ج: نعم يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويرجى له أجر الشهيد، إذا خلصت نيته.(66/73)
المظلوم يغسل ويصلى عليه
س: هل يغسل المظلوم؟
ج: نعم يغسل ويصلى عليه، فعمر الفاروق - رضي الله عنه - قتل مظلوما، وعثمان - رضي الله عنه - قتل مظلوما، ومع هذا غسلا وصلى عليهما الصحابة - رضي الله عنهم - وهكذا علي - رضي الله عنه - قتل مظلوما، وغسل وصلي عليه.(66/73)
حكم تغسيل المنتحر والصلاة عليه
س: هل قاتل نفسه يغسل ويصلى عليه؟ (1) .
ج: قاتل نفسه يغسل ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين؛ لأنه عاص وهو ليس بكافر؛ لأن قتل النفس معصية وليس بكفر، وإذا قتل نفسه والعياذ بالله يكفن ويصلى عليه. لكن ينبغي للإمام الأكبر ولمن له أهمية أن يترك الصلاة عليه من باب الإنكار؛ لئلا يظن أنه راض عن عمله. والإمام الأكبر أو السلطان أو القضاة أو رئيس البلد أو أميرها إذا ترك ذلك من باب إنكار هذا الشيء وإعلان أن هذا خطأ
__________
(1) نشر في (فتاوى إسلامية) ، جمع وترتيب: محمد المسند (2 \ 62) .(66/73)
فهذا حسن، ولكن يصلي عليه بعض المصلين.(66/74)
كيفية تغسيل من مات
في حادث وقد تشوه جسده
س: الأخ ع. ع. س. من الرياض، يقول في سؤاله: كيف يتم تغسيل الإنسان الذي يموت في حادث، ويتشوه جسمه، وربما تقطع بعض أجزائه، نسأل الله السلامة والعافية (1) .
ج: يجب تغسيله كما يغسل غيره، إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن فإنه ييمم؛ لأن التيمم يقوم مقام التغسيل بالماء عند العجز عن ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من الأسئلة الموجهة إلى سماحته. من (المجلة العربية) .(66/74)
المغسل يخبر بعلامات الخير لا الشر.
س: هل يبين المغسل بعض العلامات من الخير والشر؟ (1) .
ج: علامات الخير لا بأس بالإخبار عنها، أما الشر فلا؛ لأنها غيبة، لكن لو قال: إن بعض الأموات يكون أسود أو غير ذلك، فلا بأس لكن الممنوع أن يقول غسلت فلانا ورأيت فيه كذا من علامات الشر؛ لأن ذلك يحزن أهله ويؤذيهم، وهو من الغيبة.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء(66/74)
مدى صحة حديث
من غسل مسلما فستر عيوبه
س: ما مدى صحة الحديث الذي يقول: من غسل مسلما فستر عيوبه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ (1) .
ج: لا أعلم له أصلا، ولكن يستحب للغاسل الستر على الموتى، وعدم إفشاء ما قد يظهر من مساويهم للناس، أما إظهار محاسنهم فلا حرج في ذلك. بل هو حسن؛ لكونه يبشر بالخير، ويسر أهل الميت، ولا شك أن إظهار المساوي نوع من الغيبة.
س: حديث: " من غسل ميتا فستر عليه، ستر الله عليه يوم القيامة "، ما صحة هذا الحديث؟ (2) .
ج: لا أعرفه، ولكن عندنا حديث صحيح يغني عنه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة (3) » .
أخرجه مسلم في صحيحه، وهو عام في الحي والميت.
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته، جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.
(2) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) ، برقم (5614) ، والبخاري في (المظالم والغصب) ، برقم (2442) ، ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) ، برقم (2699) واللفظ له.(66/75)
كيفية تكفين الميت
س: ما كيفية تكفين الميت بالنسبة للذكر والأنثى؟ (1) .
ج: السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، بيض، كما كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وإن كفن في ثوب واحد واسع يعمه ويستره كفى، وإن كفن في قميص وإزار ولفافة جاز، أما المرأة فالأفضل تكفينها في خمسة أثواب: إزار: وخمار: وقميص: ولفافتين، فهذا هو الأفضل، كما ذكره أهل العلم، وجاء في ذلك أحاديث تدل عليه. وإن كفنت في أقل من ذلك فلا بأس.
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته، جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.(66/76)
كيفية تكفين المحرمة.
س: كيف تكفن المرأة المحرمة؟ (1) .
ج - تكفن كأمثالها في إزار وخمار وقميص ولفافتين، ويغطى وجهها كغيرها ولكن بغير نقاب؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرمة عن النقاب، أما ستر وجهها بغير النقاب فلا بأس به، ولا تطيب، لأنها محرمة.
__________
(1) هذا السؤال وثلاثة بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/76)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتى عام المملكة العربية السعودية
س: لم أبت بمنى في أول ليلة، وذلك بسبب إصابتي بضربة الشمس، وضياع مالي بعرفة، أي أجرة السيارة، فهل على فدية؟
ج: أرجو أن لا حرج عليك في ذلك، لأنك معذور في ترك المبيت بمنى، وذلك لعدم قدرتك البدنية والمادية، فأسأل الله أن يعفو عنا وعنك، وليس عليك فدية.(66/77)
س: إذا بيت النية من الليل أن أصوم الاثنين، ولكن بعد طلوع الفجر نسيت وشربت ماء، والصيام تطوع، فهل على أن أكمل الصيام؟ .
ج: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه (1) » متفق عليه واللفظ لمسلم، وهذا من تخفيف الله على عباده، ورحمة الله بهم، وعليه فإن أتمت صومك
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1933) ، صحيح مسلم الصيام (1155) ، سنن الترمذي الصوم (721) ، سنن أبو داود الصوم (2398) ، سنن ابن ماجه الصيام (1673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/425) ، سنن الدارمي الصوم (1726) .(66/77)
فهو صحيح إن شاء الله.(66/78)
س: سماحة الشيخ: من أجرى عملية جراحية، ولا يستطيع القيام من السرير، وفي بدنه وثوبه نجاسة، كيف يتطهر؟ هل يتوضأ بالماء؟ مع العلم بأنه يجد صعوبة في إزالة النجاسة؟ .
ج: يقول العلماء - رحمهم الله -: إن الصلوات الخمس لها خصوصية بين سائر الأركان الثلاثة، الصوم إنما يجب في كل عام، ومن استطاع وإلا صام من أيام أخر، وإن عجز أطعم، والزكاة إنما تجب على مالك النصاب الزكوي الماضي عليه الحول، في العام مرة، والحج إنما يجب في العمر مرة على من استطاعه، أما الصلوات الخمس؛ فإن الله أوجبها علينا خمس مرات في كل يوم وليلة، وما دام عقل الإنسان موجودا، فهو مطالب بهذه الفريضة، وهذه الفريضة تجب على المسافر وعلى المقيم، تجب على الخائف وعلى الآمن، تجب على المريض وعلى الصحيح، وهذه الصلوات الخمس أنت مطالب بأن تؤديها بكامل أركانها وواجباتها، هذا مع القدرة، وأن تستكمل شروطها نحو استقبال القبلة، والطهارة من الحدث والنجس، فيكون الثوب طاهرا، والبقعة طاهرة، والبدن طاهرا، وتصليها أيضا باستكمال الأركان والواجبات، ولكن إذا عجزت عن شيء سقط عنك، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال:(66/78)
«كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، فقال: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (1) » أخرجه البخاري.
إذا المريض يصلي، فإن قدر على استكمال الأركان والواجبات فالحمد لله، وإن عجز صلى على حاله، إن أعجزه القيام، صلى جالسا، وإن أعجزه السجود والركوع أومأ بالركوع والسجود، ولو جالسا، وإن تعذر عليه استقبال القبلة، بأن كان سريره ليس إلى جهة القبلة، ولا يستطيع تحويله، صلى على حاله، إن قدر على الطهارة بالماء فالحمد لله، فإن عجز عنها تيمم. ومن لا يستطيع الوضوء وليس عنده من يحضر له التراب، صلى ولو بلا تيمم.
يجب أن يطهر الثوب من النجاسة، والمريض إن لم يكن عنده من ينظف ملابسه، وهو لا يقوى على تنظيف ملابسه، من البول والغائط أو غيرهما من النجاسات، عافانا الله وإياكم، نقول صل على حالك، وصلاتك صحيحة إن شاء الله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن الترمذي الصلاة (371) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1660) ، سنن أبو داود الصلاة (951، 952) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1231) ، مسند أحمد بن حنبل (4/433، 4/435، 4/442، 4/443) .
(2) سورة المائدة الآية 6(66/79)
س: حججت ومعي ابني الصغير والبالغ من العمر سنة واحدة، هل أطوف، ثم أنوي له الطواف وأطوف، أم أنوي له الطواف ولنفسي في طواف واحد؟(66/79)
ج: لو طفت به في طوافك فأرجو أن يجزئ ذلك.(66/80)
س: نرجو أن تدلنا على الكتب المفيدة لطلب العلم؟
ج: من يريد العلم مخلصا في ذلك لله، فليتصل بعالم ذي معتقد سليم، ومنهج قويم، وطريقة مثلى؛ لأن طالب العلم الذي على المنهج، في عقيدته وسلوكه، وأعماله، هو الذي بتوفيق الله يهديك إلى الطريق المستقيم، فتأتي لذي علم يدلك على الكتب النافعة، سواء في باب العقيدة، أو في باب الأحكام، أو في باب الحديث، أو اللغة العربية، أو غير ذلك من علوم الإسلام، فإنك إن ظفرت بعالم ذي علم ومعرفة، ومنهج قويم، وعقيدة مستقيمة، فسيدلك إن شاء الله على ما ينفعك ويعينك، وليس من منهج سلفنا الصالح الاكتفاء بالكتب، بل كانوا يثنون الركب عند العلماء، وفي حلقاتهم، وهم مع ذلك يطالعون الكتب، وينسخونها أو يستنسخونها، والواجب علينا السير على منهاجهم، وفق الله الجميع لما يحب ويرضاه.(66/80)
س: حضانة الطفل الذكر إن تزوجت الأم، لمن تكون بعد السنين السبع، كيف يكون وضع هذا المولود؟
ج: الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «أنت أحق به ما لم تنكحي (1) » والحضانة للأم، ثم أمها، ثم الخالة، فإن عدم، انتقل ذلك إلى الأب، وينبغي في جنس هذه
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2276) ، مسند أحمد بن حنبل (2/182) .(66/80)
الأمور أن يذكر الأبوين أن نزاعهما، الضحية فيه ذلك المولود، فليحاولا علاج القضية، بدون أمور قد تسبب في إحداث شيء في نفس الطفل، وعدم مبالاة الأب، وبعده عن الأم، فينبغي في هذه المسائل أن يذكر الأب والأم مصلحة الابن والبنت، مصلحة الأولاد الصغار، لو تذكرها الأب، لما أقدم على الطلاق، بل يصبر، ويتحمل، ولو تعقلت الأم، لصبرت على زوجها، وتحملت في سبيل ما يجمع أولادها بأبويهم، أسأل الله التوفيق.(66/81)
س: من أكل من كبد الإبل، هل انتقض وضوؤه، وهل لحم البقر ناقض للوضوء؟
ج: أما لحم البقر فلا ينقض الوضوء، هو كلحم الغنم، النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل «أنتوضأ من لحم الإبل؟ " قال: نعم قال: " أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت (1) » . ولحم البقر سكت عنه، فهو كالغنم، لكن هل الكبد في الجمل كاللحم الأحمر أم لا؟ من العلماء من يقول: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: «أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم (2) » أخرجه مسلم، من حديث جابر بن سمرة. أن اللحم يطلق على الهبر الأحمر، أما الكرش والكبد ونحو ذلك، فلا تنقض الوضوء، قالوا لأن ظاهر اللفظ أنتوضأ من اللحوم، والكبد والطحال والكرش ونحو ذلك لا يأخذ مسمى اللحم، تقول: هذه كبد. هذه كرش. هذا لحم، فأنت تخص اللحم
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (360) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (495) ، مسند أحمد بن حنبل (5/106) .
(2) صحيح مسلم الحيض (360) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (495) ، مسند أحمد بن حنبل (5/98) .(66/81)
بالهبر ولا تلحق به غيره، ومن العلماء من عمم وقال: إن الله لما حرم الخنزير، أخبر عن لحمه، والإجماع قائم على أن كل أجزائه حرام، وعلى كل، من توضأ من أكل عموم لحوم الإبل كبدها وغيرها، فهو احتياط، ومن اقتصر على الوضوء من الهبر، اللحم الأحمر فلا شيء عليه.(66/82)
س: أقرضت رجلا مبلغا من المال، وبعد فترة، طلب مني أن أخبره برقم حسابي، ليحول عليه المبلغ، فوجدته قد زاد على المبلغ الذي أقرضته خمسة آلاف ريال، فراجعته في ذلك الأمر، فقال إنه قصد في ذلك جزاء الإحسان إليه، فهل يجوز لي أخذ هذا المبلغ؟
ج: الأصل أن من أقرض يأخذ قدر ما أقرض، وأما الزيادة فلا، فكل قرض جر نفعا فهو ربا، ولا شك أنه إذا دفعه إليك وأنت لم تطلبه، ولم ترض به، وإنما هو من باب الإحسان، فالظاهر جوازه، النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، قال: «أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2392) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/431) .(66/82)
س: سماحة الشيخ في بلدنا أربع مسائل اختلف فيها المسلمون فنرجو بيان الحكم؟(66/82)
المسألة الأولى: في بعض المساجد في ديارنا يصلى بعد صلاة الجمعة الظهر احتياطا، وفي بعض المساجد لا يصلون. فأيهما أصح؟
ج: هذه المسألة، وهي أن بعض إخواننا المسلمين، إذا صلوا الجمعة قاموا وأدوا الركعتين جميعا، يقولون هاتان الركعتان تكميلا؛ لأن تكون الصلاة أربعا، لماذا؟ ، قالوا: خوفا من أن تكون الجمعة أقيمت ولا حاجة لها، فتكون باطلة، فنأتي بركعتين احتياطا، هذا تصورهم، يقولون: لأن الأصل أن الجمعة لا يجوز تعددها، وإنا نصلي ركعتين حتى تكون ظهرا، جمعة في الظاهر، وظهرا في الباطن، وهذا قول خاطئ، لا دليل عليه، ولا أصل له؛ لأن الأصل أن يوم الجمعة فرضه ركعتان، والصحيح أن الجمعة يجوز تعددها إذا دعت الحاجة إليها، بعضهم يقول لعل الجمعة الأولى هي الأصل وجمعتنا في هذا المسجد ليست أصلا، كل هذا خطأ، كل هذا من تلبيس الشيطان، فلا نصلي بعد الجمعة إلا الركعتين النافلة، كل يصليها لنفسه، وأما الدعوى أن هاتين الركعتين خوفا من أن تكون هذه الجمعة لا تقبل، لكونها أقيمت لغير حاجة، فهذه الدعوة باطلة، لا يجوز للمسلم أن يعمل بها، ولا يعتقدها.(66/83)
س: المسألة الثانية: يقول إذا طلقت المرأة بلفظ واحد بثلاث طلقات، فالبعض من العلماء يقولون يقع الطلاق، والبعض يقولون لا يقع، ومن يقول يقع الطلاق، يقول لا يجوز أن تعود للزوج حتى تنكح زوجا غيره، فما هو الصواب والصحيح؟(66/83)
ج: هذه المسألة، الخلاف فيها من عهد الصحابة، في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاءت في هذه المسألة أحاديث كثيرة، والعلماء لهم اختلاف على حسب اختلاف الأدلة، لكن جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر - رضي الله عنه - إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1) » . إذا فإمضاء عمر إنما هو من باب التعزير، لا من باب إلغاء الحكم الشرعي السابق، وبعد هذا اختلف العلماء، فمنهم من رأى قول عمر، وقال: هذا قول أجمع عليه الناس، فلا يجوز مخالفته، ومنهم من قال: لا، هذا الحكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخه إلا حكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن أن يلغي حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم عمر أو غيره، فعمر ما حرم، وحاشاه أن يحرم، ولا ألغى حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن عزر الناس لما تساهلوا بأمر الطلاق، وروي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره ركانة أنه طلق امرأته ألبتة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال ما أردت بها قال: واحدة، قال: آلله ما أردت بها إلا واحدة قال: آلله ما أردت بها إلا واحدة، قال: فردها عليه (2) » أخرجه ابن ماجه، والحديث فيه
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .
(2) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .(66/84)
مقال، وأخرجه بنحوه أيضا أبو داود في سننه بإسناد أجود من إسناد ابن ماجه، فالجمهور من الأئمة الأربعة وأتباعهم على أن الثلاث بلفظ واحد ثلاث، لو قال: أنت طالق بالثلاث، قالوا: حرمت عليه، وأصبحت لا تحل له، إلا بعد نكاحها زوجا آخر، ومن العلماء من قال: لا، الثلاث بلفظ واحد، ما كان في عهد عمر فإنه تعزير، وعمر لو شاهد ما أحدث الناس بعده، لما قال هذا. يقول شيخ الإسلام: لو رأى عمر - رضي الله عنه - ما أقدم عليه كثير من الجهلة، من وضع المحلل الذي يستحلون به فرج المرأة، لما قال كذا، فعمر في زمن كان الناس ورعين عن التحليل، ولما وقع الناس بالتحليل رأى شيخ الإسلام وغيره، أن القول بإعادة الحكم على ما كان عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر أنه القول الأولى والأرفق بالناس والأيسر لهم، وهو الموافق للسنة.(66/85)
س: المسألة الثالثة: البعض من المسلمين عندنا في الصين يأكلون لحم الخيل، والبعض لا يأكلون، فأيهما على صواب؟
ج: تقول أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - " نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا فأكلناه " متفق عليه. فأكلها جائز، ولا حرج على من أكلها.(66/85)
س: آخر المسائل هذه يقول: كم نصاب الزكاة في الدولارات الأمريكية؟(66/85)
ج: الزكاة تجب لمن ملك مائتي درهم إسلامي، قدره العلماء هنا بستة وخمسين ريالا سعوديا، فمن ملك ما قيمته ستة وخمسون ريالا سعوديا عربيا، فإنه قد ملك نصاب الزكاة فعليه أن يزكي ماله، وهذا النصاب يشمل الأوراق النقدية كلها.(66/86)
س: هل يشترط الوضوء لصلاة الجنازة؟
ج: نعم، يشترط لها الوضوء؛ لأنها صلاة شرعية مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ (1) » أخرجه البخاري، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وعند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (135) ، صحيح مسلم الطهارة (225) ، سنن الترمذي الطهارة (76) ، سنن أبو داود الطهارة (60) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .(66/86)
س: سماحه الشيخ: ما حكم سماع أشرطة الأناشيد الإسلامية؟
ج: إن ما يسمى بالأناشيد الإسلامية، سمعنا بعضها، وللأسف الشديد وجدناها أناشيد على النغمات الموسيقية، مختار لها أرق الأصوات، وألطفها، وأحسنها جاذبة للقلوب، فيؤتى بها وكأنها الغناء، بل بعض الأصوات يفوق صوت الموسيقى، ونغمات الموسيقيين؛ لأنه يختار لها نوع خاص، ويعطى ذلك ثوب الإسلام،(66/86)
ودين الإسلام بريء من هذه الأمور، دين الإسلام فيه القوة والعزة، وهؤلاء يشتغلون بتلك الأناشيد عن كلام الله، وتصدهم تلك الأناشيد عن تلاوة القرآن، يتعلقون بها، وللأسف الشديد إنها قد تصحبها الطبول والدفوف، على نغمات يسمونها إسلامية، وهذا بلا شك خطأ، أرجو من إخواننا أن يتجنبوه، ويبتعدوا عنه.(66/87)
س: كم تعدل الصلاة في المسجد الحرام، وهل أي صلاة في مسجد في مكة تعدل مثل ما يعدل المسجد الحرام؟
ج: الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه، وما كان داخل أميال الحرم يصدق عليه المضاعفة إن شاء الله، لا شك أن النفس تتعلق بقرب الكعبة، وأن الإنسان يجد نفسه إذا صلى في الحرم، ورأى الكعبة المشرفة نصب عينيه، إن هذا يعطي نفسه دفعة، ورغبة، سبحان من جعل هذا البيت مهوى الأنفس، قال الله - جل وعلا -: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} (1) قالوا من أتاه لم يقض منه وطرا، كلما فارقه ازداد شوقا وحبا له ولرؤيته، لا شك أن الإنسان في داخل الحرم يجد الراحة لنفسه والطمأنينة، ولكن مع هذا كله، فلو صلى في أي جزء من أجزاء الحرم، لرجونا أن يضاعف الله له، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية كان معسكره خارج الحرم، وإذا أراد أن يصلي مشى حتى يدخل داخل الحرم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 125(66/87)
س: سماحه الشيخ، لقد استمرت الدعوة، في هذه الفترة، من عدة عقود، دون أن تتوحد هذه الأمة، ودون أن يرجعوا إلى الله، يا ترى ما السبب، هل الدعوة اختلفت عن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهل العيب في الدعاة، أم في الناس؟
ج: أولا يا أخي يقول الزبير بن عدي: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال «اصبروا؛ فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه (1) » ، سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " يا أخي لا شك أنا أصبنا في أمور كثيرة، أولا في ضعف الإيمان في القلوب، وتعلقها بالدنيا، وبعدها عن الله والدار الآخرة، وأن الدعوات الصادقة المخلصة بدأت تقل في الناس، وإن كان في الناس خير، لكن الدعوات الصادقة الخالصة لله التي لا تقوم إلا على الحب في الله لا تقوم لمبدأ ولا لهدف، هذه ضعفت في الناس، ثم أيضا الدعاية المضللة المعادية للإسلام، من خلال ما يبثه أعداء الإسلام ولا سيما القنوات الفضائية، وما تنشره فيها من أقوال وآراء باطلة، تخالف شرع الله، وإصغاء النفوس لذلك، زد على ذلك قلة العلماء العاملين، وندرتهم في هذا الزمن، كلها أمور أسأل الله أن ينقذ المسلمين من الضلال، وأن ييسر لهم الهدى، ولكن ولله الحمد مع هذه الأمور كلها، نجد أن الصحوة الإسلامية شاقة طريقها، وأن تواجدها الآن فعال، فالعالم حتى غير الإسلامي، في العالم الأوروبي، والأمريكي، وغيرهم، بدأ يظهر فيه الإسلام وينتشر، وصار له شأن
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7068) ، سنن الترمذي الفتن (2206) ، مسند أحمد بن حنبل (3/132) .(66/88)
ودور في الحياة، وبدأ المعتنقون يكثرون، وبدأت المساجد والمراكز الإسلامية تؤدي دورها، ولا شك أن لهذه البلاد جهودا جبارة، في دعم هذه المراكز والمساجد، والجمعيات الخيرية، من خلال الدعاة المنتشرين في العالم، المنطلقين من هذا البلد، بدعم حكومة هذه البلاد لهذه الأمور العظيمة، أسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وأن يوفق الجميع لما يرضيه.(66/89)
س: إذا دخلت والإمام في التشهد الأخير، هل أجلس معه أم أنتظر، وأصلي مع جماعة أخرى، ومتى تدرك صلاة الجماعة؟
ج: إن كنت ترجو مجيء جماعة أخرى، لتصلي معهم الجماعة فذلك أفضل، وإن كنت لا تجد أحدا، فادخل، وإلا فالأصل أن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة مع الإمام، فمن أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (1) » ، متفق عليه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر (2) » متفق عليه. فالجمعة والجماعة لا تدركان إلا بإدراك ركعة مع الإمام، ومن أدرك أقل من الركعة، لم يدرك الجماعة ولا الجمعة، والركعة تدرك بالركوع.
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (607) ، سنن أبو داود الصلاة (1121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/271) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (15) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (556) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (608) ، سنن الترمذي الصلاة (186) ، سنن النسائي المواقيت (516) ، سنن أبو داود الصلاة (412) ، سنن ابن ماجه الصلاة (699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/462) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (5) ، سنن الدارمي الصلاة (1222) .(66/89)
س: هل للعمرة طواف وداع؟
ج: الوداع من واجبات الحج، والمعتمر لا وداع عليه، ولكن لو ودع فخير.
س: هل لي أن أصلي خلف من يسبل يديه في الصلاة؟
ج: قبض اليدين سنة، والإسبال لا يبطل الصلاة؛ لأن الإسبال ترك لهذه السنة، وكون الإمام يترك سنة، لا يقتضي عدم صحة الصلاة معه.(66/90)
س: ما حكم القول (حي على خير العمل) في الأذان؟
ج: حي على خير العمل. الأصل أنها كلمة حسنة، فهي في حد ذاتها كلمة طيبة؛ لأن الصلاة خير الأعمال، لكن المهم أن نسأل هل هذه الكلمة أذن بها في عهد سيد الأولين والآخرين، وعهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم أجمعين - أم لا؟ فإن كنا لا نجد لها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد الصديق، ولا في عهد عمر، ولا في عهد عثمان، ولا عهد علي - رضي الله عنهم - وهم خلفاؤه الراشدون، الذين أمرنا بالاقتداء بهم واتباع سنتهم، إذا لم نجدها، نقول كلمة طيبة؛ لكن ليس هذا محلا لها؛ لأن الأذان متلقى عن محمد - صلى الله عليه وسلم، ذلك أن(66/90)
عبد الله بن زيد لما رأى الأذان في المنام، أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلقيه على بلال؛ لأنه أندى منه صوتا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - علم أبا محذورة الأذان، فالأذان متلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، ومن تقريره، ولم يكن بلال يقول (حي على خير العمل) ، ولم يقل مؤذن الصديق، ولا مؤذن عمر، ولا مؤذن عثمان، ولا مؤذن علي، ولا مؤذن السابقين من المهاجرين والأنصار، في العهود الماضية، لم يستعمل هذه الكلمة، إذا فنحن نتركها، لكونها ليست على عهد المصطفى، ولا خلفائه الراشدين، فالأصل عدم صحتها.(66/91)
س: قول الله تعالى في اليهود {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} (1) هل المقصود بالآية غلت أيديهم في الدنيا، أم في الآخرة؟
ج: المعنى، غلت عن الخير، يعني أنهم بخلاء، والشح من لازم أحوالهم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 64(66/91)
س: هل ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحلق الشوارب؟
ج: النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى (1) » ، فقصوا أمر بقص الشوارب، فأمره يدل على سنية القص، وقال «الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .(66/91)
الأظافر، ونتف الآباط (1) » متفق عليه، واللفظ للبخاري.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5891) ، صحيح مسلم الطهارة (257) ، سنن الترمذي الأدب (2756) ، سنن النسائي الزينة (5225) ، سنن أبو داود الترجل (4198) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (292) ، مسند أحمد بن حنبل (2/239) ، موطأ مالك الجامع (1709) .(66/92)
س: أنا إنسان مسلم ولله الحمد، أخاف الله، وأحاول أن أؤدي الفروض في أوقاتها، لكن تأتيني وساوس شيطانية، تحاول أن تبعدني عن ديني، فأنا أثناء أداء أي فرض من الفروض، كالصلاة مثلا، تأتيني هذه الوساوس، وتحاول أن تبعدني عن الله، وأنا أحب الدين، فبم تنصحني، وكيف تذهب عني هذه الوساوس؟
ج: الله يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) وفي آية أخرى {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) فيا أخي، كل هذا من الشيطان، ومن وساوس الشيطان، فحاول الالتجاء إلى الله، وسؤال الله أن يثبت قلبك، «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد حلفه قال: لا، ومقلب القلوب (3) » وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في دعائه: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك (4) » فقل: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي على طاعتك، اسأل الله الثبات، تعوذ بالله من مكايد الشيطان.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 200
(2) سورة فصلت الآية 36
(3) صحيح البخاري القدر (6617) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1540) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3761) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3263) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2092) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2350) .
(4) سنن الترمذي القدر (2140) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3834) .(66/92)
س: نرجو توجيه النصح للإخوة والأخوات، في هذا البلد الحرام، وفي المسجد الحرام، حول الدعاء لإخواننا في فلسطين.(66/92)
ج: لا شك يا إخواني أن مصابهم جلل، وأنهم يمرون بحالة عصيبة، ويمرون بساعات حرجة، وأنهم محاصرون، ومبغي عليهم، معتدى عليهم، وأنهم أمة مظلومة، نسأل الله أن يكشف ضرهم، وأن ينصرهم على من بغى عليهم، وأن يجمع قلوبهم على طاعته، وأن يرزقهم الإخلاص، والالتجاء إلى الله، والثقة به، وطلب العون والمدد منه - جل وعلا - وأن يثبت قلوبهم، وأن يسدد رميهم، ويقوي عزائمهم، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم، إنه على كل شيء قدير، المصاب عظيم بلا شك، الخطب جسيم، أمه ظلمت وبغي عليها، فواجبنا نصرهم، كل بما يستطيع، بالمال، بالنفس، بالدعاء أولا وآخرا، نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم أن يرفع عنهم الظلم، وينصرهم على من بغى عليهم، وأن ينصر الإسلام وأهله، ويبدل ضعفهم قوة، وذلهم عزا، وتفرقهم اجتماعا ووحدة على الحق، إنه سميع مجيب.(66/93)
صفحة فارغة(66/94)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 3225
السؤال الأول والثامن: إذا طير الإنسان الشراب ورجع يتوضأ، فهل ما يطوله من الرشاش طاهر، أو يبل يده بالماء ويمسح عليه؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: البول نجس، فإذا كان الذي أصاب الإنسان رشاش بول، وجب عليه أن يغسل الموضع الذي أصابه من بدنه أو ثوبه، ولا يجزئ في تطهيره مسحه بالماء، وكذا إن كان الرشاش من الماء الذي صبه على البول.
س: هل النجاسة اليسيرة مثل نقطة الدم التي كبر حب الدخن هل علي فيها شيء؟
ج: النجاسة من غير الدم والقيح والصديد لا يعفى عن كثيرها ولا قليلها. أما الدم والقيح والصديد فيعفى عن اليسير منها(66/95)
إذا كان خروجا من غير الفرج؛ لأن في الاحتراز من قليلها مشقة وحرجا، وقد قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وقال تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185(66/96)
من الفتوى رقم 2989
السؤال الثاني: استعمل كثير من الناس الكماليات في فرش حجر المنزل، فهل إذا بال الطفل مثلا على الفرشة على مختلف سنه يكفي صب الماء وتطهر من النجاسة نظرا إلى أن الفرشة قد تكون كبيرة، وقد تكون لاصقة بالأرض، أو تكون مثبتا عليها دواليب كبيرة وسرر أو لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: إذا كان من بال على الفرشة ونحوها غلاما لم(66/96)
يأكل الطعام، كفى في تطهيرها رش الماء عليها، حتى يعم موضع النجاسة منها، ولا يجب عصرها ولا غسلها، وإن كان قد أكل الطعام أو كان جارية سواء أكلت الطعام أم لا، فلا بد لتطهيرها من الغسل، ويكفي صب الماء على موضع النجاسة، ولا يجب نزع الفرشة ولا عصرها كالنجاسة على الأرض، لما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن أعرابيا بال في المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصب على بوله دلو من الماء (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) البخاري 1 \ 323 (فتح) مسلم 1 \ 236.(66/97)
من الفتوى رقم 4125
السؤال الأول: هل يكفي مسح النجاسة الساقطة على الفرش والبسط بالإسفنج ثلاث مرات أم ماذا يعمل المسلم في ذلك؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله(66/97)
وصحبه. . وبعد: لا يكفي مسح النجاسة الساقطة على ما ذكر، بل يصب عليها الماء حتى يغلب على ما سقط عليها من النجاسة من بول ونحوه، وإن كان للنجاسة جرم وجب إزالته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/98)
من الفتوى رقم 2217
السؤال الثالث: عندما ينقل أحدنا من شقة إلى أخرى مع الملاحظة أن جميع أو أغلب الشقق تكون مفروشة (أي الأرضية) . فهل يجوز لأحدنا أن يصلي على ما سكب أو انتثر عليها خمر لعدم علمنا عن الساكنين السابقين هل هم مسلمون أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: الأصل في الأشياء الطهارة، فلا يحكم على شيء أو محل بأنه نجس إلا بدليل يدل على أن هذا الشيء نجس، وأن هذه النجاسة المنصوص عليها موجودة في هذا المحل، وإذا لم يتحقق هذان الأمران فإن المسلم يصلي وتكون صلاته صحيحة.(66/98)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز(66/99)
من الفتوى رقم 7835
السؤال الأول: عن شأن الوضوء خصوصا القدمين، أيترتب الغسل ثلاثا كالوجه واليدين، إن الإنسان يمشي ويدعس على النجاسات في الأرض، ولا ينقي غسل ثلاث مرات، وسمعنا أنه يقال من زاد فوق ثلاث قد تعدى السنة إذا كان يكفي للقدم ثلاث غسلات، لو بقي أثر في القدم من القاذورات أيصح الوضوء بلا زيادة على الثلاث؟ نرجو من فضيلتكم حكم ذلك والله يحفظكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: يجب إزالة النجاسة من القدمين إذا كانت رطبة بالماء قبل البدء بالوضوء، ثم بعد ذلك يتوضأ إذا كان محدثا ولا يزيد على الثلاث لكل عضو ما عدا الرأس والأذنين فإن السنة فيهما الاقتصار على مسحة واحدة.(66/99)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/100)
من الفتوى رقم 9040
السؤال الرابع: إذا بال الإنسان أو تغوط واستجمر، ثم عرق، هل هذا العرق ينجس الملابس؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: لا بد في الاستجمار من الإنقاء، وإذا تحقق الإنقاء من البول والغائط لم ينجس عرق المحل ما لاقاه من الملابس؛ لأنه بذلك الإنقاء حكم للمحل بالطهارة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/100)
من الفتوى رقم 12747
س: إنني أحتاج إلى وقت بعد التبول ليكتمل نزول البول، وأستطيع الاستنجاء بشكل صحيح. وسؤالي هو إذا خرجت من الحمام، وانتظرت نزول بقية البول وهي قليلة جدا، فهل يجب علي أن أتحفظ حتى لا يصيب جسمي شيء من البول، أم أن ما يصيب جسمي وثيابي في هذه الحالة معفو عنه فلا يجب غسله؟ علما بأن هذا الأمر يتكرر دائما مع كل حالة تبول. أفيدونا عن الحكم الشرعي ولكم جزيل الشكر؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: إذا خرج منك قطرات من البول بعد عملية التبول فأصاب جسمك أو ثيابك وجب عليك غسل ما أصاب من ذلك؛ لأن البول نجس مع إعادة الاستنجاء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/101)
من الفتوى رقم 627
السؤال الأول: الحرمة عندما تضع طفلها إما ذكرا أو أنثى وفي أثناء حضانته دائما ما يفارقها يجلس في حضنها وقد يحدث منه بول في ثيابها، فما يجب عليها أثناء ذلك، وهل هناك حكم في ذلك للذكر خاص وللأنثى خاص من الولادة حتى عامين أو أكثر؟ والسؤال يختص من ناحية الطهارة والصلاة، ومن ناحية المشقة في تغيير الثياب كل وقت.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: ينضح بول الغلام ما لم يتغذ بالطعام، فإذا تغذى به فإنه يغسل، وأما الجارية فإنه يغسل بولها مطلقا طعمت أو لم تطعم والأصل في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم واللفظ لأبي داود، فقد أخرج أبو داود في سننه بسنده «عن أم قيس بنت محصن (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره فبال في ثوبه، فدعا بماء فنضحة بالماء ولم يغسله (1) » .
وأخرج أبو داود وابن ماجه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
__________
(1) البخاري 1 \ 281 (فتح الباري) ومسلم 1 \ 238 وأبو داود برقم 374.(66/102)
«يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام (1) » وفي رواية أخرى لأبي داود «يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم (2) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أبو داود 1 \ 102 والنسائي 1 \ 158 وابن ماجه 1 \ 175.
(2) أبو داود برقم (377) .(66/103)
من الفتوى رقم 2536
س: أنا رجل وعندي أطفال ومن عادة الأطفال الصغار التبول ويقع على ثياب أمهم وآبائهم خاصة في سن الطفولة، فمثلا إنني أريد الحج أو العمرة ولا عندي سوى الإحرام، ووقع عليه فيه من بول الطفل الصغير شيء، فما حكم ذلك علما كما هو معروف أن البول نجس ولا يمكن لي غسل الإحرام ذلك الوقت وأنا محرم. وبالأخص أم الطفل هي تتعرض كثير الأحيان لبول ولدها، فعندنا مثل أنا في حج ويمكن يصعب علي الغسل للإحرام، فكيف أعمل جزاكم الله خير الجزاء؟(66/103)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: ورد في السنة ما يدل على حكم بول الغلام والجارية، «فعن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله (1) » . رواه الجماعة.
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بول الغلام الرضيع ينضح، وبول الجارية يغسل» . قال قتادة: " وهذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعا " رواه أحمد والترمذي، وقال حديث حسن (2) .
فعليكما أن تغسلا ما يصيبكما من رشاش البول إذا كان بول جارية وبول غلام يتغذى بالطعام، فإن كان الغلام لا يتغذى بالطعام، كفاكما رش بوله ونضحه بالماء من غير حاجة إلى غسل ولا عصر، وهكذا ثوب الإحرام يغسل من بول الجارية ومن بول الغلام الذي يأكل الطعام، ويرش من بول الغلام الذي لا يتغذى بالطعام، وإذا لم يكن عندك إلا ثوب الإحرام أمكنك أن ترشه بالماء إذا كان البول الذي أصابه من غلام لم يأكل الطعام، وتغسله من بول الجارية والغلام الذي يأكل الطعام في محل لا يرى عورتك فيه أحد سوى زوجتك.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (223) ، صحيح مسلم السلام (2214) ، سنن الترمذي الطهارة (71) ، سنن النسائي الطهارة (302) ، سنن أبو داود الطهارة (374) ، سنن ابن ماجه الطب (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) ، موطأ مالك الطهارة (143) ، سنن الدارمي الطهارة (741) .
(2) أحمد 1 \ 76 و 97 و 137 وأبو داود برقم (378) والترمذي 2 \ 509 (تحفة الأحوذي) .(66/104)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز(66/105)
من الفتوى رقم 4514
السؤال الثالث: عندما يبول الطفل على حامله، وهو يصلي فما الحكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: يقطع صلاته ويغسل البول إن كان الطفل يتغذى بالطعام، أو يرشه رشا إذا كان الطفل لم يتغذ بالطعام، ثم يعود لاستئناف صلاته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/105)
من الفتوى رقم 6382
س: إذا جاء طفل إلى المجلس مثلا وفي ثيابه أو(66/105)
سراويله شيء من الرطوبة، فجلس على الفراش، أو في حجر أبيه ونحوه، فما حكم هذه الرطوبة. لقد أشكل هذا علي حتى تحرجت ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه مع مرور الأيام يصبح مجلس المنزل أو مجلس الضيوف غير صالح لجلوس من ثيابه رطبة أو الصلاة فيه. ثم ما حكم السؤال عن مثل هذا أعني السؤال عن حال الطفل أو المجلس؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: إذا لامس المرء طفلا به رطوبة من نجاسة، ووجد أثرا لتلك الرطوبة كبلل، فإنه يغسل ما أصابه من البدن والثياب والمكان الذي أصابه البلل، إن كانت جارية أو غلاما يأكل الطعام، وإن كان غلاما لم يأكل الطعام فإنه يرش على مكان النجاسة رشا؛ لما ثبت في حديث أبي السمح - رضي الله عنه - خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم: «يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام (1) » رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأما إذا لم يتحقق بللا؛ فإن الأصل طهارة البدن والمكان ولا ينتقل عن الأصل إلا بيقين النجاسة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أبو داود 1 \ 102 والنسائي 1 \ 158 وابن ماجه 1 \ 175.(66/106)
من الفتوى رقم 8540
السؤال الثالث: إذا ابتل ثوب أو مكان ببول رضيعة أنثى، ثم وضع هذا الثوب على مقعد مثلا، هل يصبح المقعد نجسا، وكيف نطهره إذا كان نجسا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: إذا ابتل ثوب ببول رضيعة أنثى ووضع على مقعد وهو رطب من بول فإنه ينجس ما وضع عليه. ويطهر بالغسل بالماء، وإن كان غير رطب فإنه لا ينجس ما وضع عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/107)
من الفتوى رقم 5310
السؤال الرابع: نرى بعض الإخوان يحضر إلى المسجد للصلاة وملابسه عليها دم، وعندما ننصحه يقول الدم هنا دم ذبيحة حلال ودمها لا يبطل الصلاة، فهل هذا الكلام صحيح أم(66/107)
لا، وهل تجوز الصلاة بالدم على الملابس والبشرة أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، ولا يقال إن هذا محرم ونجس إلا بدليل، ولا تلازم مطلقا بين الحرام والنجس، فكل نجس حرام، وليس كل حرام نجسا. وقد دل القرآن على تحريم الدم مطلقا ومقيدا، والمطلق يحمل على المقيد، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (2) . الآية فأطلق الدم في الآية الأولى، وقيده بالمسفوح في الآية الثانية. قال القرطبي: " اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به " وقال أيضا: " ذكر الله - سبحانه وتعالى - الدم هاهنا مطلقا وقيده في الأنعام بقوله مسفوحا وحمل العلماء ها هنا المطلق على المقيد إجماعا، فالدم هنا - أي في سورة البقرة - يراد به المسفوح؛ لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه " انتهى المقصود.
وبهذا يعلم أن الدم الذي يصيب بشرة الإنسان وثيابه من الدم الذي بين اللحم ليس بنجس؛ لأنه ليس مسفوحا، لكن الأولى بالمسلم أن يتنظف من ذلك لقذارته، ولئلا يتهم بالجفاء والتلطيخ بالدم النجس الذي هو المسفوح، مع العلم أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 145(66/108)
الشيء اليسير من الدم المسفوح يعفى عنه عند أهل العلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/109)
من الفتوى رقم 6386
السؤال الرابع: هل دم مأكول اللحم مثل الشاة والبقر يكون نجسا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: دم مأكول اللحم مثل الشاة والبقرة إذا كان مسفوحا فهو نجس. وما بقي في عروق الذبيحة ولحمها فهو طاهر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/109)
الفتوى رقم 1629
س: وضعت امرأتي وامتنع أحد أصدقائي من دخول(66/109)
منزلي بحجة أن المرأة إذا كانت نفساء لا يحل للإنسان أن يأكل من يدها، ويعتبرها نجسة بدنيا وعمليا، مما شككني في معيشتي فأرجو إفادتي، وحسب ما أعرف أن المرأة النفساء يمتنع عليها الصلاة والصوم وقراءة القرآن؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: المرأة لا تنجس بحيض ولا نفاس، ولا تحرم مؤاكلتها ولا مباشرتها فيما دون الفرج، إلا أنها تكره مباشرتها فيما بين السرة والركبة فقط، لما روى مسلم عن أنس - رضي الله عنه - أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح (1) » . وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض (2) » ولا تأثير لتحريم الصلاة والصوم وقراءة القرآن عليها أثناء الحيض أو النفاس على مؤاكلتها أو الأكل مما صنعت بيدها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) مسلم 1 \ 246.
(2) البخاري 1 \ 403 (فتح) مسلم 1 \ 242.(66/110)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6354
س2: لدينا امرأة خادمة نصرانية فهل يجوز أن تغسل الثياب وتكون طاهرة وهل نلبسها أم لا ثم إذا أهدت إلينا شيئا بعد عودتها من السفر فهل نقبله أم لا؟
جـ2: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
يجوز لكم لبس ما غسلته أو كوته من الثياب. وعليكم أن تدعوها إلى الإسلام لعل الله أن يهديها على يديكم، ولا مانع من قبولكم ما أهدته من المباح، وأن تكافئوها عليها. وينبغي إبعادها إن لم تسلم واستبدالها بمسلمة، ولا سيما في الجزيرة العربية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراج الكفار منها. والحديث المذكور يعم اليهود والنصارى وغيرهما من الكفار.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(66/111)
من الفتوى رقم 4679
السؤال السابع: إذا وقع الجماع بين الرجل والمرأة هل(66/111)
يجوز قبل غسلهما لمس أي شيء وإذا حصل اللمس لأي شيء هل يتنجس أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: نعم يجوز للجنب قبل أن يغتسل لمس الأشياء من أثواب وأطباق وقدور ونحوها، سواء كان رجلا أم امرأة؛ لأنه ليس بنجس ولا يتنجس ما لمسه منها بلمسه إياه. وهكذا الحائض والنفساء ليستا نجستين بالحيض والنفاس بل بدنهما وعرقهما طاهر، وهكذا ما لمستا بأيديهما. وإنما النجس الدم الخارج منهما.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/112)
من الفتوى رقم 9009
السؤال الثاني:
س: أ - هل يجوز غسل الرأس بوزر (ببول) الإبل والصلاة به؟
ب - هل يجوز غسل الرأس بوزر (ببول) الغنم والصلاة به؟
جـ - هل يجوز الصلاة في غرفة الغنم؟(66/112)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: أولا: بول ما يؤكل لحمه طاهر، فإذا استعمله في البدن لحاجة فلا حرج من الصلاة به.
ثانيا: تجوز الصلاة في غرفة الغنم ومرابضها؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/113)
من الفتوى رقم 5566
السؤال الرابع: فسر لي هذا الحديث: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع والحمر، وعن الطهارة بها، فقال: «لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور (1) » رواه ابن ماجه.
__________
(1) الحديث رواه ابن ماجه برقم (519) ونصه: (عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة منها فقال: '' لها ما حملت في بطونها ولنا غبر طهور '' قال المعلق: (في الزوائد في إسناده عبد الرحمن قال فيه الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه)(66/113)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: أولا: جملة (ولنا غبر طهور) محرفة وأصلها ولنا ما غبر طهور.
ثانيا: معناه أن شرب هذه الحيوانات من ماء الحياض لا يمنع من استعمال ما بقي من الماء بعد شربها منه، في الشرب والوضوء والغسل من الجنابة وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن والأرض بهذا الماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز(66/114)
من الفتوى رقم 8052
السؤال الثالث عشر: ما الحكم الراجح في سؤر البغل والحمار وسباع البهائم وجوارح الطير؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: الراجح طهارة سؤر البغل والحمار الأهلي وسباع البهائم كالذئب والنمر والأسد، وجوارح الطير كالصقر والحدأة،(66/114)
وهذا هو الذي صححه أبو محمد ابن قدامة - رحمه الله - في المغني وهو الموافق للأدلة الشرعية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/115)
من الفتوى رقم 6386
السؤال الثاني: هل المني إذا وقع على الثياب نجس؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد: الأصل فيه الطهارة، ولا نعلم دليلا يدل على نجاسته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/115)
من الفتوى رقم 11560
السؤال الثالث: أثناء استيقاظي من النوم وجدت نفسي محتلما، هل يكون الثوب غير طاهر؟ علما بأن الماء الأصل لا(66/115)
يسيل إلى الثوب.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: خروج المني بالاحتلام لا ينجس الملابس التي على المحتلم ولو أصابها؛ لأن المني طاهر، لكن المشروع إزالة ما أصاب الثياب من النظافة وإزالة الأوساخ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/116)
من الفتوى رقم 4262
السؤال الثاني: ما هو الفرق بين المني والمذي وما هو الذي يلزم أن يغتسل له؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد: أولا الفرق بين المني والمذي أن المني من الرجل ماء غليظ أبيض، ومن المرأة رقيق أصفر، وأما المذي فهو ماء رقيق أبيض لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته أو نظر أو غير ذلك، ويشترك الرجل والمرأة فيه.(66/116)
ثانيا: الذي يلزم أن يغتسل له هو المني، أما المذي فيجب غسل الذكر والأنثيين منه، ويجب الوضوء منه للصلاة، ونضح ما أصاب البدن أو الملابس منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/117)
من الفتوى رقم 3135
السؤال الثالث: لا حياء في الدين، فأنا رجل مذاء "أي كثير المذي " وعندما أتوضأ أقوم بغسل ما أتوقع أنه لامسه المذي فينتابني الشك بأن هناك أماكن ربما لم تنظف، هل صلاتي صحيحة وأنا مجرد شك، ولست متأكدا كذلك من المذي مثل البول من لم يتنزه عنه هل عليه إثم وعقاب؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد: الأصل طهارة البدن والثوب، والشك الطارئ لا أثر له، فإذا غسلت المحل الذي يغلب على ظنك أن المذي أصابه فإنك تصلي ولا شيء عليك، وأما المذي فإنه نجس، فإذا خرج منك مذي(66/117)
وجب غسل الذكر من أصله والأنثيين ونضح ما أصابه المذي من الثوب والبدن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليا بغسل الذكر والأنثيين والوضوء من المذي، وأمر بنضح ما أصاب الثوب من ذلك ".
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/118)
من الفتوى رقم 8540
السؤال الخامس: ما هو الودي والمذي وكيف التطهر منهما وهل يأتيان والإنسان نائم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد: الودي يخرج بعد البول غالبا، وهو أبيض ثخين يشبه المني في الثخانة ويخالفه في الكدورة، ولا رائحة له. وأما المذي فهو ماء رقيق أبيض لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته أو نظر وغير ذلك عند فتور الشهوة، ويشترك الرجل والمرأة فيه. وكلا الماءين(66/118)
نجس وناقض للوضوء، فيجب نضح ما أصابه والوضوء منه، ويجب غسل الذكر كله والخصيتين من المذي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/119)
من الفتوى رقم 8863
السؤال السابع عشر: إذا تلوثت ثياب الطبيب أو الطبيبة بماء الولادة أو الدم، فهل يجوز الصلاة بها، مع صعوبة تبديل الملابس في كل صلاة نتيجة لظروف العمل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: عليه أن يعد ملابس طاهرة إلى جانبه ليصلي فيها بدلا من النجسة، وذلك لا مشقة فيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/119)
من الفتوى رقم 5866
السؤال الأول: ما حكم ما يخرج من النساء من إفرازات من الفرج هل حكمه كحكم الودي؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: حكمه كحكم البول، عليها الاستنجاء منه والوضوء الشرعي، وغسل ما أصاب بدنها وملابسها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/120)
الفتوى رقم 3153
س: قرأت الجريدة فليتا - باللغة الإندونيسية المؤرخة 11 فبراوري 1980 م، وهي تأخذ من الجريدة الأكبر العالم الإسلامي المؤرخة 12 جمادى الأول 1399هـ، تصدر من مكة، ووقفت فيها أن بعض آلات التنظيف يتخذ من شحم خنزير كصابون كاماي وصابون فالموليف ومعجون السن كولكيت وهذه المسألة(66/120)
منتشرة في نواحي إندونيسيا مدن وقرى ومبحثه في المجالس، وقد كثر بين الناس التساؤل عن صدق ذلك الخبر، وحكم هذه المسألة، ففي هذه الفرصة أرفع لفضيلتكم مسائل وهي: (1) هل يستند ذلك الخبر على أصل قوي. (2) وهل يجب علينا بمجرد سماع ذلك من غير علم بحقيقة الأمر اجتناب تلك الآلات وغسل الأواني سبع مرات إحداهن بتراب طهور كما هو شأن إزالة المغلظة عند الشافعي؛ لأنه مذهب أكثر أهل إندونيسيا، وإعادة كل صلاة تيقناها بعد استعمال تلك الآلات؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: أولا: لم يصلنا من طريق موثوق أن بعض آلات التنظيف يوجد فيها شيء من شحم الخنزير كصابون كاماي وصابون بالموليف ومعجون الأسنان كولكيت، وإنما يبلغنا عن ذلك مجرد إشاعات.
ثانيا: الأصل في مثل هذه الأشياء الطهارة، وحل الاستعمال، حتى يثبت من طريق موثوق أنها خلطت بشحم الخنزير أو نحوه في النجاسة، وتحريم الانتفاع به، فعند ذلك يحرم استعمالها. أما إذا لم يزد الخبر عن كونه إشاعة، ولم يثبت فلا يجب اجتناب استعمالها.
ثالثا: على من ثبت لديه خلط آلات التنظيف بشحم الخنزير أن يجتنب استعمالها، وأن يغسل ما تلوث منها، أما ما أداه(66/121)
من الصلوات أيام استعمال هذه الآلات، فليس عليه إعادته على الصحيح من أقوال العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(66/122)
التفكير في آيات الله تعالى ومخلوقاته في ضوء القرآن والسنة
للدكتور: عبد الله بن إبراهيم اللحيدان (1)
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الله - تبارك وتعالى - أنعم على الإنسان بنعمة العقل، وجعله مناط التكليف، وعندما يعطل الإنسان عقله يهبط بنفسه عن التكريم الذي ميزه الله به عن سائر المخلوقات، ولذلك فإن إعمال العقل فيه حياة للإنسان.
وإن من أعظم ما ابتلي به الناس اليوم شتات القلوب، وكثرة الصوارف عن التفكر، ولعل هذا البحث يفتح آفاقا لهذه العبادة، ويقرب مفهومها وأهميتها ومجالاتها وثمارها، ويبين اهتمام علماء المسلمين وعامتهم بها، ويبن أثرها في صلاح الفرد والمجتمع، فالتفكر من العبادات القلبية التي أمر العبد أن ينميها من خلال النظر في
__________
(1) عضو هيئة التدريس بقسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(66/123)
ملكوت السماوات والأرض ومن خلال الآيات الكونية، والأحكام الشرعية، والإنسان لا ينفك عما حوله من الحوادث والآيات الكونية التي تدل على عظيم خلق الله، ويستدل بها على ما لله من صفات الكمال والعظمة والكبرياء.
وقد حثت آيات عديدة في القرآن العظيم على عبادة من أجل العبادات وهي التفكر، وإن من يمعن النظر في كتب التفسير مثلا عند الآيات التي تتحدث عن الكون أو شروح الأحاديث النبوية يجد مادة علمية غزيرة في هذا المجال، بل إن بعض العلماء قد أفرد مصنفات خاصة في وصف المخلوقات والظواهر الكونية، قصدوا منها الحث على التفكر في آيات الله ومخلوقاته، ومن أوائل من صنف في ذلك ابن أبي الدنيا، في كتاب التفكر والاعتبار، وساق فيه جملة من الآثار التي ترغب في التفكر، كما أن الأصبهاني عقد فصولا في كتابه: العظمة، عن المخلوقات وفضل التفكر فيها، إلا أنه أورد فيه العديد من الآثار الواهية والإسرائيليات، كما أن ابن القيم - رحمه الله - ساق في كتابه: مفتاح دار السعادة، فصولا في التفكر في المخلوقات والحكمة منها، وممن صنف حديثا في التفكر مالك البدري في كتابه: التفكر من المشاهدة إلى الشهود، وتطرق إلى التفكر من الناحية النفسية، ولم تشر هذه الكتب والدراسات إلى مفهوم التفكر وأنواعه ومجالاته، ولذلك فقد سعيت في هذا البحث إلى بيان مفهوم التفكر وأهميته(66/124)
وأنواعه ومجالاته وثمراته ومعوقاته في ضوء الكتاب والسنة، وقد كان المرجع الأول لهذا البحث هو القرآن الكريم، وكتب التفسير، وشروح الأحاديث النبوية، وقد سعيت أثناء كتابة هذا البحث إلى مراعاة الأمور التالية:
1 - عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من القرآن الكريم.
2 - نقلت الأحاديث النبوية من مراجعها الأصلية، وذكرت حكم العلماء عليها إلا ما كان من الصحيحين لتلقي الأمة لهما بالقبول.
3 - استفدت من كتب التفسير وشروح الأحاديث النبوية عند الاستشهاد بالنصوص من الكتاب والسنة.
4 - وضعت الهوامش في هذا البحث حسب قواعد البحث العلمي.
5 - وضعت في نهاية البحث بيانات مفصلة للمصادر والمراجع تسهيلا للرجوع إليها.
وقد قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مباحث كما يلي:
المبحث الأول: مفهوم التفكر وأهميته.
المطلب الأول: مفهوم التفكر وكيفيته.
المطلب الثاني: أهمية التفكر وحكمه.
المبحث الثاني: أنواع التفكر ومجالاته.
المطلب الأول: أنواع التفكر.
المطلب الثاني: مجالات التفكر.(66/125)
المبحث الثالث: ثمرات التفكر ومعوقاته.
المطلب الأول: ثمرات التفكر.
المطلب الثاني: معوقات التفكر.
وأخيرا الخاتمة وفيها ذكرت أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث.
أسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والسداد وأن يجعل هذا البحث نافعا مفيدا، وخالصا لوجهه تعالى، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(66/126)
المبحث الأول: مفهوم التفكر وأهميته:
المطلب الأول: مفهوم التفكر وكيفيته:
التفكر في آيات الله تعالى ومخلوقاته من العبادات الجليلة التي أمر بها الشارع وحث عليها في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
ومفهوم التفكر لا يتضح لنا إلا عندما نعود إلى أصل الكلمة، كما يتضح لنا أيضا عندما نعلم كثيرا من الشواهد العملية للتفكر في السنة وفي سير الصالحين.
التفكر لغة:
جاء في لسان العرب: التفكر التأمل، والفكر: إعمال الخاطر في شيء (1) .
وقال ابن فارس: " الفاء والكاف والراء: تردد القلب في
__________
(1) انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص65(66/126)
الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبرا " (1) .
فالتفكر: (جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح) (2) .
ومن المعنى اللغوي ندرك أن التفكر عمل قلبي مستمر، ومناطه العقل، وهو عملية لا تقصد بذاتها وإنما بما يحصله المرء منها، وهو العمل والطاعة، ولذلك فسر مجاهد - رحمه الله - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) قال: يطيعون (4) ، فالتفكر مآله الطاعة والتسليم والانقياد لله رب العالمين، وإلا فلا فائدة منه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: (التفكر هو أن يعمل الإنسان فكره في الأمر حتى يصل فيه إلى نتيجة، وقد أمر الله تعالى به وحض عليه في كتابه لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين) (5) .
والتفكر يحتاج إلى شيء من الصبر والتكلف، وتصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن منه (6) .
__________
(1) ابن فارس، معجم مقايس اللغة، ج 4، ص 446.
(2) الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، جـ 4، ص 244
(3) سورة النحل الآية 44
(4) ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 4 ص 11
(5) ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، ج 2، ص 244
(6) البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ج 4، ص 11(66/127)
قال في التحرير والتنوير عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) (أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعله من مقومات قوميتهم أي: جبلتهم، وجيء بالتفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر) (2) .
وقد جاءت آيات عديدة في القرآن تدعو إلى التفكر والنظر والتأمل والسير في الأرض قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (3) وقال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (4) .
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (والتذكر والنظر والتأمل والاعتبار والتدبر والاستبصار كلها معان متقاربة) (5) .
والتفكر والتذكر فيهما معنى التكرير ويفرق بينهما الإمام ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (كل من التفكر والتذكر له فائدة غير فائدة الآخر، فالتذكر يفيد تكرر القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه
__________
(1) سورة الرعد الآية 3
(2) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج7، ص 58
(3) سورة آل عمران الآية 137
(4) سورة الذاريات الآية 49
(5) ابن القيم مفتاح دار السعادة، ج1، ص 182(66/128)
ويثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة، والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب) (1) .
والتفكر من العبادات التي تتطلب صفاء النفس والقدرة على طرد الأفكار والهواجس التي تعيق التفكر. وقد سئل بعض العلماء ما الذي يفتح الفكر؟ قال: اجتماع الهم؛ لأن العبد إذا اجتمع همه فكر، فإذا فكر نظر، فإذا نظر أبصر، فإذا أبصر عمل (2) .
واجتماع الهم يتطلب من المرء أن يخلو بنفسه، ليكون ذلك أدعى إلى التفكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (لا بد من أوقات ينفرد بها المرء بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته) (3) .
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: (التمس وجود الفكر في مواطن الخلوات) (4) وقد جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (5) » .
__________
(1) المرجع السابق، ج1، ص 183
(2) انظر: أبا نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، ج10، ص 144
(3) انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج10، ص 426
(4) أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، ج9، ص 288
(5) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم الحديث 660 ص132(66/129)
قال ابن علان - رحمه الله -: قوله: ذكر الله، أي: بقلبه من التذكر، أو بلسانه من الذكر، وقوله: خاليا أي: عن الخلق؛ لأنه حينئذ يكون أبعد من الرياء، أو المراد خاليا عن الالتفات إلى غير الله، ولو كان في ملأ (1) .
وقال ابن عثيمين - رحمه الله -: قوله (خاليا، يعني خالي القلب مما سوى الله - عز وجل - خالي الجسم أيضا، ليس عنده أحد حتى لا يكون بكاؤه رياء وسمعة، فهو مخلص حاضر القلب؛ لأنه لا يمكن أن يبكي الإنسان وقلبه مشغول بشيء آخر) (2) .
ولا يعني ذلك أن يغلق المرء على نفسه أو يتكلف وضعا معينا، أو هيئة معينة، كما يفعله بعضهم عند التأمل أو التفكير، إذ أن حقيقة التفكر: ترديد العلم بالقلب (3) .
وليس المقصود بالتفكر الصمت عن الكلام؛ لأن الصمت المجرد من عمل الجاهلية، وليس من هدي الإسلام، وقد جاء النهي عن ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل (4) » .
__________
(1) انظر: ابن علان الصديقي، دليل الفالحين، ج 2، ص 253
(2) انظر: ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، ج5، ص 404
(3) انظر: ابن العربي، أحكام القرآن، ج 2 ص 333
(4) رواه أبو داود، كتاب: الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، رقم الحديث 2489، ص 445، وصححه الألباني صحيح سنن أبي داود ج2، ص 1261رقم الحديث 7609(66/130)
قال المناوي - رحمه الله -: (أي لا عبرة ولا فضيلة له، وليس مشروعا عندنا، كما شرع للأمم قبلنا، فنهى عنه لما فيه من التشبه بالنصرانية) (1) .
ولما رأى أبو بكر - رضي الله عنه - امرأة لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها: (تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية) (2) .
قال ابن تيمية - رحمه الله -: (أخبر أبو بكر - رضي الله عنه - أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب على ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه) (3) .
وقال الخطابي - رحمه الله -: (كان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق، فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير) (4) .
وصمت المسلم إنما يكون للتفكر، وكان من دعاء طلحة بن مصرف رحمه الله: (اللهم اجعل صمتي تفكرا، واجعل نظري عبرا، واجعل منطقي ذكرا) (5) .
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (المؤمن قليل الكلام كثير
__________
(1) المناوي: فيض القدير، ج6، ص 444
(2) رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، رقم الحديث 3734
(3) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستيقم في مخالفة أصحاب الجحيم، جـ1 ص 327
(4) الخطابي، معالم السنن، ج4، ص 87
(5) انظر: أبا نعيم حلية الأولياء ج5، ص 15(66/131)
العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر) (1) .
كما أن التفكر لا يستلزم سكون البدن وعدم تحرك شيء منه، جاء في صحيح البخاري كتاب الأدب، باب من نكت العود في الماء والطين، عن أبي موسى - رضي الله عنه - «أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حيطان المدينة، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - عود يضرب به بين الماء والطين (2) » الحديث (3) .
وعن علي - رضي الله عنه - قال: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجعل ينكت الأرض بعود فقال: ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار، فقالوا: أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ الآية (5) » .
قال ابن حجر - رحمه الله - عند شرح الحديث الأول: (وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم، لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، ثم لا يستعمله فيما لا يغير تأثيره فيه بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء
__________
(1) انظر: أبا نعيم حلية الأولياء ج8، ص98
(2) صحيح البخاري الأدب (6216) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (2403) ، سنن الترمذي المناقب (3710) ، مسند أحمد بن حنبل (4/393) .
(3) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من نكت العود في الماء والطين، رقم الحديث 6216 ص 1317
(4) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض، رقم الحديث 6217 ص 1317، والآية من سورة الليل، الآية (5) .
(5) سورة الليل الآية 5 (4) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}(66/132)
الذي فيها فذاك من العبث المذموم) (1) .
وإذا كان التفكر يكون بتقليب النظر، أو ترديد القلب، اعتبارا وتفكرا، فإنه يكون مع ترديد الآيات القرآنية والأذكار الشرعية. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام ليلة يردد قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (2) قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح) .
وعقد الإمام النووي - رحمه الله - فصلا في كتاب التبيان في استحباب ترديد الآية للتدبر، وقال: (وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يرددونها إلى الصباح) (3) .
أما ترديد الأذكار الشرعية فقد ضلت فيه طوائف عندما ابتدعوا ألفاظا يرددونها مرات ومرات، يتعبدون بها أو يظنون بها صلاحا لأنفسهم.
والتكرير الوارد في السنة إنما هو لأذكار مخصوصة، وليس لأحد أن يبتدع أذكارا أو ألفاظا لم يأذن بها الشارع، ولو فعل ذلك لم ينتفع بها في الدنيا ولا في الآخرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » .
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري، ج10، ص597
(2) سورة المائدة الآية 118
(3) النووي، كتاب التبيان في آداب حملة القرآن، ص 45
(4) رواه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم الحديث 2499، ورواه مسلم كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور رقم الحديث 3243(66/133)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ولو كرر الإنسان اسم الله ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته) (1) .
وقال أيضا: (الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مثل لا إله إلا الله، ومثل الله أكبر، ومثل سبحان الله. . . فأما الاسم المفرد مظهرا مثل الله، الله، أو مضمرا مثل: هو هو، فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأئمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين) (2) .
وهدي الإسلام في الذكر أكمل هدي وأحسنه، فقد شرع للمسلم أن يذكر الله من حين أن يصبح، إلى أن يمسي، بأذكار مخصوصة في أوقات مخصوصة، كما شرع له أذكارا مطلقة يعمل بها متى وجد في نفسه نشاطا وهمة، وهذه الأذكار سبب في انشراح الصدر وطمأنينة القلب وسعادة المرء في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن تقريب هدي الإسلام وطريقته في التفكر مطلب أساسي، لا سيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه بعض الطرق في
__________
(1) ابن تيمية مجموع الفتاوى، جـ 10، ص 562
(2) ابن تيمية مجموع الفتاوى، جـ 10، ص 556(66/134)
التأمل، بحثا عن الصحة والسعادة، حيث يسعى كثير من الناس اليوم إلى محاربة القلق والاضطراب، وقد لجأ كثيرون في بلاد الغرب والشرق إلى العلاج عن طريق الأدوية أو التأمل أو الرياضة وغيرها، ليصلحوا أنفسهم ويتخلصوا من الملل والإرهاق - ولو لفترة وجيزة - ويكبحوا جماح شهواتهم ورغباتهم.
وظهر لذلك مدارس ومؤسسات تفرض على الأفراد طرقا معينة في سبيل تحقيق الراحة لجسمه وذهنه. فهناك على سبيل المثال ما يسمى التأمل المتسامي، وهو من الأساليب التي ابتدعها الإنسان لراحة الجسم، وقد طورها أحد الهنود في خلال الخمسينات من القرن العشرين، ويهدف من خلاله إلى الوصول إلى حالة الوعي الصافي، بحثا عن السعادة - بزعمهم - حيث يقوم من يمارس ذلك بالجلوس هادئا في وضع مريح، ويغلق عينيه مرددا كلمات مقتبسة من الكتب الهندوسية (1) .
ولقد أنعم الله علينا - نحن المسلمين - بنعم لا تعد ولا تحصى، وأرشدنا في كتابه إلى ما فيه صلاح قلوبنا وأبداننا (وإن المؤمن المتفكر يجد كل الفوائد الصحية والجسمية والنفسية التي يلقاها الممارس للتأمل، بل ويزيد عليها بسبب صحة عقيدته وبساطتها ونفاذ بصيرته، ووضوح رؤيته الدينية وتدريبه المستمر على التأمل
__________
(1) انظر: الموسوعة العالمية ج 6، ص 29(66/135)
والتفكر في صلاته وتسبيحه منذ نعومة أظفاره) (1) .
وما يميز المسلم هو استقلاله بتأمله وتفكره، فليس لأحد أن يقوم بالوصاية على المسلم في تفكره، فهو يملك ذلك متى أراد ويربى على ذلك من صغره، فقد أودع الله فيه آلات التفكر التي يستطيع من خلالها أن يطلق بصره وسمعه وقلبه في آيات الله ومخلوقاته، بخلاف أهل النحل والمذاهب الوضعية، حيث لا يملك معتنقوها حرية التأمل والتفكر، فالتأمل في البوذية مثلا يهدف إلى معرفة الحقائق، ويؤكد البوذيون ضرورة اتخاذ مرشد في هذا الطريق، ويقسمون التأمل إلى درجات معقدة لا يحصل المرء منها إلا اضطرابا وسوء فهم للحياة وما خلق لأجله (2) .
__________
(1) د. مالك البدري، التفكر من المشاهدة إلى الشهود، ص 59.
(2) انظر: الموسوعة العربية العالمية، ج 5، ص 232.(66/136)
المطلب الثاني: أهمية التفكر وحكمه:
التفكر من العبادات القلبية الجليلة (وهو من أفضل أعمال القلب وأنفعها له) (1) .
كما أن التفكر أصل الطاعات ومبدؤها، قال ابن القيم - رحمه الله -: (فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة، فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة، فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منها الإرادات والعزم
__________
(1) ابن القيم: مفتاح دار السعادة جـ 1، ص 183.(66/136)
فيتولد منها العمل، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له وفيما أمر به وفيما هيء له وأعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعا) (1) والتفكر أيضا يكشف الفرق بين الوهم والخيال، المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها، وبين السبب المانع حقيقة، فيشتغل به دون الأول، فما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطع أعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها، بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه، وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة، وعزم صادق، يميز به بين الوهم والحقيقة (2) .
ولذلك فالتفكر سبيل المرء إلى العمل، وإدراك حقائق الأشياء، بل إن حياة المرء وسعادته تبع لأفكاره، قال السعدي - رحمه الله -: (واعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكارا فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا، فحياتك طيبة سعيدة وإلا فالأمر بالعكس) (3) ولذلك فإن إعمال الفكر فيما ينفع ويقرب إلى الله من أهم المطالب الدينية.
ولقد حثت آيات عديدة في القرآن العظيم على التفكر، ومدح الله - عز وجل - المتصفين بهذه الصفة في كتابه، في مواضع عديدة ختمت
__________
(1) ابن القيم: مفتاح دار السعادة جـ 1، ص 183.
(2) انظر: ابن القيم: مفتاح دار السعادة جـ 1، ص 181.
(3) عبد الرحمن السعدي، الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، ص 31.(66/137)
بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
وفي صحيح مسلم «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من آخر الليل فخرج فنظر إلى السماء، ثم تلا هذه الآية من سورة آل عمران: ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ ثم قام فصلى ثم اضطجع ثم تلا هذه الآية ثم رجع فتسوك فتوضأ ثم قام فصلى (4) » .
قال النووي - رحمه الله -: (فيه أنه يستحب قراءتها عند الاستيقاظ في الليل مع النظر إلى السماء لما في ذلك من عظيم التدبر، وإذا تكرر نومه واستيقاظه وخروجه استحب تكريره قراءة هذه الآيات، كما ذكر في الحديث والله أعلم) (5) وقيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: (يقرؤهن وهو يعقلهن) (6) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه) (7) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 3
(2) رواه مسلم كتاب الطهارة، باب السواك، ج2، ص 148، رقم الحديث 256. والآيات من سورة آل عمران: 190، 191.
(3) سورة آل عمران الآية 190 (2) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
(4) سورة آل عمران الآية 191 (3) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(5) صحيح مسلم بشرح النووي، ج2، ص 148
(6) انظر: ابن كثير تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 478
(7) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج15، ص 343(66/138)
فالتفكر في مخلوقات الله أمر مندوب إليه، قال السعدي - رحمه الله -: (التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين) (1) ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر، وليس كل من تفكر أدرك المعنى المقصود (2) .
والتفكر في آلاء الله والسير المأمور به في القرآن الكريم هو: (سير القلوب والأبدان الذي يتولد عنه الاعتبار، وأما مجرد نظر العين وسماع الأذن، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار فغير مفيد، ولا موصل إلى المطلوب) (3) .
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته، وما له من صفات الكمال والجلال، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (4) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (5) ومدح - عز وجل - عباده الذين يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، قائلين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (6)
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أعظم عباد الله تفكرا في آيات الله ومخلوقاته، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكملهم في ذلك
__________
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، سورة آل عمران، الآية 191
(2) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، سورة الأنعام، الآية 95
(3) السعدي، تفسير الكريم الرحمن، تفسير سورة الأنعام، الآية 11، وسورة الحج، الآية 46
(4) سورة يوسف الآية 105
(5) سورة يوسف الآية 106
(6) سورة آل عمران الآية 191(66/139)
حيث كان يتفكر في آيات الله ومخلوقاته، ويدعو إلى ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله (1) » .
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من التابعين يمتثلون هذا، وينظرون في ملكوت الله نظر تفكر واعتبار، وقد وردت الآثار الكثيرة عن السلف في فضل التفكر، فقد سئلت أم الدرداء - رضي الله عنها - عن أفضل عبادة أبي الدرداء - رضي الله عنه - قالت (التفكر والاعتبار) .
وقال الحسن - رحمه الله -: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة) (2) وقال أيضا (أفضل العمل الورع والتفكر) (3) وقال عامر بن قيس - رحمه الله -: سمعت غير واحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر، وقال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: إن الفكرة نور يدخل قلبك، وربما تمثل هذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
__________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية ج6، ص 67، وأورده البيهقي في الشعب ج1، ص 136، وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة، ج1 ص210 وذكره الألباني في صحيح الجامع ج1، ص 572 برقم 2976، '' وقال عنه: (حسن) .
(2) كتاب الزهد للإمام أحمد ص202
(3) البستي، روضة العقلاء، ونزهة الفضلاء ص 30(66/140)
وقال أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: (إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة) ، وقال الحسن - رحمه الله -: (التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك) (1) .
وقال وهب بن منبه - رحمه الله -: (ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، ولا فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل) ، وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: (الكلام بذكر الله - عز وجل - حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة) (2) .
وكان للسلف أحوال في التفكر، فمن ذلك ما جاء عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه قال لرجل من جلسائه: (لقد أرقت الليلة تفكرا، قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه) (3) .
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير - رحمه الله -: (إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة، فإذا أعمالهم شديدة، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (4) {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (5) {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} (6) فلا أراني فيهم، فأعرض نفسي على هذه الآية {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (7) .
__________
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج8، ص109، وأبا الشيخ الأصبهاني، كتاب العظمة، ج1، ص228
(2) انظر أبا نعيم: حلية الأولياء ج5، ص314، وانظر: ابن كثير تفسير القرآن العظيم ج1، ص474
(3) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، جـ5، ص 268
(4) سورة الذاريات الآية 17
(5) سورة الفرقان الآية 64
(6) سورة الزمر الآية 9
(7) سورة المدثر الآية 42(66/141)
فأرى القوم مكذبين، وأمر بهذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (1) فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم) (2) .
وقال يوسف بن أسباط - رحمه الله -: قال لي سفيان الثوري - رحمه الله -: (ناولني المطهرة لأتوضأ، فناولته إياها، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها فقلت: يا أبا عبد الله قد طلع الفجر، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة) (3) وكان شريح القاضي - رحمه الله - يقول لأصحابه: (اخرجوا بنا إلى السوق فننظر إلى الإبل كيف خلقت) (4) .
والتفكر إن لم يثمر عملا لم يحصل منه المرء شيئا، كما أن التفكر لا يعني الصمت والعزلة عن الناس، فكم صامت لا يفكر، بل تتقلب به الوساوس والخيالات.
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله: (ركعتان مقتصدتان في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه) (5) وعلى هذا
__________
(1) سورة التوبة الآية 102
(2) أبا نعيم، حلية الأولياء، ج2، ص198.
(3) أبا نعيم، حلية الأولياء، ج 7، ص 53
(4) انظر: أبا نعيم حلية الأولياء، ج4، ص133، وانظر: السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص 195
(5) انظر: الأصبهاني، كتاب العظمة، ج1، ص302 وابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج1 ص474(66/142)
يحمل قول الحسن - رحمه الله - المتقدم، فإن ساعة تفكر خير من قيام ليلة بلا تفكر، أما إذا كان قيام الليل مع التفكر فإنه أفضل بلا شك.
قال الإمام ابن رجب - رحمه الله -: (ونقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - في رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام، ورجل أقل الأكل فقلت نوافله، وكان أكثر فكرة أيهما أفضل؟ فذكر ما جاء في الفكر: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قال: فرأيت هذا عنده أكثر يعني الفكر، وهذا يدل على تفضيل قراءة التفكر على السرعة وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو المنصوص صريحا عن الصحابة والتابعين) (1) .
قال أحمد بن أبي الحواري - رحمه الله -: (قلت لأبي صفوان أيما أحب إليك، أن يجوع الرجل فيجلس فيتفكر، أو يأكل فيقوم فيصلي؟ قال: يأكل يقوم فيصلي، ويتفكر في صلاته هو أحب إلي، فحدثت به أبا سليمان - يعني: الداراني - فقال: صدق، الفكرة في الصلاة أفضل من الفكرة في غير الصلاة، الفكرة في الصلاة عملان، وعملان أفضل من عمل) (2) .
قال ابن العربي - رحمه الله -: (وأما طريقة من يبقى يوما وليلة أو شهرا متفكرا لا يفتر فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالشرع) (3) .
__________
(1) انظر: الأصبهاني، كتاب العظمة ج1 ص229، وانظر: ابن رجب، القواعد، ج1، ص22
(2) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج8، ص 300
(3) انظر: ابن العربي، أحكام القرآن ج2، ص 354(66/143)
إن دين الله لا يؤخذ بالرأي أو الهوى، وما ضل من ضل من الطوائف والفرق إلا عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة، وابتدعوا من عند أنفسهم عبادات لم يأذن بها الله ورسوله.
ولذلك فإن التفكر الذي ينتفع به صاحبه هو الذي يبعث على التأسي بالكتاب والسنة، قال بكر بن خنيس: (قلت لسعيد بن المسيب - رحمه الله - وقد رأيت قوما يصلون ويتعبدون: يا أبا محمد ألا تتعبد مع هؤلاء القوم؟ فقال لي: يا ابن أخي إنها ليست بعبادة.
قلت له: فما التعبد يا أبا محمد؟ قال: التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله، وأداء فرائض الله تعالى) (1) .
وقول هذا التابعي الجليل ليس تقليلا من شأن الصلاة، فهو الذي يقول عن نفسه: ما فاتتني الصلاة في جماعة أربعين سنة، ويقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وحج أربعين حجة (2) .
ولكنه يعني التوازن في حياة المسلم، بين التفكر وأداء الفرائض ومعاملة الخلق. وجاء في رواية أخرى عن صالح بن محمد بن زائدة أنه رأى فتية يروحون بالهاجرة إلى المسجد، ولا يزالون يصلون حتى يصلى العصر، فقال لسعيد: هذه هي العبادة لو نقوى على ما يقوى
__________
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج1، ص 162
(2) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج2، ص162، 164(66/144)
عليه هؤلاء الفتيان. فقال سعيد ما هذه العبادة، ولكن العبادة: التفقه في الدين والتفكر في أمر الله تعالى (1) .
ولذلك فإن العبادة الحقة هي التي تجمع بين العلم والعمل، بين الفقه والتفكر، وبين حسن العمل وحسن القصد.
__________
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج2، ص 162(66/145)
المبحث الثاني: أنواع التفكر ومجالاته:
المطلب الأول: أنواع التفكر:
التفكر في مخلوقات الله وآياته يتفاوت فيه الناس، ويختلفون باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، ويمكن أن نتبين نوعين ظاهرين للتفكر والنظر في آيات الله ومخلوقاته.
الأول: نظر إليها بالبصر الظاهر فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، ويرى سعة الأرض وامتدادها، وجبالها ووهادها، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هذا المقصود بالأمر.
الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، ويتفاوت الناس في هذا تفاوتا عظيما، فمنهم من يأخذ بحظ يسير منه، ومنهم من يتجاوز ذلك حتى ينظر ببصيرته الباطنة سعة وعظمة ملكوت الله وهيمنته على خلقه؛ فيستدل بها على ما لله من صفات الكمال والجلال والعظمة والكبرياء (1) .
__________
(1) انظر: ابن القيم، مفتاح دار السعادة ج1، ص199(66/145)
وقد جاءت آيات عديدة في القرآن الكريم تدعو إلى السير في الأرض، والاعتبار بأحوال الأمم الماضية، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1) وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (2) وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (3) .
فالأمر بالسير في الأرض ينقسم إلى قسمين: سير بالأقدام، وسير بالقلب. قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: (أما السير بالقدم فأن يسير الإنسان في الأرض على أقدامه أو على راحلة من بعير أو سيارة أو طيارة أو غيرها حتى ينظر ماذا حصل للكافرين، وماذا كانت حال الكافرين، وأما السير بالقلب فهذا يكون بالتأمل وبالتفكر فيما نقل من أخبارهم) (4) .
ومن هنا تبين نوعان من أنواع التفكر:
الأول: التفكر مع النظر وهو لا ينفع إلا أهل الإيمان والقلوب السليمة الذين يعلمون الغاية من الخلق، وهو عبادة الله تعالى كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 137
(2) سورة النمل الآية 69
(3) سورة العنكبوت الآية 20
(4) ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، ج1، ص 845
(5) سورة الذاريات الآية 56(66/146)
الثاني: التفكر بالقلب دون النظر وهو التأمل، وترديد القلب اعتبارا بآيات الله ومخلوقاته، وهو من أعظم أسباب زيادة الإيمان إذا صح مقصود فاعله. وأكمل الأحوال أن يجمع المرء بين هذين النوعين، ولا يقتصر على نوع دون الآخر.(66/147)
المطلب الثاني: مجالات التفكر:
1 - التفكر في القرآن العظيم: وهو أعظم مجالات التفكر، فالقران معجزة الإسلام الخالدة، أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) وهو معجز بلفظه ومعانيه، لا تنقضي عجائبه للمتفكرين فيه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) قال السعدي: (قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه) (5) .
ومن التفكر في القرآن التفكر في حججه وآياته وأحكامه الشرعية، والتفكر في أمثاله التي ضربها الله لعباده ليتفكروا فيها، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (6) وقال تعالى {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (7) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة النحل الآية 44
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النحل الآية 44
(5) انظر: السعدي تيسير الكريم الرحمن ص 441، والآية من سورة النحل الآية 44
(6) سورة الحشر الآية 21
(7) سورة البقرة الآية 266(66/147)
قال ابن كثير - رحمه الله -: (أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المعنى المراد منها، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (1) (2) .
وقال السعدي - رحمه الله -: (أخبر تعالى أنه تعالى يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده الحلال والحرام؛ لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها، فإن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طريق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه) (3) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 43
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ1 ص140 والآية من سورة العنكبوت، الآية 43.
(3) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 792(66/148)
2 - التفكر في المخلوقات: وهذا المجال من مجالات التفكر واسع النطاق، يمتد إلى ملكوت السماوات والأرض، وما سخر الله منها من كل شيء، وقد جاءت آيات عديدة في القرآن العظيم تدعو إلى التفكر في السماوات والأرض وما بينهما، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الجاثية الآية 13(66/148)
وقال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) .
قال البقاعي - رحمه الله -: (لما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في النفس وكانت آيات الآفاق أعظم، قال: (في خلق السماوات والأرض) على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من المنافع (3) قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (4) .
وقد دعا الله عباده للتفكر في خلق السماوات والأرض، وذلك لما فيهما من الآيات العجيبة التي تبهر الناظرين، وتقنع المتفكرين، وتجذب أفئدة الصادقين، ولتنبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية، أما تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن أن يحصره مخلوق أو يحيط ببعضه، وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة وانتظام السير والحركة يدل على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه، وشمول قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنع ولطائف الفعل، يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها وسعة علمه، وما فيها من المنافع للخلق يدل على سعة رحمة الله، وعموم فضله، شمول بره،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة آل عمران الآية 191
(3) انظر: البقاعي، نظم الدرر، ج 2، ص 197
(4) سورة غافر الآية 57(66/149)
ووجوب شكره (1) .
__________
(1) انظر: السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 128، ص 721.(66/150)
3 - التفكر في الدنيا والآخرة: وهذا المجال أحد مجالات التفكر التي أمر الله - عز وجل - بها، فالدنيا دار ممر وليست دار قرار، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (1) {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (2) .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها) ، وقال قتادة: (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا) (3) .
وقال أيضا: (من تفكر في الدنيا والآخرة عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار بقاء ثم دار جزاء) (4) .
والآيات في بيان حقيقة الدنيا وزوالها وسرعة انقضائها كثيرة معلومة، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكثر على أصحابه من بيان حقيقة الدنيا قولا وعملا، قال - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر - رضي الله عنهما -: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (5) » ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) سورة البقرة الآية 220
(3) انظر: الطبري، جامع البيان، ج2، ص 399
(4) أبا نعيم، حلية الأولياء، ج2، ص 329
(5) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنك غريب، رقم الحديث: 5937(66/150)
وحطامها وأعرفهم بحقيقتها.
كما ورد في القرآن العظيم بيان أحوال الآخرة، وما أعد الله فيهما لأوليائه، وما أعد فيهما لأعدائه، قال القرطبي: (ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها) (1) والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
__________
(1) انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص 314(66/151)
4 - التفكر في الموت والبعث: قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
قال ابن جرير - رحمه الله -: (يقول الله تعالى: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعد، نفس هذا ترجع إلى جسمه، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبر وبيانا أن الله يحيي من يشاء من خلقه إذا شاء ويميت من شاء إذا شاء) (2) .
وقال عند تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (3) أي: أولم يتفكر هؤلاء المكذبون
__________
(1) سورة الزمر الآية 42
(2) ابن جرير الطبري، جامع البيان ج24، ص9
(3) سورة الروم الآية 8(66/151)
في خلق الله إياهم، وأنه خلقهم ولم يكونوا شيئا، ثم صرفهم أحوالا وتارات، حتى صاروا رجالا، فليعلموا أن الذي فعل ذلك قادر على أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازي المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته (1) .
ومما يتعلق بالموت: زيارة المقابر، وقد جاءت السنة بالحث عليها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » ، وزيارة القبور تبعث على التفكر في الحياة وفي مصير الإنسان ومآله.
وزيارة القبور - خصوصا - تتطلب أن يكون المرء خاليا من كل ما يشغله عن الاعتبار والاتعاظ؛ ولذلك قال بعض السلف: (زوروا القبور بفكركم) (3) لأن المرء لا ينتفع بالزيارة إذا كان يزور المقبرة بجسده دون فكر، أو يكتفي من الزيارة بحضور جنازة قريب أو صديق.
وكذلك الأمر عند اتباع الجنازة، ينبغي أن يكون المرء متفكرا ومعتبرا هذه النهاية التي كتبها الله تعالى على كل حي، قال في المغني:
__________
(1) انظر: ابن جرير، جامع البيان ج21، ص 24
(2) رواه ابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور، رقم الحديث 1558، وهو صحيح مسلم بلفظ (فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) كتاب الجنائز رقم الحديث 1623
(3) انظر: أبا نعيم، الحلية، ج10، ص 143(66/152)
(ويستحب لمشيع الجنازة أن يكون متخشعا متفكرا في مآله متعظا بالموت وبما يصير إليه الميت) (1) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني، ج3، ص 396(66/153)
5 - التفكر في المتقابلات: خلق الله - تبارك وتعالى - في هذا الكون من المتقابلات والأضداد ما يدل على كمال قدرته وبديع صنعه، فالليل والنهار، والشمس والقمر، والسهل والوعر، والماء العذب والماء المالح، والذكر والأنثى، آيات ودلالات وعبرة لمن يعتبر، قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) .
ولقد من الله تعالى على الإنسان بأن خلق له زوجا يسكن إليها كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (2) وبين تعالى تمام رحمته ولطفه بعباده. بما جعل بين الزوجين من المودة والرحمة، قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (3) ثم دعا عباده إلى التفكر في ذلك في ختام الآية ليعتبر ويتعظ من أحيا الله قلبه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
قال ابن جرير: (يقول تعالى: إن في فعله ذلك لعبرة وعظات لقوم يتذكرون في حجج الله وأدلته فيعلموا أنه الإله الذي لا يعجزه شيء أراده ولا يتعذر عليه فعل شيء شاءه) (5) .
والتفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد
__________
(1) سورة الذاريات الآية 49
(2) سورة الروم الآية 21
(3) سورة الروم الآية 21
(4) سورة الروم الآية 21
(5) ابن جرير: جامع البيان، ج21، ص 31(66/153)
الناظر معرفة بمنافع أخرى ضمنها (1) .
وقد دعت آيات عديدة في القرآن الكريم إلى الاعتبار بالليل والنهار والشمس والقمر، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (2) وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (3) ، وقال تعالى {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (4) .
وفي اختلاف الليل والنهار عبرة من وجوه متعددة:
أولا: من جهة أن الليل مظلم والنهار مضيء كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (5) .
ثانيا: اختلافهما في الطول والقصر؛ أحيانا يطول الليل وأحيانا يطول النهار وأحيانا يتساويان، كما قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (6) .
أي: يدخل هذا في هذا مرة فيأخذ منه، وهذا في هذا مرة فيأخذ منه وهذا اختلافهما.
ثالثا: اختلافهما في الحر والبرد؛ تارة يكون باردا وتارة حارا.
__________
(1) انظر: الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 10 ص 71.
(2) سورة فصلت الآية 37
(3) سورة آل عمران الآية 190
(4) سورة النور الآية 44
(5) سورة الإسراء الآية 12
(6) سورة الحج الآية 61(66/154)
رابعا: الخصب والجدب، تارة تكون الدنيا جدبا وقحطا وسنين، وتارة تكون خصبة وربيعا ورخاء.
خامسا: اختلافهما في الحرب والسلم، تارة تكون حربا، وتارة تكون سلما، وتارة تكون عزا، وتارة تكون ذلة، كما قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (1) .
ومن تأمل اختلاف الليل والنهار وجد فيه من آيات الله - عز وجل - ما يبهر العقول (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 140
(2) انظر: ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، ج 2، ص 541.(66/155)
6 - التفكر في خلق الإنسان:
لقد كرم الله - تبارك وتعالى - الإنسان وشرفه على بقية المخلوقات، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (1) ، وخلقه تعالى في أحسن صورة، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (2) ، وشرفه بالعقل، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) . وقد جاءت آيات عديدة في القرآن الكريم تتحدث عن خلق الإنسان، وتدعو إلى التفكر في خلقه، والأصل الذي خلق منه، وفضل الله تبارك وتعالى عليه، وإذا كان العلم الحديث
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2) سورة التين الآية 4
(3) سورة النحل الآية 78(66/155)
قد وصل إلى أسرار كثيرة من خلق الإنسان، فإن المتأمل لخلقه ابتداء وانتهاء، والناظر فيما اختصه الله به من عقل وإرادة، يدرك أنه إنما خلق لأمر عظيم، قال تبارك وتعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (1) قال قتادة - رحمه الله -: ((من تفكر في نفسه عرف أنما لينت مفاصله للعبادة) (2) .
وإن أعظم ما يدعو المرء إلى التفكر في خلق الإنسان ما جاء في القرآن الكريم عن مراحل خلقه وتصويره، لا سيما وقد شهد العصر الحديث من الاكتشافات والأسرار في خلق الإنسان ما يدعو إلى زيادة الإيمان بعظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعه.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 21
(2) الأصبهاني، كتاب العظمة، ج1، ص 234. والآية في سورة الذاريات، الآية 21.(66/156)
7 - التفكر في الحيوان والنبات:
عالم الحيوان والنبات عالم فسيح يتسم بالحركة والتناسق مع هذا الكون، وقد سخر الله تبارك وتعالى الحيوان والنبات للإنسان، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (1) {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (2) {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (3) .
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4) .
__________
(1) سورة يس الآية 71
(2) سورة يس الآية 72
(3) سورة يس الآية 73
(4) سورة الأنعام الآية 99(66/156)
وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
إن التفكر في عالم الحيوان، وما أودع الله فيه من أسرار، مطلوب من كل أحد، فكما سخرها الله تعالى، وذللها للإنسان؛ لينتفع بها فكذلك جعلها له آية ليعتبر بها ويتعظ، وكل صنف من عالم الحيوان له أسراره وطبائعه، ومن هذه الأصناف النحل التي جاء ذكرها في القرآن الكريم لبيان مهمتها في الحياة وما يفيد منها الناس، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (2) {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) .
قال ابن جرير - رحمه الله -: ((يقول تعالى ذكره إن في إخراج الله من بطون هذه النحل: الشراب المختلف الذي هو شفاء للناس لدلالة وحجة واضحة على من سخر النحل، وهداها لأكل الثمرات التي تأكل، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء،
__________
(1) سورة الرعد الآية 4
(2) سورة النحل الآية 68
(3) سورة النحل الآية 69(66/157)
وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصبح الألوهية إلا له " (1) .
وقال ابن كثير - رحمه الله -: " أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في المهامه، والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل، وهو من أطيب الأشياء لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم " (2) .
وإن من تدبر اختصاص النحل بكل العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعا أن لا بد من قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه (3) .
واختير وصفى التفكر هنا، لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق ونظر عميق (4) .
وكما أن الحيوان مدعاة للتفكر فإن النبات بأشكاله وألوانه وثماره وأطواره مدعاة للتفكر والتأمل أيضا، والآيات في ذلك كثيرة جدا، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (5) {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (6) ، أي
__________
(1) ابن جرير، جامع البيان، ج 14، ص 141.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص635
(3) انظر: محيي الدين زادة، حاشية زادة على البيضاوي، ج3، ص 189.
(4) انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج 7، ص 21.
(5) سورة النحل الآية 10
(6) سورة النحل الآية 11(66/158)
دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (1) .
وإن " من تأمل الحبة تقع في الأرض، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجرة، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم تنمو ويخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع " (2) . من تأمل ذلك علم أن لا بد من قادر حكيم، واستدل بها على عظمة خالقها، وأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وهذه الحبة من دلائل البعث، لأنها تدفن في التراب ليس لها ورق ولا غصن ولا ثمر ولا لون ولا طعم ولا حركة، فيمكثها الله في التراب، ثم يحييها فالق الحب والنوى، فيخرجها من الأرض، وكذلك يخرج الموتى وهو على كل شيء قدير (3) .
__________
(1) سورة النمل الآية 60
(2) محي الدين زاده، حاشية زاده على البيضاوي، ج3، ص 170.
(3) انظر: أبا الشيخ الأصبهاني، كتاب العظمة، ج1، ص286.(66/159)
8 - التفكر في مصارع الغابرين:
ومن مجالات التفكر العظيمة، التفكر في مصارع الأمم الغابرة، فيما نقل من أخبارهم في القرآن الكريم والسنة المطهرة، كيف كانوا؟ وأين هم الآن؟ فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وإن(66/159)
الناظر إلى ديار الأمم الغابرة يرى ما وصلوا إليه من قوة وحضارة، فبادوا وأصبحوا عبرة لمن بعدهم، وقد أرشد القرآن العظيم إلى أن هذه الأمم الغابرة كان لهم شأن عظيم في بناء القصور، ونحت الجبال، وأعطاهم الله قوة في أجسامهم، فما أغنى عنهم كل ذلك لما كذبوا بآيات الله واستكبروا عن عبادته، وقالوا: من أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.
وقد قص القرآن الكريم علينا قصص أولئك الأمم: عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط، وغيرهم، وقص علينا نبأ الذين استكبروا وطغوا وتجبروا: فرعون وهامان وقارون وغيرهم، بماذا قابلوا نعم الله عليهم وماذا كان مصيرهم؟ .
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} (1) {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} (2) {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (3) {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (4) {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} (5) {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} (6) {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} (7) {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (8) {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (9) .
وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاتعاظ بهؤلاء الأقوام الذين استحقوا مقت الله وغضبه، وفي غزوة تبوك عندما مر عليه الصلاة والسلام على ديار ثمود قال لأصحابه - رضي الله عنهم -: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا
__________
(1) سورة الفجر الآية 6
(2) سورة الفجر الآية 7
(3) سورة الفجر الآية 8
(4) سورة الفجر الآية 9
(5) سورة الفجر الآية 10
(6) سورة الفجر الآية 11
(7) سورة الفجر الآية 12
(8) سورة الفجر الآية 13
(9) سورة الفجر الآية 14(66/160)
باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم (1) » ، وفي رواية: «أن يصيبكم (2) » . قال ابن حجر - رحمه الله -: " أي خشية أن يصيبكم، ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به، والطاعة له، فمن مر عليهم ولم يفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم " (3) .
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه هذا الحديث في باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلا لمن يدخل باكيا.
قال النووي - رحمه الله -: " فيه الحث على المراقبة عند المرور بديار الظالمين ومواقع العذاب، ومثله الإسراع في وادي محسر؛ لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك، فينبغي للمار في مثل هذا الموضع المراقبة
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، رقم الحديث 415، ورواه مسلم كتاب الزهد والرقاق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، رقم الحديث 5292.
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3380) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (2/117) .
(3) ابن حجر، فتح الباري، ج1، ص 531.(66/161)
والخوف والبكاء والاعتبار بهم وأن يستعيذ بالله من ذلك " (1) .
والاعتبار بقصص الماضين من الأمم والأفراد من أعظم دواعي التفكر، كما قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (2) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) ، أي اقصص هذه القصة وغيرها. .، فإن في القصص تفكرا وموعظة فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم؛ لأن للأمثال واستحضار النظائر شأنا عظيما في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة (4) .
