1 \ 379، غاية النهاية: 1 \ 212.(70/359)
12 - علي بن عبد الغني أبو الحسن الفهري القيرواني الحصري الفرير (ت: 468هـ) قرأ القراءات السبع على شيخه أبي بكر القصري تسعين ختمة كلما ختم ختمة قرأ غيرها حتى أكمل في مدة عشر سنين.
وقد أشار إلى ذلك في قصيدته الحصرية (1) حيث قال:
وأذكر أشياخي الذين قرأتها ... عليهم فأبدأ بالإمام أبي بكر
قرأت عليه السبع تسعين ختمة ... بدأت ابن عشر ثم أكملت في عشر
13 - محمد بن يوسف بن علي بن حيان أثير الدين أبو حيان الأندلسي (745هـ) قرأ السبع ببلده على عبد الحق بن علي بن عبد الله في نحو من عشرين ختمة إفرادا وجمعا (2) .
وهكذا فإن من طالع كتب تراجم القراء يرى أن منهج العرض هو منهج الطلبة النابهين والقراء المنتهين فلا يعدلون به عن السماع من الشيخ إلا عند تعذره كأن يكون الشيخ على سفر أو ازدحم عليه الطلبة.
كما وقع من الحافظ محمد بن الجزري لما قدم القاهرة وازدحم عليه الخلق لم يتسع وقته لقراءة الجميع والسماع من كل منهم،
__________
(1) طبقات القراء: 1 \ 550، لطائف الإشارات: 335.
(2) طبقات القراء: 3 \ 1264، غاية النهاية: 1 \ 359، 2 \ 285.(70/360)
فكان يقرأ عليهم الآية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته عليهم (1) .
ولا يخفى على ابن الجزري رحمه الله تعالى أنه في حال إعادتهم بصوت واحد ما قرئ عليهم لا يمكنه إصلاح غلط من غلط منهم وتقويم لسان من أخطأ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (2) .
فليس إدراك ذلك إلا لله سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه الأصوات مهما كثرت ولا تلتبس عليه اللغات وإن تباينت فسبحان من وسع سمعه كل شيء.
فلعله بفعله هذا قصد أمرين: - أولهما: أن يحصل للجميع السماع من لفظه وهو أحد مراتب الأخذ والتحمل. فلا تفوت من حضر هذه الميزة فيعد من تلاميذ الشيخ الذين سمعوا منه وإن لم يكن مجيدا ضابطا للفظ الشيخ.
ثانيهما: أن من كان من الحاضرين ضابطا متقنا واستطاع أن يعيد لفظ الشيخ كما يجب حصل له العرض المطلوب والسماع وذلك أعلى المراتب.
وصيغة الإجازة في حال الأخذ بالعرض أن يقول الشيخ أجزت
__________
(1) الإتقان: 1 \ 280.
(2) سورة الأحزاب الآية 4(70/361)
الطالب أن يقرئ بما قرأ به علي.
ويقول الطالب عند الأداء: (قرأت على فلان) (1) .
__________
(1) منجد المقرئين: 14.(70/362)
المبحث الثاني: السماع من لفظ الشيخ
وهو أن يقرأ الشيخ، والطالب يستمع وبهذه الطريق تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل.
فكان جبريل يقرأ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع فإذا فرغ جبريل أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع عرضا على جبريل.
فتحصل له مرتبتان:
مرتبة الاستماع للفظ الشيخ.
مرتبة العرض والقراءة على الشيخ.
وطريق كهذا هو في أعلى مراتب الأخذ والتحمل قال تعالى مبينا كيفية تلقي نبيه للقرآن: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (1) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (2) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) .
وقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (4) .
__________
(1) سورة القيامة الآية 17
(2) سورة القيامة الآية 18
(3) سورة القيامة الآية 19
(4) سورة طه الآية 114(70/362)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما «في قوله تعالى: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى:
قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، قال: فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن نقرأه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه (6) » .
وكان صلى الله عليه وسلم يتلو ما نزل عليه على أصحابه ويعلمهم إياه قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (7) .
وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (8) .
__________
(1) فتح الباري: 1 \ 29.
(2) سورة القيامة الآية 16 (1) {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
(3) سورة القيامة الآية 16 (2) {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
(4) سورة القيامة الآية 17 (3) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
(5) سورة القيامة الآية 18 (4) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}
(6) سورة القيامة الآية 19 (5) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
(7) سورة آل عمران الآية 164
(8) سورة الجمعة الآية 2(70/363)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن (1) » .
وحفظ عبد الله بن مسعود بضعا وسبعين سورة من تلقين رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم والقراءة عليهم فقال: «والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة (2) » .
وبهذه الطريقة أيضا تلقى بعض التابعين حيث كان يلقنهم شيوخهم القرآن عشر آيات أو خمس آيات بل قد يلقنوهم آية آية.
قال السخاوي: كان القراء في الأمر الأول يقرأ المعلم على المتعلم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتلو كتاب الله عز وجل على الناس كما أمره الله عز وجل {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) وكانوا يلقنونه من يتعلمه خمسا خمسا، ويقولون: إن جبريل عليه السلام كذلك كان يلقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو العالية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «تعلموا القرآن خمسا خمسا، فإن جبريل نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم خمسا خمسا» .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 4 \ 118.
(2) فتح الباري: 9 \ 64.
(3) سورة القيامة الآية 18(70/364)
ثم ساق بسنده عن يونس بن أبي رجاء قال: كان أبو موسى يعلمنا القرآن خمس آيات خمس آيات.
وعن أبي بكر بن عياش رحمه الله تعالى قال: لما أتت لي إحدى وعشرون سنة أتيت عاصما فأخذت عنه القرآن خمسا خمسا، قال: وأخبرني أنه أخذ عن زر ثلاثا ثلاثا، قال: فأخبرني أنه أخذه على ابن مسعود رضي الله عنه آية آية، قال: فكنت إذا فرغت منها يقول لي: خذها إليك فهي خير مما طلعت عليه الشمس، ولهي خير من الدنيا وما فيها (1) .
قلت: لا تعارض بين ما اختاره القراء من تقديم طريقة العرض على الشيخ وبين صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه وإقرائهم ما نزل عليه وتلقي بعض التابعين عن طريق التلقين والسماع من الشيخ.
فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء ومحاكاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما سمعوا منه؛ لأنهم هم الذين نزل القرآن بلغتهم (2) .
__________
(1) جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي: 2 \ 446.
(2) التحبير في علم التفسير: 157، لطائف الإشارات: 1 \ 181.(70/365)
وكانوا يعيبون اللحن ويحذرون منه فقد روى الحاكم في مستدركه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قرأ فلحن قال صلى الله عليه وسلم: أرشدوا أخاكم (1) » .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحذر القراء منه، فعن سليمان بن يسار: انتهى عمر إلى قوم يقرئ بعضهم بعضا فلما رأوا عمر سكتوا فقال: ما كنتم تراجعون، فقلنا: كنا نقرئ بعضنا بعضا فقال: اقرءوا ولا تلحنوا (2) .
وكان أبو جعفر القارئ يقول: من فقه الرجل عرفانه اللحن (3) .
فمن كان هذا حاله يكفيه السماع من لفظ الشيخ لقدرته على الأداء بلا مشقة ولا عناء، فإن أضاف إلى ذلك العرض كان ذلك في أعلى المراتب وأحسنها.
فلما فسد اللسان وغلبت العجمة، وتعذر مع التلقين أن يأتي الطالب للقراءة بالكيفية والهيئة التي سمع من الشيخ إلا بعد دربة ومران وجهد رجح علماء القراءات العرض على السماع.
__________
(1) المستدرك: 2 \ 439، قال الحاكم: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 10 \ 459، شعب الإيمان: 5 \ 242، إيضاح الوقف والابتداء: 1 \ 19.
(3) المصنف لابن أبي شيبة: 10 \ 459.(70/366)
فما كل من يتلو الكتاب يقيمه ... وما كل من في الناس يقرئهم مقرى (1)
ولم يكن القراء بعد فساد اللسان يلجأون إلي طريقة القراءة علي الطلاب والاكتفاء بها دون العرض والسماع منهم إلا حين يزدحم عليهم الطلاب فلا يتمكنون من سماع كل على حدة، ومن أولئك الإمام الكسائي رحمه الله تعالى: قال ابن الجزري عنه: كان أوحد الناس في القرآن فكانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم فيجمعهم ويجلس علي كرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره، وهم يستمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادئ. (2) .
وقال الطيب بن إسماعيل: سمعت الكسائي وقد قرأ علينا ختمتين ما من حرف إلا سألناه عنه (3) .
وقد تقدم أن ابن الجزري لما قدم القاهرة وازدحم عليه الخلق لم يتسع وقته لقراءة الجميع عليه وسماعه من كل منهم فكان يقرأ عليهم الآية ثم يعيدونها كلهم بصوت واحد. وهذه طائفة ممن روي عنهم
__________
(1) من قصيدة للخافاني: انظر قصيدتين في تجويد القرآن: 18.
(2) غاية النهاية: 1 \ 538.
(3) المصدر السابق: 1 \ 343.(70/367)
أنهم أخذوا بالسماع دون العرض منهم:
إبراهيم بن علي بن إبراهيم العمري أبو إسحاق، أخذ القراءة سماعا عن عبد العزيز بن عبد الله بن الزبير (1) .
إبراهيم بن عمر أبو إسحاق البرمكي الحنبلي، روى القراءة سماعا عن أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن بخيت، روى القراءة عنه سماعا أبو طاهر أحمد بن علي بن سوار (2) .
الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد الإمام الحافظ أبو العلاء الهمذاني العطار: (ت: 569 هـ) روى القراءة سماعا عن أحمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله (3) .
عبيد الله بن إبراهيم بن مهدي أبو القاسم العمري البغدادي (ت: 307 هـ) مقرئ مصدر مشهور حاذق، روى قراءة أبي عمرو البصري سماعا عن محمد بن شجاع البلخي عن اليزيدي (4) .
موسى بن مسعود أبو حذيفة النهدي البصري (ت: 220 هـ) ثقة مأمون قال الداني: روى الحروف سماعا من غير عرض عن شبل بن عباد عن ابن كثير. (5) . وغير هؤلاء كثير.
__________
(1) المصدر السابق: 1 \ 20.
(2) المصدر السابق: 1 \ 20.
(3) معرفة القراء الكبار: 2 \ 824.، غاية النهاية: 1 \ 204، 45.
(4) معرفة القراء الكبار: 1 \ 298، غاية النهاية: 1 \ 484.
(5) غاية النهاية: 2 \ 323.(70/368)
وصفة الإجازة في هذا النوع أن يقول الشيخ أجزت الطالب أن يقرئ بما سمع مني ويقول الطالب في الأداء سمعت من فلان.
وقد يجمع بعض التلاميذ بين العرض والسماع في ختمة واحدة كما حصل من: عبيد الله بن سعد بن إبراهيم أبو الفضل الزهري البغدادي: (ت: 260هـ)
روى قراءة نافع عن عمه يعقوب بن إبراهيم عن نافع نصف القرآن تلاوة ونصفه سماعا (1) .
فمن تلقى عن الشيوخ بهذين النوعين وهما العرض، والسماع جاز له أن يقرئ وإلا فلا.
قال ابن الجزري: ولا يجوز له أن يقرئ إلا بما سمع أو قرأ فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها فلا خلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بشرط أن يكون ذاكرا كيفية تلاوته به حال تلقيه من شيخه مستصحبا ذلك (2) .
__________
(1) غاية النهاية: 1 \ 487.
(2) منجد المقرئين: 4، 5.(70/369)
المبحث الثالث: الإجازة
وهي مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية والحرث يقال: استجزته فأجازني إذا سقاك ماء لماشيتك أو أرضك، كذلك طالب(70/369)
العلم يستجيز العالم علمه فيجيزه إياه (1) . فالطالب مستجيز والعالم مجيز.
وهي في الاصطلاح: إذن الشيخ للطالب في الرواية عنه مروياته التي لم يقرأها ولم يسمعها منه. وهي أنزل من طريقي العرض والسماع بلا خلاف.
وفي جواز الرواية بها خلاف بين العلماء فأبطلها جماعة من المحدثين، والفقهاء، وأصحاب الأصول وهو أحد الروايتين عن الشافعي وبه قطع من الشافعيين أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي (ت: 483هـ) والقاضيان الحسين بن محمد المروذي (ت: 462هـ)
__________
(1) مجمل اللغة لابن فارس: 1 \ 202 مادة: (جوز) .(70/370)
والماوردي (ت: 450هـ) وبه قال من المحدثين إبراهيم الحربي (ت: 285هـ) وأبو الشيخ الأصبهاني (ت: 369هـ) وعنهم أن من قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه قال: أجزت لك أن تكذب علي، لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع (1) . وأجازها بعض أهل الحديث شريطة أن يكون المستجيز من أهل العلم وعليه سمته حتى لا يوضع العلم إلا عند أهله (2) . قال القسطلاني: " والذي استقر عليه عمل أهل الحديث قاطبة العمل بها حتى صار إجماعا وأحيا الله بها كثيرا من دواوين الحديث وغيرها وقد قال الإمام أحمد: لو بطلت لضاع العلم " (3) .
وكما اختلف المحدثون في جواز الرواية بالإجازة المجردة عن القراءة والسماع اختلف القراء أيضا.
قال القسطلاني بعد تقريره العمل بها عند المحدثين وهل يلتحق بذلك الإجازة بالقراءات؟ الظاهر نعم (4) .
قال ابن الجزري: جوز العمل بها الجعبري مطلقا (5) .
__________
(1) الكفاية: 314، التبصرة والتذكرة: 2 \ 62، تدريب الراوي: 2 \ 30.
(2) الكفاية: 317، المحدث الفاصل: فقرة: 531.
(3) لطائف الإشارات: 1 \ 181.
(4) لطائف الإشارات: 1 \ 181.
(5) منجد المقرئين: 6.(70/371)
قال: وعندي أنه لا يخلو إما أن يكون تلا بذلك أو سمعه فأراد أن يعلي السند أو يكثر الطرق فجعلها متابعة. أولا، فإن كان فجائز حسن فعل ذلك العلامة أبو حيان (ت: 745هـ) في كتابه التجريد وغيره عن أبي الحسن بن البخاري (ت: 690 هـ) وغير متابعة (1) .
قال القسطلاني: وفعل ذلك أبو العلاء الهمذاني (ت: 569 هـ) كان يذكر سنده بالتلاوة ثم يردفه بالإجازة قصدا للعلو أو المتابعة والإستشهاد.
وكتاب سوق العروس لأبي معشر الطبري شيخ مكة (ت478 هـ) مشحون بإجازات أبي علي الأهوازي له (ت: 446 هـ) وقد قرأ بمضمنه ورواه الخلف عنه من غير نكير وأبلغ منه رواية الكمال الضرير (ت: 661 هـ) شيخ القراء بالديار المصرية القراءات من المستنير لابن سوار (ت: 496 هـ) عن الحافظ السلفي (ت: 576 هـ) بالإجازة العامة وتلقاه الناس خلفا عن سلف (2) .
__________
(1) منجد المقرئين: 6.
(2) لطائف الإشارات: 1 \ 182.(70/372)
ومنعها من القراء: الحافظ أبو العلاء الهمذاني وجعله من أكبر الكبائر، قال القسطلاني: كأنه أراد بذلك المنع إن لم يكن الشيخ أهلا، لأن في القراءات أمورا لا تحكمها إلا المشافهة (1) .