__________
(1) النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج9، ص 321.
(2) سورة الأعراف الآية 175
(3) سورة الأعراف الآية 176
(4) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج5، ص 179(66/162)
المبحث الثالث: ثمرات التفكر ومعوقاته:
المطلب الأول: ثمرات التفكر:
للتفكر ثمرات عديدة نذكر منها ما يلي:
أولا: زيادة الإيمان واليقين:
وهو أعظم فوائد التفكر حيث يستدل به المرء على ما لله من صفات الكمال والجلال، ويعلم أنه لا يخلق أحد كخلق الله ولا يدبر كتدبيره سبحانه وتعالى.(66/162)
قال ابن القيم - رحمه الله -: " التفكر يوقع صاحبه من الإيمان على ما لا يوقعه عليه العمل المجرد، فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له، وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها وفاضلها وأقبحها من قبيحها ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاوم تلك الأسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه " (1) .
وأعظم ما ينبغي أن يتفكر به المرء القرآن العظيم، ليجني من ذلك علوما عديدة منها: علم التوحيد وما لله من صفات الكمال، فإذا مرت عليه الآيات في توحيده وأسمائه وصفاته أقبل عليها، فإذا فهمها وفهم المراد منها أثبتها لله على وجه لا يماثله فيه أحد، وعرف أنه ليس له مثيل في ذاته ولا في صفاته، وامتلأ قلبه من معرفة ربه وحبه بحسب العلم بكمال الله وعظمته، فإن القلوب مجبولة على محبة الكمال فكيف بمن له الكمال المطلق؟ ومنه النعم الجزيلة، وهذا العلم هو أجل علوم القرآن على الإطلاق وهو أصل العلم وأصل التعبد.
ومنها: معرفة صفات الرسل وأحوالهم وما جرى لهم وعليهم، وما كانوا عليه من الأوصاف الراقية والأخلاق الكريمة. ومن ذلك علم أهل السعادة والخير، وأهل الشقاء والشر، والفرقان بين هؤلاء وهؤلاء.
__________
(1) ابن القيم، مفتاح دار السعادة، ج1، ص 180.(66/163)
ومنها: علم الجزاء في الدنيا والبرزخ والآخرة على أعمال الخير وأعمال الشر، وفي ذلك مقاصد جليلة من الإيمان بكمال عدل الله وسعة فضله والإيمان باليوم الآخر. ومن ذلك معرفة النهي والأمر ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، فإن العباد محتاجون إلى معرفة ما أمر الله به وما نهوا عنه والعمل بذلك، والعلم سابق للعمل.
وطريق ذلك: إذا مر على القارئ نص فيه أمر بشيء أو نهى عنه وفهم ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه، حاسب نفسه، فإن كان قائما بالأمر متجنبا للنهي فليحمد الله ويسأله الثبات والزيادة، وإن كان غير ذلك فليجاهد نفسه على ذلك.
وبذلك يزداد إيمان العبد ويقينه، فالتفكر من الأسباب الرئيسة في زيادة الإيمان، قال العلماء: أسباب زيادة الإيمان أربعة:
1 - معرفة الله بأسمائه وصفاته.
2 - النظر في آيات الله الكونية والشرعية (التفكر) .
3 - كثرة الطاعات وإحسانها.
4 - ترك المعاصي تقربا إلى الله - عز وجل (1) .
وأما التفكر في المخلوقات فإن العبد يستدل به على ما لله من
__________
(1) انظر: ابن عثيمين، شرح العقيدة الواسطية، ص 580(66/164)
صفات الكمال والعظمة والحكم البالغة، وما له من النعم الواسعة والأيادي المتكاثرة، وعلى صدق ما أخبر به من المعاد والجنة والنار، وعلى صدق رسله وحقيقة ما جاءوا به من عنده (1) .
وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات وزاد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر الله به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فيعلم أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صائرون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات (2) .
قال ابن العربي: " أمر الله تعالى بالنظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادة في اليقين وقوة في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد، قيل لأبي الدرداء: أفترى الفكر عملا من الأعمال؟ قال: نعم هو اليقين " (3) . فالتفكر طريق العبد إلى اليقين، قال بعض السلف: مازال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم حتى أيقنت قلوبهم بربهم (4) .
__________
(1) انظر: السعدي، القواعد الحسان، ص84
(2) انظر: السعدي، تيسير الكريم الرحمن، سورة البقرة الآية 164
(3) ابن العربي، أحكام القرآن، ج2، ص353
(4) انظر أبا نعيم، حلية الأولياء، ج6، ص303(66/165)
ثانيا: التفكر طريق التذكر وحياة القلوب:
فالتفكر طريق إلى التذكر، وبينهما ارتباط وثيق " والتفكر والتذكر منزلان يثمران أنواع المعارف وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره، وتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم، قال الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت " (1) .
وتذكر المرء واتعاظه بالآيات إنما يبدأ من التفكر؛ ولذلك قال بعض السلف: إن للموعظة غطاء، وكشف غطائها التفكر (2) .
والتفكر يذهب الغفلة عن المرء ويجلب الحياة لقلبه، قال بعض السلف: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين (3) . وقال ابن عون: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة (4) .
__________
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج10، ص19، وانظر: ابن القيم، مدارج السالكين، ج1، ص441.
(2) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج8، ص208
(3) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج10، ص327
(4) انظر: البغوي، معالم التنزيل، ج4، ص152(66/166)
كما أن التفكر نور يدخله المرء إلى قلبه. قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: " الفكرة نور تدخله إلى قلبك، كما أنه يظهر على المرء في هيئته وسكونه ووقاره ". وقال وهب بن منبه - رحمه الله -: " المؤمن إذا تفكر علته السكينة " (1) .
وأعظم ما يتفكر به المرء وينتفع به كتاب الله تبارك وتعالى، قراءة وتدبرا وتفكرا، ففيه حياة القلوب والأبدان، قال ابن القيم - رحمه الله -: " فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر ومر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم " (2) .
إن قراءة القرآن بالتفكر أصل صلاح القلب، وكانت عادة السلف أن يقوم أحدهم بالآية يرددها حتى الصباح، وتقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بآية يرددها إلى أن أصبح، وهي قوله تعالى:
__________
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج4، ص68
(2) ابن القيم، مفتاح دار السعادة، ج1 ص 187(66/167)
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 118(66/168)
ثالثا: التفكر طريق إلى التوبة والعمل:
والعمل هو مقصود التفكر وغايته، وإنما يحمد التفكر إذا تبعه العمل، لا أن يكون تفكرا مجردا، بل إن من العجب أن يتفكر المرء ثم لا يتبع ذلك بالعمل، قال أبو العتاهية:
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد (1)
والتفكر مع العمل مظنة الاستجابة للدعاء وقبول العمل، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (3) . . . إلى قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (4) الآية فهؤلاء ذكروا الله تعالى وتفكروا في مخلوقاته، وحملهم التفكر على الإيمان والعمل الصالح، قال الشوكاني - رحمه الله -: والمعنى أنهم يتفكرون في بديع صنعهما وإتقانهما مع عظم أجرامهما، فإن هذا الفكر إذا كان صادقا، أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه (5) . وقال
__________
(1) انظر: ديوان أبي العتاهية، ص122.
(2) سورة آل عمران الآية 190
(3) سورة آل عمران الآية 191
(4) سورة آل عمران الآية 195
(5) انظر: الشوكاني، فتح القدير، ج1، ص411(66/168)
البيضاوي: وفائدة الفاء في قوله تعالى: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السماوات والأرض حملهم إلى الاستعاذة (2) . وتقدم قول مجاهد - رحمه الله - عند تفسير قوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) قال: يطيعون (4) .
والتفكر مفتاح الرحمة قال سفيان بن عيينة: التفكر مفتاح الرحمة ألا ترى أن المرء يتفكر فيتوب (5) . فأثر التفكر يظهر على المرء في عمله، ولذلك قال بعض السلف: تعود الطاعات إلى التفكر والاعتبار، وقال الحسن البصري - رضي الله عنه -: التفكر يدعو إلى الخير والعمل به (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191
(2) انظر: البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج1، ص166
(3) سورة النحل الآية 44
(4) انظر: ص127
(5) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج7، ص306
(6) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، ج10، ص76(66/169)
رابعا: التفكر طريق إلى التفقه:
بين التفكر والتفقه ارتباط ومناسبة، فإن الفقه الذي هو الفهم، والفكر الذي هو التأمل بينهما ارتباط وثيق، فإن بين يدي الفقه التفكر، فإن الله - سبحانه وتعالى - دعا عباده في غير آية من كتابه إلى التحرك بإحالة النظر العميق في التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى أن يمعن المرء النظر في نفسه وما حوله؛ فتحا للقوى العقلية على مصراعيها، فإن التفقه أبعد مدى من التفكر إذ هو حصيلته وإنتاجه (1) .
__________
(1) انظر: بكر أبو زيد، حلية طالب العلم، دار الراية، الرياض، ط1، 1408 هـ، ص40(66/169)
ولذلك فإن العلماء أكثر الناس تفكرا؛ لأنهم يعكفون على العلم ويتفكرون في مسائله ودلائله وأحكامه، وكلما ازداد العالم تفكرا في مسائل العلم ازداد علما وفهما لأحكام الشرع ومقاصده.(66/170)
خامسا: التفكر طريق إلى الانتفاع بالمخلوقات:
فالتفكر يقود إلى استخراج المنافع المتنوعة من المخلوقات، فإن الله سخرها للإنسان وأودع فيها من المنافع والخيرات الدينية والدنيوية.
قال السعدي - رحمه الله -: فجميع فنون الصناعات على كثرتها وتنوعها وتفوقها - ولا سيما في هذه الأوقات - كل ذلك داخل في تسخيرها لنا، وقد عرفت الحاجة بل الضرورة في هذه الأوقات إلى استنباط المنافع وترقية الصنائع إلى ما لا حد له، وقد ظهر في هذه الأوقات من موادها وعناصرها ما فيه فوائد عظيمة للخلق، ومن القواعد المقررة أن ما لا تتم الأمور المطلوبة إلا به فهو مطلوب بطلبها، وهذا يدل أن تعلم الصناعات والمخترعات الحادثة من الأمور المطلوبة شرعا كما هي مطلوبة لازمة عقلا، وأنها من الجهاد في سبيل الله، ومن علوم القرآن، فإن الله نبه العباد أنه جعل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وأنه سخر لهم ما في الأرض، فعليهم أن يسعوا لتحصيل هذه المنافع من أقرب الطرق، وهي لا تعرف إلا بالبحث والتنقيب والتجارب المتكررة والدراسات المناسبة لكل نوع منها، وهذا من آيات القرآن، وهو أكبر دليل على سعة علم الله وحكمته(66/170)
ورحمته بعباده؛ بأن أباح لهم جميع النعم ويسر لهم الوصول إليها بطرق لا تزال تحدث وقتا بعد وقت (1) .
إن من أعظم نعم الله على العبد أن يتفكر في مخلوقاته ويتأملها من خلال الآيات القرآنية التي أشارت إليها، كقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (2) ، وقوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (3) ، وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (4) ، وغيرها من الآيات الدالة على أن الله - جل وعلا - خلق هذه المخلوقات وقدر لها وهداها إلى ما قدر لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فقوله سبحانه: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (5) يتضمن أنه قدر ما سيكون للمخلوقات وهداها إليه، وعلم ما يحتاج إليه الناس والدواب من الرزق وهدى غيره من الأحياء أن يسوق إليه ذلك الرزق، وخلق الأرض وقدر حاجتها إلى المطر، وقدر السحاب وما يحمله من المطر، وخلق ملائكة ليسوقوا السحاب إلى تلك الأرض فيمطر المطر الذي قدره، وقدر ما ينبت منها من الرزق، وقدر حاجة العباد إلى ذلك الرزق، وهداهم إلى ذلك الرزق وهدى من يسوق ذلك الرزق إليهم)) (6) فسبحان من بهر بحكمته الألباب ((ففي
__________
(1) السعدي، القواعد الحسان ص86، 87 بتصرف يسير
(2) سورة النمل الآية 88
(3) سورة طه الآية 50
(4) سورة الأعلى الآية 3
(5) سورة الأعلى الآية 3
(6) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج16، ص 139(66/171)
كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه يستحق أن يحمد عليها لذاته)) (1) .
ولكل مخلوق حكمة خلق لأجلها، والحكمة الموجودة في المخلوقات أمر يفوق العد والإحصاء.
وهذه المخلوقات كلها تسبح بحمد الله كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (2) وليس تسبيح هذه المخلوقات هو دلالتها على الخالق فقط، بل لها تسبيح آخر لا يفقهه العباد، قال شيخ الإسلام: ((زعم طائفة أن ما ذكر في القرآن من تسبيح المخلوقات هو من هذا الباب، وهو دلالتها على الخالق تعالى، ولكن الصواب أن ثم تسبيحا آخر زائدا على ما فيها من الدلالة)) (3) .
وقد أودع الله في هذه المخلوقات قوة بقدرته تعالى، قال العلماء: " وقد تماسكت الكونيات كلها ولزم كل منها مكانه بقدرة الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (4) وقد يكون هذا التماسك بسر أودعه الله الكائنات يعرفه من هيأ الله له من أسباب معرفته من علماء السنن الكونية وغيرهم)) (5) .
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج8، ص 208
(2) سورة الإسراء الآية 44
(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوي، ج12، 406.
(4) سورة فاطر الآية 41
(5) فتاوى اللجنة الدائمة ج1، ص24، والآية من سورة فاطر، الآية 41.(66/172)
وهذه القوة في المخلوقات يستدل بها على قوة الله وقدرته وجبروته وعظمة سلطانه وتدبيره، حيث أودع فيها سبحانه هذه القوة، قال الشيخ الإسلام: ((وكل ما في المخلوقات من قوة وشدة دل على أن الله تعالى أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة)) (1) .
وبهذا ينتفع العبد بالمخلوقات تفكرا واعتبارا كما ينتفع بها، وبما أودع الله فيها من المنافع.
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج16، ص 357.(66/173)
المطلب الثاني معوقات التفكر:
تتعدد المعوقات التي تحول دون التفكر بآيات الله ومخلوقاته، ويتفاوت تأثير تلك المعوقات على الأفراد والمجتمعات، ويمكن أن تبين أهم هذه المعوقات من خلال ما يلي:
أولا: الكفر بالله واليوم الآخر:
قضى الله - تبارك وتعالى - وقدر بحكمته وعلمه أن الذي ينتفع بالآيات هو من يؤمن بالله تعالى ولا يكفر به ولا يعطل سمعه وبصره وعقله، بل يتقي ربه ويوقن بلقائه، وفي القرآن الكريم العديد من الآيات التي توضح ذلك، حيث يأتي في ختام الآيات التي تتحدث عن آيات الله وأحكامه ومخلوقاته ونعمه وفضله ما يشير إلى ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) وقوله: (إن
__________
(1) سورة النحل الآية 67(66/173)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (1) وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (4) وقوله: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (5) وقوله {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} (6) وقوله {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (7) وقوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (8) وقوله {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (9) والآيات في ذلك كثيرة معلومة، فخص الله تعالى هذه الفئة بالانتفاع بآياته ودعا الناس كلهم إلى التفكر فيها وأقام عليهم الحجج في ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
__________
(1) سورة النحل الآية 65
(2) سورة الحجر الآية 77
(3) سورة النمل الآية 86
(4) سورة النحل الآية 13
(5) سورة آل عمران الآية 190
(6) سورة يونس الآية 6
(7) سورة يونس الآية 101
(8) سورة الجاثية الآية 4
(9) سورة الذاريات الآية 20(66/174)
ثانيا: الإعراض والغفلة:
وهو من أعظم الأسباب المانعة من التفكر بآيات الله ومخلوقاته، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (1) {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (2) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 105
(2) سورة يوسف الآية 106(66/174)
وقد يكون مع هذه الطائفة شيء من الإيمان ولكن غلبت عليهم الغفلة والإعراض، قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: " يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده. مما خلقه في السماوات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت وسيارات، وأفلاك دائرات والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفة في الطعوم والروائح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات " (1) .
ولذلك كان على العبد المؤمن أن يحذر أسباب الغفلة والإعراض وأن ينيب إلى ربه، ويرجع إليه ويتفكر في مخلوقاته وآياته، ويستدل بكل آية من آيات الله على قدرة الله وحكمته وعلمه وكماله في أسمائه وصفاته، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (2) أي: إن في النظر
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص541.
(2) سورة سبأ الآية 9(66/175)
إلى خلق السماوات والأرض لدلالة - لكل عبد فطن لبيب رجاع إلى الله - على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد)) (1) .
قال السعدي - رحمه الله -: ((فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى الله، كان انتفاعه بالآيات أعظم؛ لأن المنيب مقبل على ربه قد توجهت إرادته وهمته لربه، ورجع إليه في كل أمر من أموره، فصار قريبا من ربه ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكر وعبرة، لا نظر غفلة غير نافعة)) (2) .
وقد قضى الله وقدر أن أكثر الناس يغفلون عن آيات الله ولا ينتفعون بها، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (3) أي: لا يتعظون بها، ولا يعتبرون بها، فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها لعدم إقبالهم عليها (4) .
والغفلة لها أسبابها التي تنشأ عنها، وفي العصر الحاضر فإن المدنية والوسائل الحديثة، والضوضاء، وكثرة العمل، وقلة الفراغ، وشغل الناس، وفوضى أذهانهم؛ كل ذلك جعل القليل منهم من يتفكر في نفسه وما حوله، إضافة إلى ذلك إن ابتعاد كثير من الناس عن التفكر يرجع إلى
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص578
(2) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 622.
(3) سورة يونس الآية 92
(4) انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج2ص 472، وانظر السعدي، تيسر الكريم الرحمن ص 329.(66/176)
تلبسه ببعض المعاصي والآثام التي ألفها وأحبها، ولذلك فإنه يبتعد عن الفكر الذي قد يؤدي إلى التوبة منها أو إلى توبيخ نفسه وتأنيبها، فيظل غارقا في شؤونه دون تفكير في إصلاح نفسه أو أهله أو مجتمعه.
كما أن سبل المعيشة ووسائل الاتصال في العصر الحاضر جعلت كثيرا من الناس لا يجدون فراغا في أوقاتهم، فالأعمال تأخذ حيزا من وقتهم، كما أن وسائل الاتصال والترفيه تأخذ حيزا آخر من وقتهم وتفكيرهم، وتشغلهم عن التفكر في أنفسهم وما حولهم من الحوادث والآيات. وقد تساهم وسائل الاتصال أحيانا عبر برامجها في الحث على التفكر، ولكنها لا تدعو الإنسان إلى أن يستقل بتفكيره، كما أن وقتها قد لا يكون مناسبا عند عرضها؛ مما يقلل من فائدها، وقد لا يكون لدى المتلقي الاستعداد الذهني لتقبلها، وقد لا يكون لديه الصفاء النفسي الذي يحتاجه عند عرضها، فليس كل وقت يناسب للتفكر، وليس كل موضوع يناسب أيضا.(66/177)
ثالثا: الكبر:
وهو من أخطر الأدواء وأعظم الذنوب وسبب للمقت من علام الغيوب، والمتكبرون لا ينتفعون بشيء من آيات الله ودلائل وحدانيته وقدرته، قال تعالى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 146(66/177)
قال ابن جريج - رحمه الله -: سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا (1) .
وقال السعدي - رحمه الله -: ((سأصرفهم عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية والفهم لآيات الكتاب {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (2) أي: يتكبرون على عباد الله، وعلى الحق، وعلى من جاء به، فمن كان هذه الصفة حرمه الله خيرا كثيرا وخذله ولم يفقه من آيات الله ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق واستحسن القبيح)) (3) .
والكبر هو ذنب إبليس اللعين، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (4) وهو ذنب الأقوام الذين كذبوا الرسل - عليهم السلام - من لدن نوح - عليه السلام - إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم، قال تعالى عن قوم نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (5) وقال تعالى عن عاد قوم هود: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (6)
__________
(1) انظر: ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج9، ص 60
(2) سورة يونس الآية 23
(3) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 266.
(4) سورة البقرة الآية 34
(5) سورة نوح الآية 7
(6) سورة فصلت الآية 15(66/178)
وعن ثمود قوم صالح: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (1) وعن قوم شعيب {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} (2) وعن قوم موسى قال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} (3) .
ومنع الكبر أيضا مشركي قريش في مكة من اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (4) والكبر هو الذي صرف المنافقين وصدهم عن الانتفاع بالحق، قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (5) فالكبر داء يمنع من قبول الحق كما يمنع من التفكر في آيات
__________
(1) سورة الأعراف الآية 75
(2) سورة الأعراف الآية 88
(3) سورة العنكبوت الآية 39
(4) سورة الصافات الآية 35
(5) سورة المنافقون الآية 5(66/179)
الله ومخلوقاته ويجعلهم يصرفونها عن ظاهرها ويفسرونها وفق أهوائهم، سواء في ذلك الآيات القرآنية أو الآيات الكونية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} (3) .
تلك أبرز الأسباب المانعة من التفكر، وإذا كان المرء مؤمنا بالله سالما من الغفلة والكبر، فإنه يتفكر في كل ما حوله من الآيات ويعتبر بها.
__________
(1) سورة غافر الآية 56
(2) سورة غافر الآية 57
(3) سورة غافر الآية 58(66/180)
الخاتمة:
وبعد فأحمد الله على ما يسر من إتمام هذا البحث الذي بينت فيه مفهوم التفكر، وأهميته، وأنواعه، ومجالاته، وثمراته، وقد خلصت من ذلك إلى بعض النتائج منها:
1 - إن التفكر من العبادات القلبية الجليلة، وأن الكتاب والسنة قد جاءا بطلبه والحث عليه.
2 - إن مفهوم التفكر في الإسلام لا يعني تكلف هيئة معينة، أو ترديد كلمات مخترعة. كما أنه لا يعني التعبد بالصمت إذ لا عبرة ولا(66/180)
فضيلة للصمت المطلق، بل يعني ترديد العلم بالقلب، وتقليب النظر، اعتبارا وتفكرا بالآيات القرآنية والآيات الكونية.
3 - إن الإسلام أتاح للمرء حرية التفكر في كل وقت وعلى أي حال، وليس لأحد أن يقوم بالوصاية على المسلم في تفكره.
4 - إن أهمية التكفر تأتي من كونه أصل الطاعات ومبدأها، كما أن أصل كل معصية إنما يبدأ من الفكرة الرديئة. فهو سعادة المرء إلى العمل، وإدراك حقائق الأشياء، وسعادة المرء وشقاوته تبع لأفكاره.
5 - إن التفكر الذي ينتفع به صاحبه هو الذي يبعث على التأسي بالكتاب والسنة، ويدعو إلى العمل بهما.
6 - إن مجالات التفكر عديدة متنوعة أعظمها التفكر في القرآن العظيم، وفي أوامر الله تبارك وتعالى، وفي آياته ومخلوقاته.
7 - إن التفكر من أعظم الأسباب لزيادة الإيمان واليقين، وهو طريق إلى التذكر وحياة القلوب والانتفاع بالمخلوقات.
8 - إن من أعظم الأسباب الصارفة عن التفكر الكفر بالله واليوم الآخر، والكبر والغفلة والإعراض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(66/181)
صفحة فارغة(66/182)
تفسير آيات الربا
للدكتور فريد بن مصطفى السلمان (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
فقد كثر الكلام في العصر الحاضر عن الربا، ويحاول البعض أن يسميه بغير اسمه، ويحور معاني الآيات الكريمة، التي أجمع عليها سلف هذه الأمة وخلفها، فاجتهدت في جمع أقوال أهل العلم في تفسير آيات الربا، لعلي أسهم قدر الوسع والطاقة، في بيان مسألة علمية في غاية الأهمية تصدى لها العلماء قديما وحديثا.
وقد حاولت في هذا البحث، بعد بيان أسباب النزول، ومعاني ألفاظ الآيات القرآنية، تركيز البحث في مسائل محددة، بحيث يسهل على القارئ المراجعة والاستفادة، سائلا الله تعالى أن يوفقني فيما قصدت، وأن يتجاوز عما سلف مني من خطأ أو تقصير، إنه ولي
__________
(1) كلية أصول الدين ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(66/183)
ذلك والقادر عليه، وأصلي وأسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (5) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (7) . 275 - 281 سبب النزول: أخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده من
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 277
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 280
(7) سورة البقرة الآية 281(66/184)
طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1)
قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنو المغيرة يربون (2) لثقيف؛ فلما أظهر الله رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: أما جعلنا أشقى الناس بالربا؟ ووضع عن الناس غيرنا. فقال بنو عمرو: صولحنا على أن لنا ربانا فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية والتي بعدها {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله، يقول الله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) أي يأخذ المغيرة من بني عمرو المال بطريق الربا
(3) سورة البقرة الآية 279(66/185)
{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (1) فتأخذون أكثر ولا تظلمون فتبخسون منه.
وقال السدي: نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا. فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب (2) » (3) .
وقال عطاء: إنها نزلت في العباس بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي، إذا أنتما أخذتما حظكما كله، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف، وأضعف لكما، ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما، وأنزل الله هذه الآية، فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما (4) .
وجاء عن الكلبي في سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (5) قال (6) قالت بنو عمرو بن عمير لبني
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود البيوع (3334) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(3) أسباب النزول للواحدي ص 96 رقم 185.
(4) أسباب النزول للواحدي ص 96 رقم 184.
(5) سورة البقرة الآية 280
(6) أسباب النزول للواحدي ص96 رقم 186.(66/186)
المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم. فقال بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن ندرك الثمرة، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} (1) الآية.
مناسبة الآيات لما قبلها:
لما ذكر الله تعالى عباده الأبرار الذين يؤدون الزكوات، المتفضلين بالبر والصدقات، لذوي الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل، وأنواع الشبهات (2) .
وذلك من باب المقابلة، وكما يقولون " وبضدها تتميز الأشياء "، وقد أكثر الله تعالى من هذا الأسلوب في كتابه العزيز، فنجد ذكر صفة أصحاب النار يأتي في مقابلة صفات أهل الجنة وهكذا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(2) تفسير ابن كثير 1 \ 326، تفسير البحر المحيط 2 \ 703، تفسير الرازي 7 \ 87، تفسير القاسمي 3 \ 700.(66/187)
بيان معاني الألفاظ:
1 - {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (1) الربا لغة الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (2) أي زادت بنمو النبات، فزاد على ما حوله.
ومنه ما جاء في الحديث الصحيح: «فلا والله ما أخذنا من
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الحج الآية 5(66/187)
لقمة إلا ربا من تحتها (1) » .
أي زاد الطعام ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم.
وعبر عن الأخذ ومطلق التصرف بالأكل، وذلك لأن غالب ما ينتفع به، إنما يكون للأكل.
وقيل للتشنيع على أكلة الربا، فكأنهم يأكلون هذه الأموال المختلفة في بطونهم.
وتعريف الربا للعهد، أي لا تأكلوا الربا المعهود في الجاهلية (2) .
أما الربا في الاصطلاح، فقد اختلفت في ذلك عبارات العلماء، منها ما ذكره ابن قدامة في المغني، حيث قال: (3) " وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة ". وقال الألوسي: " هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال (4) .
2 - {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (5) أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كالمجانين، عقوبة لهم عند جميع أهل المحشر، ويقوي هذا القول الذي ذهب إليه عامة المفسرين قراءة عبد الله بن مسعود: (لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري، في مواقيت الصلاة، باب السمر من الضيف والأهل، فتح الباري 2 \ 75 رقم 602، وأخرجه مسلم، في الأشربة 176، وأحمد في المسند 1 \ 197.
(2) تفسير المنار 3 \ 94.
(3) المغني 4 \ 5
(4) روح المعاني 3 \ 48، وهذا التعريف نقله القاسمي في محاسن التأويل 3 \ 700.
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) تفسير ابن كثير 1 \ 326، تفسير البحر المحيط 1 \ 705.(66/188)
وقيل: إن المراد بالآية تشبيه حال أكلة الربا في حرصهم وجشعهم في الحياة الدنيا، بحال المصروعين المجانين، الذين يخبطون على غير هدى.
والخبط: الضرب بغير استواء، خبط العشواء (1) .
ومنه قيل: خبط عشواء، وهي الناقة التي في بصرها ضعف، تحبط إذا مشت، لا تتوقى شيئا، وتخبطه الشيطان، أي أفسده (2) .
والمس: الجنون (3) ، وأصله من المس باليد، فكأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه.
قال الراغب: وكنى بالمس عن الجنون، والمس، يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى (4) .
3 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (5) أي حل بهم ذلك العقاب؛ لأنهم جعلوا البيع كالربا. وكان الأصل أن يقولوا إن الربا مثل البيع، ولكن لشدة تمسكهم بالربا جعلوا الربا أصلا في
__________
(1) مختار الصحاح مادة (خبط) تفسير أبي السعود 1 \ 266.
(2) مختار الصحاح مادة (خبط) تفسير أبي السعود 1 \ 266.
(3) القاموس المحيط مادة (مس) ، الكشاف 1 \ 399، والمفردات ص 467، البحر المحيط 1 \ 706
(4) المفردات ص 467.
(5) سورة البقرة الآية 275(66/189)
الحل، وقاسوا عليه البيع.
4 - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) إبطال لقياسهم، وبيان لفساد قياسهم، وبيان أنه لا قياس مع النص.
5 - {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) فمن بلغه النهي عن الربا فانتهى، فله ما أخذه قبل نزول التحريم، ولا يسترد منه، والله يجازيه على انتهائه إن كان صادق النية، وقيل: يحكم في شأنه، ولا اعتراض لكم عليه (3) .
6 - {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) ومن عاد إلى القول بتحليل الربا فأولئك أصحاب النار خالدون فيها. وقيل: العود هنا يراد به التعامل بالربا، والخلود في النار إنما جاء على سبيل التهديد والوعيد، وبيان لطول المكث، وليس الخلود الأبدي، لأن ذلك إنما هو للكفار.
7 - {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (5) يمحق الله الربا بأن يذهب بركته، ويهلك المال الذي يدخل فيه، ويضاعف ثواب الصدقات، ويبارك في المال الذي أخرجت منه الصدقة، والمحق: النقص والذهاب، ومنه المحاق في الهلال، يقال: محقه، إذا أنقصه وأذهب بركته.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) تفسير أبي السعود 1 \ 266.
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 276(66/190)
8 - {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (1) والله لا يحب كل كفور القلب، مصر على تحليل المحرمات، أثيم منهمك في ارتكاب المعاصي.
9 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) في توسيط هذه الآية بين آيات الربا ما يشير إلى المقابلة، فكأن الذين يأكلون الربا ليسوا من هذا الصنف، الذي وعده الله هذا الوعد الحسن.
10 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بترككم ما بقي لكم من الربا، وصفحكم عنه، إن كنتم آمنتم بالله - عز وجل - وعلى هذا يكون الخطاب لثقيف في أول دخولهم في الإسلام، وإذا كانت الآية في المؤمنين، فمجيء الشرط هنا للحث والمبالغة في الالتزام.
11 - {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) فإن لم تتركوا الربا، فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: من كان مقيما على الربا، لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وفي رواية أخرى عنه، أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب (5) أي لمحاربة الله - عز وجل - وفي ذلك بيان لشدة العقوبة التي تنتظره.
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 277
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) تفسير الطبري3 \ 71.(66/191)
12 - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) إن تبتم فتركتم أكل الربا، فلكم رؤوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس، دون زيادة أو نقصان.
13 - {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) وإن كان المدين عجز عن سداد أصل المال، فيمهل إلى وقت استطاعته، وهذا عام في الديون كلها، وفي أصل المال الذي أعطي بقصد الربا، وهو الراجح، وقيل: إن الآية خاصة برأس المال الذي أعطي بقصد الربا (3) .
و (كان) في الآية تامة، بمعنى وجد، أي وإن وجد ذو عسرة (4) .
14 - {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وأن تتصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم، من أن تمهلوه إلى وقت يساره، إن كنتم تعلمون ما يترتب على ذلك من الفضل والثواب عند الله.
15 - {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (6) المراد باليوم يوم القيامة، وجاء التنكير للتفخيم والتهويل، وتعلق الاتقاء بهذا اليوم، للمبالغة في التحذير مما فيه، من الأهوال والشدائد، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} (7) يفيد العموم والمبالغة في تهويل ما يترتب على ذلك اليوم من الحساب، فتجزى كل نفس بما عملت، من خير أو شر، ((وهم لا يظلمون)) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) تفسير الطبري 3 \ 74.
(4) تفسير الكشاف 1 \ 247.
(5) سورة البقرة الآية 280
(6) سورة البقرة الآية 281
(7) سورة البقرة الآية 281(66/192)
فلا ينتقص من حسناتهم، بل تكون الحسنة بعشر أمثالها، وتجزى السيئة بمثلها.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل - عليه السلام - وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها واحدا وعشرين يوما، وقيل واحدا وثمانين، وقيل سبعة أيام، وقيل ثلاث ساعات (1) .
وروي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: «اجعلوها بين آية الربا وآية الدين» . (2)
__________
(1) تفسير الطبري 3 \ 76، الدر المنثور 2 \ 116، تفسير أبي السعود 1 \ 268، فتح الباري 4 \ 314.
(2) تفسير القرطبي 3 \ 375.(66/193)
ما يستفاد من الآيات:
أ- أنواع الربا:
عامة المعاملات الربوية تنحصر في قسمين:
ربا النسيئة، وربا الفضل. وغالب البيوع المحرمة إما أن يكون هذا المنع لزيادة في عين المال، وإما في منفعة لأحدهما دون الآخر، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم المجمعة، فإن قيل لفاعلها آكل ربا فتجوز وتشبيه (1) .
__________
(1) التفسير الكبير 7 \ 92، تفسير القرطبي 3 \ 348، المغني لابن قدامة 6 \ 51.(66/193)
وقال ابن حجر الهيتمي: هو ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وربا اليد، وربا النسيئة، وزاد ((المتولي)) نوعا رابعا وهو ربا القرض (1) .
ويمكن القول أن هذه الأنواع الأربعة عائدة إلى القسمين الأولين، وهما ربا النسيئة وربا الفضل.
ونبدأ أولا بتعريف ربا النسيئة وبيانه:
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 \ 205.(66/194)
أ- ربا النسيئة:
النسيء لغة (1) تأخير في الوقت، ويقال: نسأ الله في أجلك - أي أخر الله أجلك - ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه (2) » .
والنسيئة بيع الشيء بالتأخير، ومنها النسيء الذي كانت العرب تفعله، وهو تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر، قال تعالى:
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني ص 492، المعجم الوسيط مادة (نسأ) .
(2) صحيح الجامع الصغير رقم 5956، وهو حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري 10 \ 348 في الأدب، باب من بسط له في الرزق لصلة الرحم، ومسلم رقم 2557 في البر والصلة، باب صلة الرحم. وانظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري 4 \ 103 رقم 2067. والأثر هنا: آخر العمر، وسمى الأجل آثرا، لأنه يتبع العمر، قال سبحانه وتعالى: '' ونكتب ما قدموا وءاثرهم '' سورة يس، الآية 12. انظر شرح السنة 13 \ 19، والنهاية في غريب الحديث 5 \ 44.(66/194)
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (1) والمنسأ عصا ينسأ بها الشيء أي يؤخر (2) .
ومن ذلك قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} (3) أما ربا الفضل في اصطلاح العلماء، فقد اختلفت فيه عبارات الفقهاء، تبعا لاختلافهم في علة ربا الفضل ويمكن القول أن ربا النسيئة كان معلوما معروفا في الجاهلية، قبل نزول الآيات القرآنية بتحريمه، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (4) فهو ربا معروف معلوم، وهو الزيادة في الأجل مقابل الزيادة في البدل، وهو المال.
وهذا هو الربا الذي أجمع المسلمون على منعه، ولم يخالف فيه أحد، فكانوا في الجاهلية يعطي الرجل رأس ماله لرجل آخر، على أن يرده إليه بعد مدة معينة، بزيادة معينة. فتكون الزيادة نظير التأجيل، وهذا هو ربا النسيئة.
فقد جاء في تفسير الرازي: ((إن ربا النسيئة هو الذي كان
__________
(1) سورة التوبة الآية 37
(2) المفردات ص 492.
(3) سورة سبأ الآية 14
(4) سورة البقرة الآية 275(66/195)
مشهورا في الجاهلية، لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا.
ورأس المال باق على حاله، فإذا حل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل)) (1) .
ويؤكد ذلك حديث زيد بن أسلم وقال (كان الربا الذي أذن الله فيه بالحرب لمن يتركه، كان عند أهل الجاهلية على وجهين، كأن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل، فإذا حل الحق، قال صاحب الحق: أتقضي أم تربي) الحديث.
__________
(1) التفسير الكبير 7 \ 92.(66/196)
ب - ربا الفضل:
ذهب جمهور العلماء إلى تحريم ربا الفضل، في الأصناف الستة(66/196)
التالية: الذهب، الفضة، البر، الشعير، التمر، الملح. فلا يجوز بيع جنس منها بجنسه متفاضلا، حالا أو مؤجلا، فيحرم بيع درهم بدرهمين نقدا أو مؤجلا، وكذا بيع صاع بر بصاعي بر نقدا، أو مؤجلا (1) .
والأدلة على تحريم هذا النوع صريحة وصحيحة من السنة. منها:
أولا: حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعر بالشعر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد (2) » .
فيفهم من الحديث أنه عند عدم اختلاف الأصناف ليس لهم الخيار في البيع كيف شاءوا.
ثانيا: حديث أبي سعيد الخدري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن ذكر الأصناف الستة: «مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربا، الآخذ والمعطي فيه سواء (3) » .
__________
(1) الربا والمعاملات المصرفية ص 56.
(2) صحيح مسلم 5 \ 44، رقم 1587 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا. والترمذي رقم 1240 في البيوع، وأخرجه ابن ماجه رقم 2254، في التجارات، باب الصرف.
(3) صحيح البخاري 3 \ 65 صحيح مسلم 5 \ 42.(66/197)
وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (5) » .
وقال الشنقيطي: ((والحق الذي لا شك فيه منع ربا الفضل في الأصناف الستة المذكورة)) (6) .
وقال القرطبي: ((اعلم - رحمك الله - أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك، هو ما اعتبره العلماء في علة الربا)) (7) .
__________
(1) أخرجه البخاري4 \ 64 في البيوع، باب بيع الفضة بالفضة، وانظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري 4 \ 379 رقم 2177، وأخرجه مالك في الموطأ 2 \ 632، في البيوع، باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعيا. وانظر جامع الأصول 1 \ 548، حيث ساق عدة أحاديث في ربا الفضل.
(2) لا تشفوا: لا تزيدوا، ولا تفضلوا أحدهما على الآخر، جامع الأصول 1 \ 550. (1)
(3) الورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة (المعجم الوسيط مادة ورق) . (2)
(4) ولا تفضلوا (فتح الباري 4 \ 380. (3)
(5) الناجز، المعجل الحاضر (جامع الأصول 1 \ 55) . (4)
(6) أضواء البيان 1 \ 292، وقال أيضا: حكى غير واحد الإجماع على تحريمه.
(7) تفسير القرطبي 3 \ 352.(66/198)
2 - علة تحريم ربا الفضل:
إن حكمة تحريم ربا النسيئة وما يترتب عليه من أضرار، أمر(66/198)
مسلم ظاهر، لا يماري فيه أحد، حتى غير المسلمين يعترفون بهذه الأضرار والمفاسد.
أما ربا الفضل فقد تخفى علة التحريم فيه، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في هذه المسألة.
وقد نص الشارع على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح لقوله -صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد» الحديث (1) فاتفق العلماء على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها. فطائفة قصرت التحريم على هذه الأصناف فقط، وهو مذهب أهل الظاهر (2) .
وذهب الحنفية وأحمد في ظاهر مذهبه إلى أن علة التحريم مكيل وموزون بجنسه فكل ما يدخل الكيل أو الوزن من جنس واحد، إن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو نسيئة لا يجوز، ولو باع ثوبا
__________
(1) سبق تخريجه ص 297.
(2) نيل الأوطار 5 \ 302.(66/199)
بثوب نسأ، لم يجز لاتحاد الجنس.
ومنعوا كذلك بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا، لأنه يدخله الكيل، ولو باع حديدا بنحاس لم يجز لوجود الوزن، وأجازوا الخبز رغيفا برغيفين؛ لأنه معدود، غير مكيل ولا موزون في عرفهم، وإن كان الخبز يوزن في العصر الحاضر.
وقال الشافعي: العلة كونه مطعوما جنسا، وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا، وهو رواية عن أحمد. وهذا قوله في الجديد. فلا يجوز عنده بيع الخبز بالخبز متفاضلا ولا نسيئة، ولا يجوز بيع بيضة ببيضتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة؛ لأن ذلك كله طعام مأكول.
وقال في القديم: كونه مكيلا أو موزونا، كما هو الحال عند الحنفية.
وذهب المالكية إلى كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا، كالأصناف الواردة في الحديث، من التمر والبر والشعير وما في معناها، من الأرز والسمسم والذرة، والقطاني من الفول والعدس والحمص، وكذلك اللحوم والألبان والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون، ويلحق بها العسل والسكر، فهذا كله يدخله الربا من جهة النسأ.
وجائز فيه التفاضل، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » . ولا ربا في
__________
(1) سبق تخريجه ص 197.(66/200)
رطب الفواكه التي لا تبقى، كالتفاح والرمان والقثاء والخضروات.
وقال مالك: لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا؛ لأنه مما يدخر، ويجوز عنده مثلا بمثل.
وفي رواية عن الشافعي، ورواية عن أحمد أن علة التحريم الطعام إذا كان مكيلا موزونا جنسا (1) وهذه الرواية تجمع بين رأي الحنفية والشافعية والحنابلة (2) .
ومن هذا يظهر أن الجنس معتبر عند الجميع، فيما يتعلق به من تحريم ربا الفضل عند انضمام غيره إليه.
وأما الدراهم والدنانير، فعند أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، العلة فيهما كونهما موزونين.
وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن العلة في ذلك هي الثمنية، وقد أجمعوا على جواز ذلك في الموزونات من النحاس والحديد. فالدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطا (3) .
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 352، شرح فتح القدير 7 \ 4.
(2) الربا والمعاملات في الإسلام ص161 محمد رشيد رضا.
(3) الربا والمعاملات في الإسلام ص 156 محمد رشيد رضا.(66/201)
3 - الخلاف في تحريم ربا الفضل:
ذهب عامة أهل العلم إلى تحريم ربا الفضل، وأنه كحرمة ربا النسيئة،(66/201)
ووردت روايات عن بعض الصحابة تفيد عدم وجود ربا الفضل، وجعلوا الربا محصورا في ربا النسيئة (1) وكانوا يقولون: إنما الربا في النسيئة، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: «لا ربا إلا في النسيئة (2) » .
وقد روي أن عبد الله بن عباس رجع عن رأيه، عندما راجعه في ذلك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
__________
(1) المغني 4 \ 1.
(2) أخرجه مسلم من رواية أسامة بن زيد، بلفظ: ''إنما الربا في النسيئة ''، برقم 1596، وتأول الشافعي حديث أسامة: '' إنما الربا في النسيئة '' فقال: '' يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الربا في صنفين مختلفين، ذهب بورق، أو ثمر بحنطة، فقال: '' الربا في النسيئة '' فحفظه فأدى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤد المسألة (شرح السنة 6 \ 61) ، وانظر: الحديث في جامع الأصول، بلفظ: (لا ربا إلا في النسيئة) ، 1 \ 548، والحديث مخرج في الصحيحين، أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نسأ، وانظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، 2 \ 153 كتاب المساقاة. وانظر: اللؤلؤ والمرجان رقم 1027، حيث ثبت عن أبي سعيد الخدري أنه اعترض على ابن عباس في قوله بحصر الربا في النسيئة، وقال له: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله؛ فقال ابن عباس: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله مني، ولكنني أخبرني أسامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلا في النسيئة، وانظر: فتح الباري رقم 2178، 2179 (المتن) .(66/202)
وقال الشعبي: حدثني بضعة عشر نفرا من أصحاب ابن عباس - رضي الله عنهما - الخبر، فالخبر أنه رجع عن فتواه فقال: الفضل حرام.
وقال جابر بن زيد - رضي الله عنه -: ما خرج ابن عباس - رضي الله عنهما - من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة (1) .
وقال ابن قدامة في المغني: فإن لم يثبت رجوع ابن عباس، فإجماع التابعين بعده يرفع قوله (2) .
وقد أنكر ابن حزم الظاهري رجوع ابن عباس عن قوله، كما أنكر الإجماع على تحريم ربا الفضل، وذكر أن فقهاء مكة من تلاميذ ابن عباس - رضي الله عنهما - كانوا يقولون بقوله (3) .
ولكن عامة أهل العلم على تحريم ربا الفضل، وربا القرض، وربا النسيئة، ولهم أدلة من ظاهر الكتاب والسنة والآثار.
__________
(1) المبسوط للسرخسي 14 \ 6، 12 \ 106.
(2) المغني مع الشرح الكبير 4 \ 123.
(3) المحلى لابن حزم 8 \ 566.(66/203)
ولقد وفق الشنقيطي بين ما ذهب إليه جمهور العلماء، وبين ما روي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد وغيرهما، بأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » ، إنما هو جواز الفضل في جنسين مختلفين، واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وقال الطبري: معنى حديث أسامة - لا ربا إلا في النسيئة - إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد الخدري (2) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) فتح الباري 4 \ 382.(66/204)
4 - صرع الجن للإنسان: ذهب عامة المعتزلة وأبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية، وفخر الدين الرازي، والقفال من الشافعية، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة، إلى إنكار صرع الجن للإنسان، وقالوا: إن الجن مخلوق ليس له سلطان على الإنس، بل هو عالم مستقل بذاته (1) ، وفسروا قوله تعالى: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) .
__________
(1) وافقهم في ذلك محمد رشيد رضا تفسير المنار، ومحمود شلتوت وبعض المعاصرين.
(2) سورة البقرة الآية 275(66/204)
بأن هذا ورد وفق ما كان يتداوله العرب في الجاهلية.
ومما قاله الزمخشري في تفسير الآية: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط الضرب على غير استواء، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، وفي رؤيتهم للجن قصص وأخبار وعجائب (1) .
وقالوا إن ما جاء في الآية، إنما كان وفقا لما يتداوله العرب، وليس بتقرير وتأكيد لهذه الدعوى، ويشبه هذا ما جاء في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (2) .
فرؤوس الشياطين لم يشاهدها الناس، ولكنهم يتصورونها بصورة بشعة منفرة.
وقالوا: إن الروايات الواردة في صرع الجن للإنسان لم يصح منها شيء، وهذه المسألة من مسائل العقيدة، ولا يصح الجزم فيها بناء على الأدلة الظنية.
وقالوا أيضا: إن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (3) .
__________
(1) تفسير الكشاف 1 \ 399.
(2) سورة الصافات الآية 65
(3) سورة ص الآية 41(66/205)
فالراجح عند أهل العلم أن مس الشيطان لأيوب - عليه السلام - إنما كان بطريق الوسوسة. ولم يكن ذلك المس من باب صرع الجن (1) .
ومما قاله القاضي أبو السعود في تفسيره: " وقيام المصروع وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان، فيصرع ويخبط، والخبط: الضرب بغير استواء، كخبط العشواء، وفي قوله: (من المس) قال: أي الجنون، وهذا أيضا من زعماتهم، أن الجني يمسه فيختلط عقله، فلذلك يقال: جن الرجل " وفعل الرازي الجصاص في تفسيره مثل ذلك (2) .
وهناك كتيب صغير عنوانه: (بيني وبين الشيخ حامد الفقي) حمل فيه مؤلفه أحمد شاكر بشدة على حامد الفقي؛ لأنه نقل أقوال أهل العلم في عدم صحة صرع الجن للإنسان، ونقل قول الشافعي:
__________
(1) تفسير الألوسي 23 \ 206.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 \ 47، 48.(66/206)
" من ادعى أنه يرى الجن، ويستعين بهم، فإنا نرد شهادته، ونتهمه بالكذب " (1) .
وذكر العلماء أن من ادعت الحمل من الجن، وظهر حملها، فلا يصدق قولها، ويقام الحد عليها.
وقد مال صاحب المنار إلى هذا المذهب، ونقل عن ابن عطية قوله في تفسير الآية: إن المراد من الآية تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع، كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن. ثم قال: وهذا هو المتبادر، ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه، وقالوا إن من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.
ثم قال: والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية؛ لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية (2) .
ثم ختم كلامه بأنه قد يكون المراد من الجن الأجسام الحية الخفية، التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى الميكروبات (3) .
__________
(1) بيني وبين الشيخ حامد الفقي \ أحمد شاكر.
(2) تفسير المنار 3 \ 80.
(3) تفسير المنار 3 \ 81.(66/207)
وأقول إن ما نقله محمد رشيد رضا عن ابن عطية، حتى وإن سلمنا بأنه هو الراجح، فإنه لا يتعارض مع رأي جمهور العلماء الذين ذكروا بأن هذا القيام يكون القيامة؛ لأنه لا يمنع أن يكون حال هؤلاء المرابين في تخبطهم في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على هذا الحال، وعند قيامهم يوم القيامة كذلك، يكونون على نفس تلك الحال والصفة.
وكذلك ما نقله عن ابن عطية، فإنه لا يتعارض مع القائلين بصرع الجن للإنسان.
أما قوله: بأن المراد بالجن الميكروب، فهذا قول واضح التهافت، ومن المآخذ المعدودة على صاحب تفسير المنار، والتي تأثر فيها بصاحبه محمد عبده.
أما جمهور العلماء، فقد ذهبوا إلى إمكانية صرع الجن للإنسان، والتلبس به، والتكلم على لسانه.
ومما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة (1) :
" فمن كذب. بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر، وما يأتون به على اختلاف أنواعه، كدعاء الكواكب، وتخريج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، وما ينزل من الشياطين
__________
(1) مجموع الفتاوى 24 \ 280.(66/208)
على كل أفاك أثيم، فالشياطين التي تنزل عليهم، ويسمونها روحانية الكواكب، وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس، وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام، وأمثال ذلك كما هو موجود، فقد كذب بما لم يحط به علما ".
وقال في موضع آخر: " إن من الناس من رآهم، وفيهم من رأى من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين، ومن الناس من كلمهم وكلموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب، وكذلك ما جرى لغيرنا، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، ولا يكون بما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به " (1) .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه (2) .
وقال ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد:
__________
(1) مجموع الفتاوى 4 \ 232.
(2) مجموع الفتاوى 24 \ 276 لقط المرجان للسيوطي ص 134.(66/209)
الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة.
والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه (1) .
وقد كتب الشيخ عبد العزيز بن باز رسالتين الأولى: في مسألة دخول الجني في بدن الإنسان، وجواز مخاطبة الجن للإنس، والثانية: في العلاج عن طريق السحر والكهانة (2) .
وقد فرق الشيخ أبو بكر الجزائري بين الشيطان الذي ليس له سلطان على الإنسان إلا بالوسوسة، وبين الجني الذي يصرع الإنسان، ويتلبس به فيصرعه، وينطق الجني على لسانه (3) .
وقد استدل الجمهور بأدلة عديدة من الكتاب والسنة والآثار.
وقد تعقب القاسمي ما ذكره صاحب الكشاف في تفسيره، ونقل ما كتبه الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير الإسكندري، فقال (4) : معنى
__________
(1) زاد المعاد 4 \ 66.
(2) رسالتان، عبد العزيز بن باز، دار السلام- الرياض ط 1 سنة 1411 هـ.
(3) الدفاع عن الغزالي 23 -33 (راسم للدعاية) ط 1 سنة 1410هـ.
(4) كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال1 \ 399 (مطبوع على هامش الكشاف) .(66/210)
قول الكشاف: من زعمات العرب، أي كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية، ومن زعماتهم المردودة بقواطع الشرع.
ثم قال: واعتقاد السلف، وأهل السنة، أن هذه أمور على حقائقها واقعة، كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم. ومن ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن (1) .
وصرح القرطبي بأن هذه الآية دليل على فساد من أنكر الصرع من جهة الجن (2) .
وأقول: إن القضية ما زالت محل خلاف، ليس بين المسلمين فقط ولكنه حتى عند النصارى واليهود، وغيرهم من الأمم.
وقد قامت بعض الدراسات الميدانية في جامعة الملك سعود.
__________
(1) تفسير القاسمي 3 \ 701 ما بعدها.
(2) تفسير القرطبي 3 \ 355.(66/211)
كما سجلت رسالة جامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم القرآن وعلومه، زار الباحث بعض المنازل التي يعالج فيها الصرع، ولم يتمكن من تسجيل دليل علمي حقيقي ظاهر على ذلك.
فعند ادعاء أن المصروع قد تلبس به جني هندي، وأنه يتكلم الهندية، جاء مترجم هندي ليسمع ما يهذي به ذلك المصروع، وأنكر أن يكون مثل هذا الكلام له أدنى صلة باللغة الهندية، بل هو مجرد هذيان، وتغير صوت ورعشات وهكذا.
ونحن عندما نأخذ برأي الجمهور لا يعني أننا نشجع الناس على الذهاب للسحرة والمشعوذين، بل ندعوهم للتمسك بكتاب الله والتحصن به، والبعد عن مواطن الريب والزلل، فإن الله هو خير حافظا وهو أرحم الراحمين.(66/212)
5 - الحكمة من تحريم الربا (1) :
لقد حرم الله الربا، لما يترتب عليه من أضرار ومفاسد، تعم الفرد والمجتمع، وتتسع دائرة هذا الفساد لتشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
__________
(1) انظر: تفسير المنار 3 \ 91، روائع البيان للصابوني1 \ 394.(66/212)
فقد جعل الله تعالى طريق تعامل الناس، واستفادة كل منهم من الآخر، عن طريق العمل، والربا زيادة في المال دون عمل.
ويختلف البيع عن الربا؛ لأن البيع يلاحظ فيه انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقا، أما الربا فهو إعطاء الدراهم وأخذها مضاعفة في وقت آخر، وهي غالبا لا تعطى بالرضا، بل بالكره والاضطرار.
وكذلك فإن الربا يؤدي إلى تكدس المال في أيدي فئة قليلة من الناس، تجعل عملها مقصورا على استغلال المال بالمال، وما نشاهده في العصر الحاضر أكبر دليل على ذلك.
فالمال مكدس عند أصحاب البنوك، وشركات التأمن، وما شابهها، ويتحكم هؤلاء في كل شيء، ويكفي أن نشير إلى ما فعله اليهود ويفعلونه الآن، من تحكم واستغلال لشعوب الأرض قديما وحديثا، وذلك باعتماد الربا والوسائل المحرمة لجمع المال.
والربا كذلك يؤدي إلى وقوع الضغينة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد، الذي يجب أن تسوده الرحمة والإخاء.
كما أنه يفضي إلى امتناع الناس عن تحمل المشاق، في الكسب والتجارة والصناعة؛ فيؤدي إلى انقطاع مصالح الخلق، ويفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس.
ولا يقال: إن رأس المال لو بقي في يد صاحبه لاستفاد منه وربح بالمتاجرة فيه، فلما دفعه للمحتاج جاز له أن يأخذ زيادة عن رأس ماله، مقابل تعطل الانتفاع بهذا المال (1) .
__________
(1) تفسير آيات الأحكام للسايس 1 \ 168.(66/213)
وذلك لأن الربح المزعوم لهذا المال لو بقي في يد صاحبه أمر موهوم مظنون، فقد يحصل وقد لا يحصل، أما الزيادة على رأس المال فهي ملك للفقير على وجه اليقين، وقد يخسر ذلك المحتاج في تعامله برأس المال الذي استدانه، فيجمع عليه خسارته في التجارة، والزيادة التي يطلبها المرابي على رأس المال.(66/214)
6 - بيع العينة (1) :
العينة بكسر العين المهملة، ثم ياء تحتية ساكنة، ثم نون.
قال ابن فارس: العين هو المال العتيد الحاضر، يقال: هو عين غير دين، أي هو مال حاضر تراه العيون (2) .
ومن المجاز: إطلاق العين على الميل في الميزان. قال الراغب: وتستعار العين للميل في الميزان (3) .
وقد اشتقت العينة من هذا الأصل، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: اشتقت من عين الميزان وهي زيادته.
ووافقه ابن فارس فقال: هذا الذي ذكره الخليل صحيح؛ لأن العينة لا بد أن تجر زيادة (4) ، وقال الأزهري: العينة اشتقاقها من
__________
(1) انظر الذرائع الربوية، سليمان الملحم، رسالة ماجستير في كلية الشريعة.
(2) معجم مقاييس اللغة، مادة (عين) ، 4 \ 203.
(3) المفردات في غريب القرآن ص 355.
(4) معجم مقاييس اللغة، مادة (عين) .(66/214)
العين، وهو النقد الحاضر (1) .
وقال الجوهري: العينة بالكسر وسكون المثناة: السلف، ويقال: اعتان الرجل، إذا اشترى الشيء نسيئة (2) . وقال ابن منظور: والعينة: الربا (3) .
وقال في القاموس المحيط: وعين، أخذ بالعينة، أي السلف أو أعطى بها، والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن (4) .
وللعينة صور متعددة، ولكنها في عامتها تدخل في بيع المضطر، كأن يحتاج رجل إلى نفقة، فلا يعطيه الموسر بالقرض، ولكن يبيعه السلعة بضعف ثمنها، فيضطر المحتاج لبيعها بخسارة من أجل حصوله على المال (5) .
وقال ابن قدامة: إن من باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها من المشتري بأقل منه نقدا، فهو عينة (6) .
وقال البنا الساعاتي في تعليقه على مسند أحمد (7) : فسر الفقهاء
__________
(1) تهذيب اللغة للأزهري، 3 \ 207.
(2) الصحاح للجوهري، (مادة عين) .
(3) لسان العرب، (مادة عين) .
(4) القاموس المحيط، (مادة عين) .
(5) انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية، 3 \ 137.
(6) المغني لابن قدامة، 6 \ 260.
(7) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد 15 \ 44، نيل الأوطار 5 \ 319.(66/215)
العينة، أن يبيع الرجل سلعة لرجل آخر إلى أجل، ثم يشتريها منه بثمن حال نقدا في المجلس، بأقل من الثمن الذي باعها به، ليبقى الكثير في ذمته ويسلما من الربا، وقيل لهذا البيع عينة، لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا، أي نقدا حاضرا معجلا، ليصل به إلى مقصوده، مع بقاء الثمن الكثير في ذمته، وذلك حرام باتفاق العلماء، إن اشترط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم؛ لأنه حيلة على تحليل الربا، فإن لم يكن بينهما شرط، أجازها الشافعية، ومنعها جمهور العلماء.
ولو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس، فهي عينة أيضا لكنها جائزة بالاتفاق إذا خلت من التواطؤ على الحيلة.
وقال الشوكاني: سميت عينة، لأن العينة هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة، ليصل إلى مقصوده (1) .
وذهب ابن القيم إلى عدم جواز بيع العينة، مستدلا بما روي عن الأوزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع (2) » وقال: هذا الحديث وإن كان مرسلا، فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له (3) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 \ 319، تفسير القرطبي 5 \ 361.
(2) نيل الأوطار 5 \ 319 - الشوكاني.
(3) نيل الأوطار 5 \ 319.(66/216)
وبيع العينة حيلة ومكر وخديعة، وهو لا يرفع المفسدة التي حرم الربا من أجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة (1) .
وقال القرطبي: إن من أباح بيع العينة، فليبح حفر البئر، ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد (2) وقال: لقد اتفقنا على منع من باع العينة، إذا عرف بذلك وكانت عادته (3) .
وقد وردت من السنة عدة روايات في تحريم هذا النوع من البيوع الذي هو صورة من صور الربا، نذكر منها ما يلي:
ما أخرجه أحمد وأبو داود، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (4) » .
2 - أخرج الدارقطني، عن أبي إسحاق السبيعي، عن
__________
(1) نيل الأوطار 5 \ 319.
(2) يقصد حفر البئر ليقع فيه الناس.
(3) تفسير القرطبي 3 \ 360.
(4) أخرجه أبو داود رقم 3462، باب في النهى عن العينة، وأحمد في المسند (الفتح الرباني 15 \ 44 رقم 145) .(66/217)
امرأته أنها دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا. فقالت لها عائشة: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، أخبريه أن الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب، فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، قالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف.
ويدل الحديث أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن مؤجل، أن(66/218)
يشتريه من المشتري بأقل من ذلك الثمن نقدا، قبل قبض الثمن الأول. وتصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنها قد علمت التحريم بنص من الشارع، إما على جهة العموم، أو جهة الخصوص، كما جاء في حديث بيع العينة المتقدم (1) .
وقد ذكر العلماء للعينة صورا متعددة، ومن هذه الصور:
أ- أن يعطي الرجل الآخر مبلغا من المال دون زيادة، ولكنه يطلب منه سداد هذا المبلغ عن طريق عمل يؤديه إليه.
ولكنه لا يدفع له أجر أمثاله، بل غالبا ما يكون ذلك الأجر أقل من نصف الأجرة المعتادة.
وقد كان هناك شيخ في قريتنا يفعل ذلك، حتى مع أقاربه المحتاجين، إذ كان يشتري الأرض غير المزروعة بثمن زهيد، ثم يكلف الآخرين الذين يداينهم بالعمل في أرضه بنصف الأجر تقريبا، ويدعي أنه يريد أن يعينهم لكي يقوموا بسداد ما في ذمتهم، فيعملون طيلة السنة في أرضه يزرعونها، ويسمدونها، ويقومون على رعايتها، بأجر زهيد. فيصبح الربا الذي يأخذه منهم مضاعفا، أكبر من ربا البنوك وما شابهها. والقاعدة المشهورة عند العلماء: " أن كل قرض جر نفعا فهو ربا ".
__________
(1) نيل الأوطار 5 \ 317.(66/219)
وما ذكره ابن تيمية، من أن عامة صور بيع العينة يدخل في بيع المضطر، وبالتالي فالحكم يجمع هذه الصور عامة، لأنه استغلال لحاجة المضطر، فهو كلام متفق مع روح الشريعة.
2 - ومن صور العينة ما يسمى بالتورق وهو أن يشتري الرجل السلعة لا حاجة له بها، بثمن مؤجل، أكثر من سعرها الحقيقي في السوق، ثم يبيعها بثمن معجل، أقل مما اشتراها به، وغالبا ما يبيعها بأقل من سعرها الحقيقي في السوق، فتكون خسارته في السلعة أكبر من الفائدة الربوية، وهو أمر مشتهر في شراء السيارات، فيشتري الرجل سيارة نسيئة من الشركة بعشرة آلاف دينار، على أن يدفع الثمن على أقساط مؤجلة، ثم يأخذ الرجل السيارة ويبيعها في السوق بتسعة آلاف أو أقل، لأنه أصلا لا يريد السيارة، ولكن يريد الحصول على المال.
وقد ذهب عمر بن عبد العزيز إلى تحريم التورق، وقال عنه: إنه أخية الربا، وذهب إلى ذلك الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه،(66/220)
ورجح ذلك ابن تيمية (1) .
وقد ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز إلى جواز التورق (2) ، ووضع رسالة في ذلك بعنوان (التورق) ، كما ذهب إلى جواز ذلك الكمال بن الهمام من الحنفية، والقاضي أبو يوسف (3) ، وعامة الشافعية كما هو مشهور عنهم (4) ، وابن حزم الظاهري (5) .
3 - ومن صور العينة أن يعطي الرجل لآخر مبلغ ألف دينار قرضا، على أن يبيعه سلعة لا تساوي دينارا بمائة دينار.
وهذه المسألة تسمى مسألة السبحة؛ لأنه بعد أن يعطيه المال، يبيعه سبحة عنده بمبلغ كبير، يفوق النسبة الربوية التي يصرح بها الآخرون. والدليل في هذا المقام قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (6) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 \ 431.
(2) انظر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد (7) ص 53.
(3) حاشية ابن عابدين 5 \ 326.
(4) الأم 3 \ 38 تكملة المجموع 10 \ 149.
(5) المحلى 9 \ 47.
(6) سورة البقرة الآية 9(66/221)
وقد سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجل باع حريرة ثم ابتاعها لأجل زيادة درهم، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. سئل عن ذلك أنس بن مالك فقال: هذا مما حرم الله ورسوله (1) .
فمتى كان مقصود التعامل دراهم بدراهم إلى أجل: «وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » .
وقد جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا (3) » وقال - صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (4) »
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 \ 432.
(2) أخرجه البخاري 1 \ 7 - 15، في بدء الوحي، وفي الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، وأخرجه مسلم برقم 1907، في الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - '' إنما الأعمال بالنية '' وانظر: جامع الأصول 11 \ 556، حيث قال ابن الأثير الجزري: أخرجه الجماعة إلا الموطأ.
(3) صحيح الجامع الصغير، رقم 6116، وقال فيه: حديث حسن، أخرجه أبو داود والحاكم وابن أبي شيبه. وانظر: جامع الأصول لابن الأثير الجزري 1 \ 533، ونقل المحقق قول ابن القيم في تهذيب السنن 5 \ 105 في شرح هذا الحديث، ورجح أن المراد بذلك بيع العينة.
(4) أخرجه النسائي 7 \ 288، 295 في البيوع، باب سلف وبيع، وباب شرطان في بيع، والترمذي رقم 1234، في البيوع باب كراهية بيع ما ليس عندك، وأبو داود رقم 3405 في الإجارة. وانظر: صحيح الجامع الصغير بتحقيق الألباني رقم 7644، وقال: إن المراد بهذا الحديث هو بيع التقسيط المعروف اليوم، والعلة في ذلك الربا.(66/222)
فحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع الرجل شيئا، ويقرضه مع ذلك، فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض، حتى ينفعه فهو ربا (1) . وقد نقل عن محمد بن الحسن قوله في بيع العينة (2) :
هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا، وقد ذمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إذا تبايعتم بالعينة. . . (3) » الحديث. وقد عنون الشيخ أبو زهرة لمسألة العينة (4) . فقال: " التحايل على الربا ببيع العينة " وحمل على الذين قالوا: بجوز ذلك من المحدثين حملة شديدة.
وقال الإمام أحمد فيمن يتعامل بالعينة: " لا يعجبني أن يكتب عنه الحديث " (5) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 \ 433.
(2) حاشية ابن عابدين 4 \ 326.
(3) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .
(4) بحوث في الربا 27 محمد أبو زهرة.
(5) الفروع 4 \ 170 ابن مفلح الراميني.(66/223)
7 - الربا من أكبر الكبائر:
الربا من أكبر الكبائر بنص القرآن الكريم، وبما جاء في السنة الشريفة، التي بينت عظم هذه المعصية، وما يترتب عليها من حرب الله ورسوله، وعقوبة في الدنيا بمحق البركة، والتخبط على غير هدى، وعقوبة في الآخرة تظهر في تخبطهم، كالذي يتخبطه الشيطان من المس،(66/223)
وعذاب أليم في عذاب جهنم وبئس المهاد، إلا أن يتوب الله عليه.
وهناك روايات عديدة وردت في عقوبة أكل الربا، وذم من يقدم على ارتكاب هذه المعصية، ونذكر من هذه النصوص ما يلي:
1 - ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » .
2 - ما أخرجه الحافظ الهيثمي عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «درهم ربما يأكله
__________
(1) أخرجه مسلم، برقم 1598، في المساقاة، باب لعن أكل الربا وموكله، وانظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري، رقم 955، والترمذي رقم 1206، في البيوع، باب ما جاء في أكل الربا، وقال: حسن صحيح، وأبو داود رقم 3333 في البيوع، باب في أكل الربا وموكله، وانظر: جامع الأصول 1 \ 542، رقم 368، 369، وانظر: كتاب الكبائر للذهبي ص 83، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2 \ 102 حيث ساق عدة روايات في ذلك.(66/224)
الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية (1) » .
3 - ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم (2) » .
4 - ما أخرجه البخاري عن أبي جحيفة قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم - أجرة الحجامة - وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن آكل الربا، وموكله، والواشمة، والمستوشمة والمصور (3) » .
5 - جاء ذكر الربا في الصحيح، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات. . وذكر منهن آكل الربا (4) »
__________
(1) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4 \ 117 باب ما جاء في الربا، وقال الهيثمي: أخرجه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال صحيح.
(2) صحيح الجامع الصغير 1 \ 663، برقم 3539، وقال الألباني: صحيح (الترغيب والترهيب 3 \ 50)
(3) أخرجه البخاري 4 \ 353 في البيوع، باب ثمن الكلب، وباب موكل الربا، وأخرجه أبو داود برقم 3483، في البيوع، في أثمان الكلاب.
(4) أخرجه البخاري 5 \ 294، في الوصايا، باب قول الله تعالى: '' إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ''، وفي الطب، باب الشرك والسحر، وأخرجه مسلم في الإيمان باب بيان الكبائر، وأبو داود برقم 2874، في الوصايا.(66/225)
وقال القرطبي: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلا سكران يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق، إن كان يدخل جوف ابن آدم شيء أشر من الخمر. فقال مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فلما رجع الرجل، قال له الإمام مالك: امرأتك طالق. فقد تصفحت كتاب الله وسنة نبيه، فلم أر شيئا أشر من الربا، وقد آذن الله فيه لآكله بالحرب من الله ورسوله (1) .
6 - جاء في الصحيح عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا؛ فقال: الذي رأيته في النهر: آكل الربا (2) »
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 364.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 4 \ 313، برقم 2085.(66/226)
8 - التدرج في تحريم الربا:
لقد سلك القرآن الكريم أسلوب الرفق والتدرج، في نقل(66/226)
المخاطبين من حياة الجاهلية البغيضة، إلى سماحة الإسلام ويسره، وتجلى ذلك في شرائع الإسلام، وأحكامه العملية، على خلاف الحال في تغيير العقيدة الفاسدة، وترسيخ عقيدة الإسلام.
وسبب هذا التدرج في تحريم بعض الأحكام الفرعية، هو رسوخ وتعلق المخاطبين بهذه العادات والأفعال، حتى أنه كان من الصعب عليهم الامتثال للإقلاع عنها دفعة واحدة، في مرة واحدة.
ورضي الله عن عائشة أم المؤمنين وهي القائلة: " إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا) (1) .
ونجد هذا التدرج في تحريم الربا في أربع آيات قرآنية، تتعلق بتحريم الربا، واحدة منها نزلت بمكة، وثلاث في المدينة.
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، صحيح البخاري بشرح فتح الباري 9 \ 38 برقم 4993.
(2) سورة الروم الآية 39(66/227)
الآية الثانية: قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (2) .
وجاءت هذه الآية لتوجه الأنظار، تهيء النفوس، لتقبل فكرة التحريم.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
وجاءت هذه الآية لتفيد تحريم الربا في الأضعاف المضاعفة، وهي إحدى حالات الربا.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) الآيات.
فهذه الآية صريحة في تحريم جميع أنواع الربا، لا فرق بين القليل والكثير في ذلك.
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161
(3) سورة آل عمران الآية 130
(4) سورة البقرة الآية 275(66/228)
9 - في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1)
نسخ لما كان عليه العمل في الجاهلية، وصدر الإسلام، من أن الحر يباع بالدين، إن عجز عن سداده، ويبين ذلك ما أخرجه الدارقطني عن زيد بن أسلم قال: «رأيت شيخا بالإسكندرية، يقال
__________
(1) سورة البقرة الآية 280(66/228)
له: (سرق) ، فقلت: ما هذا الاسم؛ فقال: سمانيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولن أدعه، قلت: لم سماك؟ ، قال قدمت المدينة فأخبرتهم أن مالي يقدم، فبايعوني فاستهلكت أموالهم، فأتوا بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أنت سرق، وباعني بأربعة أبعرة، فقال الغرماء للذي اشتراني: ما تصنع به، قال: أعتقه، فلسنا بأزهد منك في الأجر، فأعتقوني بينهم، وبقي اسمي» .
وأخرج البزار مثل ذلك، ولكن هذه الروايات لا يحتج بها.
وروي عن ابن عباس أن الإمهال إنما هو في الربا خاصة.
أما في سائر الديون فإنه يدفع أو يحبس حتى يوفي، وهذا في حالة عدم وجود الفقر المدقع، أما إذا كان له مال، فإنه يحجر على ماله أو عقاره في الدين.
وقيل: إن الإمهال عام في الربا، وفي الديون على عمومها.
وقد ذكر عن شريح القاضي أنه أمر بحبس المدعى عليه،(66/229)
لأنه لم يدفع ما في ذمته، فقيل له: إنه معسر، فقال شريح: إنما ذلك في الربا (1) ، والله تعالى قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) .
ولكن الصحيح أن الإمهال عام في كل دين، استدلالا بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) وهذا قول عامة الفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي (4) .
وذكر الفخر الرازي: أن وجوب الإنظار، لما ثبت في هذه الآية بحكم النص، ثبت وجوبه في سائر الصور. وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به (5) .
__________
(1) تفسير الرازي 7 \ 111.
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) تفسير الرازي 7 \ 111.
(5) تفسير الرازي 7 \ 111.(66/230)
10 - من كثرت عليه الديون، ولم يستطع الوفاء بها، فللحاكم أن يخلعه عن ماله كله، ولا يترك له خادما ولا مسكنا، ولا يبقى له إلا ملابسه (1) .
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 372.(66/230)
ومما يدل على ذلك، ما أخرجه مسلم في صحيحه، وأصحاب السنن، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال «أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» .
وقال أبو حنيفة: يحبس ويلازم، لإمكان أن يظهر له مال في المستقبل.
ويحبس على الصحيح من قول الجمهور حتى يتبين أنه معسر، أو إذا اتهم بأنه غيب ماله، أما إذا صح عسره، فلا يحبس على الصحيح (1) .
ويستحب لصاحب الدين أن ينظر المدين المعسر، وله بذلك فضل وأجر، وله بكل يوم أنظر فيه المعسر صدقة، وجاء في الصحيح
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 372.(66/231)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 1561 في المساقاة، باب فضل إنظار المعسر، والترمذي برقم 1307 في البيوع، باب في إنظار المعسر، وانظر: جامع الأصول من أحاديث الرسول 4 \ 452، في الدين وآداب الوفاء حيث ساق عدة أحاديث في ذلك. ومنها: حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهو حديث طويل، جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله. انظر: جامع الأصول 4 \ 458 برقم 2544. وانظر: صحيح البخاري بشرح فتح الباري، 4 \ 307. برقم 2077، باب من أنظر معسرا.(66/232)
11 - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لو أصر أهل بلدة على أكل الربا، فإن للإمام أن يستتيبهم، فإن لم يرجعوا فإنهم يقاتلون، ويصح للإمام أن يحاربهم (1) .
وقال ابن خويز منداد: لو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا
__________
(1) تفسير القرطبي 3 \ 363، 364.(66/232)
استحلالا كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالا، جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) الدر المنثور 2 \ 108.(66/233)
12 - من شروط التوبة الصادقة لآكل الربا، أن يرد المرابي المال الذي أخذه زيادة، والاكتفاء برأس المال، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) .
ويجب على من أخذ المال، أن يعيد رأس المال كاملا، ولا يؤخر الدفع إن كان موسرا، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «مطل الغني ظلم (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته (3) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) أخرجه البخاري 5 \ 46 في الاستقراض، باب مطل الغني ظلم، ومسلم رقم 1564 في المساقاة، باب تحريم مطل الغني، والموطأ 2 \ 674 في البيوع، باب جامع الدين والحول. وجاء في رواية أخرى: مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع.
(3) أخرجه أبو داود رقم 3628 في الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره، والنسائي 7 \ 316 في البيوع، باب مطل الغني ظلم، ورواه أحمد في المسند 4 \ 222. والمراد بقوله: لي الواجد؛ مطل القادر المليء. وبقوله: يحل عرضه؛ يجوز لصاحب الدين أن يعيبه ويصفه بسوء القضاء والمراد بالعرض: نفس الإنسان، وعقوبته: حبسه. انظر جامع الأصول 4 \ 455.(66/233)
وإذا طالت المدة، ولم يعرف الرجل الذي أخذ منه الربا، فعلى آكل الربا التائب أن يتحرى، فإن عجز عن معرفته، فله أن يتصدق بهذا المال عنه.(66/234)
13 - الربا في دار الحرب:
ذهب الحنفية خلافا لأبي يوسف، إلى جواز أخذ الربا من الكفار في دار الحرب؛ لأن مال الحربي مباح بغير عقد.
واحتجوا لرأيهم بما روي عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب (1) » .
وهذا الحديث وإن كان مرسلا، إلا أن مكحولا فقيه ثقة، والمرسل منه مقبول (2) .
كما استدلوا بما جاء في تفسير قوله تعالى: {الم} (3) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (4) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (5) ، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه خاطر المشركين على غلب الروم لفارس، كما أخبرت الآية الكريمة، فأجاز عليه الصلاة والسلام لأبي بكر أن يأخذ خطره، وهو القمار بعينه، بين أبي بكر ومشركي مكة،
__________
(1) انظر شرح فتح القدير 7 \ 38.
(2) المبسوط للسرخسي 14 \ 56 حاشية ابن عابدين 5 \ 186.
(3) سورة الروم الآية 1
(4) سورة الروم الآية 2
(5) سورة الروم الآية 3(66/234)
وكانت مكة دار شرك.
ويرد جمهور العلماء على هذا الدليل، بأن ذلك كان قبل تحريم المخاطرة والمقامرة، وبعد أن تحقق نصر الروم، وأخذ أبو بكر رضي الله عنه ما خاطر عليه، تصدق به.
وذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة (1) ، ومعهم أبو يوسف من الحنفية، إلى تحريم الربا مطلقا، بلا تفريق بين دار السلام ودار الحرب، فما هو محرم في دار الإسلام، فهو محرم في دار الحرب، كالخمر والخنزير وسائر المحرمات.
وقالوا: إن حديث مكحول مرسل وضعيف، فلا حجة فيه، وهو محتمل للنهي، فهو نفي في معنى النهي، كما في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2) .
وأما القول بأن أموال الحربي مباحة بلا عقد، فلا نسلم هذه الدعوى، إن دخلها مسلم بأمان، وإن كان بغير أمان، فالعلة منتقضة.
__________
(1) شرح فتح القدير 7 \ 38، الربا والقروض ص 95.
(2) سورة البقرة الآية 197(66/235)
ولا يلزم من كون أموالهم تباح بالاغتنام استباحتها بالعقد الفاسد (1) .
كما أن وضع الأموال عند الكفار بدعوى جواز أخذ الربا منهم، إنما يكون لهم عونا على قتال المسلمين، ووضع اقتصاد المسلمين بأيدي أعدائهم. وقد وصل الحال ببعض هؤلاء الجامدين أن يفتوا بوضع الأموال في بنوك الكفار؛ لأن الربا في هذا الحال جائز، وقال بعضهم: بل توضع في بنوك الكفار من غير ربا.
أما مجرد وضع الأموال في بنوك المسلمين، فإن هذا ربا محرم، وإن كان بغير فائدة، فهو محرم عندهم كذلك، لما فيه من الإعانة لهذه البنوك.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقد اختلطت العقول، ولعبت بالرءوس الأهواء، ومات العلم بموت العلماء، واتخذ الناس من بعد ذلك رءوسا جهالا، يفتون بغير علم، فيضلون ويضلون.
__________
(1) المجموع للنووي، 9 \ 392(66/236)
14 - شبهات حول الربا:
يخوض بعض المتأخرين في شبهات حول الربا، منها أن الاقتصاد العالمي قائم على البنوك والتعامل بالربا. ومنها أن عمل البنوك اليوم يشبه المضاربة، فالبنك يجني أرباحا من هذه الودائع، وهو يدفع نسبة من هذه الفوائد عن طواعية ورضا. وإذا وضعنا هذه(66/236)
الأموال في البنوك دون أخذ فائدة - أي الربا - فإننا نعين البنك بذلك، وإذا أخذناها، فيمكن أن نساعد منها المحتاجين، ومعظم هذه الشبهات الدائرة يجمعها قول الكفار منذ ألف وأربعمائة عام، فيما حكاه عنهم الله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) فوجه المشابهة لمن أراد أن يتلاعب بشرع الله يمكن أن يوجد، ولكن الله أحل البيع وحرم الربا.
ونقول: إن شيوع الباطل لا يجعله حقا، وقد بدأت محاولات محدودة للتعامل البنكي، قائمة على منهج البيع وتحريم الربا، وهي داخلة تحت ما أطلق عليه البنوك الإسلامية. وهذه البنوك تحارب من بعض علماء المسلمين، كما تحارب من البنوك الأخرى الربوية بدعاوى مختلفة.
ومن ضمن هذه المغالطات، أن البنوك الإسلامية تدفع ربحا غير محدد، بينما تدفع البنوك الأخرى ربحا محددا، وهذه أضمن لمصلحة الفقير، كما أنه يمكن اعتبار ما يدفعه البنك من ربا، بمثابة نسبة ربح قياسا على المضاربة، خاصة وأن البنك يدفعها عن رضا ورحابة صدر، وإذا خسر البنك، فيمكنه أن يلجأ للقضاء، ويثبت خسارته، وبالتالي فإنه يصبح غير ملزم بدفع نسبة الربح المنصوص عليها.
وأقول: إن مثل هذه الشبهات هي ترقيع لواقع اقتصادي بعيد عن الإسلام، ورحم الله الإمام إبراهيم بن أدهم، وهو القائل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(66/237)
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وإلا فإن هذا الواقع الربوي، هو الذي كان موجودا قبل الإسلام، وهو ربا النسيئة، وكان يمكن لذلك المرابي أن يقول: إن الذي أخذ المال بالربا، اشترى به إبلا وأرضا وتاجر فيه، وليس بمحرم علي أن يعطيني نسبة مما ربحه، وكثير من الذين يأخذون الربا قديما وحديثا، إنما يأخذونه للاستثمار، وقليل منهم الذي يأخذ للحاجة الماسة أو للضرورة.
ولا أدعي أن البنوك الإسلامية تمثل شرع الله الحنيف، وبعيدة عن النقص في بعض جوانبها، ولكن يمكن القول: إن التعامل الأساس المعلن لهذا البنك، هو موافق لشرع الله، أما أن البنك قد يستعمل هذه الأموال استعمالا فيه شبهة، فالإثم على من كذب وغير، أما صاحب المال فقد اتفق على أن يكون التعامل موافقا لشرع الله.
وبالتالي فإن تشويش بعض العلماء على البنوك الإسلامية، إنما(66/238)
يصب في خدمة البنوك الربوية.
ولا أريد أن أذكر أسماء في هذا المقام، ولكن أحيل إلى بعض المراجع لمن أحب الاستزادة والاستفادة.(66/239)
15 - السلم والمحاقلة والمزابنة والمخابرة:
هناك بعض المسائل المتعلقة بالربا، وهي أقرب إلى مسائل الفروع، والتعرض لها يطيل البحث.
منها حكم السلم، وبيع الحيوان بالحيوانين نسيئة، وبيع اللحم بالحيوان (1) ، وكذلك أحكام المحاقلة والمزابنة والمخابرة وكثير
__________
(1) انظر المغني 6 \ 90، مسألة رقم713، نيل الأوطار5 \ 313 شرح السنة 8 \ 81- 86.(66/239)
من المعاملات التي يمكن أن تلحق بالربا، وهي تحت باب البيوع، وللعلماء فيها تفصيلات وخلاف، فتراجع في كتب الفقه.(66/240)
16 - في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية في الرجل يهدي غيره هدية، يرجو أن يثاب أفضل منها. فذلك الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر صاحبه، ولكن لا إثم عليه (2) .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: صريح الآية فيمن يهب الهبة يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة.
وقال المهلب (3) : اختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب ثوابها، وقال: إنما أردت الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له، فله ذلك. مثل: هبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه، وهو أحد قولي الشافعي.
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) تفسير القرطبي 14 \ 36.
(3) تفسير القرطبي 14 \ 37(66/240)
وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي الآخر.
وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب، فهو على هبته حتى يرضى منها (1) .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها.
وترجم البخاري في صحيحه (باب المكافأة في الهبة) ، وساق حديث عائشة رضي الله عنها، حيث قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها (2) » .
وجاء في سنن الترمذي «أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة، فعوضه منها ست بكرات، فتسخط، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن فلانا أهدى إلي بكرة، فعوضته منها بست بكرات، ويظل ساخطا، لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي، أو أنصاري، أو
__________
(1) تفسير القرطبي 14 \ 38.
(2) أخرجه البخاري 5 \ 154 في الهبة، وأبو داود رقم 3536، في البيوع، باب في قبول الهدايا. والترمذي رقم 1954 في البر، باب ما جاء في قبول الهدية والمكافأة عليها. وانظر جامع الأصول 11 \ 610 رقم 9222.
(3) رواه الترمذي رقم 3940، 3941 في المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة، وأبو داود رقم 3537، في البيوع، باب في قبول الهدايا. وانظر جامع الأصول 11 \ 611 رقم 9226.(66/241)
ثقفي، أو دوسي (1) »
__________
(1) البكرة: الفتية من النوق. (3)(66/242)
17 - ورد في سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} (1) أنها في قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية، فقال: أهدية أم صدقة، فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضاء الحاجة، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل، فقالوا: لا، بل هدية. فقبلها منهم، وقعد معهم يسائلهم ويسائلونه (2) .
وقال ابن عباس: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم والتفضل عليهم (3) .
وقال السدي: نزلت هذه الآية في ربا ثقيف؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا (4) .
وعلى قول السدي، فإن الآية في الربا المحرم المعهود.
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) أخرجه النسائي 6 \ 279 في العمرى، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، (جامع الأصول 11 \ 614 رقم 9229) .
(3) تفسير القرطبي 14 \ 37.
(4) تفسير القرطبي 14 \ 37.(66/242)
18 - لقد ظهرت شبهات على ألسنة بعض المتأخرين، هي(66/242)
نفسها الشبهة التي ردها المشركون في الجاهلية، وتدور هذه الشبهات حول قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) ، فيقولون: إن الذي يأخذ الربا يربح ويكسب أضعاف النسبة الربوية، ونحن إن لم نلزمه بنسبة معينة من الربح، فإنه قد يكذب ويدعي الخسارة.
فالبنك هو الذي يبحث عن العملاء، ويغريهم بوضع أموالهم مقابل فائدة معينة، يطلقون عليها اسم نسبة من الربح، ويقولون: إن البنك لا يخسر في تعامله، وإذا خسر حقيقة فأمامه القضاء ليثبت ذلك، وعندها قد يخسر المودع جزءا من رأس ماله.
وهذه الشبهة على قوتها في الظاهر، فهي متهالكة في الحقيقة لأن ذلك الأعرابي في الجاهلية عندما يأخذ بالربا، قد يشتري عقارا أو أنعاما، وقد يكسب في ذلك أكثر من النسبة الربوية، وهذه مسألة لا تخفى على أحد. فتحريم الربا إنما هو تحريم لنظام مالي قائم على هذه الأصول الفاسدة (2) ، والبديل عن ذلك هو قيام شركات الاستثمار الإسلامية التي نجحت نجاحا متميزا، حتى تدخلت فيها الأنظمة وأفشلتها وفق نصائح غربية مفضوحة، بدعوى أن الذي يملك الاقتصاد يملك الحكم.
والكفار يريدون الاستئثار بالمال والقوة، ليبقى المسلمون تحت أيديهم ورهن قراراتهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) انظر كتاب (التدابير المالية الواقية من الربا) للدكتور \ فضل إلهي ظهير.(66/243)
19 - وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130(66/243)
ذهب بعض المتأخرين إلى أن الربا يكون حراما إذا كان أضعافا مضاعفة، أما إذا كان بنسبة معقولة، فإن هذا ليس ربا، ولا يكون حراما، وجعلوا قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) قيدا وعلة في التحريم (2) وهذا فهم يدل على انحراف في التفكير وسوء قصد. فقوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (3) إنما هو وصف لواقع جاهلي، ينفر السامع من التعامل به، فقد كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده الآخر في المال، وهكذا كل عام، حتى يصبح أصل المال مضاعفا. فأمرهم الله بالتقوى، وبين لهم أن ترك التعامل بالربا من أسباب الفلاح، وحذرهم من نار جهنم التي أعدت للكافرين، ومن هم على شاكلتهم.
وقد جاء تحريم الربا على إطلاقه في سورة البقرة، وبينت ذلك السنة الصحيحة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) في ظلال القرآن 4 \ 473.
(3) سورة آل عمران الآية 130(66/244)
20 - بيع الحيوان بالحيوان:
يحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، وقد ذكرنا الخلاف في علة تحريم ربا الفضل عند العلماء.
وقد اختلف العلماء في حكم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.(66/244)
فذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة - إلى أنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان إذا كان يدا بيد، ولا يشترط التماثل، ويجوز التفاضل، كبيع حيوان بحيوانين، ولكن يحرم كل ذلك في النسيئة (1) .
وقال الشوكاني: إنه لا خلاف بين العلماء في جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا، إذا كان يدا بيد، وإنما الخلاف في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (3) » .
وكذلك ما روي عن الحسن بن سمرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (4) » .
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 \ 65 الربا والقروض ص 52.
(2) نيل الأوطار 5 \ 314.
(3) سنن البيهقي 5 \ 289 واختلف العلماء في وصله وإرساله، وقال البخاري: حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، من طريق عكرمة عن ابن عباس، رواه الثقات عن ابن عباس موثوقا، وعن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. (نيل الأوطار 5 \ 315) ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 \ 20 رقم 14133.
(4) أخرجه الترمذي برقم 1237، في البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال: سماع الحسن من سمرة صحيح، هكذا قال علي بن المديني وغيره، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو قول الشافعي وإسحاق، ثم ذكر رواية جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ''الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئا، ولا بأس به يدا بيد''. وقال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انظر: سنن الترمذي بشرح عارضة الأحوذي 5 \ 246 - 247، وانظر: جامع الأصول 1 \ 568 رقم 397، 398، وجاء في نيل الأوطار: إن حديث الحسن عن سمرة رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وروى عبد الله بن أحمد مثله من رواية جابر بن سمرة، انظر: نيل الأوطار 5 \ 315.(66/245)
ووجه الاستدلال في هذين الحديثين: أن النهي منصب على التفاضل نسيئة، فإذا كان التفاضل يدا بيد فلا حرج في ذلك.
وقال الإمام مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا، أنه لا بأس في الجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم يدا بيد. وقال: لا خير في الجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم، إذا كانت الدراهم نقدا والجمل إلى أجل. وكذلك إن أخرت الجمل والدراهم فلا خير في ذلك أيضا. ثم قال: ولا بأس أن يبتاع البعير النجيب بالبعيرين.
وتفسير ما كره من ذلك هو: أن يؤخذ البعير بالبعيرين ليس بينهما تفاضل في النجابة، فإذا كان على هذه الحال فلا يشتري منه اثنان بواحد إلى أجل (1) .
وذهب الشافعية (2) وهو رواية عن المالكية، ورواية عن الحنابلة، إلى: جواز بيع الحيوان بالحيوان مطلقا، ولو كان من جنسه، متفاضلا يدا بيد، أو متفاضلا نسيئة، كمن يبيع بعيرا ببعيرين حالا أو إلى أجل.
__________
(1) موطأ مالك 2 \ 652.
(2) المغني لابن قدامة 6 \ 64، رقم المسألة 706، الربا والقروض ص 53.(66/246)
واستدلوا بعدة أدلة من الأحاديث والآثار، نذكر منها ما يلي:
1 - ما أخرجه أحمد وأبو داود (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي، قال: فحملت الناس عليها حتى نفدت الإبل، وبقيت بقية من الناس، قال: فقلت: يا رسول الله الإبل قد نفدت، وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم. فقال لي: (ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة، إلى محلها حتى ننفذ هذا البعث) . قال: وكنت أبتاع البعير بالقلوصين (2) ، وبالثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها، حتى نفذت ذلك البعث، فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وجاء في بداية هذه الرواية عن عبد الله بن عمرو كما أخرجها أحمد: أن رجلا سأل عبد الله بن عمرو فقال: يا أبا محمد إنا بأرض لسنا نجد بها الدينار والدرهم، وإنما أموالنا المواشي، فنحن نتبايعها بيننا، فنبتاع البقرة بالشاء نظرة إلى أجل، والبعير بالبقرات، والفرس بالأباعر، كل ذلك إلى أجل، فهل علينا في ذلك من بأس؟! فقال
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2 \ 216، وأبو داود رقم 3357، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 \ 22 رقم 14144.
(2) القلوص: الشابة من النوق، وهي بمنزلة الجارية من النساء وجمعها قلص وقلائص (مختار الصحاح، مادة قلص) .(66/247)
عبد الله بن عمرو: على الخبير سقطت ثم ذكر الحديث (1) .
2 - ما رواه مالك والشافعي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملا يدعى (عصيفيرا) بعشرين بعيرا إلى أجل (2) .
3 - ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة، يوفيها صاحبها بالربذة.
4 - ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا، ووصله عبد الرزاق، أن رافع بن خديج اشترى بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدا (3) .
__________
(1) تم تخريج الحديث آنفا.
(2) موطأ مالك 2 \ 652، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 \ 22، رقم 14142.
(3) علقه البيهقي عن رافع بن خديج 5 \ 287، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8 \ 22 رقم 14141.(66/248)
5 - ما رواه البخاري ومالك، عن سعيد بن المسيب أنه قال:
(لا ربا في الحيوان) (1) وقد نظر الشوكاني في هذه الأدلة ثم خلص إلى القول:
لا شك أن أحاديث النهي وإن كان كل واحد منها لا يخلو من مقال، لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من الصحابة، سمرة، وجابر بن سمرة، وابن عباس، وبعضها يقوي بعضا، فهي أرجح من حديث واحد غير خال من المقال، وهو حديث عبد الله بن عمرو، ولا سيما وقد صحح الترمذي وابن الجارود حديث سمرة، وقد تقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة.
وأما الآثار الواردة عن الصحابة فلا حجة فيها، وعلى فرض ذلك فهي مختلفة (2) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 8 \ 20 رقم 14137، موطأ مالك 2 \ 654، باب ما لا يجوز من بيع الحيوان.
(2) نيل الأوطار 5 \ 316.(66/249)
صفحة فارغة(66/250)
أثر التوبة على عقوبة القذف
في الفقه الإسلامي
للدكتور \ عبد الله بن سليمان المطرودي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد.
فإن الله سبحانه وتعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن من الأقوال والأفعال، وشرع عقوبات تصون الناس أفرادا وجماعات، وتحفظ عليهم دينهم، ونفوسهم، وأعراضهم، وعقولهم، وأموالهم، ليبقى الناس على الاستقامة، وعلى المنهج السوي، فإن إخلاء المجتمع عن الزواجر يؤدي إلى فساده واختلاله.
ومن هذه العقوبات عقوبة القذف، فقد شرع الحكيم الخبير عقوبة
__________
(1) دكتور في قسم الفقه، كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(66/251)
رادعة لمن يتكلم بعرض آخر، ولم يستطع إثبات كلامه؛ لتبقى الأعراض مصونة، والأنساب محمية، والمجتمعات نقية من أقوال السوء التي توغر الصدور، وتبذر الفجور، فالعقوبة هي السياج المنيع على أعراض الناس من أن تدنس كذبا وبهتانا، وهي الحارس على ألسنة الناس من أن تنطق منكرا من القول وزورا، حتى ينهج الناس في حياتهم وعلاقاتهم منهجا معتدلا سليما.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لمن ابتلي بشيء من هذه مخرجا يطهره مما أصابه من آثار المعاصي والذنوب، فجعل العقوبات التي هي زواجر عن اقتراف المحرمات جوابر من أقيمت عليه، تكفر عنه ما اقترف من الذنوب والخطايا.
فقد روى البخاري (ت 256هـ) في صحيحه بسنده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (ت 34 هـ) قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها (2) » الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب الحدود كفارة (4 \ 247) حديث (6784) .
(2) (1) فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته. . .(66/252)
وجعل التوبة النصوح مزيلة لآثار الذنوب والمعاصي، فمن اقترف ذنبا ثم تاب وأناب إلى ربه، فإن الله يغفر له إن شاء، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ومما يؤسف له في هذا العصر انتشار السب، والشتم، والقذف على ألسنة كثير من الناس، وتساهلوا به كثيرا، فلا يعي أحدهم خطورة ما يقول، ولا يخاف مما يترتب على قوله من وعيد في الآخرة، وعقوبة في الدنيا، فلا عنه يتورعون، ولا منه يتوبون، فلهذا أحببت أن أساهم بجهد المتواضع في بيان عقوبة القذف، وأثر التوبة عليها. والله المستعان وعليه التكلان.
أسباب اختيار الموضوع:
من أهم الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع ما يلي:
1 - إبراز الأهمية الكبرى لأثر التوبة على عقوبة القذف.
2 - جمع شتات هذا الموضوع في بحث مستقل، تيسيرا للاستفادة منه.
3 - استكمال بعض الجوانب التي أغفلتها الدراسات المعاصرة التي تناولت هذا الموضوع.