قلت: ما ذهب إليه الحافظ ابن الجزري من تقييد جواز الرواية بها بكمال الأهلية هو الصواب، فإن من أحكم القراءة، وأتقن الرواية، وضبط الخلاف، وعرف عنه التمكن في ذلك إن طلب الإجازة ممن لم يقرأ عليه أو قرأ عليه البعض ولم يكمل ليعلو إسناده أو لتكثر طرقه فله أن يروي بها متى أجيز.
وتقدم قول القسطلاني إن أبا العلاء الهمذاني كان ممن يفعل ذلك قصدا للعلو وتكثير الطرق.
وممن كان يطلب الإجازة لهذا الغرض الحافظ ابن الجزري فتارة يطلبها لنفسه، وتارة لأبنائه، فكان شيوخ الإقراء يجيبونه إلى ما طلب لعلمهم بكمال أهليته وسعة روايته وضبطه وإتقانه وإمامته في هذا الفن وستأتي أمثلة ذلك.
ولما قدم العلامة المقرئ أبو العباس أحمد بن شعبان بن الغزى القاهرة سنة: (866هـ) قرأ على مشايخ العصر إذ ذلك بعض القراءات السبعة، واستجازهم فأجابوه لذلك، وكتبوا خطهم به على
__________
(1) لطائف الإشارات: 1 \ 182.(70/373)
العادة لما تحققوا من أهليته وتحقيقه وإتقانه وضبطه (1) .
وأما من لم يكن متقنا للقراءة، ضابطا لها متلقيا لها عارفا بأحكامها ومواضع الخلاف منها مميزا لرواياتها وطرقها فلا تجوز في حقه هذه الإجازة، ولا يجوز له أن يروى بها القراءات، وإن أجاز الرواية بها بعض علماء الحديث. كما تقدم.
قال النووي رحمه الله تعالى: (ت: 676هـ) إنما يستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز والمجاز له من أهل العلم، لأنها توسع يحتاج إليها أهل العلم وشرط بعضهم ذلك فيها، وحكي اشتراطه عن مالك رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: (ت: 463هـ) الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة وفي شيء معين لا يشكل إسناده (2) .
قال السخاوي رحمه الله تعالى: (ت: 902هـ) وعن أبي الوليد الباجي: (ت: 494هـ) قال: الاستجازة إما أن تكون للعمل فيجب على المجاز له أن يكون من أهل العلم والفهم باللسان، وإلا لم يحل له الأخذ بها فربما كان في مسألته لو وجه لم يعلم به المجيز، ولو علمه لم يكن جوابه ما أجاب به، وإما يكون للرواية خاصة
__________
(1) لطائف الإشارات: 1 \ 182.
(2) الإرشاد: 1 \ 390.(70/374)
فيجب أن يكون عارفا بالنقل والوقوف على ألفاظ ما أجيز له ليسلم من التصحيف والتحريف، فمن لم يكن عالما بشيء من ذلك وإنما يريد علو الإسناد بها ففي نقله بها ضعف (1) .
وصفتها:
أن يقول الشيخ المجيز: أجزت فلانا مسموعاتي أو مروياتي متعديا بغير حرف جر وبدون ذكر لفظ الرواية، ومن جعل الإجازة إذنا وإباحة وهو المعروف يقول: أجزت له رواية مسموعاتي (2) .
ولقد بالغ القراء في الحيطة في الأخذ بالإجازة المجردة عن القراءة والسماع إلا لمن كملت أهليته وعرف بالضبط والإتقان حفاظا على كتاب الله أن يدخل فيه ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه.
وهذه طائفة من أهل الضبط والإتقان ممن عرف عنهم الأخذ بالإجازة المجردة عن القراءة والسماع ولم يعب عليهم لكمال أهليتهم منهم:
1 - إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم أبو إسحاق الإسكندري: (ت: 780هـ) ، قال عنه ابن الجزري: روى القراءة لنا إجازة من كتاب الكامل عن عمر بن غدير القواس عن
__________
(1) فتح المغيث: 2 \ 96.
(2) مقدمة ابن الصلاح: 72، التبصرة والتذكرة: 2 \ 87.(70/375)
الكندي (1) .
2 - إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل بن أبي العباس أبو محمد الربعي الجعبري: (ت: 832هـ) ، روى القراءات بالإجازة عن الشريف الداعي، وروى الشاطبية بالإجازة عن عبد الله بن إبراهيم ابن محمود الجزري (2) .
3 - أحمد بن إبراهيم بن داود بن محمد المنبجي المعروف بابن الطحان: (ت: 782هـ) ، أحد شيوخ ابن الجزري، قال عنه: قرأت عليه نحو ربع القرآن لابن عامر والكسائي ثم جمعت عليه الفاتحة وأوائل البقرة بالعشر، واستأذنته في الإجازة فتفضل وأجاز ولم يكن له بذلك عادة (3) .
4 - أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزازة بن بدر أبو العباس الكفري الحنفي: (ت: 776هـ) ، أحد شيوخ ابن الجزري، قال عنه روى لنا القراءات إجازة عن أحمد بن هبة الله بن عساكر، وأحمد بن إبراهيم الفزازي (4) .
5 - أحمد بن عبد العزيز بن يوسف بن أبي العز بن يعقوب بن
__________
(1) غاية النهاية: 1 \ 5.
(2) المصدر السابق: 1 \ 21.
(3) غاية النهاية: 1 \ 33.
(4) المصدر السابق: 1 \ 48.(70/376)
يغمور الحراني الأصل الشهير بابن المرحل: (ت: 788هـ) أجازه يحيى بن الصواف، والغرافي وغيرهما، قال ابن الجزري: وكتب إلي بالإجازة من حلب مرات (1) .
6 - أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان أبو عبد الله الخولاني: (ت: 508هـ) روى القراءات بالإجازة عن الداني، والطلمنكي، روى عنه محمد بن سعيد بن زرقون بالإجازة من حلب مرات (2) .
7 - إسحاق بن إبراهيم بن عامر أبو إبراهيم الأندلسي الهمذاني الطوسي: (ت: 650هـ) ، انفرد بالإجازة عن محمد بن عبد الله بن خليل القيسي، كتب له سنة موته (570 هـ) أجاز له غير واحد (3) .
8 - إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو الوليد الأزدي الغرناطي العطار: (ت: 668هـ) ، روى عنه كتاب التبصرة وغيره بالإجازة عبد الواحد بن محمد بن أبي السداد (4) .
9 - عبد النصير بن علي بن يحيى بن إسماعيل بن مخلوف بن نزار أبو محمد المريوطي الهمذاني (ت: بعد: 680هـ) روى القراءات
__________
(1) المصدر السابق: 1 \ 69.
(2) المصدر السابق: 1 \ 121.
(3) معرفة القراء الكبار: 3 \ 1104، غاية النهاية: 1 \ 155.
(4) معرفة القراء الكبار: 3 \ 1131.(70/377)
بالإجازة عن أبي اليمن الكندي (1) .
10 - علي بن شجاع بن سالم بن علي بن موسى بن حسان أبو العباس الضرير صهر الشاطبي: (-: 661هـ) ، روى كتاب المستنير بالإجازة العامة عن السلفي عن المؤلف - يعني ابن سوار (2) .
11 - محمد بن عبد الله الحسن بن موسى أبو عبد الله الشيرازي روى بالإجازة عن أبي بكر النقاش (3) .
12 - محمد علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر أبو بكر البغدادي المعروف بالخياط: (ت: 467هـ) ، روى عنه القراءات بالإجازة أبو الكرم الشهرزوري (4) .
13 - محمد بن محمد بن عرفة بن حماد أبو عبد الله الورغمي التونسي: (ت: 803هـ) ، قال عنه ابن الجزري: قدم مصر حاجا فحججنا جميعا بالحرم الشريف فاستجزته تجاه الكعبة المعظمة فأجازني وأولادي جميعا (5) .
14 - محمد بن يوسف بن علي بن حيان أثير الدين أبو حيان
__________
(1) معرفة القراء الكبار: 3 \ 1175.
(2) معرفة القراء الكبار: 3 \ 1136، غاية النهاية: 1 \ 545.
(3) المصدر السابق: 2 \ 178.
(4) معرفة القراء الكبار: 2 \ 647، غاية النهاية: 2 \ 208.
(5) المصدر السابق: 2 \ 243.(70/378)
الأندلسي (ت: 745هـ) ، روى القراءات بالإجازة عن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الكندي (1) .
وغير من ذكرت من رواة الإجازة العامة في القراءات كثير يطول حصرهم وتعدادهم.
وعلى من حصل الإجازة العامة من غير قراءة ولا سماع، وأذن له الشيوخ فيها لكمال أهليته وإتقانه وضبطه أن يتقي الله ويراعي عند أدائها بيان كيفية حصوله عليها حتى يسلم من التدليس.
وقد اقتصر علماء القراءات على هذه الأنواع الثلاثة من طرق الأخذ والتحمل دون غيرها مما ذكره علماء الحديث وإن وجد فلا اعتداد به ولا اعتبار له عندهم ولم يأخذوا به.
__________
(1) معرفة القراء الكبار: 3 \ 1264، غاية النهاية: 2 \ 285.(70/379)
المبحث الرابع: الوجادة
وهي بكسر الواو مصدر مولد غير مسموع في لغة العرب ويعبر بها العلماء عما أخذ من العلم من صحف من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.
وكيفية رواية ما وقع في يده أن يقول " وجدت " ولا يصح أن يقول فيما وجده قرأت، أو سمعت، أو حدثنا، أو أخبرنا، لما فيه من التدليس.(70/379)
ومن أمثلتها عند القراء ما ذكره أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم المالكي البغدادي (ت: 438هـ) في كتابه الروضة في القراءات الإحدى عشرة.
قال: وذكر أبو طاهر بن أبي هاشم. في كتابه المقلب بالبيان، قال: فإن أبا عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيدي. حدثني قال لي: وجدت في كتاب أبي. كتابا رأيناه وكثير مما فيه يحدث به عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أبي محمد اليزيدي. عن أبيه. عن أبي عمرو البصري (1) .
__________
(1) الروضة في القراءات الإحدى عشرة - مخطوط - لوحة: 13 \ م، غاية النهاية: 1 \ 116، 2 \ 177.(70/380)
ومن ذلك أيضا ما رواه محمد بن الجزري عن أحمد بن محمد بن سعيد أبو سعيد الأذني من أنه روى القراءة بالوجادة من كتاب محمد بن عبد الله بن جعفر الحربي.
أقول: والوجادة وإن صح الأخذ بها عند بعض علماء الحديث بشروطها فإنه لا يصح الأخذ بها ولا يعول عليها عند علماء القراءات لأنها من باب المنقطع وأسانيد القراءات المعتبرة لا بد فيها من توفر صحة السند واتصاله وتواتره.(70/381)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، فقد وفق سبحانه وتعالى إلى اكتمال هذا البحث الذي يخلص منه قارئه إلى ما يأتي:
أولا: أن خير ما تقضى فيه الأوقات وتفنى فيه الأعمار هو خدمة كتاب الله تعالى، فإن من توفيق الله للعبد أن يشغله بطاعته وذكره، وخير الذكر كتاب الله عز وجل {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1)
فعجائبه لا تنتهي ومباحثه لا تنقضي يفتح الله بها على من شاء من عباده في كل وقت وحين.
ثانيا: اهتمام السلف الصالح بتعلم كتاب الله منذ نعومة
__________
(1) سورة الرعد الآية 28(70/381)
الأظفار، وختم كثير منهم القرآن قبل سن البلوغ وتقديمهم تعليم القرآن على غيره من العلوم. ثالثا: الوقوف على بعض الصفات والأخلاق التي حث السلف على وجوب توفرها في المعلم ومعلم القرآن على وجه الخصوص مما يحتاجه كثير من معلمي زماننا هذا.
رابعا: الوقوف على بعض الصفات والأخلاق التي يجب توفرها في طالب العلم وقارئ القرآن على وجه الخصوص.
خامسا: بيان كيفيات الأخذ والسماع عن الشيوخ، وما يؤخذ به من تلك الكيفيات وما لا يؤخذ، وصبر الشيوخ وتحملهم عناء الإقراء وعدم أخذ الأجر على ذلك ابتغاء مرضاة الله.(70/382)
حديث شريف
" قال حذيفة بن اليمان قلت: «يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر قال: نعم قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال نعم قلت: كيف قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع (1) » .
(رواه مسلم)
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(70/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1)
(سورة النساء، الآية 115)
__________
(1) سورة النساء الآية 115(71/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(71/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(71/3)
المحتويات
الافتتاحية:
خطبة عرفة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى:
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 37
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 49
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 61
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 79(71/4)
البحوث:
سجدات القرآن أحكام وتوجيهات لفضيلة الدكتور / فهد بن عبد العزيز الفاضل 93
تحصين الشباب من الغزو الفكري لمعالي الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 195
الاستقامة في التربية الإسلامية وأثرها في تحصين الشباب لفضيلة الدكتور / عيد بن حجيج الفايدي 255
الوقاية الصحية في الإسلام (دراسة حديثية) لفضيلة الدكتور / علي بن جابر وادع الثبيتي 311(71/5)
صفحة فارغة(71/6)
خطبة عرفة (1)
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنا قد رأينا في فاتحة هذا العدد المبارك أن تكون في خطبة عرفة لعام أربع وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ حتى تكون الفائدة منها أعم، نسأل الله القبول.
الخطبة:
يا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (2) ، اتقوا ربكم عباد الله تقوى تستقيمون عليها إلى أن توافوه جل جلاله، فذاك عنوان الخير والهدى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) خطبة عرفة، لحج عام 1424 هـ.
(2) سورة النساء الآية 131
(3) سورة آل عمران الآية 102(71/7)
اتقوا الله في أقوالكم فلا تقولوا إلا الحق والسداد. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (1) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) ، اتقوا الله في أعمالكم. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) ، اتقوا الله في سركم ونجواكم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (4) . اتقوا الله في عباداتكم فالمتقون هم العابدون لله حقا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) . اتقوا الله في معاملاتكم فلتكن على وفق شرع الله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) . اتقوا الله في أهليكم وأولادكم فعلى الخير ربوهم، وبالتوجيه الإسلامي وجهوهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (7) . اتقوا الله في عهودكم فلا تنقضوها.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 70
(2) سورة الأحزاب الآية 71
(3) سورة الأنفال الآية 1
(4) سورة المجادلة الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة التحريم الآية 6(71/8)
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (1) .
اتقوا الله في أيمانكم فبروا بها. . {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} (2) .
اتقوا ربكم فإنه من يتق الله يجعل له مخرجا. . ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
اتقوا ربكم فإن الدار الآخرة للمتقين. . اتقوا ربكم. . فإنه من يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
أمة الإسلام يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) .
«سأل سفيان بن عبد الله الثقفي النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: " قل آمنت بالله ثم استقم (4) » أخرجه مسلم.
عبد الله: إن السعادة في الدنيا وإن النجاة في الآخرة، إنما هي بالإيمان بالله والاستقامة على طاعة الرحمن.
عبد الله عليك بالإيمان بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، تعتقد بيقين جازم أن الله هو الذي خلقك وهو الذي
__________
(1) سورة الأنفال الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 224
(3) سورة الأحقاف الآية 13
(4) صحيح مسلم الإيمان (38) ، سنن الترمذي الزهد (2410) ، سنن ابن ماجه الفتن (3972) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي الرقاق (2710) .(71/9)
أحياك ثم يميتك، وهو الذي رزقك؛ بيده الأمر مدبر الكون، لا خالق غيره ولا رب سواه.
وتؤمن بأن من هذه أفعاله فهو المستحق أن يعبد دون سواه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) .
آمن بأسماء الله وصفاته وأن لله أسماء حسنى وصفات على تثبتها له سبحانه كما أثبتها لنفسه وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم، معتقدا حقيقة معناها على ما يليق بجلال الله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
آمن بملائكة الله، وأنهم عباد مكرمون {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3) ، فتؤمن بمن علمت أسماءهم وأعمالهم على التفصيل وما لم تعلمه آمن به إجمالا.
آمن بكتب الله التي أنزلها على رسله لهداية البشر وهي حق وما فيها حق، فتؤمن بما سمى الله لنا في كتابه، تؤمن بصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى ابن مريم عليهم السلام. .
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة التحريم الآية 6(71/10)
وأن هذه الكتب لازمة الاتباع على الأقوام الذين أرسل فيهم هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وتؤمن بكتاب الله القرآن الكريم الذي أنزله الله ليكون خاتمة كتبه جل وعلا، أنزله مهيمنا على ما سواه ناسخا لها، مصدقا للحق مبطلا للباطل، سمعه جبريل عليه السلام من رب العالمين عز وجل، وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقاه الصحابة عن رسول رب العالمين، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4) محفوظ بحفظ الله له {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) الإيمان به والعمل به سبب السعادة في الدنيا والآخرة والإعراض عنه سبب الشقاء في الدنيا والآخرة. {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (6) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (7) .
آمن برسل الله عز وجل وأنهم بشر اصطفاهم الله برسالاته وأرسلهم الله ليبلغوا العباد رسالات الله ويقيموا عليهم حجة الله {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (8)
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195
(5) سورة الحجر الآية 9
(6) سورة طه الآية 123
(7) سورة طه الآية 124
(8) سورة النساء الآية 165(71/11)
متفاوتون في الفضل أولوا العزم أفضلهم، وسيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الجميع «أنا سيد ولد آدم ولا فخر (1) » ، بعثه الله إلى جميع الثقلين ورسالته باقية إلى قيام الساعة. . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3) ، لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها عنه فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين.
آمن باليوم الآخر وبما أخبر الله عنه، أو أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم من حين مفارقة الروح للجسد، حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
آمن بالقدر خيره وشره من الله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (4) ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكل شيء يجري فبتقديره وحكمته وهو القادر على كل شيء وهو الحكيم العليم.
ومن الإيمان بالله، الاستقامة على طاعة الرحمن، فتلزم فرائض الإسلام، تؤدي الصلوات الخمس كما أمرك بذلك ربك، فهي عنوان التزام الإسلام، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة حافظ
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3148) ، سنن ابن ماجه الزهد (4308) .
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة الفرقان الآية 1
(4) سورة القمر الآية 49(71/12)
عليها رحمك الله، فإنها عمود الإسلام والركن الثاني من أركانه.
وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم وصف الكفر على تاركها، «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » . أد زكاة مالك طيبة بها نفسك، وصم شهر رمضان، وحج البيت متى استطعت إلى ذلك سبيلا، تلك أركان الإسلام متى ما حافظت عليها سهل عليك ما بعدها، بر بالوالدين، صل الأرحام أحسن الجوار، مر بالمعروف وانه عن المنكر على قدر علمك وقدرتك، اصدق إخوانك، وانصح لهم واحذر الغش والخيانة، وبالجملة. . كن مسلما صالحا، و «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (2) » أخرجه مسلم، «والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم (3) » أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح.
أيها الناس: هذا دين الإسلام، دين العبادة والمعاملة، دين العقيدة والشريعة، دين شامل لخيري الدنيا والآخرة، دين صالح لكل زمان ومكان، دين جمع الله فيه الخير كله ورفع به الآصار والأغلال، دين أكمله الله وأتمه ورضيه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
مهد الله طريقه للسالكين وأغلق كل باب سواه إلى الجنة
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (10) ، صحيح مسلم الإيمان (40) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996) ، سنن أبو داود الجهاد (2481) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) ، سنن الدارمي الرقاق (2716) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (3934) ، مسند أحمد بن حنبل (6/22) .
(4) سورة المائدة الآية 3(71/13)
ورضا رب العالمين. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) .
أمة الإسلام: إن كل منتم لهذا الدين، ليسعى دائما وجاهدا في إعزازه وإعلاء شأنه، ولكن يا أخي المسلم كيف تكون خادما لدينك؟ نعم تكون خادما لدينك بعلمك وتعليمك، بدعوتك إلى الله على علم وبصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، تخدم دينك بسلوكك منهج السلف الصالح في العبادة والمعاملة، تخدم دينك باستقامتك على هذا الدين، تخدم دينك باستفادتك من مستجدات العصر فيما يكون سببا لعز دينك وأمتك، تكون خادما لدينك في كل ميادين الحياة، بطبك، بهندستك، بزراعتك، بمهنتك، نافس أعداءك الذين سخروا كل إمكانياتهم وعلومهم في الدعوة إلى باطلهم، فأنت على الحق فكن ثابتا على الحق استشعر مسئوليتك أيها المسلم واعرف موقعك في الحياة؛ لتؤدى الواجب الذي عليك.
أخي المسلم: هل يكون خادما لدينه من يطعن في الشريعة، ويخون حملة هذا الدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؟
أيكون خادما لدينه من يدل على عورات المسلمين؟ أيكون
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85(71/14)
خادما لدينه من يسعى في زعزعة أمن الأمة؟ أيكون خادما لدينه من يصم أذنيه عن سماع الحق؟ أيكون خادما لدينه من يتهم علماءه وولاته ويصفهم بالخيانة؟ أيكون خادما لدينه من يزعم قصور هذه الشريعة وعجزها عن مواكبة الحياة؟ كلا ليس هذا خادما للدين.
أخي كيف تعز أمة وهي تطعن من داخلها؟ ، بل كيف تنهض أمة شبابهم هم أعداؤها؟(71/15)
أخي. . يا من جعلت الجهاد شعارا والتكفير مطية، ألا ساءلت نفسك، هل من الجهاد في سبيل الله سفك دماء المسلمين؟ هل من الجهاد في سبيل الله استحلال دماء المستأمنين؟ هل من الجهاد في سبيل الله تدمير ممتلكات المسلمين؟ هل من الجهاد في سبيل الله زعزعة أمن بلاد الإسلام؟ هل من الجهاد في سبيل الله تسليط الأعداء على المسلمين وتهيئة الذرائع لهم؟ .
أيها المسلم كن فطنا واعيا، وإياك أن تكون عاطفيا حماسيا، كن مسلما راشدا وإياك أن تكون ثوريا مندفعا.
أخي المسلم: إن الجهاد في سبيل الله لم يشرع لسفك الدماء والقتل، ولا شرع انتقاما وتشفيا، هو عبادة لله وشعيرة من شعائر الدين، شرع للدفاع عن أوطان المسلمين، وليكون وسيلة من وسائل نشر الدين وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وقتال من يمنع(71/15)
وصول هذا النور إلى الخلق، فإنه دين الله الذي تقبله الفطر السليمة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (1) .
فالإسلام لم يسع ابتداء إلى سفك الدماء، بل حرص على حقنها، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) . .
أخي يا من أحببت الجهاد ورفعت شعاره. .، هلا جاهدت نفسك في قبول الحق والعمل به؟ هلا جاهدت نفسك في الخضوع والتسليم للكتاب والسنة وإن خالف رأيك وهواك وحماستك؟ هل جاهدت نفسك في قبول قول الله {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (3) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم (4) » . هل جاهدت نفسك أخي المسلم في قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة (5) » . هل جاهدت نفسك أخي في قبول قول الله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (6) ؟ هل جاهدت نفسك يا أخي في قبول قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (7) .
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة الأنفال الآية 61
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سنن الترمذي الديات (1395) ، سنن النسائي تحريم الدم (3987) .
(5) صحيح البخاري الأدب (6047) ، صحيح مسلم الإيمان (110) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3770) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3257) .
(6) سورة المائدة الآية 8
(7) سورة النساء الآية 59(71/16)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهده فليس مني ولست منه (1) » أخرجه مسلم.
هل جاهدت نفسك أخي في الخوف من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه (3) » ؟ .
أخي هل جاهدت نفسك على قبول ما استقر عليه اعتقاد السلف الصالح من أن الجهاد ماض مع ولاة أمر المسلمين أبرارا كانوا أو فجارا؟ . قف مع هذه النصوص وإياك ومجاوزتها والإعراض عنها. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4) .
أيها الناس: لقد مر بالعالم صنوف من البلايا وأنواع من المصائب تهلك الحرث والنسل وتنشر في الأرض الفساد، اصطلح على تسميتها بالإرهاب، ومقصدوهم التعدي على النفوس
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/296) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، سنن أبو داود السنة (4687) ، مسند أحمد بن حنبل (2/105) ، موطأ مالك الجامع (1844) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (61) ، مسند أحمد بن حنبل (5/166) .
(4) سورة النساء الآية 115(71/17)
والممتلكات، وينبغي للمسلم أن يعلو صوته بيانا للحق وصدعا بدين الله عز وجل، وآن للعالم أن يصغي إلى أهل الإسلام بعد أن أسكتهم دهرا، آن له أن ينصفهم بعدما ظلمهم وأساء إليهم في دينهم وكتابهم ونبيهم وقبلتهم، ألا فليعلم العالم أجمع أن ديننا دين الإسلام بريء من الظلم والعدوان، في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عله وسلم عن ربنا جل وعلا: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (1) » . ودين الإسلام يحرم سفك الدماء بغير حق. {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (2) . دين الإسلام يحرم الغدر والخيانة في الصحيح «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة (3) » أخرجه مسلم والبخاري بنحوه.
دين الإسلام يحترم العهود ويعصم دماء المعاهد وماله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (4) . وصح في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة (5) » .
دين الإسلام يحرم الإفساد في الأرض بكل أنواعه، قطع الطريق وغيره من اختطاف الطائرات، والسفن والمراكب، ووسائل النقل، وحرم الإخلال بالأمن وبث الفساد ونشر المخدرات، ويقول الله عز وجل:
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2495) ، سنن ابن ماجه الزهد (4257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/154) ، سنن الدارمي الرقاق (2788) .
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2873) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(4) سورة المائدة الآية 1
(5) صحيح البخاري الجزية (3166) ، سنن النسائي القسامة (4750) ، سنن ابن ماجه الديات (2686) ، مسند أحمد بن حنبل (2/186) .(71/18)
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) .
دين الإسلام يحرم السعي في قلب أنظمة الحكم الشرعية القائمة، في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه (2) » . أيها العقلاء المنصفون في أقطار المعمورة هل بعد هذا يوصف ديننا بالإرهاب، لا بد من وقفة صادقة تراجعون بها أنفسكم وتعودون بها إلى ضمائركم وعقولكم ولا يكن لأحد عليكم وصاية حتى تعلموا موقف الإسلام من تلك البلايا التي نسبت إليه والإسلام منها براء.
أيها الناس: إن العدل في جميع الأمور هو أساس السعادة وعنوان الرقي، أمر الله بالعدل ونهى عن الظلم. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (3) . على العدل قامت الممالك وبالعدل تستمر، فدولة الإسلام الأولى على العدل قامت وبالعدل دامت، فعدلوا في توحيد الله وإخلاص الدين له، وطبقوا شرعه، وعدلوا في إخوانهم المسلمين، فحكموا بينهم بالسوية، وعدلوا في رعاياهم من
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .
(3) سورة النحل الآية 90(71/19)
غير أهل دينهم فعاشوا في ظل دولتهم معصومي الدم والمال في عيشة هنيئة، هكذا عدل الإسلام؛ لأن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، إني أدعو أمم الأرض إلى العدل وأحذرهم من الظلم فإن عاقبته وخيمة وعلى الظالم تدور الدوائر.
صناع القرار في العالم، رجال السياسة والفكر، أيها المنصفون أيها العقلاء، إني أخاطب كل ذي عقل يحكمه عقله، وكل منصف لا يرضى بالظلم والتجني، أخاطب فيكم ضمائركم وحبكم للعدل وكراهيتكم للظلم مهما كان مصدره، أسائلكم. . والله شهيد علي وعليكم، أسائلكم. . والتاريخ شاهد بمواقفكم لمن بعدكم، أسائلكم. . هل من العقل أن نؤاخذ أمة بشهادات خصومها وأعدائها؟ هل من الإنصاف أن نحكم على أمة بجريرة بعض شذاذ أبنائها؟ أليس من قلة العقل والسفه أن نتجاهل أمة لها كيانها لها أصولها، لها جذورها، حكامها قائمون، علماؤها متواجدون، كتبها ناطقة بما تحمله من فكر ورأي سليم سديد، ونأخذ ذلك من الجاهلين بها أو من الحاقدين عليها أو من أناس لا يعرفون حقيقتها، إن قوما شنوا حربا شعواء على ما يسمى بالوهابية، ومرادهم بذلك القدح في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وصفوها بالإرهاب وبسفك
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107(71/20)
الدماء وصفوها بالتشدد، وصفوها بالاعتداء على العالمين {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1) . أعانهم على ذلك بعض أبناء جلدتنا قلت ديانتهم فخانوا أمانتهم وقالوا الباطل والزور.
أيها العقلاء أيها الأحرار، أتدرون من هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ إنه رجل أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قرأ كتاب الله وكلام رسوله، فآمن بهما عاش في واقع مرير، تسلط فيه الطغاة، وقهر القوي الضعيف، عاش في مجتمع غلب عليه الجهل والقتل والسلب والتفرق فلم يرض بهذا الواقع ونهض بمسئوليته آخذا بميثاق ربه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (2) ، فدعا إلى الله، دعا إلى عبادة الله وإخلاص الدين له، عاش في مجتمع تعلقوا بالقبور والأشجار والأحجار، دعاهم إلى توحيد الله، دعاهم إلى اتباع الكتاب والسنة، دعاهم إلى العدل والاجتماع والبعد عن السلب والنهب والإفساد، دعاهم إلى حياة دينية مدنية هنيئة، سار على ذلك أتباعه، وعلى هذا مضت حكومات هذه البلاد وملوكها، قامت هذه الدولة العزيزة
__________
(1) سورة الكهف الآية 5
(2) سورة آل عمران الآية 187(71/21)
على هذا الدين وستظل عليه إن شاء الله ثابتة مستقيمة، ثبتنا الله وإياهم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فلم يمنعهم دينهم من التقدم والرقي، ولم يمنعهم من مخالطة غيرهم وإفادتهم والاستفادة منهم، حتى غدت هذه الدولة من أكثر دول المنطقة تقدما ورقيا، أفتكون هذه الدولة إرهابية؟ أم تكون هذه الدولة متخلفة؟ أين أنتم عنها منذ أكثر من مائتي عام حين كانت شحيحة الموارد؟ أفكنتم عنها غافلون هذا الزمان الطويل؟ أم أنتم فيها طامعون حين من الله عليها وفاضت خيراتها؟ .