الدراسات التي تناولت هذا الموضوع:
أولا: الدراسات السابقة:
__________
(1) سورة الزمر الآية 53(66/253)
لا يكاد يخلو كتاب من المؤلفات القديمة - في التفسير، أو الحديث، أو الفقه- عن مباحث في هذا الموضوع، إلا أنه لا يجمعها كتاب واحد، أو مبحث واحد، بل هي متناثرة في مؤلفات شتى، وفي مباحث متفرقة. فلذلك هي بحاجة ماسة إلى بذل الجهد في جمعها وترتيبها في مؤلف واحد.
ثانيا: الدراسات المعاصرة:
هناك دراسات فقهية معاصرة تناولت هذا الموضوع، إلا أن هذه الدراسات جميعها لم تتناول هذا الموضوع بشكل مستقل- فيما أمكنني الاطلاع عليه- بل إنها تناولته ضمن دراسات أخرى، لذلك لم تستكمل جميع جوانبه، ومنها ما يلي:
1 - كتاب المبادئ الشرعية في أحكام العقوبات في الفقه الإسلامي، للدكتور \ عبد السلام محمد شريف. فقد تحدث في مبحث من كتابه - من ص (237) إلى ص (246) - عن أثر التوبة في إسقاط الحدود عامة، ولم يتطرق إلى التفاصيل الدقيقة.
2 - كتاب سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي، للدكتور \ جبر محمود الفضيلات. فقد تحدث في كتابه عن أثر التوبة في إسقاط الحدود على وجه العموم.
3 - كتاب التوبة في ضوء القرآن الكريم، للدكتورة \ آمال بنت صالح نصير.(66/254)
فقد تحدثت في كتابها- من ص (427) إلى ص (445) - عن أثر التوبة في حد القذف بشيء من الإجمال.
وبهذا يتضح أن الدراسات الفقهية المعاصرة لم تستكمل جميع جوانب الموضوع، وأن الموضوع بحاجة إلى استكمال بعض المسائل، والأقوال، وبسطها، وتفصيلها، واستقصاء الأقوال، والأدلة، ومناقشتها، وتمحيصها. فإذا انضمت هذه الأمور إلى الدراسات السابقة اكتمل الموضوع.
هذا، ولا أدعي أن هذا البحث قد بلغ الكمال، بل هو كسائر أعمال البشر، يعتريه النقص، والقصور، والخطأ، ولكن حسبي أني بذلت غاية ما أستطيع، فإن وفقت فيه إلى الصواب، فذلك من فضل الله وكرمه، وإن لم أوفق فيه إلى الصواب، فأسأل الله أن يغفر لي، وحسبي أني كنت حريصا على الصواب، ساعيا في الوصول إليه، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
خطة البحث: سينتظم هذا البحث الذي أسميته (أثر التوبة على عقوبة القذف في الفقه الإسلامي) في مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.
المقدمة:
اشتملت المقدمة على النقاط الآتية:
أ- أهمية الموضوع.(66/255)
ب- أسباب اختيار الموضوع.
ج- الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع.
د- خطة البحث.
هـ- منهج البحث.
التمهيد:
اشتمل التمهيد على ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الأثر.
المبحث الثاني: تعريف التوبة.
المبحث الثالث: حكم التوبة.
المبحث الرابع: تعريف العقوبة.
المبحث الخامس: تعريف القذف.
المبحث السادس: عقوبة القذف.
الفصل الأول: أثر التوبة على عقوبة القذف ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أثر التوبة على عقوبة الجلد.
المبحث الثاني: أثر التوبة على عقوبة رد الشهادة.
المبحث الثالث: أثر التوبة على عقوبة التفسيق.(66/256)
الفصل الثاني: صفة توبة القاذف.
الخاتمة
منهج البحث:
المنهج الذي سلكته في إعداد هذا البحث يتلخص في النقاط التالية:
1 - اعتمدت في جمع المادة العلمية لهذا البحث على المصادر الأصلية.
2 - بذلت الوسع في استقصاء الأقوال الواردة في كل مسألة، وذلك بذكر المذاهب الأربعة والظاهرية، حسب التسلسل الزمني، ثم ذكرت ما وقفت عليه من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة المعتبرين حسب الإمكان.
3 - ذكرت أدلة كل الأقوال، مبتدئا بأدلة القول الأول، ثم الثاني، وهكذا إلى آخر الأدلة، وأذكر المناقشة التي ترد على الدليل عند الاستدلال به، ثم الإجابة عليها إن وجد شيء من ذلك؛ ليتضح الدليل وصلاحيته للاستدلال في مقام واحد.
4 - وثقت كل مذهب أو قول من مصادره الأصلية.
5 - عزوت الآيات كلما وردت مبينا اسم السورة ورقم الآية.
6 - خرجت الأحاديث والآثار الواردة في البحث، وإذا كان الحديث أو الأثر واردا في غير الصحيحين فإني أذكر أقوال العلماء في درجته بإيجاز.
7 - ترجمت لكل علم يحتاج إلى ترجمة.
8 - ختمت البحث بخاتمة ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت(66/257)
إليها أثناء البحث.(66/258)
المبحث الأول: تعريف الأثر
تعريف الأثر في اللغة:
الأثر مفرد، والجمع آثار، وأثور. ويطلق على معان متعددة منها: بقية الشيء، وتقديم الشيء، وذكر الشيء، والخبر. قال ابن فارس (ت 395 هـ) : " أثر " الهمزة، والثاء، والراء، له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء الباقي (1) .
وقال ابن منظور (ت 711 هـ) : الأثر- بالتحريك - ما بقي من رسم الشيء، والتأثر: إبقاء الأثر في الشيء، وأثر في الشيء ترك فيه أثرا (2) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة- كتاب الهمزة- باب الهمزة والثاء وما يثلثهما (1 \ 53) .
(2) لسان العرب، مادة (أثر) (1 \ 25) .(66/258)
تعريف الأثر في اصطلاح الفقهاء:
لا يخرج استعمال الفقهاء للفظ (أثر) عن المعاني اللغوية، وأكثر ما يستعمله الفقهاء للدلالة على بقية الشيء، أو ما يترتب على الشيء، كقولهم في حكم بقية الشيء بعد الاستجمار: (وأثر الاستجمار معفو عنه بمحله) . وقولهم في حكم بقية الدم بعد غسله: ولا يضر أثر الدم بعد زواله. ويطلقونه على ما يترتب على الشيء، فيستعملون كلمة أثر مضافة، كقولهم: أثر عقد البيع، وأثر الفسخ، وأثر النكاح.(66/259)
المبحث الثاني: تعريف التوبة
أ- تعريف التوبة في اللغة:
التوبة في اللغة تطلق على الرجوع والإقلاع عن الشيء، يقال: تاب إذا رجع عن ذنبه، وأقلع عنه (1) .
قال ابن فارس: التاء، والواو، والباء، كلمة واحدة تدل على الرجوع. يقال: تاب من ذنبه أي رجع عنه (2) .
ب- تعريف التوبة في الاصطلاح:
عرف العلماء التوبة بتعاريف كثيرة، ومنها ما يلي:
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، مادة (توب) ، (1 \ 357) .
(2) معجم مقاييس اللغة، مادة (توب) ، (1 \ 357) .(66/259)
1 - عرفت بأنها: الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة (1) .
2 - وعرفت بأنها: الرجوع عن الطريق المعوج إلى الطريق المستقيم (2) .
3 - وعرفت بأنها: إنابة العبد إلى طاعة ربه، وأوبته إلى ما يرضيه، بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيما مما يكرهه ربه (3) .
فهذه التعاريف الثلاثة متحدة المعنى، فكلها تعتبر التوبة ترك المنهيات، وفعل الطاعات، وهذا لا يكفي في التوبة. فهذه التعاريف غير جامعة؛ لأنها أغفلت أكثر أركان التوبة، والتي سيأتي بيانها عند ذكر التعريف المختار.
4 - وعرفت بأنها: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتداركه من الأعمال بالإعادة (4) .
هذا التعريف أكمل من التعاريف السابقة، فقد تضمن أغلب شروط التوبة، فاشترط فيه أربعة شروط وهي:
الأول: ترك الذنب لقبحه.
والثاني: الندم على ما فرط.
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص (70) .
(2) حاشية قليوبي (4 \ 200) .
(3) تفسير ابن جرير الطبري (1 \ 195) .
(4) إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (9 \ 177) .(66/260)
والثالث: العزم على ترك المعاودة.
والرابع: تدارك ما أمكنه من الأعمال بالإعادة.
لكنه غير جامع، لأنه لم يسلم من القصور، فقد ترك بعض القيود التي لا بد منها في التوبة.
5 - وعرفت بأنها: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله (1) .
وهذا التعريف أوفى من سابقه، فقد تضمن ما سبق، وأضاف قيدا مهما، وهو أن يكون سبب الترك والندم، حياء من الله، فلا يكون السبب العجز عن المعصية، أو الخوف من غير الله، كضرر يلحقه في بدنه، أو ماله، أو منصبه، أو نحوه.
التعريف المختار: التعريف الذي أختاره للتوبة هو أن يقال:
هي: الإقلاع عن الذنب في الحال، والندم على ما مضى من فعله، والعزم على عدم العود إلى مثله؛ تعبدا لله تعالى.
وهذا في التوبة من حقوق الله، وأما التوبة من حقوق العباد فلا بد من إضافة قيد آخر على هذا التعريف وهو: (وأداء الحقوق إلى أهلها، أو تحصيل البراءة منهم) .
فهذا التعريف تضمن أركان التوبة التي لا تتم إلا بها، وهي:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5 \ 91) .(66/261)
الأول: الإقلاع عن الذنب في الحال.
الثاني: الندم على ما مضى من فعل الذنوب والمعاصي.
الثالث: العزم على عدم العود إلى مثل الذنب الذي تاب منه.
الرابع: أن يكون ذلك تعبدا لله تعالى.
والركن الخامس: يتعلق بحقوق العباد خاصة، وهو أداء الحقوق إلى أهلها، أو تحصيل البراءة منهم.(66/262)
المبحث الثالث: حكم التوبة
اتفق العلماء على أن التوبة واجبة على الفور من جميع الذنوب والمعاصي، سواء أكانت كبائر، أم صغائر (1) .
قال ابن حزم (ت 456 هـ) : (. . . إن التوبة فرض من الله على كل مذنب، والدعاء إلى التوبة فرض على كل مسلم. . . وإذا كان
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي (5 \ 90) ، والمحلى (11 \ 140) ، ومجموع الفتاوى لابن تيميه (10 \ 320) .(66/262)
الإصرار على الذنب حراما بإجماع الأمة، فالتوبة والإقلاع فرض بإجماع الأمة كلها لا خلاف في ذلك. . .) (1) .
وقال القرطبي (ت 671 هـ) : (. . . واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين) (2) .
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
أولا: الكتاب:
ورد عدد من الآيات من كتاب الله، فيها أمر وحث على التوبة، منها:
1 - قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (3) .
2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (4) .
__________
(1) المحلى (11 \ 140) .
(2) أحكام القرآن للقرطبي (5 \ 90) .
(3) سورة هود الآية 90
(4) سورة التحريم الآية 8(66/263)
3 - وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
ثانيا: السنة:
فقد ورد عدد من الأحاديث تحث على المبادرة بالتوبة، ومنها:
ما رواه مسلم (ت 261 هـ) بسنده عن ابن عمر (ت 73 هـ) رضي الله عنهما قال: قال رسول الله على الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة (2) » .
فهذه النصوص من الكتاب والسنة، تدل على وجوب التوبة على الفور، لأن الأمر المجرد يدل على الوجوب والفورية عند جمهور الأصوليين (3) .
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار (4 \ 2075) حديث (2702) .
(3) شرح الكوكب المنير (3 \ 39) ، والمغني في أصول الفقه للبخاري ص (31) ، وإرشاد الفحول ص (94) .(66/264)
المبحث الرابع: تعريف العقوبة
تعريف العقوبة في اللغة:
العقوبة في اللغة: المجازاة على الفعل.(66/264)
جاء في لسان العرب: عقب كل شيء وعقبه وعاقبته وعاقبه. . . آخره. . .
واعتقب الرجل خيرا أو شرا بما صنع كافأه به، والعقاب والمعاقبة أن يجزي الرجل بما فعل سوءا، والاسم العقوبة، وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا، أخذه به، وتعقبت الرجل إذا أخذته بذنب كان منه (1) .
تعريف العقوبة في الاصطلاح:
عرفت العقوبة بتعاريف كثيرة، منها:
1 - عرفها الحنفية فقالوا: العقوبة تكون على فعل محرم، أو ترك واجب، أو سنة، أو فعل مكروه (2) .
2 - وعرفها المالكية فقالوا: العقوبة هي زواجر، إما على حدود مقدرة، وإما تعزيرات غير مقدرة (3) .
3 - وعرفها الشافعية فقالوا: العقوبة جزاء على الإصرار على ذنب حاضر، أو مفسدة ملابسة لا إثم على فاعلها، أو جزاء على ذنب ماض منصرم، أو عن مفسدة منصرمة (4) .
4 - وعرفها الحنابلة فقالوا: العقوبة تكون على فعل محرم، أو ترك
__________
(1) لسان العرب، مادة (عقب) (5 \ 3022، 3027) .
(2) معين الحكام للطرابلسي ص (195) .
(3) تهذيب الفروق، بهامش الفروق (4 \ 204، 205) .
(4) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1 \ 157) .(66/265)
واجب (1) .
المناقشة والترجيح:
هذه جملة من التعريفات للعقوبة في المذاهب الأربعة، والمتأمل فيها يرى ما يلي:
1 - أن فيها توسعا، فقد تضمنت ما لا يستحق فاعلها أو تاركها العقاب، كتعريف الحنفية والشافعية، والتعريف يجب أن يكون جامعا مانعا.
2 - أن فيها طولا بذكر قيود لا حاجة إليها في التعريف، كتعريف المالكية والشافعية، والتعاريف مبناها على الاختصار.
3 - أن العقوبة تكون على ترك واجب، أو فعل محرم محل اتفاق عند الجميع.
4 - أن تعريف الحنابلة هو أسلم التعاريف.
التعريف المختار:
الأولى أن يقال في تعريف العقوبة: هي زواجر شرعية عن ترك واجب، أو فعل محرم.
أقسام العقوبة:
تنقسم العقوبة من حيث تقديرها إلى قسمين:
__________
(1) الطرق الحكمية لابن القيم، ص (265) .(66/266)
الأول: العقوبات المقدرة، وتسمى الحدود، وهي التي ورد تقديرها بنصوص من الكتاب والسنة، في جرائم معينة (1) .
الثاني: العقوبات غير المقدرة، وتسمى التعزيرات.
والتعزير تأديب استصلاح وزجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود، ولا كفارات (2) .
تعريف الحد:
الحد في اللغة: المنع، والفصل بين شيئين (3) .
تعريف الحد في الاصطلاح:
أورد الفقهاء تعاريف متعددة تختلف باختلاف المذاهب، فكل أهل مذهب يعرف الحد على ما يتلاءم مع مذهبهم.
ومن أكثرها دقة وشمولا واتفاقا مع جميع المذاهب الفقهية ما قاله الدكتور عبد الله الركبان، حيث قال: (الحد عقوبة مقدرة شرعت لصيانة الأنساب والأعراض، والعقول، والأموال، وتأمين السبيل) (4) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص (275) ، ومعين الحكام (195) ، والسياسة الشرعية لابن تيمية (83) .
(2) معين الحكام (194) ، مجموع فتاوى ابن تيمية (35 \ 402) ، والمغني لابن قدامة (8 \ 324) .
(3) لسان العرب، مادة (عقب) (2 \ 800) .
(4) النظرية العامة لموجبات الحدود (1 \ 16) .(66/267)
المبحث الخامس: تعريف القذف
أ- تعريف القذف في اللغة:
القذف في اللغة: هو الرمي بالحجارة، أو ما شابهها (1) .
ب- تعريف القذف في الاصطلاح:
عرفه الحنفية بأنه: الرمي بالزنا (2) وعرفه المالكية بأنه: الرمي بوطء محرم، في قبل، أو دبر، أو نفي نسب للأب، أو تعريض بذلك (3) وعرفه الشافعية بأنه: الرمي في معرض التعيير لا الشهادة (4) وعرفه الحنابلة بأنه: الرمي بزنا، أو لواط أو شهادة بأحدهما، ولم تكمل البينة (5) .
المناقشة والترجيح:
هذه التعاريف غير جامعة لكل ما يوجب حد القذف إلا تعريف المالكية، لكن فيه طول وذكر لقيود لا حاجة إليها في التعريف، ومن شأن التعاريف الاختصار والاقتصار على ما يحتاج إليه من قيود تجعله جامعا مانعا.
__________
(1) مختار الصحاح ص (552) .
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (4 \ 43) .
(3) القوانين الفقهية ص (306) .
(4) تحفة المحتاج، بهامش حواشي الشرواني والعبادي (9 \ 119) .
(5) معونة أولي النهى (8 \ 409) .(66/268)
ولهذا فأشمل وأخصر تعريف للقذف هو ما عرفه به الدكتور بكر أبو زيد فقال: القذف بوطء أو نفي نسب، موجب للحد فيهما (1) .
__________
(1) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص (199) .(66/269)
المبحث السادس: عقوبة القذف
القاذف إما أن يحقق قذفه ببينة، أو إقرار من المقذوف، أو لعان إن كان زوجا، أولا يحققه بشيء من ذلك. فإن حقق قذفه، فلا يتعلق به جلد، ولا رد شهادة، ولا تفسيق. وإن لم يحققه بشيء مما ذكر تعلق بقذفه وجوب الحد عليه، ورد شهادته، والحكم بفسقه (1) .
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (3) .
وجه الاستدلال بالآيتين:
دلت الآيتان على أن القاذف إذا أتى بأربعة شهداء، فإن قذفه لا يتعلق به شيء من العقوبات؛ لأن عقوبة القاذف معلقة على عدم مجيئه بالشهداء.
__________
(1) المغني (14 \ 188) ، والحاوي للماوردي (17 \ 24) .
(2) سورة النور الآية 4
(3) سورة النور الآية 13(66/269)
ودلت على أن القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء فإنه في حكم الله كاذب، ويتعلق بقذفه ثلاثة أحكام:
أحدها: وجوب الحد ثمانين جلدة، والثاني: فسقه المسقط لعدالته، والثالث: أن لا يقبل له شهادة أبدا ما لم يتب (1) .
وهذا تغليظا لشأن القذف، وتعظيما لأمره، وقوة في الردع عنه (2) .
وقد استثني الزوج الذي يقذف زوجته من هذا الحكم، بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (3) {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (4) الآيات.
وجه الاستدلال بالآية:
دلت هذه الآية على أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنا، ولم يقدر على إثبات ذلك ببينة، وأنكرت الزوجة، فإنه يشرع له أن يلاعن زوجته، فإذا لاعن فإنه لا يتعلق بقذفه جلد، ولا رد شهادة، ولا تفسيق (5) وإذا لم يلاعن فإن حكمه حكم من قذف أجنبية ولم يحققه (6) .
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 24) ، والمغني (14 \ 188) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2 \ 1336) .
(3) سورة النور الآية 6
(4) سورة النور الآية 7
(5) أضواء البيان (6 \ 86، 87) .
(6) سبل السلام (4 \ 32، 33) .(66/270)
الفصل الأول: أقوال العلماء في أثر التوبة على عقوبة القذف:
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أثر التوبة على عقوبة الجلد.
المبحث الثاني: أثر التوبة على عقوبة رد الشهادة.
المبحث الثالث: أثر التوبة على عقوبة التفسيق.
المبحث الأول: أثر التوبة على عقوبة الجلد
اتفق العلماء على أن التوبة لا تسقط الجلد عن القاذف، بل يجلد التائب كالمصر قال ابن قدامة (ت 620 هـ) : (وإن تاب القاذف لم يسقط عنه الحد وزال عنه الفسق بلا خلاف) (1) . وقال الماوردي (ت 450 هـ) : (. . . فإن من قذف لم يسقط عنه بالتوبة الجلد
__________
(1) المغني (9 \ 197) .(66/271)
باتفاق) (1) وقال ابن رشد (ت 595 هـ) : (. . . واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد) (2) .
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
وجه الاستدلال:
دلت هذه الآية على أن الجلد لا يسقط عن القاذف إذا تاب؛ لأن الاستثناء الوارد فيها لا يعود إلى الجملة الأولى، الوارد فيها الجلد بالإجماع، فتبقى الآية على ظاهرها في حكم جلد القاذف.
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 25) .
(2) بداية المجتهد مع الهداية (8 \ 575) .
(3) سورة النور الآية 4
(4) سورة النور الآية 5(66/272)
قال الشوكاني (ت 1250هـ) : (وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليه بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة، وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر) (1) .
__________
(1) فتح القدير للشوكاني (4 \ 9) .(66/273)
المبحث الثاني: أثر التوبة على عقوبة رد الشهادة
اتفق العلماء على قبول شهادة القاذف، إذا شهد بعد التوبة، وقبل إقامة الحد عليه، واتفقوا على رد شهادته إذا شهد بعد إقامة الحد، وقبل التوبة. واختلفوا في قبول شهادته إذا شهد قبل إقامة الحد عليه، وقبل التوبة. وإذا شهد بعد إقامة الحد عليه، وبعد التوبة، وتفصيل ذلك في مسألتين:
المسألة الأولى: شهادة القاذف بعد الحد والتوبة.
المسألة الثانية: شهادة القاذف قبل الحد والتوبة.(66/273)
المسألة الأولى: شهادة القاذف بعد الحد والتوبة
اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف إذا شهد بعد إقامة الحد عليه، وبعد التوبة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل، سواء تاب أم لم يتب.
وهذا مذهب الحنفية (1) ، وقول سعيد بن جبير (ت 95 هـ) ، وسعيد بن المسيب (ت 94 هـ) ، وشريح (ت 78 هـ) ، وسفيان
__________
(1) المبسوط للسرخسي (16 \ 125) ، وفتح القدير لابن الهمام (7 \ 400) .(66/274)
الثوري (ت 161هـ) ، والحسن البصري (ت 110هـ) ، وإبراهيم النخعي (ت 96 هـ) ، والأوزاعي (ت 157 هـ) .(66/275)
القول الثاني: أن شهادة القاذف المحدود تقبل إذا تاب إلا في القذف فلا تقبل. وهذا المشهور في مذهب المالكية (1) .
القول الثالث: أن شهادة القاذف المحدود تقبل إذا تاب. وهذا مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، والظاهرية (4) ، وقول عند المالكية.
وهو مروي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) ، وعبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) ، وابن عباس (ت 68 هـ) ، وأبي الدرداء (ت 32 هـ) (5) رضي الله عنهم، وهو قول عطاء (ت 114 هـ) ، وطاوس
__________
(1) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي بهامشه (4 \ 124) والقوانين الفقهية لابن جزي ص (264) .
(2) المهذب (2 \ 428) ، ونهاية المحتاج (8 \ 308) .
(3) كشاف القناع (6 \ 425، 426) .
(4) المحلى لابن حزم (9 \ 431) .
(5) الاستذكار (22 \ 35- 39) والمحلى (9 \ 431، 432) والمغني لابن قدامة (14 \ 189) وفتح الباري (5 \ 256) .(66/276)
(ت 106 هـ) ، والشعبي (ت 104 هـ) ، وعكرمة (ت 105هـ) ، ومجاهد (ت 104هـ) ، والقاسم بن محمد (ت 107 هـ) ، وسالم (ت 106 هـ) والزهري(66/277)
(ت 124 هـ) ، وسليمان بن يسار (ت 170 هـ) ، وأبي ثور (ت 240 هـ) ، وأبي عبيد (ت 224 هـ) ، والليث بن(66/278)
سعد (ت 175هـ) ، وإسحاق بن راهويه (ت 238 هـ) ، وبه قضى عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) وكتب به إلى البلدان، واختاره ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) (1) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) (2) ، وابن القيم (ت 751 هـ) (3) ، والشوكاني (ت 1250 هـ) (4) ، وغيرهم.
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بالكتاب، والسنة، والمعقول.
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (17 \ 108)
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (15 \ 354) .
(3) إعلام الموقعين (1 \ 125- 127) .
(4) فتح القدير للشوكاني (4 \ 9) .(66/279)
أولا: الكتاب: استدلوا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
وجه الاستدلال:
دلت هذه الآية على أن شهادة القاذف لا تقبل، سواء تاب، أم لم يتب، لأن لفظ (الأبد) يدل على الدوام والاستمرار طيلة عمره. فالمحدود في القذف، لا يخرج بالتوبة من كونه محدودا في قذف، فيبقى الحكم برد شهادته مؤبدا (2) . وقبول شهادته يخالف هذه الأبدية التي حكم الله بها بقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (3) ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن المراد بقوله تعالى: أبدا ما دام مصرا على قذفه، لأن أبد كل شيء على ما يليق به، كما إذا قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن المعنى ما دام كافرا. فإذا تاب القاذف عن القذف فلا ترد شهادته، لأن التأبيد في الآية مشروط بعدم التوبة، ومستثنى بالتوبة (4) .
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) المبسوط للسرخسي (16 \ 126) .
(3) سورة النور الآية 4
(4) الحاوي للماوردي (17 \ 28) .(66/280)
الوجه الثاني: أن سبب رد شهادة القاذف هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال الفسق بالتوبة قبلت شهادته، لزوال المانع (1) .
الوجه الثالث: أن هذه الآية نزلت في أصحاب الإفك الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادتهم، ولا المسلمون بعده؛ لأنهم تابوا.
فإذا قبلت شهادة الذين قذفوا أم المؤمنين التي برأها الله بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سماوات، فشهادة غيرهم ممن قذف غيرها أولى بالقبول (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) : (وقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (3) فهذا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل لهم شهادة أبدا، واحدا كانوا أو عددا؛ لأن الآية نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير، وكان الذين قذفوا عددا. . . ودلت أيضا على أن شهادته بعد التوبة مقبولة، كما هو مذهب الجمهور، فإنه كان من جملتهم مسطح بن أثاثة (ت 34 هـ) ، وحسان ابن ثابت (ت 54 هـ) ، كما في الصحيح عن عائشة (ت 85 هـ) ،
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (15 \ 353، 354) .
(3) سورة النور الآية 4(66/281)
وكان منهم حمنة بنت جحش وغيرها، فمعلوم أنه لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم؛ لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن براءتها، ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن، وهؤلاء ما زالوا مسلمين، وقد نهى الله عن قطع صلتهم، ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر (ت 23 هـ) رضي الله عنه شهادة أبي بكرة (ت 52 هـ) رضي الله عنه، وقصة عائشة (ت 58 هـ) رضي الله عنها كانت أعظم من قصة المغيرة (ت 50 هـ) رضي الله عنه) (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (15 \ 353، 354) .(66/282)
ثانيا: السنة: استدلوا بالسنة بما يلي:
1 - ما رواه الترمذي (ت 297 هـ) بسنده عن عائشة (ت 58 هـ) رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز في الإسلام شهادة زور، ولا خائن، ولا خائنة، ولا مجلود حدا. . . (1) » الحديث.
وجه الاستدلال:
دل هذا الحديث بعمومه على بطلان شهادة القاذف المحدود؛ لأنه
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الشهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته (44 \ 473) ، حديث (2298) ، وأخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الأقضية والأحكام (4 \ 244) حديث (145) .(66/282)
مجلود حدا. قال الجصاص (ت370 هـ) مبينا وجه الاستدلال بالحديث: فأبطل عليه الصلاة والسلام شهادة المحدود، وظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد القذف أو غيره، إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه، ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف، فهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب (1) .
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: من جهة السند، فهذا الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية يزيد بن زياد الدمشقي، وهو ضعيف، لا يحتج به (2) .
قال الترمذي (ت 297 هـ) بعد ذكره لهذا الحديث: " فهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث، ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2 \ 280) .
(2) سنن الترمذي (4 \ 473) ، سنن الدارقطني (4 \ 244) سنن البيهقي (10 \ 155) .(66/283)
من حديثه " (1) . وقال الدارقطني (ت 385 هـ) عنه: " يزيد هذا ضعيف لا يحتج به " (2) . وقال البيهقي (ت 458 هـ) بعد ذكره لهذا الحديث: ". . . يزيد بن أبي زياد، ويقال: ابن زياد الشامي، هذا ضعيف " (3) . وقال أيضا: ". . . لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعتمد عليه " (4) . وقال ابن حجر (ت 852 هـ) : ". . . واحتجوا - الحنفية - في رد شهادة المحدود بأحاديث قال الحفاظ: لا يصح منها شيء " (5) .
الوجه الثاني من جهة الدلالة:
فإن هذا الحديث لا يدل على أن القاذف إذا تاب لا تقبل شهادته، وإنما يدل على أن المجلود حدا لا تقبل شهادته، وهذا محمول على من لم يتب، فإن شهادته مردودة؛ لفسقه، وأما إذا تاب فإن شهادته مقبولة؛ لزوال المانع، وهو الفسق، وهذا عام في كل الحدود، وبه يحصل الجمع بين الأدلة. فقد دلت الأدلة على قبول شهادة المجلود حدا إذا تاب مما حد منه، سواء أكان الحد حد قذف، أم غيره. وسيأتي بسطها في أدلة
__________
(1) سنن الترمذي (4 \ 473) .
(2) سنن الدارقطني (4 \ 244) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي (10 \ 155) .
(4) السنن الكبرى للبيهقي (10 \ 155) .
(5) فتح الباري (5 \ 257) .(66/284)
الجمهور (1) .
2 - ما روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) رضي الله عنهما، في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: " أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين. . . ".
وجه الاستدلال: دل هذا الحديث على بطلان شهادة المجلود حد القذف تاب أم لم يتب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن بطلان شهادة القاذف معلق على وقوع الحد عليه (2) .
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، والضعيف لا تقوم به
__________
(1) ص (297- 310) من هذا البحث.
(2) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 273) .(66/285)
حجة، فهو من طريق عباد بن منصور (ت 52 هـ) عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعباد بن منصور ضعيف ويدلس عن عكرمة. قال ابن حجر في التقريب: " عباد بن منصور الناجي صدوق رمي بالقدر، وكان يدلس، تغير في آخرة. . . " (1) وقال النسائي (ت 303 هـ) : ضعيف (2) وقال يحيى بن معين (ت 233 هـ) : ليس بشيء ضعيف (3) وقال ابن أبي حاتم (ت 327 هـ) : في روايته عن عكرمة وأيوب ضعف (4) وقال مهنا عن أحمد (ت 441 هـ) : كانت أحاديثه منكرة، وكان قدريا، وكان يدلس (5) وقال البخاري (ت 256 هـ) : ربما دلس عن عباد عن عكرمة (6) ب- أن هذا اللفظ الذي نسبه الجصاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من كلام سعد بن عبادة (ت 14هـ) رضي الله عنه كما في رواية الواحدي (ت 468 هـ) في سبب النزول (7) ، أو من كلام الأنصار كما روى ذلك ابن جرير (ت 310 هـ) في تفسيره (8) إذ هذا
__________
(1) التقريب لابن حجر (221) رقم الترجمة (3142) .
(2) الضعفاء والمتروكين للنسائي ص (174) .
(3) الجرح والتعديل (6 \ 86) .
(4) الجرح والتعديل (6 \ 86) .
(5) تهذيب التهذيب (5 \ 105) .
(6) التاريخ الكبير للبخاري (6 \ 39) .
(7) أسباب النزول للواحدي ص (317) .
(8) تفسير ابن جرير الطبري (17 \ 111) .(66/286)
اللفظ ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول صحابي خالف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتج به (1) .
ج- أن هذا الحديث لو صح فإنه لا يدل على رد شهادة من أقيم عليه حد القذف بعد التوبة، فليس فيه أن القاذف إذا تاب لم تقبل شهادته، وهو محل النزاع. أما إذا جلد القاذف ولم يتب فلا خلاف في رد شهادته.
د- أن ذلك القول ليس فيه حجة؛ لأنه ظن من الأنصار ولم يصح، فما ضرب هلال، ولا سقطت شهادته (2) .
3 - ما رواه الحجاج بن أرطاة (ت 145هـ) عن عمرو بن شعيب (ت 118هـ) عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في فرية (3) » .
وجه الاستدلال:
دل هذا الحديث بعمومه على أن المحدود في القذف لا تقبل شهادته مطلقا، تاب أم لم يتب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن
__________
(1) المحلى لابن حزم (9 \ 432) .
(2) المحلى لابن حزم (9 \ 432) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، باب من قال: لا تجوز شهادته إذا تاب (6 \ 172) .(66/287)
المسلمين عدول، ثم استثنى منهم المحدود في القذف، ولم يفرق بين تائب أو غيره، فدل ذلك على أن حكم التائب وغيره سواء.
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
1 - أن هذا الحديث بهذا السند ضعيف؛ لأنه من رواية الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب، والحجاج مدلس إلا إذا صرح بالسماع، وفي هذا الحديث لم يصرح بالسماع وإنما عنعن، فلا يحتج بحديثه هذا.
قال أبو حاتم عنه: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه، وأما إذا قال: حدثنا فهو صالح لا يرتاب في صدقه وحفظه إذا بين السماع (1) وقال ابن خزيمة (ت 311 هـ) : لا أحتج به إلا فيما قال: حدثنا أو سمعت (2) .
وقال أبو زرعة (ت 264 هـ) : صدوق يدلس (3) وقال ابن معين: ليس بالقوي، يدلس عن عمرو بن شعيب (4) وقال ابن حجر: صدوق كثير الخطأ والتدليس (5) .
4 - ما ورد عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) رضي الله عنه
__________
(1) تهذيب التهذيب (2 \ 196- 198) .
(2) تهذيب التهذيب (2 \ 196- 198) .
(3) تهذيب التهذيب (2 \ 196- 198) .
(4) تهذيب التهذيب (2 \ 196- 198) .
(5) التقريب لابن حجر ص (152) .(66/288)
في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومما فيه: ". . . والمسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا في شهادة زور. . . ".
وجه الاستدلال بالأثر:
دل هذا الأثر على أن شهادة المجلود في حد القذف لا تقبل، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخبر أن المسلمين عدول ثم استثنى منهم المجلود في الحد من غير تفريق بين من تاب ومن لم يتب، وظاهر الأثر يدل على رد شهادة كل من أقيم عليه حد من الحدود، سواء أكان القذف أم غيره، لكن الأدلة قامت على قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه، ولم تقم على من تاب من القذف، فبقي على عموم لفظه في القاذف تاب أو لم يتب (1) .
ونوقش هذا الاستدلال: أن هذا الأثر محمول على من لم يتب، فإن شهادته مردودة؛ لفسقه، وأما إذا تاب فإن شهادته مقبولة؛ لزوال
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص (2 \ 280) بتصرف.(66/289)
المانع وهو الفسق، وقد قامت الأدلة على قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، ومن ذلك ما ورد أن عمر رضي الله عنه لما جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة رضي الله عنه استتابهم، فرجع اثنان فقبل شهادتهما، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه أن يرجع فرد شهادته.
وفي رواية أخرى قال لأبي بكرة: تب تقبل شهادتك، أو إن تبت قبلت شهادتك.
قال البيهقي بعد ذكره للأثر السابق: " وهذا إنما أراد به قبل أن يتوب، فقد روينا عنه أنه قال لأبي بكرة رضي الله عنه: تب تقبل شهادتك، وهذا هو المراد بما عسى أن يصح فيه من الأخبار، كما هو المراد بسائر من ردت شهادته معه والله أعلم " (1) .
5 - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب" (2) .
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن هذا الأثر ضعيف، والضعيف لا يحتج به (3) قال ابن حجر:
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب من قال: لا تقبل شهادته (10 \ 156) .
(2) المحلى (9 \ 431) .
(3) المحلى (9 \ 431) ، وفتح الباري (5 \ 257) .(66/290)
". . . وهو منقطع، ولم يصب من قال: إن سنده قوي " (1) .
ب- أن الأظهر عن ابن عباس رضي الله عنهما خلاف ذلك (2) .
6 - ما روي عن قيس بن عاصم (ت 20 هـ) رضي الله عنه قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال له: أشهد غيري، فإن المسلمين قد فسقوني (3) ونوقش هذا الاستدلال:
أ- بأن هذا الأثر لم يصح فلم يفسق المسلمون أبا بكرة، بل تلقوا روايته بالقبول بالإجماع (4) قال ابن حزم (ت 456 هـ) : " وأما الرواية عن أبي بكرة أن المسلمين فسقوني، فمعاذ الله أن يصح، ما سمعنا أن مسلما فسق أبا بكرة، ولا امتنع من قبول شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الدين " (5) .
وقال ابن القيم: " وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة
__________
(1) فتح الباري (5 \ 257) .
(2) المحلى (9 \ 431) .
(3) المحلى (9 \ 431) .
(4) المحلى (9 \ 431) ، وإعلام الموقعين (1 \ 127) ، وفتح الباري (5 \ 257) .
(5) المحلى (9 \ 431) .(66/291)
رضي الله عنه " (1) .
ب- أن هذا الأثر إذا صح، فهو محمول على عدم قبول شهادة من لم يتب من القذف دون روايته؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز شهادة من تاب من الذين شهدوا على المغيرة، وأبطل شهادة من لم يتب، وهو أبو بكرة رضي الله عنه، لأنه أقام على قوله في المغيرة رضي الله عنه، فلم يقبل عمر رضي الله عنه شهادته، وكان أفضل القوم، فقد عاد مثل النصل من العبادة (2) .
قال ابن قدامة: " إن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة، وقال له: تب أقبل شهادتك. وروايته مقبولة، ولا نعلم خلافا في قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته " (3) فهذا الأثر إذا صح لا يدل على رد شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وهو محل النزاع، وإنما يدل على أن المحدود في القذف إذا أصر على قوله ولم يتب، لا تقبل شهادته، وهو محل اتفاق.
واستدلوا من المعقول بما يأتي:
7 - أن رد شهادة القاذف من تمام حد القاذف، وأصل الحد لا يسقط
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 127) .
(2) الاستذكار لابن عبد البر (22 \ 39 و 40 و41) .
(3) المغني لابن قدامة (14 \ 191) .(66/292)
بالتوبة، فما هو متم له لا يسقط كذلك، فالحد منصوص عليه في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (2) معطوف على الجلد، والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا كان المعطوف عليه حدا كان المعطوف من تمام الحد (3) .
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ - أن رد الشهادة ليس من تمام الحد، فالحد تم باستيفاء عدده، ورد الشهادة عقوبة أخرى غير الجلد، وجبت بسبب القذف، فالحد ورد الشهادة حكمان للقذف متغايران (4) .
فالحد منصوص عليه بقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (5) ورد الشهادة بقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (6) وهو معطوف على الجلد، والمعطوف غير المعطوف عليه، لأن العطف يقتضي المغايرة.
ب - أن الله سبحانه وتعالى علق على القذف ثلاثة أحكام: الحد، ورد الشهادة، والتفسيق. ورد الشهادة سببه الفسق، فإذا زال بالتوبة زال رد الشهادة؛ لزوال علته (7) .
قال الفخر الرازي: " إن قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (8)
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة النور الآية 4
(3) المبسوط للسرخسي (16 \ 106 - 127) ، وفتح القدير (7 \ 402) .
(4) إعلام الموقعين (1 \ 128) بتصرف.
(5) سورة النور الآية 4
(6) سورة النور الآية 4
(7) أحكام القرآن لابن العربي (3 \ 1336- 1337) .
(8) سورة النور الآية 4(66/293)
عقيب قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1) يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقا؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا، وكونه فاسقا يناسب أن لا يكون مقبول الشهادة. إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقا، ودل الاستثناء على زوال الفسق، فقد زالت العلة، فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة (2) .
8 - أن ما تعلق بالقذف من حقوق الآدميين لم يسقط بالتوبة كالجلد، والشهادة من حقوق الآدميين فلا تسقط بالتوبة (3) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الشهادة من الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الآدميين (4) ، وحق الله فيها غالب، لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (5) والحكم للغالب.
9 - أن قبول الشهادة ولاية قد زالت بالقذف، وجعلت العقوبة فيها في محل الجناية، وهو اللسان؛ تغليظا لأمرها (6) ، وذلك مشروع، كحد السرقة (7)
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي (23 \ 163) .
(3) الحاوي للماوردي (17 \ 25) .
(4) الحاوي للماوردي (17 \ 28) .
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) أحكام القرآن لابن العربي (3 \ 1337) ، والمبسوط للسرخسي (16 \ 127) .
(7) المبسوط للسرخسي (16 \ 127) .(66/294)
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن كون العقوبة في محل الجناية غير لازم، فالعقوبة تكون في محل الجناية، كحد السرقة، وتكون في غير محل الجناية، كحد الشارب والزاني، فإن العقوبة فيهما في غير محل الجناية (1) .
ب- أن جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها (2) .
أدلة القول الثاني:
أولا: أدلة القول الثاني على قبول شهادة القاذف في غير القذف بعد الحد والتوبة: استدل أصحاب القول الثاني على ذلك بما استدل به أصحاب القول الثالث (3) .
ثانيا: أدلة القول الثاني على عدم قبول شهادة القاذف في القذف: قالوا: إن شهادة القاذف المحدود لا تقبل في القذف وإن تاب؛ لأنه متهم في الرغبة، على أن يكون غيره مثله في المعرة، لتهون عليه المصيبة (4) ، فإن العادة فيمن فعل قبيحا أنه يجب أن يكون له
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 128) .
(2) إعلام الموقعين (1 \ 128) .
(3) انظر ص (297 - 310) من هذا البحث.
(4) حاشية الدسوقي (4 \ 173) ، كفاية الطالب وحاشية العدوي بهامشها (4 \ 124) .(66/295)
نظراء (1) ، والمتهم لا تقبل شهادته فيما اتهم به.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن عموم الأدلة من الكتاب والسنة يدل على عدم التفريق بين ما حد فيه وما لم يحد فيه، فإن الأدلة تدل على أن من فعل ما يفسق به ثم تاب، فإن التوبة تزيل عنه الفسق، ويصير عدلا، والعدل مقبول الشهادة.
ومن أصرح الأدلة في هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) فدلت هذه الآية بعمومها على قبول شهادة القاذف إذا تاب من غير تفريق بين ما حد فيه وغيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين الأحكام المترتبة على القذف، ومنها رد الشهادة، ثم استثنى بعد الذين تابوا، والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة. فيكون رد شهادة القاذف يزول بالتوبة؛ لأنه داخل في الاستثناء، وتعود إليه أهلية الشهادة التي فقدها بسبب القذف، من غير فرق بين ما حد فيه وما لم يحد فيه، لأن الآية لم تفرق بينهما، والأصل في دلالة الكتاب والسنة، أن تحمل على ما اقتضته من عموم أو خصوص، حتى
__________
(1) المغني لابن قدامة (14 \ 187) .
(2) سورة النور الآية 4
(3) سورة النور الآية 5(66/296)
يرد ما يغير ذلك.
ب- أن التفريق في قبول شهادة القاذف في غير القذف وردها في القذف لا دليل عليه، فالقاذف إما أن يكون عدلا، فيقبل في كل شيء كسائر العدول، أو غير عدل، فلا يقبل في شيء (1) كسائر المجروحين.
__________
(1) المحلى لابن حزم (9 \ 432) .(66/297)
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب القول الثالث بالكتاب والسنة والمعقول.
أولا: الكتاب:
أ- استدلوا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وجه الاستدلال: دلت هذه الآية على أن القاذف إذا تاب تقبل شهادته، لأن قوله تعالى: إلا الذين تابوا استثناء، والاستثناء إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض، ينصرف إلى جميع ما تقدم إلا ما قام الدليل عليه، وقد قام الدليل وهو الإجماع على أن الاستثناء لا ينصرف إلى الجلد، فيبقى ما عداه، وهو الفسق، ورد
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة النور الآية 5(66/297)
الشهادة على هذا الأصل (1) .
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- بأن الاستثناء الوارد على جمل معطوف بعضها على بعض، يقصر على ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدمه (2) إلا بدليل، فالاستثناء الوارد في قوله تعالى: إلا الذين تابوا يقصر على الجملة التي تليه، وهي قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق، ولا تقبل شهادته (4) .
قال الجصاص: ". . . والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه، من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة، أن حكم الاستثناء في اللغة، رجوعه إلى ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة، والدليل عليه قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} (5) {إِلَّا امْرَأَتَهُ} (6) فكانت المرأة مستثناة من المنجين؛ لأنها تليهم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (7) في معنى الاستثناء، وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء، لأنه
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (3 \ 1339) ، وأحكام القرآن للجصاص (3 \ 374) .
(2) تيسير التحرير (1 \ 302) .
(3) سورة النور الآية 4
(4) فتح القدير للشوكاني (4 \ 9) ، وأحكام القرآن للجصاص (3 \ 374) .
(5) سورة الحجر الآية 59
(6) سورة الحجر الآية 60
(7) سورة النساء الآية 23(66/298)
يليهن، فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا، من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه (1) .
ب- أن قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (2) كل واحدة منهما أمر، وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) خبر، والاستثناء داخل عليه، فوجب أن يكون موقوفا عليه دون الرجوع إلى الأمر، وذلك لأن الواو في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) للاستقبال، إذ غير جائز أن يكون للجميع؛ لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد الأمر والخبر (5) .
ج- أن الإجماع انعقد على أن التوبة لا تسقط الجلد، وأن الاستثناء لا يرجع إليه، فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله؛ لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف، فمن حيث لم يرجع الاستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة، وأما الفسق فهو خبر ليس بأمر فافترقا (6) .
وأجيب عن هذه المناقشات بما يلي:
1 - الإجابة عن المناقشة الأولى أن واو العطف لا تقتضي
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 374) .
(2) سورة النور الآية 4
(3) سورة النور الآية 4
(4) سورة النور الآية 4
(5) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 376) .
(6) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 378) .(66/299)
الترتيب، وإنما هي لمطلق الجمع. فقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) صار الجميع كأنه ذكر معا، لا تقدم لبعضها على بعض، فلما دخل عليها الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من بعض؛ إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة، فوجب رجوعه إلى الكل (2) وهذا الاستثناء موجود في كتاب الله في أكثر من آية.
قال ابن العربي: " وقال أبو حنيفة: إن الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور. والصحيح رجوعه إلى الجميع لغة، وشريعة، ألا ترى قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) وهذه الآية أختها ونظيرها في المقصود (5)
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي (23 \ 162) .
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 34
(5) أحكام القرآن لابن العربي (3 \ 1339، 1340) .(66/300)
وقال الشوكاني: وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها، مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم واحد، خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة بالقيد المتصل بها، أظهر من تقييده ما قبلها، ولهذا كان مجمعا عليه، وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهرا (1) .
2 - الإجابة عن المناقشة الثانية:
أ- أن الجمل الثلاث. بمجموعهن جزاء الشرط، فكأنه قيل: من قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين، ولا مردودين ولا مفسقين (2) .
ب- أن الجلد ورد الشهادة حكمان، والفسق تسمية، وعود الاستثناء بالتوبة إلى الحكم أولى من عوده إلى الاسم، لأن التوبة تغير الأحكام ولا تغير الأسماء (3) .
ج- أن الجلد ورد الشهادة حكمان والفسق علة، والاستثناء يرجع إلى الحكم دون العلة (4)
__________
(1) فتح القدير للشوكاني (4 \ 9) .
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي (23 \ 162) .
(3) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(4) الحاوي للماوردي (17 \ 26) .(66/301)
د- أن القول بأن الواو للاستقبال لا للعطف، وأن المعنى انقطع عند قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1) وأن قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (3) مستأنف، فيكون الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة، يجعل الآية لم تأت بمزيد فائدة؛ لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية، فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا، ورده إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة، إذ يجوز أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة، فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في سمع ولا عقل؛ لأن سمة الفسق ذم وعقوبة، وغير جائز أن يستحق التائب الذم، وليس كذلك بطلان الشهادة، فالأعمى والعبد غير جائزي الشهادة، لا على وجه الذم والتعنيف، فكان رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى من رجوعه إلى الفسق؛ لإثبات فائدة الآية (4) .
الإجابة عن المناقشة الثالثة:
أ- أن الاستثناء في اللغة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض، عاد إلى جميعها ولم تختص ببعضها، كقولهم: زينب طالق وسالم حر إن شاء الله، يعود الاستثناء إليهما، ولا يختص بأقربهما، فلا تطلق زينب كما لم يعتق سالم (5) ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل، فالاستثناء في الآية لم يعد إلى الجلد، لدليل خصه وهو أنه حق آدمي،
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة النور الآية 4
(3) سورة النور الآية 5
(4) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 277) ، وإعلام الموقعين (1 \ 124 - 125) .
(5) الحاوي للماوردي (17 \ 26) ، والمغني (14 \ 191) .(66/302)
فبقي ما عداه على حكم أصله (1) .
ب- أن الفسق علة في رد الشهادة، وارتفاع العلة موجب لرفع حكمها، وليس الفسق علة في وجوب الحد، فلذلك ارتفع رد الشهادة، ولم يرتفع وجوب الحد (2) .
ج- أن ترك العمل به في حق البعض، لا يوجب ترك العمل به في الباقي (3) .
2 - قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (4) .
وجه الاستدلال: دلت الآية على أن التوبة توجب القبول والعفو، ومن قبلت توبته وعفي عن سيئته، فهو مقبول الشهادة (5) .
ولذلك قال الشعبي (ت 104هـ) : " يقبل الله توبته، ولا تقبلوا شهادته " (6) .
3 - قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (7) وقوله تعالى:
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 26) .
(2) الحاوي للماوردي (17 \ 26) .
(3) التفسير الكبير للرازي (23 \ 162) .
(4) سورة الشورى الآية 25
(5) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(6) المصنف لعبد الرزاق (8 \ 363) ، والسنن الكبرى للبيهقي (10 \ 153) .
(7) سورة الطلاق الآية 2(66/303)
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) .
وجه الاستدلال: دلت الآيتان بعمومهما على قبول شهادة القاذف إذا تاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نشهد العدل من رجالنا، والتائب من القذف عدل من رجالنا، فيدخل في عموم الآيتين.
4 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) .
وجه الاستدلال: دلت الآية على قبول شهادة التائب من القذف؛ لأن التائب يحبه الله، ومن أحبه الله فهو عدل (3) ، والعدل مقبول الشهادة.
ثانيا: السنة:
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه من السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » .
وجه الاستدلال بالحديث:
دل هذا الحديث بعمومه على قبول شهادة القاذف إذا تاب؛ لأن
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) الذخيرة للقرافي (10 \ 217) .
(4) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف (10 \ 154) وقال عنه البيهقي: روي من أوجه ضعيفة بهذا اللفظ.(66/304)
الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن لا ذنب له مقبول الشهادة، فكذلك التائب من القذف يجب أن يكون مقبول الشهادة.
قال ابن القيم: " قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلا يتاب منه، ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » وعند هذا يقال: توبته من القذف تنزل منزلة من لم يقذف، فيجب قبول شهادته (2) ونوقش: بأنه حديث ضعيف، والضعيف لا يحتج به (3) .
ثالثا: استدلوا بالمعقول بما يلي:
1 - أن الموجب لرد شهادة القاذف، إما أن يكون نفس القذف، أو إقامة الحد، أو سمة الفسق. فأما القذف فلا يكون موجبا لرد الشهادة؛ لأنه خبر يحتمل الصدق والكذب، فباعتبار الصدق لا يكون موجبا لرد الشهادة، وكذلك باعتبار الكذب، فلا تأثير للكذب في رد الشهادة على التأبيد. ولا يجوز أن يكون إقامة الحد موجبا لرد الشهادة؛ لأنه من فعل الغير، ولأن حد القذف كغيره من الحدود، وإقامة سائر
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف (10 \ 154) وقال عنه البيهقي: روي من أوجه ضعيفة بهذا اللفظ.
(2) إعلام الموقعين (1 \ 126) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي (10 \ 154) .(66/305)
الحدود لا توجب رد الشهادة على التأبيد، ولأن الحد يقام من وجه تطهيرا للمحدود فلا يصلح أن يكون سببا لرد الشهادة على التأبيد، فإذا بطل الوجهان صح أن الموجب لرد الشهادة سمة الفسق، وقد ارتفع بالتوبة، بدليل قبول خبره في الديانات (1) ، فتقبل شهادته لزوال العلة الموجبة لردها (2) .
2 - أن القذف افتراء من القاذف على عبد من عباد الله، فلا يكون أعظم من الافتراء على الله تعالى، وهو الكفر، وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإن الكافر إذا أسلم تقبل شهادته، فكذلك ما دونه وهو القذف لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته من باب أولى (3) .
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام، فإن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد، والقاذف بالزنا يجب عليه الحد، فغلظ أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر الكفر في أحكام الدنيا، وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم (4) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي (16 \ 125، 126) .
(2) إعلام الموقعين (1 \ 125) .
(3) المبسوط للسرخسي (16 \ 126) .
(4) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 279) .(66/306)
3 - أن الشهادة إذا ردت بسبب الفسق قبلت بزواله، والقاذف ردت شهادته بسبب الفسق؛ لأن القذف كبيرة من الكبائر، يفسق من ارتكبها، وبالتوبة زال عنه الفسق، فيجب أن تقبل شهادته قياسا على جميع ما يفسق به (1) .
قال ابن القيم: (قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر، والسحر، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت شهادته اتفاقا، فالتائب من القذف أولى بالقبول) (2) .
4 - أن القذف نسبة الغير إلى الزنا، فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنا، وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإن الزاني إذا تاب قبلت شهادته، فكذلك ما دونه وهو القذف لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته (3) .
5 - أن شهادة القاذف إذا تاب قبل الحد مقبولة بالإجماع (4) ، ومن قبلت شهادته بالتوبة قبل الحد، قبلت بعد الحد؛ قياسا على سائر الحدود (5) .
6 - أن القاذف محدود في قذف، فوجب أن تقبل شهادته بعد
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 27) بتصرف.
(2) إعلام الموقعين (1 \ 125) .
(3) المبسوط للسرخسي (16 \ 126) ، والحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(4) بدائع الصنائع (6 \ 271) ، وإعلام الموقعين (1 \ 122) .
(5) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .(66/307)
التوبة، قياسا على الذمي إذا حد في قذف ثم أسلم (1) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الذمي إذا أقيم عليه حد القذف سقطت شهادته وتم بها حده؛ لأنه كان من أهل الشهادة، ثم بالإسلام استفاد شهادة لم تكن موجودة عند إقامة الحد، وهذه الشهادة لم تصر مردودة، وبها فارق المسلم المحدود في القذف، فإنه لم يستفد عدالة لم تكن موجودة من قبل، وعدالته مجروحة بإقامة الحد عليه فلا تقبل شهادته بحال (2) .
7 - أن القاذف لما تاب عاد إلى العدالة في قبول روايته، فوجب أن يعود إليها في قبول شهادته (3) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن هناك فرقا بين الشهادة والرواية، فالشهادة يطلب فيها مزيد تثبت، ويشترط فيها العدد والحرية وغير ذلك، بخلاف الرواية (4) .
إجماع الصحابة:
استدل أصحاب القول الثالث بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما جلد الذين شهدوا على
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(2) المبسوط للسرخسي (16 \ 128) ، وأحكام القرآن للجصاص (3 \ 278) .
(3) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(4) فتح الباري (5 \ 256) .(66/308)
المغيرة رضي الله عنه بالزنا قال لهم: توبوا تقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان، فقبل شهادتهما، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه فلم يقبل شهادته.
وهو بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم، فإن القضية شاعت وانتشرت في العراق، والحجاز، وغيرها من الأقطار، وهم في ذلك الوقت كثير، ولم يخالف منهم أحد فكان إجماعا.
قال الماوردي: " ويدل عليه إجماع الصحابة، وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما جلد أبا بكرة رضي الله عنه في شهادته على المغيرة رضي الله عنه بالزنا، قال له: تب أقبل شهادتك، فقال: لا أتوب، وكان هذا القول منه بمشهد من الصحابة؛ لأنها قصة اجتمعوا لها فما أنكر قوله أحد منهم، فدل على إجماعهم " (1) .
وقال ابن قدامة: " ولنا. . . إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي بكرة رضي الله عنه: تب أقبل شهادتك، ولم ينكر ذلك منكر، فكان إجماعا " (2) .
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 27) .
(2) المغني لابن قدامة (14 \ 189) .(66/309)
وقال ابن القيم: " وقد قبل شهادته- يعني القاذف- بعد التوبة عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف " (1) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قد ورد الخلاف عن بعض الصحابة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب"، (2) وبما أن الخلاف ورد عن بعض الصحابة فلا إجماع.
وأجيب: بأن هذا الأثر لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند يعتمد عليه (3) ، والأظهر عنه رضي الله عنه قبول شهادة القاذف إذا تاب (4) وبما أنه لم يثبت فلا يقدح بصحة الإجماع.
الترجيح: على ضوء ما سبق، من ذكر أقوال العلماء، وأدلتهم، وما ورد عليها من مناقشات، يتبين رجحان القول الثالث، وهو أن شهادة القاذف المحدود تقبل إذا تاب، وذلك لقوة أدلتهم، فقد سلم بعضها من ورود المناقشات عليها، وما ورد على البعض الآخر، فقد أجيب عنه بما يدفعه.
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 125) .
(2) سبق تخريجه ص (290) من هذا البحث
(3) المحلى لابن حزم (9 \ 431) ، وفتح الباري (5 \ 257) .
(4) المحلى لابن حزم (9 \ 431) .(66/310)
وضعف أدلة المخالفين لهم، فقد ورد عليها من الاعتراضات، والمناقشات، ما جعلها لا تقوى على معارضة أدلة القول الثالث. وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل عند مناقشة أدلة جميع الأقوال. والله أعلم بالصواب.(66/311)
المسألة الثانية: شهادة القاذف قبل الحد والتوبة
اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحد عليه وقبل التوبة على قولين:
القول الأول: أن شهادة القاذف مقبولة ما لم يحد. وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
القول الثاني: أن شهادة القاذف قبل الحد مردودة ما لم يتب، فإذا تاب قبلت، وهذا مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وقول الليث ابن سعد، وعبد الملك بن الماجشون، من المالكية (5) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي (16 \ 128) وبدائع الصنائع (6 \ 271) .
(2) حاشية الدسوقي (4 \ 173) ، وكفاية الطالب الرباني (4 \ 124) والاستذكار (24 \ 44، 45) .
(3) الحاوي للماوردي (17 \ 25) .
(4) كشاف القناع (6 \ 425، 426) .
(5) الاستذكار (22 \ 45) .(66/311)
الأدلة: أدلة القول الأول:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
وجه الاستدلال: دلت الآية على جواز شهادة القاذف قبل إقامة الحد عليه؛ لأن (ثم) في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (2) للتراخي في حقيقة اللغة، فاقتضى ذلك أن القاذف متى أتى بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكون غير فاسق، وإنما يحكم بفسقه متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود، فمن حكم بفسقه بنفس القذف، فقد خالف حكم الآية (3) .
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الآية تدل على أن شهادة القاذف ترد بشرطين:
الأول: القذف، والثاني: عدم إقامة الشهود، وهما متحققان في القاذف قبل إقامة الحد عليه.
فالأول: متحقق بنفس القذف، والثاني: متحقق حتى يأتي
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة النور الآية 4
(3) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 271، 272) .(66/312)
بالشهود؛ لأن القاذف قبل ذلك في حكم العاجز عن إقامة الشهود؛ لأن الأصل عدم الشهود، فيبقى على هذا الأصل ولا ينتقل عنه إلا بإقامة الشهود.
الوجه الثاني: أن الآية دلت على أن القذف يتعلق به ثلاثة أحكام: الجلد، والشهادة، والفسق، والجلد يتعلق بنفس القذف لا غير، فكذلك رد الشهادة؛ لأنها عقوبة للقاذف بسبب القذف كالجلد (1) .
2 - ما رواه الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدودا في فرية (2) »
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن القاذف مقبول الشهادة حتى يحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين عدول بعضهم على بعض، ثم استثنى منهم المحدود في القذف، فدل ذلك على أن القاذف قبل الحد، باق على حكم الأصل وهو قبول الشهادة.
ونوقش: أن الحديث بهذا السند ضعيف، والضعيف لا يحتج به، وقد سبق الكلام عليه مفصلا (3)
__________
(1) الحاوي للماودي (17 \ 25) وإعلام الموقعين (1 \ 128) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، باب من قال: لا تجوز شهادته إذا تاب (6 \ 172) .
(3) انظر: ص (288) من هذا البحث.(66/313)
3 - ما ورد أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: "الآن يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين".
وجه الاستدلال: دل هذا الأثر على أن شهادة القاذف لا تبطل قبل إقامة الحد عليه؛ لأن بطلان الشهادة علق على إقامة الحد، وإذا لم يوجد المعلق عليه، لم يوجد المعلق.
ونوقش: سبق مناقشة هذا الأثر (1) .
4 - أن رد شهادة القاذف من تمام حد القذف، وتكملته، فهو كالصفة، والتتممة للحد، فلا يتقدم عليه (2) .
ونوقش: بأن رد الشهادة ليس من تمام الحد، فإن الحد تم باستيفاء عدده، وسبب الحد نفس القذف، ورد الشهادة حكم آخر غير الحد، أوجبه الفسق بالقذف، فالقذف أوجب ثبوت الفسق، الذي كان سببا في رد الشهادة وحصول الحد، وهما حكمان متغايران (3) .
5 - أن إقامة الحد على القاذف، ينقص حاله عند الناس، وتقل
__________
(1) انظر: ص (285) من هذا البحث
(2) المبسوط (16 \ 126) ، وإعلام الموقعين (1 \ 128) .
(3) إعلام الموقعين (1 \ 128) .(66/314)
حرمته فترد شهادته، وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة، غير منتهكها (1) فتقبل شهادته.
ويناقش هذا الدليل بما يلي:
أ - بأن دعوى قيام حرمة القاذف بعد القذف وقبل الحد غير مسلم بها، بل إن حرمة القاذف انتهكت وسقطت عدالته بسبب ارتكابه كبيرة من الكبائر، وهي القذف، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف، أو بقيام البينة أو يتوب.
ب- أن القول بأن حال القاذف بعد القذف وقبل الحد أكمل من حاله بعد الحد، دعوى غير مسلم بها، بل إن حال القاذف قبل الحد أسوأ من حاله بعد الحد؛ لأن الحدود كفارات لأهلها (2) ، فرد شهادته قبل الحد أولى من ردها بعد الحد؛ لأنه بالحد حصل له تكفير وتطهير. وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: " هو قبل أن يحد شر منه بعد أن يحد، لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تردونها في أحسن حالاته، وتقبلونها في شر حالاته " (3) ج - أن جلد القاذف تطهير وتكفير له؛ لقوله صلى الله عليه
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 128) .
(2) الاستذكار (12 \ 45) ، والحاوي للماوردي (17 \ 25) .
(3) الأم للشافعي (8 \ 413) .(66/315)
وسلم: «. . . ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة له. . . (1) » ، فلم يجز أن يكون تكفير ذنبه موجبا لتغليظ حكمه (2) .
6 - أن القاذف قبل الحد لم يحكم بكذبه، فتقبل شهادته، وبعد الحد يصير محكوما بكذبه، والمتهم بالكذب لا شهادة له، فالمحكوم عليه بالكذب أولى (3) .
ونوقش: بأن القاذف محكوم عليه بالكذب قبل الحد إذا عجز عن الإتيان بالشهود، يقول الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (4) ، وهذا في حكم الشرع، وظاهر الأمر، لا في علم الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى رتب الحدود على حكمه الذي شرع في الدنيا، لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة (5) .
7 - أن القاذف قبل الجلد على أصل عدالته، وربما أقام البينة بما قال، أو اعترف له مقذوفه، فلا وجه لإسقاط عدالته، ورد
__________
(1) هذا جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها (3 \ 1333) .
(2) الحاوي للماودي (17 \ 25) .
(3) المبسوط للسرخسي (16 \ 128) .
(4) سورة النور الآية 13
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12 \ 203) .(66/316)
شهادته قبل إقامة الحد عليه (1) .
فحالة القاذف قبل الحد مترددة بين الكذب السالب للعدالة، وبن الصدق المصحح لها، فلا، يسقط يقين حاله. بمحتمل مقاله (2) .
فلهذا تقبل شهادته حتى يقام عليه الحد؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد تبين كذبه؛ لعجزه عن إثبات ما قال.
ونوقش: بأن القاذف يفسق وتسقط عدالته بالقذف؛ لأن القذف من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف بما قذف به، أو بقيام البينة (3) .
أدلة القول الثاني:
أولا: أدلة القول الثاني على رد شهادة القاذف قبل الحد والتوبة:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
__________
(1) الاستذكار لابن عبد البر (22 \ 44، 45) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (3 \ 1340) .
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12 \ 182) .
(4) سورة النور الآية 4(66/317)
وجه الاستدلال: دلت هذه الآية على أن القذف يتعلق به ثلاثة أحكام " وهي: الجلد ثمانون جلدة، ورد الشهادة، والفسق المسقط للعدالة. وأن الجلد متعلق بالقذف لا غير، وإذا تعلق الجلد بالقذف، وجب أن يكون ما ضم إليه وقرن به وهو رد الشهادة والتفسيق متعلقا به كالجلد (1) .
ونوقش:
بأن شهادة القاذف لو كانت تبطل بنفس القذف، لما كان تركه إقامة البينة على الزنا مبطلا لشهادته؛ لأنها قد بطلت قبل ذلك (2) .
وأجيب:
بأن بطلان شهادة القاذف معلق بشرطين لا بد من تحققهما جميعا
أحدهما: الرمي بالزنا
والآخر: عدم الإتيان بالشهود الذين يحقق هم قذفه
وهذان الشرطان متحققان بعد القذف حتى يأتي بأربعة شهداء.
2 - أن رد شهادة القاذف يتعلق بفعله لا بفعل غيره، والقذف من فعله، والجلد من فعل غيره، فيجب أن يتعلق رد الشهادة بالقذف لا بالجلد (3) .
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 25) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (3 \ 272) .
(3) الحاوي للماوردي (17 \ 25) .(66/318)
3 - أن من فعل جريمة من الجرائم الموجبة للحدود يفسق بفعله للجريمة، لا بالحد المترتب على فعل الجريمة، فالسارق فسق بالسرقة دون القطع، والزاني بالزنا دون الحد، فكذلك يجب أن يكون القاذف مثلهما، فيكون فسقه بالقذف لا بالحد، كسائر الحدود (1) وإذا كان فسقه بالقذف، يجب أن يكون رد شهادته به، لا بالجلد.
4 - أن الحكم برد شهادة القاذف يتم بعجزه عن إثبات ما قذف به، لا بإقامة الحد عليه؛ لأن الحد تطهير له، فلا يتعلق به رد شهادة كالكفارة (2) .
ونوقش:
بأن الحكم على القاذف لا يتم إلا بالجلد، أما قبل ذلك فلا يحكم عليه بالقذف؛ لأنه لو أقر المقذوف. مما قذف به، أو ثبت القذف بالشهود، لسقط عن القاذف الجلد، وخرج عن كونه قاذفا (3) ، وذلك يمنع تفسيقه، وإذا امتنع تفسيقه لم ترد شهادته.
وأجيب:
أن القول بعدم تحقق القذف إلا بعد كمال الجلد لا يصح؛ لأن
__________
(1) الحاوي للماوري (17 \ 25) .
(2) المنتقى للباجي (5 \ 207) .
(3) المنتقى للباجي (5 \ 207) .(66/319)
الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه، فلا يستوفى قبل تحقق القذف، وكيف يجوز إقامة حد قبل تحقق سببه، ويصير محققا بعده، هذا لا يصح (1) .
5 - أن رد شهادة القاذف يجب أن يثبت بوجود القذف الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد؛ لأن القذف هو الذنب الذي يستحق به العقوبة، وتثبت به المعصية الموجبة للجلد، وما أوجب الجلد أوجب رد الشهادة، لأن الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف، فيثبتان جميعا به، وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر (2) .
6 - أن القاذف ثبت فسقه بنفس القذف، لما فيه من هتك ستر العفة على المسلم، ولهذا لزمه الحد به، والحد لا يجب إلا بارتكاب جريمة موجبة للفسق (3) ، والفاسق لا يكون أهلا للشهادة.
ثانيا: أدلة القول الثاني على قبول شهادة القاذف بعد التوبة وقبل الحد:
استدل أصحاب هذا القول بما استدلوا به على قبول شهادة القاذف بعد الحد والتوبة؛ لأن أصحاب هذا القول يرون أن شهادة القاذف ترد بسبب القذف؛ لأن القاذف يفسق بالقذف، وتقبل بعد
__________
(1) المغني لابن قدامة (14 \ 19) .
(2) المغني لابن قدامة (14 \ 190، 191) .
(3) المبسوط للسرخسي (16 \ 126) .(66/320)
التوبة؛ لأن التوبة تزيل الفسق فيزول حكم رد الشهادة؛ لزوال العلة الموجبة لرد الشهادة، وقد سبق ذكر الأدلة ومناقشتها (1) .
الترجيح:
على ضوء ما سبق من ذكر أقوال العلماء وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشات، يتبين رجحان القول الثاني، وهو أن شهادة القاذف قبل الحد مردودة ما لم يتب، وذلك لقوة أدلتهم، فقد سلم جلها من الاعتراضات، والمناقشات، وما ورد على بعضها فقد أجيب عنه. بما يدفعه.
وضعف أدلة القول الأول، بما ورد عليها من مناقشات، واعتراضات، جعلتها لا تقوى على معارضة أدلة القول الثاني. وقد سبق تفصيل ذلك عند مناقشة أدلة الفريقين. والله أعلم بالصواب.
__________
(1) انظر: ص (297) من هذا البحث(66/321)
المبحث الثالث: أثر التوبة على عقوبة التفسيق
اتفق: العلماء على أن القاذف إذا تاب من قذفه، فإن صفة الفسق تزول عنه.
قال ابن حزم: ". . . . فإن سقط بالتوبة بعد الجلد، وما عدا الجلد؛(66/321)
لأن الجلد قد نفذ، فلا يسقط بعده بالتوبة إلا الفسق. . . " (1) .
وقال ابن قدامة: ". . . فإن تاب لم يسقط عنه الحد وزال الفسق بلا خلاف. . . " (2) .
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
وجه الاستدلال:
دلت الآيتان على أن القاذف إذا تاب بعد قذفه، فإن الفسق يزول عنه؛ لأن الآية تضمنت الحكم على القاذف بالفسق، ثم استثنى من ذلك الذين تابوا.
قال القرطبي: " تضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع. . . وعامل في فسقه بإجماع. . . " (5)
__________
(1) المحلى (11 \ 130) .
(2) المغني (9 \ 197) .
(3) سورة النور الآية 4
(4) سورة النور الآية 5
(5) تفسير القرطبي (12 \ 178) .(66/322)
الفصل الثاني: صفة توبة القاذف
اختلف العلماء في صفة توبة القاذف التي تزيل عنه الفسق على خمسة أقوال:
القول الأول: أن توبة القاذف إكذاب نفسه، فيقول: كذبت فيما قلت. وهذا مذهب الحنفية (1) وقول في مذهب الشافعية، وهو منصوص الإمام الشافعي (2) ومذهب الحنابلة (3) وهو مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (4) رضي الله عنه، وقول عطاء، وسعيد ابن المسيب، والشعبي، والزهري، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وأبي عبيد (5) .
القول الثاني: أن توبة القاذف تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على أن لا يعود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه. وهذا مذهب المالكية (6) واختيار ابن جرير الطبري (7) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين (4 \ 479) وأحكام القرآن للجصاص (2 \ 277) .
(2) الحاوي للماوردي (17 \ 28) والمهذب (2 \ 423) ، وروضة الطالبين (11 \ 248) .
(3) معونة أولي النهي (9 \ 375) ، والإنصاف (12 \ 59، 60) .
(4) الاستذكار لابن عبد البر (22 \ 39) .
(5) الاستذكار لابن عبد البر (22 \ 41، 42) .
(6) القوانين الفقهية ص (264) ، والذخيرة للقرافي (10 \ 221) ، والمنتقى للباجي (5 \ 207) .
(7) تفسير ابن جرير الطبري (17 \ 108، 109) .(66/323)
القول الثالث: أن توبة القاذف، تكون بقوله: قذفي باطل، وأنا نادم عليه، ولا أعود إلى مثله، ولا يقول: إني كنت كاذبا. وهذا مذهب الشافعية (1) .
القول الرابع: أن القذف إن كان سبا، فالتوبة منه إكذاب نفسه، وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول: القذف حرام وباطل، ولا يقول: إني كنت كاذبا. وهذا وجه في مذهب الشافعية (2) وقول القاضي أبي يعلى من الحنابلة.
فأصحاب هذا القول يفرقون بين القذف على سبيل السب والإيذاء، والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود (3) القول الخامس: أن القاذف من علم من نفسه الصدق فيما قذف به، فتوبته الاستغفار، والإقرار ببطلان ما قاله وتحريمه، وأنه لا
__________
(1) المهذب (2 \ 423) ، ونهاية المحتاج (8 \ 308) ، والحاوي للماوردي (17 \ 28) .
(2) الحاوي للماوردي (17 \ 31، 32، 33) ، وروضة الطالبين (11 \ 248، 249) .
(3) روضة الطالبين (11 \ 248، 249) ، والحاوي للماوردي (17 \ 31، 32، 33) .(66/324)
يعود إلى مثله. وإن لم يعلم صدق نفسه، فتوبته إكذاب نفسه، سواء أكان القذف بشهادة أم سب. وهذا اختيار ابن قدامة (1) .
الأدلة: أدلة القول الأول:
1 - ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) «توبته إكذاب نفسه (3) » فدل هذا الحديث بنصه على أن توبة القاذف إكذاب نفسه.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث لم يثبت رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر عنه: " لم أره مرفوعا" (4) .
الوجه الثاني: أنه على فرض صحة رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه بهذا السند ضعيف؛ لأن فيه انقطاعا بين سعيد ابن المسيب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن سعيدا لم يثبت
__________
(1) المغني لابن قدامة (14 \ 191) .
(2) سورة النور الآية 5
(3) ذكره صاحب كنز العمال (2 \ 474) وقال: أن ابن مردويه أخرجه.
(4) تلخيص الحبير (4 \ 204) وقد بحثت عنه في مظانه فلم أقف عليه مرفوعا(66/325)
سماعه من عمر رضي الله عنه (1) .
2 - أن عرض المقذوف تلوث بكلام القاذف، وهذه معصية تعلق بها حق آدمي، فيجب عليه أن يتوب منها، ومن توبته أن يعلن كذبه بكلامه؛ لأن في ذلك رد اعتبار للمقذوف، وإزالة للتلوث الذي لحق بعرض المقذوف، فتكون توبة القاذف بإكذاب نفسه (2) .
3 - أن القاذف قذف بلسانه، فتوبته أن يكذب نفسه بلسانه، كالمرتد الذي كفره بلسانه، لا تقبل توبته حتى ينطق بالشهادتين بلسانه (3) .
4 - أن القاذف حكم بكذبه وفسقه في الظاهر، فلو لم يكذب نفسه، لكان مصرا على الكذب الذي فسق في الظاهر من أجله، فلهذا لا بد في توبته من أن يكذب نفسه، ليزول الوصف الذي فسق من أجله (4) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن القاذف قد يكون صادقا في قذفه، فتكذيبه
__________
(1) تهذيب التهذيب (4 \ 87) .
(2) المغني لابن قدامة (14 \ 191) ، ونهاية المحتاج (8 \ 308) .
(3) الاستذكار لابن عبد البر (22 \ 38) ، والحاوي للماوردي (17 \ 28) ، ونهاية المحتاج (8 \ 308) .
(4) الذخيرة للقرافي (10 \ 220) .(66/326)
لنفسه كذب، والكذب معصية، فكيف تشترط المعصية في التوبة، وهي ضدها، وتجعل المعاصي سبب صلاح العبد، وقبول شهادته، ورفعته؟ (1) .
الوجه الثاني: أن القاذف إن كان كاذبا في قذفه فهو فاسق، وإن كان صادقا فهو عاص؛ لأن تعيير الزاني بزناه معصية، فكيف ينفعه تكذيبه لنفسه، مع كونه عاصيا بكل حال؟ (2) .
وأجيب عن هاتين المناقشتين بما يلي:
أولا: الإجابة عن الوجه الأول:
أ- أن تكذيب الصادق نفسه، يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في نفس الأمر صادقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى سمى القاذف الذي لم يأت بأربعة شهداء كاذبا على الإطلاق (3) ، بقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (4) .
ب- أن الكذب إذا كان يتحقق به مصلحة ولا يترتب عليه مفسدة جائز، ككذب الرجل مع امرأته، أو للإصلاح بين الناس
__________
(1) الذخيرة للقرافي (10 \ 220) .
(2) الذخيرة للقرافي (10 \ 220) .
(3) المغني لابن قدامة (14 \ 192)
(4) سورة النور الآية 13(66/327)
ونحوه، وفاعل الجائز لا يعد عاصيا، ولا فاسقا، وتكذيب القاذف نفسه فيه مصلحة الستر على المقذوف، وتقليل الأذية، والفضيحة عند الناس، وقبول شهادة القاذف، وعوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة (1) .
فإذا أكذب القاذف نفسه مع كونه صادقا في قذفه فكذبه مباح، ولا يعد فاسقا، ولا عاصيا؛ لأنه يحقق مصلحة، ولا يترتب عليه مفسدة.
ثانيا: الإجابة عن الوجه الثاني:
أن القاذف إن كان كاذبا في قذفه، أو صادقا، ولم يأت بأربعة شهداء، فقد لوث عرض المقذوف بلسانه، وهذا معصية تعلق بها حق آدمي، ويجب عليه أن يتوب منها، ومن توبته أن يعلن كذبه بلسانه؛ لأن في ذلك رد اعتبار للمقذوف، وإزالة للتلويث الذي لحق بعرض المقذوف، وبهذا ينفعه تكذيبه لنفسه. بل يتعين عليه؛ ليعلن براءة عرض المقذوف، وتتحقق به توبته.
أدلة القول الثاني:
1 - استدلوا بعموم الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها
__________
(1) الذخيرة للقرافي (10 \ 220، 221) .(66/328)
مطلقة غير مقيدة، بأن التائب من الذنب لا بد أن يكذب نفسه (1) .
ومنها قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وقوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5) .
ويناقش:
بأن عموم الآيات والأحاديث الواردة في التوبة محمول على حقوق الله، وأما حقوق الآدميين فلا يكفي فيها مجرد التوبة؛ لأنها لا يخرج منها إلا بالأداء، أو الإبراء، سواء أكانت خالصة له، أم فيها حق الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض، أو مال، فليستحله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم (6) »
__________
(1) فتح القدير للشوكاني (4 \ 9)
(2) سورة النور الآية 5
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69
(5) سورة الفرقان الآية 70
(6) صحيح البخاري، كتاب الرقائق، باب القصاص يوم القيامة (7 \ 197) .(66/329)
والقذف حق آدمي، أو حقه فيه غالب، فلذلك لا بد أن يظهر القاذف مع توبته نقيض ما حصل منه، وهو الاعتراف بالكذب، جبرا لقلب المقذوف، وإزالة للعار الذي لحق بعرضه بسبب القذف.
2 - أن الله - تعالى ذكره- جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه، وعدم العودة إليه، والندم على ما سلف منه، واستغفار ربه منه، وهذا فيما كان بين العبد وبين ربه، دون ما كان من حقوق عباده، ومظالمهم فيما بينهم.
والقاذف إذا أقيم عليه الحد، أو عفي عنه، لم يبق عليه إلا توبته من جرمه الذي بينه وبين ربه، فسبيل توبته منه، سبيل توبته من سائر إجرامه (1) .
ويناقش:
بأن القاذف إذا أقيم عليه الحد، أو عفي عنه، يبقى بعد ذلك حق للمقذوف؛ لأن القاذف لوث عرض المقذوف، وأكسبه العار، فلا تتحقق توبته إلا أن يعلن كذبه؛ ليزيل ما لحق بعرض المقذوف، ويرد إليه اعتباره.
أدلة القول الثالث:
1 - قالوا: إن القذف معصية قولية، فيشترط في التوبة منها
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (17 \ 108، 109) .(66/330)
القول، كالتوبة من الردة، فيقول القاذف: قذفي باطل، وإني نادم على ما فعلت، ولا أعود إليه. أو يقول: ما كنت محقا في قذفي، وقد تبت منه، ونحو ذلك؛ ليندفع عار القذف الذي لحق بالمقذوف بسبب القذف، ولا يكلف أن يقول: كنت كاذبا؛ لجواز أن يكون صادقا في قذفه، فيصير بتكذيبه نفسه عاصيا، كما كان بقذفه عاصيا (1) .
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله: قذفي باطل، أو ما كنت محقا في قذفي صريح في إكذاب نفسه (2) .
وأجيب:
أ- بأن المحذور إلزام القاذف بالتصريح بكذبه لا بالتعريض به، وهذا فيه تعريض لا تصريح، فإنه لو قيل لمن قال شيئا: هذا باطل. لم يحصل له به كبير مشقة، ولو قيل له: كذبت حصل له غاية الحنق (3) .
ب - أن البطلان لا ينافي مطلق الصدق، لأنه قد يحصل لاختلال بعض المقدمات، فقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، بخلاف الكذب فإنه مناف للصدق (4) ، فلهذا يؤمر
__________
(1) روضة الطالبين (11 \ 248) ، نهاية المحتاج (8 \ 308) ، والحاوي للماوردي (17 \ 31، 32) .
(2) مغني المحتاج (4 \ 439) ، ونهاية المحتاج (8 \ 308) .
(3) نهاية المحتاج (8 \ 308) .
(4) نهاية المحتاج (8 \ 308) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12 \ 203) .(66/331)
القاذف بأن يقول: قذفي باطل، أو نحوه، ولا يؤمر بأن يقول كنت كاذبا.
وأجيب عن هذه الإجابة:
بأن القاذف إذا لم يحقق قذفه ببينة، أو إقرار من المقذوف، فإنه في حكم الله كاذب، وإن كان في نفس الأمر صادقا (1) ؛ لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2) فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله، وإن كان في نفس الأمر صادقا (3) .
أدلة القول الرابع:
أولا: إذا كان القذف سبا فأدلته ما سبق أن استدل بها أصحاب القول الأول (4) .
ثانيا: إذا كان القذف على صورة شهادة، فأدلته ما سبق أن استدل به أصحاب القول الثالث (5) .
ثالثا: دليل الفرق بين القذف على صورة الشهادة، وقذف
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (112 \ 203) ، والمغني لابن قدامة (14 \ 192) .
(2) سورة النور الآية 13
(3) المغني لابن قدامة (14 \ 192) .
(4) انظر: ص (312) من هذا البحث
(5) انظر: ص (330) من هذا البحث(66/332)
السب، أن الشهادة على الزنا لحق الله، ولو كمل عدد الشهود للزمه أن يشهد، فلهذا لا يقول: إني كنت كاذبا، ولا يقول: لا أعود (1) .
بخلاف قذف السب والإيذاء، فإنه معصية تعلق حق آدمي، فلا بد أن يكذب نفسه؛ ليزول العار الذي لحق بعرض المقذوف بسبب القذف.
ونوقش: بأن هذا استدلال بالمعقول، وهو مخالف للمنقول، والمنقول مقدم على المعقول.
فهو مخالف لقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2) فإن هذه الآية تدل بعمومها على أن كل قاذف لم يأت ببينة فهو في حكم الله كاذب، من غير فرق بين قذف السب، والقذف على صورة الشهادة.
أدلة القول الخامس:
أولا: إذا علم من نفسه الصدق فيما قذف به، فتوبته الاستغفار، والإقرار ببطلان ما قاله، وتحريمه، وأن لا يعود إلى مثله، ولا يؤمر بإكذاب نفسه؛ لأنه صادق، والصادق لا يؤمر بالكذب (3) .
ثانيا: إذا لم يعلم صدق نفسه، فتوبته إكذاب نفسه لأنه لا
__________
(1) الحاوي للماوردي (17 \ 33) .
(2) سورة النور الآية 13
(3) المغني لابن قدامة (14 \ 191، 192) .(66/333)
يكون صادقا (1) فلا محذور في تكذيبه لنفسه. وسواء كان القذف بشهادة، أو سب؛ لأنه قد يكون كاذبا في الشهادة، صادقا في السب (2) .
ونوقش: يناقش هذا الاستدلال بما نوقش به أدلة القول الرابع (3) .
الترجيح:
بعد ذكر أقوال العلماء، وأدلتهم، وما ورد عليها من مناقشات، يظهر رجحان القول الأول، وهو أن توبة القاذف إكذاب نفسه، سواء أكان القذف على صورة الشهادة أم قذف سب، وذلك لقوة أدلتهم في الجملة، فقد سلم جلها من المناقشات، وما ورد على بعضها من مناقشات، فقد أجيب عنها بما يدفعها، وضعف أدلة الأقوال الأخرى بما ورد عليها من مناقشات، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل عند مناقشة الأدلة. والله أعلم بالصواب.
__________
(1) المغني لابن قدامة (14 \ 191، 192) .
(2) المغني لابن قدامة (14 \ 192) .
(3) انظر: ص (333) من هذا البحث(66/334)
الخاتمة:
بعد حمد الله، على توفيقه، وإعانته، على إنجاز هذا البحث، فقد توصلت إلى نتائج كثيرة، من أهمها ما يلي:(66/334)
1 - أن التوبة من حقوق الله- جل وعلا - هي الإقلاع عن الذنب في الحال، والندم على ما مضى من فعله، والعزم على عدم العود إلى مثله، تعبدا لله تعالى. وأما في حقوق العباد، فيضاف إلى ما سبق (وأداء الحقوق إلى أهلها، أو تحصيل البراءة منهم) .
2 - أن العلماء اتفقوا على أن التوبة واجبة على الفور، من جميع الذنوب، والمعاصي، سواء أكانت كبائر، أو صغائر.
3 - أن العقوبة زواجر شرعية، عن ترك واجب، أو فعل محرم.
4 - أن القاذف إذا حقق قذفه بشهود، أو بإقرار من المقذوف، أو لعان إن كان زوجا، فإنه لا يتعلق بقذفه جلد، ولا رد شهادة، ولا فسق.
5 - أن العلماء اتفقوا على أن التوبة لا تسقط الجلد عن القاذف، بل يجلد التائب كالمصر.
6 - أن العلماء اتفقوا على قبول شهادة القاذف، إذا شهد بعد التوبة، وقبل إقامة الحد عليه، واتفقوا على رد شهادته، إذا شهد بعد إقامة الحد عليه، وقبل التوبة.
7 - أن القول الراجح رد شهادة القاذف، إذا شهد قبل الحد، والتوبة.
8 - أن القول الراجح قبول شهادة القاذف، إذا شهد بعد إقامة الحد عليه، وبعد التوبة.(66/335)
9 - أن التوبة تزيل سمة الفسق عن القاذف بالإجماع.
10 - أن القول الراجح في صفة توبة القاذف، التي تزيل عنه سمة الفسق أن يكذب نفسه، سواء أكان القذف على صورة الشهادة، أم قذف سب.(66/336)
كتابة القرآن الكريم بخط برايل للمكفوفين
لفضيلة الشيخ د: عبد الله بن محمد المطلق (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد.
فهذا بحث موجز عن كتابة القرآن الكريم بخط برايل للمكفوفين حيث أنعم الله على هذه الفئة في هذا العصر بهذا الخط الذي قلل من اعتمادهم على غيرهم في الكتابة والقراءة ويسر لهم الاطلاع بأنفسهم على كتب العلوم المختلفة وبما أن هذه المسألة ينبني القول فيها على القول في مسألة كتابة القرآن الكريم بغير الرسم العثماني فقد تحدثت في هذا البحث عن تعريف الرسم العثماني وأقسام الرسم وما لا يدخل في الرسم العثماني مما هو موجود في المصاحف الآن وآراء العلماء في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني
__________
(1) عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(66/337)
ثم خلصت إلى حكم كتابة القرآن بخط برايل وله حالتان: الأول كتابته بخط برايل مع التزام الرسم العثماني ما أمكن. والثانية: بخط برايل بالخط القياسي الإملائي.
والله تعالى أسأل أن ينفع به وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(66/338)
الرسم العثماني:
تعريف الرسم:
الرسم لغة: الأثر، ويرادف الرسم الخط والكتابة،، والزبر والسطر، والرقم والرشم بالشين المعجمة، وإن غلب الرسم بالسين المهملة على خط المصاحف.
والعثماني: نسبة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث جمع القرآن في عهده في مصحف واحد وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين نسخة منه وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أرسل إليهم (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن 9 \ 11، مناهل العرفان 378(66/338)
والرسم قسمان:
1 - الرسم القياسي.(66/338)
2 - الرسم الاصطلاحي، نسبة لاصطلاح الصحابة رضي الله عنهم وقد يسميه بعض العلماء التوقيفي.
أ- فالرسم القياسي: (هو تصوير الكلمة بحروف هجائها على تقدير الابتداء بها والوقف عليها) (1) فهو ما طابق فيه الخط اللفظ.
2 - والرسم الاصطلاحي: (هو علم تعرف به مخالفات خط المصاحف العثمانية لأصول الرسم القياسي) (2) أو هو الطريقة الخاصة التي ارتضاها الصحابة رضي الله عنهم في كتابة كلمات القرآن الكريم في المصاحف بأمر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ويسمى بالرسم العثماني نسبة إليه رضي الله عنه.
وأكثر رسم المصاحف موافق للرسم القياسي إلا في أشياء معدودة أحصاها العلماء الذين ألفوا في رسم المصحف كما فعل أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتابه (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف
__________
(1) دليل الحيران للمارغني ص 32.
(2) دليل الحيران للمارغني ص 32.(66/339)
أهل الأمصار)(66/340)
ما لا يدخل في الرسم العثماني:
لا يدخل في الرسم العثماني الأمور التالية:
أولا: النقط التي تتميز بها الحروف فإنها إنما ألحقت بالحروف العربية في عصر التابعين وكانت الحروف قبل ذلك تكتب غير منقوطة قال أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المتوفى سنة 444 هـ: باب ذكر من نقط المصاحف أولا من التابعين ومن كره ذلك ومن ترخص فيه من العلماء: اختلفت الرواية لدينا فيمن ابتدأ بنقط المصاحف من التابعين فروينا أن المبتدئ بذلك كان أبا الأسود الدؤلي.
وروينا أن ابن سيرين كان عنده مصحف نقطه يحيى بن يعمر وأن يحيى أول من نقطها" (1) .
ثانيا: الحركات والتنوين وأول من وضعها أبو الأسود الدؤلي وكانت نقطا وذلك أنه أراد أن يعمل كتابا في العربية يقوم الناس به ما فسد من كلامهم إذ كان ذلك قد نشأ في خواص الناس وعوامهم
__________
(1) كتاب النقط المطبوع مع المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ص129.(66/340)
فأحضر من يمسك المصحف وأحضر صبغا يخالف لون المداد وقال للذي يمسك المصحف عليه: إذا فتحت فاي فاجعل نقطة فوق الحرف وإذا كسرت فاي فاجعل نقطة تحت الحرف وإذا ضممت فاي فاجعل نقطة أمام الحرف فإن أتبعت هذه الحروف غنة يعني تنوينا فاجعل نقطتين حتى آتي على آخر المصحف. وقيل إن أول من فعل ذلك نصر بن عاصم الليثي (1) ثم إن الخليل بن أحمد طور ذلك حيث اخترع الحركات المأخوذة من الحروف (2) .
ثالثا: الهمزة والتشديد والروم والإشمام وأول من وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي.
رابعا: علامات التجويد وعلامات الوصل والوقف فإنها لم تكن في الرسم العثماني وإنما كتبت بعد الكتابة في علم التجويد.
خامسا: علامات ختم الآية وكتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات وعلامة السجدة. قال قتادة بدءوا فنقطوا ثم خمسوا وعشروا، وقال يحيى بن أبي كثير: ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث في المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآي وأخرج أبو عبيد وغيره جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وقال الحليمي: تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله جردوا القرآن (3) .
__________
(1) كتاب النقط المطبوع مع المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ص129.
(2) الإتقان في علوم القرآن ص 219
(3) الإتقان في علوم القرآن ص 218، 219.(66/341)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لم يكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونها حيث كانوا عربا لا يلحنون فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل يعملون وتعملون فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى.
ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها وكانوا يعملون ذلك بالحمرة ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف والكسرة بنقطة حمراء تحته والضمة بنقطة حمراء أمامه ثم مدوا النقطة الحمراء وصاروا يعملون الشدة بقولك " شد " ويعملون المدة بقولك " مد " وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين؛ لأن الهمزة أخت العين ثم خففوا ذلك وصارت علامة الشدة مثل رأس السين وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك كما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل أنا وعلى شكل ثنا وتنازع العلماء هل يكره تشكيل المصاحف وتنقيطها على قولين معروفين وهما روايتان عن أحمد لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط كما يجب احترام الحرف) (1) اهـ
وإن المتأمل في خط المصحف العثماني المجرد من الشكل
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12 \ 101، 102.(66/342)
والنقط يجد انحصار مخالفته للخط القياسي في هيئة بعض الحروف مثل زيادة الألف بعد الواو في قوله تعالى: (ملاقوا ربهم) وقوله سبحانه: (تفتؤا) وقوله عز وجل: (الظنونا) ، وإبدال الألف واوا في (الصلاة) و (الزكاة) و (الربا) ، وحذف الألف في وسط الكلمة ألف (العالمين) ، ومن ياء النداء في قوله تعالى: (يا أيها الناس) و (يا آدم) و (يا رب) .
وقد سئل الإمام مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه ذلك قال: لا (1) وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك. والمقصود الواو والألف المزيدتان في الرسم المعدومتان في اللفظ نحو (أولوا) (2) .
وقد خالفت المصاحف المطبوعة في استانبول عاصمة الدولة العثمانية رسم المصحف العثماني المجمع عليه بين علماء الرسم في مواضع منها كتابة الألف المتوسطة في مثل (العالمين) و (مسلمات) ونحوها فإنها محذوفة في رسم المصحف العثماني (3)
__________
(1) انظر: المقنع في معرفة رسوم مصاحف أهل الأمصار ص 36 والإتقان 213.
(2) الآداب الشرعية 2 \ 295.
(3) إيقاظ الأعلام ص 17.(66/343)
التزام الرسم العثماني في كتابة المصحف:
كتابة القرآن الكريم بالرسم العثماني قضية هامة، اهتم بها(66/343)
العلماء قديما وحديثا، واختلفوا في حكم التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف، هل يجب اتباعه أم يجوز مخالفته؟ ولهم في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى وجوب اتباع الرسم العثماني عند كتابة المصحف، وأنه لا تجوز مخالفته، لأنه اصطلاح اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم وأجمعوا عليه، وتلقته الأمة بالقبول، فلا يجوز العدول عنه. ويرى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به معاوية رضي الله عنه حين كتابة الوحي (1) .
ومن نصوص العلماء على وجوب الأخذ به:
قال أبو عمرو الداني - بإسناده- (. . . قال أشهب: سئل مالك فقيل له: أرأيت من استكتب مصحفا اليوم أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟
فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى.
قال أبو عمرو: ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة) (2) .
وقال في موضع آخر: (سئل مالك عن الحروف في القرآن: الواو، والألف، أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟
__________
(1) مسند الفردوس للديلمي 5 \ 394 حديث رقم 8533 ولم يصح ذلك بسند يعتد به كما سيأتي.
(2) المقنع ص 9، 10، وينظر: الإتقان للسيوطي 4 \ 1154.(66/344)
قال: لا.
قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ، نحو الواو (أولئك) و (أولي) و (أولات) و (سأوريكم) و (الربوا) وشبهه ونحو ذلك الألف في (لن ندعوا) و (ليبلوا) و (لا تايسوا) و (أولا أذبحنه) و (مائة) و (مائتين) و (لا تايسوا) و (لا يا يئس) و (أفلم يايئس) و (يبدءا) و (تفتئوا) و (يعبؤا) وشبهه وكذلك الياء في نحو (من نبأي المرسلين) و (ملائه) و (أفأن مت) وما أشبهه) (1) ا. هـ.
وقال الهيتمي بعد ذكر كلام الإمام مالك رحمه الله: (قال بعض أئمة القراء: ونسبته إلى مالك، لأنه المسئول، وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة. . وقال بعضهم: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون، وفي خلافها تجهيل آخر الأمة- أولهم) (2) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط عثمان في واو وياء وألف وغير ذلك (3) .
وقال البيهقي: (من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على
__________
(1) المقنع ص؟؟؟ ، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 13 \ 81، 82.
(2) الفتاوى الفقهية الكبرى 1 \ 38.
(3) الآداب الشرعية 2 \ 295، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 13 \ 82.(66/345)
الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم ولا سقطا لهم.
- وروى بإسناده - عن زيد بن ثابت قال: القراءة سنة.
قال سليمان: يعني ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع، وبمعناه بلغني عن أبي عبيد في تفسير ذلك، قال: ونرى القراء لم يلتفتوا إلى مذاهب العربية في القراءة إذا خالف ذلك خط المصحف، ورأوا تتبع حروف المصاحف عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها) (1) .
وحكى القرطبي عن ابن بطال أنه قال: (. . . إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة. . .) (2) .
وقال ابن العربي في تفسير قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (3) :
(وأما من قرأها: (لأقسم) فاختلفوا: فمنهم من حذفها في الخط كما حذفها في اللفظ وهذا لا يجوز، فإن خط المصحف أصل ثابت بإجماع الصحابة) (4) .
__________
(1) شعب الإيمان 2 \ 548، حديث رقم 2679، فصل في تفخيم قدر المصحف وتفريج خطه.
(2) تفسير القرطبي 1 \ 61.
(3) سورة البلد الآية 1
(4) تفسير أحكام القرآن 4 \ 1934.(66/346)
وقال البهوتي: (وتحرم مخالفة خط عثمان بن عفان رضي الله عنه في رسم واو وياء وألف وغير ذلك، كمد التاء وربطها نصا) (1)
__________
(1) كشاف القناع 1 \ 155.(66/347)
أدلة هذا القول: استدل أصحاب هذا القول على وجوب اتباع الرسم العثماني في كتابة المصحف بالأدلة الآتية:
1 - السنة القولية: قالوا: إن هذا الرسم توقيفي، وكتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال لمعاوية: «ألق الدواة وحرف القلم وانصب الياء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله ومد الرحمن، وجود الرحيم (1) »
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم كيف يكتبون، ويأمرهم بتحسين الحروف وطريقة كتابة القرآن، فلا تجوز مخالفة أمره إذ يقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) .
نوقش هذا الدليل بأن هذا الحديث لم يثبت سندا (3) ، فلا
__________
(1) الفردوس بمأثور الخطاب للديملي 5 \ 394 حديث رقم 8633، أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني 1 \ 170 وتفسير القرطبي 13 \ 353، مباحث علوم القرآن للقطان ص 127.
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) ينظر: فتح الباري 7 4، مباحث في علوم القرآن للقطان ص 128.(66/347)
يعتمد عليه.
2 - السنة التقريرية: كان للنبي صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون الوحي، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما كتبوا وكيفما كتبوا، وهم كتبوا هذا الرسم، فلم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وكان القرآن كله مكتوبا، وكانت كتابته الأولى في عهده عليه الصلاة والسلام على الأكتاف وقطع الجلود واللخاف ونحوها، ولم يجمع في مصحف واحد لتوقع حصول النسخ في شيء، منه ولما انقطع الوحي بوفاته صلى الله عليه وسلم وانتهى زمن النسخ كتب الصحابة رضي الله عنهم القرآن في مصحف واحد بأمر أبي بكر رضي الله عنه، وكانت الكتابة بالرسم الذي أقره صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن السنة التقريرية واجبة الاتباع كالسنة القولية.
ويناقش هذا بأن غاية ما يدل عليه ذلك الجواز والاستحباب ولا تصلح السنة التقريرية دليلا على المنع لما عداها وتحريمه.
3 - عمل الصحابة رضي الله عنهم: عندما كتب الصحابة رضي الله عنهم المصاحف بأمر عثمان الخليفة الراشد رضي الله عنه واتبعوا ما كتب في مصحف أبي بكر رضي الله عنه، فجاءت الكتابة(66/348)
بهذا الرسم وارتضاه عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنة الخلفاء الراشدين بقوله في حديث العرباض بن سارية: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (1) »
فلا يجوز لنا أن نخالف عمل الخلفاء الراشدين. ولا سيما مثل هذا العمل الذي أقره الصحابة كلهم ولم يخالف منهم أحد، فيكون إجماعا منهم، كما جاء عن مصعب بن سعد قال: "أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين شقق عثمان المصاحف، قال: فأعجب، أو قال: لم يعب ذلك منهم أحد" (2) .
ويناقش هذا الدليل بأننا لو فرضنا التسليم له لحرمنا كتابة النقط والحركات والهمز وعلامات الوقف والوصل وترقيم الآيات وغيرها فذلك مما لم يوجد في مصحف عثمان وقد صح عن عبد الله
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، حديث رقم 2600، سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم 3991، سنن ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، حديث رقم 42.
(2) خلق أفعال العباد للبخاري 1 \ 86، المقنع للداني ص 9.(66/349)
ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما بلغه أن عثمان أمر بإحراق المصاحف التي تخالف المصحف الإمام ساءه ذلك فقام وخطب وقال من استطاع أن يغل مصحفه فليفعل ثم قرأ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1) .
4 - إجماع الأمة: أجمعت الأمة من العصور الأولى على اتباع هذا الرسم، فكما اتفق الصحابة رضي الله عنهم عليه، كذلك اتفق من بعدهم من التابعين وتابعيهم، فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم، ولم ينقل أن أحدا منهم استبدل به رسما آخر من الرسوم التي حدثت في عهد ازدهار التأليف، ونشاط التدوين وتقدم العلوم، بل بقي الرسم العثماني محترما متبعا في كتابة المصاحف لا يمس استقلاله ولا يباح حماه (2) . وقد نقل الإجماع عدد من العلماء كأبي عمرو الداني وابن حجر الهيتمي وابن العربي كما مر في ذكر نصوص العلماء في هذه المسألة.
ونوقش هذا الدليل. بما نوقش به الدليل السابق فليس في الإجماع إن سلم به ما يدل على تحريم ما سواه وكيف يقال بالإجماع وقد زاد التابعون على رسم عثمان النقط والحركات والهمز كما سبق.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 161
(2) ينظر: مناهل العرفان 1 \ 377، إيقاظ الأعلام ص 16، الفتح الرباني للدكتور محمد محمد سالم محيسن ص 59.(66/350)
القول الثاني:
ذهب بعض العلماء إلى جواز كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني، وأنه تجوز مخالفته، ولا مانع من كتابة المصحف بالخطوط المستحدثة، وممن قال به: العز بن عبد السلام وابن خلدون، والقاضي أبو بكر الباقلاني والشوكاني، ورجحه صاحب التبيان والزركشي في البرهان، ورشيد رضا والزرقاني في مناهل العرفان.
ومن نصوص هؤلاء الفقهاء نأخذ ما يلي:
قال العز بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على غير الرسم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة" (1) .
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في الانتصار:
(وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحد محدود لا يجوز تجاوزه،
__________
(1) مناهل العرفان ص 385.(66/351)
ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية.
بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذان.
والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أي صورة كانت.(66/352)
وبالجملة فكل من، ادعى أنه يجب على الناس رسم خاص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك) (1) .
ويؤكد الشوكاني بأن هذه الخطوط والنقوش مجرد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا مانع من تغيير الرسم، حيث يقول في تفسيره (فتح القدير) : عند كلامه على الربا:
(وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوله، وقد كتبوه في المصحف بالواو، قال في الكشاف: على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع- انتهى - قلت: - أي الشوكاني - وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة- ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف. وعلى كل حال فرسم الكلمة- وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى) (2) .
وقال عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: كان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة وبعدهم عن الصنائع وانظر ما وقع
__________
(1) مناهل العرفان 1 \ 380، 381.
(2) تفسير فتح القدير 1 \ 294، 295.(66/353)
من أجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسمهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا. مما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلف من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله تعالى.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه ونسبوا إليهم الكمال بإجادته وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وليس ذلك بصحيح) (1) ا. هـ
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه (2) . مست الضرورة لطبع مصحف مفسر بالرسم العرفي ليقرأه الجماهير قراءة صحيحة غير محرفة ويفهموه إذ علم بالتجربة أن أكثر الناس يخطئون في القراءة في هذه المصاحف إلا من تلقاها من القراء وقليل ما هم وسئلنا عن ذلك فأجبنا عنه. مما رأيتموه في الجزء الثاني من منار هذه السنة من الجواز وتعليله " ا. هـ
__________
(1) انظر: تاريخ المصحف ص82، الفتح الرباني في علاقات القراءات بالرسم العثماني ص65.
(2) فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا 6 \ 2541، 2542(66/354)
أدلة من يرى جواز كتابة المصحف بالرسم القياسي:
1 - أن وجوب التزام رسم معين إنما يعرف بالنص ولم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك بل ظهر من أدلة السنة جواز كتابته بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته بأي وجه ولذلك اختلفت خطوط المصاحف كما سبق بيانه ومن ادعى أنه يجب على الأمة التزام الرسم وتحريم أي رسم غيره عند كتابة المصحف وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك انظر: مناهل العرفان 1 \ 380، 381.
ونوقش هذا الدليل بأن الرسم العثماني ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد العزيز الدباغ: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أراهم أن يكتبوا على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن(66/355)
معجز، فرسمه أيضا معجز! وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في (مائة) دون (فئة) . وإلى سر زيادة الياء في (بأييد) و (بأييكم) ؟
أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في (سعوا) بالحج، ونقصانها من (سعو) ، بسبأ؟ وإلى سر زيادتها في (عتوا) حيث كان، ونقصانها من (عتو) في الفرقان؟ وإلى سر زيادتها في (آمنوا) ، وإسقاطها من (باؤ، جاؤ، تبوؤ، فاؤ) بالبقرة؟ وإلى سر زيادتها في (يعفوا الذي) ، ونقصانها من (يعفو عنهم) في النساء؟
أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من (قرءانا) بيوسف والزخرف، وإثباتها في سائر المواضع؟
وإثبات الألف بعد واو (سموات) في فصلت وحذفها من غيرها.
وإثبات الألف في (الميعاد) مطلقا، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال وإثبات الألف في (سراجا) حيثما وقع، وحذفه من موضع الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض؟
فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية. وإنما خفيت على الناس؛ لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني، فهي. بمنزلة الألفاظ والحروف المتقطعة التي في أوائل السور، فإن لها أسرارا عظيمة، ومعاني كثيرة. وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها، ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها! فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف) ا. هـ(66/356)
ويناقش هذا الكلام بأن إثباته يحتاج إلى سند صحيح أو حسن يوصله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يوجد ذلك.
2 - أن كثيرا من المتعلمين والعامة لا يحفظون القرآن ولا يحسنون قراءته في المصحف، لعدم معرفتهم الرسم العثماني وأصوله، فلماذا نتقيد هذا الرسم، ولا نكتب المصاحف اليوم باصطلاح الكتابة المعروف في عصرنا؛ تسهيلا على الناشئة وتيسيرا على الناس (1) .
والله تعالى قد يسر القرآن للذكر وتكفل بحفظه من التحريف.
ونوقش هذا الدليل بأمور آتية:
أ- حجة التيسير للقراءة على المتعلمين والدارسين حيث يجهل أكثرهم قواعد رسم المصحف لا تكون مبررا للتغيير الذي يؤدي إلى التهاون في تحري الدقة بكتابة القرآن، والذي يعتاد القراءة في المصحف يألف ذلك ويفهم الفوارق الإملائية بالإشارات الموضوعة على الكلمات، ومن يمارس هذا في الحياة التعليمية أو مع أولاده يدرك أن الصعوبة التي توجد في القراءة بالمصحف أول الأمر تتحول بالمران بعد فترة قصيرة إلى سهولة تامة (2) .
ويناقش هذا بأن جواز كتابته بالرسم القياسي ليس فيه تهاون بتحري الدقة عند كتابة المصحف كما يقال في الدليل بل فيه تيسير
__________
(1) ينظر: مناهل العرفان 1 \ 397، مباحث علوم القرآن ص130.
(2) مباحث في علوم القرآن ص130، 131.(66/357)
تلاوته على الوجه الصحيح وذلك عين احترامه وتقديره والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) واتباع الرسم الذي يعرفه عامة الناس يقربهم من حسن التلاوة وتدبر القرآن والعمل به وتلك هي التلاوة الحقة التي أشار إليها القرآن الكريم حيث قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (2) .
3 - أنه قد جرت مخالفة الرسم العثماني في أشياء ظهرت حاجة الأمة إليها حيث احتاجوا إلى نقط الحروف ثم إلى تشكيلها ثم جرت المصاحف الاستانبولية على كتابة الألف التي في وسط الكلمة في مثل العالمين ومسلمات (3) .
وقد تنازع العلماء في عصر التابعين وتابعيهم في كراهة نقط المصاحف وتشكيلها على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد (4) وقد رويت كراهة ذلك عن الإمام مالك (5) لكن القول بجواز ذلك للحاجة إليه هو الأشهر حتى لقد أجمع عليه المسلمون بعد ذلك قال أبو عمرو الداني: والناس في جميع أمصار المسلمين من لدن التابعين إلى وقتنا هذا على الترخص في ذلك في الأمهات وغيرها ولا
__________
(1) سورة القمر الآية 17
(2) سورة البقرة الآية 121
(3) انظر: إيقاظ الأعلام ص17.
(4) الفتاوى 12 \ 101، 102.
(5) كتاب النقط المطبوع مع المقنع ص130.(66/358)
يرون بأسا برسم فواتح السور وعدد آياتها ورسم الخموس والعشور في مواضعها والخطأ مرتفع عن إجماعهم " (1) .
__________
(1) كتاب النقط المطبوع مع المقنع ص130.(66/359)
كتابة المصحف بخط برايل للمكفوفين:
خط برايل: هو عبارة عن خط نقطي يتم تنقيطه عن طريق خلية صغيرة تمثل شكلا مستطيلا يتكون ضلعه الرأسي من ثلاث نقط وضلعه الأفقي من نقطتين.
ويحسه الكفيف بيده نظرا لبروزه كما أنه يستطيع الكتابة بواسطة هذه الخلية. وهو يختلف باختلاف اللغات وقد استفاد من دراسته في معاهد النور بالمملكة خلق كثير.
أما عن كتابة المصحف بخط برايل للمكفوفين فلا يخلو الأمر فيه من حالين:
الأول: كتابة المصحف بخط برايل مع التزام الرسم العثماني في كتابة كلمات القرآن بحروفها الموجودة في رسم مصحف عثمان، فمثلا كلمة الربا تكتب بالواو، وكلمة غيابة تكتب بالتاء المفتوحة، وكلمة العالمين تحذف منها الألف بعد العين، وكلمة قرآن تكتب بهمزة على السطر ونحو ذلك.
وقد يستحيل تطبيق الرسم القرآني في كلمات معدودة فيعفى(66/359)
عن ذلك لمشقته، ولأن التكليف مربوط بالاستطاعة كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ولا يجوز أن يجعل هذا عائقا عن طباعة المصحف الشريف لهذه الشريحة المهمة من المجتمع ونجعلها بسببه عالة على غيرها في متابعة القراءة والحفظ مع إمكان قيامها به معتمدة على نفسها إذا توفر مطبوعا.
ولا يجوز أن نجعل كلام علمائنا الأوائل في مراعاة الرسم العثماني عند كتابة المصحف عائقا عن كتابة القرآن بخط برايل للمكفوفين، فإنهم إنما أكدوا على ذلك مع إمكانه، وتأمل كلام البيهقي رحمه الله في (شعب الإيمان) حين يقول: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة منا فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم " (2) .
الثاني: كتابة المصحف بخط برايل للمكفوفين معتمدة على الرسم القياسي الإملائي وقد صدرت بذلك مصاحف في كل من الأردن وتونس والمملكة العربية السعودية ومصر وقد اعتمد هؤلاء على قول من يرى جواز كتابة المصحف بالخط القياسي الإملائي
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) شعب الإيمان.(66/360)
تيسيرا على هذه الفئة من الناس، فإنه لم يكن مع من منع من كتابة المصحف بالخط الإملائي دليل يعتمد عليه، وقد سبق بيان ذلك في بحث المسألة.(66/361)
الخاتمة:
ويحسن أن نختم هذا البحث بفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقد سئل عمن يقول عن الإمام مالك إنه قال: من كتب مصحفا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم أو قال كفر فهل هذا صحيح؟
وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني فهل يحل لأحد كتابته على غير رسم المصحف العثماني بشرط أن لا يبدل لفظا ولا يغير معنى أم لا؟
فأجاب رحمه الله: أما هذا النقل عن مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على مالك سواء أريد به رسم الخط أو رسم اللفظ فإن مالكا كان يقول عن أهل الشورى إن لكل منهم مصحفا يخالف رسم مصحف عثمان وهم أجل من أن يقال فيهم هذا الكلام وهم علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
وأيضا فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي تخرج عن مصحف عثمان ففيه روايتان عن مالك وأحمد وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم فكيف يكفر فاعل ذلك.
وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد(66/361)
من المسلمين وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لمتابعة رسم خط الصحابة، وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدا قال بتكفير من فعل ذلك لكن متابعة خطهم أحسن هكذا نقل عن مالك وغيره والله أعلم (1) .
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13 \ 420.(66/362)
تعدد الزوجات وحقوق الإنسان
لمعالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (1) .
هذه الآية واحدة من بضع آيات في أول سورة النساء، جاءت لحماية حقوق اليتامى، ذكورا وإناثا.
وفرض قيام المجتمع لهم بالعدل، والتحذير من الإخلال بذلك، والهداية إلى الوسائل التي تكفل العدل في اليتامى، بإيفائهم حقوقهم على المجتمع، أو على أفراد معينين فيه.
والنص الكريم مؤلف كما قال الإمام القرطبي في تفسيره من جزئين؛ شرط هو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (2) وجوابه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (3)
وأول ما يتبادر إلى ذهن السامع والقارئ السؤال ما هي العلاقة بين الشرط والجواب؟
ما هي العلاقة بين الإقساط في اليتامى - أي العدل فيهم بإعطائهم
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 3
(3) سورة النساء الآية 3(66/363)
حقوقهم- وتعدد الزوجات؟
كيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضيا وموجبا للعدل في اليتامى؟
في الإجابة عن السؤال، وعند الرجوع إلى التفسير بالمأثور، نرى أن الإمام ابن جرير رحمه الله أورد في تفسير هذه الآية الكريمة، وبيان سبب نزولها، أربعة أقوال للسلف مختلفة ولكن اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتضاد، وهي في هذا الاختلاف محكومة بالقاعدة المعروفة، أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن القول بأن آية معينة نزلت في كذا، قد يعني أن هذا الوضع يشمله معنى الآية المعينة وحكمها، ولا يعني أنها لا تشمل وضعا آخر.
والمقصود "باليتامى" في الآية في ثلاثة أقوال من الأقوال الأربعة، الذكور والإناث.
وفي تفسير القرآن ينبغي الحذر من التجاوز عن التفسير بالمأثور، أو ما اختاره أئمة التفسير المعروفون، ولكن ذلك لا يمنع عند تدبر القرآن من استلهام معان يمكن أن يتناولها اللفظ من حيث اللغة، ولا تتعارض مع أحكام الشرع.
ومن هذا المنطلق ربما تكون الدلالة اللفظية المجردة للنص الكريم مشيرة إلى الحكمة من تشريع تعدد الزوجات، ولا شك أن(66/364)
الواقع العملي يثبت وجود علاقة قوية وأكيدة وظاهرة بين وجود تعدد الزوجات في المجتمع، وضمان حقوق اليتامى بوجه عام، توضيح ذلك فيما يلي:
لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى، بمجرد إيجاد دور أيتام كافية لاستيعاب أعدادهم:
أولا: أن لدور الأيتام سلبيات كثيرة، لا يبرر التسامح تجاهها إلا قيام الضرورة لوجود (دور الأيتام) ، وعدم البديل لها.
ثانيا: لأن لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى، حاجات عاطفية ونفسية وتربوية لا تقل في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أن هذه الحاجات في الغالب تلبى عندما تتزوج أم اليتيم، فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل، وجو أسري بديل، وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب بأولاده لصلبه، حتى أنه يحرم عليه شرعا الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.
وقد تنبهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر، فوجد مثلا تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني - سواء كان أعزب أو متزوجا- بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته، حماية للزوجة ولأولادها، ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية الروسية، ومع وجود(66/365)
الأعداد الهائلة من الأيتام، عدم قيام الحاجة الظاهرة لإنشاء دور الأيتام.
وصار هم دور الأيتام القليلة التي أنشأها بحماس المحسنون أن تتصيد الأيتام تصيدا.
والواقع يظهر أن أم الأيتام في الغالب لا تتزوج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيرا، والعرض قليلا، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات.
في مثل هذا المجتمع وحده تتاح فرصة الزواج لكل امرأة، مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة، مثل أن تكون أرملة مصبية أي ذات أولاد.
وبالعكس فإن المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج.
حتى أنه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيبا أو محرما؛ بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية.
معنى ما تقدم، أن شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما، يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيرا، فحتى الأرملة ذات الأيتام، سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوجت فاء ظل الأب البديل على أولادها اليتامى، ونعموا بالجو الأسري، كأي أطفال عاديين لم يصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في الآية الكريمة (الإقساط فيه) .(66/366)
وما تقدم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإن المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات، يعمل فيه قانون العرض والطلب (وهو قانون طبيعي) عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس، ولا مطلقات، أو أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن، وسيعمل هذا القانون الطبيعي- ولا بد- عمله، فيؤثر إيجابيا وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل، ولعل هذا ما تشير له الآية الكريمة {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (1) ، فتعدد الزوجات- في النظر المتعمق- يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق، وهذا مشاهد في الواقع العملي، فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) حيث يشيع تعدد الزوجات، تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف، بقدر لا يتاح للمرأة في القارة الهندية مثلا، حيث تسود عادة وحدة الزوجة، ففي هذه المجتمعات الأخيرة، تولد المرأة ومعها شعور أسرتها بأنه ولد للأسرة عبء مالي إضافي، يتمثل في الثمن الباهظ لشراء زوجها عندما تبلغ سن الزواج، إذ على الأب أن يدفع (الجهيز) وتحديد قيمة (الجهيز) في الغالب بمدى القدرة المالية للأب. أعرف أخا من جنوب الهند كان موسرا، ولكنه انتهى مفلسا بعد أن دفع (الجهيز) لتزويج بناته التسع، والمسلمون
__________
(1) سورة النساء الآية 3(66/367)
الهنود وحدهم، وبحكم تأثرهم بالعادات الهندوكية السائدة، توجد عندهم مشكلة تستأثر بقدر كبير من همومهم، هي مشكلة تزويج البنات الفقيرات.
ومن الطبيعي أن المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج، فإنها تحت سلطان شبح الخوف من فقده، سوف تصبر على ظلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبتها إياه بحقوقها قبله، ولن تستطيع القوانين البشرية- مهما كانت كفايتها وفعاليتها- مقاومة عمل القوانين الطبيعية.
ومن يتابع الصحف اليومية الهندية، وأخبار ما تنشره عن مآسي انتحار الزوجات، أو حرقهن من قبل أزواجهن، وأسر أزواجهن، بسبب عجز الزوجة عن الوفاء بالتزامها بثمن زواجه (الجهيز) ، سوف يرى صورة من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها، بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب.
وهذا الوضع- في الهند - له ولا شك صلة بمشكلة وأد البنات، وإجهاضهن في الهند كما تحدث عن ذلك موقع BBC. NEW في 4 \ 5 \ 2001 م، بي بي س أون لاين في 7 \ 12 \ 2001م، وذكر صراحة أن عادة وأد البنات، مشكلة قائمة في الهند لمدة طويلة، حيث تستمد مبررها من العادات المرتبطة بمهور الزواج، التي تجعل المرأة ذات بعد اقتصادي، وقد طلبت الهيئات الطبية في الهند المساعدة الدولية، لمنع(66/368)
مليونين من حالات الإجهاض تتم في الهند سنويا، بسبب اكتشاف أن الجنين أنثى.
لقد اكتشف تناقص نسبة عدد الإناث إلى عدد الذكور في الهند منذ مطلع القرن العشرين، ولكنه في السنوات الأخيرة تنامى النقص في نسبة الإناث للذكور بصفة دراماتيكية.(66/369)
وعلى العكس فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) عندما تبلغ سن الزواج، تستقبلها أبواب العش الزوجي مشرعة، وتدخلها مرفوعة الرأس كريمة، سوف يتردد زوجها كثيرا قبل أن يقدم على ظلمها أو انتقاص حقوقها أو حريتها، لأنه يعلم أنه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصدة أمامها، وإن قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها وأعطاها القدرة على التصرف والاختيار، وسيكون زوجها أمام علة فاعلة، وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف.
إذا صح ما سبق، فإن من المنطقي توقع أن تنخفض نسبة الطلاق في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات، هناك سبب إضافي لتدني نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات، يرجع إلى أن الرجل (وهو بحكم الطبيعة) وبصرف النظر عن جنسه أو ثقافته أو مكانه أو زمانه، يميل غالبا إلى (التعدد) .
لن يجد نفسه (في مجتمع التعدد) في ظروف تحمله على الطلاق، بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد) .(66/369)
وإذا كان الرجل كحقيقة واقعة، يميل غالبا إلى التعدد، فإن تشريعا للتعدد كالتشريع الإسلامي بقيوده وضوابطه، يضمن البديل العادل للمرأة، ولا يجعلها - كما هو الواقع في المجتمعات التي تنكر التعدد المشروع- محرومة من الحماية لحقوقها وحقوق ثمرة التعدد أولادها، أو محتاجة لتشريع قوانين (غير كاملة وغير مضمونة النفاذ والفعالية) لحماية حقوقها وحقوق أولادها.
وبعد هذا، فإن لصلة تعدد الزوجات (في الحدود وبالقيود التي يرسمها التشريع الإسلامي) بالعدل في جانب المرأة بالنسبة لمفاهيم الحضارة المعاصرة مجالا آخر للقول ملخصه:
أن رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم أو من أهم القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة، (على الأقل نظريا وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي) .
يشهد لذلك، أنه عندما ظهر إخفاق المعيار الاقتصادي في تصنيف البلدان والدول من حيث التقدم والحضارة، ونتيجة لذلك، اعتبرت البلدان الاسكندنافية متقدمة في هذا السلم عن البلدان الأوربية الأخرى.
كانت فرنسا أول دولة أوربية تصدر إعلانا لحقوق الإنسان عام 1789 م، وفى دستورها عام 1946م، أكدت تلك الحقوق وأضافت إليها حقوقا أخرى كحق العمل، وحق الانضمام إلى الاتحادات، وحق(66/370)
الإضراب، ولكن للمرأة حقوقا هي أهم لديها، أو يجب أن تكون أهم لديها من حق الإضراب، أو الانضمام إلى الاتحادات أو حتى العمل.
وأعني بذلك حق المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته الراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية.
ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أن علم النفس عندما دخل المعامل والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين، أثبت أن غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من غريزة الجوع، ومن غريزة الجنس.
أما بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة، فتظهر عندما تتذكر أن الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وأن يكون بينهما المودة والرحمة، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (1) {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (2) ولفظ (ليسكن) (لتسكنوا) يحمل معاني واسعة، تشمل الشعور بالراحة، والمتعة والأمن، والسلام، وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه، وهذا اللفظ بما يحمل من معان لا مرادف له في العربية، وبما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى، وإذا تحقق هذا الهدف للزواج، فإنه يكون مصدرا للسعادة لا يمكن أن يعوض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدرا لها.
وأما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري، الذي تمارس
__________
(1) سورة الأعراف الآية 189
(2) سورة الروم الآية 21(66/371)
فيه المرأة وظائفها التقليدية، التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال، وهو ما يعطي المرأة قدرا كبيرا من الشعور بالاكتفاء، الذي هو بدوره أمر ضروري للصحة النفسية، أقول بالنسبة لأهمية ذلك للمرأة، فإن الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح. وفي رأي أحد الخبراء، أن ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية، مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء، راجع إلى تخلي المرأة الخليجية عن ممارسة وظائفها التقليدية في البيت بإسنادها إلى الخادمة، وبذلك يظل الشعور بعدم الاكتفاء، وأن شيئا - غير معين- ينقصها في حياتها، يلازم مثل هذه المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تدرك في عقلها الواعي أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة، ولو كانت هي التي اختارت هذا الحرمان.
فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة والزواج، وتمتعها بالجو الأسري، الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة. إذا كانت هذه الحقوق بهذه الأهمية للمرأة، فإن أي دولة أو مجتمع يحدد ويضيق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة، ولا العمل لصالحها وسعادتها.
وقد وضح فيما سبق أن معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (كما هو في النظام الإسلامي) ، يحدد حتما ويضيق(66/372)
بصورة جدية الفرصة أمام المرأة للحصول على تلك الحقوق، وإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفسر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟
للإجابة على هذا السؤال نلاحظ أمرين:
(الأول) يتعلق بالمجتمعات والدول الغربية، من المناسب ذكر قصة معبرة لها دلالتها، فحينما أصدر البرلمان الإنجليزي القانون المشهور بإباحة العلاقة الجنسية الشاذة، كان هذا الحدث موضوع حديث بيني وبين أحد الأصدقاء، وقد علق بقوله: (ولكنه ستمضي خمسون سنة قبل أن يصدر البرلمان الإنجليزي قانونا بإباحة تعدد الزواج) ، لم يكن صديقي مبالغا فقد مضى حتى الآن على تعليقه أكثر من خمس وثلاثين سنة، إن ضمير المجتمع في أوربا يسهل عليه أن يقبل وجود علاقات جنسية خارج نطاق الزواج، حتى لو كانت شاذة تحت تأثير قبوله لفكرة الحرية الجنسية، أما (تابو) تعدد الزوجات، فلا يزال جزا ثابتا في الموروث الثقافي الأوربي Cuiture، وبعبارة أخرى جزءا من المعنى القانوني الغامض لعبارة: النظام العام والآداب العامة في المجتمعات الغربية.
وإذا استحضرنا أن الديانة المسيحية - بشكلها الأوربي -عنصر هام من عناصر الموروث الثقافي الأوربي، واستحضرنا نظرة هذه الديانة للزواج بحد ذاته، سهل علينا فهم النظرة السلبية للثقافة(66/373)
الأوربية إلى نظام تعدد الزوجات.
والموروثات الثقافية كما هو معروف، لا تخضع دائما للمنطق ولا للمحاكمة العقلية، ولكن على كل حال فهذه النظرة لها في المجتمعات الغربية كما رأينا مبررات مفهومة، وإن كانت غير صحيحة.
أما في العالم الإسلامي، حيث صدرت قواني في العراق وتركيا وتونس، تحرم وتجرم تعدد الزوجات، فإنه يصعب أن توجد لهذه القوانين مبررات مفهومة، إذ أنه حتى فكرة النظام العام والآداب العامة، لا يمكن أن تكون أساسا لهذه القوانين، والموروث الثقافي في هذه البلدان فضلا عن أحكام الشريعة لا يمكن أن يكون مصدرا لهذه القوانين، بل إنه ضدها.
وإذا فما هو التفسير لصدور هذه القوانين في العالم الإسلامي؟
الجواب: إذا استثنينا الانتهازية السياسية، النزق الطائش في تصور العلمانية، والهوى الجامح في التفلت من أحكام الإسلام، فإنه يمكن القول بأن الدافع لإصدار تلك القوانين، الخضوع اللاواعي لسلطان الثقافة Cuiture الأوروبية على عقل المسلم، واعتبار القيم الخلقية الغربية مقاييس حقيقية لما هو صالح وغير صالح، دون تمييز بين ما يكون من هذه القيم مؤسسا على المنطق والعقل والمصلحة الواقعية، وبين ما هو مؤسس على مجرد الموروث الثقافي Cuiture والانبهار بألفاظ الحرية والمساواة وكرامة الإنسان، دون أن يوجد(66/374)
تحديد واضح لمفاهيمها في الذهن.
وفي المقابل تعود الغرب على إطلاق ألفاظ وعبارات لها إيحاءات وظلال فكرية مكروهة، مثل: الحريم، واستعباد الرجل للمرأة وتسخيرها لمتعته، والحياة المهنية للمرأة، كما تعود ببغاوات الشرق على ترديد هذه الألفاظ والعبارات.(66/375)
وليس أدل على طغيان سلطان الثقافة الغربية على عقل المسلم في هذا المجال، من أنه حتى المدافعون عن الإسلام من الكتاب الإسلاميين لم يستطيعوا التخلص من هذا الطغيان، فنجدهم يدافعون عن نظام تعدد الزوجات بصفة اعتذارية، وكأنهم قد اقتنعوا بأن هذا النظام غير مرغوب فيه وأنهم يودون أنه لم يوجد في تشريع الإسلام. أما وقد وجد، فلا حيلة لهم إلا التماس المبررات الاعتذارية لوجوده، فهم يسلمون من حيث المبدأ بصحة النظرة السلبية لهذا النظام كنظام اجتماعي، ثم يبررون وجوده في الإسلام بأنه نظام استثنائي، وأنه في طريق الانقراض عن حياة المسلمين، وأنه مبرر فقط في ظروف معينة ثم يحاولون حصر هذه الظروف التي تقوم بها الحاجة الفعلية أو الضرورة لأن يتزوج الرجل على زوجته.
وفضلا عن أنه لا يوجد أساس علمي شرعي لاعتبار نظام تعدد الزوجات - كما هو منظم في الإسلام- نظاما استثنائيا لا يمكن أن يتسامح الإسلام تجاهه، إلا في الظروف وضمن الشروط(66/375)
والواقعية التي تجعله حاجة معتبرة، - في تقديرهم- إذ أنه لا النصوص الثابتة، ولا تطبيقا من قبل الرعيل الأول من الصحابة والتابعين يشهد لذلك، فضلا عن ذلك، فإنه إذا صح ما أوردته - فيما سبق- من حجج عقلية لإثبات أن نظام تعدد الزوجات في ذاته نظام يحقق المصلحة العامة للمجتمع، فقد كان ينبغي لهؤلاء الكتاب أن يعتبروه نظاما اجتماعيا صالحا حقيقا بأن يعتز به ولا يعتذر عنه. وأن يكون همهم تشجيعه، والدعوة إلى إشاعته، بدلا من التنفير عنه، على أنه في الحالات التي لا يكون الدافع فيها وراء القوانين المحرمة لتعدد الزوجات في العالم الإسلامي اتباع ما تهوى الأنفس، فإن الدافع لها اتباع الظن والخضوع للأوهام، بدلا من البناء على الحقائق، وإجراء المحاكمة العقلية للأمور قبل الحكم عليها، ولو حكم المشرعون لتلك القوانين العقل، لأبصروا التناقض العجيب بين تحريم تعدد الزوجات، وإباحة صور من علاقات المتزوجين بنساء خارج نطاق الزوجية، علاقات تشبه العلاقة الزوجية في كل شيء إلا في عدم وجود الإجراء الشكلي لعقد الزواج، والذي كان سيحمي حقوق المرأة وحقوق ثمرة علاقتها بالرجل من الأولاد.
ويبرز التناقض عندما يقدم الشخص للمحاكمة بتهمة ارتكابه لجريمة تعدد الزوجات، فتبرئه المحكمة إذا عجز الادعاء العام عن إثبات وجود عقد زواج شرعي في الحالة، بحيث يقوم الدليل على أن الحالة(66/376)
حالة زواج يمنعه القانون وليست حالة زنا يبيحها القانون.
المشرعون لتلك القوانين يقولون: (إنما نحن مصلحون، غايتنا حماية حقوق المرأة وكرامتها وحريتها) ، ولا يشعرون أن هذه القوانين، تهيئ الظروف الطبيعية لحرمان المرأة من حقوقها، ولتحديد حريتها، واستلاب كرامتها، وما كانت القوانين البشرية أبدا قادرة على مغالبة القوانين الطبيعية، وإلغاء آثارها، لا سيما في مجتمع تتسم فيه الأجهزة المسئولة عن تنفيذ القوانين بالعجز والتخلف والفساد، كما هو الحال في أغلب المجتمعات فيما يسمى العالم الإسلامي.
إن الوهم السائد بأن نظام تعدد الزوجات نظام اجتماعي سيئ، وضد مصلحة المجتمع، وقد اخترعه الرجل استجابة لهواه ومتعته، وإنه مظهر لاستعلاء الرجل على المرأة، منتقص لحقوقها، مهين لكرامتها، سبب لشقائها، والإلحاح على تكرار هذه الأحكام على نظام تعدد الزوجات، في الندوات، والمؤتمرات، ووسائل الإعلام، كل ذلك أوجد لدى الكتاب الإسلاميين المعاصرين الوحشة تجاه نظام تعدد الزوجات، المحكوم بقيود الشرع وضوابطه، دون محاولة منهم للقيام لله، والتفكير والاختبار الموضوعي الحيادي لهذه الأحكام المسبقة على النظام، وتحديد ما إذا كانت هذه الأحكام نتيجة الأفكار الشائعة السائدة في أذهان الناس وعلى ألسنتهم، أو نتيجة للمحاكمة الفعلية، وطلب الحقيقة، والبحث عن المصالح في(66/377)
ضوء الواقع وتجارب الأمم، وعدم الانسياق مع الهوى والعاطفة والشعارات الخادعة، ومعلوم أن شيوع الفكرة وسيادتها ولو كانت وهمية يعطيها من إمكانية الإيمان بها، واليقين، ما لا تحظى به- في كثير من الأحيان- الحقائق، بل يجعلها من المسلمات البديهية التي لا تقبل المراجعة أو التشكيك، ونتيجة لما سبقت الإشارة إليه رأينا الكتابات المعاصرة في الدفاع عن الإسلام تنساق مع الأفكار الوهمية الشائعة عن تعدد الزوجات، فتعتبره من حيث المبدأ غير مرغوب فيه، وإنما يكون مشروعا على وجه الاستثناء، وحيث توجد ظروف معينة تجعله استجابة لحاجة حقيقة وفعلية تبرر الاستثناء، وأنه لا ينبغي أن يكون الدافع إليه الرغبة الطبيعية للرجل في الاستمتاع، وحسب علمي القاصر فإنه لا يوجد من نصوص الشرع ما يسند هذا الاتجاه، وهدي الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين- كما يشهد التاريخ الصادق- على خلافه.
وإذا صح ما أطلت الجدال فيه، والاحتجاج عليه، من أن النظام. كما رسمه الشرع الحكيم نظام اجتماعي صالح، ليس فقط لأن أي بديل عنه- في ضوء دراسة الواقع- ضار بالمجتمع عامل على فساده، بل لأنه يحقق مصلحة المرأة، مثل ما يحقق مصلحة الرجل أو أكثر، ويضمن للمرأة من العدل والحرية والوفاء بحقوقها الطبيعية ما يفوت عليها في ظل أنظمة تمنع تعدد الزوجات، كما(66/378)
ينظمه الإسلام. إذا صح ما ذكر فإن هذا النظام سوف يحقق آثاره النافعة بصرف النظر عن دوافع الرجل للزواج، وهذا تماما مثل الزواج بحد ذاته فهو نظام اجتماعي صالح، بصرف النظر عن العامل النفسي الذي دفع الرجل للزواج إذا لم يكن هذا العامل النفسي عاملا سيئا.
إن نظام تعدد الزوجات- كأي نظام اجتماعي صالح- له بلا شك سلبياته، وبعض هذه السلبيات راجع إلى طبيعته، ولكنها حينئذ لا توجب إلغاءه، إلا لو كانت ترجح على إيجابياته، وهذا غير واقع، وبعضها راجع إلى إساءة استعمال البشر، وهذه أيضا لا تعالج بإلغاء النظام، وإنما بالعمل على حمل الإنسان المسلم على عدم إساءة استعمال النظام، وبناء على ما تقدم، فإنه ليس من العدل أن يترك الناس للأوهام والأفكار الخرافية حول تعدد الزوجات، ويكون الواجب أن يكشف عن أعينهم غشاوتها، وأن يوعوا بالحقائق عن هذا النظام، وإذا كانت وسائل الأعلام عاجزة عن القيام بدور فاعل في هذا المجال، فإن الجهات المسئولة عن التربية والتعليم مسئولة عن تضمينها مناهج التعليم ما يميز بين الأوهام والحقائق، في هذا النظام وغيره من الأنظمة الاجتماعية.
وعودا على الكلام على الآية الكريمة المصدر بها هذا المقال، وفي ضوء ما سبق، فإنه يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1 - هذه الآية هي الآية الوحيدة والتي تدل بنصها على مشروعية(66/379)
تعدد الزوجات، أما النص الوارد في الآية الأخرى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (1) في سياق تعدد المحرمات في الزواج، فلا يدل بالنص على التعدد، وإنما بمفهوم المخالفة، وكذلك النص الوارد في الآية الأخرى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (2) فإنما يدل على مشروعية التعدد بالإشارة.
2 - ورد التعبير عن العدل بثلاثة ألفاظ (ألا تقسطوا) ، (ألا تعدلوا) ، (ألا تعولوا) والإقساط والعدل وعدم العول متقاربة في المعنى، على أنه ينبغي التمييز في المعنى بين العدل في الأشخاص، والعدل بين الأشخاص، فالعدل في الأشخاص يعني إيفاءهم حقوقهم، والعدل بين الأشخاص يعني التسوية بينهم.
والعدل المشروط لإباحة تعدد الزوجات في الآية الكريمة كما يدل كلام المفسرين يعني الأمرين:
وجود العزم على التسوية في المعاملة بين الزوجات، ووجود الظن الغالب بقدرة الزوج على ذلك، ثم وجود العزم على الوفاء بما لكل من الزوجات من حقوق الزوجية، ووجود الظن الغالب لدى الزوج بقدرته على ذلك.
3 - كما رأينا فإن نظام تعدد الزوجات في الإسلام صورة مختلفة عن
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 129(66/380)
نظام تعدد الزوجات في أي دين آخر، أو ثقافة أخرى، وإذا كان أي نظام اجتماعي له سلبياته ولا بد، فإن النظام الإسلامي يتفادى ما أمكن تلك السلبيات، فيشترط فيه العدل في الزوجات، ثم العدل بين الزوجات حين يكون ذلك ممكنا بحكم الطبيعة البشرية، ثم لا يسمح به حين يؤثر سلبا على غاية مصلحية يهتم بها الإسلام، وهي صلة الرحم، فيمنع أن يكون بين الزوجات نوع معين من القرابة، كما بين المرأة وأختها، أو المرأة وخالتها، ثم هو بعد ذلك يحدد العدد، فلا يجيز التعدد لأكثر من أربع والزيادة عن أربع من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كشف التاريخ والواقع العملي عن حكمة هامة من حكم هذه الحقيقة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ نبوته، ويهدي بهداية الله، عن طريق القول والعمل، فهو مثال ونموذج للأمة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) وهو شاهد على أمته، وموجب هذه الشهادة أن تكون بينة واضحة، ودليلا ظاهرا على مشروعية الفعل، وأن تطبيق ما أنزل الله من الهدى ممكن، وكيفية هذا التطبيق، ولا يتم ذلك على كماله، إلا بأن يكون لدى الأمة علم تفصيلي بحياته صلى الله عليه وسلم العامة والخاصة، وذلك يوجب أن يوجد عدد كاف يضمن به البلاغ، ولا إشكال في شئون الحياة العامة، أما الحياة الخاصة، فلا يمكن أن يبلغ هديه فيها، إلا عن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(66/381)
طريق الزوجات، وإذا كان النقلة عددا قليلا، فقد ينسى الناقل، أو لا يرى أن الأمر من الأمور التي يجب نقلها، أو يخطئ في النقل، وهذه العوارض تعرض لمن ينقل عنه في سلسلة الإسناد. وقد كشف التاريخ أنه بسبب وجود هذا العدد من الزوجات الذي اختاره الله لنبيه، أمكن أن تعرف الأمة كل تفاصيل ودقائق حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة، حتى إن المسلم العادي بعد أربعة عشر قرنا يعرف عن تفاصيل الحياة الخاصة للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه.
4 - قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (1) قيد غير مراد، فلا يعني أنه إن لم يخف الأفراد أو المجتمع الإقساط في الأيتام فلا يجوز لهم تعدد الزوجات، وإنما يستفاد منه الإشارة إلى أن تعدد الزوجات بديل صالح، يوفر الوقاية من ظلم اليتامى، وعدم إيفائهم حقوقهم.
5 - المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان بأن شيوع تعدد الزوجات في المجتمع يعطي المرأة الفرصة في الزواج، مهما كانت الصعوبات والعوائق التي تقف في طريقها إلى الزواج، وبذلك تتوفر الحماية الاجتماعية لأم اليتامى وأولادها، ويتأثر مركز المرأة الاجتماعي إيجابيا، فتكون أقدر على الحفاظ على حقوقها وحريتها
__________
(1) سورة النساء الآية 3(66/382)
وضمان معاملتها بالعدل، وعموم لفظ الآية يتضمن أن نظام تعدد الزوجات، عامل فاعل في العدل في اليتامى، وإذا كان اسم الإرشاد {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (1) ، راجعا إلى كل ما سبقه، فذلك يعني أن هذا النظام عامل فاعل للعدل في النساء من حيث الجملة.
6 - المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان أن المجتمع أو القانون الذي يعارض تعدد الزوجات، يحدد فرصة المرأة في الزواج، فيحدد بالتالي فرصتها في أن تكون أما، وأن يكون لها زوج تسكن إليه ويسكن إليها، وتنمو بينهما المودة والرحمة، ويكون لها بيت تؤدي فيه وظائفها الطبيعية كامرأة، وكل هذه الأمور حاجات أساسية، وحقوق للمرأة أهم لديها وفي واقع الحياة، من عدد من الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان.
فتحديد فرصة المرأة في الحصول على هذه الحاجات الأساسية، بالحد من تعدد الزوجات، انتهاك واضح لحقوقها كإنسان.
7 - عند التأمل والاحتكام للنظر المنطقي والعقلي المجرد، يظهر جليا أن نظرة الغرب إلى نظام تعدد الزوجات (كما هو في الإسلام) ، أساسها التصورات الناتجة عن الموروثات الثقافية، وليس أساسها المنطق والمحاكمة العقلية، أو اعتبارات المصلحة الاجتماعية العملية، والنظرة السلبية لهذا النظام لدى بعض المسلمين المعاصرين، ناشئة فقط عن التأثر بالتصورات الغربية، والانخداع بتحقير الغرب لهذا
__________
(1) سورة النساء الآية 3(66/383)
النظام عند المسلمين، وعيبهم به.
8 - بحكم طبائع الأشياء، لنظام تعدد الزوجات- كأي نظام اجتماعي آخر- سلبيات، ويحدث أحيانا كثيرة أن يساء استعماله، ولكن هذا شأن أي نظام اجتماعي صالح العلاج ليس بهدم النظام، وإنما بمعالجة السلبيات، والعمل على تقليلها، ومكافحة إساءة الاستعمال.
وبالله التوفيق،،،(66/384)
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني حدثنا أبي حدثنا زكرياء عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: سمعته يقول: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1) »
(رواه الإمام مسلم)
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/271) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(66/385)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (1)
(سورة يوسف، الآية 101)
__________
(1) سورة يوسف الآية 101(67/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(67/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(67/3)
المحتويات
الافتتاحية
تأويل الرؤى والحذر من التوسع فيها 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 21
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 31
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 59
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 75(67/4)
البحوث
تفسير القرآن الكريم في كتابات المستشرقين للدكتور / عبد الرزاق بن إسماعيل هرماس 103
صفة الاستواء لله عز وجل لفضيلة الدكتور / صالح بن محمد العقيل 159
رسالة في ذم البدعة وأهلها "تحقيق" لفضيلة الدكتور / عواد بن عبد الله المعتق 191
اهتمام المحدثين ومنهجهم في حفظ السنة النبوية لفضيلة الدكتور / عبد العزيز بن أحمد الجاسم 257
الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع المنتهية "دراسة تأصيلية" لفضيلة الدكتور / عبد السلام بن محمد الشويعر 293
شروط صحة الظهار لفضيلة الدكتور / خالد بن علي المشيقح 325(67/5)
صفحة فارغة(67/6)
تأويل الرؤى والحذر من التوسع فيها
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ إلى من يراه من إخوانه المسلمين وفقنا الله وإياهم لكل خير.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . . أما بعد:
فإنه وردنا جملة من الأسئلة والاستفسارات حول موضوع الرؤى وتعبيرها، وما طرأ في الأزمان الأخيرة من التوسع في ذلك، حتى خصص لها زوايا في الصحف والمجلات، وأيضا برامج في القنوات الفضائية، وكذلك استخدمها أصحاب المنتزهات والمنتجعات الترفيهية وسيلة للجذب وكسب الأموال، ثم قامت بعض الشركات بتخصيص رقم هاتفي على مدار الساعة لاستقبال مكالمات الناس وتفسير رؤاهم.
ولما كان الأمر كذلك رأينا أن نبين للناس ما نعتقده، نصحا لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم، وأداء لواجب البيان(67/7)
الذي أخذ الله الميثاق به على أهل العلم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) .
فنقول وبالله نستعين: إن المؤمن يعلم أن الرؤى حق وأنها من عند الله وأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وأنها من المبشرات، وكل هذا صحيح جاءت النصوص الصحيحة مصرحة به، فمن ذلك ما جاء في القرآن من بيان لبعض رؤى الأنبياء وما كان من تفسيرها وتأويلها، وكذلك رؤيا غيرهم وما كان من تفسيرها.
فأما رؤيا الأنبياء فإنها حق ووحي، ومن ذلك قول إبراهيم الخليل - عليه السلام - لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (2) .
ومن ذلك رؤيا يوسف عليه السلام حيث قال فيما قص الله سبحانه لنا من خبره: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (3) وجاء تأويلها في آخر السورة عند قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة الصافات الآية 102
(3) سورة يوسف الآية 4
(4) سورة يوسف الآية 100(67/8)
وأما غير الأنبياء فقد جاء في كتاب الله العزيز في سورة يوسف عليه السلام، رؤيا السجينين وتأويل يوسف عليه السلام لرؤيا كل منهما، وكذلك رؤيا الملك وتأويل يوسف عليه السلام لها.
وأما أدلة الرؤيا من السنة الصحيحة، فمنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (1) » .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا (3) » . الحديث أخرجه مسلم.
فثبت بهذا أن الرؤى حق، لكن ينبغي أن يعلم أنه ليس كل ما يراه النائم هو من الرؤى الحق، بل ما يعرض للنائم في منامه، منه ما هو من الرؤى، ومنه ما هو من تهويل الشيطان وتلاعبه بابن آدم
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6987) ، صحيح مسلم الرؤيا (2264) ، سنن الترمذي كتاب الرؤيا (2271) ، سنن أبو داود الأدب (5018) ، مسند أحمد بن حنبل (5/316) ، سنن الدارمي الرؤيا (2137) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1045) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3899) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1325) .
(3) صحيح البخاري التعبير (7017) ، صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن أبو داود الأدب (5019) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3906) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، سنن الدارمي الرؤيا (2143) .(67/9)
ليحزنه، ومنه ما يحدث به المرء نفسه يقظة فيراه مناما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس (1) » . . . الحديث أخرجه مسلم.
إذا تبين هذا فإن ديننا الإسلام قد جاء بما فيه صلاح وخير البشر في العاجل والآجل، وقد بين لنا نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم كل ما فيه نفعنا وخيرنا، ومن ذلك ما نحن بصدده الآن فإن المسلم ينبغي له أن يعتني بذكر الله والإكثار منه فإن الله تعالى يقول: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أذكارا نقولها في الصباح والمساء وعند النوم ترفع بها درجات المسلم ويزداد بها إيمانه، ويعصمه الله بها من شر الشيطان وشر كل ذي شر فلا يضره شيء بإذن الله وحده، ومن ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: «أمسينا وأمسى الملك لله، لا إله إلا
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (7017) ، صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن أبو داود الأدب (5019) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3906) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، سنن الدارمي الرؤيا (2143) .
(2) سورة الرعد الآية 28(67/10)
الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر رب أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر (1) » وإذا أصبح قال ذلك أيضا: «أصبحنا وأصبح الملك لله (2) » أخرجه مسلم.
ومنه أيضا حديث عبد الله بن خبيب قال: «خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركنا فقال: أصليتم قل، فلم أقل شيئا، ثم قال: قل، فلم أقل شيئا، ثم قال: قل، فقلت: يا رسول الله، ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، والمعوذتين حيث تمسي، وحيث تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء (3) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
ومنه أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحنا وإذا أمسينا، قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قال: قلها إذا أصبحت
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2723) ، سنن الترمذي الدعوات (3390) ، سنن أبو داود الأدب (5071) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2723) ، سنن الترمذي الدعوات (3390) ، سنن أبو داود الأدب (5071) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3575) ، سنن النسائي الاستعاذة (5429) ، سنن أبو داود الأدب (5082) .(67/11)
وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك (1) » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.
ومنه أيضا حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء (2) » . ومنه أيضا حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي (3) » .
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، من قالها عشر مرات حين يصبح، كتب له بها مائة حسنة، ومحي عنه بها مائة سيئة، وكانت له عدل رقبة، وحفظ بها يومئذ حتى يمسي، ومن قال مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك (4) » .
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3392) ، سنن أبو داود الأدب (5067) ، مسند أحمد بن حنبل (2/297) ، سنن الدارمي كتاب الاستئذان (2689) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .
(3) سنن النسائي الاستعاذة (5530) ، سنن أبو داود الأدب (5074) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3871) ، مسند أحمد بن حنبل (2/25) .
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3293) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3468) ، سنن ابن ماجه الأدب (3798) ، مسند أحمد بن حنبل (2/360) ، موطأ مالك النداء للصلاة (486) .(67/12)
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقوال وأعمال عند النوم يحسن بالمسلم أن يعتني بها: فمن ذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيا وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور (1) » .
ومنه حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات (2) » .
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أنه أتاه آت يحثو من الصدقة، وكان قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها ليلة بعد ليلة، فلما كان في الليلة الثالثة قال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هي، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (3) حتى تختم الآية، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح،
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6314) ، سنن الترمذي الدعوات (3417) ، سنن أبو داود الأدب (5049) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3880) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) ، سنن الدارمي الاستئذان (2686) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، حديث رقم 6430، وأحمد في باقي مسند الأنصار، حديث رقم 23585، والترمذي في كتاب الدعوات، حديث رقم 3324، وأبو داود في كتاب الأدب، حديث رقم 4397.
(3) سورة البقرة الآية 255(67/13)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان» .
ومنه حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (1) » .
ومنه حديث ابن عمر رضي الله عنهما، «أنه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه أن يقول: اللهم خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية قال ابن عمر: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » .
ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه، وليسم الله، فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: سبحانك اللهم ربي بك وضعت جني، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (3) » .
ومنه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5051) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (807) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2881) ، سنن أبو داود الصلاة (1397) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1369) ، مسند أحمد بن حنبل (4/122) ، سنن الدارمي الصلاة (1487) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2712) ، مسند أحمد بن حنبل (2/79) .
(3) صحيح البخاري الدعوات (6320) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2714) ، سنن الترمذي الدعوات (3401) ، سنن أبو داود الأدب (5050) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/295) ، سنن الدارمي الاستئذان (2684) .(67/14)
للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول (1) » متفق عليه وفي رواية لمسلم: «واجعلهن من آخر كلامك (2) » . فهذه الأوراد والأذكار ينبغي لكل مسلم الحرص عليها والمداومة على الإتيان بها في محالها؛ اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وطردا للشيطان عنه وكذلك كل ذي شر، فإن الله يعصمه منه بحوله وقوته.
ثم إن المسلم إذا رأى في منامه رؤيا فليتبع الأدب النبوي في ذلك، فإن كانت رؤيا تسره ويحبها فليحمد الله ولا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان ويتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا، ويتحول عن شقه الذي كان عليه ولا تضره الرؤيا.
وقد جاء في بيان ذلك أحاديث صحيحة، منها حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا تمرضني، حتى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6311) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن الترمذي الدعوات (3394) ، سنن أبو داود الأدب (5046) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/296) ، سنن الدارمي الاستئذان (2683) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (247) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن الترمذي الدعوات (3394) ، سنن أبو داود الأدب (5046) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/296) ، سنن الدارمي الاستئذان (2683) .(67/15)
أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره (1) » أخرجه البخاري، وجاء عند ابن ماجه ذكر التحول عن شقه الذي كان عليه.
هذا هو الأدب النبوي العام في الرؤى، فإن أراد الرائي تعبير رؤياه فإنه يقصها على عالم بالتعبير ناصح أمين على الرؤيا. هذا ما يتعلق بالرائي.
أما المعبرون فالواجب عليهم تقوى الله عز وجل، والحذر من الخوض في هذا الباب بغير علم فإن تعبير الرؤى فتوى لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (2) .
ومعلوم أن الفتوى بابها العلم لا الظن والتخرص، ثم أيضا تأويل الرؤى ليس من العلم العام الذي يحسن نشره بين المسلمين ليصححوا اعتقاداتهم وأعمالهم، بل هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشرات، وكما قال بعض السلف: الرؤيا تسر المؤمن ولا تضره.
هذا وإن التوسع في باب تأويل الرؤيا، حتى سمعنا أنه يخصص لها في القنوات الفضائية، وكذلك على الهواتف، وفي الصحف والمجلات والمنتديات العامة من المنتجعات وغيرها أماكن خاصة بها؛ جذبا للناس وأكلا لأموالهم بالباطل، كل هذا شر عظيم وتلاعب بهذا
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (7044) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .
(2) سورة يوسف الآية 43(67/16)
العلم الذي هو جزء من النبوة، قيل لمالك - رحمه الله -: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب! وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيرا أخبر به وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال: إنما على ما أولت عليه، فقال: لا، ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
فيجب على المسلمين التعاون في منع هذا الأمر كل حسب استطاعته، ويجب على ولاة الأمور السعي في غلق هذا الباب؛ لأنه باب شر وذريعة إلى التخرص والاستعانة بالجن وجر المسلمين في ديار الإسلام إلى الكهانة والسؤال عن المغيبات، زيادة على ما فيها من مضار لا تخفى من إحداث النزاعات والشقاق والتفريق بين المرء وزوجه، والرجل وأقاربه وأصدقائه، كل هذا بدعوى أن ما يقوله المعبر هو تأويل الرؤيا، فيؤخذ على أنه حق محض لا جدال فيه وتبنى عليه الظنون، وهذا من أبطل الباطل، كيف وصديق هذه الأمة بل خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين لما عبر الرؤيا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا (1) » ونحن لا نعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خير القرون وأحرصهم على هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وأتقاهم لله وأخشاهم له لا نعلم أنهم عقدوا مجالس عامة لتأويل الرؤى ولو كان خيرا لسبقونا
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (7046) ، صحيح مسلم كتاب الرؤيا (2269) ، سنن الترمذي كتاب الرؤيا (2293) ، سنن أبو داود السنة (4632) ، سنن ابن ماجه كتاب تعبير الرؤيا (3918) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) ، سنن الدارمي الرؤيا (2156) .(67/17)
إليه، وإني إبراء للذمة ونصحا للأمة لأحذر كل من يصل إليه هذا البيان من التعامل مع هؤلاء أو التعاطي معهم والتمادي في ذلك، بل الواجب مقاطعتهم والتحذير من شرهم، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وألزمنا وإياكم كلمة التقوى، ورزقنا اتباع سنة سيد المرسلين واقتفاء آثار السلف الصالحين، وحشرنا وإياكم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(67/18)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء(67/19)
صفحة فارغة(67/20)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية "رحمه الله"
صلاة الضحى
س: الذي يصلي أربع تسليمات الضحى، هل يجوز له أن يصلي تسليمتين في الضحى، وتسليمتين في الإشراق؟
والجواب: وقت صلاة الضحى من خروج وقت النهي وهو ما إذا ارتفعت الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال، وأفضلها إذا اشتد الحر؛ لما ثبت في الصحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال من الضحى (1) » وإذا أردت أن تصلي تسليمتين في أول الوقت، وتسليمتين في آخره، أو فيما بين ذلك، فيجوز. والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (748) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي الصلاة (1457) .(67/21)
سجدة (ص)
س: سئل - رحمه الله - عن حكم السجود في سجدة (ص) ؟
فالجواب: أن المنصوص أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، لما روى البخاري عن ابن عباس قال: « (ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله(67/21)
عليه وسلم سجد فيها (1) » . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سجدها داود توبة ونسجدها شكرا (2) » رواه النسائي.
فعلى هذا يسجد لها خارج الصلاة، فإن سجد لها في الصلاة فالمشهور في المذهب أن صلاته تبطل. والقول الآخر أنها سجدة من ضمن سجدات القرآن، وعلى هذا مشى الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) فإنه عدها من ضمن سجدات القرآن، ولم يخصها بشيء من الأحكام، فعلى هذا يسجد بها في الصلاة ولا بأس، وهو الصواب الذي عليه عمل أئمة المساجد.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4807) ، سنن الترمذي الجمعة (577) ، سنن النسائي الافتتاح (957) ، سنن أبو داود الصلاة (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (1/359) ، سنن الدارمي الصلاة (1467) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4807) ، سنن الترمذي الجمعة (577) ، سنن النسائي الافتتاح (957) ، سنن أبو داود الصلاة (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (1/359) ، سنن الدارمي الصلاة (1467) .(67/22)
سجود التلاوة لا يشرع فيه التكبير في النهوض
سئل - رحمه الله - عن جهر الإمام بالتكبير في النهوض من سجود التلاوة في الصلاة؟
ج: اعلم أن هذا قول طائفة من أهل العلم؛ بناء على أن سجود التلاوة صلاة. وذهب آخرون إلى أن هذا التكبير لا يشرع، بناء على أن سجود التلاوة ليس بصلاة. وهذا هو الأرجح، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، قال في الاختيارات: ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل، وأنه السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها عامة السلف، وعلى هذا فليس بصلاة. انتهى.
وكان شيخنا ووالدنا العم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه(67/22)
الله يكبر في الصلاة للانحطاط لهذا السجود، ولا يكبر للنهوض منه، وهو مقتضى ما قرره شيخنا الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله؛ لحديث ابن عمر الذي رواه أبو داود: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فيسجد ونسجد معه (1) » وهذا الحديث دل على شرعية التكبيرة الأولى دون الثانية. إلا أن الحافظ ابن حجر حين ذكره في (بلوغ المرام) قال: وفي سنده لين. قال في (سبل السلام) : لأنه من رواية عبد الله المكبر العمري وهو ضعيف، وأخرجه الحاكم من رواية عبيد الله المصغر وهو ثقة. اهـ.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1075) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (575) ، سنن أبو داود الصلاة (1412) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .(67/23)
تقرأ السجدة في الحرم، ولو كان الحجاج لا يفهمون
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم \
مدير الإدارة العامة للتفتيش الديني. بمكة المكرمة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلنا خطابك، وفهمنا ما تضمنه حول قراءة السجدة في صلاة فجر الجمعة، وذكركم أن الحجاج لا يفهمون معنى السجدة، فعندما يسجد الإمام يركعون، وعندما يرفع من السجود يسجدون، وبعد انتهاء الصلاة يعيد بعضهم صلاة الفجر. وتقترحون لفت نظر أئمة المسجد إلى العدول عن قراءة السجدة إبان الموسم منعا من التشويش والارتباك في الصلاة.(67/23)
ونفيدك أن ما ذكرته من تشويش المصلين من الحجاج الأجانب وارتباكهم في الصلاة وقت السجود في السجدة لا يستبعد، ولكن القضاء على هذا التشويش والارتباك لا يكون بترك السنة الثابتة، وإنما ينبغي للإمام أن ينبه المصلين الحجاج قبل شروعه في الصلاة إلى عزمه على قراءة السجدة في صلاة فجر الجمعة، وأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصف لهم هذه السجدة حتى يرجع الحجاج وقد عرف الجاهل منهم بهذه السنة النبوية. وبهذا يحصل الجمع بين تعريفهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والمحافظة عليها، وتنبيههم إلى ما يقطع عنهم التشويش والارتباك في الصلاة.
ثم إنه يجب علينا الحرص على أن يجعل من فترة الحج فرصة يتعلم فيها المسلمون كثيرا من أمور دينهم، مما يجهلونه في بلادهم وليعلموه ويعلموه، وبذلك يحصل للمسلمين شيء مما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1) . ونسأل الله تعالى أن يعز دينه، ويعلي كلمته، ويجمع شمل المسلمين، وييسر لهم أمورهم. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
__________
(1) سورة الحج الآية 28(67/24)
تقدم ركعتا الطواف على صلاة الإشراق
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ح. م سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(67/24)
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن وقت صلاة الإشراق، وهل تقدم على ركعتي الطواف أو بالعكس؟
والجواب: لا يدخل وقت صلاة الإشراق إلا بعد زوال وقت النهي، وبعد ارتفاع الشمس قيد رمح في رأي العين؛ لحديث عقبة بن عامر: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب (1) » رواه مسلم.
وأما تقديمها على ركعتي الطواف، فالأولى أن تقدم ركعتي الطواف، حتى يصل الطواف بركعتيه، وأن لا يفصل بينهما بصلاة. والسلام.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (831) ، سنن الترمذي الجنائز (1030) ، سنن النسائي المواقيت (560) ، سنن أبو داود الجنائز (3192) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1519) ، مسند أحمد بن حنبل (4/152) ، سنن الدارمي الصلاة (1432) .(67/25)
صلاة التطوع قبل أذان المغرب
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ع. ي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصل كتابك الذي تسأل فيه عن حكم صلاة من دخل المسجد قبل المغرب بسبع دقائق إذا صلى تطوعا أو تحية المسجد.
والجواب: أما الصلاة تطوعا من غير ذوات الأسباب في هذا الوقت وفي بقية أوقات النهي فلا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة؟ لعموم النهي عن ذلك.(67/25)
وأوقات النهي خمسة: بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تزول، وإذا تضيفت للغروب حتى تغرب. والذي يدل على النهي عن ذلك، ما رواه البخاري وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس (1) » . وما رواه أصحاب السنن وغيرهم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1864) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (827) ، سنن النسائي المواقيت (567) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1249) ، مسند أحمد بن حنبل (3/39) .(67/26)
صلاة ركعتي الفجر بعده
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم الأخ ع. ح. م. ز سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على الأسئلة التي وجهتها وهي:
1 - عن صلاة تحية المسجد في أوقات النهي المعلومة؟
2 - عما يصنع من أدرك الناس في المسجد يصلون الصبح فصلى معهم، هل يصلي ركعتي الفجر بعد فراغه من الصبح، أم(67/26)
يؤخرها إلى طلوع الشمس؟
والجواب عنها ما يلي، وبالله تعالى التوفيق:
من دخل المسجد في وقت من أوقات النهي، فالمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل أنه لا يصلي تحية المسجد وهذا اختيار كثير من أصحابه، وروي عنه جواز صلاة تحية المسجد ونحوها من ذوات الأسباب في أوقات النهي، وهذا اختيار أبي الخطاب، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأما من دخل المسجد فأدرك الناس وهم في صلاة الصبح، فصلى معهم، فله أن يصلي ركعتي الفجر بعد فراغه من صلاة الصبح، ولكن الأولى له التأخير إلى ارتفاع الشمس قيد رمح، وفي ذلك يقول ابن قدامة في (الكافي) : رأي الإمام أحمد في ركعتي الفجر إن صلاهما بعد الفجر أجزأه.(67/27)
صلاة الجماعة في المساجد فرض عين،
وليست الدراسة والتدريس عذرا
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي المملكة العربية السعودية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام، وبعد:
قد بدا لي أن أستفتيكم عن تأخر الصلاة لوقتها لمن يسمع(67/27)
النداء مع قربه للمسجد، معتذرا أنه يدرس العلم أو يدرسه كما هو واقع في المدارس. فهل هذا يقوم عذرا لمن يتخلف عن الصلاة بالجماعة مع معرفتنا لما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في غزواتهم والرسول صلى الله عليه وسلم معهم لم يؤخروها وهم في صفوف القتال. فإذا تفضلتم بالأمر إلى عمل جداول (أوقات للدراسة) تتفق مع المحافظة على حضور الجماعة حتى يشب الطلاب (على الخصوص) بالمحافظة على الصلاة لوقتها، وحتى لا يكون هناك عذر للمتخلفين الذين تثقل عليهم الصلاة. ودمتم سالمين.
الجواب: الحمد لله، صلاة الجماعة واجبة على الأعيان حضرا وسفرا. ولا يعذر بالتخلف عنها إلا من عذره الشرع بالمرض والخوف وما في معناهما. هذا الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما في مسند الإمام أحمد عن ابن أم مكتوم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال: إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه (1) » . وفي لفظ لأبي داود: «ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليس بهم علة فأحرق عليهم بيوتهم (2) » «وقال له ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى: هل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: لا أجد لك رخصة (3) » وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد،
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (552) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (792) ، مسند أحمد بن حنبل (3/423) .
(2) صحيح البخاري الأذان (644) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (549) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/537) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1212) .
(3) سنن النسائي الإمامة (851) ، سنن أبو داود الصلاة (552) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (792) .(67/28)
فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب (1) » . وعن جابر بن عبد الله قال: «فقد النبي صلى الله عليه وسلم قوما في صلاة فقال: ما خلفكم عن الصلاة؟ فقالوا: الماء كان بيننا، فقال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» رواه الدارقطني، ولدلائل أخر ليس مع من خالف ما يقاومها.
قال ابن القيم رحمه الله في (كتاب الصلاة) : ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة. فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر؛ وبهذا تتفق جميع الآثار والأحاديث.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ أهل مكة موته خطبهم سهيل بن عمرو، وكان عتاب بن أسيد عامله على مكة قد توارى خوفا من أهل مكة، فأخرجه سهيل وثبت أهل مكة على الإسلام، فخطبهم بعد ذلك عتاب، وقال: يا أهل مكة والله لا يبلغني أن أحدا منكم تخلف عن الصلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربت عنقه. وشكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع وزاده رفعة في أعينهم. فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر. اهـ، فقد عرفت مما تقدم أن الجماعة واجبة على الأعيان، وأنه لا يعذر عن فعلها جماعة في المسجد إلا من عذره الشرع بالبيان المتقدم. أما ما ذكرت عن درس العلم وتدريسه فليس عذرا في عدم الحضور، والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .(67/29)
فتوى في قصر الصلاة
س: سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف عن صلاة القصر لمن يباح له القصر منفردا أو مع جماعة تماما ما الأفضل. وعما إذا صلى من يباح له القصر مع المقيم ركعتين من آخر صلاته فقط ثم يسلم معه هل تصح أم لا؟
ج: أما المسافر الذي يباح له القصر فالجماعة واجبة عليه كالمقيم. فإن أمكن الجمع بين الواجب عليه، وهو الصلاة جماعة، وبين ما هو السنة في حقه وهو القصر، بأن وجد جماعة مسافرين يصلون قصرا صلى معهم، وإلا صلى مع الجماعة المقيمين ولزمه حينئذ الإتمام. وهذه إحدى الصور الإحدى والعشرين التي يلزم المسافر الإتمام فيها.
أما إذا صلى من يباح له القصر مع المقيم ركعتين من آخر صلاته ثم سلم معه، فإنها لا تنعقد هذه الصلاة إن أحرم بها ناويا القصر عالما وجوب الإتمام عليه كنية المقيم القصر، وأما إن كان جاهلا فإنها تنعقد ويلزمه إتمامها أربعا لائتمامه بالمقيم كما تقدم في التي قبلها.(67/30)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا "رحمه الله "
لم يثبت في القراءة بعد التكبيرة الرابعة شيء
س: هل يقرأ بعد التكبيرة الرابعة شيء؟
ج: لم يثبت شيء في ذلك، بل يكبر، ثم يسكت قليلا، ثم يسلم بعد الرابعة.(67/31)
حكم الزيادة على أربع تكبيرات
س: إذا كان الميت له فضل، فهل يزاد في عدد التكبيرات؟
ج: الأفضل الاقتصار على أربع، كما عليه العمل الآن؛ لأن هذا هو الآخر من فعل النبي الله صلى الله عليه وسلم، والنجاشي مع كونه له مزية كبيرة، اقتصر عليه الصلاة والسلام في التكبير عليه بأربع.(67/31)
حكم رفع اليدين مع التكبيرات في صلاة الجنازة
س: رفع اليدين في صلاة الجنازة مع التكبيرات هل هو سنة؟(67/31)
ج: السنة رفع اليدين مع التكبيرات الأربع كلها؛ لما ثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يرفعان مع التكبيرات كلها، ورواه الدارقطني مرفوعا من حديث ابن عمر بسند جيد.(67/32)
السنة لمن فاتته بعض تكبيرات صلاة الجنازة أن يقضيها
س: الأخ م. م. أ. من نيويورك، يقول في سؤاله: إذا فات الإنسان بعض صلاة الجنازة فهل يقضيها؟ وما هي صفة قضائها؟ (1) .
ج: السنة لمن فاته بعض تكبيرات الجنازة أن يقضي ذلك، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فامشوا إليها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا (2) » . وصفة القضاء: أن يعتبر ما أدركه هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا (3) » . فإذا أدرك الإمام في التكبيرة
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته، من (المجلة العربية)
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) ، برقم (9967) ، واللفظ له، والبخاري في (الأذان) ، برقم (636) .
(3) رواه البخاري في (الأذان) ، باب لا يسعى إلى الصلاة، برقم (636) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) ، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، برقم (602) .(67/32)
الثالثة كبر وقرأ الفاتحة، وإذا كبر الإمام الرابعة كبر بعده، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سلم الإمام، كبر المأموم المسبوق ودعا للميت دعاء موجزا، ثم يكبر الرابعة ويسلم. وفق الله الجميع لما يرضيه.
س: هل يقضي المصلي صلاة الجنازة إذا دخل وقد فاته بعضها؟ (1) .
ج: يقضيها في الحال، فإذا أدرك مع الإمام التكبيرة الثالثة فإنه يكبر ويقرأ الفاتحة، وإذا كبر الإمام الرابعة، فإنه يكبر الثانية بالنسبة إليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا سلم الإمام، كبر الثالثة وقال: اللهم اغفر له، إلى آخر الدعاء، ثم يكبر الرابعة ويسلم.
س: إذا رفعت الجنازة فكيف يصلي من فاته بعض الصلاة؟
ج: يكبر في الحال، ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر بعد إمامه التكبيرة التي أدركها فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا سلم الإمام، يكبر ويقول اللهم اغفر له، ثم يكبر ويسلم إذا كان قد فاته تكبيرتان.
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/33)
من دخل مع الإمام وهو يصلي
صلاة الجنازة ظانا أنه يصلي الفريضة
س: الأخ م. ع. م. من العلا، يقول في سؤاله: دخلت(67/33)
المسجد لأداء صلاة الظهر، فوجدت الناس وقوفا يصلون، فكبرت معهم، وبعد قليل اكتشفت أنهم يصلون على جنازة، فارتبكت وقطعت الصلاة، ثم كبرت مرة أخرى تكبيرة الإحرام لأقضي صلاة الظهر، ولم أكمل معهم الصلاة على الجنازة. فما حكم ما فعلت، وهل علي شيء؟ أرجو التكرم بإجابتي على سؤالي. .
ج: المشروع لك في مثل هذا الأمر، أن تنوي صلاة الجنازة إذا علمت أنها صلاة جنازة، ثم تكبر وتكمل معهم صلاة الجنازة، وتقضي ما فاتك من التكبيرات إن فاتك شيء، ثم بعد ذلك تصلي صلاة الظهر؛ لأن صلاة الجنازة تفوت، وصلاة الظهر لا تفوت؛ لأن وقتها واسع. والله ولي التوفيق.(67/34)
تقدم صلاة الجنازة
على الفرض في هذه الحال
س: من دخل المسجد للصلاة على الجنازة ولم يصل الفرض، فهل يصلي الفرض أولا، أو يدخل معهم في الصلاة على الجنازة؟ وإذا حملت الجنازة هل يصلي عليها؟ (1) .
__________
(1) هذا السؤال وأربعة بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/34)
ج: يصلي معهم على الجنازة، ثم يصلي الفرض لأن الجنازة تفوت، والفرض لا يفوت، وأما إذا حملت الجنازة فلا يصلي عليها، وإنما يتبعها، ويصلي عليها بعد الدفن، أو عند القبر.(67/35)
كيف يفعل من حضر الجنازة
في مسجد وقد صلى الفرض في آخر
س: بعض المصلين يأتون وقد صلوا الفرض في مساجدهم، فإذا أقيمت صلاة الفرض في المسجد الذي سيصلى على الميت فيه، فهل يصلون في المسجد مع المسلمين مرة ثانية، أو يجلسون في المسجد ينتظرونهم، والذي لم يأت إلا متأخرا، وقد فاته ثلاث ركعات، هل يصلي معهم مع خشيته فوات صلاة الجنازة؟
ج: إذا جاء المسلم إلى المسجد فوجد الناس يصلون، فإن المشروع له أن يصلي معهم، فإنها له نافلة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: «صل الصلاة لوقتها، فإن أقيمت وأنت في المسجد فصل معهم، فإنها لك نافلة (1) » ، وجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجلين، وهو في منى، في حجة الوداع، لم يصليا معه صلاة الفجر، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: «ما
__________
(1) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) ، برقم (648) ولفظه: ((. . . فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة)) .(67/35)
منعكما أن تصليا معنا فقالا: قد صلينا في رحالنا يا رسول الله. فقال لهما صلى الله عليه وسلم: إذا صليتما في رحالكما، ثم أدركتما الإمام لم يصل، فصليا معه، فإنها لكما نافلة (1) » .
وفي الباب أحاديث كثيرة، وهي تدل على أن المسلم متى أدرك الصلاة مع الإمام أو بعضها، فإنه يصلي معه، وتكون له نافلة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) ، برقم 17020) ، ولفظه ((إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة)) ورواه الترمذي، بهذا اللفظ في (كتاب الصلاة) ، برقم (219) ، والنسائي في (الإمامة) برقم (858) .(67/36)
حكم الصلاة على الميت بعد دفنه
س: ما حكم الصلاة على الجنازة بعد دفنها؟ وهل تحد بشهر؟
ج: حكم الصلاة على الجنازة بعد دفنها سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها بعد الدفن، والذي ما حضر الصلاة عليها يصلي عليها بعد الدفن، حتى الذي صلى عليها لا مانع من أن يعيد الصلاة عليها مع المصلين، ولا حرج في ذلك، حتى لو صلى عليها مرتين أو ثلاثا مع من يصلي عليها ممن فاتته الصلاة عليها، والمشهور عند العلماء أنها إلى شهر تقريبا.(67/36)
أقصى مدة يمكن الصلاة فيها على الميت بعد دفنه
س: هل تجوز الصلاة على الميت في قبره بعد مضي شهر؟
ج: الأحوط تركه؛ لأن فيه خلافا بين العلماء، وأكثر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر بعد شهر، والأصل عدم الصلاة على القبور.
س: عرفنا أن من المشهور عند العلماء أن الصلاة على الميت بعد دفنه تكون إلى شهر تقريبا، إذن فكيف توجه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة في البقيع في آخر حياته والدعاء لهم؟
ج: المقصود بالصلاة عليهم الدعاء لهم، الدعاء الذي يدعى به للميت.(67/37)
حكم تكرار الصلاة على الميت
س: هل يجوز أن أصلي على قبر أبي صلاة الجنازة عند زيارته طلبا للرحمة له؟ (1) .
ج: إذا كنت قد صليت على أبيك مع الناس فلا حاجة إلى إعادة الصلاة، بل تزوره وتدعو له فقط، تأتي المقبرة وتسلم على أهل
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد (11678) في 20 \ 4 \ 1419 هـ.(67/37)
القبور وتدعو لهم وتدعو لأبيك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية (2) » .
فتسلم على أهل القبور وعلى أبيك، وتدعو له بالمغفرة والرحمة، ولا حاجة إلى الصلاة، هذا إذا كنت صليت عليه. أما إذا كنت لم تصل عليه مع الناس فإنك تذهب إلى قبره وتصلي عليه في مدة شهر فأقل، إذا كان مضى له شهر أو أقل، أما إذا طالت المدة فلا صلاة عند جمع من أهل العلم، والدعاء يكفي لأبيك والاستغفار له، والترحم عليه، والتصدق عنه بالمال، كل هذا ينفع الميت، من أب وغيره.
س: تكرار الصلاة على الجنازة ما حكمه؟ (3) .
ج: إن كان هناك سبب فلا بأس مثل أشخاص حضروا بعد الصلاة عليها فإنهم يصلون عليها عند القبر أو بعد الدفن، وهكذا
__________
(1) رواه ابن ماجه في (الجنائز) باب ما جاء في زيارة القبور برقم (1569)
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور برقم (974)
(3) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/38)
يشرع لمن صلى عليها مع الناس في المصلى أن يصلي عليها مع الناس في المقبرة؛ لأن ذلك من زيادة الخير له وللميت.
س: هل يجوز تكرار الصلاة على الميت في المسجد أو في المقبرة؟ (1) .
ج: إذا صلى عليه ثم وافق أناسا يصلون عليه وصلى معهم عند القبر فلا بأس في ذلك، مثل ما لو صلى صلاة في مسجد ثم ذهب لمسجد آخر لحاجته فوجدهم يصلون فإنه يصلي معهم وتكون له نافلة.
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.(67/39)
حكم الصلاة على القبر وقت النهي
س: ما حكم الصلاة على القبر وقت النهي؟ (1) .
ج: لا يصلى على القبر وقت النهي إلا إذا كان ذلك في الوقت الطويل أي بعد صلاة العصر وصلاة الفجر فوقت النهي هنا طويل فلا بأس بالصلاة في هذا الوقت؛ لأنها من ذوات الأسباب، أما في الأوقات المضيقة وهي التي جاءت في حديث عقبة رضي الله عنه في صحيح مسلم، قال رضي الله عنه: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا:
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/39)
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب (1) » فلا تجوز الصلاة في هذه الأوقات على الميت ولا دفنه فيها لهذا الحديث الصحيح.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (16926) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) برقم (831) .(67/40)
حكم الصلاة على الميت في المغسلة
س: هل تجوز الصلاة على الميت في المغسلة لمن لا يستطيع الصلاة عليه مع الناس في المسجد؟
ج: لا حرج في ذلك إذا كان المكان طاهرا.(67/40)
حكم الصلاة على الغائب
س: ما حكم الصلاة على الغائب؟
ج: المشهور أنها خاصة بالنجاشي، وأجازها بعض أهل العلم إذا كان المتوفى له شأن في الإسلام أو عالم له نشاط في الدعوة ونشر العلم وهو غائب يصلى عليه، ولكن ما بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على غير النجاشي ولم يأت من أي طريق صحيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى على غير النجاشي، وقد مات كثير من الصحابة في مكة وفي غيرها ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى عليهم. فالحاصل أن قول من قال بالتخصيص له قوة، وإذا فعل ذلك مع من(67/40)
له شأن في الإسلام يشبه النجاشي من العلماء والأمراء الذين لهم شأن في الإسلام فنرجو أن لا حرج إن شاء الله في ذلك.
س: ما حكم صلاة الغائب؟ وهل تجوز أن تصلى على من لم يدفن بعد؟ (1) .
ج: الصلاة على الغائب فيها تفصيل: بعض أهل العلم يرى أنه لا يصلى على الغائب إذا كان قد صلي عليه في بلده، وبعضهم يرى الصلاة عليه. لكن إذا كان الغائب له شأن في الإسلام كالنجاشي رحمه الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي لما مات في بلاده وأخبر به الصحابة وصلى عليه صلاة الغائب، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على غيره. فإذا كان الغائب إمام عدل وخير صلى عليه صلاة الغائب ولي الأمر، فيأمر بالصلاة عليه صلاة الغائب. وهكذا علماء الحق ودعاة الهدى إذا صلي عليهم صلاة الغائب فهذا حسن، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي.
أما أفراد الناس فلا تشرع الصلاة عليهم. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على كل غائب، إنما صلى على شخص واحد وهو النجاشي. لأن له قدم في الإسلام، ولأنه آوى المهاجرين من الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة؛ آواهم ونصرهم وحماهم
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (1) .(67/41)
وأحسن إليهم، وكانت له يد عظيمة في الإسلام، ولهذا صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وصلى عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن كان بهذه المثابة وله قدم في الإسلام يصلى عليه، مثلما صلى المسلمون في هذه البلاد على ضياء الحق رئيس باكستان رحمه الله، لما كان له من مواقف طيبة إسلامية، فقد أمر ولي الأمر أن يصلى عليه في الحرمين، وصلي عليه؛ لأنه أهل لذلك، لمواقفه الكريمة وعنايته بتحكيم الشريعة وأمره بها وحرصه على ذلك. نسأل الله لنا وله العفو والمغفرة.
والمقصود أن من كان بهذه المثابة في حكام المسلمين وعلماء المسلمين إذا ماتوا في بلاد الغربة أو في بلادهم أيضا شرع للمسلمين الغائبين عنهم أن يصلوا عليهم صلاة الغائب؛ لقصة النجاشي المذكورة. والله ولي التوفيق.(67/42)
كيفية الصلاة على الغائب
س: ما كيفية الصلاة على الغائب؟ (1) .
ج: الصلاة على الغائب مثل صلاة الحاضر.
__________
(1) هذا السؤال وأربعة بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/42)
حكم الصلاة على المنافق
س: إذا عرف أن الميت منافق فهل يصلى عليه؟
ج: لا يصلى عليه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (1) ، إذا كان نفاقه ظاهرا، أما إذا كان ذلك مجرد تهمة فإنه يصلى عليه؛ لأن الأصل وجوب الصلاة على الميت المسلم فلا يترك الواجب بالشك.
__________
(1) سورة التوبة الآية 84(67/43)
الصلاة على أهل البدع
س: ترك الصلاة على أهل البدع ما حكمه؟
ج: إذا تركها أهل العلم من باب التنفير من عملهم فهو مناسب إذا كانت بدعتهم لا توجب تكفيرهم، أما إن كانت بدعتهم مكفرة كبدعة الخوارج والمعتزلة والجهمية فلا يصلى عليهم.
س: إذا ترك العلماء الصلاة على أهل البدع، ألا يكون فعلهم هذا قدوة لترك الناس الصلاة عليهم؟
ج: الصلاة على الميت المسلم واجبة وإن كانت لديه بدعة، ويصلي عليهم بعض الناس إذا كانت بدعتهم لا تخرجهم عن الإسلام، أما إذا كانت بدعتهم توجب كفرهم فإنه لا يصلى عليهم،(67/43)
ولا يستغفر لهم؛ كالجهمية والمعتزلة والرافضة الذين يدعون عليا رضي الله عنه، ويستغيثون به وبأهل البيت وأشباههم؛ لقول الله سبحانه في المنافقين وأشباههم: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 84(67/44)
حكم الصلاة على المنتحر
س: من قتل نفسه فهل يصلى عليه؟
ج: يصلي عليه بعض المسلمين كسائر العصاة؛ لأنه لا يزال في حكم الإسلام عند أهل السنة.(67/44)
الشهداء الذين ماتوا في المعركة لا تشرع الصلاة عليهم مطلقا
س: الأخ م. م. من زغرب في كرواتيا يقول في سؤاله: صليت في أحد المساجد يوم الجمعة وبعد الصلاة قام الإمام وصلى صلاة الغائب على الشهداء في البوسنة والهرسك، فهل فعله هذا موافق للسنة؟ وهل هناك شروط لإقامة صلاة الغائب؟ (1) .
ج: الشهداء الذين يموتون في المعركة لا تشرع الصلاة عليهم
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من (المجلة العربية) .(67/44)
مطلقا ولا يغسلون؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد ولم يغسلهم (1) » . . رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
أما الصلاة على الغائب ففيها خلاف بين أهل العلم، والصواب جوازها إذا كان الميت الغائب له شأن في الإسلام وعمل عظيم مشهور دون بقية الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي لما مات في الحبشة، لموقفه العظيم مع المسلمين، وإيوائه إياهم لما هاجروا إليه، وحمايتهم من أعدائهم، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على غائب سواه، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة على الغائب خاصة بالنجاشي، وذهب آخرون إلى أنه لا حرج في الصلاة على غيره إذا كان له شأن في الإسلام، وعمل عظيم ينفع المسلمين، كما فعل النجاشي. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1016) ، سنن أبو داود الجنائز (3135) .(67/45)
حكم الصلاة على من مات وعليه دين
س: عدم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على من عليه دين لماذا؟ (1) .
ج: هذا منسوخ، وكان أولا لأجل حثهم على قلة الدين
__________
(1) هذا السؤال وأربعة بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/45)
وعلى المسارعة في القضاء ثم نسخ، وأخيرا صلى عليه الصلاة والسلام على من عليه دين وعلى الذي ليس عليه دين.(67/46)
حكم الصلاة على الجنين
س: الجنين هل يصلى عليه؟
ج: إذا ولد في الشهر الخامس وما بعده فإنه يغسل ويصلى عليه، ويدفن في قبور المسلمين.(67/46)
الصلاة على الجنازة في المصلى أفضل من المسجد
س: أيهما أفضل الصلاة على الميت في المسجد أم في المصلى؟
ج: في المصلى أفضل إذا تيسر، والصلاة في المسجد جائز كما «صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد (1) » كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها (2) .
س: من المعلوم أن الصلاة على الميت (الجنازة) أفضل في المصلى، فهل يخصص في المقبرة مصلى للأموات، أو يصلى عليهم في مصلى العيد؟
ج: يصلى على الميت في المسجد سواء كان ذكرا أو أنثى، إلا
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (973) ، سنن الترمذي الجنائز (1033) ، سنن النسائي الجنائز (1968) ، سنن أبو داود الجنائز (3190) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1518) ، مسند أحمد بن حنبل (6/169) ، موطأ مالك الجنائز (538) .
(2) رواه مسلم في الجنائز برقم (973) .(67/46)
إذا كان يوجد مصلى معدا للجنائز فإنه يصلى فيه على الجنائز إذا تيسر ذلك، وإن صلي على الجنائز في المسجد فلا بأس بذلك، ولو كان هناك مصلى للجنائز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابني بيضاء في المسجد (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (973) ، سنن الترمذي الجنائز (1033) ، سنن النسائي الجنائز (1968) ، سنن أبو داود الجنائز (3190) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1518) ، مسند أحمد بن حنبل (6/169) ، موطأ مالك الجنائز (538) .(67/47)
حكم وضع الميت في غرفة حتى يصلى عليه
س: وضع الميت في الغرفة حتى يصلى عليه هل فيه بأس؟
ج: ليس فيه بأس ولا حرج.(67/47)
حكم دفن البهائية في مقابر المسلمين
س: الذين اعتنقوا مذهب (بهاء الله) الذي ادعى النبوة وادعى أيضا حلول الله فيه، هل يسوغ للمسلمين دفن هؤلاء الكفرة في مقابر المسلمين؟ (1) .
ج: إذا كانت عقيدة البهائية كما ذكرتم فلا شك في كفرهم وأنه لا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين؛ لأن من ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كاذب وكافر بالنص وإجماع المسلمين؛ لأن ذلك تكذيب لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) ولما تواترت به الأحاديث عن
__________
(1) استفتاء شخصي وقد صدر جوابه من مكتب سماحته.
(2) سورة الأحزاب الآية 40(67/47)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده وهكذا من ادعى أن الله سبحانه حال فيه، أو في أحد من الخلق فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الله سبحانه لا يحل في أحد من خلقه بل هو أجل وأعظم من ذلك، ومن قال ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين مكذب للآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه، فوق العرش قد علا وارتفع فوق جميع خلقه، وهو سبحانه العلي الكبير الذي لا مثيل له ولا شبيه، وقد تعرف إلى عباده بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ، وفي قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، وفي قوله عز وجل: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (3) ، وقوله سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على علوه وارتفاعه فوق عرشه واستوائه عليه استواء يليق بجلاله وعظمته لا يشابه خلقه فيما يستوون عليه ولا يعلم كيف استوى إلا هو سبحانه، كما لا يعلم كيف ذاته إلا هو عز وجل، وهذا الذي أوضحه لك في حق الباري سبحانه هو عقيدة أهل السنة والجماعة التي درج عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام، ودرج عليها خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة غافر الآية 12
(4) سورة فاطر الآية 10(67/48)
وسلم، ودرج عليها خلفاؤه الراشدون وصحابته المرضيون والتابعون لهم بإحسان إلى يومنا هذا. واعلم يا أخي أنني لم أقرأ شيئا من كتب البهائية إلى حين التاريخ ولكن قد علمت بالاستفاضة أنها طائفة ضالة كافرة خارجة عن دائرة الإسلام. وعلى مقتضى ما ذكره في السؤال حصل الجواب. ثم إني اطلعت بعد تحرير الجواب على محاورة بين سني وبهائي نشر في مجلة (الهدي النبوي) لأنصار السنة في القاهرة في أعداد أربعة قرأت منها ثلاثة أعداد صادرة في رمضان وذي القعدة اثنان منها صدرا في عام 1368، والثالث في ربيع الثاني من عام 1369 وقد صرح البهائي في هذه المحاورة أن بهاء الله، رسول الطائفة البهائية يزعم أنه رسول ناسخ للشرائع التي قبله نسخ تعديل وتلطيف وأن كل عصر يحتاج إلى رسول، وصرح أيضا بإنكار الملائكة وأن حقيقة الملائكة هي أرواح المؤمنين العالية، وظاهر كلامه أيضا إنكار المعاد الجثماني وإنكار ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدجال ولا شك أن دعوى البهائي (الرسالة) وزعمه أن كل عصر يحتاج إلى رسول كفر صريح، والله سبحانه هو الموفق ولا حول ولا قوة إلا به، ونسأل الله عز وجل لنا ولكم ولسائر إخواننا المؤمنين التوفيق لمعرفة الحق واتباعه إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(67/49)
حكم دفن ما بتر من إنسان
س: ما حكم بتر جزء معين من الإنسان زائد، كبتر الأصبع أو غيرها، هل ترمى مع النفايات، أو أنه تجمع ويكلف شخص بدفنها بمقابر المسلمين؟ .
ج: الأمر واسع، فليس لها حكم الإنسان، ولا مانع من أن توضع في النفاية أو تدفن في الأرض احتراما لها فهذا أفضل، وإلا فالأمر واسع والحمد لله - كما قلنا - فلا يجب غسله ولا دفنه، إلا إذا كان جنينا أكمل أربعة أشهر، أما ما كان لحمه لمن ينفخ فيها الروح أو قطعة من أصبع أو نحو ذلك الأمر واسع، لكن دفنه في أرض طيبة يكون أحسن وأفضل.(67/50)
كلمة عن اتباع الجنائز (1)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن
__________
(1) كلمة ألقاها سماحته في منزله في الرياض بتاريخ 23 \ 2 \ 1406.(67/50)
فله قيراطان، قيل: يا رسول الله، ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين (1) » يعني: من الأجر، وهذا يدل على شرعية اتباع الجنائز للصلاة وللدفن جميعا وما ذاك إلا لما في اتباع الجنائز من المصالح الكثيرة، منها: أن ذلك يذكر بالموت ويذكر التابع بالاستعداد للآخرة، وأن الذي أصاب أخاه سوف يصيبه، فليعد العدة وليحذر من الغفلة.
ومن ذلك أيضا: أن في اتباع الجنائز جبرا للمصابين ومواساة لهم وتعزية لهم في ميتهم، فيحصل له بذلك أجر التعزية والجبر والمواساة لإخوانه.
ومن ذلك أيضا: أنه يعينهم على ما قد يحتاجون إليه في حمل ميتهم ودفنه. فعلى كل تقدير اتباع الجنائز فيه مصالح كثيرة، ولو لم يكن فيها إلا أنه يذكر بالموت وما بعده ويدعو إلى الاستعداد للآخرة والتأهب للقاء الله عز وجل لكان هذا كافيا، فكيف وفي ذلك مصالح أخرى؟ ثم في ذلك هذا الأجر العظيم، أنه يحصل له بالصلاة قدر قيراط، قدر جبل من الأجر، وبالصلاة والدفن جميعا مثل الجبلين العظيمين من الأجر، وهذا فضل كبير وخير عظيم. وروى البخاري رحمه الله في صحيحه بلفظ آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8955) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1325) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (945)(67/51)
معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل جبل أحد (1) » وفي هذا بيان أن هذا الاتباع يكون إيمانا واحتسابا؛ لا للرياء والسمعة ولا لغرض آخر، بل يتبع الجنازة إيمانا واحتسابا، إيمانا بأن الله شرع ذلك واحتسابا للأجر عنده سبحانه وتعالى، وفي ضمن ذلك هذه المصالح الكثيرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط مثل جبل أحد (2) » وفي هذا الحديث دلالة على أن التابع لا ينصرف حتى يدفن. بعض الناس قد ينصرف عند وضعها في الأرض، هذا خلاف المشروع، المشروع أنه يبقى مع إخوانه حتى يفرغوا من دفنها، حتى ينتهوا. وفي ذلك أيضا حديث آخر: أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (3) » . فيشرع للمؤمن إذا تبع الجنازة أن يقف عليها بعد الدفن، لا يعجل، يبقى معهم حتى يفرغوا من الدفن، ثم إذا فرغوا يستحب له أن يقف على القبر ويدعو للميت بالمغفرة والثبات، تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام حيث قال:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9266) ، والبخاري في (الإيمان) برقم (47)
(2) صحيح البخاري الإيمان (47) ، صحيح مسلم الجنائز (945) ، سنن الترمذي الجنائز (1040) ، سنن النسائي الجنائز (1997) ، سنن أبو داود الجنائز (3168) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1539) ، مسند أحمد بن حنبل (2/493) .
(3) رواه أبو داود في الجنائز برقم 3221(67/52)
«استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (1) » . هكذا كان يقف عليه بعد الدفن ويقول هذا عليه الصلاة والسلام، هذا هو السنة، أنه يقف عليه ويدعو له بالمغفرة والثبات ثم ينصرف بعد ذلك.
أما التوقيد فهو غير مشروع، وهو ما يفعله بعض الناس عند القبر، وإنما السنة أن يقف على الميت بعد الدفن ويدعو له بالمغفرة والثبات، هذا هو المشروع، فينبغي للمؤمن أن يلاحظ ما شرعه الله، وأن يدع ما لم يشرعه الله. وكذلك بعض الناس عند الدفن يؤذن في القبر أو يقيم في القبر أو يقرأ القرآن في القبر، وهذا بدعة لا أصل له، أيضا كون أنهم ينزلون في القبر أو يقرءون القرآن أو يؤذنون أو يقيمون، هذه بدعة لا أصل لها فينبغي التنبيه لذلك. وفق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3221) .(67/53)
تشييع الميت
س: ما السنة في تشييع الميت؟ (1) .