أيها القادة في العالم الإسلامي ويا صناع القرار فيه أنتم تعلمون أن أمتكم إنما أتيت من قبل تفرقها وبعدها عن دينها فاتقوا الله فيها، إننا ندعوكم إلى إقامة اتحاد إسلامي عالمي قوي أساسه توحيد الله عز وجل، ومنهاجه شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (2) . مرجعنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمنها الحكم وإليها التحاكم {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (3) .
نعم أيها القادة والولاة وصناع القرار نريده اتحادا إسلاميا في
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة الجاثية الآية 19
(3) سورة النساء الآية 65(71/22)
السياسة والاقتصاد والأمن، أثبتوا للعالم كيف تصلح الدنيا إذا سيست بالدين، كيف ينمو الاقتصاد ويزدهر إذا وافق شرع رب العالمين، كيف ينعم الناس بالأمن إذا طبقوا أحكام الشريعة.
أيها القادة ولئن كان هذا المطلب ملحا في وقت مضى فإنه اليوم أشد إلحاحا وأكثر ضرورة. . اليوم وقد أحاط أعداؤكم بدياركم. . اليوم وقد هوجمتم في عقر داركم اليوم وقد جاهروا بعداء دينكم. . اليوم وقد سلبت خيراتكم. . اليوم وقد تداعت عليكم أمم الأرض حقدا وحسدا وطمعا. فماذا تنتظرون؟ إنكم لن تواجهوا عدوكم وأنتم متفرقون، ولن تقدروا عليهم وأنتم متناحرون، فلا بالوسائل الشرعية عملتم ولا بالأسباب الكونية أخذتم، فاتقوا ربكم.
علماء الأمة: إن أمتكم بأمس الحاجة إلى علمكم. . أمتكم غارقة في ظلام الجهل والضعف. . لا يرفعه إلا نور العلم والإيمان. . فأمسكوا زمام الأمور وبادروا بقيادة الأمة إلى ما فيه خيرها وسعادتها، لا تكتموا علمكم ولا تتوانوا في نشره فالله تعالى يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) .
أيها العلماء إن أمتكم تعصف بها في هذه الأوقات رياح الغلو والجفاء، وكلاهما ضلال وبعد عن صراط الله المستقيم، إن هناك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187(71/23)
أقواما غلو في دين الله فأضلوا عباد الله واستغلوا حماسة شبابنا وغضاضة قلوبهم فربوهم على التكفير، ربوهم على التفجير، ربوهم على كراهة علمائهم وولاة أمرهم، ربوهم على عدم المبالاة بمصالح بلاد الإسلام.
وهناك أقوام جفوا في دين الله وزعموا قصور الشريعة عن القيام بمصالح الأمة زعموا أنها سبب للتخلف زعموا أنه لا بد من ترك الدين حتى تسلم لنا الدنيا.
فواجب عليكم أيها العلماء بيان دين الله الحق فإنه وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، كونوا واضحين في بيانكم صريحين مع إخوانكم بينوا لهم حدود الدين بينوا لهم ما يجب عليهم من حق الله عز وجل بينوا لهم حرمة دماء المسلمين بينوا لهم قدر بلاد الإسلام، ووجوب حياطتها والدفاع عنها.
دعاة الإسلام. . إننا ندعوكم إلى التعاون والتكامل والاستقامة على منهج الحق، على الكتاب والسنة، وفق منهج سلف الأمة، انبذوا الخلافات وادعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(71/24)
أيها المسئولون عن وسائل الإعلام في بلاد الإسلام. . إن رسالتكم من أعظم الرسائل، ووسائلكم من أعظم الوسائل، فهي سلاح ماض في بيان الحق ونشر دين الله والدعوة إليه إن عمرت بالخير، وهي سلاح فتاك ضد دينكم وأمتكم وعقيدتكم إن استغلت في الشر، فألله الله برسالتكم، وراقبوا ربكم في أعمالكم وأقوالكم.
يا رجال التربية والتعليم. . عقول أبنائنا وبناتنا بين أيديكم، وتربيتهم أمانة في أعناقكم. . أنتم بناة الأجيال أنتم حملة الأمانة العظيمة، حصنوا أبناءنا بالعقيدة الصافية حصنوا أبناءنا بالشريعة المحمدية، حصنوا أبناءنا بالأخلاق الفاضلة، إياكم والمساس بثوابت الدين في مناهج المسلمين، وطوروا ما يفيد الأمة من علوم تقنية ودنيوية.
شباب الإسلام. . أنتم بتوفيق الله عدة هذه الأمة وعليكم تنعقد آمالها فاتقوا الله فيها، عليكم بالحلم والأناة في أموركم إياكم والاندفاع إياكم والعجلة، الزموا فرائض الله عز وجل واجتنبوا محارمه، اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وجالسوا علماءكم وحكماءكم وكباركم ولا تعتدوا بآرائكم.
شباب الإسلام. . إياكم والأفكار الضالة، مهما كان شعارها، شباب الإسلام كونوا لأمتكم عونا ولا تكونوا عليها عالة أو تجروا إليها الوبال.(71/25)
شباب الإسلام عليكم بالفقه في دين الله، ولا تسمعوا لكل متكلم ولا تثقوا في كل متعالم، زنوا الأقوال والأعمال بميزان الشرع ولا تحملنكم العاطفة والهوى على أفعال لا تحمد عقباها.
أختي المسلمة العزيزة: لقد عاشت المرأة في الجاهلية، في مهانة وضعة تقتل المرأة في مهدها، وإن أمسكت، أمسكت علي خزي وهون فجاء الإسلام فأعز المرأة ورفع من شأنها، كانت ممتهنة مبتذلة فرعاها حق الرعاية وخلصها من ظلم الجاهلية، طهرها وأعزها وسمع صوتها وأنزلها المنزلة اللائقة بها، ولكن الأعداء يريدون غير ذلك، يريدون منك أيتها المسلمة أن تكوني ألعوبة بأيدي الرجال، يريدونك فاكهة في مجالسهم ولذة في أنديتهم، فاتق الله، كيف أنت وقد ذهب دينك وسلب حياؤك وانتهك عرضك وانتقص دينك، فاتق الله وتأسي بمن مضى من السلف الصالحات في هذه الأمة والله يقول لأزواج نبيه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (1) .
حجاج بيت الله الحرام، الآن وقد قطعتم البحار وطويتم القفار وأطلتم الأسفار، ها أنتم قد بلغتم مرادكم، نعمة من الله عليكم إلى بلد {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (2) . وصلتم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة النحل الآية 7(71/26)
إلى هذا البلد الحرام في الشهر الحرام متلبسين بالإحرام، اجتمعت لكم حرمة الزمان والمكان وحرمة الهيئة، فاقدروا لهذا البلد قدره، واعرفوا له مكانته.
حافظوا على أمن بيت الله الحرام. . واحذروا الإلحاد فيه، فإن ذلك من أعظم الجرم، وإياكم وما يزعزع أمنه فإنه من الصد عن سبيله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) .
حجاج بيت الله الحرام، لكم في هذه البلاد إخوان في الدين يسهرون الليالي في سبيل حسن استقبالكم وتنظيم سيركم وتنقلاتكم، فلهم عليكم حق أن تدعوا الله لهم وأن تلزموا الأنظمة المرعية التي هي سبب في انتظام سيركم. حجاج بيت الله الحرام، هذا يوم عرفة،. . . يوم عرفة الذي يقول فيه محمد صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة (2) » هذا اليوم من وقفه كان مدركا للحج، ووقت الوقوف هذا اليوم ممتد من طلوع شمسه إلى طلوع فجر يوم العاشر، فمن أدرك عرفة في هذا الوقت فقد تم حجه قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من أدرك جمعا قبل صلاة الفجر فقد أدرك (3) » أخي الحاج، هذا يوم من
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3044) ، سنن أبو داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد بن حنبل (4/335) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .
(3) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (2975) ، سنن النسائي مناسك الحج (3044) ، سنن أبو داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد بن حنبل (4/335) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .(71/27)
أيام الله العظيمة ويوم من الأيام المباركة، وقفت أخي بصعيد عرفات أوصيك ونفسي بتقوى الله في هذا اليوم، أكثر فيه من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل استغفر الله من خطاياك وزللك، ارفع أكف الضراعة إلى ذي الجلال والإكرام، هذا يوم يباهي الله بكم حجاج بيته الحرام ملائكته «انظروا إلى عبادي شعثا غبرا (1) » أخرجه الإمام أحمد في مسنده «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة (2) » أخرجه مسلم، أتى نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا الموقف، فوقف بنمرة ثم دفع إلى عرنة فخطب بها الناس خطبة عظيمة نافعة وجيزة، بين فيها حرمة الدماء والأموال، وألغى فيها مآثر الجاهلية ورباها ودماءها وأخبرهم أنه تارك فيهم ما إن تمسكوا به لن يضلوا كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم؛ صلى بهم الظهر والعصر جمعا وقصرا في وقت الظهر، أمر المؤذن فأذن فأقام وصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ثم أتى عرفة فكان واقفا على راحلته مستقبل القبلة، يدعو ربه ويتضرع بين يديه، رافعا يديه خاضعا مستكينا خاشعا راجيا، صلوات الله وسلامه عليه، سقط خطام ناقته فتناوله بإحدى يديه ويده الأخرى رافعها يدعو الله ويرجوه، أفطر في ذلك اليوم ليبين أن الفطر للحاج أولى من الصيام بعث إليه بقدح لبن فشربه والناس ينظرون، سقط رجل من أصحابه
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/305) .
(2) صحيح مسلم الحج (1348) ، سنن النسائي مناسك الحج (3003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3014) .(71/28)
عن راحلته، فقال: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » .
صلوات الله وسلامه عليه، لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا وغاب القرص ثم دفع منها إلى مزدلفة وهو يحث الناس على السكينة والوقار، أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء جمعا حين قدم، ثم بات بها، وأذن للضعفة بالرحيل بعد منتصف الليل وصلى بمزدلفة الفجر وذكر الله عند المشعر الحرام ثم انصرف إلى منى فرمى جمرة العقبة، ثم نحر هدية وحلق رأسه فتحلل التحلل الأول وطيبته عائشة رضي الله عنها قبل أن يطوف بالبيت، ثم أتى البيت وطاف به طواف الإفاضة، ثم تحلل التحلل الثاني. فهذه هي أعمال يوم النحر التي يحصل بها التحلل: رمي الجمرة والحلق أو التقصير ثم الطواف بالبيت، ومن قدم شيئا على شيء فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول: افعل ولا حرج، فمن رمى وحلق أو طاف بالبيت ورمى وطاف البيت، حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ومن رمى وحلق وطاف بالبيت حل له كل ما حرم عليه بالإحرام، ثم يبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، وأما رمي الجمار في اليومين فإنه يكون بعد الزوال. والرمي ممتد من الزوال إلى طلوع الفجر الثاني.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1851) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/328) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .(71/29)
فإن كنت متعجلا فانصرف قبل غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، وإن شئت فبت بمنى وارم الجمار في اليوم الثالث عشر، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) .
حجاج بيت الله الحرام، الأمن نعمة من نعم الله على عباده، بين الله قدره في كتابه العزيز فقال عن خليله إبراهيم عليه السلام في دعائه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (2) .
أمة الإسلام: إن الله سبحانه قد اختص نفسه ورسوله والمؤمنين به بالعزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3) .
أيها المسلمون إن كنتم تبحثون عن العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة فهي بين أيديكم، إن كنتم تريدون القيادة والسيادة على العالمين فهذا هو شأن دينكم.
أيها المسلمون عودوا إلى ربكم فإن العزة له وبيده {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (4) .
أيها المسلمون راجعوا دينكم فلا ظهور ولا نجاة لكم إلا به
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) سورة البقرة الآية 126
(3) سورة المنافقون الآية 8
(4) سورة النساء الآية 139(71/30)
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
أيها المسلمون قوموا بما أراده الله لكم من قيادة العالم إلى الخير والشهادة عليهم بأعمالهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) .
علام تعطون الدنية في دينكم والله قد أعلى شأنكم {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
هذه دياركم ومقدساتكم بأيدي أعدائكم ها هي فلسطين الطاهرة ومسجد الأقصى المقدس دنسته أيدي يهود أين أنتم أيها المسلمون، ألا كلمة تجمعكم ألا دين يوحدكم؟
إخوة الإسلام. . لقد سعى الأعداء في تفريق أقاليمكم فنجحوا وهاهم يتجاوزون ذلك إلى تفريق قلوبكم وتشتيت كلمتكم بألقاب تتنابزون بها ما أنزل الله بها من سلطان وأحزاب وشيع تتعصبون لها قد حذركم الله منها فأين أنتم عن دينكم عن أوامر ربكم ونواهيه. .
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (4) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 143
(3) سورة آل عمران الآية 139
(4) سورة الأنعام الآية 159(71/31)
أيها المسلمون. . إن نعمة الأمن من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده. . بها يهنأ العالم والعابد والجاهل، بها يهنأ الصغير والكبير، بها يهنأ الرجل والمرأة، بها يهنأ الإنسان بل والحيوان. الأمن ينال بالإيمان والاستقامة على طاعة الرحمن {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) .
أيها المسلمون لقد مر بأسلافكم المسلمين أعوام لا يكاد يحج البيت إلا النذر القليل إذا ودع الحاج أهله فإنهم لا يرجون رجوعه فالطريق مخوف والسفر طويل والأمن قليل.
وها أنتم تنعمون بهذه النعمة السابغة فاشكروا ربكم عليها وأدعو لمن تسبب فيها من ولاة هذه البلاد الذين حرصوا على العناية بالحرمين أمنا وتوسعة وتهيأة بكل ممكن للتيسير على حجاج بيت الله.
فمنذ تولي الملك عبد العزيز غفر الله له، وشرفه بولاية هذا البيت والبيت يزداد كل عام خيرا، تعاقب علية أبناؤه الملوك البررة، ولا يزال إلى هذا العهد المبارك في عزة وقوة، فجزى الله الجميع خيرا، ووفقهم لما يحبه ويرضاه، وأعانهم على كل خير.
__________
(1) سورة النور الآية 55(71/32)
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، عالم الغيب والشهادة، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، نسألك أن تجمع قلوب المسلمين على طاعتك، اللهم وحد شملهم، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم أبدلهم بالذل عزا، وبالضعف قوة، وبالتفرق اجتماعا وتآلفا، اللهم قو قلوبهم وأصلح ولاة أمرهم، اللهم أصلح شأنهم وأعذهم جميعا من مضلات الفتن، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وأهدهم سبل السلام وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم انصر به دينك، وأعل به كلمتك، اللهم أره الحق حقا وارزقه إتباعه، وأره الباطل باطلا وارزقه اجتنابه، اللهم أمده بالصحة والعافية، وبارك له في عمره وعمله، اللهم وفق ولي عهده لما يرضيك، وسدده في أقواله وأعماله، ووفق النائب الثاني، واجعلهم جميعا دعاة إلى الخير والتقوى، واللهم وفق واجز خيرا رجال الأمن والمسؤولين عن(71/33)
اللجنة المركزية العليا للحج، جزاهم الله عما قدموا للإسلام والمسلمين خيرا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، أعاده الله علي وعليكم أعواما عديدة وأزمنة مديدة في صحة وسلامة؛ وعز للإسلام وأهله إنه على كل شيء قدير.(71/34)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(71/35)
صفحة فارغة(71/36)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
جمعة في مطار القصيم
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة رئيس محكمة بريدة سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
نعيد إليكم أوراق المكاتبة الخاصة بطلب موظفي مطار القصيم الإذن لهم بإقامة صلاة الجمعة في المطار.