ج: السنة أن المشيع يتبع الميت من بيته إلى المصلى، ومن المصلى إلى المقبرة ويبقى معه حتى يفرغ من دفنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها
__________
(1) هذا السؤال وخمسة بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(67/53)
حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد (1) » أخرجه البخاري في صحيحه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (10018) ، والبخاري في (الإيمان) برقم (47) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (945)(67/54)
السنة لمن تبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع على الأرض
س: ما هي السنة لمن تبع الجنازة؟
ج: السنة لمن تبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع من أعناق الرجال على الأرض، وأما الانصراف فإن المشروع لمتبعها ألا ينصرف حتى توضع في القبر ويفرغ من دفنها، وهذا كله على سبيل الاستحباب، لكن الأفضل ألا ينصرف التابع للجنازة إلا بعد الفراغ من الدفن حتى يستكمل الأجرين، أجر الصلاة، وأجر الاتباع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تبع جنازة مسلم فكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد (1) » أخرجه البخاري في صحيحه.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (47) ، صحيح مسلم الجنائز (945) ، سنن الترمذي الجنائز (1040) ، سنن النسائي الجنائز (1997) ، سنن أبو داود الجنائز (3168) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1539) ، مسند أحمد بن حنبل (2/493) .(67/54)
معنى حديث أم عطية:
نهينا عن اتباع الجنائز
س: ما معنى حديث أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز (1) » ؟
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938) .(67/54)
ج: المقصود بالنهي: النهي عن اتباعها إلى المقبرة، أما الصلاة عليها فمشروعة للرجال والنساء، وكان النساء يصلين على الجنائز مع النبي صلى الله عليه وسلم.
س: حديث أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (1) » كيف يوجه؟
ج: يفهم من ذلك أن النهي عندها غير مؤكد، والأصل في النهي التحريم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (2) » متفق على صحته، وذلك يدل على تحريم اتباع النساء للجنائز إلى المقبرة أما الصلاة على الميت فإنها مشروعة لهن كالرجال والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند القبائل) برقم (26758) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1278) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (938) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8450) ، والبخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) برقم (7288) ، ومسلم في (الفضائل) برقم (1337) .(67/55)
حصول القيراطين لمن تبع جنازة ثم صلى عليها
س: من تبع جنازة ثم صلى عليها بعد الدفن هل يحصل له قيراطان؟(67/55)
ج: نعم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تبع الجنائز حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد (1) » .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهد حتى تدفن فله قيراطان قيل: يا رسول الله: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين (2) » .
__________
(1) سبق تخريجه في ص 54.
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7148) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1325) ومسلم في (الجنائز) برقم (945)(67/56)
يسن الإسراع بالجنازة
س: هل يسن الإسراع بالجنازة؟
ج: يسن الإسراع بالجنازة من غير مشقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم (1) » متفق على صحته.
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) برقم (1315) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (944) ، وأبو داود في (الجنائز) برقم (3181) واللفظ له.(67/56)
الجمع بين حديث النهي عن الصلاة والدفن في ثلاث
ساعات وحديث التعجيل بالجنازة
س: كيف نجمع بين نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة(67/56)
والدفن في ثلاث ساعات وبين حديث التعجيل بالجنازة، وكانت الجنازة مثلا بعد العصر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: ليس بين الأحاديث تعارض، فالسنة تعجيل الصلاة على الجنازة ودفنها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم (2) » . ولكن إذا صادف ذلك وقت الساعات الثلاث أجلت الصلاة عليها ودفنها؛ لقول عتبة بن عامر رضي الله عنه: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب (3) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وهذه الساعات الثلاث كلها قليلة لا يضر تأخير الصلاة على الميت فيها ولا تأخير دفنه. ولله الحكمة البالغة سبحانه في ذلك، وهو سبحانه أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين. والله الموفق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (مجلة الدعوة) .
(2) سبق تخريجه 56.
(3) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها برقم (831) ، والنسائي في (الجنائز) باب الساعات التي نهي عن إقبار الموتى فيهن برقم (2013)(67/57)
ما المراد بالإسراع بالجنازة
س: الإسراع بالجنازة هل المقصود به الصلاة والتغسيل؟ (1) .
ج: المقصود المشي ويدخل ضمنا الصلاة عليها وتغسيلها والسرعة في تجهيزها وظاهر الحديث يعم الجميع من حيث المعنى.
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء(67/58)
حكم تأخير الجنازة في الثلاجة لعدة شهور
س: ما حكم تأخير الجنازة في الثلاجة لمدة ستة أشهر مثلا؟
ج: إذا دعت الحاجة لذلك فلا بأس حسب التعليمات المتبعة.
س: من كان له تأثير في الإسلام فهل يجوز تأخير جنازته يوما مثلا؟
ج: إذا كان التأخير لمصلحة فلا بأس كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه مات يوم الاثنين وما دفن إلا ليلة الأربعاء، فإذا كان هناك مصلحة كقدوم أقاربه أو غير ذلك فلا بأس.(67/58)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: سماحة الشيخ أيهما أفضل بعد أداء الصلاة الفريضة، الشروع في النافلة أم الاشتغال بالأذكار؟
ج: المسلم في جميع أموره وتصرفاته محكوم بالشرع وعليه تحري السنة فيما يقدم عليه من أمر دينه ودنياه والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) والذي ينظر في هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون منه بعد السلام من الفريضة يجده صلى الله عليه وسلم ينشغل بالأذكار التي تقال بعد الصلاة ولا ينشغل بغيرها من تلاوة كتاب الله عز وجل أو صلاة لنافلة ونحو ذلك يدل على ذلك أحاديث، منها حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام (2) » أخرجه مسلم، وفي رواية يا ذا الجلال والإكرام.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن النسائي السهو (1337) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) .(67/59)
ومنها ما أخرجه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في كتابه الذي بعث به إلى معاوية رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1) » .
وفي صحيح مسلم رحمه الله أن ابن الزبير رضي الله عنهما كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك ولى الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (2) » وقال - أي ابن الزبير رضي الله عنهما -: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة (3) » .
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، قال: ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .(67/60)
إلا من عمل مثله تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين (1) » الحديث، وهذا لفظ البخاري.
وقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير، ومقصوده أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر عقب الصلاة فمن كان في طرف الصف يعلم انقضاء الصلاة بذلك والله أعلم.
فإذا انتهى من الأذكار يقرأ آية الكرسي، والمعوذتين، وقل هو الله أحد، ثم يصلي الراتبة البعدية في الظهر والمغرب والعشاء. هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وينبغي لنا أن نتأسى به في أقواله وأفعاله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (843) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1353) .
(2) سورة آل عمران الآية 31(67/61)
س: ما حكم من صلى العشاء قبل الأذان بعشر دقائق، وذلك لأنة خارج البلد؟
ج: الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) أي محددة بالأوقات والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمه جبريل عليه السلام مواقيت الصلاة بداية ونهاية فلا يجوز أن يصلي المسلم قبل الوقت ولو فعل لم تصح صلاته، كما
__________
(1) سورة النساء الآية 103(67/61)
أنه لا يجوز له تأخيرها عن وقتها ولو فعل أثم وصحت صلاته قضاء لا أداء، إلا في حالة الجمع، فإن المسلم له أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما إذا كان على سفر أو به مرض أو كان هناك مطر أو لعذر الخوف ونحو ذلك من الأعذار المبيحة للجمع، وما سوى ذلك فالحكم على ما قدمنا، وهذا الفعل المنوه عنه في السؤال إن كان قصده أنه كان مسافرا فجمع بين المغرب والعشاء في آخر وقت المغرب فهذا لا بأس به، وإن كان قصده أنه لم يكن مسافرا أو كان مسافرا ولم يجمع بين الصلاتين بل صلى المغرب في أول وقتها ثم صلى العشاء قبل وقتها بعشر دقائق فهذا مخطئ ولا تصح صلاته وعليه إعادتها فهي باقية في ذمته، والله تعالى أعلم.(67/62)
س: ما حكم من زرع المزارع من غير الحبوب كالفواكه والطماطم هل يجب عليه الزكاة؟
ج: الفواكه والخضروات ليس فيها زكاة، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا يصح؛ لأنه مرسل، وإنما جاءت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم في مصنف ابن أبي شيبة وغيره تدل على أنه ليس في الخضروات والفواكه زكاة وقد قال الترمذي رحمه الله: (والعمل على هذا عند أهل العلم أن ليس في(67/62)
الخضروات صدقة) . والله تعالى أعلم.(67/63)
س: ما هي النصيحة التي توجهونها للذين يحتفلون بالمولد النبوي؟
ج: نقول في البداية إنه من الواجب على المسلم بل على العباد مسلمهم وكافرهم من النافع والمهم لهم جميعا أن يعلموا أمرا مهما وهو أن الله لم يخلقنا عبثا وأنه سبحانه لن يتركنا سدى بل خلقنا لأجل أمر عظيم وغاية كبيرة وهو سبحانه سيحاسبنا عليها يوم القيامة حفظنا أم ضيعنا يقول الله سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (1) . ويقول سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (2) . ويقول سبحانه مبينا الغاية العظيمة من خلقنا وإيجادنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) . ويقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (5) .
فتبين مما سبق أن الله سبحانه لم يخلقنا عبثا وأنه سبحانه لم
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 115
(2) سورة القيامة الآية 36
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الملك الآية 1
(5) سورة الملك الآية 2(67/63)
يتركنا سدى وأنه عز وجل إنما خلقنا لعبادته وسيحاسبنا على ذلك يوم لقائه، وأن الموت والحياة إنما خلقهما الله ابتلاء لعباده لينظر أيهم أحسن عملا، ولم يقل سبحانه (أكثر عملا) فالعبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما العبرة بإحسان العمل، وإحسانه بأن يكون خالصا لله موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم، ومثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين) .
ثم نقول ثانيا لمن رأى الاحتفال بالمولد النبوي: لماذا تحتفل بالمولد؟ ، فنعرف أن المؤمن الصالح منهم سيقول بداهة: أحتفل به لإظهار محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإجلاله وتقديره وأن له عندنا مكانة عظمى نعبر عنها بفرحتنا بيوم مولده واحتفالنا بهذا اليوم العظيم الذي ولد فيه سيد البشر. فنقول له: هذه الغاية التي تذكرها من إظهار محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتقديره، غاية عظيمة بل هي واجب من الواجبات يجب على كل مسلم يخاف الله ويرجوه أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق محبة كل أحد من البشر حتى من نفسه التي بين جنبيه هذا مما لا يختلف فيه المسلمون أبدا ودلائل الكتاب والسنة متظاهرة عليه بل هو من العقائد الثابتة عند المسلمين، لكن بأي طريق يكون إظهار(67/64)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم، هل ترك هذا لرغباتنا واستحسان عقولنا أم أن الشرع الحكيم قد ضبط هذا الأمر وبينه؟ نقول إن الله سبحانه قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه أن يعلمنا سبيل محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة الله الذي أرسله فيقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) إذن لا سبيل لمحبة الله إلا باتباع هذا النبي الكريم المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذا ثبت هذا عندك أيها المسلم المحب لربك عز وجل ثم لنبيك صلى الله عليه وسلم فابحث عن مسألة الاحتفال بالمولد هل فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، أم هل فعلها أصحابه في زمنه صلى الله عليه وسلم، أم هل فعلها خلفاؤه الراشدون المهديون، أم هل فعلها بقية أهل بدر من أصحابه رضي الله عنهم، أم هل فعلها أصحاب بيعة الشجرة والرضوان، أم هل فعلها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أم هل فعلها الذين اتبعوهم بإحسان من أهل القرون المفضلة، أم هل فعلها الأئمة الكبار المتبعون؟ ، إنك أيها الموفق مهما بحثت في كتب السير والتاريخ لن تجد أن أحدا من هؤلاء الأبرار فعل هذا الاحتفال ولو كان خيرا لسبقونا إليه، بل لو كان خيرا لبينه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم إما بقوله أو بفعله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(67/65)
صحيحه: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها (1) » . الحديث، فلما علمنا أنه صلى الله عليه وسلم قد عاش ثلاثا وستين عاما وقد مر عليه في حياته ما يوافق يوم مولده ثلاثا وستين مرة وبعد مبعثه مر عليه ذلك ثلاثا وعشرين مرة ولم ينقل أنه احتفل به، وقد صحبه وآمن به أناس هم أشد منا حبا وتعظيما بل فدوه بأموالهم وأهليهم وأنفسهم ومع ذلك لم ينقل ناقل عنهم أنهم احتفلوا به، فدل ذلك على أنه غير مشروع بل لا خير فيه ولو كان خيرا لفعلوه وبينوه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ويقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » .
والمقصود أن هذا الاحتفال إنما حصل في القرن الرابع الهجري على يد من يسمون أنفسهم بالفاطميين وهم بنو عبيد القداح وقد بين أهل العلم كفرهم وضلالهم فليسوا أهلا للاقتداء. هذا تقرير مختصر لمن أراد الله هدايته للحق في هذه المسألة وقد بسطنا الكلام عليها في كلمات سابقة وفي رسالة لنا بعنوان: " حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، بل وبسطها قبلنا أئمة الهدى رحمهم الله، أسأل الله لي ولسائر إخواني الهداية للحق والصواب
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(67/66)
والتوفيق للعمل به إنه سبحانه قريب مجيب.(67/67)
س: أدرس في كلية مختلطة بين الشباب والفتيات فما حكم التعامل مع الفتيات والسلام عليهن ونحو ذلك؟
ج: الدراسة المختلطة بين الذكور والإناث لا تجوز وفيها مفاسد عظيمة جدا يدركها من يسبر حالها في البلدان التي لا تعني بشأن الشريعة الإسلامية وتطبيقها وممارستها، وهكذا أيضا الاختلاط في أماكن العمل ونحو ذلك كل هذا محرم عظيم المفسدة، طهر الله بلاد الإسلام من هذا الشر والبلاء.(67/67)
س: ما حكم التسبيح بالسبحة؟
ج: السنة تدل على مشروعية عقد التسبيح بالأنامل كما جاء في ذلك الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث يسيرة رضي الله عنها وكانت من المهاجرات قالت: «قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات (1) » . وقد صححه بعض أهل العلم، والحكمة من ذلك ظاهرة في الحديث وهي أن هذه الأعضاء مسئولات يوم القيامة ومستنطقات فليكن نطقها شهادة لك بالتسبيح والتهليل
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3583) ، سنن أبو داود الصلاة (1501) ، مسند أحمد بن حنبل (6/371) .(67/67)
والتكبير والتحميد ونحو ذلك. والتسبيح بالسبحة أو بغيرها مما يعين على ضبط العدد إن كان المقصود منه ضبط عدد التسبيح فلا بأس به وإن اعتقد أن التسبيح بالسبحة اعتقاد وشعار على طائفة أو طوائف دون بقية المسلمين فهنا يمنع منها والله أعلم.(67/68)
س: يقول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) ما معنى هذه الآية؟
ج: المفسرون لهم في معنى هذه الآية قولان ذكرهما الإمام الطبري في تفسيره حيث قال: " واختلف في معنى قوله " إلا وجهه" فقال بعضهم معناه: كل شيء هالك إلا هو.
وقال آخرون معنى ذلك: إلا ما أريد به وجهه، واستشهدوا لتأويلهم ذلك بقول الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وابن كثير رحمه الله لما ذكر قولي العلماء في تفسير الآية عقب بكلام حسن فقال: (هذا القول - يعني به القول بأن المراد ما أريد به وجهه - لا ينافي القول الأول - ويعني به القول بأن المراد كل شيء هالك إلا هو - فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول
__________
(1) سورة القصص الآية 88(67/68)
الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء) انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى - وهو جمع طيب حسن، والله أعلم.(67/69)
س: أعاني من التهاب في المسالك ويؤدي ذلك إلى نزول الودي باستمرار ويكون عند وقت الصلاة، فهل يجوز لي أن أتوضأ دون أن ينقطع؟
ج: إذا كان واقعك هو ما ذكرته فإن حكمك حكم من حدثه دائم، فعليك بالوضوء وغسل الذكر عند كل صلاة مع وضع عصابة على الذكر لئلا ينجس الخارج منه بدنك وثوبك، ولا يضرك ما خرج منك بعد ذلك حتى لو كان في الصلاة، وهذا تخفيف من الله سبحانه فإن الله عز وجل يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) . ويقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) ونوصيك بالصبر على ما قضى الله لك ودعائه سبحانه أن يشفيك، وأسأل الله العلي القدير أن يمن عليك بالشفاء إنه سبحانه قريب مجيب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة التغابن الآية 16(67/69)
س: ما حكم من يؤدي العمرة يوميا؟
ج: هذا قد خالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح وكلف نفسه بما لم يشرع له تكليفها به، ولو بقى بالبيت يطوف ويصلي ويتلو كتاب الله لكان خيرا له والله أعلم.(67/70)
س: هل أموال البنوك كالفوائد ونحوها من الربا المحرم؟
ج: نعم هذه الفوائد البنكية من الربا؛ لأنك حين تودع مالك في البنك في هذه الحسابات التي تعطي فوائد، فإن البنك يضمن لك فائدة مقدرة ومحددة على هذا المال وهذه الفائدة مقابل الإيداع وترك الحساب في البنك لمدة كذا وكذا، وهذه الفائدة المنصوصة ليست ربح تجارة تدخل فيها مع البنك؛ لأنها لو كانت كذلك لكان رأس المال معرضا للربح والخسارة وهذا لا يكون، فهي من الربا المحرم وقد قال الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) ، ويقول سبحان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(67/70)
أجارنا الله وإياكم من عذابه ورزقنا وإياكم القناعة بحلاله عن حرامه.(67/71)
س: توفي والدي ولم يوص بشيء ما هي الأعمال المفضلة التي ينبغي أن أعملها ويكون أجرها لوالدي؟
ج: ينبغي لك الإكثار من الاستغفار له والصدقة عنه وصلة أرحامه وأصدقائه، «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما (1) » أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه ومعنى الصلاة عليهما الدعاء لهما.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5142) ، سنن ابن ماجه الأدب (3664) .(67/71)
س: ما قولكم فيما يحدث من الزحام عند تقبيل الحجر الأسود بين الرجال والنساء؟
ج: تقبيل الحجر الأسود في بداية كل شوط سنة لكن ينبغي(67/71)
للمسلم أن يراعي الأحوال فإن كان عند الحجر الأسود زحام ولا يستطيع التقبيل إلا بالمزاحمة والمدافعة فإنه يترك التقبيل ويمسح عليه بيده أو بشيء معه ويقبل ما مسح به الحجر، فإن لم يقدر على هذا فليشر إلى الحجر إشارة، هذه هي السنة وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم كلا من هذه الأمور، وهذا تخفيف ورحمة بهذه الأمة.
فإن اجتمع مع التزاحم وجود النساء فإن الأمر يعظم فيتأكد عليه اجتناب مزاحمتهن حتى لو كان يريد تقبيل الحجر، والذي ينبغي توجيه النساء بعدم مزاحمة الرجال والتدافع معهم فإن هذا سبب للفتنة وهن في أشرف البقاع على وجه الأرض وأطهرها، فالواجب الحرص الشديد على التستر والبعد عن الرجال وعن مزاحمتهم وإن تهيأ مكان للنساء لا يزاحمن فيه أو وقت لهن فلا بأس، والحمد لله فإن السنة جاءت بالتيسير في هذا كما قدمنا فإما التقبيل أو الاستلام باليد أو بشيء معه وتقبيل ما استلم به الحجر أو بالإشارة ولو من بعد إذا حاذى الحجر. والله أعلم.(67/72)
س: هل يجوز أن يكون ولي المرأة البكر جدها من أمها بوجود عمها وأخيها لأن والدها متوفى؟
ج: أب الأم يعتبر من ذوي الأرحام فليس له ولاية النكاح على هذه المرأة، وإنما يلي نكاح المرأة عصبتها الأقرب فالأقرب الأب(67/72)
أو الجد من قبل الأب أو الابن أو الأخ سواء كان شقيقا أو لأب، أو العم الشقيق أو لأب وهكذا أما الأب من جهة الأم وكذلك الخال ونحوهم فهو من ذوي الأرحام فلا يلون عقد النكاح مع وجود العصبة. والله أعلم(67/73)
س: قدمت من المنطقة الشرقية لأداء العمرة ومعي امرأة حائض؟ فماذا على هذه المرأة بعد أن تطهر ومن أين تحرم؟
ج: المرأة إذا قدمت للحج أو العمرة ووصلت إلى الميقات وهي حائض فإنها تغتسل وتنوي الدخول في النسك والإحرام به ثم تدخل مكة ولا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل، فإن جاوزت الميقات من غير إحرام فإنها تعود وتحرم منه سواء قبل الطهر أو بعده ثم تعود للبيت الحرام ولا تطوف بالكعبة إلا بعد الطهر والاغتسال.(67/73)
س: امرأة غير متزوجة قدمت بعمرة من الرياض منذ عشر سنوات مضت فطافت وسعت شوطين فقط ثم تحللت من إحرامها وذهبت إلى الرياض. فماذا عليها الآن؟
ج: هي باقية على إحرامها إلى الآن وعليها الذهاب إلى مكة وأداء عمرتها.(67/73)
صفحة فارغة(67/74)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الفتوى رقم 2176
س: إنني عندما تجيني العادة الشهرية تكون مرة تسعة أيام ومرة عشرة أيام، وعندما أطهر منها وأقوم بعمل المنزل، تعاودني مرة أخرى على فترات متقطعة، وإني حيرانة منها، فأرشدوني. كم مدة العادة الشهرية، وهل إذا عاودتني بعد المدة المقررة لها شرعا يجوز لي صوم وصلاة وطلوع إلى الحرم للعمرة؟ وهل يجوز استعمال الحبوب لإيقاف العادة في شهر رمضان؟ فهل هذا حرام أو جائز؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: مدة الحيض بالنسبة لك هي المدة التي جرت عادتك أن يأتيك فيها الحيض، وهي عشرة أيام أو تسعة، فإذا انقطع الدم بعد(67/75)
تسعة أو عشرة، فاغتسلي وصلي وصومي وطوفي بالكعبة في حج أو عمرة أو تطوع، ويحل لزوجك الاتصال بك، وما عاودك من الدم بعد مدة العادة من أجل مزاولة عمل أو طارئ آخر فليس بدم حيض، بل دم علة وفساد، فلا يمنعك من الصلاة ولا الصوم ولا الطواف ونحوها من القربات، بل اغسليه عنك كسائر النجاسات، ثم توضئي لكل صلاة، وصلي وطوفي بالكعبة، واقرئي القرآن.
ثانيا: يجوز لك استعمال الحبوب لمنع العادة في شهر رمضان إذا كان استعمالها لا يضر بصحتك العامة، ولا يحدث عقما، ولا يحدث اضطرابا في العادة الشهرية، فإن الحبوب قد تنتهي إلى نزيف مستمر، وإلا حرم، ويعرف ذلك بسؤال أهل الخبرة من الأطباء المهرة المأمونين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/76)
من الفتوى رقم 8844
السؤال الأول: امرأة عادتها تكون مرة (5 أيام) ، ومرة (6 أيام) ، ومرة (4 أيام) ، وأحيانا (3 أيام) ، والمطلوب هل إذا انقطع الدم بعد(67/76)
يومين فهل لها أن تصوم وتصلي، أم تنتظر أيام الحيض؟ أفيدونا أثابكم الله.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا حاضت المرأة يوما أو أياما، ثم انقطع دمها ورأت الطهر، فإنها تغتسل وتصلي وتصوم، ولا تجلس أياما معينة بعد رؤيتها الطهر؛ لأنها طاهرة فتلزمها الصلاة بخلاف الحائض، فإنها لا تصلي ولا تصوم أيام حيضها، ومتى عاد إليها الدم تركت الصلاة والصوم، فإذا طهرت اغتسلت وصلت وصامت.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/77)
من الفتوى رقم 6908
السؤال السادس: قد ترى المرأة دما في موعد حيضتها، ثم ينقطع بعد يومين، وتطهر تماما وبعدها بيوم أو يومين ترى الدم مرة أخرى، فهل يعد الدم في اليومين الأولين حيضا؟ وهل عليها صلاة أم ماذا؟(67/77)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
اليومان اللذان رأت فيهما الدم في موعد الحيض تجلسهما، ولا تجوز الصلاة فيهما؛ لأن الدم دم حيض. وأما اليومان اللذان رأت فيهما الطهر، فتصلي فيهما بعد أن تغتسل، وهكذا اليومان الأخيران تجلسهما؛ لأن الدم فيهما دم حيض.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/78)
من الفتوى رقم 11607
السؤال الثالث: أحيانا وبدون موعد للحيض تأتي علي بعض الإفرازات ذات الألوان الفاتحة وتميل إلى الاصفرار، فأحيانا أترك الصلاة وأخرى أصلي. ما الحكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ما تراه المرأة بعد الطهر من حيضها من الصفرة أو الكدرة لا(67/78)
يعتبر حيضا، وعليها أن تصلي، وتصوم، وتحل لزوجها، لما رواه البخاري في الصحيح، وأبو داود في سننه عن أم عطية رضي الله عنها - وهي صحابية مشهورة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا (1) » هذا لفظ أبي داود.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) البخاري 1 \ 84، وأبو داود 1 \ 83، والنسائي 1 \ 186 و 187.(67/79)
من الفتوى رقم 278
السؤال الرابع: امرأة ترضع وانقطع عنها الدم في الأشهر الثلاثة الأولى بعد الولادة، ثم أتاها نوع من الدم البسيط أثناء الليل، وتوقف في النهار، فصامت مدة يومين، ثم عاودها الدم مرة أخرى وأصبحت في عادتها الشهرية، فهل يصح صيامها هذين اليومين اللذين نزل الدم أثناء الليل السابق لكل منهما؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(67/79)
إذا كان الأمر كما ذكرته من أن الدم إنما نزل عليها أثناء الليل فقط، فصيامها هذين اليومين صحيح، ولا أثر لنزول الدم في ليلة كل من هذين اليومين، ولا لمعاودة الدم لها في صحة صوم هذين اليومين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/80)
من الفتوى رقم 7278
السؤال الثالث: أتحيض الحامل أو لا؟ لأني رأيت روايتين بقول عائشة رضي الله عنها: إن الحامل لا تحيض، وفي رواية أخرى عن عائشة أيضا بقولها: إذا رأت الحامل الدم، فلتدع الصلاة، وكذلك تحيض الحامل أم لا؟ وأي القولين أحسن؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
اختلف الفقهاء في الحامل، هل تحيض وهي حامل أو لا؟ والصحيح من القولين أنها لا تحيض أيام حملها، وذلك أن الله سبحانه جعل من أنواع عدة المطلقة أن تحيض ثلاث حيض لتبين بذلك براءة رحمها من الحمل. ولو كانت الحامل تحيض ما صح أن يجعل الحيض(67/80)
عدة لإثبات براءة الرحم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/81)
من الفتوى رقم 10653
السؤال الأول: امرأة حبلى يخرج منها دم في هذا الشهر الكريم، وليس دم العادة- أجلكم الله- ومع هذا فهي تصلي وتصوم، فهل هذا التصرف صحيح؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الدم الذي يخرج من المرأة الحامل دم فساد لا حيض، وعليها أن تتوضأ بعد دخول الوقت لكل صلاة وتصلي، وتحل لزوجها، وتصوم ولا قضاء عليها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/81)
من الفتوى رقم 1545
السؤال الثاني: ونصه: نريد تزويدنا بمزيد من الأقوال عن صيام المرأة وصلاتها وقت الحيض، وقد شهدنا أدلة دالة عن هذا الصدد، ونريد الصحيح.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا حاضت المرأة تركت الصلاة والصيام، فإذا طهرت قضت ما أفطرته من أيام رمضان، ولا تقضي ما تركت من الصلوات، لما رواه البخاري وغيره في بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لنقصان دين المرأة من قوله صلى الله عليه وسلم: «أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي (1) » .
ولما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن معاذة: «أنها سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: أحرورية أنت! قالت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت: كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر
__________
(1) أخرجه البخاري 1 \ 45(67/82)
بقضاء الصلاة (1) » ، وهذا من رحمة الله سبحانه للمرأة ولطفه بها لما كانت الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات، ويتكرر الحيض كل شهر غالبا، أسقط الله عنها وجوب الصلاة وقضاءها، لما في قضائها من المشقة العظيمة. أما الصوم فلما كان لا يتكرر إلا في السنة مرة أسقط الله عنها الصوم في حال الحيض رحمة بها، وأمرها بقضائه بعد ذلك تحقيقا للمصلحة الشرعية في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أخرجه البخاري 1 \ 356، ومسلم 1 \ 265، وأبو داود برقم (262 و263) والنسائي 1 \ 191 و192 و 4 \ 191، والترمذي برقم (787) .(67/83)
من الفتوى رقم 3684
س: هل يجوز للحائض أن تصلي؟ وهل يجوز النكاح في تلك الأيام ليلة عيد الأضحى وليلة القدر؟ ومتى يحرم على المسلم أن يجامع زوجته؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(67/83)
أولا: لا يجوز للحائض أن تصلي وهي حائض، والصلاة ساقطة عنها، ولا تقضيها بعد انقضاء حيضتها، وإذا انقطع حيضها وجب عليها الغسل وأداء الصلاة الحاضرة.
ثانيا: يحرم على الزوج أن يجامع زوجته في فرجها وهي حائض، وله أن يباشرها فيما عداه، وله أن يجامعها ليلة القدر، وليلة عيد الأضحى، إلا إذا كان محرما بحج أو عمرة، فإنه يحرم أن يجامعها وهو محرم بحج أو عمرة حتى يتحلل من حجه برمي جمرة العقبة يوم العيد، وبطواف الإفاضة وسعيه بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير، ويتحلل من عمرته بعد طوافها وسعيها والحلق أو التقصير، وكذا الحكم إذا كانت هي محرمة بحج أو عمرة، ولو كان هو غير محرم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/84)
من الفتوى رقم 3377
السؤال الثاني: ماذا تفعل المرأة إذا جاءتها العادة الشهرية، ولا تقدر أن تمارس صلواتها؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله(67/84)
وصحبه. . وبعد:
إذا جاءت المرأة العادة الشهرية وهي الحيض، سقطت عنها الصلاة أيام حيضها، بل يحرم عليها أداؤها تلك الأيام، وليس عليها قضاؤها بعد طهرها من حيضها، تيسيرا من الله ورحمة منه وفضلا، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للنساء: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم، فقلن: بلى، قال: فذلكن من نقصان دينها (1) » . متفق عليه. وثبت عن معاذة أنها سألت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: «ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، فقالت عائشة رضي الله عنها: كان يصيبنا ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة (2) » . رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1576) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1288) ، مسند أحمد بن حنبل (3/42) .
(2) صحيح البخاري الحيض (321) ، صحيح مسلم الحيض (335) ، سنن الترمذي الطهارة (130) ، سنن النسائي الصيام (2318) ، سنن أبو داود الطهارة (262) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (631) ، مسند أحمد بن حنبل (6/232) ، سنن الدارمي الطهارة (986) .(67/85)
من الفتوى رقم 2443
السؤال الثالث: ما الحكمة في أن الحائض تقضي الصيام(67/85)
دون الصلاة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: لا يخفى أن واجب المسلم فعل ما أوجب الله عليه من المأمورات، والكف عن جميع ما نهى عنه من المحرمات، أدرك حكمة الأمر أو النهي، أم لم يدركها مع إيمانه بأن الله لا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم، ولا نهاهم إلا عما فيه مضرة عليهم، وأن تشريعاته سبحانه جميعها لحكمة يعلمها سبحانه يظهر منها لعباده ما شاء، وليزداد المؤمن بذلك إيمانا، ويستأثر سبحانه بما شاء ليزداد المؤمن بتسليمه لأمر الله إيمانا كذلك.
ثانيا: معلوم أن الصلاة كثيرة متكررة في اليوم والليلة خمس مرات، فيشق قضاؤها على الحائض بخلاف الصوم فإنه يجب في السنة مرة واحدة، وربما كان الحيض يوما أو يومين، وصدق الله العظيم، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (1) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 28(67/86)
من الفتوى رقم 6948
السؤال الرابع: هل يحل للحائض دخول المسجد؟ وما الدليل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يجوز للحائض دخول المسجد إلا مرورا إذا احتاجت إلى ذلك كالجنب؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (1)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 43(67/87)
الفتوى رقم 1844
س: وطئ إنسان زوجته وهي حائض، أو بعد أن طهرت من الحيض أو النفاس، وقبل أن تغتسل جهلا منه، فهل عليه كفارة وكم هي؟ وإذا حملت الزوجة من هذا الجماع فهل يقال: إن الولد الذي حصل بسبب الجماع ولد حرام؟(67/87)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
وطء الحائض في الفرج حرام؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (1) ومن فعل ذلك فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وعليه أن يتصدق بدينار أو نصفه كفارة لما حصل منه، كما رواه أحمد وأصحاب السنن بإسناد جيد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيمن يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار (2) » . فأيهما أخرجت أجزأك، ومقدار الدينار أربعة أسهم من سبعة أسهم من الجنيه السعودي، فإذا كان صرف الجنيه السعودي مثلا سبعين ريالا، فعليك أن تخرج عشرين ريالا أو أربعين ريالا تتصدق بها على بعض الفقراء، ولا يجوز أن يطأها بعد الطهر أي: انقطاع الدم، وقبل أن تغتسل؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (3) فلم يأذن سبحانه في وطء الحائض حتى ينقطع دم حيضها وتتطهر، أي: تغتسل، ومن وطئها قبل الغسل أثم وعليه الكفارة، وإن حملت الزوجة من الجماع وهي حائض أو بعد انقطاعه وقبل الغسل، فلا يقال لولدها إنه ولد حرام، بل هو ولد شرعي.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود الطهارة (264) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) ، سنن الدارمي الطهارة (1106) .
(3) سورة البقرة الآية 222(67/88)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/89)
من الفتوى رقم 1216
السؤال الخامس: هل يجوز للمرأة استعمال دواء لمنع الحيض في رمضان أو لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض، إذا قرر أهل الخبرة الأمناء من الدكاترة، ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها، وخير لها أن تكف عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر إذا جاءها الحيض في رمضان، وشرع لها قضاء الأيام التي أفطرتها، ورضي لها بذلك دينا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/89)
من الفتوى رقم 1367
السؤال الثالث: عن حكم استعمال حبوب منع الحيض في رمضان والحج؛ لتتمكن من أداء العبادة.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يظهر لنا مانع من ذلك إذا كان الغرض من استعمالها ما ذكر، وأنه لا يترتب على استعمالها أضرار صحية. والله أعلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/90)
من الفتوى رقم 6259
السؤال الثاني: انقطعت العادة الشهرية عن زوجتي لأكثر من (5) شهور، ولم تظهر نتيجة الحمل بالتحاليل والكشف الطبي، ووصف لها الطبيب حبوبا لجلب العادة الشهرية، فهل لها أن تأخذ هذه الحبوب؟(67/90)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يجوز لها أخذ الحبوب إذا قرر الطبيب أنها لا تحدث ضررا أكثر من المصلحة أو مساوية لها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/91)
من الفتوى رقم 4794
السؤال الأول: في الأيام الحاضرة تستعمل النساء موانع الحمل الاصطناعية كالحبوب واللولب، وأي طبيب قبل وضع اللولب، أو إعطاء الحبوب يعطي المرأة حبتين للتأكد من عدم حمل المرأة بهذه الحالة، يجب أن يأتيها الدم إن لم تكن حاملا، والسؤال: إن هذا الدم الذي ينزل عليها خلال أيام معدودة هل حكمه حكم دم الحيض، بترك الصلاة والصيام والجماع؟ علما أن فترة نزول هذا الدم ليست وقت حيضها المعتاد، كذلك بعد وضع اللولب، أو استعمال الحبوب عند بعض النساء يتغير نظام دورة الحيض فتزيد فجأة بعد استعمال المانع للحمل حتى إن بعضهن لا(67/91)
تطهر خلال الشهر أكثر من أسبوع، وينزل الدم عليها خلال ثلاثة أسابيع متوالية، ويكون الدم النازل نفس الدم الذي ينزل عند الحيض، وكذلك نفس الدم الذي ينزل عند أخذ الحبتين للتأكد من عدم الحمل، كما في السؤال السابق. والسؤال: ما حكم المرأة خلال هذه الفترة - ثلاثة أسابيع - أهو حكم الحيض، أم تلتزم بعادتها قبل استعمال المانع أسبوع أو عشرة أيام؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الدم الذي نزل بعد أخذ الحبتين هو دم العادة المعروف للمرأة، فهو دم حيض تترك وقته الصوم والصلاة، وإذا كان غير ذلك فلا يعتبر دم حيض يمنع الصوم والصلاة والجماع؛ لأنه إنما نزل بسبب الحبوب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/92)
من الفتوى رقم 9423
السؤال الثالث: هل يجوز أن أضع الحنا في يدي وشعري(67/92)
أثناء الدورة الشهرية؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يجوز لك ذلك؛ لأن الأصل في ذلك الجواز، ولم يثبت ما يمنع شرعا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/93)
من الفتوى رقم 6495
السؤال الثاني: ما حكم الدم الذي يخرج من المرأة من غير حيض ولا نفاس، وهل تقضي الأيام التي خرج فيها ذلك الدم في نهار رمضان؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا خرج منها ذلك الدم في نهار رمضان، وليس دم حيض ولا نفاس، وجب عليها الصوم والصلاة، وتتوضأ لكل صلاة ولا تقضي(67/93)
الصيام ولا الصلاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/94)
الفتوى رقم 10891
س: أردنا الحج ومعي زوجتي، وخوفا من نزول الدورة عليها في وقت الحج اشتريت لها حبوبا لتأكل منها أيام الحج، وفعلا تم ذلك وأتممنا حجنا ولله الحمد، وفي يوم 17 \ 12 \ 1407هـ جاءتها الدورة واستمرت معها إلى الآن لحظة كتابة هذه الرسالة بتاريخ 23 \ 2 \ 1408هـ. علما أن الأطباء قالوا لها من السابق: إن هذه الحبوب قد تتعبك، وسؤالي هل هذه حيضة، أم لا؟ وهل عليها صلاة أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إن استمرار الدم مع زوجتك هذه المدة الطويلة ليس حيضا، وإنما ذلك استحاضة فعليها أن تجلس من كل شهر أيام عادتها السابقة في(67/94)
وقتها المعتاد، ثم تغتسل وتصلي وتتوضأ لكل صلاة مع استعمالها ما يمنع نزول الدم حسب طاقتها، وعليها أن تقضي ما تركت من الصلوات الخمس في غير أيام الحيض إن كانت تركت شيئا منها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/95)
من الفتوى رقم 3942
السؤال الأول: إني أحس كثيرا بخروج قطرات من ذكري في الصلاة وخارج الصلاة، ودائما تخرج هذه القطرات، وأنا لا أعلم هل هي نجاسة، أم لا؟ وإن كانت نجاسة، فإنه يصعب علي إزالتها فماذا أفعل، وما الحكم، وكيف التخلص من هذا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت من كثرة خروج قطرات البول منك في الصلاة وفي غير الصلاة، فخروجها في أثناء الصلاة لا يبطل صلاتك، وعليك أن تضع ما يمنع وصول قطرات البول إلى البدن أو الثوب أو البقعة، وهذه القطرات نجسة، ولكن يعفى عنها لما في إزالتها(67/95)
من المشقة والحرج، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (3) » . وعلاج ذلك يكون بمراجعة المختصين من الأطباء، وعليك أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بذلك الفرائض والنوافل. وعليك الحذر من الوساوس فإنها من كيد الشيطان، وقد يخيل للإنسان أنه خرج منه شيء والواقع غير ذلك. شفاك الله مما يصيبك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة الحج الآية 78
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(67/96)
من الفتوى رقم 6676
السؤال الأول: رجل دائم البول، وبوله لا ينقطع فهل يصلي؟ وإذا شفاه الله هل يصلي ما فاته؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يصلي على حسب حاله، ويستنجي ويتوضأ لكل صلاة إذا دخل وقتها، وعليه أن يجعل على ذكره ما يمنع وصول البول إلى ثوبه(67/96)
وبدنه والمسجد.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/97)
من الفتوى رقم 8136
السؤال الثاني: رجل مصاب بسلس في البول يظهر بعد التبول لفترة، ولو انتظر انتهاء السلس لانتهت الجماعة، ماذا يكون الحكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا عرف أن السلس ينتهي، فلا يجوز له أن يصلي وهو معه طلبا لفضل الجماعة، وإنما عليه أن ينتظر حتى ينتهي ويستنجي بعده، ويتوضأ ويصلي صلاته، ولو فاتته الجماعة. وعليه أن يبادر بالاستنجاء والوضوء بعد دخول الوقت، رجاء أن يتمكن من صلاة الجماعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/97)
من الفتوى رقم 8696
س: قبل ثلاث سنوات قدر الله علينا في مرض خبيث بالبروستات مما اضطرنا إلى إجراء عملية، وبعد سنة حصل عندي سلس بالبول حيث لا أستطيع التحكم بالبول مما جعلني أستعمل كيسا من النايلون، إلا أنه كثيرا ما يحصل تسرب بالبول أثناء وقوفي بالصلاة بدون أن أشعر بذلك، وقد سافرت إلى لندن، ثم أمريكا، وأخيرا إلى ألمانيا إلا أنه لم أجد أي علاج لذلك، وحيث إني - بفضل الله - حريص على إقامة الصلاة مع الجماعة، ولذا فإنني أسترحم من فضيلتكم - وفقكم الله - إرشادنا بما يجب علينا بصدد الصلاة، وكذلك في حالة الذهاب إلى مكة لأداء العمرة، أثابكم الله، وفقكم لكل خير.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرتم، فلا حرج عليك في الصلاة والطواف، ولو خرج منك بول ما دام خروجه مستمرا؛ لأنك في حكم أصحاب السلس، وعليك أن تستنجي إذا دخل كل وقت، ثم تتوضأ وضوء الصلاة، ولا يضرك بعد ذلك ما خرج منك إلى الوقت الآخر.(67/98)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/99)
الفتوى رقم 8773
س: إني رجل كبير في السن أبلغ من العمر 88 سنة، ومشكلتي هي أن البول مستمر لدرجة أنه يخرج بدون أن أحس به، أرجو من سماحتكم فتوى هل أستطيع أن أتصدق، ويجزئ عن الصلاة؟ لأنني أخشى أن صلاتي علي فيها ذنب؛ لأنني أتوضأ ثم يخرج البول فلا أحس به، وأقوم أصلي؛ لذا هل هناك صدقة تجزئ عن الصلاة؟ وما هي؟ وكم مقدارها؟ وهل من النقود؟ أم من غيره؟ أفتوني جزاكم الله خير الجزاء.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكر وجب عليك الوضوء لكل صلاة في وقتها عند أدائها، ولا يفسد صلاتك نزول البول، وأنت فيها ما دام هذا لمرض بك، ولا تجب عليك صدقة، ولا تجزئك عن الصلاة، بل عليك أن تصلي على الصفة المذكورة أول الجواب.(67/99)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/100)
الفتوى رقم 2469
س: عندما أتوضأ للصلاة يكثر مني خروج الريح مما يضطرني إلى الاكتراب حتى لا يخرج شيء مني، وذلك فيه صعوبة علي، وإذا لم أعمل ذلك خرج الريح مني وانتقض وضوئي. آمل إفادتي عن الحل لذلك، هل أنني أتوضأ ولا أبالي بما يخرج مني بعد ذلك، أم لا؟ آمل إفادتي بذلك؟ حفظكم الله.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله صحبه. . وبعد:
عليك أن تتحفظ من خروج الريح حتى تؤدي الصلاة، فإن كنت لا تتمكن من منع خروجه، وكان مستديما معك على هذه الصفة، فإنك تتوضأ عندما تريد الصلاة، وإذا خرج شئ بعد ذلك فلا ينقض الوضوء ما دمت في الوقت؛ لأن من قواعد الشريعة أن المشقة تجلب التيسير.(67/100)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/101)
من الفتوى رقم 5276
السؤال العاشر: إذا كان يخرج من الشخص ريح باستمرار فما يعمل وخاصة وقت الصلاة، وهل الريح ينقض الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الأصل أن خروج الريح ينقض الوضوء، لكن إذا كان يخرج من شخص باستمرار، وجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة عند إرادة الصلاة. ثم إذا خرج منه وهو في الصلاة لا يبطلها، وعليه أن يستمر في صلاته حتى يتمها، تيسيرا من الله تعالى لعباده، ورفعا للحرج عنهم، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (1) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78(67/101)
من الفتوى رقم 5211
السؤال الأول: أنا شخص مصاب بالغازات وكثرة الرياح، ولا أستطيع أن أتوضأ إلا عند دخول الوقت، فهل إذا خرج مني ريح وأنا أثناء الصلاة ما حكم صلاتي؟ علما بأنني أخذت بعض العلاجات ولكن دون جدوى، وهل يجوز لي مثل الجمعة أن أتوضأ مثلا قبل الصلاة بساعة أو ساعتين بغية الأجر والمثوبة أفيدوني؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان حالك ما ذكر، وأن الغازات مستمرة معك، فعليك الوضوء لكل صلاة بعد دخول الوقت، ولا يضرك ما يخرج منك بعد ذلك. وأما الجمعة فتتوضأ لها قبل دخول الخطيب في الوقت الذي يمكنك من سماع الخطبة وأداء الصلاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(67/102)
تفسير القرآن الكريم
في كتابات المستشرقين
للدكتور \ عبد الرزاق بن إسماعيل هرماس (1)
توطئة:
تاريخ القرآن مع مختلف أجيال المستشرقين موغل في القدم، فمنذ ظهور حركة الاستشراق قبل قرون، كان القرآن الكريم أول هدف اتجهت إليه جهود هذه الحركة، فتوالت ترجماته إلى شتى اللغات الأوروبية، وبعد نقله إلى هذه اللغات ظهرت الحاجة إلى استيعابه بالقدر الذي ييسر للغربيين فهم الدين الذي تعتنقه الأمة التي فشلت الحروب الصليبية في احتوائها وتنصيرها.
وقد كتب عن الاستشراق والمستشرقين الكثير من الأدبيات التي عرضت بالبحث والتنقيب لتاريخ الحركة وأغراضها ووسائلها ورجالها والآثار التي خلفتها، حتى أصبحت هذه الأدبيات اليوم تستعصي على الحصر.
ولا يهمنا في هذه الدراسة تراث المستشرقين المتصل بالقرآن الكريم بحد ذاته، أو المتعلق " بعلوم القرآن "، كما هو متعارف عليها
__________
(1) الأستاذ بكلية الآداب، جامعة القاضي عياض، بني ملال المغرب(67/103)
اصطلاحا- بل غايتها تتبع كتابات هؤلاء عن موضوع " تفسير القرآن الكريم "، مع إبراز مواقفهم من التراث التفسيري المتراكم، ثم تصورهم لما يجب أن يكون عليه منهج التفسير حسب معتقداتهم الخاصة.
أما أهمية هذا الموضوع فتظهر بالنظر إلى مسألتين:
أولا: أن موضوع " التفسير في كتابات المستشرقين " قل أن يستهوي أحدا ممن بحث في الظاهرة الاستشراقية، فباستقراء ما نشر في نقد وتحليل مواقف المستشرقين وآرائهم بخصوص القرآن، نجد بأن الجهود تصرف للرد والتعقيب على مختلف المطاعن المتكررة والتقليدية التي يرددها المستشرقون عن " طريقة جمع القرآن "، وعن " القراءات القرآنية "، وعن " ربانية مصدر القرآن ". . . ومن النادر أن تلتفت هذه الجهود إلى موضوع التفسير بحد ذاته.
ثانيا: كما تظهر أهمية الموضوع في كون الكتابات الاستشراقية لم تهتم بعلم التفسير إلا في العقود الأخيرة، فلم يسبق لهذه الكتابات أن تعرضت لمناهج تفسير القرآن، ولا لنقد التراث التفسيري أو تقويمه إلا ابتداء من منتصف القرن العشرين لأسباب سيأتي بيانها، فالموضوع تبعا لذلك جد حديث.
وقد قسمت هذه الدراسة إلى أربعة مباحث، يسبقها مبحث تمهيدي. خصص البحث الأول للكلام عن المنشورات التي أصدرها المستشرقون، وعرضوا فيها آراءهم الخاصة المتعلقة بتفسير كتاب الله تعالى.(67/104)
والمبحث الثاني: أفرد لجهود المستشرقين المبذولة من أجل هدم ونقض علم التفسير، وبخاصة ما تعلق منها بأهل السنة.
والمبحث الثالث: كان استعراضا للطريقة التي يسعى المستشرقون لنشرها حتى تصبح المنهج المعتمد لفهم القرآن وتفسيره.
أما المبحث الأخير، فهو مخصص لتقويم كتابات المستشرقين وآرائهم بخصوص علم التفسير، ولم أعرض في هذه الدراسة لتلاميذهم من أبناء المسلمين؛ لأن ذلك يحتاج لموضوع مستقل.
نسأل الله العون والسداد والرشد، وأن يعلمنا ما ينفعنا في الدنيا والآخرة، والله من وراء القصد.(67/105)
مبحث تمهيدي
إنه مما لا خلاف فيه أن كتابة المستشرق عن القرآن وتفسيره لم يكن في يوم من الأيام بغرض الإيمان به، أو لغاية تقريبه ممن لا ينطقون العربية. .، كما لم يكن ذلك هدف التعريف بدين الإسلام، أو نشر ثقافة صحيحة عن هذا الدين. . .، وإنما كانت جهود المستشرقين تتجه لغايات أخرى يتستر عليها بثوب زور يصطلح عليه "بالبحث العلمي"، و "الأكاديمي". . .
ولو استقرأنا ما حرره المستشرقون عن القرآن خلال قرون، وما نشروه عن التفسير خلال العقود الأخيرة، ما كنا نحتاج إلى كبير عناء وبحث، لكي نصل إلى المعتقد الذي ظل يحكم تعاملهم مع الدراسات القرآنية، وهو قناعتهم التقليدية ببشرية كتاب الله تعالى،(67/105)
والمستشرق- وقد أشرب إنكار ربانية القرآن - يسعى بدهاء كي يبرهن من خلال كتاباته عن هذا المعتقد، يستوي في ذلك متعصبتهم، ممن يكشفون عن أراجيفهم صراحة، مع أولئك المستشرقين الذين قادهم الدهاء إلى تغليف دعاويهم ببشرية القرآن بشتى الأساليب الملتوية.(67/106)
المطلب الأول: القرآن الكريم في تصورات المستشرقين
لعل مما تقتضيه الموضوعية العلمية والإنصاف أن نقرر في هذا المطلب مدى التصاق المستشرقين بآرائهم وتصوراتهم الذاتية التي يضفونها على مواد كتابتهم، ثم إنهم لا يرون في عملهم ذاك إخلالا بالموضوعية، أو انحرافا عن جادة " البحث العلمي. . "، ومن أبرز ما يظهر ذاتية المستشرقين في مختلف كتاباتهم عن الإسلام تلك المواد التي حرروها " للموسوعة الإسلامية " التي صدرت طبعتها الأولى بين 1913- 1942م بثلاث لغات أوربية، وبإمكان القارئ العربي أن يطلع على طائفة من تلك المواد في الأجزاء المترجمة من هذه الموسوعة- خلال عقد الستينات- حيث يلاحظ أن المترجمين اضطروا إلى إدراج تعليقات هامشية على الآراء المنحرفة التي تقصدها محرروا الموسوعة، وعلى الأخطاء العلمية، والجهالات والتهم الواهية التي تضمنتها المواد المحررة من قبل المستشرقين، فعلق على مادة الحديث الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - كما نجد تعاليق غيره، أمثال مصطفى عبد الرازق، وإبراهيم مذكور وغيرهم، وأحيانا يكون التعليق أطول من المادة بكثير.(67/106)
ونظرا لأن هذه الموسوعات غدت في السنوات الأخيرة مصادر علمية عند الغربيين، وعند طائفة من المسلمين، فمن الأفضل الرجوع إليها أولا لمعرفة تصورات المستشرقين بخصوص القرآن الكريم.
ففي النشرة الحديثة " لموسوعة الإسلام " الصادرة بالفرنسية عام 1981م، وأعيد طبعها عام 1986م، نجد المستشرق " ويلتش " محرر مادة قرآن يقول في المبحث الذي عنونه بقوله (محمد والقرآن) : اعتبارا لوجهة نظر أهل السنة (الأرثوذكس) ، فإن القرآن تلقاه محمد من الله، وحيا على طريق جبريل، بدون أن يكون فيه دخل لأحدهما، لكن تحليل نص القرآن يبين وضعيته المركبة. ففي المقاطع الأولى منه ليس فيها ما يدل على مصدره، وفي مقاطع غيرها لا يوجد ما يدل على ربانية الرسالة، وفي أخرى يظهر أن محمدا هو الذي يتكلم، بل تضمن القرآن مقاطع وردت فيها الإشارة إلى إله محمد بضمير الغائب. . . إن هناك آيات مدنية كثيرة تشعرنا بأن محمدا يبحث بفاعلية، من أجل استقاء معلوماته عن اليهود. . وفي هذه المقاطع لا يصعب علينا أن نرى محمدا يأخذ قصصا ومعلومات من مصادر متعددة، بخاصة من اليهود والنصارى، ثم يعيد صياغة(67/107)
ذلك في القرآن.
أما في النشرة الفرنسية " للموسوعة الكونية " الصادرة عام 1990م، فإننا نجد المستشرق " كلود ثكايو " حين كتب عن تفسير القرآن: يصرح في مبحث عقده للكلام عن " تشكيل متن القرآن "، بأن المصحف تشكل من آراء الفقهاء وأحكامهم، خلال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، وعبثا عمد " ثكايو " إلى اقتباس آراء طائفة من المستشرقين الذين تبنوا هذا البهتان، ليخلص في نهاية مبحثه إلى استنتاج مفاده: أن اختلاف مرويات القراءات التي تلقاها أصحاب محمد- القراءات الشاذة والمشهورة- يرجع في أصله إلى الحاجة لإدراج حواشي أو شروح، تتضمن تشريعات قديمة لنص لم يتم إنهاء جمعه، قبل القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي،
والذي يتتبع كتابات المستشرقين في هذا الموضوع يقف على تصورهم الخاص الذي دافعوا عنه لتأكيد بشرية مصدر القرآن، لذلك حين كتبوا عن القرآن نظروا إليه على اعتبار أنه أثر أدبي محض، وقد وجد منهم من اعتبره دون التراث الأدبي العربي، والعياذ بالله(67/108)
وتماشيا مع هذا التصور الذي ينكر ربانية القرآن، وجدنا المستشرقين يدمجون دراساتهم عن كتاب الله ضمن مؤلفاتهم عن تاريخ الأدب العربي، كما وجدناهم وقد استغرقهم البحث في موضوع الترتيب النزولي للقرآن.(67/109)
المطلب الثاني: بداية اهتمام المستشرقين بالتفسير
اتجه المستشرقون إلى تحقيق كتب التفسير، في فترة مبكرة من القرن التاسع عشر الميلادي، حيث حقق الألماني " فرايتاج ت 1861م " أسرار التأويل وأنوار التنزيل، (ونشر في ليبزيج عام 1845م، وحقق الإنجليزي وليم ناسوليز ت 1889م) " تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل "، ونشره خلال أربع سنوات 1856- 1859م. .(67/109)
ثم انصرف المستشرقون بعد ذلك إلى التأليف في التفسير الموضوعي وأكثروا منه، فنشر الهولندي " فان جنيب " " إبراهيم في القرآن " ضمن مجلة العالم الإسلامي 1912م، ونشر الألماني " أدلف جروهمان " " عيسى في القرآن " ضمن الجريدة الشرقية 1914م، ونشر رافلين "القانون في القرآن " عام 1927م، ونشر جوتين " الصلاة في القرآن " عام 1955م. .
أما فيما يتعلق. بمناهج المفسرين واتجاهات التفسير- وهو موضوع اهتمامنا- فقد اتجه إليه المستشرقون منذ مطلع القرن العشرين، وتوسعت دائرة اهتمامهم به ابتداء من منتصف هذا القرن. فنشر الإنجليزي " هورسفيلد " بحوث جديدة في نظم القرآن وتفسيره " لندن 1902م، ونشر الفرنسي " كليمان هوار " "وهب بن منبه والتراث اليهودي النصراني باليمن " ضمن الجريدة الأسيوية باريس، عدد سبتمبر أكتوبر 1904م، ونشر الألماني " فيشر " " تفسير القرآن " ضمن نشرة الدراسات الشرقية 1906م، ونشر اجنتس جولد تسيهر ت1921م، " مذاهب التفسير الإسلامي "، ونشر ريتشارد هارتمان " تفسير القرآن " في مجلة الدراسات الشرقية 1924م، ونشر الإيطالي جويدي " شرح المعتزلة للقرآن " 1925م، وكتب " أرثر جفري " " أبوعبيدة والقرآن "، نشر في عالم الإسلام 1938م. .
وابتداء من منتصف القرن العشرين بدأت دراسات المستشرقين عن مناهج واتجاهات التفسير تأخذ بعدا آخر، انطبع(67/110)
بطرق دراسة التوراة والأناجيل في البيئة الغربية، فأصدر جاك جويمير " تفسير القرآن عند مدرسة المنار" 1954م، كما نشر عن الطنطاوي جوهري وتفسيره " الجواهر"، ونشر ج. بالجون بلندن " تفسير القرآن في العصر الحديث " 1961م، ونشر بنوييا "التفسير القرآني واللغة الصوفية"1970م، ونشرت ترجمة "القرآن: نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره " لبلاشير 1974 م. ونشر ويلتش " القرآن وتفسيره بلندن 1976م، ونشر ج منوت " مدخل إلى التفسير " 1982م ونشر بروما 1984 - 1985م ضمن ملفات " الدراسات العربية" مختارات من كتابات المستشرقين عن تفسير القرآن (1) ، ونشر كلود ثكايو ضمن النشرة الإنجليزية 1190م " للموسوعة الكونية "عن " تفسير القرآن " و" القرآن في ضوء الدراسات المعاصرة (2) وفي العقود الثلاثة الأخيرة بدأ يغلب على دراسات المستشرقين للتفسير منحى يرى ضرورة إخضاع تفسير القرآن لمناهج التحليل في العلوم الإنسانية، وهكذا في مرحلة أفول الاستشراق انتهى
__________
(1) ''e Commentaire Coranique'' in: Etudes Arabes، Dossier 67- 68 (1984- 1985) ، Roma.
(2) Encyclopaedia Uinversalis، Gorpus 6، P 543- 548.(67/111)
الحال بالمستشرقين إلى البحث عن وسائل لإعادة إحياء وإنعاش ماضيهم التاريخي عن طريق المطالبة بتطبيق معطيات المناهج التغريبية على القرآن في أفق البحث عن " تاريخ النص القرآني "، ثم إعادة قراءته أو تفسيره من جديد!!! (1) .
__________
(1) Ibid، P 547.(67/112)
المطلب الثالث: أسباب اهتمام المستشرقين بالتفسير ودواعيه
سبقت الإشارة إلى أن اهتمام المستشرقين بمناهج المفسرين واتجاهات التفسير، هو وليد القرن العشرين: ظهر في مستهله، وتوسع في منتصفه، وكثرت الكتابة فيه خلال السبعينات، وتراجع هذا الاهتمام الآن بسبب هلاك مشاهير أساتذة الدراسات الشرقية بالغرب، وقلة المهتمين بهذا المجال من الباحثين الأوربيين الناشئين مما ضاعف أزمة الحركة الاستشراقية التي لا زال أقطابها الأحياء يبحثون عن وسائل إنعاشها.
وقد ألمح المستشرق بلاشير في مقدمة أحد كتبه- بما لم يكن يرغب في التصريح به- إلى أن اهتمام المستشرقين بالقرآن: ترجمة ودراسة، كان موجها لغاية أساسية هي فهم البيئة الإسلامية، ومعرفة العالم الإسلامي، وهذه المعرفة والفهم هما اللذان سيؤسس عليهما(67/112)
الغرب سبل السيطرة على الشعوب الإسلامية، لكن بعد عقود من الجهود المضنية ظهر أن المخططات الغربية أخطأت الطريق، فأراد المستشرقون تصحيح المسار بما يثبت أقدامهم في حقل الدراسات الإسلامية، ويمكنهم من الإسهام بشكل أو بآخر في توجيه المسلمين، وأدت بهم " السذاجة " إلى أن يجعلوا أنفسهم أندادا لأئمة تفسير القرآن، وظهرت هذه الدعوى بوقاحة في كتاباتهم ابتداءا من عقد السبعينات من القرن العشرين.
وإذا كان التيار البروتستانتي في الكنيسة الغربية قد بنى دعوته "للتجديد الديني في أوربا على اعتبار أن فهم الدين والكتاب المقدس ليس وقفا على رجال الكنيسة وحدهم، وإنما يتجاوزهم إلى غيرهم ممن أوتوا سعة في الأفق ونفاذا في الإدراك، وعمقا في المعرفة والفكر، فلماذا يبقى تفسير القرآن خاصا بعلماء الإسلام وأئمة الدين من المسلمين؟!
من هنا بدأت تلك الدعوى النشاز، إلى دراسة القرآن دراسة أدبية "، كما تدرس الأمم المختلفة عيون آداب اللغات المختلفة، وتلك الدراسة الأدبية لأثر عظيم كهذا القرآن هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا، وفاء بحق هذا الكتاب، ولو لم يقصدوا الاهتداء به أو الانتفاع بما حوى وشمل، بل هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا(67/113)
ولو لم تنطو صدورهم على عقيدة ما فيه، أو انطوت على نقيض ما يردده المسلمون الذين يعدونه كتابهم المقدس.
بمثل هذه الدعوى تمسك المستشرقون المعاصرون، فدعوا إلى تغيير أصول تفسير القرآن وقواعده وآدابه، وتبنوا موقفا هدميا من مختلف مصنفات التفسير التي كتبها وجمعها الأئمة الأعلام، ثم وضعوا لأنفسهم منهجا غريبا لقيطا أرادوا أن يخضعوا له التفسير، آملين أن يعيدوا صياغة دين متجدد، وإسلام متطور، وتفسير للقرآن خاضع للأهواء، وسيتم التعرض لمنهجهم في مبحث لاحق.(67/114)
المبحث الأول: منشورات المستشرقين المتصلة بدراسة التفسير
نشط المستشرقون في أعمال النشر بدرجة قل نظيرها،(67/114)
وأستطيع أن أقرر أن المجال الذي نجح فيه هؤلاء، ليس هو مجال البحث العلمي، ولا هو ميدان التكوين الأكاديمي، ولم ينجحوا أيضا في مجال الاختراق الثقافي والعقدي. . .، إنما نجحوا في ميدان النشر والتوزيع على نطاق واسع.
ونظرا للإمكانيات المادية والمعنوية، التي ترصد لهم، وللأكاديميات والمجامع، التي يعملون في إطارها، فلا زالوا يستطيعون نشر أو إعادة نشر كتاباتهم، وأيضا ترجمتها سواء كان ذلك بالغرب أو بالبلاد الإسلامية نفسها.
وبخصوص كتاباتهم عن التفسير فقد كانت متنوعة، فهناك التأليف المستقل، وهناك الأبحاث والمقالات التي تقدم للمؤتمرات، أو تنشر ضمن مختلف الدوريات العالمية، وأخيرا هناك تلك المواد المحررة للموسوعات ودائرة المعارف.(67/115)
المطلب الأول: التفسير في التآليف الفردية الخاصة
وتشمل هذه التآليف نوعين من الكتابات:(67/115)
الأول: يتضمن الرسائل والأطروحات التي تقدم للجامعات من أجل نيل الدرجات العلمية، والكتابات التي يؤلفها المستشرقون باعتبارها " أبحاثا " ودراسات ينشرونها ضمن أنشطتهم المختلفة.
والنوع الثاني: هو الأهم، المؤلفات التي أصبحت مصادر لأخذ المعرفة في موضوع التفسير رغم ما احتوته من أوهام وأضاليل، وأحيانا يتجاوز الأمر البيئة الغربية، لنجد لهذه المؤلفات مصداقية علمية حتى في العالم الإسلامي، فتطبع هذه الكتب وتترجم ويستدعى أصحابها، ليحاضروا في المؤسسات العلمية التابعة للبلدان الإسلامية، وحتى في حالة وفاتهم، نجد من المؤسسات الثقافية من يسهر على ترويج هذا التراث. . .
ومن أشهر كتابات المستشرقين عن التفسير كتاب جولد تسهير ت 1921م عن " مذاهب التفسير الإسلامي " الذي ترجم إلى العربية مرتين الأولى: قام بها د. علي حسن عبد القادر، والثانية: أنجزها د. عبد الحليم النجار عام 1954م، وقد كان هذا الكتاب ولا زال من المراجع الرئيسية، التي يأخذ منها الدارسون رغم تعصب مؤلفه ضد الإسلام والقرآن، ورغم الكثير من الأخطاء العلمية والجهالات التي تعمدها المؤلف، فضلا عن ذلك نجد لكتاب "مذاهب التفسير" مكانة فريدة في أوساط المستشرقين، كما نجد(67/116)
لصاحبه سمعة علمية مصطنعة، حتى أننا نصادف المستشرق جوينبول محرر مادة (حديث) في " دائرة المعارف الإسلامية "، يعتبر العلم مدينا دينا كبيرا لما كتبه جولد تسيهر (1) ، ونجد المستشرق كاراديفو محرر مادة (تفسير) في نفس الموسوعة يستظهر بأقواله (2) ، ولا زالت افتراضاته الخاطئة في هذا الكتاب تؤخذ على أنها مسلمات علمية حتى الآن.
بعد كتاب تسهير تأتي في الدرجة الثانية تآليف المستشرق الفرنسي ريجس بلاشير ت 1973م، وقد اكتسبت كتابات هذا الرجل عن التفسير قيمتها وسط دوائر المستشرقين والمتغربين لأسباب ثلاثة:
الأول: طول مدة إقامته في العالم الإسلامي، وبخاصة في المغرب، ثم تدريسه هناك.
الثاني: كثرة تلاميذه من أبناء المسلمين في المشرق والمغرب، حيث أشرف على عدد من الرسائل التي أنجزها الطلبة العرب بالجامعة الفرنسية. .
السبب الثالث الذي أضفى عليه المصداقية العلمية: دخوله للمجامع العلمية العربية. وقد اشتهر من كتاباته عن القرآن مؤلف " مدخل إلى القرآن " بالفرنسية، لكن أوسع ما ألفه عن التفسير تلك المباحث التي كتبها ضمن الجزء الثاني من " تاريخ الأدب العربي " التي استلت
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية ج7 ص 333
(2) دائرة المعارف الإسلامية ج 5 ص 347(67/117)
من الكتاب الأصلي، ونقلها إلى العربية: رضا سعادة وصدرت طبعتها الأولى عام 1974م، وهي نفسها المنشورة ضمن " الموسوعة الكونية" في المبحث الأول لمادة (قرآن) (1) .
__________
(1) R. Blachere، Du message au ''fait Coranique'' in Ency. Universalis'' Corpus 6 P: 540 - 543(67/118)
المطلب الثاني: التفسير في الموسوعات الاستشراقية
تقوم فكرة الموسوعات على جمع مختلف المعلومات المتعلقة بمجال معين كالآداب أو التاريخ أو الطب. .، ثم ترتيب مواد ما تم جمعه، والقيام بتحرير تلك المواد مع مراعاة التركيز والاختزال، ودون الإخلال بما تتطلبه الموسوعة والإلمام بالمادة.
وقد ظهرت فكرة كتابة " موسوعة الإسلام " في مؤتمر المستشرقين العاشر بسويسرا عام 1894م، لكن لم يتم البدء في إصدار أجزاء هذه الموسوعة إلا في 1913م، وتوالى صدور أجزائها حتى سنة 1942م حيث اكتملت بثلاث لغات هي الفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين - باريس 1948 م- تم إقرار مشروع الطبعة الثانية المنقحة لهذه الموسوعة، وقد وجدت هذه الموسوعة رواجا في العقود الأخيرة، فصدرت الطبعة الفرنسية المنقحة في الستينات، وأعيد طبعها عام 1981م، ثم بعد ذلك عام 1986م، هذا دون عد ما صدر بالإنجليزية.(67/118)
أما الترجمة العربية لهذه الموسوعة، فقد ارتبطت بإبراهيم خورشيد، وأحمد الششناوي، وعبد الحميد يونس، حيث اعتمدوا فيها على مواد الطبعة الأولى، فابتدأ صدور الأجزاء التي ترجموها مع التعليق عليها عام 1933م إلى غاية 1965م، وتوقفوا عند حرف الطاء كما هو واضح في الموسوعة التي نشرت بعنوان: " دائرة المعارف الإسلامية "، فضلا عن هذه الموسوعة المختصة بالإسلام، نجد المستشرقين يستأثرون بتحرير المواد المتعلقة بالإسلام وعلومه في مختلف الموسوعات العامة التي تصدر بشتى اللغات في مختلف الدول، وأشهر هذه الموسوعات:
1 - موسوعة " الديانات والأخلاق ".
2 - الموسوعة الكونية ".
أما عن موضوع " التفسير " في هذه الموسوعات المختلفة، فقد حرر مادته في الموسوعة الاستشراقية الأولى (1913- 1942) المستشرق كاراديفو، وما كتبه عن التفسير جد تافه، كان فيه عالة على المستشرقين الحاقدين جولد تسهير ولامنس، وقد ترجمت هذه المادة ضمن " دائرة المعارف الإسلامية" (1) ، ومعها تعليق أمين الخولي.
أما في الطبعة الثانية المنقحة من هذه الموسوعة- صدر الجزء الأول منها 1960- فقد لجأ المستشرقون إلى التوسع في المواد إلى درجة أن مادة (قرآن) التي أسند تحريرها للمستشرق ويلتش
__________
(1) كراديفو، مادة تفسير، دائرة المعارف الإسلامية ج5 ص 346-348(67/119)
تضمنت تسعة فصول بمباحثها، وجاءت في إحدى وثلاثين صفحة من القطع الكبير المكتوب بخطوط دقيقة (1) ، وهذا دون الكلام عن الذيول المرفقة بالمادة التي حررها مستشرق آخر. . .
أما في "موسوعة الديانات والأخلاق"، فقد حرر مادة " تفسير " الألماني شلاير ماخر، حيث كتب عن المادة من منظور وضعي، إذ لا فرق عنده بين تفسير القرآن، والأناجيل والتوراة، وسائر النصوص الأدبية الصرف، وقد اقتبس منه أمين الخولي هذا التصور، وظهر ذلك جليا فيما حرره الخولي تعليقا على كاراديفو في " دائرة المعارف الإسلامية " (2) .
أما في " الموسوعة الكونية " الصادرة بالإنجليزية، فنجد مادة (قرآن) في الطبعة المترجمة إلى الفرنسية عام 1990م مقسمة إلى مباحث ثلاثة: الأول منها: عن "رسالة القرآن من تحرير بلاشير، والمبحث الثاني: عن تاريخ التفسير، والثالث: عن القرآن والدراسات المعاصرة، وكلاهما من تحرير كلود كايو، ولا نجد في المادة كلها إلا امتدادا لذلك التراث الاستشراقي القاصر علميا المتعصب دينيا.
هذا وبما أن عصر الموسوعات قارب على الانتهاء، واحتل
__________
(1) A. T Welch، Al KUR' AN، In encyclopedie de ' Islam Tome 5، P: 401- 431
(2) دائرة المعارف الإسلامية ج 5 ص 348-374(67/120)
مكانه ما يصطلح عليه " بأطلس " العلوم المختلفة، فقد وجدنا هؤلاء المستشرقين يتسابقون لتحرير مواد أطلس الديانات، بخاصة وأن هذا التصنيف الجديد يتم نقله في أقراص الحاسوب، بالإضافة إلى كونه مؤهلا ليدخل ضمن شبكات المعلومات، عبر برامج الإنترنت، وما قد يجد بعد عصر الإنترنت.(67/121)
المطلب الثالث: التفسير في المجلات والدوريات الاستشراقية
دأب المستشرقون على كتابة المقالات والدراسات في شتى المناسبات: كالمشاركة في الندوات أو المؤتمرات، أو الأيام الدراسية، أو في ذكرى تأبين أحدهم، أو في الاحتفال بمؤسساتهم وجمعياتهم، وقد تكون هذه المشاركة عبارة عن ورقة بحث أو محاضرة أو مداخلة مرتجلة، وبسبب حرص المستشرقين على توثيق أعمالهم، فقد كانت جميع أعمالهم تأخذ طريقها إلى النشر بمجرد تحريرها.(67/121)
ولعل أهم وسائل النشر التي استفادت منها الحركة الاستشراقية: الجرائد والمجلات والنشرات.
فالجرائد الاستشراقية قد تصدر كل ثلاثة أشهر، ويشكل كل أربعة أعداد منها مجلدا، أما المجلات فهي مطبوعات دورية مختصة بمجال محدد من مجالات الدراسة، وقد تكون المجلة شهرية أو فصلية أو نصف سنوية أو حولية حسب انتظام صدور أعدادها. أما النشرات فهي مطبوعات، الغرض الأساسي منها هو التعريف بالمعهد، أو المؤسسة أو الجمعية أو النشاط. . .
لكن البحث عن موضوع معين في هذه المطبوعات ليس عملا سهلا ميسورا، لكثرة هذه المطبوعات، واختلاف لغات كتابتها وندرة العديد منها، إلا في المراكز العلمية المجهزة، هذا فضلا عن كون الفهارس التي أحدثت لهذه المطبوعات لا تفي دائما بالغرض لتشعب الموضوعات وتداخل تخصصاتها. . .
وبالنسبة لموضوع التفسير، فإن أول ما يجب على الباحث الحرص عليه في هذه المطبوعات: أن يلم أولا بأسماء المستشرقين الذين اهتموا بالموضوع، فأحيانا يكون عنوان المقالة خادعا، وأعطي مثالين لذلك اعتمادا على ما نشر ضمن " الجريدة الأسيوية " التي تصدر بباريس منذ 1822م حتى يومنا الراهن.
فمن الجزء الرابع من السلسلة العاشرة من الجريدة الأسيوية عدد " سبتمبر" أكتوبر 1904م نشر كليمان هوار مقالته المطولة عن(67/122)
" وهب بن منبه والتراث اليهودي النصراني باليمن"، وهذه المقالة تعرف بالتفسير، وخلص صاحبها في خاتمته إلى توجيه الطعن " لجامع البيان " لابن جرير الطبري وفي نفس الجريدة عدد 261 (Celxi) الصادر 1973م نجد مقالة عنوانها " الدراسات العربية والإسلامية" قدمها في الأصل: كلود كاهن، وشارل بيلا لأحد الملتقيات الاستشراقية، وليس في المقالة شيئا عن الدراسات الإسلامية، أو عن التفسير؛ لأن محرريها يهتمان بمجال الأدب فحسب.
واعتبارا لما يقتضيه المنهج من عرض تحليلي لكتابات المستشرقين عن تفسير القرآن، فسيخصص المبحثان التاليان لتصورات المستشرقين لهذا العلم.
فنعرض أولا: لمواقفهم من التراث التفسيري المتراكم حيث إنهم اتجهوا إلى نقض هذا التراث، ثم نعرض ثانيا: لدعوة متأخريهم(67/123)
إلى ما اعتبروه منهجا علميا جديدا لتفسير القرآن، يعتمد على معطيات العلوم الإنسانية كما هي بالغرب. تبعا لذلك فإن تصورات المستشرقين وآراءهم في علم التفسير تشمل جانبين:
الأول: جانب هدمي يقصد إلى نقض علم التفسير جملة وتفصيلا.
الثاني: إنشائي أو تأسيسي يقصد إلى ابتداع طريقة جديدة في التفسير، تتناسب مع مؤهلاتهم المعرفية، وأهدافهم من وراء الدراسات الإسلامية.(67/124)
المبحث الثاني: موقف المستشرقين من التراث التفسيري المتراكم
تحكمت في توجيه كتابات المستشرقين عن مختلف التفاسير عدة عوامل، فهناك أولا تعاطفهم مع مختلف الفرق المنحرفة التي شهدها تاريخ الفكر الإسلامي، ثم هناك معاداة جمهورهم لأهل السنة والجماعة، ولأئمة الإسلام الذين ينتسبون إليهم، ثم هناك تعصبهم الأعمى لنصرانيتهم أو يهوديتهم، هذا فضلا عن عامل آخر لا يقل أهمية هو غلبة الجهل باللسان على الأغلبية الساحقة من دارسي القرآن العربي المبين منهم.(67/124)
المطلب الأول: وقوف مشاهير المستشرقين عند التفاسير المعاصرة
سبقت الإشارة إلى أن اهتمام المستشرقين بدراسة مناهج التفسير واتجاهات المفسرين توسع في النصف الثاني من القرن العشرين، أما قبل ذلك، فمن النادر أن نجد مستشرقا يلتفت لهذا الموضوع، أو يفرده بالكتابة خلا اجنتس جولد تسهير ت 1921م(67/124)
وبعض من اقتبس كلامه من المستشرقين.
وحين نرجع إلى " مذاهب التفسير الإسلامي " لجولد تسيهر نجده خصص المبحث الأول عن " المرحلة الأولى للتفسير" للكلام عن القراءات والطعن فيها، وجمع طائفة من المغالطات بشأنها، لينتقل بعد ذلك إلى المبحث الثاني عن " التفسير بالمأثور"، فلم يأت فيه بشيء على الإطلاق؛ لأن غرضه هدم هذا التفسير لطغيان الروايات الواهية عليه، ثم انخرط جولد تسيهر في تفصيل الكلام عن الاتجاهات المنحرفة في التفسير، ويظهر من خلال اهتمامه بها وتوسعه في دراستها أنها كانت مبتغاه الذي لأجله ألف كتابه.
فأفرد فصلا لما اصطلح عليه " التفسير في ضوء العقيدة " أدرج فيه الكلام عن تفسير المعتزلة - أهل الرأي- ثم تفاسير الباطنية قديما وحديثا، سواء كان هؤلاء الباطنية من غلاة المنسوبين إلى التشيع (الإسماعيلية) ، أو من " ملاحدة المتصوفة ". . .
ثم خصص فصلا آخر لما أسماه: "التفسير في ضوء الفرق الدينية"، تكلم فيه عن التفسير عند الشيعة الإمامية والإسماعيلية، وأتى فيه بافتراءات كثيرة وافتراضات ساذجة، وخلط بين مقالات وآراء الإمامية والإسماعيلية بطريقة ماكرة. . .
أما الفصل الأخير فقد عنونه ب " التفسير في ضوء التمدن الإسلامي "، وفيه توسع في الكلام عن التفسير عند محمد عبده وتلاميذه الذين سماهم: " المعتزلة المحدثين "، والذي يقرأ هذا الفصل(67/125)
يرى كيف تتبع تسيهر في صبر وأناة مختلف القضايا التي خالفت فيها مدرسة المنار جمهور أهل السنة في الاعتقاد والفروع، كما يستشف القارئ تلك العاطفة التي غلبت على هذا المستشرق وهو يحرر هذه الفصل، بل إن الملاحظ أن تفسير القرآن الحكيم (المنار) ، هو أكثر كتب التفسير ورودا في إحالات جولد تسيهر، هذه الإحالات التي تشمل أجزاء تفسير المنار من الأول حتى الرابع عشر حسب الطبعة القديمة.
ولما جاء المستشرقون المتأخرون وجدوا جولد تسيهر مهد لهم طريق " البحث والدراسة "، ووجدوا في " مذاهب التفسير الإسلامي " دليلا يتبعونه في مجال كتاباتهم عن التفسير، لكنهم زهدوا في التراث التفسيري القديم، الذي اكتفى منه جولد تسيهر بأسماء الكتب، إذ لم يبحث عن غير ذلك، وتوقف هؤلاء المتأخرون عند التفاسير المعاصرة التي لم يعجبهم منها إلا تراث " مدرسة المنار"، فعمد المستشرق جاك جويمير (J. JOMIER) من رهبان الدومنيكان إلى تسجيل موضوع أطروحته للدكتوراة في السربون في موضوع " مدرسة محمد عبده في تفسير القرآن "، وبعد ذلك نشر بباريس عام 1954م كتابا عن " تفسير القرآن عند مدرسة المنار" (1) * ثم نشر عام 1958م دراسة عن " الطنطاوي جوهري وتفسيره
__________
(1) J. JOMIER، e commentaire coranique du Manar، G. P، maisonneuve Paris 1954(67/126)
الجواهر"، ضمن مختارات معهد الدومنيكان للدراسات الشرقية.
وبعد جويمير جاء المستشرق ج. بالجون فألف بالإنجليزية كتابه عن " تفسير القرآن في العصر الحديث "، وصدر الكتاب في ليدن عام 1961م، وهذا المؤلف في جوهره عبارة عن بحث وصفي لما اعتبره الكاتب " مناهج التفسير في زماننا الراهن".
والذي يبدو من تتبع هذه الكتابات الاستشراقية أن أصحابها كان يعوزهم فهم اللغة العربية التي ألفت بها التفاسير السابقة، ففضلوا تبعا لذلك الاحتماء بالتفاسير المعاصرة، لسهولة أسلوبها ووضوح عباراتها، والخلاصة التي يمكن للمتتبع الانتهاء إليها، هي أن المستشرقين حتى الآن عجزوا عن التعامل مع مناهج المفسرين المتقدمين، فاختاروا الوقوف عند تفاسير بعض المعاصرين التي لم يستطيعوا إلا وصفها.(67/127)
المطلب الثاني: إعلاء شأن التراث التفسيري المنحرف
كان كتاب " مذاهب التفسير الإسلامي " بعد صدوره عن مكتبة بريل في ليدن عام 1920م قد وضع للمستشرقين أصول المنهج(67/127)
والطريقة التي يجب أن يتعاملوا بها مع التراث التفسيري؛ واعتبارا لشخصية جولد تسيهر وأسبقية كتابه، فقد أضحى " مذاهب التفسير " مصدرا للدراسات الاستشراقية عن القرآن وتفسيره. . .، فهو منهل المستشرقين المتأخرين يقتبسون منه المادة، ويقتفون أثره في المنهج، والغريب أنه رغم فقر الكتاب ومحدودية قيمته العلمية- إذا نظرنا إليه من خلال التراث التفسيري الذي بين أيدينا اليوم - ورغم إغراقه في التعصب. . .، إلا أن هذا الكتاب ظل يلهم مختلف المستشرقين الذين يكتبون عن التفسير حتى في نهاية القرن العشرين للميلاد (1) .
وحين نرجع إلى هذا المؤلف الذي تجاوزه الزمن- على الأقل من الناحية العلمية الصرف- نجده- كما سلف- يظهر اهتماما وتعاطفا واضحا مع مختلف الاتجاهات المنحرفة، التي شهدها تاريخ تفسير القرآن الكريم.
والمطلع على فهرس موضوعات الكتاب- وإن لم يقرأه- يرى كيف أن التفسير بالمأثور لم يستغرق كله إلا سبعا وأربعين صفحة، كلها طعن في هذا الاتجاه، في حين أن تفسير المبتدعة من معتزلة وباطنية وشيعة - رغم محدودية هذا التراث- استغرق مائتين وسبع عشرة صفحة.
__________
(1) منهم على سبيل المثال كلود كايو الذي حرر آخر مادة عن ''التفسير'' للموسوعة الكونية(67/128)
والسبب في اهتمام تسيهر بهذا التراث المنحرف، يرجع إلى ما يراه من أن تفسير هذه الطوائف خضع للتأثير الأجنبي، بخاصة تأثير عقائد أهل الكتاب.
ففي معرض كلامه عن تفسير المعتزلة، قال مشخصا ذلك التأثير: " وقد أمكن في وقت مبكر إثبات أن الأنظار والمسائل العقدية التي كانت محل الاعتبار في القرنين الأولين عند علماء الكلام الإسلاميين، قد برزت تحت تأثير النشاط العقدي داخل الكنائس، والفرق المسيحية الشرقية، لا سيما في سوريا التي تعد المرحلة الأولى في طريق هذا الاحتكاك ".
وقال جولد تسيهر في كلامه عن الباطنية: "والحق أن مبادئ ونظريات المتصوفة وإخوان الصفا مشتركة بين كلتا الدائرتين، ومشتركة كذلك من بعض الجوانب. والوسائل التي يجعلون الإنسان بواسطتها يطمح إلى هدف الكمال أو الخبر الأعلى. . .، وإنما كان ذلك مشتركا بينهما؛ لأن جذورهما جميعا تمتد إلى الأفلاطونية المحدثة وإلى الغنوصية (1) .
امتدادا لما درج عليه جولد تسيهر من إعطاء مختلف تفاسير المبتدعة أهمية واضحة؛ وجدنا المستشرقين من بعده في سبيل إدراج
__________
(1) تسيهر، مذاهب التفسير الإسلامي ص 229.(67/129)
هذا التراث المنحرف الباطل ضمن تاريخ التفسير، ثم تقديمه على أنه النموذج الأمثل لتفسير القرآن، وفي سبيل تلك الغاية وجدنا الدهاء الاستشراقي الماكر بلغ أوجه مع المستشرق بلاشير الذي أجهد نفسه كثيرا من أجل إثبات ما رآه أصلا من أصول التفسير، قرر فيه "أن التفسير في مبدئه بالذات يقر بالقيمة النسبية للشروحات، خاصة عندما تتعلق هذه الشروحات بمقاطع شديدة الغموض، ولقد قبلت التفسيرات المتعددة، كما قبلت القراءات المتعددة، شرط أن تنال هذه التفسيرات تأييد الإجماع. هنا نجد موقفا فكريا، يمدنا بمفاهيم غير متناهية لفهم القرآن في ضوء التطور التاريخي" (1) ، وانطلاقا من هذه الرغبة الجامحة في إعلاء التراث التفسيري المنحرف اهتمت دراسات المستشرقين ببعث آثار المبتدعة المنسوبة إلى التفسير، وليس من قبيل المصادفة أن يكتب المستشرق جويدي ت 1946م عن " شرح المعتزلة للقرآن "، ويكتب نوييا عن " التفسير القرآني واللغة
__________
(1) بلاشير، القرآن: نزوله وتدوينه. . ص 113.(67/130)
الصوفية. .، ووصل الأمر أن وجدنا المستشرقين يحتفلون حتى بالكتابات المعاصرة التي سارت في نفس الاتجاه، وغير خاف على المتتبع للموضوع طريقة استقبالهم لأطروحة د. محمد أحمد خلف الله عن " الفن القصصي في القرآن ".(67/131)
المطلب الثالث: نقد المستشرقين لأمهات التفاسير عند أهل السنة
منذ بداية القرن العشرين لم تدخر الحركة الاستشراقية جهدا للطعن في هذه التفاسير، فعمد كليمان هوار ت 1927م في مقالة نشرت بالجريدة الأسيوية 1904م إلى ادعاء أن التفاسير تتشكل من تراث أهل الكتاب، وخلص في مقالته إلى القول: " أن مقاطع كثيرة من الطبري. . . مرتبطة بمثلها في سفر التكوين الذي يعرض للروايات اليهودية والنصرانية، وكان وهب بن منبه هو الطريق الذي انتقلت بواسطته هذه الآثار في نهاية القرن الأول الهجري. . . (1)
بعد حوار وجدنا جولد تسيهر يتحامل على التفسير منذ عصر الصحابة - رضي الله عنهم - حتى إذا انتهى به الكلام إلى ابن جرير الطبري لم ير في " جامع البيان " أكثر من " موسوعة للإسرائيليات "، ذلك أن أبا جعفر -حسب تسيهر - "يتوسع كذلك في استخدام المصادر اليهودية الأصل، فيما يتصل بقصص الإسرائيليات، ولم يكن في ذلك لينال موافقة سلفه الذين سبقوه. . .، بل إن كتابه أغزر
__________
(1) c. Huart، Wahb ben monabbih. . . in Jounal Asiatique، 10: Serie، Tome 4P: 350(67/131)
الكنوز بالنصوص المنتشرة في الأوساط الإسلامية من مواد الإسرائيليات كذلك الأساطير النصرانية يرويها راجعا إلى وهب بن منبه (1) .
وعند ظهور الطبعة الأولى من " الموسوعة الإسلامية " كانت حملة المستشرقين على التفسير في أوجها مما سمح لهم بالإعلان عن دعواهم بأن الأحاديث التي تضمنتها كتب التفسير كلها موضوعة.
قال كاراديفو: "وعلم التفسير قديم قد يرجع تاريخه إلى صدر الإسلام، ويروى أن ابن عباس ت 68هـ كان حجة في التفسير، وقد نسبوا إليه تفسيرا. وتساءل النقاد المحدثون (جولد تسيهر ولانس وغيرهما) عن قيمة الأحاديث الواردة في هذه الكتب الجامعة، ولم يصلوا بعد إلى رأي يعززها كثيرا، والظاهر أن أغلب هذه الأحاديث موضوع إما لتقرير مسألة شرعية وإما لأغراض كلامية، وإما لمجرد التوضيح، بل قد يكون لمحض اللهو والتسلية.
ويذهب النقاد المحدثون إلى أنه لا أمل في العثور في هذه التفاسير على أخبار صحيحة عن أسباب نزول القرآن وإذاعته في الناس " (2) .
ولقد كان " جامع البيان " للطبري ت 310هـ أكثر كتب التفسير تعرضا للنقد عند المستشرقين حتى في السنوات الأخيرة حين نشر " بيير غودي " ترجمة فرنسية لما اعتبر " مختصر تفسير الطبري "
__________
(1) جولد تسيهر، مذاهب التفسير ص 111، 112.
(2) دائرة المعارف الإسلامية مادة '' تفسير '' ج: 5 ص 347.(67/132)
عام 1983م فإننا نقرأ في تقديم الكتاب " المطالب العاجلة " التي تلح عليها الدوائر الاستشراقية، وتدعو لبحثها من خلال " الدراسة العلمية العصرية " لجامع البيان، ومن هذه المطالب " تحديد وضبط دور هذا الكتاب في تشكيل إرثوذكسية أهل السنة".
لكن الذي يمكن أن نخرج به من حملة المستشرقين على " جامع البيان " أمران:
الأول: أنهم رأوا في هذه الحملة جزءا من " الواجب " الذي ترتب عليهم بسبب موقفهم من تراث المبتدعة، فلكي يخلو المجال لهذا التراث لا بد من إبعاد مقابله الذي هو تفسير أئمة أهل السنة ومنه " جامع البيان ".
الأمر الثاني: أن جهل هؤلاء باللسان العربي جعل المعاصرين منهم لا يتوقفون عن ترديد كلام أسلافهم لعجزهم عن التعامل مع بقية التفاسير الأثرية المتداولة بين الناس اليوم.(67/133)
المبحث الثالث: المنهج المقترح للتفسير عند المستشرقين
في منتصف القرن العشرين كثرت الكتابات الاستشراقية عن تفسير القرآن، واشتهر من المستشرقين المحسوبين على الدراسات القرآنية الفرنسي بلاشير والألماني بريترل، والإنجليزي أربري، والأمريكي ذو الأصل الاسترالي جفري. . .، ونظرا لوفرة ما نشره(67/133)
هؤلاء وغيرهم في مجال الدراسات القرآنية، فقد خيل إليهم أنهم أصبحوا مؤهلين ليس للكتابة في اتجاهات التفسير ومناهجه فحسب، بل أيضا في إمكانهم التصدي لتفسير القرآن نفسه.
ولإضفاء شكل من الموضوعية العلمية الكاذبة على مشروعهم للتفسير، وحتى لا يتهموا بالخوض بآرائهم الكليلة وتصوراتهم المدخولة في القرآن، وهم دعاة " البحث العلمي المنهجي "، فقد تضافرت جهودهم من أجل اقتراح منهج استشراقي للتفسير، وحررت أصول هذا المنهج من قبل المستشرق كلود كايو الذي نشرها في الطبعة الإنجليزية للموسوعة الكونية، ويقوم هذا المنهج على ثلاث خطوات: الأولى: إعادة البحث في تاريخ المصحف الشريف. والثانية: إعادة تفسيره اعتمادا على ما يصطلح عليه بالعلوم الإنسانية المعاصرة كما هي بالغرب. الخطوة الثالثة: القيام بدراسة نقدية لأمهات التفاسير التي يعتمدها المسلمون.
وللحقيقة لا يدري القارئ المسلم الذي له دراية بعلم التفسير وتاريخه كيف سينجز المستشرقون هذا المشروع؟ ومتى؟ ومن سيقوم بإنجازه والإشراف عليه؟ هذا دون أن نتساءل اليوم عن أسباب ذلك والغاية المقصودة منه؟!(67/134)
المطلب الأول: دعوة المستشرقين إلى توثيق النص القرآني
وهذه هي الخطوة الأولى في منهجهم المقترح، وتقتضي مراجعة تاريخ المصحف الشريف حيث يتطلعون بالدرجة الأولى إلى(67/134)
مرحلة جمع المصحف العثماني، والذي يتتبع الكتابات الاستشراقية بخصوص هذا الموضوع لا بد أن يستشف الغاية التي يرغبون الوصول إليها، وهي تحديدا: إمكانية التصرف في القرآن الكريم حذفا وزيادة، وفي سبيل هذه الغاية اتجهت كتاباتهم كما لا يخفى على أحد إلى الاهتمام بثلاث مجالات لا زالوا " يبحثون فيها حتى أيامنا الراهنة:
الأول منها: تتبع مصادر القراءات الشاذة والمنكرة والاحتفال بها، والعمل على نشرها. .
الثاني: بذل الجهد لدى بقايا مختلف طوائف الضلال من باطنية العصر الراهن، وجمع تراثهم وأضاليلهم التي يدعونها على المصحف، واهتم المستشرقون ببقايا الإسماعيلية - على الخصوص- في شمال الهند ولبنان وجبال العلويين قرب اللاذقية بسوريا حيث استقرت الطائفة النصيرية منهم.(67/135)
المجال الثالث: تطلع المستشرقون من خلال هذا المشروع إلى إعادة تشكيل مصحف جديد يعتمد الترتيب النزولي حتى يتسنى لهم إدماج مختلف الضلالات فيه، ورغم استحالة هذا العمل لانقطاع الرواية في شأن زمن نزول الكثير من مقاطع القرآن، فإن هذا الترتيب النزولي استهوى - ولا زال- الكثيرين ممن تهفوا نفوسهم- التي غلبها التعصب- إلى إعادة تشكيل مصحف جديد للمسلمين! ! !
أما الأسباب التي برر بها هؤلاء دعوتهم لمراجعة المصحف فهي:
أولا: طريقة جمع المصحف على عهد عثمان - رضي الله عنه - حيث يريد المستشرقون بحث المنهج الذي اتبعه المسلمون للتفريق بين القراءات المتواترة والمشهورة وغيرها من القراءات الشاذة التي استبعدت من المصحف، ويدعي هؤلاء أن الفصل في هذه المسألة لم ينته بعد (1) .
ثانيا: أن المصحف العثماني الذي تلقاه المسلمون حتى اليوم لم يكن تدوينه كاملا، لذلك احتاج فيما بعد إلى آراء الفقهاء لبيان الناسخ والمنسوخ، وذلك حرصا على بعض التشريعات التي لم يتضمنها المصحف كعقوبة الرجم.
__________
(1) C. Gilliot، ' exege du Coran in Ency. Universalis، Cor 6P: 547.(67/136)
ثالثا: أنه يجب علينا أن ندرس القرآن باعتباره تراثا أدبيا، وبناء على ذلك يرى المستشرقون الاستفادة من مختلف المناهج التي طبقت على التوراة والأناجيل، وذلك في مجال دراسة القرآن بعد أن صيروه جزءا من التراث الأدبي للمسلمين (1) .
وهذا المشروع الاستشراقي لمراجعة المصحف الشريف لا يكاد يخفى غاياته وأهدافه، وهو لا يعدو كونه حلقة من سلسلة طويلة من المحاولات للتخلص من القرآن الكريم وإزالته من الوجود، ويأبى الله إلا أن يخلد كتابه ويحفظه ولو كره المستشرقون.
__________
(1) Gilliot، Ibid P 548، et J. Wausbrough، Quranic Studies، Oxford-univ. Press، Oxford 1977.(67/137)
المطلب الثاني: مطالبة المستشرقين بنقد التفاسير القديمة
وعملية النقد التي يطلبها هؤلاء لا تعني إطلاقا تطبيق مناهج النقد عند أئمة الرواية على آثار التفسير، كما فعل بعض أعلام المفسرين، وكثير من محدثي المفسرين، كما أن هذا النقد لا يمكن أن يطال الاتجاهات المنحرفة التي شهدها تاريخ التفسير؛ بل إن المستشرقين لا يهمهم بالدرجة الأولى سوى نقد أمهات التفاسير الأثرية التي صنفها أئمة علماء أهل السنة، ثم بيان كيف أن علوم الإسناد لعبت دورا أساسيا في تثبيت " أيديولوجية " أهل السنة عن طريق ربط الجماعة المسلمة بسلاسل من الرواة تنتهي إلى مختلف الأحاديث. . . "، وفي هذا الموضوع نجد المستشرق كلود تكايو، قال:.(67/137)
" إن عملية نقد مصنفات التفسير بالمأثور عند المسلمين يمكن أن تقودنا إلى الإسهام الإيجابي في مشروع إعادة تفسير القرآن، فأعلام المفسرين- في الواقع- هم أهم شاهد على الطريقة التي تشكلت بها الذاكرة الإسلامية المشتركة، إن تفسيرا أثريا كتفسير الطبري، نجده فضلا عن شروحه الفلسفية والنحوية، وشواهده الشعرية يجمع قدرا كبيرا من مرويات التفسير المنقولة بواسطة أكثر من خمس وثلاثين ألف سلسلة رجال، وهذا المصنف يمدنا بالطريقة التي تنتقل بها المرويات (الأحاديث) ، هذه الأخيرة التي عملت دائما على تجديد التصورات الوجدانية، وفي هذه البوتقة فإن المفسر التقليدي ليس مجرد جامع للمرويات يكتفي بتسجيل، ثم نقل تلك الأحاديث لمن يأتي من بعده، بل أنه يرتب الأحاديث ويرجح فيما بينها، ويدلي برأيه فيها، ويعطي لتلك المرويات دلالة في التصور الإسلامي العام، على أن هذه الدلالة يتم تأكيدها وإثباتها من قبل المفسر بواسطة سلاسل الرواة التي يضمن بها تماسك "أيديولوجية " الجماعة المؤمنة؛ ولجوء المفسر إلى هذا النوع من الخطاب الذي يعتمد على إسناد الحديث يكشف لنا مختلف الإسقاطات التي وقعت في كتب التفسير، حيث كانت الرغبة متجهة لتكريس مرويات بعض الصحابة الذين خصتهم كتب التراث بسير أسطورية مثل ابن عم محمد- صلى الله عليه(67/138)
وسلم- عبد الله بن عباس 68 هـ- رضي الله عنهما- على أن هذا النوع من الدراسة التفسيرية يتطلب منا أن نطرح من جديد السؤال عن العلاقة بين ما هو واقعي حقيقي، وما كان من إبداع المخيلة، كما سبق أن طرح ذلك في مجال دراسة المجتمعات البدائية (الأنثروبولوجيا) ، والتاريخ الوسيط والقديم بالغرب.
انطلاقا من هذا الموقف الاستشراقي الذي لا يكاد يخفي فساد طويته وخلفياته، يدرك الدارس الموضوعي أن الهدف النهائي من عملية نقد التفسير عند المستشرقين هو الطعن في جانب من السنة المشرفة (أحاديث التفسير) ، والنيل من عدالة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يفتح الباب على مصراعيه من أجل تبني هرطقات المبتدعة المنسوبة للتفسير، وهذا بحق هو جوهر الدراسة الاستشراقية للتفسير، كما سيأتي توضيحه في المطلب اللاحق.(67/139)
المطلب الثالث: تبني المستشرقين الدعوة لإعادة تفسير القرآن
تفسير القرآن علم له قواعده وآدابه وأصوله، ولا يمكن أن نجد(67/139)
علما من العلوم- سواء كان يهتم بالدين أو لا علاقة له بموضوعه يخرج عن هذا الأصل العام في المعارف الإنسانية قاطبة.
كما أنه لا يوجد مجال في هذه الدراسة للإلماح إلى أصول علم التفسير وقواعده، لذلك نكتفي بالتأكيد والتذكير بهذه الأصول التي تطلب في مظانها المختلفة.
والحركة الاستشراقية المعاصرة حين أرادت الخوض في تفسير القرآن لم تكن تغفل هذا الموضوع، لكنها أرادت أن تتجاوزه ظهريا عن طريق الالتواء على هذه الأصول العلمية بدعوى الاستفادة - بدلا من ذلك- من معطيات العلوم الإنسانية بالغرب، وتبعا لهذه الدعوى تأسس منهج تفسير القرآن عند المستشرقين ابتداء من منتصف القرن العشرين على هذه المعطيات التي سبق للدوائر العلمانية، (والتيارات اللادينية) في الغرب أن أخضعت لها تراثها الديني المحرف.
"إن تطور الدراسات القرآنية بالغرب في أواسط القرن العشرين قد حدث تحت تأثير التقدم الملحوظ في تفسير (الكتاب المقدس) ، وتأثير النظريات الأدبية، إن أثر العلوم الإنسانية، وبخاصة علم دراسة المجتمعات البدائية (الأنثروبولوجيا) ، وعلم تاريخ الأديان(67/140)
بدأ ذلك الأثر يظهر في مجال تفسير القرآن بالغرب: مثل البحث عن دور الشعارات والرموز الدينية، ودور الوجدان الديني، ودور الأساطير المرتبطة بالدين. . .، ويمكننا أن نميز بين اتجاهين حديثين ظهرا في ميدان التفسير: الأول اهتم بتاريخ المصحف وتكوينه وجمعه وتحريره.
الاتجاه الثاني: اهتم بإعادة تفسير القرآن عن طريق الاستفادة من الآليات التي توفرها مختلف العلوم الإنسانية، كما يتمسك هذا الاتجاه أيضا بالدراسة النقدية لأمهات التفاسير القديمة، هذه الأخيرة التي تعتبر شاهدا على الطريقة التي تم بها التفاعل مع النص القرآني من أجل تشكيل الوجدان (التصور) الإسلامي في مراحل عدة من التاريخ، وهذا يعني أن الدراسة النقدية لهذه التفاسير تهدف إلى معرفة الطريقة التي تم بها تصور الإسلام، وكيف جاء هذا الدين، وأخيرا كيف تم تخيله في تصور المسلمين ووجدانهم (1) .
والذي يظهر من خلال هذا النص أن المعتقد الذي يسعى المستشرقون لأجل تكريسه من خلال منهجهم المقترح لإعادة تفسير كتاب الله ينبني على ما يلي:
أولا: أن القرآن الكريم إنما هو مجرد تلفيق من مصادر عدة استقى منها محمد - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به أمته، وفي بحث المستشرقين عن الكيفية التي جاء بها هذا الكتاب ومصدره، تشعبت
__________
(1) Gilliot، les recherches contemporaines، in Ency. Uni. Cor 6. P 547. .(67/141)
بهم الأراجيف، ولم يتفقوا على مصدر بعينه (1) .
ثانيا: أن أحكام القرآن إنما هي مجموعة من التشريعات أدرجها فقهاء الإسلام ضمن تفاسيرهم دون أن تكون لها علاقة به، ومن ثم وجد ذلك التصور الذي ينظر إلى دلالة الآيات على أنها أحكام ملزمة، وهي في التصور الاستشراقي غريبة عن القرآن كما ظهر ذلك في كتابات جوزيف شاخت ت 1969م الذي أنفق عمره لهذه الغاية.
ثالثا: أن ما يعتقده المسلمون، ويتصورونه بخصوص موضوع القرآن وتفسيره إنما تم تكريسه بواسطة تلك الأحاديث المسندة التي تنتهي إلى طائفة من الصحابة الذين اختلقت لكل واحد منهم سيرة أسطورية تسمو به في نظر المسلمين.
والكتابات الاستشراقية عن التفسير تريد أن تسقط عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - حتى يسهل عليها الطعن في إسناد أحاديث التفسير، كما تبحث- عبثا- عن وسيلة لقطع الصلة بين القرآن وأحكامه، هذا- بطبيعة الحال- بعد إنجاز الخطوة الأولى التي هي إعادة النظر في تشكيل وجمع المصحف نفسه!!!
__________
(1) سبق أن جمعت مختلف أراجيفهم في الموضوع ضمن دراسة توثيقية يسر الله نشرها قريبا(67/142)
غير أن الذي يمكن أن يستغربه القارئ المتتبع هو ذلك الموقف الاستشراقي المزدوج من تراث طوائف المبتدعة المنسوب زيفا إلى التفسير:
فمن جهة؛ لا نكاد نجد هذا التراث يوضع على محك النقد الاستشراقي مع أمهات كتب العلم التي يتجرأ هؤلاء على الكلام فيها.
ومن جهة ثانية؛ لا يخفى على أحد احتفال الكثير من المستشرقين بتراث هؤلاء المبتدعة، وبحثهم عنه وسعيهم الدءوب من أجل إحيائه ونشره!!!(67/143)
المبحث الرابع: تقييم كتابات المستشرقين عن التفسير
في مجال تقييم هذه الكتابات سيكون من المفيد محاولة استقراء مختلف المصادر التي يعتمدها المستشرقون، ويؤسسون على معطياتها آراءهم واستنتاجاتهم، كما يدخل ضمن عملية التقييم البحث عن المميزات، والخصائص التي انطبعت بها هذه الكتابات، وإبراز مميزات الكتابات الاستشراقية عن التفسير، من شأنه أن يساهم في بيان القيمة العلمية لدراسات المستشرقين في الموضوع.
على أنه أيا كانت مصادر الدراسات القرآنية عند المستشرقين، فإن الحقيقة الموضوعية لا بد أن تظهر ما لم تحجبها ذاتية المستشرق، والمسألة التي لا يمكن إغفالها في هذا المجال هي أن الخلفية الدينية - وأحيانا التعصب- ظل ذلك حاجزا يحول بين مختلف المستشرقين، وبين البحث العلمي الموضوعي المتعلق بالقرآن وتفسيره.(67/143)
المطلب الأول: مصادر المستشرقين في الكتابة عن التفسير
تختلف المصادر التي اعتمدها المستشرقون للكتابة عن التفسير، تبعا لعدة عوامل منها: تفرغهم " للدراسات القرآنية "، وإلمامهم بمختلف اللغات الأوربية، وأخيرا اطلاعهم على الآداب العربية؛ فالملاحظ أن أولئك الذين يكتبون في مختلف العلوم الإسلامية يطغى عليهم اختصار مؤلفات سابقيهم؛ أما مسألة الإلمام باللغات الأوربية فيظهر أثره بالنظر إلى أن إصدارات الحركة الاستشراقية المتصلة بالتفسير موزعة بين تآليف مكتوبة بالألمانية والفرنسية والإنجليزية، وترجمة هذه التآليف من إحدى هذه اللغات إلى أخرى قليل مقارنة بنشاط الترجمة في مختلف المعارف بالغرب. .، وأما العامل الأخير، وهو الاطلاع على الآداب العربية، فالمقصود بذلك ليس الإلمام بها، إذ الغالبية العظمى من المستشرقين لا يتكلمون العربية أصلا، وقلة منهم يفهمون ما يقال بالعربية بصعوبة، وحتى أكثرية أولئك الذين نشأوا، وعاشوا في البلاد العربية لا تخفى الصعوبة التي تعترضهم حين يتعاملون مع الكتاب العربي.
وحين نبحث في المصادر المعتمدة لدراسة التفسير عند المستشرقين؛ نجد بأن أكثرها مراجع وسيطة تتشكل بالأساس من تلك المؤلفات التي نشرها المستشرقون أنفسهم، وقد يحيل بعضهم إلى بعض مصادر ومراجع عربية.
تبعا لذلك، فالبحث في مصادر كتابات عن التفسير يتطلب(67/144)
تقسيم هذه الكتابات إلى قسمين:
الأول منها: كتابات اعتمد مؤلفها الإحالة على مصادر ومراجع بالعربية لم تترجم إلى اللغات الأوربية، وهي قليلة نسبيا، من هذه الكتابات الاستشراقية " مذاهب التفسير الإسلامي " المنشور في ليدن 1920 م، ومنها أيضا مادة " قرآن " ضمن الموسوعة الإسلامية، الطبعة الثانية مكتبة بريل ليدن 1981 م.
القسم الثاني: كتابات استشراقية اهتمت بالتفسير، وكانت عالة على التراث الاستشراقي نفسه، وهذا القسم هو الأكثر، وقد تجسد هذا القسم بخاصة في المادتين اللتين حررتا عن "تاريخ التفسير"، وعن "القرآن والدراسات المعاصرة"، ونشرتا ضمن الموسوعة الكونية طبعة 1990 م، حيث نجد لائحة مراجع المادة تتضمن عشرين مرجعا، كلها بدون استثناء من كتابات المستشرقين أو تلامذتهم بشتى اللغات الأوربية.
ولتقييم مدى استفادة القسم الأول من هذه الكتابات من المصادر العربية، فإنه مما لا يخفى على المتبع أن هذه الاستفادة كانت محكومة بتوجهات المستشرقين، وتصوراتهم الخاصة للقرآن وتفسيره، فجولد تسيهر - مثلا- في كلامه عن القراءات القرآنية ضمن الفصل الذي خصصه "للمرحلة الأولى للتفسير" نجده يحيل في توثيق القراءات إلى الكشاف للزمخشري (1) ، وهذا الكتاب رغم أنه من كتب التفسير
__________
(1) انظر: على سبيل المثال: مذاهب التفسير ص 14 هـ 1، ص 21هـ 3، ص 23هـ 1، ص 24هـ 2.(67/145)
إلا أنه ليس مصدرا للقراءات، وقد نجد الزمخشري يتعصب للقراءة المردودة والشاذة، لا لشيء إلا لأنها تنصر مذهبه، فالمستشرق يستغل هذا الجانب؛ ولهذا الغرض أيضا وجدنا المستشرقين ينشرون (شواذ القراءات) لابن خالويه، و (كتاب المصاحف) لابن أبي داود.
وفي هذا السياق أيضا وجدناهم يختارون من كتب علوم القرآن (الإتقان) للسيوطي حيث نشره النمساوي شبرنجر ت 1893 م، وكان المستشرقون يستندون في مطاعنهم إلى تلك الروايات الواهية التي ذكرها السيوطي.
نخلص من خلال تتبع الأمثلة السابقة إلى أن رجوع بعض المستشرقين للمصادر العربية للتفسير كان محكوما بتصوراتهم الخاصة عن القرآن، فلم تفدهم هذه المصادر من الناحية المعرفية في شيء، وأحيانا نجدهم يتعمدون الكذب، وينسبونه لهذه الكتب، وقد وجد من هؤلاء المستشرقين من لم يعرف العربية، ولم يرجع إلى المصادر، لكنه وجد بين يديه ركاما من كتابات أسلافه، فاعتمده وسعى(67/146)
لأجل ترويجه بأخطائه المعرفية والمنهجية المتعمدة.(67/147)
المطلب الثاني: مميزات كتابات المستشرقين عن التفسير
انطبعت هذه الكتابات بمجموعة من المميزات ناتجة بالخصوص عن سببين اثنين:
الأول: يتعلق بالمنطلقات المنهجية التي ابتدأ منها اهتمام المستشرق بالتفسير، وتشكل تبعا لها تصوره عن القرآن وتفسيره لهذا الكتاب.
السبب الثاني: الأغراض والغايات التي لأجلها وقع هذا الاهتمام، فهي ليست بالضرورة أغراض دعوية أو غايات هدائية. .
اعتبارا لتلك المنطلقات والأغراض وجدنا كتابات المستشرقين عن التفسير تنحو دائما في اتجاه واحد وإن اختلفت سبلها.
ففي بداية القرن العشرين اتجه المستشرقون إلى تأصيل الاتجاهات المنحرفة في التفسير ضمن تاريخ هذا العلم باعتبارها إسهامات قديمة سابقة حتى يفتحوا الطريق لإضافة هرطقاتهم أيضا لعلم التفسير؛ ولا زال بعضهم يسعى لهذا التأصيل.
وفي منتصف هذا القرن- لما فشلت المحاولة الأولى- اتجهت جهود المستشرقين لتبني بدعة مستحدثة، وهي الدعوة إلى إعادة تفسير القرآن اعتمادا على معطيات العلوم الإنسانية بالغرب بخاصة (علم(67/147)
دراسة المجتمعات البدائية) .
وحين نرجع لمختلف كتاباتهم عن موضوع التفسير نجدها قد انطبعت بمجموعة من المميزات ظهرت بجلاء رغم تمسك بعضهم بإضفاء الطابع العلمي المجرد على هذه الكتابات.
1 - الميزة الأولى لكتابات المستشرقين عن التفسير هي (الانتقائية) ، والأصل أن الدراسات والبحوث الإنسانية جمعاء تعتمد على التتبع، ثم الجمع، ثم الاستقراء واستخلاص النتائج؛ أما كتابات المستشرقين عن التفسير، فهي تنطلق من تصور اقتنع به المستشرق أو أراده، ثم يسعى جاهدا من أجل تقريره وتدعيمه حتى يصبح (حقيقة علمية) ، وفي سعيه لذلك يلجأ لأي معطيات يقع عليها حتى ولو كانت لا أصل لها.(67/148)
2 - الميزة الثانية (الذاتية) ، ومردها إلى تأثير الخلفية الدينية للمستشرق في كتاباته، فمعتقد المستشرقين أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، فيكتبون عنه باعتباره أثرا من الآثار الأدبية العربية، ولو وقع أن نظر المستشرق في القرآن بعد أن تجرد من خلفيته اليهودية أو النصرانية، لحصل له مثل ما كان يحدث لأهل مكة الذين لم يعمهم التعصب زمن النبوة، فقد كان تجردهم يبصرهم بحقيقة القرآن، هذا بطبيعة الحال مع اعتبار جهل المستشرقين باللسان العربي المبين.
3 - الميزة الثالثة (السطحية) ، أي فقدان أي عمق علمي أو(67/149)
معرفي، وقد برزت هذه السطحية على مستوى مضمون كتابات المستشرقين عن التفسير وعلى مستوى المنهج.
فعلى مستوى المضمون لا تكاد هذه الكتابات تخفي فقرها المعرفي، وتجاهلها لبدهيات العلم، هذا دون الكلام عن إهمالها الرجوع إلى المصادر المتراكمة باللغة العربية.
أما على مستوى المنهج فقد كرس هذه السطحية حرص المستشرقين على (دراسة) تفسير القرآن بمناهج غريبة عن هذا العلم استعاروها من خارج التراث العلمي الذي يهتمون به، فكان من نتيجة ذلك أنهم لم يستوعبوا علم التفسير، ولم يستطيعوا أن يفهموا مناهج وطرق المفسرين.
4 - الميزة الرابعة (الانقطاع) ، ويظهر ذلك من خلال مختلف المشروعات التي يطرحها المستشرق، (أو لفيف من المستشرقين) ؛ فرغم اتفاقهم في المرحلة الأخيرة على إعادة تفسير القرآن اعتمادا على مختلف العلوم الإنسانية، إلا أن السبل تشعبت بهم بعد ذلك بسبب(67/150)
تعدد هذه العلوم واختلاف مجالاتها ثم توسعها الكبير خلال العقود الأخيرة، واعتبارا لهذا التوسع فإن الكلام عن تفسير يعتمد معطيات هذه العلوم هو ضرب من الخيال ومحاولة متعمدة لدفع تفسير القرآن إلى فضاء التيه حتى يغدو كتاب الله محتملا لكل ضلال.
وقد تجلت ميزة (الانقطاع) بوضوح من خلال مختلف كتابات المستشرقين، فلو قدر لنا اليوم أن نجمع مختلف ما نشره هؤلاء عن الموضوع فسنجد أنفسنا أمام سديم من (الإنشائيات) التي لا يجمع بينها شيء، خلا تلك الدعوة إلى إعادة النظر في التفسير. . هذا بإجمال أهم ما ميز كتابات المستشرقين عن التفسير، وإذا نظرنا إليه بعين الإنصاف ألفينا المميزات السابقة نقائص أو سلبيات أثرت على القيمة العلمية لهذه الكتابات، فكان حريا بها تبعا لذلك أن تظل محصورة في دوائر وأكاديميات المستشرقين وأذنابهم من المسلمين الذين لم نتعرض لهم، واليوم لا نصادف في العالم الإسلامي أثرا لتلك الدعوة التي انطلقت قبل نصف قرن من أجل تفسير يعتمد(67/151)
معطيات علوم الإنسان بالغرب اللهم بعض النتف في تلك الرسائل الجامعية الموبوءة التي تم احتضانها بأكاديميات وجامعات المستشرقين في الغرب.(67/152)
المطلب الثالث: أسباب انحراف كتابات المستشرقين
درج العلماء على تقسيم مختلف ما ألف عن تفسير القرآن إلى إسهامات مقبولة وهي المنضبطة علميا، وكتابات منحرفة وهي التي تكون ناتجة جهل بالعلم أو هادفة إلى تقرير مذهب فاسد، وهذا التقسيم إنما وضعوه حين أرادوا الكلام عن اتجاهات التفسير وبدعه، والهدف منه تمييز تراث المبتدعة المنسوب إلى علم تفسير القرآن عن التفسير العلمية السليمة المنهج، فاختصت مؤلفات أهل البدع بمصطلح (التفسير بالرأي المذموم) كما عرفت تفاسير غيرهم بمصطلح (التفسير بالرأي المحمود) وهذا عندما يكون الكلام عن التفسير بالاجتهاد وإعمال العقل. .
وحين نرجع إلى كتابات المستشرقين عن التفسير وعن معالم منهجه اليوم كما يتصورون ذلك، نصادف بأنهم لا يكادون يختلفون في مسلكهم ودعوتهم عن نزغات أهل البدع قديما، فقد قصدوا إلى التسور على العلم بغية هدمه وركبوا لتلك الغاية كل صعب وذلول، وإذا كان العلماء قديما قد حددوا أسباب انحراف تفسير أهل البدع، فإن انحراف كتابات المستشرقين عن التفسير في العصر الراهن يرجع إلى عدة أسباب يمكن إجمالها في الآتي:(67/152)
السبب الأول: فساد المعتقد، وهذا يلتقون فيه مع أسلافهم من المبتدعة قديما، ومرد هذا الفساد تعصبهم لمللهم ونحلهم، لذلك عميت بصائرهم عن إدراك دلائل ربانية القرآن، من ثم نظروا إلي هذا الكتاب باعتباره جزءا من تراث الأمة التي تدين به لربها. .
السبب الثاني: سوء القصد، فالمعروف لدى طالب علم التفسير ودارسه أن من أهم الآداب التي يجب توفرها في المفسر والدارس لكتاب الله (سلامة القصد) ، وأهم أسباب ضلال المبتدعة قديما هو أنهم أرادوا تأصيل نزعاتهم من خلال التأليف في التفسير وتضمينه تلك الأهواء فضلو وأضلوا، والمستشرقون حديثا ولجوا ميدان التفسير ولم يبتغوا الحق، بل منهم من قصد إلى إضفاء تصورات نحلته عليه، ومنهم من قصد هدم هذا العلم أصلا بشتى الوسائل وهذا مما لا يخفى في كتبهم.
السبب الثالث: فوضى المنهج، يعرف المنهج اختصارا بأنه الطريقة التي يسلكها الدارس والباحث من أجل الوصول إلى حقيقة علمية سواء كانت تلك الطريقة تعتمد الاستقراء والتتبع أو كانت تعتمد التحليل والتقويم أو التجريب والملاحظة. . . وغياب المنهج في أي مجال من مجالات البحث يؤدي إلى ما يمكن أن نصطلح عليه (بفوضى(67/153)
المناهج) ، وقد أدت هذه الفوضى في مجال (أصول الدين) قديما إلى ظهور شتى الفرق والطوائف المتنافرة، كما أدت هذه الفوضى في مجال التفسير بالرأي إلى ظهور مختلف (التفاسير المذهبية) . .
وظهرت هذه الفوضى في كتابات المستشرقين عن التفسير لما اعتبروا القرآن تراثا أدبيا تجرب عليه كل المناهج التي عرفتها البيئة الغربية، سواء كانت مناهج مادية أو وضعية، وسواء كان مجالها دراسة الأساطير أو دراسة الوقائع، وسواء كانت مناهج تاريخية أو كانت فلسفية. . لينتهي المطاف بالمستشرقين إلى فتح مجال التفسير لشتى (المناهج) التي عرفت في ميدان العلوم الإنسانية بالغرب بتناقضاتها وتضاربها وإخفاقاتها أيضا.
السبب الرابع: الجهل بالعلم، المعارف البشرية جميعها يتوقف استيعابها على الإحاطة بكلياتها وفروعها، ولا يوجد فرع منها يمكن تحصيله بدون طلب، والحرص على الطلب مع المواظبة والاستمرار يورث العلم، ثم إن جميع العلوم لها أصول وقواعد، والطريق الذي سلكه العلماء كيفما كانوا هو أولا التحصيل من مصادره ومظانه ثم الانضباط لقواعد العلم وأصوله. .(67/154)
فالذي لم يسلك طريق التحصيل أولا جاهل ولو ادعى خلاف ذلك.
والذي لا ينضبط لقواعد العلم وأصوله وآدابه مخالف لمقتضى العلم - وإن سبق له تحصيل - فلا يؤمن أن يخلد إلى هواه.
وحين نرجع إلى كتابات المسشرقين عن التفسير نجد بأنه اجتمع فيها الجهل بالتفسير والجهل بما يقتضيه هذا العلم، أما الأول فمظهره تجلى من خلال ترديد الأجيال المتعاقبة من المستشرقين لتراث متقدميهم وأسلافهم فقط، وأما الجهل بمقتضى العلم فأول مظاهره عدم اكتراثهم بآداب وقواعد علم التفسير حيث تقرر في أوساطهم منذ عقود أن تفسير كتاب الله يمكن أن يزاوله حتى من يكفر بربانية القرآن أو من يبحث عن (دلائل) نسبته إلى البشر. .
السبب الخامس: الجهل باللغة العربية وعلومها وآدابها، إذ أن مشاهيرهم لا يحسنون الحديث بالعربية ولا يستطيعون الحوار بهذه اللغة ولا استظهار شيء مكتوب بها، رغم أنهم عاشوا بين المتكلمين بالعربية خلال عهد الاستعمار، أما غير هؤلاء المشاهير فإن(67/155)
القطيعة بينهم وبين اللسان العربي لا جدال فيها إطلاقا، ذلك أن متأخري المستشرقين تم تكوينهم بلغاتهم الأصلية ولم ينتقلوا أو يعيشوا في وسط الناطقين بالعربية. .
وأن من يراجع نظم التعليم العالي في الغرب يصادف ذلك الإصرار على محاربة جميع أشكال المنافسة للغة الوطنية أو القومية، ففي فرنسا - على سبيل المثال لا الحصر- يفرض على الباحث المتخصص في الآداب الإنجليزية أو الأسبانية أو غيرهما أن يحرر ويناقش أطروحته بالفرنسية رغم مجافاة ذلك للبحث العلمي، ونفس الشيء يفرض على المتخصص في فرع من فروع الدراسات الشرقية، ويتأزم أمر الباحث حين يكون موضوعه (تحقيق) مخطوط معين. .؛ والخلاصة التي نصل إليها أن تكوين المستشرق مهما بلغ لا يرفع عنه الجهل باللغة العربية التي دونت بها كتب التفسير، وما دام حاله كذلك فلن يصل إلى مرحلة الاستفادة من هذه المصادر، فيظل تبعا لذلك متوقفا عند تكرار تلك (الإنشائيات)(67/156)
التي يجدها مكتوبة بلغة يفهمها.(67/157)
خاتمة الدراسة:
كانت المباحث السابقة عرضا تحليليا وتقويميا لكتابات المستشرقين عن موضوع تفسير القرآن، وقد كان من أولويات هذه الدراسة الاعتماد على ما نشره المستشرقون عن التفسير في (موسوعاتهم العلمية) بالدرجة الأولى، نظرا للقيمة التي أعطيت لهذه الموسوعات في الشرق والغرب على السواء.
أما النتائج التي يمكن أن نخلص إليها من تتبع مطالب ومباحث الدراسة فهي:
أولا: أن الكتابات الاستشراقية عن التفسير حاولت في أول أمرها تأصيل تراث المبتدعة المنسوب لعلم التفسير، وذلك بجعله لونا من ألوان هذا العلم، فلما ظهرت مختلف الدراسات المعاصرة بالعالم الإسلامي وبينت حقيقة هذا التراث، وكشف عواره. .، غير أكثر المستشرقين خطتهم، وظهرت في محافلهم دعوى ظنوها جديدة.
ثانيا: أن دعوة المستشرقين لإعادة النظر في التفسير قدموها في صياغة نظرية غير منضبطة حتى تتسع لهم ولمن سلك طريقهم من الخائضين في تفسير كتاب الله. بمحض الهوى.
ثالثا: أن " الطريقة " التي دعا المستشرقون لنهجها في التفسير ظلت طيلة عقود من الزمن مجرد نظرية لم يستطيعوا هم ولا غيرهم تطبيقها، وكل ما نجد من كتاباتهم في التفسير مجرد " مقالات " في(67/157)
التفسير الموضوعي يكون فيها المستشرق عالة تماما على " معجم آيات القرآن ".
رابعا: أن دعوة المستشرقين لاعتماد معطيات العلوم الإنسانية بالغرب في مجال تفسير القرآن أملاها عليهم واقع عجزهم عن التعامل مع المصادر بسبب الجهل باللسان، بالإضافة إلى سعيهم الحثيث لهدم علم التفسير.
وختاما نسأل الله السداد في القول والعمل والله تعالى أعلم وأحكم.(67/158)
صفة الاستواء لله عز وجل
للدكتور \ صالح بن محمد العقيل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فإن من الأمور الجديرة بالعناية مسائل العقيدة وخصوصا التي حصل فيها الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، والتبس فيها الحق بالباطل عند كثير من الناس، فظنوا أن السنة بدعة والبدعة سنة ومن هذه المسائل مسألة الاستواء.
فكثير من المؤلفين يقرر مذهب الجهمية ويدعو إليه ويرى أن مذهب أهل السنة مبتدع يستحق التحذير منه.
لذا رأيت أن أجمع ما قاله أهل السنة - فيما اطلعت عليه - في هذه المسألة وبيان ردهم وإبطالهم لقول من خالفهم.
وجعلته في ثلاثة فصول وخاتمة.(67/159)
الفصل الأول وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في ذكر استواء الله عز وجل في القرآن
المبحث الثاني: في معنى الاستواء في اللغة
الفصل الثاني وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في مذهب أهل السنة ومن وافقهم
المبحث الثاني: في شرح ما نقل عن الإمام مالك في الاستواء
الفصل الثالث وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في ذكر مذهب المخالفين
المبحث الثاني: في الرد عليهم
الخاتمة وفيها أهم النتائج(67/160)
الفصل الأول:
المبحث الأول: ورود الاستواء في القرآن:
أخبر الله عز وجل في سبعة مواضع من كتابه بأنه استوى على عرشه قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} (1) ، وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (2) ، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة يونس الآية 3
(3) سورة الرعد الآية 2
(4) سورة طه الآية 5(67/160)
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) .
وأخبر أنه استوى إلى السماء في موضعين من كتابه:
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (4) ، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (5) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 59
(2) سورة السجدة الآية 4
(3) سورة الحديد الآية 4
(4) سورة البقرة الآية 29
(5) سورة فصلت الآية 11(67/161)
المبحث الثاني: معنى الاستواء في اللغة
بالنظر في بيان أهل العلم لمعنى الاستواء نجده كما يقول ابن القيم: لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه، نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق: ما لم يوصل(67/161)
معناه بحرف مثل قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} (1) . وهذا معناه كمل وتم، يقال: استوى النبات واستوى الطعام.
وأما المقيد: فثلاثة أضرب أحدها: مقيد بإلى كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (2) ، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه في سورة البقرة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (3) ، والثاني في سورة فصلت: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (4) ، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد إن شاء الله.
والثاني: مقيد بعلى كقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (5) وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (6) وقوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (7) وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
والثالث: المقرون بواو مع التي تعدي الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها.
__________
(1) سورة القصص الآية 14
(2) سورة البقرة الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 29
(4) سورة فصلت الآية 11
(5) سورة الزخرف الآية 13
(6) سورة هود الآية 44
(7) سورة الفتح الآية 29(67/162)
هذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم ليس فيها معنى استولى ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية (1) .
وقد قيل: إن الاستواء المعدى بإلى مثل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (2) ، معناه قصد أو أقبل أو عمد ذكره أبو العباس ثعلب وأبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني وابن الجوزي وغيرهم.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه تفسير مبتدع لم يقله أحد من الصحابة ولا من التابعين، بل المفسرون بخلافه، ولا
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 356.
(2) سورة البقرة الآية 29(67/163)
يعرف في اللغة أيضا (1) .
وقد سبق أن حكى ابن القيم إجماع السلف على تفسير الاستواء المعدى بإلى بالعلو، والمتمعن في المأثور عن السلف يجد أن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم صحيحا فلم ينقل عنهم تفسيره بالقصد وإنما نقل تفسيره بالعلو، قال البغوي في تفسير الآية 29 من سورة البقرة: (قال ابن عباس: وأكثر السلف ارتفع إلى السماء) وقال أبو العالية: (استوى إلى السماء ارتفع) (2) وقال الربيع بن أنس: (ثم استوى إلى السماء ارتفع إلى السماء) (3) . وهو اختيار ابن جرير.، قال في تفسير الآية 29 من سورة البقرة:
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5 \ 409، 521.
(2) ذكره البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء.
(3) رواه ابن جرير في تفسيره 1 \ 429.(67/164)
وأولى المعاني في قول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} (1) علا عليهن وارتفع، وهذا الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي يقول: باب استواء الرب تبارك وتعالى على العرش وارتفاعه إلى السماء وبينونته من الخلق (2) .
ومما يؤكد أن هذا التفسير صحيح أن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة فسره بالعلو، قال الذهبي في العرش 2 \ 15: (قال الخليل بن أحمد في {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (3) ارتفع إلى السماء) ، ونص قول الخليل قال: (أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت وكان على سطح فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام فقال: استووا فلم ندر ما قال فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم ارتفعوا، قال الخليل: هذا من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (4) يقول:
__________
(1) سورة البقرة الآية 29
(2) الرد على الجهمية 33.
(3) سورة البقرة الآية 29
(4) سورة فصلت الآية 11(67/165)
ارتفع) (1) .، فالخليل قد استشهد للعلو والارتفاع بهذه الآية ولو كان معناها القصد أو نحوه لما ساغ الاستشهاد بها، هذه أقوال أهل العلم في تفسير الاستواء المعدى بإلى أنه العلو.
(فإن قيل: إذا كان الله لا يزال عاليا على المخلوقات. . . فكيف يقال: ثم ارتفع إلى السماء وهي دخان؟ أو يقال ثم علا على العرش؟
قيل: هذا كما أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد وروي ثم يعرج وهو سبحانه لم يزل فوق العرش فإن صعوده من جنس نزوله وإذا كان في نزوله لم يصر شيء من المخلوقات فوقه فهو سبحانه يصعد وإن لم يكن منها شيء فوقه) (2) .
__________
(1) العلو للذهبي 118، التمهيد لابن عبد البر 7 \ 132.
(2) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 5 \ 521.(67/166)
الفصل الثاني: المبحث الأول:
مذهب أهل السنة والجماعة في استواء الله على عرشه.
مذهب أهل السنة في الاستواء كمذهبهم في سائر صفات الله عز وجل يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وينفون عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ويسكتون عما سكت الله عنه أو سكت عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وباعتصامهم بكتاب الله وسنة رسوله(67/166)
صلى الله عليه وسلم سلموا من التمثيل والتعطيل والتحريف والتكييف، فهم يجمعون بين الإثبات والتنزيه، إثبات ما أثبته الله عز وجل ونفي ما ينزه عنه الرب عز وجل من النقص والتمثيل بالمخلوقات، يحملون الصفات على الحقيقة التي تليق بجلال الله عز وجل، وقد حكى إجماعهم الحافظ ابن عبد البر فقال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة) (1) .
وعلى هذا المنوال مذهبهم في الاستواء: أن علوه جل وعلا على العرش كما يليق بجلاله عز وجل من غير تمثيل، وهذا متفق عليه عندهم ينقله المتأخر عن المتقدم ويقرره من بالمشرق ومن بالغرب وهم وإن تعددت مدارسهم الفقهية وتباعدت بلدانهم فقولهم فيه واحد.
وقد حكى اتفاقهم غير واحد من أهل العلم منهم:
1 - إسحاق بن راهويه:
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر 7 \ 145.(67/167)
(قال: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة) (2) .
2 - إسماعيل بن محمد الأصبهاني:
قال: (قال أهل السنة: الاستواء هو العلو) (3) .
ومن أقوال أهل السنة في تفسير الاستواء:
أ- قول محمد بن إسحاق بن خزيمة: قال في كتاب التوحيد: (باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء، على عرشه فكان فوقه وفوق كل شيء عاليا كما أخبر الله جل وعلا في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) وقال ربنا عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (5) وقال في تنزيل السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (6) وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (7)
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) درء تعارض العقل والنقل 2 \ 34، العلو للذهبي 132.
(3) الحجة في بيان المحجة 2 \ 258.
(4) سورة طه الآية 5
(5) سورة الأعراف الآية 54
(6) سورة السجدة الآية 4
(7) سورة هود الآية 7(67/168)
فنحن نؤمن بخبر الله جل وعلا: أن خالقنا مستو على عرشه، لا نبدل كلام الله ولا نقول قولا غير الذي قيل لنا، كما قالت المعطلة الجهمية: إنه استولى على عرشه لا استوى، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، كفعل اليهود لما أمروا أن يقولوا: حطة فقالوا: حنطة، مخالفين لأمر الله جل وعلا كذلك الجهمية) (1) .
2 - قول الحافظ ابن عبد البر إمام أهل الأندلس: والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. وقال: الاستواء الاستقرار في العلو وإذا خاطبنا الله عز وجل وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (2) وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (3) . وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (4) . (5) .
وهذا التفسير للاستواء معروف عنهم ومشهور منذ زمن متقدم لم يظهر نتيجة لخلاف أهل الأهواء، وممن روي عنه مجاهد بن جبر أحد
__________
(1) التوحيد 1 \ 321.
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) سورة هود الآية 44
(4) سورة المؤمنون الآية 28
(5) التمهيد 7 \ 131.(67/169)
أعيان التابعين ومشاهيرهم وأحد تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه، فقد جاء في صحيح البخاري قال مجاهد: استوى: علا على العرش (1) ، ومن معتقد أهل السنة أن الاستواء من الصفات الاختيارية التي يفعلها من شاء فهو جل وعلا شاء الاستواء بعد أن خلق السماوات والأرض كما جاء في الآيات السابقة.
(فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام فقبل ذلك لم يكن على العرش؟
قيل: الاستواء علو خاص فكل مستو على شيء عال عليه وليس كل عال على شيء مستويا عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليا على غيره: إنه مستو عليه واستوى عليه ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره فإنه عال عليه. والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السماوات والأرض: الاستواء لا مطلق العلو مع أنه يجوز أنه كان مستويا عليه قبل خلق السماوات والأرض لما كان عرشه على الماء ثم لما خلق هذا العالم كان عاليا عليه ولم يكن مستويا عليه فلما خلق هذا العالم استوى عليه فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه وتعالى. بمشيئته وقدرته ولهذا قال فيه: {ثُمَّ اسْتَوَى} (2) ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب (التوحيد) باب (وكان عرشه على الماء) .
(2) سورة الأعراف الآية 54(67/170)
وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع) (1) .
وما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) على جميع بريته فلا يخلو منه مكان فهو باطل، قال الحافظ ابن عبد البر: (فالجواب عن هذا أن هذا حديث منكر عن ابن عباس ونقلته مجهولون ضعفاء " (3) ، ويوافق أهل السنة في تفسير الاستواء المعدى بعلى بالعلو بعض المتقدمين من الكلابية والأشعرية قال البيهقي: (وذهب أبو الحسن علي بن محمد الطبري في آخرين من أهل النظر إلى أن الله تعالى في السماء فوق كل شيء مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه ومعنى الاستواء الاعتلاء كما يقول: استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته واستوت الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي.
وقال: وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن
__________
(1) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 5 \ 522، 523.
(2) سورة طه الآية 5
(3) التمهيد لابن عبد البر 7 \ 132.(67/171)
بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا) (1) .
وقال عبد القاهر بن طاهر التميمي: (. . . ومنهم من قال: إن استواءه على العرش كونه فوق العرش بلا مماسة وهذا قول القلانسي وعبد الله بن سعيد ذكره في كتاب الصفات) (2) ، وهؤلاء وإن وافقوا أهل السنة في تفسير الاستواء إلا أنهم يرونه صفة لازمة لا تتعلق بالمشيئة ولهذا يقولون: الاستواء صفة ذات (3) ، وهذا خلاف مذهب أهل السنة القائلين بأن الاستواء صفة اختيارية يفعلها الله متى شاء فهي عندهم متعلقة بالمشيئة.
__________
(1) الأسماء والصفات 517، 518.
(2) أصول الدين 113.
(3) انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 5 \ 410، وفتح الباري 13 \ 417.(67/172)
المبحث الثاني: شرح ما نقل عن الإمام مالك في الاستواء:
روى أبو الشيخ الأصبهاني بسنده عن محمد بن النعمان بن عبد السلام قال: (أتى رجل مالك بن أنس فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) كيف استوى؟ قال فأطرق وجعل يعرق وجعلنا ننتظر ما يأمر به فرفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. . .) (2) ، هذا الأثر ثابت عن الإمام مالك وقد روي عنه مرق طرق متعددة، وتلقاه أهل العلم بالقبول ونال استحسانهم وثناءهم عليه وهو موافق لعقيدة أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشده استيعابا؟ لأن فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه واستحسنوه) (3) .
ومراد الإمام مالك بقوله: الاستواء منه غير مجهول: أن معنى الاستواء معلوم في اللغة وهو العلو، وبهذا فسر أهل العلم من الأئمة
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) طبقات المحدثين بأصبهان 2 \ 214.
(3) الفتاوى 5 \ 520.(67/173)
المالكية وغيرهم مراد الإمام مالك والأئمة المالكية أدرى الناس بمراد مالك وأعرف بأقواله من غيرهم ومن هؤلاء:
1 - أبو بكر ابن العربي قال: (ومذهب مالك رحمه الله أن كل حديث منها معلوم المعنى ولذلك قال للذي سأله: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة) (1) .
2 - والقرطبي في تفسيره قال: قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، ثم قال القرطبي: والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار (2) .
3 - قال الذهبي: (هذا ثابت عن مالك وتقدم نحوه عن ربيعة، شيخ مالك وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه وأنه كما يليق به) (3) .
__________
(1) عارضة الأحوذي 3 \ 166.
(2) تفسير القرطبي 7 \ 141، سورة الأعراف، الآية 54.
(3) العلو للذهبي 104.(67/174)
وأما القول بأن مراد الإمام مالك: أنه موجود فقد أخبر عنه في القرآن (1) فهذا باطل قطعا:
1 - لأن السائل إنما سأل عن آية من القرآن فهو يعلم بوجود الاستواء وأنه قد ذكر في القرآن.
2 - وأيضا السائل يسأل عن الكيفية لأن هذه الصيغة (كيف استوى) إنما يسأل بها عن الكيف.
3 - أن الأئمة المالكية وهم أدرى الناس بمراد مالك وأعرف بأقواله من غيرهم قد بينوا مراد الإمام مالك أنه معلوم المعنى في اللغة كما سبق.
ومراده بقوله: والكيف منه غير معقول: أي كيفية الاستواء لا نستطيع أن نصفها بعقولنا، وصفات الله عز وجل عند أهل السنة لها كيفية لكنهم يجهلون هذه الكيفية، وأقوال أهل العلم في بيان أن الصفات لها كيفية وأنها مجهولة عندهم كثيرة:
1 - قال ابن خزيمة:
نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية إذ النبي
__________
(1) انظر: العلو للذهبي ت حسن السقاف 381، هامش 670.(67/175)
صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول (1) .
2 - قال أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في قصيدته في السنة:
وأن استواء الرب يعقل كونه ... ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب (2)
3 - قال القرطبي: ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته (3) .
فهذه أقوال صريحة وألفاظ بينة في أنهم يثبتون للصفات كيفية، وهذه الكيفية مجهولة عندهم، وما يروى عن بعض أهل السنة من قولهم: بلا كيف، أو الكيف مرفوع، فمرادهم نفي تكييف البشر لصفات الله تعالى ووصفهم لكيفية صفاته جل وعلا، وليس مرادهم نفي أن تكون لصفات الله كيفية.
قال ابن القيم: (العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي: بلا كيف يعقله البشر فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة 1 \ 289، 290.
(2) العلو للذهبي 191، طبقات الشافعية للسبكي 6 \ 137- 147.
(3) تفسير القرطبي 7 \ 140، 141.(67/176)
كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ومعرفة معانيها فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم) (1) .
ومراده بقوله: والإيمان به واجب (أي أن الإيمان بالاستواء على هذا الوجه واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه وهو أعلم بنفسه وأصدق قولا وأحسن حديثا فاجتمع في خبره كمال العلم وكمال الصدق وكمال الإرادة وكمال الفصاحة والبيان فوجب قبوله والإيمان به) (2) .
ومراده بقوله: والسؤال عنه بدعة، مراده لا يخرج عن ثلاثة أمور:
1 - أن السؤال عن المعنى بدعة.
2 - أو السؤال عن وجود الاستواء بدعة.
3 - أو السؤال عن الكيف بدعة.
ولا يمكن أن يريد الأول لأن السؤال عن معاني الصفات ليس بدعة، وقد فسر أهل العلم كثيرا من معاني الصفات مثل: القيوم والصمد وغيرها، ولا يزال الناس من أهل العلم وغيرهم يوضحون
__________
(1) مدارج السالكين 3 \ 376.
(2) تقريب التدمرية 42.(67/177)
معاني الصفات، فلا يمكن لأحد أن يقول إن السؤال عن معاني الصفات بدعة، ولا يمكن أيضا أن يريد أن السؤال عن وجوده بدعة؛ لأن وجود الاستواء ثابت في القرآن ومن سأل عن وجود شيء في القرآن مثل مجيء الله أو رحمته أو رؤيته في الآخرة لا يقال له: سؤالك بدعة.
فإذا تبين أن الإمام مالكا لم يرد السؤال عن المعنى ولا السؤال عن وجود الاستواء تعين أنه يريد به السؤال عن كيفية الاستواء، وكون السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأن السؤال عنها لم يعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين وهو من الأمور الدينية فكان إيراده بدعة، ولأن السؤال عن مثل ذلك من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عنه مما لا تمكن الإجابة عليه فهو من التنطع في الدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون (1) » .
فبهذا يتضح أن مراد مالك أن الاستواء معلوم معناه في اللغة وكيفيته مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عن كيفيته بدعة وما رواه البيهقي عن مالك من قوله: ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع (2) ، فهذا خلاف اللفظ الثابت عنه من طرق عديدة وهو: (والكيف منه غير معقول) (3) وخلاف ما نقله عنه الأئمة المالكية كابن
__________
(1) تقريب التدمرية 42.
(2) الأسماء والصفات 515.
(3) انظر: المراجع السابقة في تخريج هذا الأثر.(67/178)
عبد البر والقرطبي وغيرهم ولو صح فالمراد: لا يسأل عنها بكيف فيقال: كيف صفات الله؟
وهذا معروف عن أهل السنة أنهم ينهون عن السؤال عن صفات الله بكيف. قال وكيع: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف هذا ولم جاء هذا (1) .
أو يقال: إن الكيف المرفوع: الكيف الذي يذكره البشر كما سبق.
__________
(1) النزول للدارقطني 62، العلو للذهبي 117.(67/179)
المبحث الأول: مذهب المخالفين لأهل السنة في الاستواء
اختلفت أقوالهم في بيان المراد من استواء الله على عرشه وتباينت آراؤهم فلم يكن لهم منهج مستقيم يسيرون عليه ولا حجه صحيحة يستندون إليها من كتاب الله عز وجل أو من السنة أو من لغة العرب.
1 - فذهبت الجهمية والمعتزلة وكثير من متأخري الأشعرية إلى أن معنى الاستواء الاستيلاء وهو القهر والغلبة ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره.
قال البيهقي في كتابه الأسماء والصفات:
وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيرا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة ومعناه(67/179)
أن الرحمن غلب العرش وقهره. . .، قال: والاستواء. بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها قال الشاعر في بشر بن مروان:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق (1)
2 - وقال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي: (والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره) (2) ، وهذا أيضا قول لبعض المعتزلة (3) .
3 - وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الاستواء هو: (أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة أو غيرهما من أفعاله) (4) .
4 - وقال بعض الأشعرية إن الاستواء هو: (صفة لله بنفي الاعوجاج عنه) (5) .
5 - وقيل: إن معنى استوى أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه (6) ،
__________
(1) الأسماء والصفات 519، شرح الأصول الخمسة 226.
(2) أصول الدين 113.
(3) شرح الأصول الخمسة 227.
(4) الأسماء والصفات 517، أصول الدين لعبد القاهر البغدادي 113.
(5) الأسماء والصفات 519.
(6) الإتقان في علوم القرآن 1 \ 652.(67/180)
هكذا جاءت أقوال المخالفين مضطربة متناقضة عارية من الدليل الصحيح مع زعمهم أنهم يستدلون بالبراهين اليقينية والأدلة القطعية وكل صاحب قول يزعم أن الأدلة والبراهين القطعية معه، ولقائل أن يقول: الدليل القطعي مع من؟
هل مع صاحب القول الأول أو الثاني أو. . .؟
والعجب منهم أنهم إذا استدل عليهم بالقرآن أو بالسنة قالوا: ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات العقلية (1) .
ويقولون عن السنة: أخبار آحاد لا تفيد العلم (2) .
وكثير منهم كما سبق يستدلون بقول الشاعر قد استوى بشر. . . فهل هذا البيت مقطوع بثبوته عندهم؟
ولم لا يكون ظنيا وهو نقلي كما قالوا في القرآن والسنة؟
وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حينما قال:
قبحا لمن نبذ القرآن وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل (3) (4)
__________
(1) انظر: المواقف 272، شرح المقاصد 4 \ 50.
(2) الإرشاد للجويني 150.
(3) غياث بن غوث التغلبي النصراني الشاعر المعروف بالأخطل. السير 4 \ 589.
(4) اللآلئ البهية في شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية ص 60.(67/181)
المبحث الثاني: الرد على المخالفين
يجاب عن القول الأول:
1 - بأن أهل اللغة قد أنكروا هذا التفسير فلا يعرف في لغة العرب أن(67/181)
استوى على الشيء بمعنى استولى عليه وبينوا أن معناه علا، قال داود بن علي: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه إنما معناه استولى، فقال: اسكت ما أنت وهذا لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد فإذا غلب أحدهما قيل: استولى أما سمعت النابغة:
ألا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد (2)
وقال محمد بن أحمد بن النضر: (كان أبو عبد الله ابن الأعرابي جارنا وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى فقال: لا أعرفه) (3) .
قال الخطابي: (ولو كان الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3 \ 399، تاريخ بغداد 5 \ 284، لسان العرب 14 \ 414.
(3) تاريخ بغداد 5 \ 283.(67/182)
لكان الكلام عديم الفائدة؛ لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل قطر وبقعة من السماوات والأراضين وتحت العرش، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر، ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء فإذا وقع الظفر به قيل: استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده) (1) .
قال ابن القيم بعد ذكره للمعاني الصحيحة للاستواء: (هذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم ليس فيها معنى استولى ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية) (2) .
فالمعنى الصحيح للاستواء عند أهل اللغة أنه العلو كما قال ابن الأعرابي: هو على عرشه كما أخبر، وقال الأخفش موضحا معناه: (استوى أي: علا، ويقول: استويت فوق الدابة وعلى ظهر الدابة أي علوته) (3) .
2 - (أنه لو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لجاز أن يقال: استوى على ابن آدم وعلى الجبل وعلى الشمس والقمر وعلى البحر والشجر والدواب وهذا لا يطلقه مسلم) (4) .
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 307.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 306.
(3) تهذيب اللغة 13 \ 125.
(4) مختصر الصواعق 315.(67/183)
3 - أن هذا التأويل يوجب أنه عز وجل قبل خلق السماوات والأرض لم يكن مستوليا على العرش وهذا باطل (1) .
وأما احتجاجهم ببيت الشاعر فالجواب عنه:
1 - أنه بيت منحول لم يعرفه أهل اللغة المتقدمون ولم يذكروه في كتبهم (2) ، ولذا أنكره غير واحد من أهل العلم.
قال الخطابي: زعم بعضهم أن معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله (3) .
قال ابن الجوزي: " والبيتان لا يعرف قائلهما كذا قال ابن فارس اللغوي) (4) .
قال ابن القيم: غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي يرجع إليها (5) ، وقد نسب هذا البيت إلى الأخطل، نسبه ابن كثير في البداية والنهاية (6) ، وبحثت عنه في ديوان
__________
(1) انظر: أصول الدين للبغدادي 112.
(2) انظر: العين للخليل بن أحمد 7 \ 325، وتهذيب اللغة للأزهري 13 \ 124.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 307، طبقات الشافعية لابن الصلاح 1 \ 470.
(4) زاد المسير لابن الجوزي 3 \ 213
(5) مختصر الصواعق المرسلة 312.
(6) البداية والنهاية 9 \ 273.(67/184)
الأخطل المطبوع بشرح إيليا سليم الحاوي فلم أجده.
2 - ومن أهل العلم من يرى أن: هذا البيت محرف وإنما هو بشر قد استولى على العراق (1) .
3 - ولو صح هذا البيت وسلم من التحريف فليس فيه دلالة على ما يزعمون وإنما المراد أن بشر بن مروان علا على عرش العراق كما هي عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا فوق سرير الملك فيكون هذا المعنى مطابقا لما ورد في اللغة وفي كتاب الله تعالى مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (2) وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (3) .
__________
(1) مختصر الصواعق 312.
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) سورة هود الآية 44(67/185)
ولا يصح تفسيره بالاستيلاء لأن الذي استولى على العراق هو عبد الملك بن مروان وليس بشرا (1) .
وأما الجواب عن تفسيرهم العرش بالملك فيقال: هناك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تبطل تفسير العرش بالملك منها قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (2) ، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش (4) » .
قال ابن الجوزي: (وقد شذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر، ألم يسمعوا قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (5) أتراه كان الملك على الماء (6) .
وقال الذهبي: (فالقرآن مشحون بذكر العرش، وكذلك الآثار بما يمنع أن يكون المراد به الملك، فدع المكابرة والمراء فإن المراء في القرآن كفر) (7) .
4 - لو صح تفسير العرش بالملك في موضع فلا يلزم أنه في المواضع
__________
(1) انظر: مختصر الصواعق 312.
(2) سورة الحاقة الآية 17
(3) سورة هود الآية 7
(4) صحيح البخاري كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء.
(5) سورة هود الآية 7
(6) زاد المسير لابن الجوزي 3 \ 213.
(7) العلو للذهبي 58.(67/186)
الأخرى كذلك فإذا صح في هذا الموضع فلا يصح في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن (3) » .
وأما الجواب عن القول المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري أنه فعل فعله في العرش، فيقال:
1 - هذا التفسير لا يعرف في الشرع ولا في اللغة ولهذا لم يستدل له قائله بشيء من هذا.
2 - مما يوضح بطلانه وعدم صحته عدول أصحاب أبي الحسن الأشعري والمنتسبين له عنه فلا نجد من يأخذ به ممن ينتمي للأشعري، وأما الجواب عن قولهم: إنه صفة لله بنفي الاعوجاج عنه فيقال: هذا التفسير باطل ليس عليه دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب، هذه أقوال العلماء والمعتنين ببيان مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ليس فيها أن استواء الله عز وجل على عرشه: أنه صفة لله بنفي الاعوجاج وكذلك أقوال أهل اللغة ليس فيها هذا التفسير، وأما الجواب عن تفسيرهم الاستواء بأنه أقبل على خلق. . . وهذا باطل من وجوه:
1 - أن الاستواء المعدى بعلى في جميع المواضع التي وردت في القرآن
__________
(1) سورة الحاقة الآية 17
(2) سورة هود الآية 7
(3) صحيح البخاري كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء.(67/187)
وفي لغة العرب لا يحتمل إلا العلو ولا يصح تفسيره بهذا، مثل قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (1) وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (2)
فأين الموضع الذي يصح تفسيره بأنه أقبل أو عمد في القرآن أو في لغة العرب؟
2 - أن معنى هذا أن العرش خلق بعد السماوات والأرض (وهذا لم يقله أحد من أهل العلم أصلا وهو مناقض لما دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين أظهر مناقضة، فإنه تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وعرشه حينئذ على الماء وهذه واو الحال أي: خلقها في هذه الحال فدل على سبق العرش والماء للسماوات والأرض) (3) .
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (4) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الوجه من أضعف الوجوه ة فإنه قد أخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، وكذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض (5) » .
__________
(1) سورة هود الآية 44
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) مختصر الصواعق المرسلة 309.
(4) سورة هود الآية 7
(5) صحيح البخاري كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء.(67/188)
فإذا كان العرش مخلوقا قبل خلق السماوات والأرض فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له لو كان هذا يعرف في اللغة أن استوى على كذا، بمعنى أنه عمد إلى فعله وهذا لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازا لا في نظم ولا في نثر، ومن قال: استوى بمعنى عمد ذكره في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (1) ؛ لأنه عدي بحرف الغاية كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا، ولا قصدت عليه، مع أن ما ذكر في تلك الآية لا يعرف في اللغة أيضا ولا هو قول أحد من مفسري السلف، بل المفسرون من السلف قولهم بخلاف ذلك كما قدمناه عن بعضهم) (2) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 11
(2) الفتاوى 5 \ 520، 521.(67/189)
الخاتمة -
في ختام هذا البحث أحمد الله وأشكره على ما يسر ووفق من إعداد هذا البحث
وقد ظهرت لي عدد من النتائج:
1 - أن الاستواء يأتي بمعنى العلو والارتفاع إذا عدي بإلى أو بعلى وإذا قرن بالواو فمعناه المساواة، وإذا أطلق فمعناه الكمال والتمام.
2 - أهل السنة متفقون على تفسير الاستواء المعدى بإلى أو بعلى بالعلو ولا يصح عندهم تفسير الاستواء المعدى بإلى بالقصد ونحوه.(67/189)
3 - يوافق بعض متقدمي الكلابية والأشعرية أهل السنة في تفسير الاستواء المعدى بعلى بالعلو.
4 - قول الإمام مالك في الاستواء يريد به أن الاستواء معلوم في اللغة وكيفيته مجهولة.
5 - بطلان مذهب المخالفين لأهل السنة وخلوه من الدليل الصحيح وتعدد أقوالهم فيه مما يبين بطلان مذهبهم واختلافهم فيه أبرز دليل على مجانبته الصواب.
6 - احتجاج بعضهم ببيت الشاعر: قد استوى بشر. . . احتجاج باطل فهذا البيت لا يعرف قائله ولا يستبعد أنه موضوع وينازع في سلامته من التحريف وفي معناه.(67/190)
رسالة في ذم البدعة وأهلها
تأليف: أبي الحسن الصغير
تحقيق الدكتور عواد بن عبد الله المعتق
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإلى القارئ الكريم رسالة في ذم البدع وأهلها.
لعلي بن محمد بن عبد الحق الزرويلي - أبي الحسن، المعروف بالصغير، قاضي معمر من كبار المفتين في المغرب، ومن علماء أهل السنة.
ولاه السلطان (أبو الربيع) القضاء بفاس فحسنت سيرته وكان يدرس بجامع الأجدع فيها، له مؤلفات منها. . (التقييد على المدونة) خمسة أجزاء- في الصادقية بتونس باسم شرح تهذيب المدونة في فقه المالكية، وفتاوى وتقييدات قيدها عنه تلاميذه. وأبرزت تأليفا ومنها: هذه الرسالة- عاش أكثر من مائة عام وتوفي سنة 719 هـ (1) .
__________
(1) انظر: الأعلام، ج 4، ص 334.(67/191)
وهذه الرسالة: إجابة على طلب بعض الإخوان من أهل السنة. وهو طلبهم أن يكتب ما انتهى إليه من الآيات والأحاديث والآثار المروية في ذم البدعة وأهلها، نظرا لانتشار بعض البدع في ذلك الزمان وذلك المكان وخصوصا بدعة طائفة من الصوفية الذين قرروا أن التوبة لا تتم إلا بصفة معينة تتضمن كثيرا من المحدثات المخالفة للسنة وما كان عليه السلف.
ونظرا لأهمية هذه الرسالة في محاربة البدعة وأهلها، ولأنه لم يسبق تحقيقها، لذا رأيت إخراجها للقارئ الكريم مستعينا بالله تعالى ثم متبعا المنهج الآتي:(67/192)
منهج التحقيق:
لقد قمت بالتحقيق معتمدا بعد الله على أربع نسخ خطية:
الأولى: رمزت لها- الأصل- مكانها- دار الكتب الوطنية بتونس ضمن مجموع تحت رقم 3046.
الثانية: ورمزت لها- ب- ومكانها- دار الكتب الوطنية بتونس برقم 10100.
الثالثة: ورمزت لها- ج- ومكانها- مركز الملك فيصل برقم 10817.
الرابعة: ورمزت لها- د- ومكانها- مركز الملك فيصل برقم 12924 ضمن مجموع.
أما المنهج: فقد اعتمدت منهج النص الوافي المختار- في المتن وخلافه في الحاشية؛ لأني أبحث عن نص المؤلف رحمه الله- ففي أي(67/192)
نسخة وجدت النص الوافي الصحيح أثبته في المتن، وأشرت إلى النسخ الأخرى في الحاشية للتوضيح.
نسبت الآيات القرآنية إلى أماكنها من كتاب الله، كما قمت بتخريج الأحاديث والآثار.
وثقت أقوال الأئمة التي استشهد بها المؤلف بإرجاعها إلى مصادرها أو مصادر أخرى موثوقة.
عرفت بالأعلام الواردة في هذه الرسالة، قمت بالتعليق على بعض الكلمات التي فيها غموض وتحتاج إلى توضيح.
وأخيرا أسأله تعالى أن يتقبل صوابه ويتجاوز عن خطئه إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(67/193)
التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم "وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
قال الشيخ الفقيه العالم العلامة الورع الزاهد أبو الحسن علي الشهير بالصغير الفاسي تغمده الله في رحمته وأسكنه فسيح جناته. بمنه".
الحمد لله وحده حمدا يوافي نعمه ويكافي شكره ومزيدا، وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. أما بعد:(67/193)
فقد سألني بعض إخواننا وفقهم الله أن أكتب ما انتهى إلينا من الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء رضي الله تعالى عنهم في ذم البدعة وأهلها أخمد الله نارها، ودمرهم وقطع آثارهم، فأجبتهم إلى ذلك (1) ، رغبة في ارتجاع (2) الناس إلى السنة (3) ، أحياها (4) الله، ونصر أهلها، وأيد نورها، ورجاء في الأجر العظيم الذي لا يعطيه (5) الله تعالى إلا لمن أحياها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا سنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد (6) » ، بلغ الله الآمال، وأصلح الأحوال (والأعمال) (7) .
__________
(1) وفي الأصل- ب- ج- (لذلك) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(2) وفي (د) (في الارتجاع إلى السنة)
(3) وفي الأصل (للسنة) وفي ج (السنة) وما هو مثبت أظهر كما في (ب) (د)
(4) وفي الأصل- ب- ج (وإحيائها) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(5) وفي الأصل- ج- (أعطاه الله تعالى لمن أحياها) . وفي (ب) (الذي يعطيه) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(6) أخرجه البيهقي في كتاب المدخل من حديث أبي هريرة بلفظ (القائم بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد) انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث ص80، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم 326. بلفظ (من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد) وقال: ضعيف جدا، كما أورده المنذري في الترغيب والترهيب عن ابن عباس بلفظ (من تمسك بسنتي. . . الحديث) وقال: رواه البيهقي من رواية الحسن بن قتيبة. ثم قال: ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: له أجر شهيد، انظر: الترغيب والترهيب برقم (5) . وأخرجه أبو نعيم في الحلية ج8 ص200 بلفظ (المتمسك بسنتي. . الحديث) وقال: (غريب من حديث عبد العزيز عن عطاء)
(7) زيادة من (ب)(67/194)
علما (1) أن العلماء رضي الله تعالى عنهم قد ألفوا في هذا الشأن كثيرا. ومن تواليفهم أخرجت (2) هذا الكتاب واختصرته (وهو المسئول أن يمدنا بحسن توفيقه وأن ييسرنا لما فيه رشدنا وهو على كل شيء قدير (3)) وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
(1) وفي (ب- ج) (على)
(2) وفي الأصل (ب- ج) (استخرجت)
(3) ما بين القوسين زيادة من (ب)(67/195)
الباب الأول: في البدعة (1) :
اعلم أن البدعة: ما خرج عن الكتاب والسنة والإجماع. وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى، فنقول- وبالله التوفيق-: البدعة فتنة وبلاء (2) عظيم على هذه الأمة، وهي من الذنوب التي لا يكفرها إلا الخلود في النار- نسأل الله العافية- وسبب ذلك مخالفتهم في العقائد (3) ، فإن سلف العلماء قد ألفوا الكتب في الرد عليهم، وقد بقيت الآن آثارهم (4) بل كلامنا في شرذمة غلبت (5) وانتشرت في
__________
(1) وفي الأصل- ب- ج- (باب في البدعة)
(2) وفي (د) (ووبال)
(3) وفي (الأصل- ب- ج) (لأن) وما هو مثبت أظهر كما في (ج)
(4) وفي الأصل- ج (وقد قبل اليوم آثارهم) وفي (د) (فبقيت آثارهم في شرذمة قليلة فانتشروا)
(5) وفي هامش (ب) (متغيبة)(67/195)
مغربنا هذا في البوادي والحواضر، وفي البوادي أكثر، وتلك طريقة (1) أحدثها رجال ليأكلوا بها حطام (2) الدنيا، فجعوا العوام والجهال من الذكور والإناث الذين صدورهم فارغة وعقولهم قاصرة، فدخلوا عليهم من جهة الدين وتقرر عندهم أن التوبة إنما هي بحلق الرءوس وتلقيم اللقمات، والمبيتات والاجتماع عند حلق رأس التائب والوليمة للتوبة، والذكر بالمداولة، والترونين والشطح والزعقات واستعمال العباءات والكتفات (3) والتسابيح والتمنعات (4) والاعتراف بأن سيده فلانا شيخه في ذلك، وأن لا شيخ له سواه. فأخذوا في علل الناس، فإذا أشربوا على العمار (5) أخذوا في الذكر على المدولة، فتذبح لهم البقر والغنم، ولهم خدام، بعضهم على خيولهم وبعضهم مشاة (6) ،
__________
(1) وفي الأصل- ب- ج (وذلك طريق) وما وهو مثبت أظهر كما في (د)
(2) وفي (د) (ليأكلوا أموال الناس بالباطل)
(3) وفي هامش (ب) قال: هي: التصنعات
(4) وفي هامش (ب) قال: هي: العكوفات
(5) وفي هامش (ب) قال: هي: العمران
(6) زيادة من (ب)(67/196)
ويأخذون (1) من موضع إلى موضع، ومن بلد إلى بلد يتوبون الناس، وزعموا أنهم أظهروا الدين بذلك وأحيوه، وألقوا عندهم أن العلماء قطعوا طريق الله وحذروهم منهم (2) ، فاعتقد بعضهم عداوتهم فافترقوا (3) بكثرة أشياخهم على طوائف شتى كل طائفة تحيد (4) إلى شيخها وتطعن في الطائفة الأخرى وشيخها، فتوارثت (5) لأجل ذلك المشاحنة والمباغضة بين الأشياخ حتى يود كل واحد منهم لو شرب دم الآخر بسبب حطام الدنيا، فباعوا الآخرة بالدنيا، فأضلوا من مخلوقات الله كثيرا، فأفسدوا بذلك (دينهم) (6) وإيمانهم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يطمع في مغفرة الله وتنالهم شفاعتي يوم القيامة (8) كل من مات منهم على توبة إلا من مات منهم على بدعة شرعها للناس وسنها لهم» .
__________
(1) وفي (ج) (ويؤخذون) وهو خطأ
(2) وفي (ب) (فحذروهم)
(3) وفي (ب) (وافترقوا)
(4) وفي (الأصل- ج) تجر
(5) وفي (الأصل- ج) (وتوارثت)
(6) زيادة من (ب)
(7) سورة البقرة الآية 174
(8) ساقط من (الأصل- ب) .(67/197)
وقال صلى الله عليه وسلم: «رجلان لا تنالهم شفاعتي يوم القيامة إمام ضال (1) ، وغال في الدين. . .» الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا حجا ولا صلاة ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين (2) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه (4) » . أراد عليه السلام عقيدة الإسلام والتابع للسنة والتارك للبدعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من غش أمتي فعليه لعنة الله
__________
(1) وفي السنة (إمام ظلوم غاشم)
(2) رواه ابن ماجه عن حذيفة برقم 49، انظر: كنز العمال حديث 1108، والمنذري في الترغيب والترهيب ج1 ص87
(3) أخرجه أبو داود في السنة باب قتل الخوارج برقم (758) ، وأحمد ج5 ص180. انظر: جامع الأصول حديث 76
(4) وفي سنن أبي داود (شبرا) . (3)(67/198)
والملائكة والناس أجمعين، قيل له: وما غش أمتك يا رسول الله؟ قال: أن يبتدع بدعة يحمل الناس عليها (3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملكا ينادي كل يوم: من خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم لن تناله شفاعته (4) » وحكى أبو حامد في الإحياء أن إبليس لعنه الله بعث (5) جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم فرجعوا منتكسين (6) ، فقال ما شأنكم؟ فقالوا (7) : ما رأينا مثل هؤلاء القوم ما (8) نصيب منهم
__________
(1) رواه الدارقطني في الأفراد عن أنس بسند ضعيف جدا. انظر: كنز العمال حديث 1118، والإحياء ج1 ص138، (المتن والحاشية) تخريج الحافظ العراقي، كما ذكره إدريس الحنفي في اللمع ج1 ص43
(2) وفي الكنز (قالوا يا رسول الله وما الغش) وفي الإحياء (قيل يا رسول الله وما غش أمتك) (1)
(3) وفي الأصل- ج- (يحمده) (2)
(4) أورده الغزالي في الإحياء - وقال الحافظ العراقي (لم أجد له أصلا) انظر: الإحياء ج1 ص 138 (المتن والحاشية) .
(5) وفي الأصل- ب- (حث)
(6) وفي (د) (منكسين) وفي الإحياء (محسورين)
(7) وفي الإحياء (قالوا) وهو أظهر
(8) (ما) ساقط من (ج)(67/199)
شيئا، وقد أتعبونا، فقال: إنكم لن تنالوا (1) منهم شيئا قد صاحبوا نبيهم وشاهدوا نزول (2) الوحي، ولكن سيأتي بعد هؤلاء (3) قوم فتنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بعث (4) جنوده فرجعوا إليه منتكسين، قال: ما شأنكم. قالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال (5) : إنكم لن تصيبوا (6) من هؤلاء شيئا لصحة توحيدهم واتباعهم لسنة نبيهم، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم، وتلعبون بهم لعبا، وتقودونهم (7) بأزمة أهوائهم (8) كيف شئتم، لا يستغفرون (9) فيغفر لهم ولا يتوبون فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال: فجاء قوم بعد القرن الأول (10) فبث فيهم
__________
(1) وفي الإحياء (لا تقدرون عليهم)
(2) وفي الإحياء (تنزيل ربهم)
(3) وفي الإحياء (بعدهم)
(4) وفي الإحياء (بث)
(5) وفي الإحياء (فقال)
(6) وفى الإحياء (لن تنالوا)
(7) وفي (ب) (وتقودوهم)
(8) وفي الأصل (ب) (بأزمتهم إلى أهوائهم) وفي ج- د (بأزمتهم إلى هواهم) والتصحيح من الإحياء
(9) وفي الإحياء (إن استغفروا لم يغفر لهم) وما هو مثبت أظهر
(10) وفي الأصل- ب- (القرون) والتصحيح من الإحياء(67/200)
الأهواء وزين لهم (1) البدع فاستحلوها (2) واتخذوها دينا لا يستغفرون منها ولا يتوبون عنها فسلطت (3) عليهم الأعداء وقادوهم أين شاءوا (4) ، وقال الفضيل بن عياض: "صاحب البدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره في أمرك ولا تجلس إليه، فإن من جالس صاحب البدعة ورثه الله العمى" يعني عمى القلب.
وقال الفضيل بن عياض: "من أحب صاحب بدعة (5) أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه"، وقال الفضيل: "إذا
__________
(1) وفي الأصل (ب) (فهم) والتصحيح من الإحياء
(2) وفي الأصل- ب- ج- (واستعملوها) وما هو مثبت أظهر كما في الإحياء
(3) كذا في د وفي الأصل- ب- ج- (فصالت) وفي الإحياء (فسلط)
(4) انظر: الإحياء ج1 ص138، 139
(5) وفي الأصل- ب- ج- (من تراحب بصاحب) وهو خطأ(67/201)
علم الله تعالى من رجل بغض صاحب بدعة غفر الله (1) له ولو قل عمله"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة (2) » .
وقال سفيان الثوري: "من اتبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع" (3) ، ولا يرفع لصاحب بدعة عمل إلى الله تعالى، ومن عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".
__________
(1) ساقط من (الأصل- ج)
(2) ذكره الطبراني في الأوسط برقم 4360، من طرق عن هارون بن موسى حدثنا أبو صخرة عن حميد عن أنس مرفوعا قال الألباني: هذا إسناد صحيح قال الهيثمي: في مجمع الزوائد ج10 ص189 (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة، ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم 37 من طريق بقية بن الوليد حدثني محمد بن عبد الرحمن حدثني حميد عن أنس. وقال الألباني: حديث صحيح. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث 1620 والسنة لابن أبي عاصم ج1 ص21 وظلال الجنة ج1 ص21، كما أورده الشاطبي في الاعتصام برقم 73.
(3) ذكره إدريس الحنفي في اللمع ج1 ص43(67/202)
وقال مالك رضي الله تعالى عنه: (لا تجالسوهم إلا أن تغلظوا عليهم، ولا يعاد مريضهم ولا تحدث عليهم الأحاديث".
وقال الشافعي: "إذا سمعتم (1) الرجل يسمي الله (2) بغير اسمه، والشيء بغير الشيء فاشهدوا له بالزندقة".
__________
(1) وفي (ج) (إذا سمعتم من الرجل)
(2) (الله) زيادة من (د)(67/203)
وقال العرباض بن سارية رضي الله عنه: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا "بوجهه" فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار (6) » .
__________
(1) رواه أحمد في المسند ج4 ص126، 127، وأبو داود في السنة باب لزوم السنة حديث 4607 والترمذي في العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع حديث 2678، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين حديث 42، والبغوي في شرح السنة ج1 ص205 حديث 102، وابن أبي عاصم في السنة ج1 ص17-20، 29، 30، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1 ص74، 75، وانظر: جامع الأصول ج1 ص278، 279 (المتن والحاشية) .
(2) ساقطة من النسخ الأربع (1)
(3) وفي الأصل (فما) وهو خطأ (2)
(4) فيه سقط (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا) (3)
(5) وفي الأصل- ب- ج (وعليكم) وهو خطأ (4)
(6) فيه سقط (الراشدين المهديين) (5)(67/204)
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «قليل في سنة خير من اجتهاد في بدعة (2) » .
وفي الموطأ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
وفي صحيح البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (4) » .
__________
(1) انظر: سنن الترمذي كتاب العلم باب 16 حديث 2676.
(2) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب برقم 1270 مرسلا عن الحسن، والرافعي في تاريخ قزوين ج1 ص257 مرفوعا من حديث أبي هريرة، والديلمي في الفردوس برقم 4098 مرفوعا من حديث ابن مسعود بلفظ (عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة) وانظر: كنز العمال، حديث 1096، قال أحمد الشافعي في فتح الوهاب: - (ورواه الرافعي في تاريخ قزوين من حديث أبي هريرة، ورواه الديلمي في الفردوس من حديث ابن مسعود والصحيح أنه من حديثه موقوفا. كذلك أخرجه الحاكم وصححه، والطبراني في الكبير وغيرهما) انظر: فتح الوهاب ج2 ص295 والطبراني في الكبير حديث 10488 والحاكم ج1 ص103.
(3) هو حديث عائشة الآتي ذكره انظر: فتح الباري ج13 ص 248، والاعتصام برقم 58، 263 والسنة لابن أبي عاصم ج1 ص83. ولم أقف عليه في الموطأ.
(4) أخرجه البخاري في البيوع باب النجش، وفي الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم 2697، ومسلم في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة برقم 1718، وأبو داود في السنة باب لزوم السنة من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وانظر: جامع الأصول ج1 ص289، 295 برقم 75.(67/205)
وقال صلى الله عليه وسلم: «افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (1) » أخرجه أبو داود والترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أهان مبتدعا أمنه الله يوم الفزع الأكبر (3) » .
__________
(1) أخرجه: الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة برقم 643، وقال: هذا حديث حسن مفسر غريب. انظر: جامع الأصول ج10 ص33، 34 (المتن والحاشية) ، والبغوي في شرح السنة ج1 ص213 وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص15، والحاكم في المستدرك ج1 ص128، 129 وذكره الآجري في الشريعة ص15، 16، والسيوطي في الأمر بالاتباع ص43، 44، عن عبد الله بن عمرو، ولأصل الحديث شواهد كثيرة منها حديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه أبو داود، وحديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود والترمذي وحديث أبي سعيد الخدري أخرجه البخاري ومسلم. انظر: جامع الأصول حديث 7489، 7490، 7493.
(2) أورده أبو نعيم في الحلية والغزالي في الإحياء بلفظ (. . . ومن أهان صاحب بدعة. . الحديث) وقال الحافظ العراقي (رواه أبو نعيم في الحلية والهروي في ذم الكلام من حديث ابن عمر بسند ضعيف) انظر: الحلية ج8 ص200، والإحياء ج2 ص169 (المتن والحاشية) كما ذكره إدريس الحنفي (التركماني) في اللمع ج1 ص 43.
(3) وفي الأصل- ب- (من أعان على) والصواب ما هو مثبت كما في (ج) (د) وكما في الحلية والإحياء (2)(67/206)
وقال صلى الله عليه وسلم: «من صافح مبتدعا فقد نقض الإسلام عروة عروة (1) » .
وقال أبي بن كعب: (الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة) .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (النظر (2) إلى
__________
(1) أخرجه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 23 من مقولات سفيان الثوري كما ذكره السيوطي في الأمر بالاتباع ص 67 من مقولات سفيان الثوري أيضا.
(2) وفي الأصل- ب- (من النظر) وهو خطأ(67/207)
الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة خير من عبادة سنة) (1) .
وقال أبو يزيد البسطامي: (إذا رأيتم من يطير في الهواء (2) فلا يغرنكم بفعله) يريد إذا لم يتبع السنة.
وقال الأوزاعي: (رأيت ربي سبحانه في المنام فقال لي: (3)
__________
(1) (سنة) غير موجودة في شرح أصول اعتقاد أهل السنة- والإبانة، وتلبيس إبليس، ومفتاح الجنة.
(2) في (الهواء) غير موجودة في (خ)
(3) (لي) ساقطة من الأصل- ب- ج.(67/208)
يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت: بفضلك يا رب، وقلت (1) يا رب أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة) .
وقال الجنيد: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين للسنة) .
وقال أيوب السختياني: (ما زاد صاحب بدعة اجتهادا إلا زاد من الله بعدا) .
__________
(1) وفي (ج- د) (وقلت يا رب) غير موجودة(67/209)
وقال سفيان الثوري (1) : (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها) .
وقال ابن سيرين: (بالله الذي لا إله إلا هو لقد يفسد في دينه ما لا يصلح) .
وقال: عبادة الجاهل في حجرة إذا قام اهتزت (2) (3) .
ومما كان ينشد مالك (4) رضي الله تعالى عنه (بيتا، كان
__________
(1) سبقت ترجمته ص 202.
(2) وفي (د) (متى قام انحرفت) .
(3) لم أقف عليه.
(4) سبقت ترجمته ص 203.(67/210)
يردده كثيرا) (1) .
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع (2)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء
__________
(1) ما بين قوسين زيادة من (ج) .
(2) ذكره الشاطبي في الاعتصام والقاضي عياض في ترتيب المدارك ج 1 ص 169 وابن عبد البر في الانتقاء ص 37.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان- باب كون النهي عن المنكر من الإيمان. عن عبد الله بن مسعود، والإمام أحمد في المسند ج 1 ص 458. انظر: جامع الأصول حديث 108، وكنز العمال حديث 5532.
(4) في الأصل ب- د- (إلا كان في أمته) والصواب ما هو مثبت كما في (د) وصحيح مسلم. (3)
(5) في الأصل ب- ج- د (ثم إنه تختلف) وهو خطأ (4)
(6) في الأصل ب- ج- د (بقلبه) وهو خطأ. (5)
(7) في الأصل ب- ج- د (موفق) وهو خطأ. (6)(67/211)
ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » .
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) الآية، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط عن يمينه وعن شماله خطوطا- وقال: هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه يريد أهل البدعة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (4) يعني (5) الخط {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (6) يعني الخطوط {فَتَفَرَّقَ} (7) {بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (8) » .
__________
(1) ما بين قوسين ساقط من (الأصل- ب- ج- د) . (7)
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، المسند بشرح الشيخ شاكر ج 6 ص 89، وأورده اللالكائي فى شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص 80، 81 والآجري في الشريعة ص 10، والبغوي في شرح السنة ج 1 ص 196، 197 وابن وضاح في ما جاء في البدع ص 73، وابن بطة في الإبانة ص 114، وأبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 57. وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 14، والحاكم في المستدرك ج 2 ص 318، والشاطبي في الاعتصام ج 1 ص 42، وابن أبي عاصم في السنة ج 1 ص 13، وقال الألباني: حديث صحيح. انظر: ظلال الجنة في تخريج السنة ج 1 ص 13، وانظر: إحياء السنة ص 51.
(4) (3) .
ثم تلا هذه الآية: سورة الأنعام الآية 153
(5) يعني الخط غير موجودة في (ج)
(6) سورة الأنعام الآية 153
(7) سورة الأنعام الآية 153
(8) سورة الأنعام الآية 153(67/212)
قال عبد الله بن عمر لعبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم؟ قال: هو ورب الكعبة الذي وجدت (1) عليه أباك حتى دخل الجنة ثم حلف على ذلك ثلاثا) (2) .
وقال مجاهد وزيد بن أسلم: صراط الله الإسلام والسنة، والسبل: البدعة (3) ؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (4)
__________
(1) كذا في النسخ الأربع- وفي الاعتصام (ثبت)
(2) أخرجه الشاطبي في الاعتصام ج 1 ص 42.
(3) كذا في النسخ الأربع. وفي إحياء السنة (البدع والأهواء)
(4) سورة الأنعام الآية 159(67/213)
يعني يا محمد.(67/214)
الباب الثاني (1) :
في الرد عليهم وذكر صفاتهم، وبيان الحق الذي هو السنة والباطل الذي هو البدعة (بدليل من الكتاب والسنة والإجماع) (2) .
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) الآية. وقال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4) الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} (5) {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (6) . وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7) .
__________
(1) كذا في (د) وفي الأصل- ب- ج- (باب الرد عليهم) .
(2) ما بين قوسين زيادة من (ب- د) .
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة الأحزاب الآية 21
(5) سورة النساء الآية 115
(6) سورة النساء الآية 115
(7) سورة النور الآية 63(67/214)
ومن السنة قال مالك بن أنس: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام (1) » . وقال عمر رضي الله تعالى عنه في آخر عمره في خطبة خطبها: (أيها الناس (2) قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الجامع باب النهي عن القول في القدر بلاغا، لكن يشهد له حديث ابن عباس عند الحاكم ج 1 ص 93 بسند حسن فيتقوى به انظر: جامع الأصول ج 1 ص 277 (المتن والحاشية) .
(2) (أيها الناس) ساقطة من الأصل- ب- ج(67/215)
الأخرى) .
فلا عمل إلا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمل أصحابه من بعده وغير ذلك ضلال وبدعة.
وقال الحسن: (لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح عمل (1) إلا بنية ولا يصلح قول ولا عمل ولا نية (2) إلا بموافقة السنة) .
وقال أويس القرني لهرم (3) بن حيان في وصيته: إياك أن
__________
(1) كذا في (الأصل ب- ج) وفي مفتاح الجنة (ولا يصلح قول وعمل) وهو أظهر
(2) كذا في (الأصل ب- ج) وفي مفتاح الجنة (ولا يصلح قول وعمل ونية) وهو أظهر
(3) وفي الأصل (مرة) وفي (ب) (لهرمز) والصواب ما هو مثبت كما في (ج- د) وكما في تاريخ دمشق(67/216)
تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تشعر فتدخل النار يوم القيامة في أول من يدخل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق فإن أردتم أن تسكنوا بحبوحة الجنة ونعيمها فالزموا السنة والجماعة، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » .
__________
(1) أخرجه أبو الليث السمرقندي في كتابه تنبيه الغافلين ص 288 ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولم أقف عليه بهذا اللفظ فيما سواه من كتب السنة لكن لما أورده من الحديث شواهد منها: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان. . . إلى أن قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. . . الحديث) انظر: جامع الأصول حديث 7552. ومنها ما رواه مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة رضي الله عنه قال: قال كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق. . . الحديث) وفي رواية عن عبد الله بن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)) انظر: جامع الأصول حديث 7916، 7917. ومنها ما أخرجه الديلمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة. . الحديث)) انظر: كنز العمال حديث 1033، كما أخرجه ابن الجوزي عن عمر انظر: تلبيس إبليس ص 14. ومنها حديث العرباض بن سارية قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. . . إلى أن قال: فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله. . . إلى أن قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجه. انظر: جامع الأصول ج 2 ص 278، 279 (المتن والحاشية) .
(2) وفي تنبيه الغافلين (فإن سركم) وهو أظهر (1)
(3) (بحبوحة) زيادة من (د) (2)(67/217)
فإن قيل لأي شيء أنكرتم التوبة بالاجتماع (1) والوليمة عليها وحلق الرءوس واتخاذ الشيخ في ذلك؟ .
فالجواب: أن تقول: إنما أنكرنا ذلك على تلك الصفة؛ لأنه من المحدثات التي نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عنها، إذ لم ترو عنه ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد (2) من التابعين ولا العلماء الذين يجب الاقتداء بهم.
قال أبو حامد الغزالي رضي الله تعالى عنه: (كلما جاء وراء قدر الضرورة والحاجة فهو من اللهو واللعب) .
__________
(1) وفى الأصل- ب- (والجماعة) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) - (د)
(2) (أحد) غير موجودة في (ج- د)(67/218)
فإن قيل: ولأي شيء تنكرون في رد العصاة للتوبة والطريق إلى الله؟
فالجواب: أن نقول: إنما ردوهم من المعصية إلى البدعة، وقطعوهم عن طريق الله تعالى، وقد اتفق العلماء أن العاصي أحسن حالا من المبتدع؛ لأن العاصي يزعم أنه عاص ويقول (1) : نتوب ونرجع إلى الله تعالى.
وأما المبتدع: فيزعم أنه على الحق حتى يموت على بدعته، ومن مات مبتدعا وجد قبره حفرة من حفر النار.
فإن قيل: هذه بدعة مستحسنة فالجواب: أن نقول له: بل تلك بدعة مستخشنة وإنما البدعة المستحسنة: ما استحسنه الصحابة وعلماء الأمة جميعا.
قال أبو حامد (2) : قال أبو سليمان الداراني: (لا ينبغي لمن
__________
(1) وفي (د) (ويرجو من الله التوبة)
(2) سبقت ترجمته ص 119(67/219)
ألهم شيئا من الخير (1) أن يفعله حتى يسمع به (2) في الآثار (3)) (4) .
فإن قيل: وكيف ذلك؟ وفينا من يسرد الصيام ويحج ويغزو ويقوم الليل ويطعم الطعام ويفعل المعروف.
فالجواب: أن نقول له ذلك باطل مع البدعة لما تقدم في الحديث. وفي كتاب مناطق الحكماء: وثلاثة ردية. البدعة والزنا، والمال الممزوج، لا ينفع (5) مع واحد منهن- الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا عمل صالح حتى يتوب من ذلك. ووقف مالك رضي الله تعالى عنه عند زمزم فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني (أنا أعرفه بنفسي) (6) ، فأنا مالك بن أنس أنا النذير لكل من حج هذا البيت-
__________
(1) وفي الأصل (ب) (الخيرات) والصواب ما هو مثبت كما في (ج) (د) وكما في الإحياء
(2) وفي الأصل (ب) (له) والصواب ما هو مثبت كما في (ج) (د) وكما في الإحياء
(3) كذا في النسخ الأربع وفي الإحياء (في الأثر) .
(4) إحياء علوم الدين ج 1 ص 137.
(5) وفي الأصل- ب- ج (لا ينبغي) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(6) زيادة من (ج)(67/220)
وهو على بدعة فلا يعني نفسه باطلا (1) (2) فإن قيل فما تقول في الترونين؟ إذ هو ما هو مما يحرك الخشوع ويرقق القلب. فالجواب أن نقول له الترونين حرام، وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم، وهو سنة إبليس لعنه الله، حين طرد من الجنة، وهو من عمل الجاهلية- قال في كتاب البر: حدثنا أبو إسحاق عن أبيه. قال: سمعت مقاتل بن سليمان يقول: نزل (3) آدم بأرض قفر خالية يبكي على نفسه لعظيم ما حل به من المعصية، وما نزل به. فلذلك يحب الله تعالى البكائين من خلقه؛ لأنه سنة آدم، وكره الله النواحين؛ لأنه من سنة إبليس لعنه الله، فكان (4) ينوح على نفسه إلى يوم القيامة.
فإن قيل: فالشطح والاهتزاز مما يحرك الخشوع ويهيج الوجد
__________
(1) (باطلا) ساقطة من الأصل (ب) .
(2) أورده عثمان فودي في إحياء السنة ص 61.
(3) وفي (د) (أنزل) وهو أظهر
(4) وفي (ج) (وكان)(67/221)
فلم أنكرتموه؟
فالجواب: أن نقول الرقص والتواجد أول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ظلوا يرقصون حوله ويغنون (1) ، وهو دين الكفار، وعباد العجل، وقد تقدم في حديث العرباض بن سارية أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب (2) . ولم يقل صرخنا ولا زعقنا، ولا ضربنا على رءوسنا، ولا ضربنا على صدورنا، ولا رقصنا كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند الموعظة ويزعقون ويتعانقون (3) .
وهذا كله من الشيطان لعنه الله يلعب بهم، وهذا (4) كله بدعة وضلالة. يقال لمن فعل هذا: أكان (5) النبي صلى الله عليه وسلم أصدق
__________
(1) وفي (ب) (يعثون) وهو خطأ
(2) سبق تخريجه ص 204
(3) وفي الأصل ب- ج (ويتناغصون) والصواب ما هو مثبت كما في (د) .
(4) وفي (ب) (فهذا)
(5) وفي (د) (يقال لم لم يفعل هذا النبي صلى الله عليه وسلم)(67/222)
الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلبا، وأصحابه أرق الناس قلوبا وخير الناس ممن جاء بعدهم، ولا يشك عاقل في هذا، فما صرخوا عند موعظة ولا زعقوا ولا رقصوا، ولو كان هذا صحيحا لكانوا (1) أحق الناس بهذا أن يفعلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه بدعة وباطل ومنكر بين (2) .
فإن قيل: وكيف أنكرتم (3) المحدثات وقد أحدثت المحاريب (4) والحصر بعد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع المصاحف وغير ذلك؟ فالجواب: أن نقول أيها السائل أظنك نائما لا تعقل الذرة من الفيل، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (5) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا بمن بعدي أبي بكر وعمر (6) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم (7) » . وقال: «مثل أصحابي كمثل سفينة
__________
(1) وفي (ج) (لكان) وهو خطأ
(2) (لكنه بدعة وباطل ومنكر بين) ساقط من (ج) .
(3) وفي الأصل (ب- ج) (ينكرون) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(4) وفي الأصل (ب- ج) (أحدثوا المحراب) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(5) سبق تخريجه ص 204.
(6) أخرجه الترمذي في المناقب باب مناقب عبد الله بن مسعود، والإمام أحمد في المسند ج 5 ص 399. وهو حديث حسن كما قال الترمذي انظر: جامع الأصول: ج 8 ص 573 (المتن والحاشية) وذكره أبو نعيم في الحلية ج 9 ص 109 وابن أبي عاصم في السنة ج 2 ص 545 وقال الألباني: حديث صحيح. انظر: ظلال الجنة في تخريج السنة ج 2 ص 545.
(7) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله من حديث سلام بن سليم عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم ذكره قال أبو عمر: هذا إسناد لا تقوم به الحجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول. وقال عبد القادر الأرناؤوط: إسناده ضعيف وقال الألباني موضوع. انظر: جامع بيان العلم وفضله ج 2 ص 90، 91، وجامع الأصول ج 8 ص 556، 557 (المتن والحاشية) وسلسلة الأحاديث الضعيفة برقم 58. وذكره العجلوني في كشف الخفاء وقال: رواه البيهقي، وأسنده الديلمي عن ابن عباس بلفظ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم انظر: كشف الخفاء حديث 381.(67/223)
نوح عليه السلام من دخل فيها نجا ومن تخلف عنها غرق (1) » وهذه هي البدعة المستحسنة، فإن قيل: وتشكيل المصاحف ليس من عمل الصحابة بل ذلك حدث بعدهم؟
فالجواب: أن نقول: هذا مما اجتمعت عليه الأمة. وقد تقدم أن البدعة: مما خرج عن الكتاب والسنة والإجماع وهي أيضا بدعة مستحسنة، بل لا يقال في ذلك بدعة لأن البدعة ما خرج عن الأدلة الثلاث (2) .
__________
(1) رواه البزار ج 2 ص 245 برقم 2615، وذكره الطبراني في الكبير برقم 2628، 12388. وأبو نعيم في الحلية ج 4 ص 306، والقضاعي عن ابن عباس بلفظ (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق) وفيه عندهم الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف انظر: مسند الشهاب ج 2 ص 273. كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر بلفظ (مثل أهل بيتي. . .) وقال: هذا الحدث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقد تعقبه الذهبي فقال (مفضل بن صالح- أحد رجال السند- خرج له الترمذي فقط وضعفوه) انظر المستدرك ج 2 ص 343 (المتن والحاشية) وفتح الوهاب ج 2 ص 330، 331. وكنز العمال حديث 34151.
(2) كذا في النسخ الأربع- ولعل الأولى الثلاثة.(67/224)
فإن قيل: فمن أين لكم أن تقولوا: إن المبتدع الذي يموت على بدعته يبتليه الله بسوء الخاتمة، ولا تناله شفاعة الشافعين؟
فالجواب: أن نقول له: لنا هنا من الأحاديث الصحاح الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وقد تقدم (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رجلان من أمتي لا تنالهم شفاعتي» . . . «وكل الناس يطمع في مغفرة الله وتنالهم شفاعتي يوم القيامة كل من مات منهم على توبة، إلا من مات منهم على بدعة» . . .
وقال أبو حامد: الأسباب التي تورث سوء الخاتمة، فذكر منها: البدعة (3) ، (4) .
وذكر أبو الليث، (5) ذلك أيضا.
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) (وقد تقدم) غير موجودة في (ب) .
(3) وفي الأصل (ب- ج) (فذكر منهم المبتدع) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(4) انظر: الإحياء ج5 ص33، 37.
(5) (ذلك) زيادة من (د) .(67/225)
وقال أبو حامد: " جمع عالم (1) في بني إسرائيل ثمانين تائبا من " أهل العلم " (2) وقد كان أحدث شيئا من هذه المحدثات فتاب إلى الله تعالى من ذلك وندم (3) واستغفر ربه فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: " قل للعالم: لو جمعت ذلك ومثله معه، أو قال: لو شفع أهل السماوات وأهل الأرض ما قبلت شفاعتهم فيك؛ لأنك أضللت عبادي وأدخلتهم النار ولو كان الذي بيني وبينك لغفرته لك " نقلته بالمعنى (4) .
فإن قيل: لأي شيء أنكرتم (5) ذكر الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم والتوبة، والاجتماع على الموائد، والمحبة في ذات الله تعالى، والبكاء من خشية الله تعالى، والتزاور (6) بين الإخوان؟
فالجواب: أن نقول: (7) إنما أنكرنا هذه الخصال على الجملة، بل ذكرنا منها صفة فعلها على ما وصفنا قبل هذا، إنما أنكرنا (8) من الذكر (9) ما يكون بالمداولة، لا الذكر بنفسه، وأنكرنا الاجتماع على
__________
(1) (عالم) ساقطة من (ب) .
(2) (أهل العلم) مكانها بياض في الأصل- ج-.
(3) وفي (ب) (وندب) وهو خطأ.
(4) انظر: الإحياء ج4 ص49.
(5) وفي الأصل- ب- ج (ولأي شيء ينكر في ذكر الله) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(6) وفي الأصل- ب- (والمتزاورين) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) (د) .
(7) (أن نقول) زيادة من (د)
(8) وفي الأصل- ب- ج (كرهنا) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(9) وفي (د) بل أنكرنا منها صفة من الذكر مما يكون بالمداولة.(67/226)
التوبة والجهر فيها، والوليمة عليها لا التوبة بنفسها، وأنكرنا الاجتماع على الموائد؛ لأنهم يحيون بذلك بدعتهم، ويزيدون فيها، ولا ينكر إطعام الطعام على غير هذه الصفة، وأنكرنا محبة البدعة، ولا ينكر (1) ذلك بين أهل السنة؛ لأن ذلك يورث الدرجات العلى في الجنة، وأنكرنا البكاء في ملأ من الناس بالنياح والصراخ لا البكاء من خشية الله تعالى؛ لأن الدمعة من البكاء من خشية الله تطفئ بحورا من النيران، ولا يكون ذلك- والله تعالى أعلم- إلا في الخلاء، وكذلك الزيارة جائزة بين أهل السنة، ولها فضل عظيم، وأما بين أهل البدعة فهي حرام؛ لأن ذلك يهيج بدعتهم وضلالتهم (2) ويقال للمبتدع الذي أحدث ما ليس عليه الأمة مثل ما ذكرنا من التحريم في اللقمة والاجتماع للتوبة وغير ذلك.