ونحيطكم علما أنه جرى الاطلاع على ما تضمنه خطابكم من إيضاح المسافة بين المطار ومدينة بريدة وغيرها من القرى المجاورة بأكثر من عشرين كيلو مترا، ومن كون المطار واقعا في صحراء ومنفصلا عن البنيان إلى آخره. وبعد تأمل الخطاب المشار إليه نرى أنه لا مانع من إقامة صلاة الجمعة في المطار مازال موظفوه مستوطنين فيه لا يرحلون عنه صيفا ولا شتاء، وعليكم إبلاغ المذكورين بموافقتنا على هذا الطلب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(71/37)
جنود في البرود
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة
الملك المعظم سعود بن عبد العزيز
أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
حفظك الله من خصوص فارس أبا العلا والجند الذين معه في البرود يصلون الجمعة وهم ليس في حقهم جمعة، ولا يشرع لهم ذلك، فينبغي المبادرة في تنبيههم على ذلك، ومنعهم من التجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(71/38)
هل يقول: " سيدنا محمد " في الخطبة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأخ المكرم
الشيخ علي بن قاسم آل ثاني
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتابكم وسرنا ما ذكرتم عن صحتكم ومن جواز قول الرجل: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد إلى آخره.
والجواب: الحمد لله لا يخفى أن الاقتصار على ما ورد في الأحاديث وما جاء عن سلف هذه الأمة وأئمتها أولى وأفضل وأكمل، ولا سيما إذا كان ذلك في نفس الصلاة، فلا ينبغي أن يأتي(71/38)
في الصلاة بألفاظ غير ما ورد.
فإن كان خارج الصلاة فهو أيسر، وتركه أولى على كل حال، وعلى كل فهذه الكلمة لم ترد عن السلف، فمن تركها فقد أحسن، ومن قالها فلا ينهى عنها نهيا مطلقا، بل يرغب بما هو الأفضل، وهذا لا يغض من قدر نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فإن له عند المسلمين من المنزلة والمحبة والتعزير والتوقير مالا يعلمه إلا الله - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم - وهو بلا شك سيدنا وسيد جميع الخلق، ولكن اقتران هذه الكلمة بالصلاة عليه دائما باستمرار لا نراه؛ لأنه لم يرد بهذه الصفة. والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(71/39)
ترجمة الخطبة بعد إلقائها بالعربية قبل الصلاة
من محمد بن إبراهيم إلى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد اطلعنا على خطابكم رقم 2 \ 1 \ 1 \ 3779 وتاريخ 11 \ 10 \ 1388 هـ، بخصوص ما وردكم من سعادة سفير المملكة العربية السعودية بالهند عن حكم إلقاء خطبة الجمعة باللغة العربية ثم(71/39)
شرحها باللغة المحلية " الأوردو"؛ لأن جميع الحاضرين في المساجد هناك لا يفهمون خطبة الجمعة لجهلهم باللغة العربية - وتطلبون بيان ما لدينا في ذلك.
والجواب: الحمد لله. لا يخفى أن الله تبارك وتعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه، وأنزل كتابه بلسان عربي مبين، وجعله معجزا بلفظه ومعناه. فلا بد من إلقاء الخطبة باللغة العربية، وإذا كان الحال كما ذكرتم من أن جميع الذين يحضرون في المساجد هناك لا يفهمون خطبة الجمعة؛ لجهلهم اللغة العربية، فينبغي للخطيب أن يشرح لهم معانيها باللغة المحلية بعد الفراغ من إلقائها؛ لتحصل لهم الفائدة المقصودة من الخطبة.
والله الموفق والسلام عليكم.(71/40)
ترجمة الخطبة بعد صلاة الجمعة
من محمد إبراهيم إلى صاحب السمو الملكي
وزير الداخلية
المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى خطابك رقم 4072 وتاريخ 25 \ 11 \ 1386 هـ حول ما تقدم به \ مقبول عبد الكافي إلى إمارة منطقة مكة بخصوص(71/40)
ضعف مكبرات الصوت بالمسجد الحرام. ورأيه أن تترجم خطبة الجمعة إلى بعض اللغات الأجنبية كاللغة الإنجليزية لإذاعتها بعد صلاة الجمعة لتتم الاستفادة منها لمن لا يعرف اللغة العربية. وأن وزارة الحج والأوقاف تبلغت بما يتعلق بمكبرات الصوت. وتطلبون ما لدينا حول ترجمة الخطبة.
وعليه فإننا لا نرى الموافقة على ما ذكر، ولا يسوغ أن يخطب يوم الجمعة قبل الصلاة وبعدها. وإذا كان المقصود إبلاغ الخطبة لمن لا يفهم اللغة العربية فيمكن أن تترجم الخطبة وغيرها من ضمن برامج الإذاعة في غير وقت صلاة الجمعة. والله يحفظكم والسلام.(71/41)
المداومة على قراءة السجدة فيها
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم عبد الرحمن العبد الله الوهيبي
الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلى كتابكم المتضمن السؤال عن الإمام الذي يقرأ " سورة السجدة " صباح كل جمعة.
والجواب: أن السنة هي قراءة السجدة في فجر كل جمعة ويداوم عليها. وإذا كان الإمام يخشى ظن الجهال وجوب قراءتها فمن المستحسن أن يقرأ بعض الأحيان بغيرها.(71/41)
إذا كان الجامع قريبا وواسعا لم يجز تفريق الجمعة
ولو كان فيهم مرضى وشيوخ
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم \ محمد بن علي بن خاطر وكافة جماعته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتابكم المؤرخ في 29 \ 11 \ 1375هـ، الذي تذكرون فيه أنه قد أسس في الجهة الشرقية بالجبيل مسجد ثان، وتطلبون السماح لكم بالتجميع فيه؛ لأن منكم كبير السن والعاجز. إلخ.
والجواب: أنه لا يسوغ لكم أن تجمعوا فيه أبدا؛ لقربه من مسجد الجامع، وسعة مسجد الجامع.
وأما كون فيكم الشيخ الكبير ونحوه فهذا لا يسوغ شرعا الانفراد بجمعة أبدا، وهذا الشيخ الكبير ونحوه الذي لا يستطيع الذهاب إلى المسجد الجامع ماشيا يتعين عليه حضور الجمعة وإتيانها راكبا أو محمولا إن استطاع ذلك، وإلا فهو معذور يصلي في بيته ظهرا.
هذا ونرجو الله لنا ولكم التوفيق وقبول أعمالنا وأعمالكم، وأن يجعلها على وفق الشريعة المحمدية. والسلام عليكم.(71/42)
انفراد أهل كل حارة بمسجد لا يسوغ
رفع فضيلة رئيس محكمة الأفلاج إلى سماحته طلب جماعة الإذن لهم في إقامة الجمعة في حارتهم لينفردوا عن حارتين مجاورتين لهم حيث إنهم يبلغون العدد المعتبر لها.
فأجاب بما نصه: لا نرى مسوغا لتفريق جمعة المسلمين، إذ أن السماح لهم معناه فتح الباب لأهل الحارات الأخرى بإقامتهم الجمعة في حاراتهم، وهذا يتنافى مع مشروعية الجمعة، وتشوف الشارع إلى اجتماع أكبر عدد ممكن من المسلمين لها في مسجد واحد. فأفهموهم هذا، وأكثروا عليهم النصح والتوجيه بلزوم الأدب والاستقامة والسعي في تحصيل مقاصد الجمعة من التآلف والتوادد والتواخي والتسامح فيما بينهم.
وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد(71/43)
الشحناء الدنيوية بينهم وبين
إمام المسجد ليست مسوغا
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة قاضي محكمة العيون بالأحساء
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:(71/43)
بالإشارة إلى المعاملة الواردة إلينا منكم برقم284 وتاريخ 17 \ 3 \ 88 هـ برفقها قراركم رقم 115 وتاريخ 17 \ 3 \ 88 هـ، بخصوص انقسام أهل قرية المراح إلى قسمين في صلاة الجمعة والعيد، وأساس ذلك شحناء دنيوية بينهم وبين إمام مسجد الجامع القديم، جرى الاطلاع على ذلك، وبناء على أنه لا يوجد مسوغ شرعي يسوغ لهم الانفراد في الجمعة والعيد فاعتمدوا تكليفهم ليؤدوا صلاة الجمعة والعيد في جماعة المسجد القديم، فإن امتثلوا وإلا فارفعوا عنهم إلى صاحب السمو أمير الأحساء ليكون التكليف من قبله.
والسلام عليكم.(71/44)
الإطفاء يصلون
في أقرب جامع مستعدين للحوادث
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الله بن محمد العسيري
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلنا استفتاؤك، وفهمنا ما تضمنه من سؤالك عن إقامتكم الجمعة في مركز الإطفاء بالعدد الذي ذكرت مقداره، حيث إن عملكم يقتضي ملازمتكم للمكان بصفة مستمرة إلى آخر ما ذكرت.
ونفيدك أن ما ذكرته لا يعتبر مسوغا لإقامتكم الجمعة بالعدد(71/44)
المذكور.
أما ما ذكرت من وجوب ملازمتكم للمكان بصفة مستمرة فلا شك أنه يمكنكم تحري الأسباب التي تجمع لكم بين الاستعداد لحوادث الحرائق وأداء الجمعة في أقرب جامع إليكم. ومن الأسباب أن يؤمن لكم بصفة مستمرة تليفون في الجامع القريب منكم؛ ثم يعلن للأهالي أن الاتصال بكم وقت الجمعة بواسطته إن احتاج الأمر إليكم، وتخرجون إلى الجامع ومعكم استعداداتكم، فمتى حصل حادث ما توجهتم من المسجد إليه. ويمكنكم تحري أسباب أخرى تجمع لكم بين الصلاة مع المسلمين ودوام الاستعداد. وبالله التوفيق والسلام عليكم.(71/45)
قرية مستقلة باسمها
وتبعد كيلو ونصف عن الهجرة
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة قاضي محكمة ضرية سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى الاستفتاء الوارد إلينا من طلحاب بن زهيميل بخصوص طلبه هو وجماعته إفتاءهم بإقامتهم جمعة في مسجدهم الكائن في هجرة البدائع، وذكركم أن عددهم يقارب الخمسة والعشرين، وأنهم يبعدون عن هجرة مطيوى وهي أقرب إليهم قرابة كيلو ونصف.(71/45)
فإذا كانت هجرتهم البدائع منفصلة عن غيرها من الهجر المجاورة ومعروفة باسمها الذي يميزها عن غيرها، فلا نرى بأسا في السماح لهم بإقامتهم الجمعة في هجرتهم، حيث إنها حسب تفصيلكم قرية مستقلة ليس غيرها من القرى المجاورة أولى بتبعيتها، لإحاطتكم بفتوانا. والسلام عليكم.(71/46)
نقل الجمعة من مسجد بعيد
إلى آخر في وسط البلد
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم الشيخ \ صالح عبد الرحيم
قاضي رابغ
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلنا خطابكم المتضمن استفتاءكم الذي تقول فيه: إن أهالي رابغ يصلون في مسجد من عشرات السنين الجمعة والجماعة، وهذا المسجد يبعد عن البلد كثيرا، ويضيق الآن بالمصلين، زيادة على قدمه وعدم تهويته، والحال أن بعض المحسنين قد بنى في وسط البلد مسجدا واسعا بكثير عن سابقه مع تهويته وحسن بنائه، وقد طلبوا إفتائي في صحة نقل صلاة جمعتهم فقط في هذا المسجد الجديد مع إقامة الجماعة في المسجد السابق؛ نظرا لقربه منهم ولمميزاته السابقة ولعدم إمكان إقامة جمعتين في رابغ. إلخ. . وتستفتي في جواز نقل(71/46)
صلاة الجمعة فقط إلى هذا المسجد.
والجواب: الحمد لله. حيث كان الأمر كما ذكرت فلا بأس بنقل الجمعة فقط إلى المسجد الجديد للمسوغات الموضحة في السؤال والله الموفق. والسلام عليكم.(71/47)
تفريقها لازدحام الجوامع وبعد المساكن
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم فضيلة رئيس محكمة بريدة
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلنا كتابك رقم2434 وتاريخ 23 \ 2 \ 81هـ والأوراق المشفوعة به بصدد الاستئذان في إقامة الجمعة في جهة الخبيب، وما ذكرتموه من أن هناك ضرورة لإجابة طلبهم وضررا لاحقا لبعضهم؛ لبعد الجوامع عن مساكنهم.
ومادام قد ثبت لديكم مسوغ جواز إقامة الجمعة في تلك الجهة لازدحام الجوامع بالمصلين وبعدها عن مساكن أهل الخبيب فلا بأس بالسماح لهم بذلك. وتعمدون أهل الخبرة والمعرفة من يوثق بكلامه ويعرف منه العدل والتقى في تعيين المسجد؛ درءا للنزاع وتحصيلا للصالح العام. وبالله التوفيق، والسلام عليكم.(71/47)
الجوامع تمتلئ
وبينهم وبينها مسافة كيلو ونصف
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة رئيس المحكمة الكبرى بالطائف
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المرفوعة إلينا منكم رفق خطابكم رقم 5737 وتاريخ19 \ 8 \ 84هـ، بخصوص مطالبة أهالي محلة الشهداء بإقامة جمعة في محلاتهم؛ نظرا لبعدها عن جوامع مدينة الطائف، ونظرا لازدحام المساجد بالمصلين. وتذكرون في خطابكم أن المسجد المراد إقامة جمعة فيه في محلة الشهداء يبعد عن أقرب جامع إليهم مسافة كيلوين ونصف. وأن الجوامع تمتلئ بالمصلين ما عدا مسجد ابن عباس فإن فيه سعة في فصل الشتاء فقط، أما في الصيف فجميعها تمتلئ ويحصل فيها تضايق، وتذكرون أن محلة الشهداء كبيرة وآهلة بالسكان مترامية الأطراف إلى آخر ما ذكرتم.
وحيث الأمر كما ثبت لديكم من وجود مسوغات الإذن لهم بإقامتهم الجمعة في محلتهم فلا بأس بإقامتهم الجمعة في المسجد المشار إليه في أوراق المعاملة، فاعتمدوا إبلاغهم بذلك. وإذا كان إمام المسجد أهلا للصلاة بهم جمعة فذاك، وإلا فتعمدون من ترونه أهلا للصلاة بهم بصفة مؤقتة حتى يتم تعيين إمام جمعة راتب.
وبالله التوفيق. والسلام عليكم.(71/48)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا "رحمه الله" (1)
حكم الطواف وختم القرآن للأموات
س: أقوم أحيانا بالطواف لأحد أقاربي أو والدي أو أجدادي المتوفين، ما حكم ذلك؟ وأيضا ما حكم ختم القرآن لهم؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الأفضل ترك ذلك؛ لعدم الدليل عليه، لكن يشرع لك الصدقة عن من أحببت من أقاربك وغيرهم إذا كانوا مسلمين، والدعاء لهم، والحج والعمرة عنهم، أما الصلاة عنهم والطواف عنهم والقراءة لهم فالأفضل تركه؛ لعدم الدليل عليه، وقد أجاز ذلك بعض أهل العلم؛ قياسا على الصدقة والدعاء، والأحوط ترك ذلك؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم القياس. وبالله التوفيق.
__________
(1) هذه الفتاوى سبق نشرها في الجزء الثالث عشر، من مجموع الفتاوى لسماحته ص 258- 282.(71/49)
الصلاة والقراءة لا تهدى لأحد
س: والدتي أمية لا تقرأ ولا تكتب، فهل يجوز لي قراءة القرآن الكريم وصلاة النوافل وإهداء ثواب ذلك لها، وإذا كان لا يجوز، فما هي الأعمال التي يمكن أن أهدي ثوابها إليها؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: ليس هناك دليل شرعي على شرعية إهداء الصلاة والقراءة عن الغير سواء كان حيا أو ميتا، والعبادة توقيفية لا يشرع منها إلا ما دل الشرع على شرعيته، ولكن يشرع لك الدعاء لها والصدقة عنها، والحج عنها والعمرة إذا كانت كبيرة السن لا تستطيع الحج والعمرة.
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1604) في11 \ 4 \ 1418 هـ.(71/50)
حكم الصلاة للوالدين المتوفيين
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: أم محمد - من الرياض، تقول في سؤالها: هل هناك صلاة للوالدين المتوفيين، وما كيفيتها؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.(71/50)
ج: ليس على الأولاد صلاة للوالدين بعد الوفاة، ولا غيرهما، وإنما يشرع الدعاء لهما، والاستغفار لهما، والصدقة عنهما، وهكذا الحج عنهما والعمرة. أما الصلاة فلا يشرع لأحد أن يصلي عن أحد أو لأحد، وإنما يصلى على الميت المسلم قبل الدفن، ومن لم يصل عليه قبل الدفن شرع له أن يصلي عليه بعد الدفن إذا كانت المدة لا تزيد على شهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة وقد مضى لها شهر.
وهكذا سنة الطواف، وهي: ركعتان بعد الطواف تشرع لمن طاف، ومن ذلك الحاج أو المعتمر عن الغير فإنه يشرع له إذا طاف عن المنوب عنه أن يصلي ركعتين تبعا للطواف. والأصل في هذا كله أن العبادات توقيفية، لا يشرع فيها إلا ما ثبت في الكتاب أو السنة. والله ولي التوفيق.(71/51)
إهداء تلاوة القرآن الكريم للآخرين
س: هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي، علما بأنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص؟ (1) .
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1642) في 25 \ 1 \ 1419 هـ.(71/51)
ج: لم يرد في الكتاب العزيز، ولا في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام رضي الله عنهم ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به، والاستفادة منه، وتدبر معانيه والعمل بذلك، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) ، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (4) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما (5) » .
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب فضل قراءة القرآن برقم (804) .
(5) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب فضل قراءة القرآن برقم (805) .(71/52)
والمقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهما أصلا يعتمد عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك وقالوا: لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم، ولكن الصواب هو القول الأول؛ للحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح، والعبادة لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بنص من كلام الله عز وجل، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم للحديث السابق وما جاء في معناه.
أما الصدقة عن الأموات وغيرهم، والدعاء لهم، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام، فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان المحجوج عنه والمعتمر عنه ميتا أو عاجزا لهرم أو مرض لا يرجى برؤه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري معلقا في كتاب (البيوع) باب النجش 4 \ 355 فتح، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم 1718.(71/53)
حكم أخذ أجرة قراءة القرآن على الأموات
س: سائل من اليمن يقول: أناس عندنا يقرءون القرآن على الأموات ويأخذون عليه أجرة، فهل يستفيد منه الأموات شيئا؟ وإذا مات واحد منهم يقرءون القرآن ثلاثة أيام ويعملون ذبائح وولائم، فهل هذا من الشرع؟ .
ج: القراءة على الأموات بدعة، وأخذ الأجرة على ذلك لا يجوز؛ لأنه لم يرد في الشرع المطهر ما يدل على ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما شرعه الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وهكذا ذبح الذبائح وإعداد الطعام من أجل الميت كله بدعة منكرة لا يجوز سواء كان ذلك في يوم أو أيام؛ لأن الشرع المطهر لم يرد بذلك بل هو من عمل الجاهلية؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء
__________
(1) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على جور برقم (2697) ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .(71/54)
بالنجوم، والنياحة (1) » وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب (2) » . رواه مسلم في صحيحه.
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة (3) » رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن (4) » . . الحديث المذكور آنفا، ولم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم أنه إذا مات الميت يقرءون له القرآن، أو يقرءون عليه القرآن، أو يذبحون الذبائح، أو يقيمون المآتم والأطعمة والحفلات، كل هذا بدعة، فالواجب الحذر من ذلك وتحذير الناس منه، وعلى العلماء بوجه أخص أن ينهوا الناس عما حرم الله عليهم وأن يأخذوا على أيدي الجهلة والسفهاء حتى يستقيموا على الطريق السوي الذي شرعه الله لعباده، وبذلك تصلح الأحوال والمجتمعات ويظهر حكم الإسلام وتختفي أمور الجاهلية، وإنما المشروع أن يصنع
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/343) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب التشديد في النياحة برقم (934) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند عبد الله بن عمرو بن العاص) برقم (6866) ، وابن ماجه في (الجنائز) باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت برقم (1612) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/343) .(71/55)
لأهل الميت طعام يبعث إليهم من جيرانهم أو أقاربهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (1) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح. وأسأل الله لنا ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق، إنه جواد كريم.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند أهل البيت) من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب برقم (1754) ، وابن ماجه في (الجنائز) باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت برقم (1610) .(71/56)
حكم إهداء أعمال البر للحي أو الميت
س: لي والدة لا تقرأ وأحب أن أبرها، وكثيرا ما أقرأ القرآن وأجعل ثوابه لها، ولما سمعت أنه لا يجوز عدلت عن ذلك وأخذت أتصدق عنها بدراهم، وهي الآن حية على قيد الحياة، فهل يصل ثواب الصدقة من مال وغيره إليها سواء كانت حية أو ميتة، أم لا يصل إلا الدعاء، حيث لم يرد ذلك كما في الحديث: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث ... (1) » وذكر: «ولد صالح يدعو له (2) » ؟ ، وهل الإنسان إذا كان كثير الدعاء لوالديه
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8627) ومسلم في كتاب (الوصية) برقم (1631) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8627) ومسلم في كتاب (الوصية) برقم (1631) .(71/56)
في الصلاة وغيرها قائما وقاعدا يشهد له الحديث بأنه صالح ويرجى له الخير عند الله؟ أرجو الإفادة ولكم من الله الثواب الجزيل (1) .
ج: أما قراءة القرآن فقد اختلف العلماء في وصول ثوابها إلى الميت على قولين لأهل العلم، والأرجح أنها لا تصل لعدم الدليل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها لأمواته من المسلمين كبناته اللاتي متن في حياته عليه الصلاة والسلام، ولم يفعلها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فيما علمنا، فالأولى للمؤمن أن يترك ذلك ولا يقرأ للموتى ولا للأحياء ولا يصلي لهم، وهكذا التطوع بالصوم عنهم؛ لأن ذلك كله لا دليل عليه، والأصل في العبادات التوقيف إلا ما ثبت عن الله سبحانه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم شرعيته.
أما الصدقة فتنفع الحي والميت بإجماع المسلمين، وهكذا الدعاء ينفع الحي والميت بإجماع المسلمين، وإنما جاء الحديث بما يتعلق بالميت؛ لأنه هو محل الإشكال: هل يلحقه أم لا يلحقه؟ فلهذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » لما كان من المعلوم أن الموت تنقطع به الأعمال بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا لا ينقطع، وأما الحي فلا شك فيه أنه ينتفع بالصدقة منه ومن غيره وينتفع بالدعاء، فالذي يدعو
__________
(1) نشرت في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته ج13، ص266.
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(71/57)
لوالديه وهم أحياء ينتفعون بدعائه، وهكذا الصدقة عنهم وهم أحياء تنفعهم، وهكذا الحج عنهم إذا كانوا عاجزين لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه ينفعهم ذلك، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «حجي عنه (1) » .
وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا الظعن، أفأحج عنه وأعتمر؟ ، قال: «حج عن أبيك واعتمر (2) » فهذا يدل على أن الحج عن الميت أو الحي العاجز لكبر سنه أو المرأة العاجزة لكبر سنها جائز، فالصدقة والدعاء والحج عن الميت أو العمرة عنه وكذلك عن العاجز كل هذا ينفعه عند جميع أهل العلم، وهكذا الصوم عن الميت إذا كان عليه صوم واجب سواء كان عن نذر أو كفارة أو عن صوم رمضان لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (3) » . متفق على صحته، ولأحاديث أخرى في المعنى، لكن من
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب وجوب الحج وفضله برقم (1513) ، ومسلم في (الحج) باب الحج عن العاجز برقم (1335) .
(2) رواه الإمام أحمد من حديث أبى رزين العقيلي برقم (15752) ، والنسائي في (مناسك الحج) باب وجوب العمرة برقم (2621) .
(3) رواه البخاري في (الصوم) باب من مات وعليه صوم برقم (1952) ، ومسلم في (الصيام) باب قضاء الصوم عن الميت برقم (1147) .(71/58)
تأخر في صوم رمضان بعذر شرعي كمرض أو سفر ثم مات قبل أن يتمكن من القضاء فلا قضاء عنه ولا إطعام؛ لكونه معذورا.
وأنت أيها السائل على خير إن شاء الله في إحسانك إلى والديك بالصدقة عنهما والدعاء لهما، ولا سيما إذا كان الولد صالحا، فهو أقرب إلى إجابة الدعاء، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ولد صالح يدعو له (1) » ؛ لأن الولد الصالح أقرب إلى أن يجاب من الولد الفاجر، وإن كان الدعاء مطلوبا من الجميع للوالدين، ولكن إذا كان الولد صالحا صار أقرب في إجابة دعوته لوالديه.
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(71/59)
حكم قراءة القرآن للميت في داره
س: هل قراءة القرآن للميت بأن نضع في منزل الميت أو داره مصاحف ويأتي بعض الجيران والمعارف من المسلمين فيقرأ كل واحد منهم جزءا مثلا ثم ينطلق إلى عمله ولا يعطى في ذلك أي أجر من المال، وبعد انتهائه من القراءة يدعو للميت ويهدي له ثواب القرآن، فهل تصل هذه القراءة والدعاء إلى الميت ويثاب عليها أم لا؟ أرجو الإفادة وشكرا لكم، علما بأني سمعت بعض العلماء يقول بالحرمة مطلقا والبعض بالكراهية والبعض بالجواز.(71/59)
ج: هذا العمل وأمثاله لا أصل له، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرءون للموتى، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري في الصحيح جازما به، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (3) » زاد النسائي بإسناد صحيح: «وكل ضلالة في النار (4) » ، أما الصدقة للموتى والدعاء لهم فهو ينفعهم ويصل إليهم بإجماع المسلمين. وبالله التوفيق والله المستعان.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) رواه مسلم في (الجمعة) باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867) .
(4) رواه النسائي في (صلاة العيدين) باب كيف الخطبة برقم (1578) .(71/60)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
يقول السائل: أريد الحج أنا وزوجتي هل يلزم على أهل زوجتي أن يضحوا عنها؟
ج: إذا كنتما تحرمان بالحج مفردين فلا تنسيا نفسيكما من الأضحية؛ لأن من حج مفردا لا يجب عليه هدي، أما القارن والمتمتع فالهدي الذي يذبحانه بمنى قائم مقام الأضحية، أما الحاج المفرد فإنه يضحي عن نفسه في بلده أو بمنى.(71/61)
يقول السائل: هل يجوز قص الأظافر والشعر وقت الإحرام لمن ينوي أن يضحي؟
ج: جاء في صحيح مسلم عن أم سلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا أظافره شيئا (1) » ، لكن قال العلماء: هذا محمول
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الأضاحي (1523) ، سنن النسائي الضحايا (4364) ، سنن أبو داود الضحايا (2791) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3149) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) ، سنن الدارمي الأضاحي (1948) .(71/61)
على الأشياء المستحبة كالذي يقلم أو يقص عند الإحرام؛ لأنه مشروع للمسلم عند الإحرام النظافة، أما ما كان على المروة في حق المتمتع من التقصير بعد أداء عمرة التمتع أو كان التقصير أو الحلق بعد رمي الجمرة فإن هذا لا مانع منه، لأن ما كان على المروة فهو تحلل من العمرة لا بد منه، وما كان يوم النحر فهو أيضا يكمل به تحلله الأول بمعنى أنه إذا رمى فلا بد أن يقصر أو يحلق ليحل التحلل الأول.(71/62)
تقول السائلة: أنا امرأة أرملة وعندي ست بنات هل يصح أن تذبح إحدى بناتي الأضحية وتجزئ عنا جميعا أم يلزمني أنا أمهم أن أذبحها؟
ج: إذ ذبحتها أو ذبحتها إحدى بناتك وأشركتكن جميعا في أضحيتها فلا مانع من ذلك؛ لأن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: " كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة " أخرجه مالك في الموطأ. فإذا ضحت إحداكن بشاة؛ وقالت الأم: اللهم هذه عني وعن بناتي أو قالت إحدى البنات: هذه عني وعن أخواتي وأمي وأبي وأهل بيتي أجزأهم ذلك، هذا إذا كانت الأضحية ابتداء منهن ليست وصية. ولو أشرك الإنسان أمواته في أضحيته كان حسنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح الضحية قال في إحداهما «اللهم تقبله من محمد(71/62)
وآل محمد وقال في الأخرى تقبلها من أمة محمد (1) » ، فأهل بيته كان فيهم الأحياء والأموات، فدل على أنه إذا أشرك الحي أمواته في أضحيته التي تبرع بها من ماله ليست من غيره وإنما هو متبرع بها سواء في حياته أو أوصى بها بعد موته وقال مال بعدي أضحية تذبح عني وعن آبائي وأمهاتي فلا مانع.