فيقال له: هذا دين أو ليس بدين؟ فإن قال: دين، فقد كفر بالله ورسوله؛ لأنه كذب (3) الله عز وجل في كتابه إذ قال (4) عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5) وجعل الرسول عليه الصلاة والسلام
__________
(1) أي المحبة في ذات الله.
(2) وفي (د) (ومقالاتهم) .
(3) وفي (د) (لأنه كذب على الله. . .) .
(4) وفي (د) (لقوله تعالى) .
(5) سورة المائدة الآية 3(67/227)
خائنا (1) في رسالته؛ إذ يقول فعله ولسان مقاله (2) هذا من (3) الدين لم يكمل ولم يأت به الرسول، ولو لم يقله بلسانه قاله بفعله ولسان حاله. قال عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: " لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا فرض ولا ندب، وترك صلى الله عليه وسلم أمته على الواضحة من بيان الكتاب والسنة ولله الحمد. ومن (4) أحدث في هذه الأمة اليوم شيئا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان (5) الرسالة؛ لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (6) فما لم يكن يومئذ دينا لم يكن اليوم دينا " (7) .
__________
(1) وفي الأصل- ب- (خاتما) وهو خطأ.
(2) وفي الأصل ب- ج (ولسان حاله بغير هذا) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(3) (من) ساقطة من (ب) .
(4) (من) ساقطة من الأصل- ب- ج) والصواب ما هو مثبت كما في (د) .
(5) (خان) ساقطة من الأصل- ب) ، وفي (ج) مكانها بياض والصواب ما هو مثبت كما في (د) .
(6) سورة المائدة الآية 3
(7) مقولة للإمام مالك انظر: الاعتصام ج1 ص 5، 35، 301، 327.(67/228)
فإن قيل: لأي شيء أنكرتم التسابيح والكثرفات، (1)
__________
(1) (الكثرفات) غير موجودة في (ج) .(67/228)
والعباء إذ فيها إعانة على الطاعة؟
فالجواب: أن نقول: أنكرنا هذه الأشياء وإن كان (1) فيها إعانة على الدين مخافة الشهرة، والشهرة حرام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثياب شهرة ألبسه الله لباس الذل يوم القيامة (5) » وصغره وحقره؟ لأنها من التصنعات، والتصنعات بدعة. وقد كان يوسف بن أسباط يقول: لأن ألقى الله بجميع الذنوب أحب إلي من أن ألقاه بذرة من التصنعات،
__________
(1) (كان) ساقطة من الأصل- ب-.
(2) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب لبس الشهرة، وأحمد في المسند ج2 ص 92، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب من لبس شهرة الثياب، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص238. وقال عبد القادر الأرناؤوط: إسناده حسن، حسنه المنذري وغيره، انظر جامع الأصول ج 10 ص 657 (المتن والحاشية) وكنز العمال حديث 41201.
(3) كذا في النسخ الأربع- ولعلها ثوب كما في سنن أبي داود وغيره. (2)
(4) (شهرة) ساقطة من (ب) - وفي (ج- د) (بشهرة) وما هو مثبت أظهر، كما في الأصل، وسنن أبي داود. (3)
(5) وفي مسند أحمد، وسنن أبي داود (ثوب مذلة) وهو أظهر. (4)(67/229)
ولعل من ألقى على نفسه سيما (1) الصالحين وزي المتعبدين هو بخلاف ذلك عند الله، أما يستحي منه. وعلى أن الكف إنما يراد للميزان (2) ، والميزان يتحفظ به على أوقات الصلاة ففيه تشبيه للكفار وهي القناديس التي نهي عنها؛ لأنهم يحملون فيها أصنامهم ويسجدون لها من دون الله.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من تشبه بقوم حشر معهم (3) » .
وقد تكلم العلماء رضي الله تعالى عنهم في الميزان، فأنكره ابن العربي، ورخص (4) فيه أبو حامد (5) ، وأما على الصفة المخصوصة المشهورة فلا تحل لأجل الشهرة. وإن كان كما يفعله سائر الناس مثل الجبة فلا بأس بها (6) فإن قيل: لأي شيء أنكرتم علينا
__________
(1) وفي (ب) (سيم) وما هو مثبت أظهر كما في الأصل- ج-.
(2) وفي (ج) (الميزان) .
(3) لم أقف على هذا اللفظ، وإنما أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لباس الشهرة برقم 4031، والإمام أحمد في المسند ج 2 ص50، وابن كثير في تفسيره ج1 ص153 عن ابن عمر بلفظ: (من تشبه بقوم فهو منهم) وصححه ابن حبان. انظر: جامع الأصول، حديث رقم 8287، كنز العمال حديث 24680، وكشف الخفاء 2436 وإحياء علوم الدين تخريج الحافظ العراقي 34211، الأحاديث المشكلة في الرتبة ص 241.
(4) وفي الأصل- ب- وأرخص) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) .
(5) انظر الإحياء ج 1 ص194.
(6) من قوله (لأنهما من التصنعات.. إلى قوله- فلا بأس بها غير موجودة في (د) .(67/230)
الاجتماع في أيام المواسم؟ كليلة النصف من شعبان، وسبعة وعشرين من رمضان، وعاشوراء، أليس أنكم تقولون بكثرة الناس تكثر الأجور، وربما يكون في الجماعة الكثيرة رجل مقبول فنجد (1) من بركته؟
فالجواب: أن نقول: قيام غير رمضان من الليالي لا يجوز في جماعة إلا في اليسير من الناس كالاثنين والثلاثة؛ لأن الجمع الكثير يؤدي إلى السمعة، والشهرة كما يصنعون في النصف من شعبان وسبعة وعشرين من رمضان، وعاشوراء وبعض المساجد خصوصا، كما ذكرت (2) بل ينهون عن ذلك ويفرق جمعهم، وقد أفتى (3) أبو عمران الفاسي رحمه الله تعالى بأن تهدم تلك المواضع ويبدد شملهم. والتنفل في البيوت أفضل إلا في رمضان ما لم يكن ممن يعمل ذلك في المساجد فيصلي في بيته أفضل له.
__________
(1) وفي الأصل - ب- ج - (فيجد) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(2) (كما ذكرت) غير موجودة في (د) .
(3) انظر: أبو عمران الفاسي- عبد الله كنون ص9، 10.(67/231)
فإن قيل: لأي شيء أنكرتم السلام على المبتدعة، ومخالطتهم ومحبتهم والجلوس معهم وهل في ذلك إثم أم لا؟
فالجواب: أن نقول إنما أنكرنا ذلك لما تقدم من الأحاديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صافح مبتدعا فقد نقض الإسلام عروة عروة (1) » .
وقال الفضيل: " من جالس صاحب بدعة أورثه الله العمى " (2) أي: عمى القلب عن الطاعة والهدى.
وقال: " من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه " (3) بل يهجرون زجرا (4) وردعا وغضبا لله تعالى؛ ولأنه لا يؤمن على مخالطهم (5) أن يلقوا عليه شبهة فتتمكن من قلبه. ولذلك قال بعضهم: لا تمكن زائغ القلب من دينك (6) ،؛ لأنه ينسب إليهم لقوله عليه الصلاة والسلام: «المرء على دين
__________
(1) سبق تخريجه ص 207.
(2) سبق تخريجه ص201.
(3) سبق تخريجه ص201.
(4) وفي (ج) (جزرا) وهو خطأ.
(5) وفي الأصل- ب- ج (مخالطهم) وما هو مثبت أظهر كما في (د) وكما يظهر من الكلام بعدها.
(6) كذا في جميع النسخ- ولعلها (من أذنيك) كما في الجامع.(67/232)
خليله. . . (1) » الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: «اختبروا الناس بإخوانهم (2) » وقال: «جليس القوم منهم (3) » وإن قال قائل: (4) عرفت بدعتهم ولا تغتر نفسي بغرورهم، بل نأكل معهم، ونأخذ من أموالهم وأسكت عن حالهم، وندعهم في أهوائهم، وأي شيء علي في ذلك واستسخاري بهم؟
فالجواب: إن هذا المسكين غره سراب الطمع ووقع في مهوات لا قعر لها، فأهلكته شهوته مع الهالكين وخسر مع الخاسرين، ولا يدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهرت البدعة للعالم فسكت فعليه لعنة الله (6) » وأي شيء أعظم من المداهنة
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 4833 في الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، والترمذي برقم 2379، في الزهد باب رقم 45، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن. انظر: جامع الأصول حديث 4967.
(2) لم أقف عليه.
(3) لم أقف عليه.
(4) وفي الأصل- ب- ج (وإن قال أما أنا فطالب) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(5) أخرجه نصر المقدسي والشاطبي بلفظ: عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' إذا ظهرت البدع في أمتي وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين '' قيل للوليد بن مسلم، ما إظهار العلم؟ قال: إظهار السنة، انظر: مفتاح الجنة ص 66 والاعتصام ج1 ص65، وابن عساكر عن معاذ بلفظ: '' إذا ظهرت البدع ولعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد ''. انظر: كنز العمال حديث 903.
(6) وفي الأصل- ب- ج (إذا ظهرت البدع في العالم فعليه. . .) وهو خطأ. (5)(67/233)
على عرض الدنيا، وكذلك الجاه عندهم به يهلك. وفي فتاوى بعض الفاسيين أن من جلس معهم أو مشى معهم أو تكلم معهم أو أكل معهم أو حضر في مجلسهم فقد نقض الإسلام عروة عروة.
قال: وكان أهل السنة وأهل الشرع والورع إذا نظروا إليهم يثبون منهم كما يثب البعير إذا انحل عقاله.
فإن قال قائل: (1) صف لنا هؤلاء القوم مع بدعتهم حتى يتبينوا فيقع الاحتراز منهم، ونأمن (2) من (3) غوائل (4) مكرهم وشؤمهم؟
فالجواب: أن نقول أيها السائل ما أراك تعقل المعقولات ولا تفهم الواضحات، ولا يكفيك ما ذكرت لك من صفتهم وحالهم حتى تقول في صفتهم: صفهم (5) لنا، ولكن أريد (6) أن أزيدك بيانا ووضوحا فاعلم أنه جاء في بعض الأخبار عن ابن عباس (7) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيأتي أقوام يستبدعون البدائع يحلقون رءوسهم ويسمون أنفسهم مرابطين يلبسون الدنافس (8) ويجعلون في
__________
(1) (. فإن قال قائل) زيادة من (ب) ، وفي (الأصل- ج) (فاوصف لنا) ؛ وفي (د) (فإن قيل صف لي هؤلاء القوم) .
(2) وفي الأصل- ب- (ونؤمن) وما هو مثبت أظهر كما في (ج، د) .
(3) (من) غير موجودة في (ب) .
(4) (غوائل) غير موجودة في (ج) .
(5) (صفهم) ساقطة من الأصل- ب-.
(6) (أريد أن) زيادة من (ج - د) .
(7) لم أقف له على أصل.
(8) وفي (ب- ج) (الدنافيس) .(67/234)
أعناقهم القناديس (1) ، ويلبسون التلاليس ويأكلون أموال الناس بالبدايع ويجعلون لهوهم بالبنادير (2) ، (3) ويشطحون ويرقصون فإذا رأيتهم على (4) تلك الحالة فلا تخاطبهم لقوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (5) وقوم يستبدعون العبايات والتسابيح (6) ويخيرون شيخهم على الأشياخ، ويجعلون صديقهم في شيخهم ويتبركون (7) فيما بينهم، فإذا التقوا (8) يقول كل واحد منهم شيخي أفضل من شيخك. والله تبارك وتعالى يقول (9) : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (10) وأيضا لا فضل لأحد منهم على أحد (11) فإذا رأيتهم (12) كل واحد منهم يقول: (13) شيخي
__________
(1) قال في حاشية (ب) هي السبح.
(2) وفي (ب) (البنادير) .
(3) هي الدف.
(4) وفي (ب) (في) .
(5) سورة الأنعام الآية 70
(6) وفي الأصل- ب- ج (التسبيحات) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(7) وفي (ب) (ويتركون) .
(8) وفي (د) (فإذا لقي بعضهم بعضا) .
(9) (يقول) ساقطة من (ب) .
(10) سورة الحجرات الآية 13
(11) (وأيضا لا فضل لأحد منهم على أحد) غير موجودة في (د) .
(12) وفي (د) فإذا رأيتم.
(13) (يقول) ساقطة من (ج) .(67/235)
شيخي نزلوا (1) منزلة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (2) » وقيل لمالك رحمه الله تعالى: "هنا قوم يأكلون كثيرا ويشربون كثيرا ويرقصون كثيرا".
فقال "في جوابه" (3) : على جهة الإنكار- مجانين هم أم صبيان؟ ثم قال: لا يفعل هذا أهل (4) العقل والمروءة، فتبسم استهزاء منهم بهم) (5) فقال رجل للسائل: إنك لمشؤم علينا. الإمام مالك لم يضحك منذ ثلاثين سنة إلا هذه الساعة (6) .
وقال الإمام الطرطوشي -حين وصف له حالهم - (هذا مذهب جهالة وبطالة (7) وبدعة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله
__________
(1) وفي (ج) (تركوا) وهو خطأ.
(2) سورة الزخرف الآية 67
(3) زيادة من (ج) .
(4) (أهل) ساقطة من (ج) .
(5) انظر: ترتيب المدارك ج1 ص 180.
(6) انظر: ترتيب المدارك ج1 ص 180.
(7) في الصواعق (مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة..) .(67/236)
وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم (1) فإن قيل قد نهي عن الغيبة، ولم تغتابوهم (2) ؟ فالجواب: أن نقول لا غيبة فيهم إذا ذكروا في حال بدعتهم وزيغهم، بل الخائض فيهم مأجور؛ ليقع الحذر منهم ومن مذهبهم الفاسد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكر الفاجر بما فيه ليحذره الناس فليس ذلك بغيبة (3) » وإنما الغيبة إذا ذكروا (4) بشيء
__________
(1) ذكرها محمد صفي الدين الحنفي في كتابه الصواعق المحرقة ص 34.
(2) وفي (د) (فإن قيل: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فلا تغتابوهم) .
(3) ذكره الغزالي في الإحياء بلفظ (أترعوون عن ذكر الفاجر، اهتكوه حتى يعرفه الناس، اذكروه. مما فيه حتى يحذره الناس) . قال الحافظ العراقى: أخرجه الطبراني وابن حبان في الضعفاء، وابن عدي من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده دون قوله: (حتى يعرفه الناس) ، ورواه بهذه الزيادة ابن أبي الدنيا في الصمت، انظر: إحياء علوم الدين ج3 ص 221 (المتن والحاشية كما ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم 583. . . . (أترعون عن ذكر الفاجر اذكره بما فيه يحذره الناس) وقال: موضوع إلى أن قال: وقال ابن حبان: (والخبر في أصله باطل) ثم قال الألباني: (وقد روي بلفظ آخر: وهو (ليس لفاسق غيبة) وقال: باطل. رواه الطبراني في المعجم الكبير وأبو الشيخ في التاريخ ص 236 إلى أن قال: (والحديث ذكره ابن القيم في الموضوعات في كتابه المنار) . وقال: (قال الدارقطني والخطيب: قد روي من طرق وهو باطل''. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني ح 2 ص 52- 54. وقال شيخ الإسلام: ليس هو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه مأثور عن الحسن البصري أنه قال: أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس، ثم قال شيخ الإسلام: وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء: أحدهما: أن يكون الرجل مظهرا للفجور، مثل: الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة ... ) انظر الفتاوى ج 28 ص 219.
(4) وفي (ب) (ج) (ذكر) وهو خطأ.(67/237)
من أبدانهم، وأما في بدعتهم فلا.
فإن قيل: هؤلاء القوم يحبون نبيهم ويصلون عليه ويرجون شفاعته ولهم نية خالصة في عبادتهم وأفعالهم لله تعالى.
فالجواب: أن نقول ما قال الحسن: (1) (2) " لا يغرنكم قول من يقول المرء مع من أحب"، فإنك لا تلحق الأبرار إلا "أن تعمل" (3) بعملهم واتباع سنتهم. فإن اليهود أحبوا موسى عليه الصلاة والسلام، وليسوا معه؛ إذ لم يتبعوه وأهل البدع يحبون (4) أنبيائهم وليسوا معهم؛ إذ لم يتبعوهم بل كذبوا.
ولقد أحسن من قال:
من يدع حب المرء ولم يكن ... بسنته مستمسكا فهو كاذب
علامة صدق المرء في الحب أن يرى ... على منهج كانت عليه الحبايب
ولا يرجون شفاعته؛ لأنهم قد خرجوا عن ملته، والنية لا تنفع إلا مع اتباع السنة. وقد كان للكافر نية خالصة مع ضميره (5) ، ولا ينفعه ذلك.
__________
(1) سبقت ترجمته ص 216.
(2) انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 380، والحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب ص 133.
(3) (أن تعمل) زيادة من (د) .
(4) وفي الأصل- ب- (محبون) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) (د) .
(5) وفي (ج) (صحيحة) وهو خطأ.(67/238)
فإن قيل: كيف يسمون هؤلاء القوم (1) الذين على هذه الصفة؟
__________
(1) (القوم) ساقطة من (ج) .(67/238)
فالجواب: أن نقول خوارج، قال إسماعيل بن إسحاق القاضي في أحكام القرآن له: " كل من (1) ابتدع في الدين بدعة فهو من الخوارج " وبهذا قال بعض الفقهاء المتأخرين - وأفتى (2) بقتلهم. فإن قيل: وكيف ذلك وهم يدعون (3) الكرامات (4) والفراسات، ويرون بنور الله وتظهر لهم بركات وإشارات يقينا (5) بلا شك ولا ارتياب، وهل يكون مثل هذا إلا لأهل الاستقامة ومن هو على الصراط المستقيم والمنهج (6) القويم؟
فالجواب: أن نقول ظهور هذه الأشياء لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تظهر على يد متبع، أو على يد مبتدع. فإن ظهرت على يد
__________
(1) وفي (ب) (كل مبتدع من الدين) .
(2) وفي (د) (وأفتوا) .
(3) وفي (د) (وهم يرون) .
(4) وفي الأصل - ب- (الكرامة) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) .
(5) وفي (ب) (ويقينا) بزيادة الواو وهو خطأ.
(6) وفي (ج) (المنهاج) .(67/239)
متبع فلا شك في صحتها وصحة استقامته وإخلاصه إن شاء الله تعالى؛ لأن كل ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات جاز أن تكون للولي كرامات (1) ، وإن ظهرت هذه الأشياء على يد مبتدع، فلا يشك عاقل أنما هو مكر من الله تعالى واستدراج، علم الله تعالى شقاوته وأراد (2) ضلالته، قال الله تبارك وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (3) ولا يغتر العاقل بذلك ولو رأيتموه يطير في الهواء ويمشي (4) على الماء. قال أبو يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه: "إذا رأيتم من يطير في الهوى فلا يغرنكم بفعله حتى تروه واقفا عند الأمر والنهي" (5) ألم تعلم (6) أن إبليس يطير في الهوى ويغوص في الماء (7) ويخترق الأرضين السفلى، وأن الرجل الكافر الذي يدعي الربوبية وينسب إلى نفسه الألوهية سخرت له الجمادات، وأحييت له الأموات، واليهودي السامري (8) حين (9) ألقى الحلي في النار فأخرج الله له عجلا جسدا له خوار. والنمرود بن كنعان - لعنه
__________
(1) وفي (ج) (جاز للولي أن تكون كرامة) .
(2) وفي (ب) (وأرد) وهو خطأ.
(3) سورة الأعراف الآية 182
(4) وفي (د) (ولو رأيتموهم يطيرون في الهواء ويمشون على الماء) .
(5) سبق تخريجه ص 208.
(6) وفي الأصل - ب- ج (ولتعلم) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(7) (في الماء) - زيادة من ج- د.
(8) وفي (ج) (والسامري) ، بزيادة الواو- وهو خطأ.
(9) (حين) زيادة من (ج) .(67/240)
الله - حين ارتفع في تابوته في الهوى فكان يرمي إلى السماء بنشابه ليقتل إله إبراهيم بزعمه فكانت (1) قد ترجع (2) إليه النشابة مخضوبة (3) بالدم، وقال: قتلته. فكان ذلك فتنة واستدراجا من الله تعالى ليزيد في كفره وطغيانه. فإذا كانت (4) هذه الخوارق العظيمة يظهر مثلها على يد هؤلاء الضالين، فكيف يغتر عاقل بها أو بما (5) يحدثون (6) من (7) الأوهام والخيال (8) على يد (9) أهل البدع والضلالة، فكل ما يظهر من هذا على يد من هو غير متبع للسنة فهو فتنة وبلية يضل بها الله من خالف أمره واتبع هواه، وقد يلبس ملبس كاذب على العوام والجهال
__________
(1) وفي الأصل- ب- (فكان) وفي (ج) (وكان) - ما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(2) وفي الأصل - ب- (يرجع) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) (د) .
(3) وفي (ج) (مخضبة) وما هو مثبت أظهر كما في الأصل (ب) (د) .
(4) وفي (ج) (كان) وهو خطأ.
(5) وفي الأصل - ب- ج (أولى) وهو خطأ.
(6) كذا في النسخ الأربع ولعل الأولى (يحدث) .
(7) (من) زيادة من (د) .
(8) وفي (د) (والحيل) .
(9) وفي الأصل- ب (إلا على يد) وما هو مثبت أظهر كما في (ج- د) .(67/241)
بخديم من الجن فيكون (1) معه مطيعا سميعا لما يأمر (2) فيرون ذلك من الكرامات وبركات الصالحين وليس كذلك بل الحق (3) عبد الجن إلى أن كفر بالله ورسوله، بل ويشترط عليه الجني (4) أن يسجد له من دون الله ويترك الصلاة أربعين يوما وغير ذلك فيلتزم له شروطه، ويلتزم الآخر بشروطه. وهذا هو اللعب بالله تعالى، هذا كله لغرض من أغراض الدنيا الفانية، فباع نصيبه به من الدار الباقية. فإن قيل: ما تقول في الشيخ الذي يتوب الناس، وهل تكون (5) التوبة بلا شيخ، وكيف ذلك - وهم يقولون: من (6) لا شيخ له فشيخه إبليس-؟
فالجواب: أن نقول: لا شيخ اليوم إلا في أمرين: في تعليم العلم، وتعليم الصنعة لا غير. وأما الشيخ في البدايع المذكورة فهو ضال مضل وغوايته أشد على الناس من إبليس اللعين؛ لأن إبليس يخدع الناس بالوسوسة، وهذا الشيخ المبتدع يخدعهم بالمشاهدة، وكل من مات ماتت ذنوبه، إلا الشيخ المبتدع الذي يدعو الناس إلى البدعة، فإنه وإن (7) مات لم تمت ذنوبه.
__________
(1) وفي (د) (يكون له مطيعا) .
(2) وفي الأصل - ج (لما به) وهو خطأ، وفي (ب) (لما ربه) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(3) (الحق) زيادة من (ب) .
(4) (الجني) ساقطة من (ب) .
(5) وفي (ج) (وهل تكون له) وما هو مثبت أظهر كما في الأصل ب- د.
(6) وفي (ج) (ومن) .
(7) وفي الأصل (ب) (لو) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) .(67/242)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (2) » وقال أبو حامد: "طوبى لمن مات وماتت ذنوبه، وهؤلاء الأشياخ المبتدعة ولو ارتحلوا من الدنيا ففي كل يوم (3) بل في (4) كل ساعة تلحقهم جبال من الذنوب والخطايا؛ لما أحدثوه في دين الله، وغيروه (5) على حسب كثرة تلاميذهم (6) وقلتهم، وهذا البلاء العظيم نسأل الله العافية منه. وأما قولكم: وهل تكون التوبة بلا شيخ، ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان (7) فاعلم أن هذه الكلمة
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة باب الحث على الصدقة برقم 1017، والترمذي برقم 2675 والنسائي في الزكاة، باب التحريض على الصدقة ج5 ص75 - 77، وابن ماجه برقم 203، وأحمد ج4 ص 37- 359، والبغوي برقم 1661، وقال هذا صحيح. وذكره الشاطبي في الاعتصام برقم 69، وانظر: جامع الأصول ج 4663، وكنز العمال حديث 43078، وشرح السنة ج 6 ص 160، 161.
(2) قوله (من سن ... إلى يوم القيامة) ساقط من (ج) . (1)
(3) (يوم) ساقطة من (ب) .
(4) (في) غير موجودة في (ج) .
(5) وفي الأصل- ب (وغيره) وهو خطأ.
(6) وفي الأصل- ب- ج (تلاميذه) وما هو مثبت أظهر كما في (د) وكما يظهر من الكلام قبلها.
(7) وفي (د) (إبليس) .(67/243)
يخدع (1) الأشياخ (2) بها (3) العوام الجهال، ومن هذا الباب يدخلون عليهم. إنما (4) التوبة هي التي تكون بين العبد وخالقه سرا لا يطلع عليها أحد بأن يذكر ما سلف من ذنوبه ويخاف أن يؤخذ بسطوة الانتقام، ويندم على ما فات، ويرجع إلى الله تعالى كالعبد الآبق من مولاه متضرعا باكيا راجيا داعيا ليتقبلها منه وأن لا يعاقبه، ويتوب أن (5) لا يفعل معصية أبدا، ولا يعود إلى (6) شيء من ذنوبه حتى يعود اللبن في الضرع. وأما قولك: ومن لا شيخ له فشيخه إبليس فهذا صحيح، ولكن ليس على الوجه المذكور فعلى (7) هذا بل جاء (8) ذلك في تعليم العلم والدين؛ لأنه يسأل العلماء حتى يعلم أمر دينه، فكل من تعلم منه مسألة فأكثر فهو شيخه حتى يكون له أشياخ كثيرة من قديم الزمان إلى يوم القيامة.
فإن قيل: فما تقول في الشيوخ المتصوفة كأبي القاسم الجنيد
__________
(1) (ب) (يحدث) وهو خطأ.
(2) وفي (د) (المبتدع) .
(3) (بها) ساقطة من (ج) .
(4) وفي (د) (وإنما) وهو أظهر.
(5) وفي (د) (وأن لا يفعل) .
(6) وفي الأصل- ب- ج (في) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(7) كذا في الأصل- ب- ج، وفي (د) غير موجودة- ولعل الأوفى (قولي) .
(8) (جاء) ساقطة من (ب) .(67/244)
والحارث المحاسبي وابن عطاء وعمرو بن عثمان وذي النون المصري، وبشر الحافي، ومعروف الكرخي، وسري السقطي(67/245)
وأبي بكر الشبلي، وسهل بن عبد الله، وأبي يزيد البسطامي وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أو لم يكونوا شيوخا لأهل التصوف؟
وما لكم أنكرتم الأشياخ (1) إلا في تعليم العلم أو تعلم الصناعة؟ فالجواب: أن نقول زلت بك (2) الأقدام أيها السائل، رأيت سرابا ظننته ماء، لو كان لك (3) فهم وعقل ذكي حين قلت أنا في الجواب عن الشياخة: لا شيخ اليوم تعلمه، إن تلك الشياخة أعني في التصوف انقطعت بقولي: لا شيخ اليوم، إذ قيدت (4) ولم أطلق، نعم إن هؤلاء المذكورين مشائخ علماء حكماء كل واحد منهم له فنون
__________
(1) وفي الأصل- ب- (وما لكم في كريم للشياخة) وما هو مثبت أظهر كما في (ج- د) .
(2) وفي الأصل- ب- (بذلك) وهو خطأ.
(3) (لك) زيادة من (ج) .
(4) وفي (ب- ج) (إذا) وهو خطأ.(67/246)
من العلم، منهم من هو (1) مقدم في الفقه ومنهم من هو مقدم في القراءة، ومنهم من هو مقدم في اللغة، لكنهم انتقلوا من درجة إلى درجة أعلى منها، وهو الكلام فيما يفسد الأعمال ويصلحها في الأمور الباطنة كالرياء، والفجور (2) (وغير ذلك) (3) ، ويتكلمون في التوبة الحقيقية والفرق بين خاطر الخلق وخاطر الملك، وخاطر النفس، وخاطر الشيطان، أخذوا طريقتهم عن الحسن البصري رضي الله عنه، وأخذ الحسن عن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة اليماني، ويتعلمون رياضة (4) النفوس وميل -
__________
(1) (منهم من هو) زيادة من (د) .
(2) وفي (د) (والعجب) وهو أظهر.
(3) (وغير ذلك) زيادة من (د) .
(4) (رياضة) ساقطة من (ب) .(67/247)
الطبائع من الخلق السوء إلى الخلق الحسن، ومن البخل إلى الكرم إلى غير ذلك (1) من الخير؛ لأن هذا كله من باب تعلم العلم، فتكون الشياخة منحصرة في أمرين كما ذكرت لك.
__________
(1) وفي (د) وغير ذلك.(67/248)
فإن قيل: فنحن من التابعين لهؤلاء ومقتفين لآثارهم، وإن كنا لا نبلغ مبلغهم.
فالجواب: أن نقول: أيها السائل ما أبعد فهمك حيث تشبهت بالقوم المنقطعين إلى الله تعالى الذين طلقوا الدنيا ثلاثا، وانقطعوا إلى الله تعالى بالكلية، وأماتوا نفوسهم بالرياضة والمجاهدة الطويلة، وسلبوها من الحظوظ الشهوانية، لم يرو عنهم أنهم رقصوا، ولا شطحوا، ولا تابعوا (1) ، ولا حلقوا، ولا لقموا، ولا سمعوا ولا هم (2) من القوم المنهكين في اللذات وأغراض النفوس، وكثرة الاتباع والانكباب على حطام الدنيا وأعراضها (3) وقلة معرفتهم وكثرة لهوهم ولعبهم وتقبيل الأرض بين يدي الشيوخ اللاهين، ومن ليس فيه مناقب الصالحين، وكثرة الشهوات، والرياء، وكثرة جهلهم بالسنة والفرايض، وجهلهم بمعرفة الله تعالى، وهم مجوس هذه الأمة؛
__________
(1) وفي الأصل (د) (ولا تألفوا) وفي (ج) (ولا تنابلوا) وما هو مثبت أظهر كما في (ب) .
(2) وفي- د- (ولا كانوا) .
(3) وفي (ج) (وأغراضها) .(67/248)
إذ لا مستند لبدعتهم. فإن تشبيهك القوم بالقوم كمن شبه الملائكة بالحدادين، فما لحماقتك دواء ولا يرجى لعلتك شفاء، بل بينهم مسافة تزيد على مسيرة مائة ألف مضروبة في مائة ألف ألف للطير السريع (1) ، والعجب العجب ممن يشبه الخوارج اللعنة بأهل التصفية المرضية الذين قلوبهم كقلوب الأنبياء.
والله ما يظن مثل هذا ولا يتوهمه إلا جاهل أحمق بين الحماقة.
ولا أظن يتوهم هذا من خلق الله إلا أن يكون غبيا منهم، ومن طائفتهم وجليسهم، يا عجبا كيف افترقوا على طوائف كل طائفة تنسب (2) إلى شيخ وطريقته، فمن أين لهم اختصاص بطريق غير طريق " أهل السنة وما أكثر طرقهم، أقل الله مثلهم في الوجود، فإن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، وهي طريقة جميع الأنبياء، فمن أين تكلف (3) أن يخص نفسه بطريق غير طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو الافتراء على الله ورسوله.
فإن قيل: فما تقول في الصباح والمساء بين الناس (4) ؟
__________
(1) وفي الأصل (بياض) وفي (ب) (لنظر المصرع) وفي (ج) (لنظر المسوع) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(2) وفي (ج) (تنهب) وهو خطأ، وفي (د) (تنتسب إلى شيخ وطريقه) وهو أظهر.
(3) كذا في الأصل- ب- وفي (ج) (لكلب) وفي (د) لكلب من الكلاب.
(4) (بين الناس) زيادة من (د) .(67/249)
فالجواب: أن نقول هذا بدعة تميت السنة وهو السلام، وأما تقبيل اليد: فلا يجوز إلا للعالم، وقيل ممنوع مطلقا؛ لأنه جاء تقبيل اليد أحد السجدتين (1) ومن البدع التي تميت السنة قولهم: الصلاة رحمكم الله عند دخول الوقت، ليجتمع للصلاة؟ لأن هذه البدعة تميت الأذان الذي هو من أفضل شعائر الإسلام. وما أشبه ذلك على أن المساء والصباح تحية، الأولى تركه، وإن يشأ الإنسان قدم السلام ثم ثنى بالمساء والصباح، والصباح دعاء وتركه أحسن، إذ لا يؤجر إلا على السلام.
فإن قيل: قد قلتم إنه لا يقتدى إلا بالعلماء في الدين، وهؤلاء شيوخنا علماء.
فالجواب: أن نقول: إن العقلاء ينظرون للأشياء (2) ويميزون بين الأموات والأحياء، فما كل سحاب أبرق وأمطر، ولا كل عود أورق وأثمر (3) ، ولا كل مستدير هلال، ولا كل أخضر حلال، إنما يقتدى بالفقيه العالم المدرس العامل (4) بالكتاب والسنة، العارف بهذه (5)
__________
(1) لأنه جاء تقبيل اليد أحد السجدتين) غير موجودة في (د) .
(2) كذا في (الأصل- ب-) وفي (ج) (الأشياء) وفي (د) (إلى الأشياء) وهو أولى.
(3) وفي (ج) (فما كل سحاب وبرق مطر ولا كل عود وورق ثمر) .
(4) وفي الأصل ب- ج (العالم) وما هو مثبت أظهر كما في (د) .
(5) وفي (د) (العارف بها المتعبد في المجالس) .(67/250)
الآداب في الملبس والمسكن والقوت، المؤثر للعزلة والخمول، الذي يعرض عن الهوى والفضول، ويواظب على الذكر والصلاة، ويكثر الصمت ويقلل الكلام، ويكتفي (1) بما وجد، ويقلل المنام، ويوصي (2) بالمعروف، ويحفظ الحدود (3) ، قليل الطمع، شديد الورع، لا يفرح بالدنيا إذا أقبلت، ولا يحزن عنها (4) إذا أدبرت، همه وهمته في آخرته ظهور حسناته كما يكره ظهور (5) سيئاته، يكره (6) الجاه، ويحب في الله، ويبغض في الله، مشهور في العلم، يستفاد (7) منه كل خير.
وأما من (8) ينتمي إلى طريق العبادة ويدعو الناس إليها ويحب الاجتماع والمبيتات وظهور المنزلة عند الناس وتعظيمه في قلوب الأمراء وشيوخ العامة، ولم يتخذ الأتباع بل هو راغب في أموال الناس والابتداع، ويبغض العلماء ويذكرهم بالسوء وأنهم قطاع طريق الله والدين، فلا يقتدى بهم (9) ، فهو ومن اقتدى به من أهل النار إلا من
__________
(1) وفي (ج) (ويكفي) وهو خطأ.
(2) وفي (ج-د) (ويوفي بالعهود) .
(3) وفي (ج) (ويحافظ عن الحدود) وهو خطأ.
(4) كذا في الأصل - ب ج (ولعل الأولى عليها) ، وفي (د) (ولا يحزن إذا أدبرت) وهو أظهر.
(5) وفي الأصل - ب - ج (المرء) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(6) وفي (ب) (ويكره) .
(7) وفي (ج) (مستفاد) .
(8) وفي (ج) (وأما ما) وهو خطأ.
(9) وفي (الأصل- ج) (به) .(67/251)
تاب عن ذلك وخرج بالظاهر والباطن.
فإن قيل: فإن كان الشيخ ضالا مضلا وهو عالم بضلالته، وأن فعله (1) ذلك ليس سبيل المؤمنين، وإنما فعل ذلك لأجل منفعة دنيوية، فلبس على العوام بذلك فلم لا يكون من أهل النار إلا لعلمه ولاقتحام (2) المحظور ومداهنته واستغراره، وأما العوام الجهال الذين ظنوا أن ذلك هو الحق المبين والصراط المستقيم فلم لا يعذرون؟ فالجواب: أن نقول لو لم يعذب الله إلا الضال المغر (3) ما دخل النار إلا إبليس، لكن الضال والمضل في النار، ألم تسمع قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} (4) {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (5) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (6) وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا} (7) {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} (8) فإن قيل: هذا الطريق مسلوك وعليه خلق كثير فاتبعناه وما أحدثنا نحن شيئا فيكون جميع هؤلاء مع كثرتهم وفيهم علماء وصلحاء وقوام الليل وصوام النهار وحجاج
__________
(1) وفي الأصل- (فعل) وهو خطأ.
(2) وفي (ب- ج) (والاقتحام) وهو خطأ.
(3) ولعل الأولى (المضل) .
(4) سورة الأحزاب الآية 66
(5) سورة الأحزاب الآية 67
(6) سورة الأحزاب الآية 68
(7) سورة فصلت الآية 29
(8) سورة فصلت الآية 29(67/252)
لبيت (1) الله الحرام، وغزاة في سبيل الله وفعال (2) المعروف ووجوه البر، والدنيا عامرة بالفقهاء والسلاطين والخدام (3) والحكام ولم ينهوا (4) عن ذلك لو كان ذلك (5) باطلا.
فالجواب: أن نقول قولك: وجدنا الطريق مسلوكا واتبعناه.
فهذا الجواب قديم أصله من الكفار لما عرض عليهم الإسلام.
قال الله تعالى حكاية عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (6) ، ولا شك أن السنة في البدايع كالإسلام في الأديان، فمن خرج من البدعة إلى السنة وتلقاها بالقبول كمن خرج من الكفر إلى الإسلام: "ومن خرج من السنة إلى البدعة وتلقاها بالقبول كمن خرج من الإسلام إلى الكفر" (7) وأما قولك (8) ما أحدثنا نحن (9) شيئا. فجوابه (10) أنه أحدثه بدعي عدو
__________
(1) وفي ب - ج (بيت)
(2) وفي (ج) (وأفعال) وهو خطأ.
(3) (والخدام) زيادة من (ج) .
(4) وفي (ج) (ولم ينه) وهو خطأ.
(5) وفي الأصل- ب- ج (إن كان باطلا) وما هو مثبت أظهر كما في (د) وكما يظهر من الكلام قبلها.
(6) سورة الزخرف الآية 23
(7) ما بين قوسين زيادة من (ب) .
(8) (قولك) ساقطة من الأصل.
(9) وفي (ج) (ما أحدثنا شيئا نحن) .
(10) وفي الأصل- ج (جوابه) وما هو مثبت أظهر كما في (ب) .(67/253)
لدين الله واتبعته أنت (1) .
وأما (2) الاستدلال بكثرة القوم الضالين فلا يغتر به عاقل؛ لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان والإسلام بأضعاف مضاعفة، ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك - زاد في رواية والخير في يديك- فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال يا رب وما بعث النار؟ قال: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار. . . (5) » الحديث.
وأما قولك: فيهم علماء وصلحاء إلى آخر ما ذكرت.
فجوابه: تقدم. وأما قولك: ولم ينههم الفقهاء ولا السلاطين. فالجواب: أن الفقهاء إذا سئلوا عن هذه العلة لم يجيبوا
__________
(1) (أنت) زيادة من (ب)
(2) وفي (ج) (وأن) وهو خطأ.
(3) رواه البخاري في تفسير سورة الحج باب قوله تعالى: (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) ، وفي الأنبياء باب قصة يأجوج ومأجوج. وفي الرقاق، باب قول الله عز وجل: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) وفي التوحيد باب قول الله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) ، ومسلم برقم 222 في الإيمان باب قوله: '' يقول الله لآدم: أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ''.
(4) ما بين قوسين ساقط من الأصل و (ب) . (3)
(5) وفي الأصل- ب- ج (اختر) والصواب ما هو مثبت كما في (د) وكما في الصحيحين. (4)(67/254)
فيها إلا بالحق كما وصفت لك، ولهم فيها تواليف عدة (1) بالرد والإنكار، والقتل والنفي (2) .
وأما السلطان: فهو مشغول عنهم (3) بدنياه، وبعض السلاطين قد أمروا بقتلهم ونفيهم قبل هذا الزمان.
والبدعة ضلالة قديمة وشجرة تعرقت وتفرعت، وانتشرت في البلاد (4) كما انتشر الكفر فلا تزول إلى يوم القيامة إلا من وفقه الله يقتدي بالسنة وأهلها. وترك السنة أعظم وزرا من كل معصية، لا من الزنى ولا من شرب الخمر ولا من قتل النفس، عصمنا الله وإياكم منها بمنه وكرمه.
قال الفقيه العالم الصالح الزاهد الورع أبو عبد الله محمد الفشتالي رحمه الله تعالى: ضرر هذه المعاصي إنما هو في الفروع التي هي أعمال الجوارح الظاهرة، وضرر هذه البدعة إنما هو في
__________
(1) (عدة) زيادة من (د) .
(2) وفي الأصل (ج) (البغي) والصواب ما هو مثبت كما في (ب) (د) .
(3) وفي (ج) (عليهم) وهو خطأ.
(4) (في البلاد) زيادة من (ب) .(67/255)
الأصول (1) التي هي العقائد الباطنة، إذا انقطع (2) الأصل ذهب الفرع والأصل، وإذا انقطع (3) الفرع وبقي الأصل يرجى أن يحيى الفرع، ولم تبطل بالكلية منفعة الأصل.
تم بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
(1) وفي الأصل - ب - ج (الأقوال) وهو خطأ
(2) وفي الأصل - ب - ج (انقضى) وما هو مثبت أظهر كما في (د)
(3) وفي الأصل ب - ج (انصرف) وفي (ج) (ضر) وما هو مثبت أظهر كما في (د)(67/256)
اهتمام المحدثين ومنهجهم في حفظ السنة النبوية
للدكتور \ عبد العزيز بن أحمد الجاسم (1)
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وبعد:
من خلال قراءتي لبعض المصادر الأولى التي ألفت حول علوم السنة النبوية، تبين لي مدى حرص الرواة وتثبتهم في نقل السنة النبوية، وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن هيأ لهذا الدين أئمة أعلاما يهتدى بهم في الليلة الظلماء، وأدلة إلى الحق أيام الفتن والمحن.
فأردت أن أكتب بحثا أبين فيه مكانة هؤلاء الأئمة الذين أدوا السنة كما سمعوها، وسيتبين لكل منصف أمانة هؤلاء الأعلام، وحرصهم الشديد على سنة نبيهم.
وما يقال: إن السنة النبوية نقلت عن طريق الرواة المعرضين للخطأ والنسيان، فهو مجرد احتمال بعيد، لا يقوم على دليل علمي،
__________
(1) عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود- كلية التربية- قسم الدراسات الإسلامية.(67/257)
وسيظهر لكل منصف- من خلال ما أذكره من أدلة ووقائع من منهج المحدثين- زيف هذه الاحتمالات القائمة على الاحتمالات العقلية التي لا يعرج عليها.
كما سيظهر لنا- إن شاء الله تعالى- جليا من خلال هذا البحث المتواضع مدى عناية واهتمام المحدثين بالسنة.
وسيكون هذا البحث في سبعة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول: السن التي كانوا يخرجون فيها لطلب الحديث.
المبحث الثاني: الصيغة التي يستعملونها لأداء الحديث.
المبحث الثالث: نشرهم للحديث النبوي.
المبحث الرابع: طريقتهم في الأداء والتحديث.
المبحث الخامس: كتابتهم للحديث وعنايتهم بالكتب.
المبحث السادس: رحلتهم في طلب الحديث.
المبحث السابع: تحذيرهم من الصحفي.
الخاتمة: وفيها أهم ما توصلت إليه.(67/258)
المبحث الأول: السن التي كانوا يخرجون فيها لطلب الحديث:
حدد أهل الحديث سنا إذا بلغها الشاب خرج لطلب الحديث وكتابته، أما إذا لم يبلغها فيمنع من الخروج، وذلك من أجل أن يكون هذا الطالب على دراية وإدراك لما يكتب ولما خرج من أجله. فجعلوا من بلغ عشرين عاما حق له طلب الحديث.(67/258)
قال الإمام الرامهرمزي: (على أن طلاب الحديث عصر التابعين كانوا في حدود العشرين، وكذلك يذكر عن أهل الكوفة) (1) (قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب العلم صغارا، حتى يستكملوا عشرين سنة) (2) وهو لم يبلغ سن العشرين لذا لم يكتب عنه.
وليس المراد أن من طلب الحديث قبل هذه السن لا يصح؛ إذ كان أهل البصرة يرسلون أولادهم لطلب الحديث إذا بلغوا عشر سنين، وإنما المراد المبالغة في التأكد من إدراكه، فالصحيح أن من كان يقظا ذكيا جاز له طلب الحديث والعناية به، ولو كان دون العشرين، فهذا سفيان بن عيينة طلب الحديث وعمره خمس عشرة سنة (3) .
أما أداء الحديث بعد تحمله فلا يقبل إلا من كان بالغا (4)
__________
(1) المحدث الفاصل ص 186، وعصر، منصوب بنزع الخافض والتقدير: في عصر.
(2) المحدث الفاصل ص 186
(3) المحدث الفاصل ص 185
(4) المحدث الفاصل ص 185(67/259)
المبحث الثاني: الصيغة التي يستعملونها لأداء الحديث:
قد بلغ حرص هؤلاء الأئمة الأعلام أنهم كانوا أهل دقة في اختيار استعمال الصيغة لأداء الحديث، ملاحظين الكيفية عند تحملهم للحديث.(67/259)
قال الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى: (كان شيخنا أبو بكر البرقاني يقول فيما رواه لنا عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني المعروف بالأبندوني: (سمعت، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، فسألته عن ذلك: فقال: كان الأبندوني عسرا في الرواية جدا، مع ثقته وصلاحه وزهده، وكنت أمضي مع أبي منصور ابن الكرجي إليه، فيدخل أبو منصور عليه، وأجلس أنا بحيث لا يراني الأبندوني، ولا يعلم بحضوري، فيقرأ هو الحديث على أبي منصور، وأنا أسمع، فلهذا أقول فيما أرويه عنه: (سمعت) ولا أقول: (حدثنا ولا أخبرنا) ، فإن قصده كان الرواية لأبي منصور وحده) (1) .
فهذه الواقعة تدل على أمانة هذا الإمام ودقته في اختيار الصيغة التي تدل على الحالة التي تحمل بها الحديث.
قال الإمام الحافظ معتمر بن سليمان البصري المتوفى سنة سبع وثمانين ومائة: (سمعت، أسهل علي من حدثنا وأخبرنا، وحدثني، وأخبرني؛ لأن الرجل قد يسمع ولا يحدث) (2) .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص 287.
(2) الكفاية في علم الرواية ص 288.(67/260)
فمن أجل ضبط تلقي السنة وضع علماء الحديث طرق أنواع التحمل، وجعلوها ثمانية طرق، مبينين أحكامها بالتفصيل (1) .
كما أن من تحمل أحاديث عن طريق النظر في كتاب موثوق به، بينوا أمره، وقالوا بحقه:
روى أحاديث وجادة، أو رواها من صحيفة، ونحو ذلك من العبارات التي تدل على عدم سماع ما يحدث به.
قال سفيان بن عيينة: (حديث أبي سفيان عن جابر، إنما هي صحيفة) (2) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: (حديث سفيان أحاديث إسرائيل عن عبد الأعلى عن ابن الحنفية، قال: كانت من كتاب) (3) . قلت: يعني أنها ليست بسماع.
فمن خلال هذين النصين وغيرهما يتبين لنا أن العلماء قد بينوا وميزوا السماع من غيره، وهذا دليل واضح على أمانتهم واهتمامهم. ومن شدة أمانتهم أن الراوي عندما يسأل عما يحدث به يخبرهم بأن الذي حدث به أخذه من صحيفة.
قال الحسن بن عبيد الله: (ذكرت لإبراهيم شيئا. فقال-
__________
(1) انظر هذه الطرق والكلام عليها في الإلماع للقاضي عياض ص 68 وما بعدها. وهو خير من تناول هذه الطرق
(2) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1 \ 46.
(3) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1 \ 71.(67/261)
أي إبراهيم -: هذا وجدته في صحيفة) (1) .
كما أنهم ميزوا بين السماع والعرض علما أن كليهما من الطرق التي يصح بها التحمل.
قال الإمام أبو عبد الله أحمد رحمه الله: (سمع حجاج الأعور (2) التفسير من ابن جريج بالهاشمية (3) قال حجاج: أحاديث طوال سمعتها منه- أي من ابن جريج - سماعا. . . - والباقي عرضا، وأحاديث أيضا) (4) .
نجد هذا الإمام الثبت قد ميز مروياته عن ابن جريج، علما أنها كلها صحيحة، ولا يضيره شيء ولو لم يميز.
كما أن الراوي إذا حدث بحديث ما، ولم يتحمله بواحد من الطرق المعروفة، فإن الراوي يقول: قال فلان أو عن فلان، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على عدم السماع.
قال الإمام أحمد في ابن وهب: (كان بعض حديثه سماعا، وبعضه عرضا، وبعضه مناولة، وكان ما لم يسمعه يقول: قال حيوة، قال فلان) (5) .
__________
(1) المحدث الفاصل للرامهرمزي ص 212
(2) هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبو محمد ثقة، توفي سنة ست ومائتين، انظر التقريب.
(3) مدينة بناها السفاح قرب الكوفة، انظر معجم البلدان: 5 \ 389.
(4) العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد: 1 \ 259.
(5) الكفاية ص 289.(67/262)
وهكذا كان يفعل الإمام البخاري في معلقاته التي لم يأخذها بواحد من طرق التحمل، يقول: قال فلان، ويذكر عن فلان، ونحو ذلك؛ لأنه أخذها من كتاب.
وهذا أمر جائز لا يضير المحدث، ما دام أنه يستعمل صيغة لا تدل على السماع.
قال الإمام الذهبي - تعليقا على كلام الإمام أحمد كان ابن إسحاق يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه-: (هذا الفعل سائغ، فهذا الصحيح للبخاري فيه تعليق كثير) (1) .
وكذلك بلاغات الإمام مالك في الموطأ فإنه أخذها من كتاب.
قال الإمام أحمد: (كان مالك بن أنس يتلهف على بكير بن الأشج، وكان غاب عن المدينة، ويقولون: إن مرسلات مالك التي يقول: بلغني عن فلان، أخذها من كتب بكير، يقولون عن ابنه) (2) . قلت: إذا قال الراوي: قال فلان، فله ثلاث حالات:
1 - أن يكون القائل غير مدلس فهذا حكمه الاتصال، إلا إن كان هناك دليل بأن تلك الأحاديث أخذها من كتاب، كمعلقات البخاري وبلاغات مالك.
2 - أن يكون القائل معروفا بالتدليس، فهذا حكمه الرد.
3 - أن يكون حاله مجهولا فهل يحمل على الاتصال أم لا؟ (3) كما
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 7 \ 46.
(2) العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 131.
(3) انظر: شرح علل الترمذي: 1 \ 376.(67/263)
أن الراوي لا يقول: سمعت أو حدثنا، وهو لم يحدث أو يسمع؛ لأن من فعل ذلك، وهو لم يحدث ولم يسمع يكون كذابا، وبالتالي يكون مجروحا، وإنما يستعمل صيغة لا تدل على السماع، وإذا وجدنا راويا قد قال: حدثنا وهو لم يحدث، فهذا ليس منه، وإنما جاء من الرواة بعده.
قال محمد بن جابر المحاربي: قال رجل لأبي أسامة الكوفي المتوفى سنة إحدى ومائتين، قل: حدثنا.
فقال: فقدتك (1) والله إن الحق يثقل علي، فكيف أكذب لك) (2) .
وقد كان جماعة من المحدثين لا يسمعون من المحدث، إلا إذا كان يقول: حدثنا أو سمعت.
قال سفيان بن عيينة: (كان عبد الكريم أول من جالسته قبل عمرو بن دينار، فكان كثيرا من حديثه، لا يقول فيه (سمعت) ، يقول: (قال فلان) ففررت منه، وذهبت إلى عمرو بن دينار، فكان يقول: سمعت وحدثنا) (3) .
وقال الإمام شعبة بن الحجاج: (كل حديث ليس فيه، سمعت، فهو خل وبقل) (4) .
__________
(1) أي أفقدك بالموت.
(2) الكفاية ص 290.
(3) العلل ومعرفة الرجال: 12 \ 348
(4) تصحيفات المحدثين: 1 \ 23(67/264)
لكن قد وجد من بعض الرواة الضعفاء المتروكين أنه يستعير كتابا، ثم يحدث به عن شيخ الذي استعار منه الكتاب، كما فعل مطرف بن مازن الصنعاني، المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائة.
قال هشام بن يوسف الصنعاني المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة:
(استعار كتبي على أن ينسخها ويسمعها مني، فنسخها ورواها عن شيوخي ابن جريج وغيره، انظروا في كتبه، فإنها توافق كتبي) (1) فنلاحظ أن العلماء قد بينوا أمر مطرف، وهكذا يبينون كل من سلك سبيله وفعل مثله.
__________
(1) الإرشاد للخليلي: 1 \ 280 وقارن بالميزان:4 \ 126.(67/265)
المبحث الثالث: نشرهم للحديث:
كان أولئك الأئمة لا يحدثون بالحديث كل أحد، بل كانوا يحدثون من كان حافظا لكتاب الله تعالى.
وممن كان يذهب هذا المذهب سليمان بن مهران المعروف بالأعمش والمتوفى سنة سبع وأربعين ومائة.
قال حفص بن غياث الكوفي المتوفى سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة: " أتيت الأعمش، فقلت: حدثني! قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا! قال: اذهب فاحفظ القرآن، ثم هلم أحدثك) .(67/265)
قال: فذهبت فحفظت القرآن، ثم جئته، فاستقرأني، فقرأته، فحدثني (1) .
وقد عقد القاضي عياض بابا خاصا في الأمور التي ينبغي لطالب الحديث أن يتحلى بها قبل سماع الحديث (2) .
وكان يذهب هذا المذهب الإمام عبد الله بن المبارك المتوفى سنة إحدى وثمانين ومائة (3) ، وسعيد بن أبي مريم المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين وغيرهما.
قال عثمان بن سعيد الدارمي السمار: كنا عند سعيد بن أبي مريم بمصر، فأتاه رجل فسأله كتابا ينظر فيه، أو سأله أن يحدثه بأحاديث فامتنع عليه، وسأله رجل آخر في ذلك فأجابه، فقال: فقال له الأول: سألتك فلم تجبني، وسألك هذا فأجبته، وليس هذا حق العلم! أو نحوه من الكلام.
قال: فقال ابن أبي مريم: إن كنت تعرف الشيباني من السيباني، وأبا جمرة من أبي حمزة، وكلاهما عن ابن عباس، حدثناك وخصصناك كما خصصنا هذا) (4) .
__________
(1) المحدث الفاصل: 203.
(2) انظر الإلماع له: ((باب في آداب طالب السماع وما يجب أن يتخلق به)) ص 45.
(3) انظر المحدث الفاصل: ص 203.
(4) المحدث الفاصل: ص 274، وسير أعلام النبلاء:10 \ 329(67/266)
والأمثلة على هذا كثيرة، فهذا دليل واضح أنهم كانوا في الغالب لا يحدثون إلا من كان فطنا حافظا لكتاب الله ملتزما شرع الله تعالى.
كما أنهم كانوا لا يحدثون إلا من كان راغبا في سماع الحديث وتحمله، إلى جانب ما تقدم من بعض الأمور التي ينبغي لطالب الحديث أن يتصف بها، قال الإمام مسروق بن الأجدع المتوفى سنة اثنتين وستين: (لا تنشر بزك إلا عندما يبغيه) (1) .
قال الإمام أحمد: يعني الحديث.
ولا يخفى على أحد أن العلم إذا أعطي للزاهد فيه، فإنه سرعان ما ينساه، وحينئذ سيكون ضرره أكثر من نفعه.
قال أبو قلابة المتوفى سنة أربع ومائة: (لا تحدث بالحديث من لا يعرفه، يضره، ولا ينفعه) (2) .
لذا نجد غير واحد من المحدثين يحذر من أن يعطى هذا الحديث لغير أهله.
قال الإمام ابن شهاب الزهري الفقيه الحافظ المتوفى سنة خمس وعشرين ومائة: إن للحديث آفة ونكدا وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله) (3) .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال: 1 \ 92.
(2) المحدث الفاصل: ص 571
(3) المحدث الفاصل. وانظر لسان العرب: 13 \ 434 مادة: هجن.(67/267)
والمراد بقوله: (وهجنه) أي تقبيحه.
وقال الأعمش: (آفة الحديث النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله) (1) .
وقال أيضا: (انظروا إلى هذه الدنانير، لا تلقوها على الكنايس) (2) يعني الحديث.
ومن شدة حرصهم وعنايتهم بالسنة النبوية أنهم كانوا يطلبون إعادة الحديث من المحدث لكي يحفظه.
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة: (لقيت ابن شهاب يوما في موضع الجنائز، وهو على بغلة له، فسألته عن حديث فيه طول، فحدثني به. قال: فأخذت بلجام بغلته، فلم أحفظه، قلت: يا أبا بكر، أعده علي، فأبى. فقلت: أما كنت تحب أن يعاد عليك الحديث، فأعاده علي) (3) .
فنجد الإمام مالكا رحمه الله يصر على الإمام الحافظ الزهري؛ ليحدثه الحديث ثانية، لكي يتمكن من حفظه، مما يدل على حرص هؤلاء الأئمة على حفظ السنة وأدائها من غير زيادة أو نقصان. فمن المعروف أن الأحاديث الطوال لا يستطيع الراوي أن يحفظها من
__________
(1) المحدث الفاصل: ص 572
(2) المحدث الفاصل ص 573.
(3) العلل ومعرفة الرجال 1 \ 261(67/268)
أول مرة، لذلك كان المحدث يجد صعوبة ومشقة في حفظها.
قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل سليمان بن المغيرة - المتوفى سنة خمس وستين ومائة-: (كيف سمعت هذه الأحاديث الطوال) ؟ . قال: كنت أخوض فيها الرداغ) .
قال الإمام أحمد: (هذه الأحاديث الطوال إنما كان سليمان بن المغيرة يحفظها، ولم تكن عنده في كتاب) (1) .
وكان بعض المحدثين إذا كان الحديث طويلا ولم يمكنه أن يحفظه في مجلس واحد قسمه إلى مجلسين، ليتمكن من حفظه.
قال مطرف: (كان قتادة إذا سمع الحديث يختطفه اختطافا. . . إلى أن قال: وإن كان الحديث طويلا، بحيث لا يمكن حفظه في مجلس واحد حفظ نصفه، ثم عاد في مجلس آخر فحفظ بقيته) (2) .
وهكذا كان تلاميذ قتادة ينهجون هذا المنهج.
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 311
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1 \ 235.(67/269)
المبحث الرابع: طريقتهم في التحديث:
من الأساليب التي كانوا يتبعونها للحفاظ على السنة النبوية(67/269)
أنهم كانوا إذا حدثوا أحدا حدثوا بالعدد القليل من أجل أن يكون التلميذ أقدر على حفظ الحديث بحروفه؛ لأن العدد القليل، كما هو معروف، يسهل على الإنسان حفظه، كما أن المحدث عندما يحدث بالقليل يكون التلميذ في شوق إلى المزيد.
قال شعبة: (كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين، فيحدثني، ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا! حتى أحفظهما وأتقنهما) (1) وقال أبو بكر بن عياش: (كان الأعمش إذا حدث بثلاثة أحاديث قال: قد جاءكم السيل. قال أبو بكر: وأنا اليوم مثل الأعمش) (2) .
وكان يسير على هذا المنهج الإمام الثقة أبو قلابة البصري، المتوفى سنة أربع ومائة، والإمام الحجة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي البصري، المتوفى سنة سبع وعشرين ومائتين (3) .
قال الحسن بن المثنى: (كان أبو الوليد يحدثنا بثلاثة أحاديث إذا صرنا إليه، لا يزيدنا على ثلاثة أحاديث) (4) .
وقد حذر غير واحد من أهل العلم من أخذ العلم جملة؛ لأنه سرعان ما ينسى.
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1 \ 232.
(2) المحدث الفاصل: ص 583.
(3) المحدث الفاصل: ص 583.
(4) المحدث الفاصل: ص 583.(67/270)
قال الإمام الزهري:
(من طلب العلم جملة، فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان) (1) .
وقد وصلت الأمانة عندهم منزلة لا يصل إليها إلا من كان مثلهم في التقى والورع، إذ كان أحدهم إذا شك في حديث ما من مجموعة أحاديث مكتوبة في صحيفته، ولم يتبين له الحديث الذي شك فيه، فإنه في هذه الحالة يترك جميع ما رواه عن ذلك الشيخ في تلك الصحيفة.
وقد سلك هذا المنهج غير واحد من المحدثين، فمن ذلك:
الإمام الثقة الحجة الخبير في الرجال والحديث عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد البصري المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة.
قال رحمه الله: (وجدت في كتبي بخط يدي عن شعبة ما لم أعرفه وطرحته) (2) .
وقال أيضا: (خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث) (3) أي لا بد من الجزم فيهما.
وقال الإمام يحيى بن معين المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين:
__________
(1) الجامع- لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1 \ 232.
(2) الكفاية ص 233
(3) الكفاية ص 233.(67/271)
(من لم يكن سمحا في الحديث كان كذابا. قيل له: وكيف يكون سمحا؟ قال: إذا شك في حديث ما تركه) (1) .
وكان الإمام مالك ممن يتبع هذا المنهج.
قال الإمام الشافعي: (كان مالك إذا شك في شيء من الحديث تركه كله) (2) .
قال الإمام المتقن أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري المتوفى سنة ستين ومائة: (وجدت مذ ثلاثة أيام في كتاب عندي عن منصور عن مجاهد قال: لم يحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم. قال: ما أدري كيف كتبته، ولا أذكر أني سمعته) (3) .
وهذا الإمام الحافظ علي بن الحسن الشقيقي المروزي، المتوفى سنة خمس عشرة ومائتين، يترك أحاديث كتاب الصلاة كلها من أجل حديث واحد.
قال الحسين بن حريث المروزي: سألت علي بن الحسن الشقيقي هل سمعت كتاب الصلاة عن أبي حمزة؟ (4) .
__________
(1) الكفاية ص 233.
(2) الكفاية ص 234، وترجمة الشافعى 199
(3) الكفاية ص 233
(4) هو محمد بن ميمون المروزي أبو حمزة السكري ثقة فاضل، مات سنة سبع وستين أو ثمان وستين ومائة.(67/272)
قال: الكتاب كله إلا أنه نهق الحمار يوما فخفي علي حديث أو بعض حديث، ثم نسيت أي حديث كان من الكتاب، فتركت الكتاب كله (1) .
بل توصل الأمر لدى بعضهم أنه إذا شك في كلمة من الحديث ترك الحديث كله، والبعض الآخر كان يقول: كذا أو كذا، إشارة إلى تردده.
فهذه الدقة وهذه الأمانة لا نجدها عند أحد إلا عند علماء هذه الأمة وخاصة محدثيها.
قال يحيى بن سعيد القطان: (الأمانة في الذهب والفضة أيسر من الأمانة في الحديث إنما هي تأدية، إنما هي أمانة) (2) .
قال الحافظ الخطيب: (إذا شك في حديث واحد بعينه أنه سمعه وجب عليه اطراحه، وجاز له رواية ما في الكتاب سواه، وإن كان الحديث الذي شك فيه لا يعرفه بعينه لم يجز له التحديث بشيء مما في ذلك الكتاب) (3) .
فأي أمانة بلغها هؤلاء الأئمة الذين فاقوا ما يتصوره العقل البشري، فرحمة الله عليهم ورضي عنهم، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
__________
(1) الكفاية ص 234.
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2 \ 202.
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2 \ 202.(67/273)
المبحث الخامس: كتابتهم للحديث وعنايتهم بالصحف:
فهم إلى جانب الحفظ والعناية الفائقة بما تحملوه، كان أكثرهم يكتب الحديث في صحف، لكي تكون تلك الصحيفة المرجع الذي يرجع إليها المحدث، إن شك في حرف أو اختلف في لفظ مع الرواة الآخرين.
فهذا وكيع بن الجراح يخالف عبد الرحمن بن مهدي، وكلاهما إمام حافظ حجة، لكن العلماء قدموا ابن مهدي على وكيع، إن اختلف معه؛ لأن ابن مهدي أقرب عهدا بالكتاب.
قال وكيع عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال: سمعت مسلمة بن مخلد قال: (ولدت مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ومات وأنا ابن عشرة) (1) .
وقال ابن مهدي عن موسى بن علي عن أبيه عن مسلمة أنه قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن أربع سنين، ومات وأنا ابن أربع عشرة) (2) .
فقدمت رواية ابن مهدي على رواية وكيع للسبب المتقدم.
__________
(1) المحدث الفاصل: ص 192، وقارن بالكفاية ص 57.
(2) المحدث الفاصل: ص 192، وقارن بالكفاية ص 57.(67/274)
قال الإمام أحمد: (إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن، فعبد الرحمن أثبت؛ لأنه أقرب عهدا بالكتاب) .
وهذا الإمام يحيى بن معين يبحث عن حديث من رواية إسحاق الأزرق، في كتب إسحاق فلم يجده، فمن أجل ذلك أنكره.
قال ابن أبي حاتم قلت لأبي: (فما بال يحيى نظر في كتاب إسحاق فلم يجده؟) قال: (كيف! أنظر في كتبه كلها؟ إنما نظر في بعض، وربما كان في موضع آخر) (1) .
فيلاحظ من هذه الحادثة وغيرها أن الكتاب كان حكما بين المحدثين في الحديث الذي اختلفوا فيه.
قال الإمام عبد الله بن المبارك: (إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم فيما بينهم) (2) .
لذلك إذا كان الكتاب صحيحا يوصون به ويكونون حريصين على الكتابة منه.
قال الإمام الأوزاعي: (عليكم بكتب الوليد بن مزيد فإنها صحيحة) (3) .
قال علي بن المديني: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن يونس
__________
(1) العلل لابن أبي حاتم: 1 \ 137.
(2) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1 \ 271.
(3) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1 \ 205(67/275)
الأيلي قال: (كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيح) .
قال عبد الرحمن - أي ابن مهدي -: وأنا أقول كتابه صحيح (1) .
وهناك نصوص كثيرة تبين أن الكتاب هو الحكم بين المحدثين - كما قلت- إذا اختلفوا.
روى الخطيب بسنده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا حجاج بن محمد الترمذي عن ابن جريج قال: أخبرني أبو جعفر محمد بن علي «أن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات حمل إلى قبره على منسج الفرس» .
قال الإمام أحمد: (كان يحيى وعبد الرحمن أنكراه عليه- أي على حجاج - فأخرج إلينا كتابه الأصل، قرطاس. فقال: ها أخبرني محمد بن علي) .
قال الحافظ الخطيب - معلقا على ما تقدم-:
(كان إخراج حجاج أصل كتابه حجة له على يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وزالت العهود عنه فيما أنكراه عليه.
وكذلك يلزم كل من روى من حفظه ما خولف فيه، وأنكر عليه أن يفعل إذا كان قادرا على الأصل، أو يمسك عن الرواية إذا تعذر ذلك عليه) (2) .
__________
(1) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1 \ 272.
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2 \ 38.(67/276)
فكتابتهم للحديث في صحف، وحفظهم لهذه السنة لدليل واضح منهم على العناية بالسنة واهتمامهم بها، وأدائها كما سمعوها. وقد كانوا على قسمين في كتابة الحديث، فمنهم من يحفظ أولا ثم يكتب ما حفظه في صحيفة، لكي يرجع إليها عند الشك. ومنهم من قد كان يكتب أولا ثم يحفظه وبعد ما يحفظه، إما أن يمحو ما كتب، وإما أن يتركه لكي تكون وثيقة لمروياته، والشواهد على ذلك كثيرة، وسأكتفي ببعض الأمثلة.
قال طاوس: (كنت أنا وسعيد بن جبير عند ابن عباس يحدثنا، ويكتب سعيد بن جبير) (1) .
قال منصور بن المعتمر الكوفي قلت لإبراهيم النخعي: (سالم ابن أبي الجعد أتم حديثا منك!) قال: (إن سالما كان يكتب) (2) .
والمراد من قوله: (أتم) أي يروي الحديث كاملا تاما بخلاف إبراهيم فقد يرويه أحيانا ناقصا؛ لأنه يروي من حفظه، فربما ينسى الحرف والكلمة.
وكانوا يصفون من يحدث من كتاب، صاحب كتاب (3) وإذا كان الراوي سيء الحفظ فلا يتحملون منه إلا إن حدث من كتابه، وذلك ليأمنوا خطأه (4) .
__________
(1) المحدث الفاصل ص 374.
(2) المحدث الفاصل ص 374.
(3) انظر سير أعلام النبلاء: 7 \ 356 و 358، 407.
(4) انظر العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 351.(67/277)
وأستطيع أن أجزم، من خلال قراءتي لكثير من تراجم المحدثين، أن معظم المحدثين المتقدمين كانوا يكتبون الحديث في صحف.
إلى أن جاء أمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بكتابة السنة، وتدوينها.
قال الحافظ ابن حجر: (وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد) (1) .
ولا يفهم من هذا أن العلماء كانوا لا يكتبون، بل كان أكثرهم يكتب ما يسمع من غير ترتيب، لكن عندما جاء أمر عمر أخذ الصفة الرسمية، وأخذ التدوين أشكالا متعددة.
والدليل على ذلك أننا إذا قرأنا تراجم السلف قبل أن يأتي عمر بن عبد العزيز لوجدنا العبارات الكثيرة التي تثبت أنهم كانوا يكتبون ما يحفظونه في صحف حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) فتح الباري: 1 \ 208.(67/278)
كان الإمام الثقة محمد بن سيرين البصري المتوفى سنة عشر ومائة: لا يرى بكتابة الحديث بأسا، فإذا حفظه محاه (1) .
وكان يفعل مثله غير واحد من العلماء كعاصم بن ضمرة وغيره (2) .
أما الذين كانوا يحفظون أولا ثم يكتبون، فمنهم:
الإمام سليمان بن مهران المعروف بالأعمش؛ إذ كان يسمع من أبي إسحاق، ثم يجيء، فيكتبه في منزله (3) .
قال هشيم: ما كتبت حديثا قط في مجلس كنت أسمعه، ثم أجيئ إلى البيت فأكتبه (4) .
وكان يفعل مثله غير واحد من العلماء (5) وعندما كان عمر بن عبد العزيز واليا على المدينة قبل استلامه الخلافة: (كتب عمر إلى أبي بكر بن محمد أن اكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث
__________
(1) المحدث الفاصل: ص 382.
(2) المحدث الفاصل: ص 382.
(3) المحدث الفاصل: ص 384.
(4) المحدث الفاصل: 385.
(5) المحدث الفاصل: 385.(67/279)
عمرة) (1) .
قال الحافظ الرامهزي: (والحديث لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة، والمدارسة، والتعهد، والتحفظ، والمذاكرة، والسؤال، والفحص عن الناقلين، والتفقه بما نقلوه) (2) .
أما الذين كانوا يمحون بعد الحفظ، أو يحرقون كتبهم قبل الموت، فلعدة أسباب:
1 - منها أنهم يفعلون ذلك لكي لا يعتمدون على الكتاب، بل يعتمدون على الذاكرة والتعهد المستمر للحفظ.
2 - ومنها أنهم كانوا يخشون أن تقع كتبهم بعد موتهم في أيد غير أمينة، فيزاد فيها أو ينقص.
قال سعد بن شعبة بن الحجاج: (أوصى أبي إذا مات أن أغسل كتبه، فغسلتها) (3) .
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: (هذا فعله غير واحد، بالغسل، وبالحرق، وبالدفن، خوفا من أن تقع في يد إنسان واه، يزيد فيها أو يغيرها) (4) .
كما أن كثيرا من المحدثين كان يحدث من كتابه لكي لا يقع
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال:1 \ 49
(2) المحدث الفاصل: ص 385.
(3) سير أعلام النبلاء: 7 \ 213 و 11 \ 376، 396.
(4) سير أعلام النبلاء: 7 \ 213 و 11 \ 376، 396.(67/280)
في غلط أو خطأ.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: (كتب إلي ابن خلاد قال: حدثني يحيى وذكر سفيان وشعبة، فقال: سفيان أقل سقطا؛ لأنه يرجع إلى كتاب) (1) .
قال الإمام الذهبي: (الورع أن المحدث لا يحدث إلا من كتاب، كما كان يفعل ويوصي به إمام المحدثين أحمد بن حنبل رضي الله عنه) (2) .
وكان أيضا على مذهب الإمام أحمد علي بن المديني قال رحمه الله: (ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة) (3) .
قال الحافظ الخطيب: (الاحتياط للمحدث والأولى به أن يروي من كتابه، ليسلم من الوهم والغلط، ويكون جديرا بالبعد من الزلل) (4) وهذه الصحف أو الكتب كانوا يحافظون عليها محافظة لا نظير لها، حتى أنهم لا يعيرونها لأحد.
قال الإمام أحمد: (قال أبو قطن - وكان ثبتا- ما أعرت كتابي أحدا قط) (5) .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال:2 \ 224
(2) السير: 9 \ 383، وانظر مقدمة الجرح والتعديل: 1 \ 295.
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2 \ 12.
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2 \ 10.
(5) العلل ومعرفة الرجال: 1 \ 137.(67/281)
وكان وكيع بن الجراح ينهى عن استعارة الكتب.
قال الإمام أحمد سمعت وكيعا يقول: (نهيت أبا أسامة الكوفي أن يستعير كتب الناس) (1) .
قال علي بن قادم سمعت سفيان يقول: (لا تعر أحدا كتابا) (2) .
وذلك خشية أن يغير الكتاب من زيادة أو نقصان.
قال الحافظ الخطيب: (والذي عندي في هذا- يشير إلى إعارة الكتب- أنه من غاب كتابه ثم عاد إليه، ولم ير فيه أثر تغيير حادث من زيادة أو نقصان أو تبديل، وسكنت نفسه إلى سلامته جاز له أن يروي منه) (3) .
قال حمزة الزيات المتوفى سنة ست أو ثمان وخمسين ومائة: يقال لا تأمن قارئا على صحيفة، ولا أعرابيا على جمل (4) .
وكانت هذه الكتب تجد اهتماما لدى العلماء، إذ كانوا يصفون الكتاب بالصحة أو بغيرها.
قال الخليلي - بحق عبيد الله بن أبي زياد الرصافي -: (صحيح الكتاب، غير أن نسخته ليست مشهورة) (5) .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال: 1 \ 275.
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 24411.
(3) الكفاية ص236.
(4) العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 201
(5) الإرشاد للخليلي: 1 \ 200.(67/282)
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: (كتب إلي ابن خلاد قال سمعت يحيى - هو ابن سعيد القطان - يقول: كنا نسمي كتب ابن جريج كتب الأمانة) (1) .
قلت: لضبطها وإتقانها.
ومن كان عنده كتاب ثم تصيبه آفة، كالحرق، أو الضياع، أو يزاد فيه من قبل آخرين، ثم يحدث منه صاحبه، فإن أهل الحديث يجرحونه، ويردون حديثه، كما صنعوا في ابن لهيعة وغيره (2) .
وهذا أبو بكر القطيعي عندما غرقت كتبه جرحه العلماء.
قال الحافظ الخطيب: (كان بعض كتبه غرق فاستحدث نسخها من كتاب لم يكن فيه سماعه، فغمزه الناس، إلا أنا لم نر أحدا امتنع من الرواية عنه، ولا ترك الاحتجاج به) (3) .
ثم قال: (له في بعض المسند- يريد مسند الإمام أحمد - أصول فيها نظر، ذكر أنه كتبها بعد الغرق) .
ومن الأدلة الواضحة على دقتهم أنهم كانوا لا يكتفون بالكتابة بل لا بد من المقابلة.
قال هشام بن عروة قال لي أبي: (أكتبت؟ قلت: نعم!
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 225.
(2) انظر التقريب ص319 ترجمة 3563.
(3) تاريخ بغداد:4 \ 73-74(67/283)
قال: عارضت؟ قلت: لا! قال: لم تكتب شيئا) (1) .
وهكذا كان غير واحد من المحدثين يتبع هذا المنهج (2) .
ومن حدث بما كتب عن الشيخ ولم يعارضه ويقابله بالأصل، جاز له أن يروي لكن بشرط أن يبين أنه لم يعارض، كما أفتى بذلك أبو بكر الإسماعيلي (3) .
قال الحافظ الخطيب: (وهذا مذهب أبي بكر البرقاني، فإنه روى لنا أحاديث كثيرة، وقال فيها: أنا فلان- أي أخبرنا فلان- ولم يعارض بالأصل) (4) .
فهذه الدقة المتناهية، وهذا التحري العجيب لا نظير له، كل ذلك من أجل المحافظة على السنة النبوية.
كما أنهم كانوا يهتمون بضبط الكلمة وتنقيطها، حتى لا يقع فيها تصحيف، وذكروا أن الراوي الذي يعتني بالتشكيل والتنقيط لدليل على دقته وصحة كتابه.
وقد حث غير واحد من أهل الحديث على التنقيط والضبط.
__________
(1) المحدث الفاصل ص 544.
(2) انظر الكفاية ص 237 وما بعدها.
(3) انظر الكفاية ص 239.
(4) انظر الكفاية ص 239.(67/284)
قال حماد بن سلمة لأصحاب الحديث: (ويحكم! غيروا، يعني قيدوا واضبطوا) (1) .
حتى أن العلماء جعلوا الكتاب الذي فيه تغيير وإلحاق وإصلاح علامة الصحة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح، فاشهد له بالصحة) (2) .
وقد كان أصحاب الحديث على قسمين:
منهم من يشكل جميع الكلام.
ومنهم من يشكل الذي يحتاج إلى شكل.
قال الرامهرمزي: (قال أصحابنا أما النقط فلا بد منه؛ لأنك لا تضبط الأسامي المشكلة إلا به،. . . وقالوا: إنما يشكل ما يشكل، ولا حاجة إلى الشكل مع عدم الإشكال) .
وقال آخرون: (الأولى أن يشكل الجميع، وكان عفان وحيان من أهل الشكل والتقييد) (3) .
ومن أجل أهمية الضبط نرى المحدثين إذا شك أحدهم في كلمة يسأل عنها أهل العربية.
__________
(1) الكفاية ص 242.
(2) الكفاية ص 242.
(3) المحدث الفاصل: ص 608.(67/285)
قال عبد الله بن المبارك: (إذا سمعتم عني الحديث فاعرضوه على أصحاب العربية، ثم أحكموه) (1) .
سأل الإمام أحمد رجل، فقال: يا أبا عبد الله! الرجل يكتب الحرف من الحديث، لا يدري أي شيء هو إلا أنه قد كتبه صحيحا، يريه إنسانا فيخبره؟ فقال: (لا بأس به) (2) .
لذلك قال غير واحد من المحدثين: إن المحدث إذا شك في حرف سأل أهل النحو، ومن الأمثلة على ذلك:
قال الأصمعي - عبد الملك بن قريب - المتوفى سنة ست عشرة ومائتين: (كنت في مجلس شعبة، فقال: - أي شعبة- فيسمعون جرش طير الجنة) .
فقلت: جرس الطير، إذا سمعت صوت منقاره على شيء يأكله، وسميت النحل جوارس من هذا؛ لأنها تجرس الشجر، أي تأكل منه.
والجرس: الصوت الخفي، واشتقاق الجرس من الصوت والحس (3) .
فيلاحظ من هذه الحادثة أن شعبة أخطأ في حرف، فيصحح له
__________
(1) الكفاية ص255.
(2) الكفاية 256، وتصحيفات المحدثين: 1 \ 1 \ 32 وما بعدها.
(3) الكفاية 256، وتصحيفات المحدثين: 1 \ 1 \ 32 وما بعدها.(67/286)
الخطأ إمام أهل اللغة في زمانه، بأن الكلمة هي (جرس) بالسين المهملة، وليست بالشين المعجمة، وسرعان ما يرجع شعبة إلى قوله. قال الحافظ الخطيب: - بعد أن ذكر حديث جابر مرفوعا: (إذا أرفت الحدود فلا شفعة) .
قال: قال لي القاضي أبو الطيب الطبري: سمعت أبا محمد البارقي يقول: (ذكر لنا الداركي هذا الحديث في تدريسه في كتابه الشفعة، فقال: إذا أزفت الحدود) .
فسألت عثمان بن جني النحوي المتوفى سنة اثنين وتسعين وثلاث مائة عن هذه الكلمة، فلم يعرفها، ولا وقف على صحتها.
فسألت المعافى بن زكريا النهرواني المتوفى سنة تسعين وثلاث مائة عن هذا الحديث وذكرت له طرقه، فلم أستتم المسألة حتى قال: (إذا أرفت الحدود) والأرف: المعالم، يريد: إذا بينت الحدود وعينت المعالم، ميزت فلا شفعة.
فهذه الواقعة تدل على مدى اهتمام المحدثين بدراية الحديث، وتحديد المطلوب، وتدل أيضا على أمانة أهل اللغة؛ إذ لم يتكلم فيها إمام أهل اللغة في زمانه ابن جني رحمه الله تعالى.(67/287)
قال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان أبو حاتم السجستاني النحوي، البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين: كان عفان ابن مسلم يجيء إلى الأخفش وإلى أصحاب النحو، يعرض عليهم الحديث يعربه.
فقال له الأخفش: عليك هذا- يعنيني- وكان بعد ذلك يجيء إلي حتى عرض علي حديثا كثيرا (1) .
__________
(1) الكفاية ص 255.(67/288)
المبحث السادس: رحلتهم في طلب الحديث:
أما رحلتهم في طلب الحديث من بلد إلى آخر فأمر مشهور ومعروف لدى العامة والخاصة؛ إذ كانوا يقطعون المسافات الطويلة المحفوفة بالمخاطر من أجل رواية الحديث (1) .
حتى أنهم كانوا يذهبون إلى الحج من أجل أن يجتمعوا بالمحدثين القادمين من شتى الأمصار.
قال أيوب السختياني: (كانوا يحجون للقي) (2) .
فمن الأسباب الداعية لهم للرحلة في طلب الحديث اجتماعهم ولقاؤهم بالمشهورين من أهل العلم بالحفظ والإتقان؛ لأن الحديث لا يقبل إلا ممن كان إماما ثقة.
__________
(1) انظر المحدث الفاصل ص 223، ما بعدها و 229 وما بعدها.
(2) العلل ومعرفة الرجال: 1 \ 369.(67/288)
قال الإمام سفيان الثوري المتوفى سنة إحدى وستين ومائة: (خذ الحلال والحرام من المشهورين في العلم، وما سوى ذلك فمن المشيخة) (1) .
أما عنايتهم بالإسناد فأمر مشهور، وجعلوا كل حديث لا سند له لا قيمة له.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه المتوفى سنة أربع ومائتين: (مثل الذي يطلب العلم بلا إسناد مثل حاطب ليل، لعل فيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري) (2) .
وقال محمد بن سيرين: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) (3) .
قال الإمام الزهري لإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني المتروك: (يا إسحاق تجيء بأحاديث ليست لها أزمة، ولا خطام! إذا حدثت فأسند) (4) .
أما الأحاديث التي لا تتعلق بالحلال والحرام أو العقائد فإنهم يتساهلون في روايتها عن المشايخ والضعفاء، حتى أصبح عرفا بينهم. قال عبد الله: سئل أبي عن يحيى بن عبيد الله، فقال: منكر
__________
(1) المحدث الفاصل: ص 456.
(2) الإرشاد: 1 \ 145
(3) مقدمة صحيح مسلم:1 \ 14
(4) الإرشاد:1 \ 194(67/289)
الحديث، يسأل يحيى بن سعيد يوما عنه قال: من يحدث عنه؟ قيل لأبي: ابن المبارك روى عنه! فقال- أي الإمام أحمد -: في الرقائق، يعني الزهد (1) .
وقال أيضا أبو عبد الله: (إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكما ولا يرفعه، تساهلنا في الأسانيد) .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 133(67/290)
المبحث السابع: تحذيرهم من الصحفي:
من الأساليب التي اتبعها المحدثون للمحافظة على السنة النبوية تحذيرهم من الصحفي.
والصحفي: (هو- كما قال الخليل بن أحمد - الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الحروف) (1) .
وسبب تحذيرهم من هذا الصنف أن من أخذ العلم من الصحف من غير أن يأخذه من أفواه العلماء، فإنه في الغالب يقع في التصحيف والتغيير.
__________
(1) تصحيفات المحدثين لأبي أحمد العسكري:1 \ 1 \ 24(67/290)
قال شعبة: قال لي أيوب: (لا ترو عن خلاس بن عمرو فإنه صحفي) (1) .
وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي المتوفى سنة سبع وستين ومائة: (كان يقال: لا تحملوا العلم عن صحفي، ولا تأخذوا القرآن من مصحفي) .
ولم يكتف العلماء بذلك بل بينوا كل من روى عن صحيفة أو كتاب، وكثيرا من الرواة إذا حدث من صحيفة يقول: وجدت كذا في كتاب كذا.
كما كان يفعل عبد الله ابن الإمام أحمد وغيره فإنه يقول: وجدت في كتاب أبي (2) .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال: 1 \ 141
(2) انظر العلل ومعرفة الرجال: 2 \ 193و 1 \ 244(67/291)
الخاتمة:
1 - اهتمام علماء المسلمين في السنة النبوية تحملا وأداء ونشرا لها.
2 - وجود صحف كثيرة يكتب فيها الحديث في وقت مبكر، قبل الأمر بتدوين السنة.
3 - كانت السنة النبوية تؤخذ عن طريق التلقي من الشيوخ، وإذا أخذ شيئا منها، فإن الراوي يغاير في صيغ الأداء.(67/291)
4 - بعد الاحتمالات الواردة في وقوع الخطاء من الرواة، كما لاحظنا من مناهجهم التي اتبعوها.
وصلى الله على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه والمقتدين بسنته الذابين عنها الباطل إلى يوم الدين.(67/292)
الاعتداد بخلاف الظاهرية
في الفروع الفقهية
"دراسة تأصيلية"
للدكتور \ عبد السلام بن محمد الشويعر (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. . أما بعد فإن مسألة (الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية) من المسائل التي يحتاجها الفقيه وتعرض له، خصوصا عند نظره في الخلاف العالي بين المذاهب الفقهية، فكثيرا ما يتوقف الناظر عند بعض المسائل الفقهية التي انفرد بها الظاهرية عن جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة، وذلك بسبب اختلاف أصول هذا المذهب عن البقية باعتماده على ظواهر النصوص وعدم عمله بالقياس، إضافة لما في شخصية بعض المنتسبين إليه من التميز سواء في سلاسة العبارة وقوة الحجة، أو شدة التعبير على المخالفين حتى قورن أحيانا بسيف الحجاج شدة وبطشا، مما يجعل البعض يتوقف عند هذا المذهب وأصحابه وقفة إعجاب أحيانا، أو حنق أحيانا أخرى،
__________
(1) عضو هيئة التدريس في كلية الملك فهد الأمنية قسم العلوم الشرعية.(67/293)
أو توسطا بين ذلك توقف نظر وتأمل. فلذلك عمد بعض الباحثين لهذه المفردات فجمعها، واعتنى بدراستها لكن من الناحية الفقهية فقط.
ولما لم أقف على من أفرد النظر في هذه المفردات من ناحية تأصيلية، من حيث اعتمادها والاعتداد بها مع ما يراه المطالع لكتب كثير من الفقهاء- مع جلالة قدرهم- عندما يحكون خلافا شاذا للظاهرية يتبعونه بعبارة مؤداها (أن خلاف الظاهرية غير معتبر) مع اختلاف في البناء والصياغة لهذا المعنى؛ ففي حين يكتفي البعض بهذا الرد عن مقارعتهم بالحجة والبرهان، يزيد آخرون ببعض الأوصاف والنعوت الغريبة لهذا المذهب الفقهي، حتى صارت هذه طريقة للبعض لرد خلاف الظاهرية دون النظر في دليلهم وتعليلهم، بل وصمها بعض العلماء بأنها: (طريقة القاصرين، إذا أعيتهم الأدلة ادعوه على منازعهم، ولا يليق ذلك بأئمة التحقيق) (1) .
فأردت البحث في هذه المسألة، وهل هي مسألة مسلمة بين الفقهاء، أم هي من مواضع النزاع بينهم؟ وزاد عزمي ما سبق
__________
(1) ما بين القوسين من كلام الصنعاني في (العدة 1 \ 140) .(67/294)
بيانه من عدم وقوفي على من أفرد بحثها، مع أهميتها.
فجمعت شتات هذه المسألة من غير مظانها، من بطون الكتب (1) ، وخبايا الزوايا بحسب المستطاع، فإن هذه المسألة اشترك في بحثها شراح الأحاديث، وعلماء الفقه عند ذكرهم لخلافات الظاهرية في الفروع الفقهية- وذكرها علماء الأصول- في مباحث الإجماع، والقياس، والاجتهاد والتقليد، وغيرها من المباحث، بل وكان للمؤرخين نصيب في ذكر هذه المسألة- كما سيأتي-. فسطرت هذا البحث جمعا للمتفرق، وتوليفا لهذا الشتات، سائلا الله تعالى التوفيق والسداد.
وجعلته في أربعة مباحث:
الأول: تحرير محل النزاع في المسألة.
الثاني: سبب الخلاف في المسألة.
الثالث: خلاف أهل العلم في المسألة، وأدلتهم، والترجيح.
الرابع: أمثلة تطبيقية لخلاف الظاهرية.
__________
(1) كان مجموع ما رجعت إليه من الكتب ونقلت عنه في هذه الوريقات ما ينيف على تسعين مرجعا.(67/295)
المبحث الأول: تحرير محل النزاع في المسألة؛ (مشكلة البحث) :
المقصود بهذا البحث خلاف الظاهرية في المسائل الفقهية الفرعية، دون غيرها من المباحث، كخلافهم في بعض المباحث(67/295)
الأصولية، أو خلاف بعضهم في بعض المباحث العقدية.
والمسائل الفرعية التي يبدي فيها الظاهرية رأيهم الفقهي لا تخلو من ثلاث حالات:
1 - أن يكون رأي الظاهرية موافقا لرأي المذاهب الفقهية الأربعة، أو أحدها. فهنا لا خلاف في اعتبار رأيهم؛ لأنهم مسبوقون إليه.
2 - أن يكون من مفرداتهم عن المذاهب الأربعة، ولم يوافقهم عليه أحد من الأئمة الأربعة، ولا هو قول عند أصحابهم، لكن قال به أحد العلماء المعتبرين من الصحابة، أو التابعين، فمن بعدهم.
فهذه مسألة خارجة عن محل البحث؛ لأنها داخلة في مسألة حكم تقليد الميت، وما إذا كان هناك خلاف في مسألة على قولين، ثم حدث إجماع على أحدهما، فهل يكون هذا الإجماع رافعا للنزاع، أم لا؟ ، وفيهما نزاع مشهور.
3 - أن يغرب فقهاء الظاهرية باختيار قول لم يسبقهم إليه أحد من علماء المسلمين المعتبرين، سواء كان العلماء مجمعين على خلافه، أو لهم أقوال سوى قول الظاهرية، فهل يعتد بهذا القول، أم لا؟(67/296)
فهذا هو محل النزاع، وهي الحالة التي يراد بحثها في هذا المبحث، وما عداها لا يخلو من أحد الأقسام الماضية، وهي خارجة عن محل البحث.(67/297)
المبحث الثاني: سبب الخلاف في المسألة:
سبب خلاف العلماء في الاعتداد بخلاف الظاهرية فيما أغربوا فيه، هو أن من أعظم أصول الظاهرية التي شذوا بها عن باقي العلماء إنكار القياس، وعدم العمل به.
وقد نقل بعض العلماء الإجماع على إعمال القياس (1) ، فهل يكون الظاهرية بفعلهم هذا قد خالفوا الإجماع، وأنكروا ظواهر النصوص؟ فخرجوا عن أصول أهل السنة، فلا يعتد بخلافهم؛ كما لا يعتد بخلاف باقي الفرق الضالة، كالخوارج والإمامية، وغيرهم، وأنهم- على أقل تقدير في رأي البعض- بعدم عملهم بالقياس تركوا معلوما لدى أهل العلم، وطريقا من طرق الاستنباط المتفق عليها؛ فأشبهوا العوام فلا يعتد بخلافهم. . أم أنهم بفعلهم هذا لم يخالفوا جماعة المسلمين، ولا يعدو
__________
(1) ممن نقل الإجماع الشيرازي في (التبصرة ص 425) .(67/297)
قولهم أن يكون من الاجتهاد السائغ بين المسلمين.
وقد يكون سبب خلافهم هو المسألة الأصولية: (إذا أجمع المسلمون على أن في المسألة قولين، أو أكثر، فهل يجوز إحداث قول ثالث) .
ولكن هذا في بعض المسائل، وليس كليا؛ لأنه توجد مسائل شذ الظاهرية بقول، ولا يعلم للمتقدم فيها رأي.(67/298)
المبحث الثالث: خلاف أهل العلم في المسألة، وأدلتهم، والترجيح.
اختلف أهل العلم القائلون بالقياس - رحمهم الله- في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن خلافهم غير معتبر، وليس معتدا به مطلقا.
وهو منسوب لجمهور أهل العلم، حكاه أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 316 هـ) عن جمهور أهل العلم، وذكر أبو العباس القرطبي(67/298)
(ت 656 هـ) (1) أن جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم. وقال النووي (ت 676 هـ) (2) : (ومخالفة داود لا تقدح في الإجماع عند الجمهور) ، وقال في موضع آخر (3) : (ومخالفة داود لا تضر في انعقاد الإجماع؛ على المختار الذي عليه المحققون والأكثر) .
وقال بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) (4) : (ولم يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء. . . وأخرجوهم من أهل الحل والعقد) .
وحكاه ابن دقيق العيد (ت 702 هـ) (5) ، والصنعاني (ت 1182 هـ) (6) عن بعض الناس.
وممن وقفت على قوله من أهل العلم موافقا لهذا القول، أبو الحسن الكرخي (ت 340 هـ) (7) ، وأبو بكر الجصاص الرازي (ت 370 هـ) ، والحموي (ت 1098 هـ) (8) ، وابن عابدين
__________
(1) المفهم لأبي العباس القرطبي 1 \ 543، ونقله أيضا عنه في (البحر المحيط 4 \ 472) .
(2) المجموع، للنووي 2 \ 156، في باب الغسل.
(3) شرح صحيح مسلم، للنووي 3 \ 143، في باب السواك.
(4) البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291.
(5) الإمام شرح الإلمام، لابن دقيق العيد 1 \ 413.
(6) العدة، للصنعاني 1 \ 131.
(7) نقله عنه في (الفصول في الأصول 3 \ 297 ط: الكويت) .
(8) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، للحموي 3 \ 299.(67/299)
(ت 1252 هـ) من الحنفية.
ومن المالكية: القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ) ، وابن بطال (ت 449 هـ) (1) ، والقاضي أبو بكر ابن العربي (ت 543هـ) ، وأبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) (2) ، والدرديري (ت 1201 هـ) (3) ، وعليش (ت 1299 هـ) .
وبه قال من الشافعية أبو العباس بن سريج (ت 306 هـ) (4) ، والأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 316 هـ) ، وأبو علي بن
__________
(1) شرح صحيح البخاري، لابن بطال 1 \ 352.
(2) المفهم لأبي العباس القرطبي 1 \ 543.
(3) بلغة السالك لأقرب المسالك، للدرديري 2 \ 389.
(4) انظر كتاب: (المحمدون من الشعراء للقفطي 2 \ 427) .(67/300)
أبي هريرة (ت 345 هـ) ، والقاضي أبو الحسن المروزي (ت 462 هـ) ، وأبو المعالي الجويني (ت 478 هـ) (1) ، وأبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) (2) ، وحكي عن النووي (ت 676 هـ) الجزم بعدم الاعتداد بقولهم، ورجح هذا القول صلاح الدين الصفدي
__________
(1) البرهان، للجويني 2 \ 819 - في مبحث مسالك العلة -، وانظر: فيض القدير للمناوي 6 \ 226.
(2) البحر المحيط 4 \ 472، حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 \ 242.(67/301)
(ت 826 هـ) (1) ، وولي الله العراقي (ت 826 هـ) (2) ، ونقله أبو منصور البغدادي (ت 429 هـ) عن طائفة من متأخري الشافعيين.
وقال به نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ) (3) من الحنابلة.
والحافظ أبو بكر ابن مفوز (ت 505 هـ) من علماء الحديث.
القول الثاني: أن خلافهم معتبر مطلقا.
وممن قال به القاضي عبد الوهاب البغدادي (ت 422 هـ) (4) من المالكية.
وبه قال من الشافعية أبو منصور البغدادي الشافعي (ت 429 هـ) ؛ وحكى أنه الصحيح من مذهب الشافعية، ونسب هذا القول لأبي
__________
(1) الوافي بالوفيات، للصفدي 13 \ 475.
(2) طرح التثريب شرح التقريب، لولي الله العراقي 2 \ 37.
(3) التعيين في شرح الأربعين، للطوفي ص 244.
(4) قاله في كتاب (الملخص) ، ونقله عنه الزركشي في (البحر المحيط 4 \ 472) .(67/302)
عمرو ابن الصلاح (ت 650 هـ) ، وقال به الذهبي (ت 748 هـ) (1) ، وابن السبكي (ت 771 هـ) ، (وهو الذي استقر عليه الأمر آخرا كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتأخرين) (2) .