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1967) ، سنن أبو داود الضحايا (2792) ، مسند أحمد بن حنبل (6/78) .(71/63)
س: تقول السائلة: ماذا يحرم على المحرمة من لباس وهل تضع العباءة على الكتف؟
ج: المحرمة لا تلبس القفازين ولا النقاب وليس للمحرمة لباس محدد بل عليها ستر جميع بدنها، والعباءة على الرأس أستر للمرأة وأحفظ لها.(71/63)
س: يقول السائل: هل يجوز للمحرم استخدام معجون للأسنان بنكهة النعناع؟
ج: لا مانع منه.(71/63)
س: يقول السائل: هل يجوز لمن لا يستطيع دفع تكاليف الحج أن يحج على حساب متبرع من أهل الخير؟
ج: إذا تبرع مسلم بأن يدفع نفقة الحج عن بعض المسلمين(71/63)
الفقراء فلا مانع من ذلك ومن حج بهذه النفقة فحجه صحيح ويسقط به الفرض إن كان بالغا.(71/64)
س: تقول السائلة: أنا امرأة نويت الحج متمتعة، ولكن بسيارتنا الخاصة بصحبة أولادي لعدم قدرتي على البقاء مع حملة لمدة أربعة أو خمسة أيام لظروفي الخاصة، وقلت في النية لبيك اللهم عمرة متمتعة بها إلى الحج وأدينا العمرة، ولكن المرور حجز سيارتنا وحالتي المادية لا تسمح لي بالحج مع حملة، فهل علي شيء لأني لا أستطيع إكمال باقي أعمال الحج؟
ج: حاولي الإكمال بقدر الإمكان فإذا تعذر الأمر عليك فلعل الله يعذرك؛ لأن من أحرم بالعمرة متمتعا بها إلى الحج فقد التزم الحج فلا بد أن يحج إلا أن يمنعه مانع لا يستطيع معه الانفكاك فهذا يسقط عنه، وإن أمكنك الاستدانة وكنت تؤملين قدرتك على قضاء الدين فاستديني وأكملي حجك، لأنك بالتمتع التزمت بالحج.(71/64)
تقول السائلة: زوجي مقيم في جدة ونوى العمرة وأحرم قبل حدود الحرم هل عليه شيء؟
ج: إذا كان مقيما في جدة فالسنة لمن كان بجدة أن ينوي الإحرام من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت المواقيت(71/64)
قال: «ومن كان دون ذلك فمهله من حيث أنشأ (1) » ، وإذا خرج من جدة مكان إقامته وجاوزها بدون إحرام وأحرم من قبيل الحرم فالأولى أن يذبح دما بمكة المكرمة؛ لأنه ترك واجبا، وإذا لم يستطع الذبح فعليه صيام عشرة أيام.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1524) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/252) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .(71/65)
يقول السائل: أريد الحج هذا العام وذهبت للأحوال المدنية لاستخراج تصريح لكنهم قالوا: إن النظام لا يسمح إلا عن طريق حملة، وأنا لا أستطيع دفع تكاليف الحملة، ووجدت من يستخرج لي تصريح حج مقابل ثلاثمائة ريال، هل يجوز أن أدفع للحملة مبلغ ثلاثمائة ريال مقابل التصريح ولا أحج معهم؟
ج: بيع الحملات تصريحات للحج مع أن مشتري التصريح لم يحج معهم هذا كذب منهم ومجاوزة للأنظمة، فلا يحل لهم أن يبيعوا التصريحات إلا لمن كان يصحبهم، وفتح هذا الباب قد يسبب إشكالات كثيرة، فلا يجوز لأي حملة أن تبيع التصريح لمن يدفع عوضا ولا يحج؛ لأن كل حملة مسئولة عن الأفراد الذين معها فهو سيقدم بيانا عن الأشخاص الذين شاركوه في الحج وهم لم يشاركوا معه ولم يلتحقوا بحملته وإنما أخذوا التصريح، لذلك نقول: إن بيع التصريحات بهذه الطريقة لا يجوز بل يجب أن يؤخذ على أيدي الحملات وأن يعودوا على التزام الأنظمة.(71/65)
يقول السائل: علي صيام شهرين متتابعين وأنتهي من الشهرين في منتصف شهر ذي الحجة ماذا أفعل يوم العيد وأيام التشريق؟
ج: يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة لا يحل صيامها لا في قضاء رمضان ولا في نذر ولا غيرها إلا فقط لمن يجد دم التمتع أو القران يصوم أيام التشريق الثلاثة؛ لأن الله يقول: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) أما يوم العيد فلا يحل صومه مطلقا لا في دم التمتع والقران ولا في غيره، والفطر يوم العيد وأيام التشريق لا يقطع التتابع لمن كان عليه شهران متتابعان فسيفطر ثم يقضي ما أفطره.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(71/66)
يقول السائل: أريد الحج متمتعا وأديت عمرة في شهر ذي القعدة ثم عدت إلى جدة مكان إقامتي، ماذا يلزمني عند الإحرام بالحج؟
ج: إذا كانت إقامتك في جدة وأنت أحرمت بالعمرة وعدت إلى مقامك بجدة فإن تمتعك قد انقطع. فإن أحرمت بالحج فأنت مفرد ولا دم عليك.(71/66)
يقول السائل: من أراد الحج مفردا هل يطوف ويسعى قبل الحج وهل يؤخر طواف الإفاضة؟(71/66)
ج: إن طفت وسعيت للقدوم فلك ذلك ويسقط عنك السعي يوم النحر، وإن أتيت منى ووقفت بعرفة وبالمزدلفة ثم طفت وسعيت يوم النحر أجزأك، ولو أخرت طواف الإفاضة إلى يوم الوداع وطفته ثم سعيت بعده فلا مانع ويكفيك هذا الطواف عن طواف الوداع إذا لم تقم بعده بمكة.(71/67)
تقول السائلة: نذرت أن أحج عن طفلة صغيرة متوفاة، هل يلزمني الحج عنها؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه (1) » ، لكن لا ينبغي للمسلم أن يكثر من النذر؛ لأن النذر مكروه، لأنه لا يحقق المطلوب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والنذر فإنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل (2) » . فإن كنت نذرت هذا النذر وأنت بالغة فيجب عليك الوفاء به؛ لأنه نذر طاعة، ولكن لا تحجي عنه حتى تحجي عن نفسك حجة الفريضة.
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(2) صحيح البخاري القدر (6608) ، صحيح مسلم النذر (1639) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3801) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3287) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2122) ، مسند أحمد بن حنبل (2/61) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2340) .(71/67)
يقول السائل: أنا وإخواني كل واحد في منطقة ووالدنا يريد أن يذبح الأضحية، فهل تكفينا جميعا أضحية أم لكل واحد أضحية؟
ج: إذا ذبح أبوكم عن الجميع شاة أجزأت عنكم كلكم؛ لأنه إذا قال هذه عني وعن أهل بيتي، أو قال: عني وعن أولادي(71/67)
وزوجاتي وبناتي، أجزأ ذلك وتحققت السنة.(71/68)
تقول السائلة: أريد الحج وموعد الدورة الشهرية يوم الثامن من ذي الحجة، هل أتوجه إلى مكة قبل موعد الدورة الشهرية لأداء العمرة ثم الإحرام بالحج وما الصحيح؟
ج: إذا أحرمت بعمرة وأنت على طهارة وطفت وسعيت وقصرت ثم جاءك الحيض في اليوم الثامن، فأحرمي بالحج اليوم الثامن وقفي بعرفة ومزدلفة وارمي الجمار وقصري وبيتي بمنى، فإذا طهرت إن شاء الله فأدي طواف الحج ولا يقربك زوجك حتى تؤدي طواف الإفاضة.(71/68)
تقول السائلة: متى يجوز للمرأة أن تلبس النقاب في الحج؟
ج: إذا رميت الجمرة يوم العيد وقصرت جاز لك النقاب.(71/68)
تقول السائلة: هل لمن تريد أن تذبح أضحية استخدام المشط لتمشيط شعرها؟
ج: الأصل أن المسلم إذا أراد أن يضحي عن نفسه وعن أهل بيته إذا هل هلال ذي الحجة ألا يأخذ من الأظفار ولا من الشعور شيئا، والمشط لا مانع منه لكن حاولي أن يكون برفق لا يسبب(71/68)
سقوط الشعر.(71/69)
يقول السائل: جئت من المنطقة الشرقية وكان عندي دورة في محافظة جدة وأهل زوجتي من سكان مكة المكرمة، وأذهب لأهلي كل نهاية أسبوع وحججنا، وبعد الحج طفت أنا وأختي طواف الوداع ونمنا يوما ثم خرجنا من مكة، وزوجتي بقيت في مكة ولم تغادرها إلا بعد شهرين، هل يلزمها طواف الوداع؟
ج: إذا كنتم أخذتم عمرة فإحرامكم من جدة صحيح لكن نومكم في مكة بعد طواف الوداع يعتبر إقامة، فالواجب أن تعيدوا طواف الوداع، وإذا ذهب وقته فعليكم أن تذبحوا شاة عن ترككم طواف الوداع؛ لأنكم أقمتم بعده، وبالنسبة لزوجتك إذا كانت حجت وأرادت أن تغادر مكة فلا بد من طواف الوداع؛ لأن سكنها في مكة ليس بإقامة.(71/69)
يقول السائل: هل الطفل الصغير الذي يريد الحج نلبسه حفاظه خشية وقوع بوله على ملابسي وهل له وضوء؟
ج: لا مانع من إلباس الطفل حفاظه وهو محرم بالحج والعمرة، أما الوضوء فهو ليس مكلفا ولكن حجه صحيح وإن كان طفلا «النبي صلى الله عليه وسلم رفعت له امرأة طفلا قالت: ألهذا(71/69)
حج؟ قال: نعم، ولك أجر (1) » والحج أو العمرة بالصبي جائز، ويلبس الإحرام ويمنع مما يمنع منه المحرم.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1336) ، سنن النسائي مناسك الحج (2648) ، سنن أبو داود المناسك (1736) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، موطأ مالك الحج (961) .(71/70)
يقول السائل: إذا دخلت دورة المياه أرغب الاغتسال وقمت بغسل فرجي وتمضمضت واستنشقت وصببت الماء على جسدي، هل يجزئ ذلك عن الوضوء؟
ج: إذا اغتسلت الاغتسال المسنون كغسل الجمعة أو الواجب كغسل الجنابة ونويت رفع الحدثين الأكبر والأصغر وتمضمضت واستنشقت أجزأك عن الوضوء، أما إذا كان غسلا فقط للنظافة فهذا لا يجزئك عن الوضوء.(71/70)
يقول السائل: اعتمرت في رمضان ثم عدت إلى جدة وأريد التمتع، هل يحل لي أن أعتمر هذه الأيام قبل الحج ثم أعود إلى جدة وأصوم الأيام الثلاثة لأني لا أملك ثمن الدم؟
ج: من أحرم بالعمرة في رمضان لا يسمى متمتعا، لأن المتمتع من يحرم بالعمرة في أشهر الحج ناويا بها التمتع، وإذا أحرمت في أشهر الحج عمرة ناويا بها التمتع صح لك ذلك، وإذا كنت عاجزا عن الهدي تصوم ثلاثة أيام بعد إحرامك كأن تحرم مثلا يوم السادس من ذي الحجة فتصوم السادس والسابع والثامن في مكة(71/70)
المكرمة أو تصوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؛ لحديث عائشة لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، وسبعة أيام تصومها إذا رجعت إلى بلدك.(71/71)
يقول السائل: أمي تعيش في الدمام وحضرت قبل أسبوعين إلى جدة وهي تنوي الحج وتريد أن تذهب إلى الميقات للإحرام فإلى أي المواقيت تذهب للإحرام؟
ج: اخرج بها إلى ميقات نجد قرن المنازل السيل الكبير.(71/71)
يقول السائل: أديت عمرة في شوال وكنت أنوي السفر لكني تراجعت وأرغب أداء الحج عن والدي هل أحج مفردا؟
ج: نعم يجوز لك الحج مفردا.(71/71)
يقول السائل: هل يجوز التوكيل في الهدي والأضحية؟
ج: نعم يجوز التوكيل لكن احرص على توكيل من تثق به ولا تعطها من لا تعرف؛ لأن ذمتك لا تبرأ إذا أعطيتها من لا تعرف ولم يهد عنك لأنك مفرط.(71/71)
تقول السائلة: امرأة كانت تسمع أصواتا بين فترة وأخرى(71/71)
وبعد فترة زالت هذه الأصوات وحجت، وبعد حجها جاءت لها أفكار ووساوس فتركت الصلاة لفترة، ثم كانت تقول أنها كافرة وغير ذلك، ثم جاءتها حالة نفسية شديدة وتتخيل أن هناك شياطين حولها، وذهبوا بها للمستشفى وأعطوها أدوية نفسية وحاليا حالتها الصحية جيدة، ماذا عن حجها وماذا عن الفترة التي تركت فيها الصلاة؟
ج: كل هذه وساوس شيطانية وخيالات لا حقيقة لها ومن إرجاف الشيطان، وعلى المسلم أن يحصن نفسه بالأوراد يقرأ عند منامه " آية الكرسي " و " قل هو الله أحد " و " المعوذتين " و " آخر سورة البقرة " ويكثر من التسبيح والتكبير والتحميد وذكر الله والمحافظة على الفرائض وتلاوة القرآن هذه تحصنه؛ لأن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، فإذا حصن الإنسان نفسه بهذه الأذكار بتوفيق من الله تفر الشياطين منه، إنما يؤتى الإنسان من فراغ القلب من ذكر الله، وبالنسبة لتركها للصلاة تتوب إلى الله وتستقبل عملا صالحا وتسأل الله الثبات والتوفيق في المستقبل، وأما حجها السابق فصحيح وكل ما أتاها وساوس لا تركن إليها ولا تلتفت لها أبدا.(71/72)
تقول السائلة: حججت وأثناء رمي جمرة العقبة رميت من بعيد ولست متأكدة هل وقعت الحصوة في الحوض أو لم تقع، ما(71/72)
الحكم وأيام التشريق وكلت في الرمي؟
ج: إذا كان الغالب أنها وقعت فلا شيء عليك إن شاء الله، لكن إن كان الغالب على الظن عدم وقوعها فعليك دم، والتوكيل صحيح إذا كان بعذر شرعي كالزحام ونحوه.(71/73)
يقول السائل: أنا مقيم في جدة وزوجتي ستأتي من القاهرة للحج هل تحرم من جدة أو تأتي محرمة من القاهرة؟
ج: تحرم عند محاذاة الميقات وسيخبرها ملاحو الطائرة بالقرب من الميقات فإذا أخبروها فلتلب بالحج.(71/73)
يقول السائل: أنا سوداني مقيم في الطائف وأريد أن أضحي في السودان، هل يجوز لي الحلق مع دخول عشر ذي الحجة؟
ج: لا تقلم ظفرا ولا تقص شعرا حتى تذبح الأضحية في السودان، فإن العبرة بمن يريد أن يضحي سواء باشر الذبح بنفسه أو أناب من يذبح عنه.(71/73)
يقول السائل: هل يجوز لأهل مكة الذين حجوا الذهاب إلى جدة قبل طواف الإفاضة؟
ج: يجوز أن تذهب إلى جدة لكن لتعلم أن حجك لا يكمل(71/73)
إلا بطواف الإفاضة ولا يحل لك جماع زوجتك إلا بعد طواف الإفاضة فاحرص على أدائه.(71/74)
تقول السائلة: عمي من أهل الباحة وأدى عمرة في أشهر الحج ثم عاد ومكث في جدة من أين يحرم للحج؟
ج: يحرم من جدة للحج وعليه دم التمتع يذبحه في منى يوم العيد أو أيام التشريق.(71/74)
س: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحج مبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ما صفة الحج المبرور؟
ج: سئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور (1) » متفق عليه.
وأخرج أصحاب الكتب التسعة إلا أبا داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » واختلفت عبارات السلف في تفسير الحج المبرور، فمنهم من قال: الذي لا يخالطه إثم، ومنهم من قال: الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق، وقيل: الذي لا
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (850) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2622) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .(71/74)
معصية بعده، وكلها أقوال صحيحة يجمعها أن الحج المبرور هو الذي يؤدى تقربا إلى الله وطاعة له خالصا من أدران الشرك صغيره وكبيره والبدع والمعاصي، ويكون حاملا لصاحبه على إحسان العمل بعده.(71/75)
س: هناك من يعجز عن الحج عجزا بدنيا أو عجزا ماليا فيكلف نفسه فوق طاقتها ليؤدي الحج، ما حكم عمله هذا؟
ج: الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) وفي الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه في قصة ضمام بن ثعلبة وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم فكان فيما قال: «وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال: صدق (2) » هذا في رواية مسلم. فثبت بالكتاب والسنة أنه لا يجب الحج إلا على المستطيع، أما العاجز فلا يجب عليه الحج، والعجز عن الحج إما أن يكون بالمال وإما بالبدن أو بكليهما، فإن عجز عن الحج ببدنه لكبر سن أو مرض لا يستطيع معه الحج فإنه يقيم من ماله من يحج عنه، ودليل ذلك حديث الخثعمية وفيه أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج وأدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: نعم (3) » فدل الحديث على أن الاستطاعة تكون بالغير
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) صحيح مسلم الإيمان (12) ، سنن الترمذي الزكاة (619) ، سنن النسائي الصيام (2091) ، سنن الدارمي الطهارة (650) .
(3) صحيح البخاري الحج (1513) ، صحيح مسلم الحج (1334) ، سنن الترمذي الحج (928) ، سنن النسائي مناسك الحج (2642) ، سنن أبو داود المناسك (1809) ، سنن ابن ماجه المناسك (2907) ، مسند أحمد بن حنبل (1/251) ، موطأ مالك الحج (806) ، سنن الدارمي المناسك (1833) .(71/75)
كما تكون بالنفس، ومن العجز أيضا ما يكون بسبب المال فهنا لا يجب عليه الحج، فمن المعلوم أن الحج له كلفة ومئونة فمن لم يقدر عليها يكون غير مستطيع للحج فلا يجب عليه، وأولى من هذا من عجز بماله وبدنه فإن هذا لا يجب عليه الحج.
وهذان الصنفان يبقى الحج في ذممهما إلى أن يوسرا فمتى استطاع بالمال وجب عليه الحج أو التوكيل وإن لم يقدر حتى مات فلا شيء عليه لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ، ولا ينبغي للمسلم أن يكلف نفسه ما لا يطيق من الديون ونحوها حتى يحج، بل إن استطاع الحج فيجب عليه المبادرة به وإن لم يستطع وعجز فهو معذور والحمد لله، فإن تكلف مع ذلك وحج فقد أجزأه وصح حجه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة التغابن الآية 16(71/76)
س: من الأمور الملاحظة أثناء الطواف التزام بعض الطائفين أدعية معينة يقرءونها من كتيبات فهل للطواف دعاء خاص به؟
ج: جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهر رد (1) » ، وفي الصحيحين عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(71/76)
قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، ومعنى (رد) أي مردود عليه، فيكون باطلا غير معتد به، وهذا الحديث أصل في رد كل البدع.
وهذه الأدعية المعينة التي تقال في الطواف بحيث يجعل لكل شوط دعاء ونحو ذلك، لا أصل لها ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية المعينة في الطواف إلا قوله بين الركنين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) والمشروع له في الطواف الاشتغال بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن من غير تعيين أدعية وأذكار يلتزمها في مواضع من طوافه.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سورة البقرة الآية 201(71/77)
س: من الحجاج من يرفع صوته بالدعاء سواء في الطواف أو السعي أو غيرهما، ما حكم ذلك؟
ج: رفع الصوت بالذكر مشروع في مواضع منها رفع الصوت بالتلبية، فالحاج إذا لبى رفع صوته وكذلك رفع الصوت بالذكر عقيب الصلاة ونحو ذلك، هذا كله ثابت بالسنة، أما حال الطواف والسعي فلا أعلم أصلا لرفع الصوت بالدعاء في تلك الحال بل لعل المشروع خفض الصوت لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد أهللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(71/77)
" يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده (1) » أخرجه البخاري. قال الطبري رحمه الله: " فيه كراهة رفع الصوت بالدعاء والذكر وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين ".
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2992) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) ، سنن الترمذي الدعوات (3374) ، سنن أبو داود الصلاة (1526) ، سنن ابن ماجه الأدب (3824) ، مسند أحمد بن حنبل (4/419) .(71/78)
س: ظاهرة الدعاء الجماعي من الظواهر الملحوظة ولا سيما في الطواف أو السعي أو في المشاعر، هل لذلك أصل، وهل يعذر من لا يحسن الدعاء؟
ج: الدعاء على هذه الصفة غير مشروع؛ لأنه لم ينقل، والتعلل بأنه لا يحسن الدعاء غير مبرر لهذا العمل، لأنه لا يشرع في الطواف دعاء مخصوص بل يدعو العبد بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وإن عجز عن الدعاء فلن يعجز أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار فإنه قد «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله: كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسالك الجنة وأعوذ بك من النار. أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حولها ندندن (1) » . وكل هذه أمور يدركها آحاد المسلمين والله سبحانه لا يشرع لعباده إلا ما يطيقون، فالواجب الاتباع والتأسي فليس الشأن بكثرة الدعاء وطوله وتحسين ألفاظه، لكن الشأن في صلاح القلب والقول والعمل وموافقة السنة.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (792) ، مسند أحمد بن حنبل (3/474) .(71/78)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 3122
السؤال الخامس: إذا كان رجال أو نساء بلغوا سن الرشد وهم لا يصومون ولا يصلون، وذلك ليس بالقصد بل جاهلون بأمور دينهم، وعندما عرفوا وتفقهوا بالدين ندموا على ما فات وأقلعوا عن الذنوب وعزموا على عدم العودة، هل عليهم شيء بما فرطوا به قبل تفقههم بالدين؟
ج: من ترك الصيام والصلاة عمدا وهو مكلف فلا يقضي ما فاته، ولكن عليه التوبة والرجوع إلى الله جل وعلا، والإكثار من التقرب إليه بالأعمال الصالحة والدعاء والصدقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما كان قبلها والإسلام يهدم ما كان قبله (1) » . ومن المعلوم أن ترك الصلاة كفر أكبر؛ لقول النبي صلى
__________
(1) هذا قطعة من حديث طويل أثر عن عمرو بن العاص.(71/79)
الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ولأدلة أخرى، فإذا تاب من تركها فليس عليه قضاء الصلاة ولا الصيام؛ لما ذكر من الأدلة وغيرها في أصح قولي العلماء.
بالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(71/80)
من الفتوى رقم 4271
السؤال الثاني: أفتوني جزاكم الله خيرا عن حكم الرجل الذي ترك الصلاة وقتا طويلا من الزمان ثم رجع إلى ربه وقام يؤديها في أوقاتها وندم على ما فاته، ولكنه لم يثبت حتى الآن؟
ج: من ترك الصلاة من المكلفين عمدا جاحدا لوجوبها كفر بالإجماع، ومن تركها تهاونا وكسلا كفر على الصحيح من قولي أهل العلم، وإذا عاد وصلى وحافظ على الصلوات مستقبلا حكم بإسلامه، والتوبة تجب ما قبلها والإسلام يجب ما قبله، فلا يقضي ما تركه من الصلاة، والواجب عليه الثبات على ذلك والاستمرار عليه وسؤال ربه العون والتوفيق؛ لأن «القلوب بين أصبعين من أصابع(71/80)
الرحمن يقلبها كيف يشاء (1) » ، فنسأل الله له الثبات على الحق والعافية من شر نفسه وشيطانه وهواه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 2 \ 168 و173 و6 \ 182 و251 و303 و315، ومسلم برقم 2654، وأخرجه الترمذي في الجامع برقم 2141 وقال: هذا حديث حسن.(71/81)
من الفتوى رقم 4476
السؤال السابع: ما حكم قضاء صلوات المفرط، مثاله: كنحن العجم فينا كثير وهم مسلمون يصلون مرة ومرة لا يصلون وحتى بلغ عمرهم ثلاثين سنة أو دون ذلك لكن بعد الثلاثين صاروا يؤدون الفرائض على حالها، وهل الذين فرطوا عن أدائها وقضائها حق يجب عليهم قضاؤها إذا صاروا يرقبون الفريضة على حالها وكذلك صوم رمضان؟
ج: الشخص الذي هذه حالته يكون كافرا كفرا أكبر في(71/81)
أصح قولي العلماء إذا لم يجحد وجوبها، أما إن جحد وجوبها فإنه يكفر بإجماع العلماء، فإذا تاب وصلى الصلوات المفروضة وصام رمضان واستمر على ذلك حكم بإسلامه، وما مضى قبل ذلك من ترك الصلاة والصيام عمدا لا يقضيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (1) » . ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما قاتلوا أهل الردة في زمن الصديق رضي الله عنه لم يأمروا من رجع إلى الإسلام منهم بقضاء الصوم ولا الصلاة، وهم أعلم الناس بشرع الله بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .(71/82)
من الفتوى رقم 4678
السؤال الأول: صرحت الأحاديث الصحاح بكون تارك الصلاة كافرا، وإذا أخذنا بظاهر الحديث وجب منع تارك الصلاة عمدا من جميع حقوقه في الإرث، وتخصيص مقابر خاصة بهم(71/82)
وعدم الصلاة والسلام عليهم، بحيث إنه لا أمن ولا سلام على كافر، ولا ننسى أنه لو قمنا بإحصاء المصلين من بين الرجال المؤمنين وغير المؤمنين قد لا يتعدى 6% والنساء أقل من ذلك، فما رأي الشرع فيما سبق، وما حكم إلقاء السلام أو رده على تارك الصلاة؟
ج: اختلف العلماء في تارك الصلاة عمدا من المسلمين إذا لم يجحد وجوبها فقال بعضهم: هو كافر كفرا يخرج من ملة الإسلام ويعتبر مرتدا ويستتاب ثلاثة أيام فإن تاب فبها؛ وإلا قتل لردته، فلا يصلى عليه صلاة الجنازة ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يسلم عليه حيا ولا ميتا ولا يرد عليه السلام ولا يستغفر له ولا يترحم عليه ولا يرث ولا يورث ماله بل يجعل في بيت مال المسلمين، سواء كثر تاركوا الصلاة عمدا أم قلوا، فالحكم لا يختلف بكثرتهم وقلتهم.
وهذا القول هو الأصح والأرجح في الدليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه مع أحاديث أخرى في ذلك، وقال جمهور العلماء: إن جحد وجوبها فهو كافر مرتد عن دين الإسلام وحكمه كما تقدم تفصيله في القول الأول، وإن لم
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(71/83)
يجحد وجوبها لكنه تركها كسلا مثلا فهو مرتكب كبيرة غير أنه لا يخرج بها من ملة الإسلام وتجب استتابته ثلاثة أيام فإن تاب فالحمد لله وإلا قتل حدا لا كفرا، وعلى هذا يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالمغفرة والرحمة ويدفن في مقابر المسلمين ويرث ويورث، وبالجملة تجرى عليه أحكام المسلمين العصاة حيا وميتا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(71/84)
من الفتوى رقم 4791
السؤال الأول: قبل أربع سنوات كنا في رحلة ترفيهية وأثناء هذه الرحلة تركت صلاة (إما صلاة الظهر أو العصر) لا أتذكر الآن، علما بأنني تركتها تهاونا وتكاسلا مني، وأنا الآن نادم على ما ارتكبته من ذنب فأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، فماذا يجب علي، وهل علي كفارة؟
ج: عليك أن تتوب إلى الله توبة صادقة ولا قضاء عليك؛ لأن(71/84)
ترك الصلاة المفروضة عمدا كفر أكبر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » خرجه مسلم في صحيحه ولا كفارة في ذلك سوى التوبة النصوح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(71/85)
من الفتوى رقم 10618
السؤال الثاني: الله حرم علينا الزنا وحرم علينا ترك الصلاة، فأي ذنبهما أكبر من بعض؟
ج: ترك الصلاة أعظم ذنبا من فعل الزنا؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر يخرج من الإسلام، أما الزنا فمن كبائر الذنوب لا يكفر صاحبه إذا لم يستحله، ولكن يجب عليه الحد الشرعي إذا رفع أمره إلى السلطان.(71/85)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(71/86)
من الفتوى رقم 7335
السؤال الأول: إذا كان المسجد جمعة وجماعة في البلد هل تجوز الصلاة بدون أذان وإقامة، وإذا ترك في الأذان " الصلاة خير من النوم " لعدم معرفته هل تصح الصلاة بدون عذر شرعي وعدم فوات الوقت، وإذا أقام الصلاة وجعلها كأذان، أو قال للإقامة مرة واحدة لعدم المعرفة هل تجوز الصلاة بدونها وبدون عذر شرعي؟
ج: الأذان فرض كفاية في البلد وهكذا الإقامة، وعند إرادة الصلاة يقيم قبل أن يدخل فيها، وإذا دخل في الصلاة بدون أذان ولا إقامة نسيانا أو جهلا أو لغير ذلك، فصلاته صحيحة، وكذلك إذا ترك جملة "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر فصلاته صحيحة ولو كان الوقت باقيا.(71/86)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(71/87)
من الفتوى رقم 12260
س: ما حكم الأذان في ديار الكفار، كذلك هل يؤذن في كل مكان يصلى به، وهل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «عجب الله تعالى من راعي غنم بشظية من جبل أذن فأقام فصلى (1) » أقول هل يؤيد ما يقوله بعض الإخوة من أن الأذان من الأمور التعبدية؟
ج: يشرع للمسلم الأذان والإقامة إذا حضرت الصلاة سواء كان في بلاد المسلمين أو في بلاد الكفار أو في السفر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم (2) »
__________
(1) سنن النسائي الأذان (666) ، سنن أبو داود الصلاة (1203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/158) .
(2) الإمام أحمد 5 \ 35 والبخاري رقم 4302 وأبو داود برقم 585 والنسائي 2 \ 8 و9 (ط الحلبي) .(71/87)
وغيره من الأحاديث الواردة في فضل الأذان والأمر به.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(71/88)
من الفتوى رقم 7645
س: يؤدون صلاتهم بدون الأذان فما الحكم؟
ج: لا يجوز أن يؤدوا صلاتهم بدون أذان، لأن الأذان فرض كفاية على المسلمين في كل بلد، وهكذا المسافرون عليهم أن يؤذنوا للصلاة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في أسفاره، وكما «ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمالك بن الحويرث لما استأذنه هو وأصحابه في الرجوع إلى بلادهم: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم (1) » متفق على صحته، فإذا تركه أهل البلد أثموا جميعا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرد أن يغير على قوم انتظر حتى يصبح، فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار عليهم، لكنه ليس بشرط صحة في الصلاة، فلو صلوا بدون أذان صحت صلاتهم.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (628) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، سنن الترمذي الصلاة (205) ، سنن النسائي الأذان (635) ، سنن أبو داود الصلاة (842) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/53) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .(71/88)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(71/89)
من الفتوى رقم 5682
السؤال الرابع: هل يجوز للرجل المنفرد أن يصلي بدون أذان؟
ج: نعم يجوز له أن يصلي بدون أذان، لكن إن كان في بادية أو مزرعة نائية ونحو ذلك شرع في حقه أن يؤذن ولو كان سيصلي وحده، كما تشرع له الإقامة مطلقا، لعموم الأدلة ولقول أبي سعيد الخدري الصحابي الجليل رضي الله عنه لعبد الله الأنصاري: «إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " (1) قال أبو سعيد: " سمعته
__________
(1) الإمام أحمد 3 \ 35 و43 والبخاري 1 \ 151 إستانبول، والإمام مالك في الموطأ 1 \ 69 والنسائي 2 \ 11 ط الحلبي.(71/89)