وهو رأي كثير من الحنابلة.
__________
(1) سير أعلام النبلاء، للذهبي 13 \ 104.
(2) قاله ابن الصلاح (الفتاوى ص 67) ، والنووي (تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 183) .(67/303)
واختاره غير واحد من المحققين؛ كالعلامة ابن القيم (ت 751 هـ) ، والصنعاني (ت 1182 هـ) (1) ، والشوكاني (ت 1250 هـ) (2) ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ) (3) ونسبه للمحققين من علماء الأصول.
القول الثالث: أن خلافهم معتبر في غير المسائل القياسية، وأما المسائل القياسية فلا اعتبار بقولهم.
وهو قول أبي الحسن الأبياري (ت 618 هـ) (4) .
القول الرابع: أن خلافهم معتبر فيما خالف القياس الخفي، دون ما خالف القياس الجلي.
__________
(1) العدة، للصنعاني 1 \ 140.
(2) إرشاد الفحول، للشوكاني ص 71.
(3) نثر الورود على مراقي السعود، للشنقيطي 2 \ 428، أضواء البيان.
(4) نقله عنه في (البحر المحيط 4 \ 473) .(67/304)
وهو قول ابن الصلاح (ت 650 هـ) ؛ قال: " والذي أجيب به بعد الاستخارة والاستعانة بالله أن داود يعتبر قوله ويعتد به في الإجماع إلا فيما خالف فيه القياس الجلي " (1) .
__________
(1) نقله عنه النووي في (تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 184) ، وسكت عنه.(67/305)
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول (وهم القائلون بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا) بأدلة متعددة، بعبارات مختلفة، وسأسوق بعضا منها:
- أن أهل الظاهر ليسوا من العلماء ولا من الفقهاء، بل هم من جملة العوام الذين لا يعتد بخلافهم (1) .
- أن الظاهرية في حيز العوام، فلا اعتبار بخلافهم (2) .
- أن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة، فبإنكارهم القياس والاجتهاد يكونون ملتحقين بالعوام، وكيف يدعون الاجتهاد، ولا اجتهاد عندهم، وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ. (3) .
__________
(1) نقله في (المفهم 1 \ 543) عن القاضي أبي بكر الباقلاني.
(2) الفصول في الأصول 3 \ 296، سير أعلام النبلاء 13 \ 104.
(3) البرهان للجويني 2 \ 818.(67/305)
- أن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر، فهو كالعامي الذي لا معرفة له (1) .
- أنهم لا يعتد بخلافهم لأنهم من جملة العوام، وأن من اعتد بخلافهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع، والحق خلافه (2) .
- ولأنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات (3) .
- أن منكري القياس من الظاهرية ليسوا من علماء الأمة؛ لأنهم مباهتون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا، ومن لم يزعه التواتر، ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه (4) .
- أنهم كالشيعة في الفروع، ولا يلتفت إلى أقوالهم، ولا ينصب معهم الخلاف، ولا يعتنى بتحصيل كتبهم، ولا يدل مستفت من العامة عليهم (5) .
- أنهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، ولا يعتبر في الإجماع إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد.
__________
(1) البحر المحيط 4 \ 472.
(2) المفهم 1 \ 543، وعنه البحر المحيط 4 \ 472.
(3) البحر المحيط 4 \ 472.
(4) البرهان للجويني 2 \ 818.
(5) سير أعلام النبلاء 13 \ 104.(67/306)
بل بالغ بعضهم فلم يعدوا الظاهرية من العلماء والفقهاء.
- أنهم لما أحدثوا قواعد تخالف الأولين، أفضت إلى المناقضة لمجلس الشريعة، فلم يعتبر خلافهم (1) .
- أنهم لما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق، وأن غيرهم على الباطل أخرجهم أهل العلم من أهل الحل والعقد (2) .
- أنه قد دل الدليل القاطع على أصل القياس، وهو لا يحتمل المنازعة فيه لظهوره. وقد نازع الظاهرية فيه.
وهذه المنازعة الظاهر أنها عناد، والمعاند في الحق لا عبرة بقوله، وهذا ظاهر.
وإن لم تكن عنادا - كما هو الظنون بذوي الحجى -، فقد نفوا ما ثبت بالدليل القاطع باجتهاد، قصاراه إفادة الظن الذي لا يعارض القطع الظاهر (3) .
والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به، وينقض الحكم به (4) .
__________
(1) البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291.
(2) البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291.
(3) الوافي بالوفيات، للصفدي 13 \ 475.
(4) فتاوى ابن الصلاح ص 69.(67/307)
- أن من أنصف لنفسه علم أن النصوص التي أخذت منها الأحكام لا تفي بعشر معشار الحوادث التي لا نهاية لها، فما الذي يقوله الظاهري في غير المنصوص إذا أتاه عامي وسأله عن حادثة لا نص فيها، أيحكم فيها بشيء أم يدع العامي وجهله؟
لا قائل من المسلمين بالثاني؛ أعني أنا ندع العامي يخبط في دينه، وإن حكم فيها - والواقع أن لا نص -؛ فإما أن يقيس، أو يخترع من نفسه حكما يلزم الناس الأخذ به.
إن اخترع من عند نفسه ونسبه إلى الحكم الشرعي كان كاذبا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا كان ملزما للناس بفلتات لسانه، فما بقي إلا أنه لا يخترعه من عند نفسه ويقيسه على الصور المنصوص عليها.
والظاهري لا يقول بذلك، فعاد الأمر إلى أنه إما أن يدع العامي يخبط في دينه بما لم ينزل الله به سلطانا، أو يكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يلزم الناس بهفواته، والثلاثة لا يقولها ذو لب - معاذ الله - (1) .
- أن داود ينفي حجج العقول. . . فمن كان هذا مقدار عقله ومبلغ علمه كيف يجوز أن يعد من أهل العلم وممن يعتد بخلافه. . . (2)
__________
(1) الوافي بالوفيات، للصفدي 13 \ 475.
(2) الفصول في الأصول، للجصاص 3 \ 296.(67/308)
- أنهم قد أخذوا هذا القول - نفي القياس - عن النظام من المعتزلة، وقد كفره جمع من أهل العلم (1) .
مما سبق من تعليلات القائلين بعدم الاحتجاج بخلاف الظاهرية يتبين أنهم يدورون حول معنى واحد وإن اختلفت العبارات، وهو:
أن الظاهرية عندما أنكروا القياس خرجوا عن دائرة العلم، وأهله [وصاروا في دائرة العوام، أو الجهال، أو المبتدعة،
__________
(1) فقه أهل العراق وحديثهم، للكوثري ص 17.(67/309)
أو المباهتين (1) ، أو الكفار والمشركين - بحسب اختلاف العبارات -] وهؤلاء لا يصح الاحتجاج بهم في الإجماع، ولا يقدح خلافهم فيه.
والسبب في ذلك - مما تقدم - ثلاثة أمور:
أ - أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية.
ب - أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع.
ج - أن القياس قد دل عليه (الدليل القاطع) فإنكارهم له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، فخالفوا صريح العقول، وصحيح المنقول.
أما الأمر الأول؛ وهو أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية.
فلا يسلم ذلك - عندهم - فإن في القرآن والسنة بيانا لجميع الأحكام الشرعية إما بطريق المنطوق أو المفهوم أو غيرها من دلائل الألفاظ ووسائل الاستنباط غير القياس، ويدل على ذلك عموم قول
__________
(1) البرهان للجويني 2 \ 818.(67/310)
الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) ، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) .
وقال ابن حزم (3) : " كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا البتة ".
قال أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) (4) : " العالم بالقرآن على التحقيق عالم بجملة الشريعة، ولا يعوزه منها شيء، والدليل على ذلك أمور. . .
ومنها: التجربة؛ وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها أصلا، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظاهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل " ا. هـ.
وقال الشوكاني (ت 1255 هـ) بعد ذكره لدليل المانعين من الاعتداد بخلاف منكري القياس: ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها، وتدبر آيات الكتاب العزيز، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة، علم بأن نصوص الشريعة جمع جم،
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة الأنعام الآية 38
(3) النبذ في أصل الفقه، لابن حزم ص 118.
(4) الموافقات للشاطبي 4 \ 189.(67/311)
ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب، ولا سنة، ولا قياس مقبول (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها) . نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جدا " (1) .
أما الأمر الثاني؛ وهو أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع.
فقد دفع ابن حزم هذا التراشق بأمرين؛ أحدهما: أنه لا يهمه من وافقه من أهل الباطل، فلا ينكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ويقولها هو.
وثانيهما: أنها لا تخلو كلمة حق أو باطل يذهب إليها غيره من آخذ بها من أهل الباطل، فالأخذ بالقياس قال به بعض المعتزلة، والأزارقة، وأحمد بن حابط، ولكل هؤلاء من شنيع الأقوال ما هو كفر (2) .
أما الأمر الثالث؛ وهو أن القياس قد دل عليه (الدليل القاطع) ، فإنكار الظاهرية له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، فخالفوا بذلك صريح العقول، وصحيح المنقول.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 72.
(2) تحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب ص 52.(67/312)
فهو محل النزاع بين الظاهرية وغيرهم، وقد أطال الظاهرية في نقاش هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بصحة القياس (1) .
إضافة إلى أن (الدليل القاطع) إن سلم به، فإنما هو قد دل على أصل القياس، وصحة الاستدلال بجنسه. لا على صور آحاده؛ فإنها باتفاق ظنية، ما عدا بعض الصور التي قال بعض العلماء بأن القياس فيها قطعي؛ كالقياس الأولوي على نزاع في تسميته قياسا.
وبذلك يتبين فساد المقدمات التي بنى عليها أصحاب هذا القول نتيجتها؛ وهو عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية. فإذا سقطت المقدمات سقطت النتيجة المترتبة عليها. وعليه يتبين ضعف هذا القول - والله أعلم -.
واستدل أصحاب القول الثاني (القائلون باعتبار خلاف الظاهرية مطلقا) بأدلة متعددة، وسأسوق أولا عباراتهم؛ فمنها:
- أن ما تفردوا به هو من قبيل مخالفة الإجماع الظني، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي (2) .
- قال الصنعاني (ت 1182 هـ) (3) : إن الظاهرية لم يخالفوا في المسائل المجمع عليها؛ لأن التحقيق أنه لم يقم الدليل إلا
__________
(1) انظر مثلا: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2 \ 761 وما بعده.
(2) سير أعلام النبلاء 13 \ 104.
(3) العدة شرح إحكام الأحكام، للصنعاني 1 \ 140 - بتصرف يسير -.(67/313)
على حجية الإجماع القولي، وقد كذب من ادعاه إلا في المسائل الضرورية - كما قال الإمام أحمد -.
فإذا حققت فالحق أن دعوى الإجماع طريقة القاصرين، إذا أعيتهم الأدلة ادعوه على منازعهم، ولا يليق ذلك بأئمة التحقيق، فليس العمدة إلا الدليل من الكتاب والسنة أو قياس في معنى الأصل، فإذا قام الدليل فلا ينظر إلى التنقيش قال به قائل أو لا؟ ، فلا وحشة مع الدليل، ولا ناظر بعد وجوده إلى قال ولا قائل ولا قيل، والله يقول الحق ويهدي السبيل.
- أن هؤلاء المخالفين في القياس كلا أو بعضا، هم بعض الأمة، فلا بد من الاعتداد بخلافهم (1) .
- أنه لم يذكر أحد من العلماء أن من شرط المجتهد المعتبر قوله أن يكون من أهل القياس القائلين به.
- أن قول الظاهرية اجتهاد منهم، ومن لم يعتد بخلافهم كان هذا اجتهادا منه فكيف يرد اجتهاد بمثله (2) .
- أن داود الظاهري كان يقرئ مذهبه، ويناظر عليه، ويفتي به في مثل بغداد، وكثرة الأئمة بها وبغيرها، فلم نراهم قاموا عليه، ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه، ولا سعوا في منعه من بثه (3) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص 210.
(2) سير أعلام النبلاء 13 \ 105، ونقله عنه الصفدي في (الوافي 13 \ 474) .
(3) سير أعلام النبلاء 13 \ 105. ثم ذكر أمثلة لبعض العلماء الذين عاصروا داود.(67/314)
- أنهم وإن جاء عنهم مسائل غريبة، فإنهم علماء مجتهدون، وقد صدر من كثير من العلماء مسائل تخالف الإجماع، وإنما تحكى للتعجب؛ كقول ابن عباس في المتعة، والصرف، وإنكار العول (1) .
- أن كثيرا من الأئمة المصنفين أوردوا خلاف الظاهرية في كتبهم، مما يدل على اعتبارهم له، فلولا اعتدادهم بخلافهم لما أوردوا مذاهبهم في مصنفاتهم، لمنافاة موضوعها لذلك (2) .
- أننا ما اعتددنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة، بل لتحكى في الجملة، وبعضها سائغ، وبعضها قوي، وبعضها ساقط (3) .
- أنه يلزم القائل بعدم الاعتبار بخلاف الظاهرية في الإجماع يلزمه أن لا يعتبر خلاف منكر العموم، وخبر الواحد، ولا ذاهب إليه (4) .
- أن خلاف الظاهرية معتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل، ويمنع العموم، ومن حمل الأمر على الوجوب؛ لأن مدار الفقه على هذه الطرق (5) .
- أن عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية غير صحيح؛ لأنه إن كان نفيا للوجود فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان، وإن قيل: إن
__________
(1) سير أعلام النبلاء 13 \ 105 - 106.
(2) فتاوى ابن الصلاح ص 68.
(3) سير أعلام النبلاء 13 \ 104.
(4) البحر المحيط 4 \ 472، نقلا عن الأصفهاني شارح (المحصول) .
(5) البحر المحيط 4 \ 472، نقلا عن القاضي عبد الوهاب في (الملخص) .(67/315)
الله أمر بعدم سماعه، أو رسوله أمر بذلك فهذا شر من الأول لأنه كذب على الله ورسوله.
مما تقدم يتبين أن الحديث في قبول خلاف الظاهرية ما ادعي فيه الإجماع مقبول وأنه مانع من انعقاد الإجماع لأمور:
أ - منع صحة الإجماع شرعا، وعقلا في المسائل التي خالف فيها الظاهرية (1) .
ب - وعلى فرض صحة الإجماع قبل خلافهم، فإنه يمنع من الوقوع؛ لأن الوقائع التي ادعي فيها خلاف الظاهرية للإجماع، إنما هو خلاف ظني (2) .
ج - أن إنكارهم للقياس لا يعني خروجهم من دائرة العلماء؛ لأنهم مجتهدون توفرت فيهم جميع أدوات الاجتهاد - ولم يذكر أحد من العلماء أن من شروط المجتهد أن يكون عاملا بالقياس في المسألة المجتهد فيها -، كما أنه يلزم من عدم الاعتداد بخلافهم عدم الاعتداد بخلاف منكري حديث الآحاد - مطلقا أو في وقائع معينة - ومنكري العمل بالحديث المرسل، ومن يرى نسخ القرآن بالسنة، ومنكري العموم، وغير ذلك من صور عدم العمل ببعض آحاد الأدلة المتفق
__________
(1) وقد أطال ابن حزم في (الإحكام 2 \ 494 - 506) النفس في تقرير هذا الأصل، فيراجع.
(2) قاله الذهبي في (السير 13 \ 104) ، والصنعاني في (العدة شرح إحكام الأحكام 1 \ 140) وتقدم نقله.(67/316)
عليها من الكتاب والسنة.
د - (القلب للدليل) وهو أن الإجماع منعقد على قبول خلاف الظاهرية؛ لأن داود الظاهري أظهر قوله في عصره وكذا تلامذته من بعده وحكى خلافهم أهل العلم في كتبهم، ولم يرو عن أحد معاصريه أنه أنكر خلافه ولم يعتد به.
واستدل أصحاب القول الثالث (وهم القائلون بقبول خلافهم في المسائل غير القياسية، وأما القياسية فلا يعتد بخلافهم) بأدلة منها:
أن المسألة إن كانت مما يتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي، ولا مخالف للقياس فيها، لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم - إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ -.
فإن قلنا بالتجزؤ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية؛ لأن له فيه مدخلا، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم (1) .
ويظهر بتأمل هذا القول أنه عائد في الحقيقة إلى القول الأول القائل بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية؛ لأن جل المسائل إنما هي قياسية؛ كما قال إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) (2) :
__________
(1) البحر المحيط 4 \ 473، نقلا عن الأبياري.
(2) البرهان، للجويني 2 \ 818.(67/317)
" إن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة ".
كما أن في التفريق بين المسائل التي يدخلها القياس والتي لا يدخلها القياس خلافا بين العلماء؛ فمثلا مسائل الحدود، والكفارات، والعبادات فإن بين القائسين خلافا في جريان القياس فيها من عدمه.
إضافة لذلك فإن هذا التفريق هو محل النزاع؛ فإن الظاهرية يرون أن جميع هذه المسائل ليست قياسية؛ فيكون قولهم معتبرا.
واستدل أصحاب القول الرابع (وهم القائلون باعتبار خلافهم فيما خالف القياس الخفي، دون ما خالف القياس الجلي) بأدلة منها:
أن خلاف الظاهرية فيما خالف القياس الخفي معتبر؛ لما سبق في أدلة القول الثاني.
أما خلافهم فيما خالف القياس الجلي فهو غير معتد به؛ لكونه مبنيا على ما يقطع ببطلانه، والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به، وينقض الحكم به (1) .
ولأنه يجوز تبعيض الاجتهاد؛ بمعنى أن يكون العالم مجتهدا في
__________
(1) فتاوى ابن الصلاح ص 69.(67/318)
نوع دون غيره، فكذلك الظاهرية يعتبر قولهم فيما عدا ما خالفوا القياس الجلي (1) .
ولأن المسائل التي خالفوا فيها القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بنوه على أصولهم التي قام الدليل القاطع على بطلانها باتفاق من سواهم على خلافه، إجماع منعقد. وقولهم حينئذ خارج من الإجماع؛ كقولهم في التغوط في الماء الراكدة؛ وقولهم: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها.
فخلافهم في هذا، وشبهه غير معتد به؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه، والاجتهاد على خلاف الدليل القاطع مردود، وينتقض حكم الحاكم به (2) .
ويعرض على تفريقهم بين القياس الجلي، والقياس الخفي في الاعتداد بخلاف الظاهرية في الثاني دون الأول. أن يقال لهم:
أ - إن تقسيم القياس إلى جلي وخفي - بحسب تقسيم الشافعية - إنما هو تقسيم لما يطلق عليه القياس، لا القياس الشرعي المعرف بين الأصوليين، والذي فيه نزاع الظاهرية.
فإن الجمع بنفي الفارق - وهو القياس الخفي - ليس من
__________
(1) فتاوى ابن الصلاح ص 69.
(2) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 \ 184.(67/319)
حقيقة القياس (1) .
فعاد هذا القول للقول الأول، وهو نفي الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا، فيكون القول فيهما واحدا.
ب - كذلك فإنه يقال: إما أن يعمم عدم الاعتداد بخلاف من خالف قول الأكثر في القياس الجلي سواء كان من أهل القياس، أم لا. أو أن يخص بأهل الظاهر فقط.
فإن قيل بالأول وهو أن كل من خالف في القياس الجلي لم يقبل قوله، ولا يعتد بخلافه، فهذا يؤدي إلى القول بقطعية هذا القياس، وفيه نظر؛ بدليل خلاف بعض القياسيين فيه.
وإن قيل بتخصيص منكري القياس فقط. ففيه تحكم؛ لأنه ربما خالف في هذه المسألة التي يدعي أن القياس فيها جلي غير الظاهرية ممن يعمل القياس؛ فيكون القائل هذا القول قد أهمل خلاف الظاهري، وأعمل خلاف غيره في مسألة واحدة، وهو تحكم.
مثال ذلك: ما ذكره أصحاب هذا القول من التمثيل للمسائل التي خالف فيها الظاهرية القياس الجلي؛ بأن الظاهرية يقولون: " بأن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث فقط، ولا يتعداها لغيره ".
__________
(1) تيسير التحرير لأمير بادشاه 4 \ 77.(67/320)
وهذه المسألة لم ينفرد بها الظاهرية بل وافقهم عليها بعض أهل القياس، فقال أبو الوفا ابن عقيل (ت 513 هـ) من الحنابلة، وغيره.
فإن قبلنا خلافه، ورددنا خلاف الظاهرية فهو تحكم. وإن قلنا برد خلاف الجميع فلا فائدة من تخصيص الظاهرية بعدم الاعتداد بقولهم، بل نرد خلاف جميع من خالف في هذا القياس.
والراجح في هذه المسألة - والله تعالى أعلم - هو الاحتجاج بخلاف الظاهرية مطلقا، وعدم انعقاد الإجماع بدونهم. وأن خلافهم مانع من انعقاده. ولا يصح رد قولهم بإجماع معاصريهم.
وأما ما شذوا فيه فيرده كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما اللذان يحكمان ببطلانه حال عرضه عليهما.(67/321)
المبحث الرابع: أمثلة تطبيقية على خلاف الظاهرية
سبق في بيان محل البحث والنزاع أن الحديث هنا فيما إذا انفرد الظاهرية بقول ولم يسبقوا إليه بقول أحد من الصحابة أو التابعين، أو لم يوافقهم عليه أحد من علماء المذاهب الأربعة المعروفة.(67/321)
وبالنظر إلى كثير من المفردات التي ذكرها من حرص على جمع مفردات الظاهرية، أو ابن حزم بالخصوص، نجد أنهم يذكرون ما خالف فيه مشهور أقوال الأئمة الأربعة فقط، وهذا في الحقيقة خلاف المقصود بالبحث.
وسأذكر بضع مسائل، لا بقصد الاستيعاب، بل لقصد التمثيل فحسب.
مسألة: وجوب تقديم العضو الأيمن على الأيسر في الوضوء.
قال ابن حزم بوجوبه (1) .
وقد حكى الإجماع على الاستحباب دون الوجوب جمع من العلماء؛ منهم ابن المنذر (2) ، والنووي (3) .
مسألة: وجوب الاضطجاع على الشق الأيمن على من صلى ركعتي الفجر.
ذكر ابن حزم (4) أنه يجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم، فإن عجز عن الضجعة أشار إلى ذلك حسب طاقته. ولم يجز له أن يصلي الصبح إلا بأن يضطجع
__________
(1) في (المحلي 2 \ 66) .
(2) في (الأوسط 1 \ 387) .
(3) في (المجموع 1 \ 383) .
(4) في (المحلي 3 \ 196) .(67/322)
على شقه الأيمن.
مسألة: جواز قص المحرم لأظفاره.
ذكر ابن حزم (1) أنه يجوز للمحرم قص أظفاره وأنه لا شيء عليه فيه.
وقد حكى الإجماع على حرمتها جمع من أهل العلم؛ كابن المنذر (2) ، وابن قدامة (3) ، وغيرهم.
مسألة: عدم توريث الجدة أم الأب.
أنكر ابن حزم الإجماع على توريث أم الأب، وقال (4) : " إن أبا بكر رضي الله عنه لم يورث إلا جدة واحدة فقط؛ وهي أم الأب، فلا ميراث لغيرها من الجدات ".
وقد حكى الإجماع على توريث أم الأم جمع من العلماء؛ منهم ابن المنذر (5) ، والماوردي (6) ، والبغوي (7) ، والعمراني (8) ، وغيرهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) في (المحلي 7 \ 246) .
(2) في (كتاب الإجماع ص 17) .
(3) في (المغني 5 \ 146) .
(4) في (المحلي 10 \ 350) .
(5) الإجماع لابن المنذر ص 34.
(6) الحاوي للماوردي 8 \ 110.
(7) شرح السنة للبغوي 8 \ 347.
(8) البيان للعمراني 3 \ 704.(67/323)
صفحة فارغة(67/324)
شروط صحة الظهار
للدكتور \ خالد بن علي بن محمد المشيقح (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) أستاذ مشارك بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(67/325)
أما بعد:
فإن من تمام نعم الله وعظيم منته أن هدى هذه الأمة إلى هذا الدين القويم، والصراط المستقيم الذي به تصلح نفوسهم، وتهذب أخلاقهم، وتنظم معاملاتهم، ويصح سلوكهم وتقوم حياتهم وفق توجيه قرآني وهدي نبوي تضمنا علما هو أجل العلوم قدرا، وأعلاها فخرا، وأبلغها فضيلة وأشرفها مكانة، وهو علم الشرع الشريف وبيان أحكامه وتفصيل حلاله وحرامه.
كل ذلك ليقوم العباد بالحق الذي من أجله خلقوا؛ وهو عبادته على الوجه الذي ارتضى لهم، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) .
ولقد شرع الله عز وجل الزواج بين الذكر والأنثى، لما يترتب على ذلك من مصالح عظيمة منها: الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وموافقة الفطرة، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الحج الآية 77
(3) سورة البينة الآية 5(67/326)
النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ المجتمع، والأعراض والأنساب، والفروج والأبصار، وسعادة الجنسين، وغير ذلك مما لا يخفى، ورتب لهذا الاقتران بين الجنسين أحكاما كثيرة، منها أحكام الظهار.
ولما كانت الحاجة قائمة إلى تبيين أحكام هذا الباب من كلام أهل العلم المعتمد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال صحابته، ولم أقف على مؤلف جامع لمسائل هذا الباب، فقمت بجمع مسائله وقد أفردت منه في هذه الكتابة مبحث: (شروط صحة الظهار) وقد تضمن هذا البحث ما يلي:
المقدمة:
التمهيد، وفيه مطالب:
المطلب الأول: تعريف الشروط في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثاني: تعريف الظهار في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثالث: حكمه وأدلته.
المبحث الأول: شروط صحة الظهار.
المبحث الثاني: تأقيت الظهار.
المبحث الثالث: تعليق الظهار.
هذا وقد سلكت في كتابته المنهج العلمي المتعلق بتحرير مذاهب الأئمة من كتبهم، وذكر أدلتهم، مع ترقيم الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار. . . إلخ.(67/327)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(67/328)
التمهيد وفيه مطالب:
المطلب الأول: تعريف الشرط في اللغة، والاصطلاح:
أما في اللغة، فالشرط يقوم على ثلاثة أحرف، وهي الشين، والراء، والطاء، وهي تدل على علم وعلامة، وما قارب ذلك من علم (1) .
وفي المصباح: شرط الحاجم شرطا من باب ضرب، وقتل، الواحدة شرطة، وجمع الشرط شروط، مثل: فلس وفلوس، والشرط بفتحتين: العلامة،. . . (2)
فالشرط في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (3) . أي علاماتها (4) .
وأما في الاصطلاح: فهو وصف ظاهر منضبط، مكمل لمشروطه يستلزم عدمه عدم الحكم، ولا يستلزم وجوده وجود الحكم (5) .
فهو على هذا أمر خارج عن حقيقة المشروط ليس جزءا منه،
__________
(1) معجم مقاييس اللغة مادة (شرط) .
(2) المصباح المنير (1 \ 309) ، مادة: شرط.
(3) سورة محمد الآية 18
(4) ينظر الصحاح (3 \ 1136) ، ولسان العرب (7 \ 329) ، والمطلق ص 54.
(5) شرح مختصر الروضة (3 \ 430) ، والسبب عند الأصوليين (1 \ 103) .(67/328)
ومن هنا يتبين وجه تسميته شرطا حيث كان علامة للمشروط يتعلق وجوده به.
قولنا: وصف: يخرج الذوات، فإنها لا تكون شروطا.
قولنا: يستلزم عدمه عدم الحكم: يخرج المانع، فلا يلزم من عدمه وجود ولا عدم.
قولنا: ولا يستلزم وجوده وجود الحكم: يخرج السبب فإنه يلزم من وجوده الوجود.
ومن أمثلته: الوضوء شرط لصحة الصلاة، يلزم من عدمه عدم الصحة، ولا يلزم من وجوده وجود الصلاة ولا صحتها، فقد يتوضأ ولا يصلي، وقد يصلي قبل دخول الوقت، والوضوء خارج عن حقيقة الصلاة ليس جزءا منها (1) .
__________
(1) ينظر روضة الناظر لابن قدامة ص 135، والسبب عند الأصوليين (1 \ 103) .(67/329)
المطلب الثاني: تعريف الظهار في اللغة والاصطلاح:
أما في اللغة:
قال ابن فارس: الظاء والهاء والراء أصل صحيح واحد، يدل على قوة وبروز، من ذلك ظهر الشيء يظهر ظهورا فهو ظاهر(67/329)
إذا انكشف وبرز، ولذلك سمي وقت الظهر والظهيرة، وهو أظهر أوقات النهار، وأضوؤها، والأصل فيه كله: ظهر الإنسان، وهو خلاف بطنه، وهو يجمع البروز والقوة، ويقال للركاب الظهر؛ لأن الذي يحمل منها الشيء ظهورها. . . (1)
وفي اللسان: الظهر من كل شيء: خلاف البطن، والظهر من الإنسان: من لدن مؤخر الكاهل إلى أدنى العجز عند آخره، مذكر لا غير. . . والجمع أظهر، وظهور، وظهران (2) .
والظهار: مشتق من الظهر؛ لأن الوطء ركوب، والركوب غالبا إنما يكون على الظهر (3) .
مصدر ظاهر من امرأته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، ولفظ ظهر يطلق لغة على معان منها:
مقابلة الظهر للظهر حقيقة: يقال: ظاهرته إذا قابلت ظهرك لظهره حقيقة.
والبروز بعد الخفاء: يقال: ظهر لي رأي إذا علمت ما لم تكن علمته.
والغلبة: يقال: ظهر على عدوه إذا غلبه، قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (4) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 3 \ 417، مادة (ظهر) .
(2) لسان العرب 4 \ 520، مادة (ظهر) .
(3) الشرح الصغير 1 \ 483.
(4) سورة الصف الآية 14(67/330)
والتبين: يقال ظهر الحمل إذا تبين.
والنصرة: يقال: تظاهر القوم، إذا تناصروا.
وعلى العلو: قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} (1) أي يعلوه (2) .
والتقاطع: يقال: تظاهروا أي تقاطعوا.
والتحري والاحتياط: يقال: استظهرت في طلب الشيء تحريت، وأخذت بالاحتياط.
والظفر: يقال: ظهر بالشيء أي ظفر به.
والتعاون: يقال ظاهر فلان فلانا عاونه.
والخروج: يقال: ظهر من بلد كذا إذا خرج منه.
والقوة: يقال: ظهر فلان على فلان، أي قوي عليه.
وفي المصباح: وإنما خص بذكر الظهر؛ لأنه من الدابة موضع الركوب، والمرأة مركوبة وقت الغشيان، فركوب الأم مستعار من ركوب الدابة، ثم شبه ركوب الزوجة بركوب الأم الممتنع، وهو استعارة لطيفة، فكأنه قال: ركوبك للنكاح حرام علي كركوب أمي (3) .
وأما في الاصطلاح:
فقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى للظهار تعاريف متعددة،
__________
(1) سورة الكهف الآية 97
(2) انظر: الصحاح 2 \ 731، لسان العرب، 4 \ 526، مادة (ظهر) .
(3) المصباح المنير 2 \ 388.(67/331)
ترجع إلى ما استنبطوه من أدلة الظهار، مما يكون ظهارا، وما لا يكون، وما يشترط لصحة الظهار، وما لا يشترط، وغير ذلك.
فمن تعاريف الحنفية:
تشبيه المسلم زوجته، ولو كتابية، أو صغيرة، أو مجنونة، أو تشبيه ما يعبر به عنها من أعضائها، أو تشبيه شائع منها بمحرم عليه تأبيدا (1) .
قوله: المسلم، أخرج الذمي.
قوله: ما يعبر عنها من أعضائها: أي يعبر به عن كل الزوجة كالرأس.
ومن تعاريف المالكية:
تشبيه المسلم من تحل بالأصالة من زوجة أو أمة، أو جزؤها بظهر محرم (2) .
قوله: من تحل بالأصالة من زوجة أو أمة يشمل المحرمة لعارض كالمحرمة، والرجعية، فإذا قال لزوجته الرجعية: أنت علي كظهر أمي فظهار.
قوله محرم بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الراء المفتوحة، قوله: أصالة، فلو شبه زوجته بامرأته الحائض، أو النفساء، أو المحرمة
__________
(1) الدر المختار 3 \ 466.
(2) الشرح الكبير للدردير 2 \ 439.(67/332)
بحج أو عمرة، فلا ظهار.
قوله: أو جزؤها، يشمل الحقيقي كالرأس، والحكمي كالشعر والريق.
ومن تعاريف الشافعية:
تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلا (1) .
قوله: الزوجة، يشمل الصغيرة، والكبيرة، والمسلمة، والذمية.
قوله: غير البائن، لكي يشمل الرجعية.
قوله: بأنثى لم تكن حلا ليخرج من طرأ تحريمها كزوجة ابنه ونحوها، فالتشبيه لا يكون ظهارا.
ومن تعاريف الحنابلة:
أن يشبه امرأته أو عضوا منها، بظهر من تحرم عليه على التأبيد، أو بها، أو بعضو منها (2) .
قوله: أو عضوا منها كالوجه، والرأس، واليد، ونحو ذلك، دون ما هو في حكم المنفصل كالشعر، والظفر، والسن، وكذا العرق، والدم، والريق، والروح.
قوله: التأبيد، يشمل من تحرم عليه على التأبيد من ذوي رحمه كالعمة والخالة ونحوها، ومن ليس من ذوي رحمه كالأم المرضعة، وزوجة الأب، ونحوهما.
__________
(1) مغني المحتاج 3 \ 352.
(2) المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 23 \ 228.(67/333)
وقوله: على التأبيد يخرج من تحرم عليه على التأقيت كأخت الزوجة ونحوها.
قوله: أو بعضو منها كرأس أمه، أو رأس أخته ونحو ذلك، دون ما هو في حكم المنفصل كالشعر ونحوه كما تقدم.
ومن تعاريفهم أيضا: أن يشبه امرأته، أو عضوا منها بمن تحرم عليه ولو إلى أمد، أو بعضو منها، أو بذكر أو بعضو منه (1) .
قوله: بمن تحرم عليه من نسب، أو رضاع، أو صهر.
قوله: ولو إلى أمد لكي يشمل أخت الزوجة، وخالتها.
التعريف المختار:
يظهر لي من خلال دراستي لأحكام الظهار التعريف الآتي للظهار: أن يشبه زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد.
__________
(1) المنتهى 2 \ 324.(67/334)
المطلب الثالث: حكمه وأدلته:
أما حكم الظهار التكليفي، فمحرم ولا يجوز، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، وقد صرح بعض العلماء بأنه من الكبائر (1) .
أما الكتاب:
فقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: ومنها: أن الظهار حرام، لا يجوز
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 \ 439، ومغني المحتاج 3 \ 352، ونهاية المحتاج 7 \ 82.
(2) سورة المجادلة الآية 2(67/334)
الإقدام عليه؛ لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، وكلاهما حرام، والفرق بين جهة كونه منكرا وجهة كونه زورا: أن قوله: أنت علي كظهر أمي، يتضمن إخباره عنها بذلك، وإنشاءه تحريمها، فهو يتضمن إخبارا وإنشاء، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، فإن الزور هو الباطل، خلاف الحق الثابت، والمنكر خلاف المعروف، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (1) وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرته لآخذ به.
وأما السنة:
فمنها: «حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ تكشف لي منها شيء، فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر، وقلت: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا والله، فانطلقت إلى النبي صلى الله
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب في الظهار (ح 2213) والترمذي في تفسير القرآن، سورة المجادلة (ح 3295) وابن ماجه في الطلاق، باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر 3 \ 63 (ح 2064) والحاكم 2 \ 221، والدارمي 2 \ 217، وأحمد في المسند 4 \ 37 مختصرا وابن الجارود 3 \ 67 والطبراني في الكبير 7 \ 43، والبيهقي 7 \ 385، كلهم من طرق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال: قال البخاري: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر. وقال الحافظ في التلخيص 3 \ 249: وأعله عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان لم يدرك سلمة. وعليه فقول الحافظ في الفتح: إسناده حسن فيه نظر. وقد توبع سليمان بن يسار عليه. أخرجه الترمذي في الطلاق، باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر (ح 1198) وعبد الرزاق 6 \ 431، والطبراني في الكبير 7 \ 42، 43، والبيهقي في الكبرى 7 \ 390، من طرق عن يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أن سلمة بن صخر، فذكر نحوه. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. لكن أشار البيهقي إلى كونه مرسلا. ورواية سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر وإن كان لم يسمع منه، إلا أنه كان مولى لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا تابعه أبو سلمة ابن عبد الرحمن، ومحمد بن عبد الرحمن، كلاهما عن سلمة بن صخر، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يأتي مما يدل على ثبوته.(67/335)
عليه وسلم فأخبرته، فقال: أنت بذاك يا سلمة؟ قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله فاحكم في ما أراك الله، قال: حرر رقبة، قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام، قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها، فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة، وحسن الرأي، وقد أمرني، أو أمر لي بصدقتكم (1) » .
__________
(1) أي يلازمني، فلا أستطيع الفكاك منه، ينظر: لسان العرب 8 \ 38. (2)(67/336)
ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر؟ فقال: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به (1) » . لكنه مرسل.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب في الظهار (ح 2221) من طريق سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته. . . مرسلا. وأخرجه سعيد بن منصور 2 \ 15، وأبو داود (ح 2225) من طريق معتمر بن سليمان عن الحكم عن عكرمة، قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وأخرجه سعيد بن منصور 2 \ 15 عن إسماعيل بن علية عن الحكم عن عكرمة مرسلا، وأخرجه أبو داود (2223) من طريق زياد بن أيوب عن إسماعيل عن الحكم عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه ابن ماجه (ح 2065) من طريق غندر عن معمر بن راشد عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما متصلا. وأخرجه أبو داود (2225) والترمذي (ح 1999) وصححه، والنسائي 6 \ 167، وابن الجارود 3 \ 67، والطبراني 11 \ 236، من طريق الفضل بن موسى عن معمر بن راشد عن الحكم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما متصلا. وأخرجه الحاكم 2 \ 204، والبيهقي 7 \ 386 عن حفص بن عمر العدني عن الحكم به، قال الذهبي: العدني غير ثقة. وأخرجه الدارقطني 4 \ 316، والحاكم والبيهقي، والطبراني في الكبير (ح 10887) عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس به، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: إسماعيل واه. وأخرجه عبد الرزاق 6 \ 430 من طريق معمر بن راشد عن الحكم عن عكرمة مرسلا. قال النسائي كما في التحفة 5 \ 123: والمرسل أولى بالصواب من المسند. وذكره ابن أبي حاتم في العلل (ح 1194، 1307) عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن الحكم موصولا، وقال: قال أبي: هو خطأ إنما هو عن عكرمة مرسلا، وذكره أيضا (ح 1309) من طريق إسماعيل بن مسلم، وقال: إنما هو عن طاوس مرسلا.(67/337)
ومنها: «حديث خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يجادلني فيه، ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك، فما برحت حتى نزل القرآن إلى الفرض، فقال: يعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله أنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: فأتي ساعتئذ بعرق من تمر، قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر، قال: قد أحسنت، اذهبي، فأطعمي بها عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك (3) » . قال: والعرق: ستون صاعا.
__________
(1) إسناده لا بأس به، وحسنه الحافظ في الفتح 9 \ 343، وأخرجه الإمام أحمد 6 \ 410، وأبو داود في الطلاق، باب في الظهار (2214) وابن الجارود (746) وابن حبان (1334) موارد، والبيهقي 7 \ 389، من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة. قال الذهبي في الميزان 4 \ 155 عن معمر بن عبد الله: كان في زمن التابعين لا يعرف، وذكره ابن حبان في ثقاته، ما حدث عنه سوى ابن إسحاق بخبر مظاهرة أوس بن الصامت. وقال الحافظ في التقريب 2 \ 266: مقبول أي عند المتابعة. وللحديث شواهد يتقوى بها، منها: ما أخرجه سعيد بن منصور (ح 1324) والبيهقي 7 \ 389، والبغوي في شرح السنة (ح 2364) وغيرهم من طريق محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار به مرسلا مختصرا ومطولا. قال البيهقي: هذا مرسل، وهو شاهد للموصول قبله. وشاهد آخر أخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب الظهار (ح 2063) والحاكم 2 \ 481، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، من طريق تميم بن سلمة السلمي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليه بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع له ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. قالت عائشة: فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) قال: وزوجها أوس بن الصامت، وأصله في البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب وكان الله سمعيا بصيرا 13 \ 372 فتح، والنسائي 2 \ 103، قال الأعمش عن تميم عن عروة عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) . وأخرجه الحاكم 2 \ 481، والبيهقي 2 \ 290، وابن حزم 10 \ 52 من طريق محمد بن الفضل ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت، وكان أوس امرأ به لمم، فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته، فأنزل الله فيه كفارة الظهار. صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال ابن حزم: ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده، إلا خبرا نذكره بعد هذا إن شاء الله. وصححه ابن القيم في الهدي 5 \ 333. وشاهد ثالث: أخرجه سعيد بن منصور 8 \ 75، من طريق صالح بن كيسان، وهو مرسل صحيح. ورابع أخرجه ابن جرير 28 \ 2، وابن عدي في الكامل 3 \ 24، عن أبي العالية مرسلا. وخامس: أخرجه الدارقطني 3 \ 316 عن قتادة عن أنس: أن أوس بن الصامت ظاهر إلخ. وهو عند ابن جرير عن قتادة مرسلا. وسادس: أخرجه ابن جرير 28 \ 3 عن عكرمة عن ابن عباس كان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت. . . الحديث.
(2) سورة المجادلة الآية 1 (1) {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
(3) أي إلى ما فرض الله في هذه الآيات من كفارة الظهار. (2)(67/338)
صفحة فارغة(67/339)
وأما الإجماع:
فقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن صريح الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وأجمعوا على أن ظهار العبد مثل ظهار الحر (1) .
وأما حكمه الوضعي: فصحيح، وتترتب عليه آثاره وأحكامه، إذا توفرت فيه شروط صحته الآتي بيانها.
__________
(1) الإجماع ص 105، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 81، والإفصاح 2 \ 63، وبداية المجتهد 2 \ 105.(67/340)
المبحث الأول: شروط صحة الظهار وفيه مطالب:
المطلب الأول: شرط كون المظاهر زوجا
وعلى هذا فلا يصح الظهار من السيد لأمته. وهذا قول جمهور أهل العلم.
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (1) فالله عز وجل
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3(67/340)
أناط حكمه بالنساء، ومطلقه ينصرف إلى الزوجات، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (1) .
قال ابن عبد البر: وقد أجمعت الأمة أن ليس إيلاء الرجل من أمته بإيلاء، وأنها يمين لا حكم لها إلا الكفارة كسائر الأيمان.
2 - ولأنه لفظ تعلق به تحريم الزوجة، فلا تحرم به الأمة كالطلاق (2) .
3 - أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه، وبقي محله وهو الزوجة، فلما لم يصح طلاق الأمة لم يصح الظهار منها (3) .
4 - أنه لا يلحق الأمة طلاق، ولا إيلاء، ولا لعان، فكذلك لا يلحقها ظهار (4) .
5 - أن اليمين تقع على كل شيء، والظهار لا يقع على كل شيء، فكان في قسم ما يقع على الزوجات كالطلاق واللعان (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 226
(2) مغني المحتاج 3 \ 352، ونهاية المحتاج 7 \ 82.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 422، الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 251.
(4) الاستذكار 17 \ 140، 140.
(5) الاستذكار 17 \ 140، 140.(67/341)
القول الثاني: أنه يصح الظهار من السيد لأمته، إذا كانت مدبرة، أو أم ولد. بخلاف المبعضة، ومن علق عتقها على أجل، وكذا الأمة، فلا يصح الظهار منهن.
وهذا هو المشهور عن المالكية، وبه قال الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ومجاهد (1) .
__________
(1) انظر: مصنف عبد الرزاق 6 \ 442، والمحلي 10 \ 50، والاستذكار 17 \ 139.(67/342)
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (1) .
والأمة من نسائه، بدليل قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (2) ، ولذلك حرمن؛ لأنهن أمهات أزواج قبل الدخول (3) .
قال ابن العربي المالكي في قول مالك وأصحابه: بصحة الظهار من الأمة: وهي مسألة عسيرة علينا؛ لأن مالكا يقول: إذا قال لأمته: أنت علي حرام لا يلزم - أي يكون لغوا - فكيف يبطل فيها صريح التحريم، وتصح كنايته، ولكن تدخل الأمة في عموم قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} (4) لأنه أراد من محللاتهم، والمعنى فيه: أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد، فصح في الأمة، أصله الحلف بالله تعالى.
ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: قول ابن عبد البر: أما احتجاجهم بظاهر قول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (5) فإن النساء تحرم أمهاتهن بالعقد
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) سورة النساء الآية 23
(3) الاستذكار 17 \ 140.
(4) سورة المجادلة الآية 2
(5) سورة النساء الآية 23(67/343)
عليهن قبل الدخول، وليس كذلك الإماء؛ لأنهن لا تحرم أمهاتهن إلا بالدخول.
الوجه الثاني: قول الشافعي: وكذلك قال الله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (1) فلو آلى من أمته لم يلزمه الإيلاء، وكذلك قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (2) وليست من الأزواج، فلو رماها لم يلتعن؛ لأنا عقلنا عن الله عز وجل أنها ليست من نسائنا، وإنما نساؤنا أزواجنا، ولو جاز أن يلزم واحدا من هذه الأحكام لزمها كلها؛ لأن ذكر الله عز وجل لها واحد (3) .
الوجه الثالث: أنه لا يسلم أن الأمة من نسائه، بل من ماله.
2 - ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يفتدى في الأمة، كما يفتدى في الحرة (4) .
ونوقش من وجهين:
الأول: عدم ثبوته.
الثاني: عدم صراحته.
3 - ولأنها مباحة، فصح الظهار منها كالزوجة (5) .
ونوقش: بأن مقتضى هذا الدليل إلحاق الأمة بالزوجة، وقد سبق مناقشته في الدليل الأول.
__________
(1) سورة البقرة الآية 226
(2) سورة النور الآية 6
(3) الأم 5 \ 277.
(4) في المدونة 2 \ 297 ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5) المغني 11 \ 65.(67/344)
4 - ولأنه لفظ يتعلق بتحريم البضع دون رفع العقد فصح في الأمة أصله اليمين بالله (1) .
ونوقش: بالفرق بين اليمين والظهار كما في أدلة الجمهور.
قال ابن رشد: " سبب الخلاف معارضة قياس الشبه للعموم. . . عموم اللفظ يقتضي دخول الإماء، وتشبيهه بالإيلاء يقتضي خروجهن من الظهار " (2) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لقوة ما استدلوا به، ولظهور الفرق بين الزوجة والأمة.
الشرط الثاني: أن يكون الزوج يمكن وطؤه:
فإذا كان لا يمكن وطؤه كالمجبوب - وهو مقطوع الذكر - ونحوه، فلا يصح ظهاره.
وهو قول أصبغ، وسحنون من المالكية (3) .
__________
(1) الإشراف 2 \ 146.
(2) بداية المجتهد 2 \ 118.
(3) الشرح الكبير للدردير 2 \ 441، 442.(67/345)
وحجة هذا القول: أن الظهار لتحريم الوطء، وهو ممتنع من الوطء بغير اليمين (1) .
ونوقش: بعدم التسليم، بل لقوله منكرا من القول وزورا، فكان مظاهرا.
القول الثاني: صحة الظهار من الزوج الذي لا يمكن وطؤه.
وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) . وهذا العموم يشمل الزوج الذي لا يمكن وطؤه.
2 - أنه يصح طلاقه ولعانه، فصح ظهاره (3) .
الترجيح:
يترجح لي - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من صحة الظهار من الزوج الذي لا يمكن وطؤه؛ لعموم الآية.
__________
(1) انظر: الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 249.
(2) سورة المجادلة الآية 3
(3) ينظر: المغني 11 \ 56.(67/346)
المطلب الثاني: شرط الإسلام
وعلى هذا فلا يصح ظهار الذمي.(67/346)
وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية.
واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) . فقوله تعالى: منكم خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة (3) .
ونوقش: بأن الله لم يخصص في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (4) .
وأيضا هو استدلال بمفهوم الخطاب، وهو موضع خلاف بين الأصوليين.
2 - أن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ، فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار (5) .
ونوقش: بعدم التسليم، فأنكحتهم صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لأنكحة الكفار، ولو كانت فاسدة لم يقرها النبي صلى الله عليه وسلم وإذا صحت صح ما يتفرع عنها من
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 417، وبدائع الصنائع 3 \ 230، الدر المختار وحاشيته 3 \ 466.
(2) سورة المجادلة الآية 2
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 417، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 \ 276.
(4) سورة المجادلة الآية 3
(5) انظر: المصادر السابقة، وبدائع الصنائع 3 \ 230.(67/347)
طلاق أو ظهار.
3 - أن الكفارة لا تصح منه وهي الرافعة للتحريم، فلا يصح منه التحريم، والدليل على أن الكفارة لا تصح منه: أنها عبادة تفتقر إلى النية، فلا تصح منه كسائر العبادات (1) .
ونوقش من وجوه:
الأول: أن الكفارة فيها معنى العقوبة، وهو أهل للعقوبة، ولهذا تلزمه كفارة الصيد إذا قتله في الحرم، والحد يقام عليه.
الثاني: أن امتناع بعض أنواع الكفارة في حقه كالصيام لا يلزم منه عدم صحة التكفير بالعتق والإطعام.
الثالث: أن النية إنما تعتبر لتعيين الفعل للكفارة، فلا يمتنع ذلك في حق الكافر، كالنية في كنايات الطلاق (2) .
القول الثاني: عدم شرطية الإسلام، فيصح الظهار من الذمي. وهذا مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (5) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 230.
(2) انظر: المغني 11 \ 56.
(3) روضة الطالبين 8 \ 261، فتح الوهاب 2 \ 93، ونهاية المحتاج 7 \ 82.
(4) المغني 11 \ 56، والمنتهى 2 \ 326.
(5) سورة المجادلة الآية 3(67/348)
وهذا يشمل المسلم والذمي.
2 - أنه يصح طلاقه فيصح ظهاره (1) .
3 - أن حكمه الحرمة، والكفار مخاطبون باجتناب المحرمات (2) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، من صحة ظهار الذمي، لعموم الآية، ولثبوت أحكام النكاح في حقه، والظهار فرع عن ذلك.
__________
(1) مغني المحتاج 3 \ 352.
(2) بدائع الصنائع 3 \ 230.(67/349)
المطلب الثالث: شرط الحرية
وعلى هذا فلا يصح ظهار العبد.
وهو رواية عن الإمام مالك (1) ، وبه قال بعض الحنابلة (2) .
واستدلوا بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (3) ، والعبد لا يملك الرقاب.
ونوقش: بأن إيجاب الرقبة إنما هو في حق من يملكها، ولا ينفي ذلك صحة الظهار ممن لا يملكها كالمعسر يصح ظهاره، وفرضه الصوم.
والقول الثاني: عدم شرطية الحرية.
وعلى هذا فيصح ظهار العبد.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 \ 276.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 247.
(3) سورة المجادلة الآية 3(67/349)
وهو قول جمهور أهل العلم.
واحتجوا بما يلي:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (1) وهذا يشمل الحر والرقيق.
2 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} (2) فقوله تعالى: منكم يقتضي صحة الظهار من العبد خلافا لمن منعه (3) .
3 - أنه مكلف يصح طلاقه فيصح ظهاره كالحر.
4 - أن الظهار تحريم، والرقيق من أهل التحريم (4) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وهو صحة الظهار من الرقيق؛ للعمومات، ولأنه من جملة المسلمين، وأحكام النكاح في حقه ثابتة.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) سورة المجادلة الآية 2
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 \ 1750.
(4) بدائع الصنائع 3 \ 230.(67/350)
المطلب الرابع: أن يكون عاقلا
وهذا باتفاق الأئمة.(67/350)
وعلى هذا فلا يصح ظهار المجنون، والنائم، والمغمى عليه، والمعتوه.
ودليل ذلك:
حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 6 \ 101، 144، والنسائي في الكبرى 3 \ 360، وأبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق (ح 4398) ، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه (ح 2041) ، والدارمي 2 \ 225، وابن حبان 1 \ 355، وابن الجارود 1 \ 149، والحاكم 2 \ 59، وأبو يعلى 7 \ 366، والترمذي في العلل الكبير ص 225، والبيهقي في الكبرى 6 \ 84، والطحاوي في المشكل 10 \ 151، عن عفان بن مسلم، وعبد الرحمن بن مهدي، وشيبان بن فروخ، وروح بن عبادة، والحسن بن موسى، ويزيد بن هارون، وأبي داود الطيالسي، وموسى بن إسماعيل، ومحمد بن أبان. كلهم عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، والحديث تفرد به حماد بن أبي سليمان، وأيضا في رواية حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان كلام، لكن قال الترمذي: '' سألت محمدا - أي البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: أرجو أن يكون محفوظا، قلت له: روى هذا غير حماد؟ قال: لا أعلمه ''. وقال الحافظ في الفتح 12 \ 124 بعد أن ذكر حديث علي وابن عباس وعائشة: '' وهذه طرق يقوي بعضها بعضا ''، وقال الزيلعي في نصب الراية 4 \ 162: '' ولم يعله الشيخ في الإمام بشيء، وإنما قال: هو أقوى إسنادا من حديث علي ''. فهو حديث ثابت وله شواهد منها حديث علي، وابن عباس، وأبي رافع، وأبي هريرة، وشداد، وثوبان. (انظر: نصب الراية 4 \ 164) .(67/351)
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده (1) » .
فقوله: «لا يدري أين باتت يده (2) » يدل على عدم مؤاخذة النائم، لتغطية عقله، فدل ذلك على اعتبار العقل.
ولأن خطاب التحريم لا يتناول من لا يعقل (3) .
قال ابن قدامة: " ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره كالطفل، والزائل العقل بجنون، أو إغماء، أو نوم، أو غيره، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا " (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الوضوء \ باب الاستجمار وترا (162) ، ومسلم في الطهارة باب كراهة عمس المتوضئ. . (278) .
(2) أخرجه البخاري في الوضوء \ باب الاستجمار وترا (162) ، ومسلم في الطهارة باب كراهة عمس المتوضئ. . (278) .
(3) بدائع الصنائع 3 \ 230.
(4) المغني 11 \ 57.(67/352)
وأما السكران:
فإن كان معذورا بسكره كأن جهل كونه مسكرا، لم يصح ظهاره باتفاق الفقهاء (1) ؛ لما يأتي من الأدلة على عدم اعتبار أقوال السكران.
وأما إن كان غير معذور بسكره، فاختلف العلماء في صحة ظهاره بناء على الاعتداد بأقواله على قولين:
القول الأول: أنه لا يعتد بأقواله فلا يعتد بظهاره:
وهو رواية عن الإمام أحمد (2) ، وهو مذهب الظاهرية (3) واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم (4) .
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (5) . فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر.
2 - ما رواه بريدة رضي الله عنه في «قصة ماعز رضي الله عنه، قال: يا رسول الله طهرني، قال: مم أطهرك؟ قال: من الزنا،
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 \ 439، وروضة الطالبين 8 \ 62، 261، وفتح الوهاب 2 \ 93، 143.
(2) زاد المعاد 5 \ 211.
(3) المحلي 1 \ 208.
(4) الاختيارات ص 254، وزاد المعاد 5 \ 211.
(5) سورة النساء الآية 43(67/353)
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد ريح خمر، فقال النبي صلى الله وسلم: أزنيت؟ قال: نعم فأمر به فرجم (1) » .
وهذا ظاهر في أن السكر يمنع من ترتب الحكم على من اتصف به.
3 - حديث علي رضي الله عنه، في «قصة حمزة لما عقر شارفي علي رضي الله عنه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه يلومه فصعد فيه النظر وصوبه وهو سكران، ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فنكص النبي صلى الله عليه وسلم على عقبيه (2) » .
قال ابن القيم رحمه الله: " وهذا القول لو قاله واحد غير سكران لكان ردة وكفرا، ولم يؤخذ بذلك حمزة ".
4 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود، باب حد الزنا (ح 1695) .
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب شهود الملائكة بدرا (ح 4003) .
(3) أخرجه الإمام أحمد 6 \ 27، وأبو داود في الطلاق، باب الطلاق على غلط (ح 2193) ، وابن ماجه في الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (ح 2046) ، وابن أبي شيبة 5 \ 49، والحاكم 2 \ 198، الطحاوي في المشكل 2 \ 278، وأبو يعلى (ح 4444) ، والدارقطني 4 \ 36، والبيهقي 7 \ 357، من طريق ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن محمد بن عبيد عن صفية بنت شيبة عن عائشة، وفيه محمد بن عبيد ضعيف كما في التهذيب للمنذري (ح 2107) . وأخرجه البيهقي عن زكريا بن إسحاق ومحمد بن عثمان عن صفية به، قال ابن أبي حاتم في العلل (ح 1292، 1300) بعد أن ذكره من طريق ابن إسحاق: '' ورواه محمد بن عبيد، عن عطاء عن عائشة، قال: حديث صفية أشبه ''. وأخرجه الدارقطني عن قزعة عن زكريا ومحمد بن عثمان به، وفي التعليق المغني 4 \ 36: '' قزعة، قال البخاري: ليس بذاك، وقال أحمد: ذاهب الحديث ''.(67/354)
قال شيخ الإسلام: " وحقيقة الإغلاق: أن يغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، ويدخل في ذلك طلاق المكره، والمجنون، ومن زال عقله بسكر، أو غضب، وكل من لا قصد له، ولا معرفة له بما قال ".
5 - قول عثمان رضي الله عنه: " ليس لمجنون ولا سكران طلاق ".
وقال ابن عباس: " طلاق السكران، والمستكره ليس بجائز " (1) .
القول الثاني: أنه يصح ظهار السكران:
وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
وحجة هذا القول ما يلي:
1 - عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) .
ونوقش هذا الاستدلال: بتخصيص السكران من هذا العموم؛
__________
(1) علقه البخاري بصيغة الجزم 9 \ 388 (فتح) .
(2) سورة المجادلة الآية 3(67/355)
لما تقدم من أدلة الرأي الأول.
2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (1) ، فخطاب السكران يدل على تكليفه.
ونوقش: بأن الخطاب هنا يجب حمله على الذي يعقل الخطاب؛ إذ مخاطبة الذي لا يعقل لا فائدة منه، وأنه نهي عن السكر عند إرادة الصلاة.
3 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله (2) » .
وكذا الظهار.
ونوقش: بعدم ثبوته، وأيضا لو ثبت لكان في المكلف.
وجواب ثالث: أن السكران الذي لا يعقل، إما معتوه، وإما ملحق به.
4 - أن الصحابة رضي الله عنهم أوقعوا طلاق السكران، فمن
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) أخرجه الترمذي في الطلاق، باب ما جاء في طلاق المعتوه (ح 1191) ، عن عطاء بن عجلان عن عكرمة بن أبي خالد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: '' لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان وهو ضعيف ذاهب الحديث ''. وأخرجه ابن عدي في الكامل 5 \ 2003 في ترجمة عطاء بن عجلان، وروي في ترجمته عن يحيى بن معين قوله: '' عطاء بن عجلان كوفي ليس بشيء، كذاب كان يوضع له الحديث فيحدث به ''. وقال ابن حبان في المجروحين 2 \ 129: '' يروي الموضوعات عن الثقات ''.(67/356)
ذلك ما رواه أبو لبيد (1) : " أن رجلا طلق امرأته وهو سكران، فرفع إلى عمر بن الخطاب، وشهد عليه أربع نسوة، ففرق عمر بينهما " (2) .
وروى سعيد بن المسيب: " أن معاوية أجاز طلاق السكران " (3) .
ويلحق الظهار بالطلاق.
ونوقش: بأن الصحابة رضي الله عنهم مختلفون في إيقاع طلاق السكران.
5 - أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا السكران مقام الصاحي في كلامه، فقال: " إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون ".
لكن لا يثبت قال ابن حزم: " وهو خبر مكذوب قد نزه الله عليا وعبد الرحمن بن عوف منه، وفيه من المناقضة ما يدل على بطلانه،
__________
(1) لمازة بن زيار، الأزدي، البصري، صدوق، ناصبي. (تقريب التهذيب 2 \ 138) .
(2) المحلي 10 \ 209، وسنن البيهقي 7 \ 359. (رجاله ثقات) .
(3) المحلى 10 \ 209. (رجاله ثقات) .(67/357)
فإن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذي لا حد عليه " (1) .
6 - أنه مكلف، ولهذا يؤاخذ بجناياته.
ونوقش: قال ابن القيم: " باطل؛ إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل، ومن لا يعقل ما يقول، فليس بمكلف. وأيضا: لو كان مكلفا لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها، أو غير عالم بأنها خمر، وهم لا يقولون به ".
وأما إلزامه بجناياته فمحل نزاع لا محل وفاق، فقال عثمان البتي: " لا يلزمه عقد ولا بيع، ولا حد إلا حد الخمر فقط، وهذا إحدى الروايتن عن أحمد: أنه كالمجنون في كل فعل يعتبر له العقل. والذين اعتبروا أفعاله دون أقواله فرقوا بفرقين:
أحدهما: أن إسقاط أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص، إذ كل من أراد قتل غيره، أو الزنا، أو السرقة، أو الحراب سكر، وفعل ذلك، فيقام عليه الحد إذا أتى جرما واحدا، فإذا تضاعف جرمه بالسكر كيف يسقط عنه الحد؟ هذا مما تأباه قواعد الشريعة وأصولها.
والفرق الثاني: أن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة؛ لأن القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاء أفعاله ضرر محض، وفساد منتشر بخلاف أقواله فإن صح هذان الفرقان بطل الإلحاق. . " (2) .
__________
(1) المحلى 10 \ 209.
(2) زاد المعاد 5 \ 212.(67/358)
7 - أنه فرط بإزالة عقله فيما يدخل فيه ضررا على غيره، فألزم حكم تفريطه عقوبة له (1) .
ونوقش: بأن عقوبته التي رضيها الله عز وجل هي الحد، ولا عهد في الشريعة بالعقوبة بالطلاق، والظهار، والتفريق بين الزوجين.
8 - أن ترتب الظهار على المظاهرة من باب ربط الأحكام بأسبابها، فلا يؤثر فيه السكر.
ونوقش: بعدم التسليم، فإن هذا مما يوجب إيقاع الطلاق من سكر مكرها، أو جاهلا بأنها خمر، وبالمجنون والنائم، ثم يقال: وهل ثبت لكم أن طلاق السكران سبب حتى يربط الحكم به، وهل النزاع إلا في ذلك؟ (2) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - عدم وقوع ظهار السكران؛ إذ لا يعلم ما يقول، ومن كان كذلك لا حكم لقوله، ولورود المناقشة على أدلة القول الثاني.
__________
(1) كشاف القناع 5 \ 234.
(2) زاد المعاد 5 \ 213.(67/359)
المطلب الخامس: شرط البلوغ
فإن كان غير مميز فلا يصح ظهاره باتفاق الأئمة، وإن كان مميزا غير بالغ، فقد اختلف العلماء في صحة ظهاره على قولين:(67/359)
القول الأول: عدم صحة ظهار غير البالغ.
وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، واختاره ابن قدامة (4) .
وحجة هذا القول:
1 - ما تقدم من الأدلة على اشتراط العقل (5) .
2 - ولأن الظهار من التصرفات الضارة المحضة، فلا يملكه الصبي كما لا يملك الطلاق والعتاق (6) .
3 - أنها يمين موجبة للكفارة، فلم تنعقد منه كاليمين بالله تعالى (7) .
4 - أن الكفارة وجبت لما فيه من قول المنكر والزور، وذلك مرفوع عن الصبي؛ لكون القلم مرفوعا عنه (8) .
5 - ولأنه قول يتعلق به وجوب حق، فلم يصح من غير مكلف كالإقرار (9) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 230، وفتح القدير 4 \ 245، والفتاوى الهندية 1 \ 506.
(2) المدونة 2 \ 298، ومواهب الجليل 4 \ 113.
(3) المنهاج مع مغني المحتاج 3 \ 352، وفتح الوهاب 2 \ 93.
(4) المغني 11 \ 56.
(5) انظر: ص 350.
(6) بدائع الصنائع 3 \ 330.
(7) المغني 11 \ 56، والمقنع مع شرحه المبدع 8 \ 35.
(8) بدائع الصنائع 3 \ 330، والمبدع 8 \ 36.
(9) ينظر: المغني 13 \ 436.(67/360)
القول الثاني: عدم اشتراط البلوغ، فيصح الظهار من المميز:
وهو مذهب الحنابلة (1) .
وحجة هذا القول:
1 - عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (2) وهذا يشمل المميز، والبالغ.
ونوقش: بم تقدم من أدلة الجمهور من تخصيص المميز من هذا العموم.
2 - قياس الظهار على الطلاق، فكما يصح طلاقه؛ لعموم أدلة الطلاق، فيصبح ظهاره (3) .
ونوقش من وجهين:
الأول: عدم تسليم الأصل المقيس عليه، فهو موضع خلاف بين أهل العلم، فجمهور أهل العلم: عدم وقوع طلاق المميز.
الثاني: أن الظهار فيه معنى اليمين، بخلاف الطلاق.
3 - ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " اكتموا الصبيان النكاح " (4) . وفي إسناده مبهم.
4 - أن الصبي المميز تجب عليه الزكاة، فكذا كفارة الظهار (5) .
__________
(1) الكافي 352، والمحرر 2 \ 89، والفروع 5 \ 492.
(2) سورة المجادلة الآية 3
(3) الكافي 3 \ 352، والمبدع 8 \ 35.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 5 \ 35.
(5) ينظر: معونة أولي النهى 2 \ 553.(67/361)
ونوقش من وجهن:
الأول: أنه يلزم من ذلك وجوب كفارة الظهار على المجنون وغير المميز؛ لوجوب الزكاة في ماله، ولم يقل به أحد.
الثاني: أنه منقوض باجتهاد مثله، فيقال: إن العبادات البدنية كالصلاة والصيام لا تجب عليه، فكذا كفارة الظهار.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم من اشتراط البلوغ لصحة الظهار؛ إذ الأصل براءة ذمة الصبي، وعدم ما يدل صراحة على وجوب كفارة الظهار عليه.(67/362)
المطلب السادس: شرط الاختيار
وعلى هذا فلا يصح ظهار المكره، وكذا الخاطئ، فإذا سبق لسانه إلى الظهار من غير قصد منه، فلا يصح الظهار.
وهذا قول جمهور أهل العلم.
ودليل ذلك:
1 - قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 106(67/362)
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (1) .
2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه (2) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 5
(2) أخرجه ابن المنذر في الإقناع 2 \ 584، وابن حبان في صحيحه (ح 1498) موارد، والطبراني في الصغير 1 \ 270، وابن عدي في الكامل (ح 758) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3 \ 95، والدارقطني في سننه 4 \ 170، والحاكم 2 \ 216، والبيهقي في الكبرى 7 \ 356، من طريق بشر بن بكر، وأيوب بن سويد، عن الأوزاعي عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس مرفوعا. وأخرجه ابن ماجه (ح 2045) ، والعقيلي في الضعفاء 4 \ 145، من طريق محمد بن المصفى، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وسئل الإمام أحمد كما في العلل 1 \ 561 عن حديث محمد بن المصفى عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي به، فذكره وعن حديث عبد الله بن عمر؟ فأنكره جدا، وقال: '' ليس يروى إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم '' وحديث الحسن الذي أشار إليه الإمام أحمد، أخرجه سعيد بن منصور في سننه 1 \ 278، وابن أبي شيبة 4 \ 82، وعبد الرزاق 6 \ 409، من طريق منصور وعوف وهشام وجعفر العطاري كلهم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' تجاوز الله عز وجل لابن آدم عما أخطأ، وعما نسي، وعما أكره، وعما غلب عليه ''. وقال أبو حاتم في العلل 1 \ 431: '' لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث عن عطاء، والصواب إنما سمعه من رجل لم يسمه أتوهم أنه عبد الله بن عامر، أو إسماعيل بن مسلم، ولا يصح هذا الحديث، ولا يثبت إسناده ''. والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال ابن رجب في شرح الأربعين ص 325: '' وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر، ورواته كلهم محتج بهم في الصحيح ''، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الأحكام (713) . وأخرجه ابن أبي شيبة 4 \ 172 عن ابن جريج قال عطاء بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: '' إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث، عن الخطأ، والنسيان وما استكرهوا عليه ''.(67/363)
القول الثاني: صحة الظهار من المكره، والخاطئ.
وهذا مذهب الحنفية (1) .
وحجتهم: قياس الظهار على الطلاق، فكما يصح طلاق المكره والخاطئ، فكذا ظهاره (2) .
ونوقش: بعدم تسليم الأصل المقيس عليه، فأكثر أهل العلم على عدم وقوع طلاق المكره والخاطئ.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لقوة ما استدلوا به، ومناقشة دليل الحنفية.
وكذا يشترط العلم والذكر.
فإذا كان جاهلا بحكم الظهار، أو كان ناسيا فتلفظ بالظهار، فلا يقع منه (3) .
وحجة ذلك:
1 - ما تقدم من الأدلة على اشتراط الاختيار.
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 231، والبحر الرائق 4 \ 101.
(2) بدائع الصنائع 3 \ 231.
(3) ينظر: المصادر السابقة.(67/364)
2 - قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) ، «قال الله: قد فعلت (2) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه لا يكلف إلا ما يطاق (ح 126) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(67/365)
المطلب السابع: شرط الزوجة التي يمكن وطؤها
فإن كانت الزوجة لا يمكن وطؤها، إما لكونها رتقاء، أو عفلاء (1) ، أو قرناء، ونحو ذلك، فلا يصح الظهار منها.
وبه قال أبو ثور (2) .
وحجة هذا القول: أن الظهار لتحريم الوطء، وهو ممتنع من الوطء بغير اليمين (3) .
وتقدم مناقشة هذا التعليل (4) .
__________
(1) العفل: بوزن فرس: نتأة تخرج في فرج المرأة، شبيه بالأدرة التي للرجال في الخصية. (المطلع) .
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 250.
(3) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 250.
(4) انظر: ص 344.(67/365)
القول الثاني أنه يصح الظهار من الزوجة، وإن كان لا يمكن وطؤها.
وهذا هو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (5) ، وهذا عام يشمل الزوجة التي يمكن وطؤها، والتي لا يمكن وطؤها.
2 - أنها زوجة يصح طلاقها، فصح الظهار منها كغيرها (6) .
الترجيح:
يترجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم اشتراط إمكان الوطء؛ لعموم الآية.
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 233.
(2) المدونة 2 \ 303، والشرح الكبير للدردير وحاشية 2 \ 443، وجواهر الإكليل 3 \ 115.
(3) روضة الطالبين 8 \ 261، مغني المحتاج 3 \ 353، ونهاية المحتاج 7 \ 82.
(4) المغني 11 \ 57، والمبدع 8 \ 41.
(5) سورة المجادلة الآية 2
(6) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 250.(67/366)
المطلب الثامن: كون المشبه به محلا للاستمتاع عادة، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تشبيه الزوجة بظهر ذكر(67/366)
مثل أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أبي، أو ابني، أو غيرهما من الرجال. فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يكون ظهارا.
وهذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، ورواية عن الإمام أحمد (3) .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (4) .
وظهر الأب والابن ليس أما ولا في معناها.
2 - أنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، فأشبه ما لو قال: أنت علي كمال زيد (5) .
القول الثاني: أنه ظهار.
وهو مذهب المالكية (6) ، والحنابلة (7) .
وحجة هذا القول: أنه شبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد أشبه الأم (8) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 231، وفتح القدير 4 \ 85، والدر المختار 3 \ 467.
(2) الأم 5 \ 278، وإعانة الطالبين 4 \ 37، ومغني المحتاج 3 \ 354.
(3) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 238، والفروع 5 \ 492، وشرح المنتهى 3 \ 199.
(4) سورة المجادلة الآية 2
(5) المغني 11 \ 63.
(6) التفريع 2 \ 94، والإشراف 2 \ 147، وأحكام القرآن للقرطبي 17 \ 275، والشرح الصغير 1 \ 485.
(7) المغني 11 \ 63، والشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 237، والمبدع 8 \ 33.
(8) المغني 11 \ 63.(67/367)
ونوقش هذا الاستدلال: بالفرق؛ إذ الأم محل للاستمتاع، دون الأب ونحوه.
الترجيح:
يترجح - والله أعلم - قول من قال بأنه ليس ظهارا.
قال الشنقيطي: رحمه الله: " الذي يظهر جريان هذه المسألة على مسألة أصولية، فيها لأهل الأصول ثلاثة مذاهب، وهي في حكم ما إذا دار اللفظ بين الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية على أيهما يحمل؟ والصحيح عند جماعات من الأصوليين: أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية أولا إن كانت له حقيقة شرعية، ثم إن لم تكن شرعية حمل على العرفية، ثم اللغوية، وعن أبي حنيفة (1) : أنه يحمل على اللغوية قبل العرفية؛ لأن العرفية وإن ترجحت بغلبة الاستعمال، فإن الحقيقة اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
والقول الثالث: أنه لا تقدم إحداهما على الأخرى، بل يحكم باستوائهما، فيكون اللفظ مجملا لاستواء الاحتمالين فيها، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج، وإذا علمت ذلك فاعلم: أن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أبي مثلا لا ينصرف في الحقيقة العرفية إلى الاستمتاع بالوطء أو مقدماته؛ لأن العرف ليس فيه استمتاع بالذكور فلا يكون فيه ظهار، وأما على تقديم الحقيقة اللغوية فمطلق تشبيه الزوجة بمحرم ولو ذكرا يقتضي
__________
(1) ينظر: بدائع الصنائع 3 \ 36، 40.(67/368)
التحريم فيكون بمقتضى اللغة له حكم الظهار " (1) .
وعلى هذا فإن نوى بهذا اللفظ الظهار، أو لم ينو شيئا، فكفارة يمين، وإن نوى الطلاق، فطلقة؛ لما تقدم في المطلب السابق.
المسألة الثانية: تشبيه الزوجة بظهر بهيمة
كأن يقول لزوجته: أنت علي كظهر البهيمة، أو دابتي.
فللعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه لا يكون ظهارا.
وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (2) .
2 - أن ظهر البهيمة ليس محلا للاستمتاع، فلم يكن تشبيه الزوجة به ظهارا.
القول الثاني: أنه ظهار.
وهو مذهب المالكية (3) .
__________
(1) أضواء البيان 6 \ 522.
(2) سورة المجادلة الآية 2
(3) التفريغ 2 \ 94.(67/369)
وحجته: أن حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم.
ونوقش: بعدم التسليم أن الظهار مجرد تشبيه ظهر بظهر، بل تشبيهه بظهر مخصوص، فلا يشمل كل ظهر (1) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم؛ إذ ظهر البهيمة ليس محلا للاستمتاع.
فرع:
ولا يشترط تكليف الزوجة، ولا إسلامها، ولا حريتها، ولا طهارتها، ولا الدخول بها. فيصح الظهار من الصغيرة، والمجنونة، والكتابية والأمة، وغير المدخول بها. وكذا الحائض، والنفساء. وكذا يصح الظهار من الرجعية، والمحرمة بحج أو عمرة.
ودليل ذلك: ما تقدم من الدليل على صحة الظهار من كل زوجة أمكن وطؤها، أم لا.
فرع: في ظهار الأخرس:
يصح الظهار من كل زوج يصح طلاقه.
__________
(1) انظر: ص 366.(67/370)
وعليه فيصح الظهار من الأخرس لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (1) الآية، ويكون ظهاره بالكتابة، أو بالإشارة المفهومة؛ لأن كتابته وإشارته المفهومة تقوم مقام نطق الناطق، فكذلك في الظهار.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3(67/371)
المبحث الثاني: تأقيت الظهار
يصح تأقيت الظهار، كما لو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي شهر رمضان، أو شوال، فإن وطئها خلال مدة الظهار، لزمته الكفارة، وإن انقضت المدة قبل وطئه لم يلزمه شيء.
وهذا قول جمهور أهل العلم.
وحجة ذلك:
1 - حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه، وفيه مظاهرته من زوجته شهر رمضان، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أصابها في الشهر، فأمره بالكفارة (1) .
2 - أنه لو كان مما لا يتوقت لما انحل بالتكفير كالطلاق،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.(67/371)
فأشبه الظهار اليمين التي يحلها الحنث، فيتوقت كما يتوقت اليمين، وليس كالطلاق؛ لأنه لا يحله شيء (1) .
3 - أنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة، فيصح مؤقتا كالإيلاء (2) .
القول الثاني: أنه إذا قيد ظهاره بوقت أصبح مؤبدا، فلا ينحل إلا بالكفارة، لكن يستثنى من ذلك ما إذا ظاهر مدة المنع من الوطء شرعا كحال الإحرام، أو الصوم، أو الاعتكاف، فإنه لا يلزمه الظهار.
وهذا مذهب المالكية (3) ، وقول عند الشافعية (4) .
وحجة هذا القول:
قال ابن العربي: " وما أخبر الله عنه في الظهار عموم في المؤقت والمؤبد، وإذا وقع التحريم بالظهار لم يرفعه مرور الزمان، وإنما ترفعه الكفارة التي جعلها الله رافعة له وقد وافقنا - أي الشافعي - على أنه لو طلق زمانا مؤقتا لزمه الطلاق عاما، ولا انفصال له عنه " (5) .
ونوقش:
1 - عدم التسليم، فإن لفظ الظهار قيد بوقت، فيتقيد بما
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 420.
(2) المغني 11 \ 69.
(3) المدونة 2 \ 298، والإشراف 2 \ 148، والشرح الكبير وحاشيته 2 \ 440، والشرح الصغير 1 \ 484.
(4) مغني المحتاج 3 \ 375.
(5) أحكام القرآن لابن العربي 4 \ 1754، وانظر أيضا: الإشراف 2 \ 148.(67/372)
وقت به؛ إذ المسلمون على شروطهم.
2 - أنه إذا ظاهر مدة المانع من الوطء شرعا: لا يلزمه؛ لأنه بمنزلة من ظاهر، ثم ظاهر.
القول الثالث: أنه لغو.
وهو قول الشافعية (1) .
وحجة ذلك: أنه لم يؤبد التحريم، فأشبه ما إذا شبهها بامرأة لا تحرم على التأبيد.
ونوقش: بأنه اجتهاد في مقابلة النص.
الترجيح: الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لدلالة السنة على ذلك.
__________
(1) مغني المحتاج 3 \ 357.(67/373)
المبحث الثالث: تعليق الظهار
يصح تعليق الظهار بالشرط نحو أن يقول الزوج: إذا دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي؛ لأنها يمين، فجاز تعليقه على شرط كالإيلاء.
ولأن أصل الظهار كان طلاقا، والطلاق يصح تعليقه بالشرط، فكذلك الظهار.
وقد اختلف العلماء فيما إذا علق ظهاره على امرأة أجنبية. بأن قال: إن تزوجتك، أو تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، أو(67/373)
قال لامرأة أجنبية: أنت علي كظهر أمي ثم تزوجها.
على قولين:
القول الأول: أنه لا يكون ظهارا.
وبه قال الشافعي (1) .
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) والأجنبية ليست من نسائه.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن التخصيص خرج مخرج الغالب، فإن الغالب أن الإنسان إنما يظاهر من نسائه، فلا يوجب تخصيص الحكم بهن، كما أن تخصيص الربيبة التي في حجره بالذكر لم يوجب اختصاصها بالتحريم (3) .
وأجيب من وجهين:
الوجه الأول: أن حمل الآية على الغالب، ومخالفة مقتضى اللفظ يحتاج إلى دليل، وأما قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (4) ، فشمل التحريم الربيبة التي في حجره والتي ليست في حجره؛ لأمرين:
الأول: أن قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ} (5) يشمل كل ربيبة.
__________
(1) روضة الطالبين 8 \ 265.
(2) سورة المجادلة الآية 3
(3) المغني 11 \ 76.
(4) سورة النساء الآية 23
(5) سورة النساء الآية 23(67/374)
خلاف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (1) ، فلا يشمل الأجنبية.
الثاني: أن في الآية دلالة على عدم اعتبار شرط الحجر؛ لأن الله ذكر لتحريم الربيبة شرطين: كونها في الحجر، والدخول بالأم، ففصل الله في الدخول بالأم دون شرط الحجر فلم يفصل الله فيه، فدل ذلك على اعتبار شرط الدخول دون شرط الحجر.
2 - أنها يمين ورد الشرع بحكمها مقيدا بنسائه، فلم يثبت حكمها في الأجنبية كالإيلاء، فإن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) كما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (3) (4) .
ونوقش: بأن الإيلاء إنما اختص حكمه بنسائه، لكونه يقصد الإضرار بهن دون غيرهن، والكفارة وجبت ههنا لقول المنكر والزور.
وأجيب: بعدم تسليم المنكر والزور؛ لكونها حال التعليق أجنبية.
3 - أنها ليست بزوجته، فلا يصح منها الظهار كأمته.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الظهار من الأمة انعقد يمينا وجبت به الكفارة، ولم تجب كفارة الظهار؛ لأنها ليست امرأة له حال التكفير، بخلاف مسألتنا.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3
(2) سورة المجادلة الآية 3
(3) سورة البقرة الآية 226
(4) المغني 11 \ 75.(67/375)
4 - ولأنه حرم محرمة، فلم يلزمه شيء كما لو قال: أنت علي حرام.
5 - أنه نوع تحريم، فلم يتقدم النكاح كالطلاق (1) .
ونوقش من وجهين:
الأول: أن الطلاق حل قيد النكاح، ولا يمكن حله قبل عقده، والظهار تحريم للوطء، فيجوز تقديمه على العقد كالحيض.
الثاني: أن الطلاق يرفع العقد، فلم يجز أن يسبقه، وهذا لا يرفعه، وإنما يعلق الإباحة على شرط.
القول الثاني: أنه يكون ظهارا.
وهو مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والحنابلة (4) . وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة وعطاء والحسن.
وحجة هذا القول:
1 - ما روي عن عمر رضي الله عنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي فتزوجها، قال: " عليه كفارة
__________
(1) المغني 11 \ 75.
(2) الموطأ 2 \ 559، والإشراف 2 \ 148.
(3) المغني 11 \ 75.
(4) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 258.(67/376)
الظهار " (1) . وأعل بالانقطاع (2) .
2 - ولأنها يمين مكفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى (3) .
ونوقش: بالفرق؛ إذ اليمين بالله تعالى صح انعقادها؛ لتوفر شرط الانعقاد، وأما الظهار لم يصح؛ لأن المظاهر منها أجنبية.
الترجيح:
يترجح - والله أعلم - القول بعدم كونه ظهارا ذلك أن القائل: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي مظاهر من أجنبية؛ لأنها حين الظهار المعلق أجنبية، والمتجدد هو نكاحها، والنكاح لا يكون ظهارا، فعلم أنه لو وقع الظهار، فإنما ذلك يكون استنادا إلى الظهار المتقدم معلقا، وهي إذ ذاك أجنبية، وتجدد الصفة لا يجعله متكلما بالظهار عند وجودها، فإنه عند وجودها مختار للنكاح غير مريد للظهار فلا يصح كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته لم تطلق بغير خلاف (4) .
فرع:
إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم ينعقد ظهاره.
__________
(1) سنن البيهقي 7 \ 383، القاسم بن محمد لم يدرك عمر رضي الله عنه
(2) المغني 11 \ 75.
(3) ينظر: زاد المعاد 5 \ 217.
(4) ينظر: زاد المعاد 5 \ 217.(67/377)
قال الإمام أحمد: إذا قال لامرأته: عليه كظهر أمه إن شاء الله، فليس عليه شيء هي يمين (1) .
وقال ابن عقيل: هو مظاهر (2) .
والدليل على عدم حنثه إذا استثنى بالمشيئة:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، كل تلد غلاما يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه - قال سفيان يعني الملك - قل: إن شاء الله، فنسي، فطاف بهن فلم تأت امرأة منهن بولد إلا واحدة بشق غلام، فقال أبو هريرة يرويه قال: لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا في حاجته، وقال مرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو استثنى (3) » .
ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال: إن شاء الله، فقد استثنى (4) » .
__________
(1) المغني 11 \ 70.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 264.
(3) أخرجه البخاري في كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان (ح.672) ، ومسلم في الأيمان، باب الاستثناء (ح. 1653) (23) .
(4) أخرجه أحمد 2 \ 10، وأبو داود في الأيمان والنذور (ح 3261) ، والنسائي 7 \ 25، وابن ماجه في الكفارات، باب الاستثناء في اليمين (ح 1206) ، وابن الجارود (ح 128) ، وابن حبان (ح 4339) إحسان، والبيهقي 7 \ 360. من طريق ابن عيينة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه النسائي 7 \ 25، والحاكم 4 \ 303، من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن كثير بن فرقد عن نافع به (إسناده صحيح) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(67/378)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشكره سبحانه على ما من به من التوفيق.
ومن خلال معايشتي لبحث الظهار خرجت بهذه الثمار:
الأولى: عناية الشارع بأحكام الظهار حيث جاءت أحكامه صريحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن تعريف الظهار في الشرع: (أن يشبه زوجته بمن تحرم عليه على تأبيد) .
الثالثة: أن حكمه التكليفي التحريم، وحكمه الوضعي الصحة إذا توفرت شروطه.
الرابعة: يشترط لصحة الظهارة؛ كون المظاهر زوجا، مطلقا أمكن وطؤه أو لا؟ مسلما أو ذميا، حرا أو رقيقا، عاقلا، بالغا، مختارا، ذاكرا، عالما، أمكن وطء الزوجة أو لا؟ وأن تكون الزوجة محلا للاستمتاع.
الخامسة: أنه يصح تعليق الظهار، وتأقيته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(67/379)
صفحة فارغة(67/380)
حديث شريف
حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت غلاما شابا أعزب وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان كقرني البئر وإذا فيها ناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار فلقيهما ملك آخر فقال لي لن تراع فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل قال سالم فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا (1) » . . .
(رواه البخاري)
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3739) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2479) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3919) ، مسند أحمد بن حنبل (2/146) ، سنن الدارمي الرؤيا (2152) .(67/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (1)
(سورة النساء، الآية 83)
__________
(1) سورة النساء الآية 83(68/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرازق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(68/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(68/3)
المحتويات
الافتتاحية
من ضوابط الإعلام في الإسلام لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 23
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا "رحمه الله 35
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية 55
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 87(68/4)
البحوث
شبهات حول الإسلام لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر 107
قصة إبراهيم عليه السلام الواردة في سورة الأنعام وما فيها من مباحث النبوة للدكتورة سارة بنت فراج بن علي العقلاء 155
حجية خبر الآحاد في العقيدة والرد على من أنكر ذلك للدكتور \ عبد الله بن سليمان الغفيلي 232
علم الكلام والتأويل وأثرهما على العقيدة الإسلامية للدكتور: إبراهيم بن محمد البريكان 278
تحلية المصاحف وكتب العلم وآلاتها للدكتور \ صالح بن محمد بن رشيد 312
المزاح في السنة للدكتور \ محمد بن عبد الله ولد كريم 343(68/5)
صفحة فارغة(68/6)
من ضوابط الإعلام في الإسلام
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على دربه واقتفى أثره واهتدى بسنته إلى يوم الدين، جعلنا الله منهم ونظمنا في سلكهم وسائر إخواننا المسلمين. أما بعد:
فإن من المعلوم بل من المتقرر عند كل مسلم ومسلمة أن دين الإسلام هو الدين الحق الذي أكمله الله وأتمه ورضيه لنا دينا يقول الله سبحانه وتعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) فدين رضيه الله لنا واجب علينا أن نرضى به ونفرح بمنة الله علينا أن هدانا له.
وهذا الدين كما أخبر الله دين كامل ودين شامل نظم أمور الدين والدنيا للفرد المسلم وللجماعة المسلمة ولعموم الخلق فكل شأن من شئون الحياة نجد أن هذا الدين العظيم قد جاء بما يكفل للبشرية على وجه العموم وللمسلمين بوجه الخصوص السعادة إذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(68/7)
امتثلته، ومن ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه في فاتحة هذا العدد المبارك من هذه المجلة القيمة مجلة البحوث الإسلامية وهو موضوع الإعلام ونظام الإسلام في الإعلام، وقبل الشروع في المقصود الأساسي لهذه الكلمة أحب أن أنبه إلى أمر مهم وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه أهل الإيمان وحثهم على التكامل فيما بينهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » وشبك بين أصابعه. متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهذا أصل عظيم يبين لنا ما يجب أن يكون عليه أهل الإيمان، فأهل الإيمان يحب بعضهم بعضا، وأهل الإيمان ينصر بعضهم بعضا، وأهل الإيمان يكمل بعضهم بعضا، هم متعاونون فيما بينهم على البر والتقوى امتثالا لأمر المولى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
ومن هنا نعلم أن نصرة هذا الدين لا تقف على فرد بعينه ولا جهة بخصوصها بل المؤمنون جميعهم مطالبون بنصرة هذا الدين، الجميع مطالب بالتعاون والتكامل لنشر هذا الدين بين العالمين والدفاع عنه، وكل منا على ثغر فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله.
ومن الثغور المهمة للإسلام وبلاد الإسلام ثغر الإعلام الذي
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(2) سورة المائدة الآية 2(68/8)
ازدادت أهميته في هذا العصر؛ لتطور وسائل الاتصال والإعلام وتقدمها، والإسلام قد اهتم بالإعلام منذ بزوغ هذا الدين العظيم، فالله سبحانه وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، فيقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (1) فامتثل أمر ربه وبلغ ما أرسل به، عن عائشة رضي الله عنها قالت «من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب (2) » الحديث أخرجه البخاري. ويقول سبحانه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (3)
فأمره الله سبحانه بإبلاغ الرسالة وأمره بإعلانها والصدع بها، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر واستخدم كل وسيلة إعلامية متاحة في وقتها لإبلاغ رسالة ربه عز وجل فجمع عشيرته الأقربين وناداهم وقررهم على تصديقهم له ثم بلغهم رسالة ربه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز وجل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (4) «أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليها ثم نادى: "يا صباحاه" فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4612) ، صحيح مسلم الإيمان (177) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3068) .
(3) سورة الحجر الآية 94
(4) سورة الشعراء الآية 214(68/9)
وبين رجل يبعث رسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) (1) » الحديث أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد، وغيرهما واللفظ لأحمد.
آذاه قومه ولم يقبلوا دعوته وحاربوه فانتقل إلى وسيلة أخرى وهي الموسم حين يجتمع الناس والقبائل يقوم بإبلاغ ما عنده ويطلب منهم النصر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم وبمجنة وعكاظ وبمنازلهم بمنى من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل وله الجنة (2) » الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله.
وسافر إلى الطائف ليبلغ رسالة ربه فردوه وأغروا سفهاءهم، وصبر وصابر، ولما أظهر الله الإسلام وأعز جنده استعمل وسائل أخرى لإيصال الرسالة وإبلاغها للعالمين فأرسل الرسل إلى كسرى، وقيصر، ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة يخبرهم بحاله وحال دعوته ويدعوهم للإسلام فمنهم من أجاب وآمن، ومنهم من أعرض، ومنهم من عاند وتكبر
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4770) ، صحيح مسلم الإيمان (208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/307) .
(2) سنن الترمذي فضائل القرآن (2925) ، سنن أبو داود السنة (4734) ، مسند أحمد بن حنبل (3/340) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3354) .(68/10)
وكان ربما يستعمل الشعر كوسيلة لإيهان عدوه وإضعافهم، فكان يقول لحسان بن ثابت رضي الله عنه: «يا حسان اهج المشركين فإن جبريل معك أو إن روح القدس معك (1) » أخرجه أحمد وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة. إذن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الوسائل الإعلامية المتاحة في عصره في كل حالة بحسبها لإيصال رسالته التي يجب عليه إعلانها وإعلامها للعالمين تلكم الرسالة هي رسالة التوحيد، هي الحق المبين، هي الصدق الذي لا مرية فيه.
فدين الإسلام كله رسالة إعلامية كبرى {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «بلغوا عني ولو آية (3) » أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وفي حديث تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر (4) » . أخرجه الإمام أحمد رحمه الله. وسلفنا الصالح قد بذلوا الكثير في هذا المجال حسب ما هو متاح لهم فكتبوا وكاتبوا وعلموا
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6153) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2486) ، مسند أحمد بن حنبل (4/301) .
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/103) .(68/11)
وتعلموا وسافروا واتجروا واستخدموا الشعر لإيصال هذه الرسالة؛ رسالة العقيدة والعمل رسالة الأخلاق الكريمة ولنقل الأخبار في الممالك الإسلامية وغيرها، وحسبهم شاهدا على عملهم أن وصلتنا هذه الرسالة صافية كاملة، ووصلتنا أخبارهم بأسانيدها مما يدل على عظيم عنايتهم بهذا الجانب.
ونحن في العصور المتأخرة قد تطورت وسائل الإعلام والاتصال عندنا تطورا عظيما فكان منها المسموع والمقروء ومنها المرئي وهناك وسائل الاتصال السريعة عبر الشبكة العالمية للمعلومات وعبر الرسائل الإلكترونية وغيرها كثير، والواجب على أهل الإسلام في هذا العصر الاستفادة من هذه الوسائل التي هيأها الله سبحانه لنا، وواجب علينا أن نصوغ خطابا إعلاميا متميزا خطابا إعلاميا يتخذ من نصوص الكتاب والسنة منهجا مستقيما للسير عليه وتقويمه وتصحيح مساره، فإعلامنا الإسلامي يجب أن يكون متميزا، ولا يصح أبدا أن يكون إعلاما نمطيا نتبع فيه الأمم الأخرى في طريقة تعاطيهم مع الإعلام؛ لأننا أمة أراد الله لها أن تكون أمة قيادة وشهادة على العالمين فنحن أمة متبوعة لا تابعة قائدة لا منقادة يقول الله عز وجل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 78(68/12)
ويقول سبحانة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) إذن فإعلامنا الإسلامي يجب أن يكون متميزا بانتسابه لهذا الدين القويم الذي عظمه الله وأخبر أنه لا يقبل من أحد دينا سواه. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) فيكون إعلامنا الإسلامي على كافة مستوياته أفرادا وجماعات، شعوبا ودولا، إعلاما منضبطا بضوابط هذا الدين فيما يخص هذا المجال.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة آل عمران الآية 85(68/13)
وهذه جملة ضوابط أذكر بها إخواني العاملين في وسائل الإعلام من أفراد ومسئولين فما كان منها موجودا في إعلامنا عززناه وثبتنا عليه وما كان منها غير موجود حرصنا على الأخذ به لتصحيح عملنا وليوافق مرضاة ربنا عز وجل.
فأول ذلك: أنه يجب على الإعلامي المسلم أن يستشعر عظيم الأمانة الملقاة على عاتقه وأنه على ثغر عظيم فليخلص لله قصده وليجتهد في موافقة مرضاته.
وثانيا: الصدق، فإنه واجب على كل مسلم، ويزيد الأمر في حق الإعلامي؛ لأن كلامه يصل إلى شريحة كبيرة ويتأثر به أناس كثيرون والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 119(68/13)
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا (1) » . الحديث. متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
ولتحذروا إخواني الإعلاميون من الكذب أشد الحذر تحت أي ذريعة سواء بذريعة الفوز بالسبق الإعلامي كما يقال أو لغيره من الذرائع فالمؤمن لا يكذب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب (2) » أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا (3) » متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
ولا يعفيك أخي الإعلامي المسلم أن تنقل كلام الغير بلا تحر لصحة الخبر. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية القوم زعموا (4) » . ثالثا: أخي الإعلامي المسلم احرص على التثبت من الأخبار فليس
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2607) ، سنن الترمذي البر والصلة (1971) ، سنن أبو داود الأدب (4989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/252) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2607) ، سنن الترمذي البر والصلة (1971) ، سنن أبو داود الأدب (4989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .
(4) سنن أبو داود الأدب (4972) ، مسند أحمد بن حنبل (5/401) .(68/14)
كل ما يقال حق ولا كل ما ينشر صدق، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1)
رابعا: أخي الإعلامي عليك بالتأني في التعاطي مع الأمور العظام مما تتعلق به مصلحة عظمى للأمة، فليس كل ما يعلم في هذا الباب يقال ولو كان حقا وصدقا يقول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2) فالطريق الشرعي عند ورود الأمور العامة سواء كان الأمر يتعلق بأمن أو خوف أن يرد إلى أهل الحل والعقد من الأمراء والعلماء، فما رأوا المصلحة في نشره وإذاعته نشر، وما رأوا المصلحة في عدم نشره لا ينشر حفاظا على دين الناس ودنياهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (3) » والذي يقدر الخير من عدمه في الأمور العظام هم أولو الأمر فالواجب الرجوع إليهم فيها.
خامسا: الإعلامي المسلم لا تقتصر مهمته على نقل الخبر من هنا وهناك ولا تقف مسئوليته عند تحليل الأخبار، كلا بل رسالة
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) سورة النساء الآية 83
(3) صحيح البخاري اللباس (5863) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2115) ، مسند أحمد بن حنبل (4/287) .(68/15)
الإعلامي المسلم تذهب إلى ما هو أبعد من هذا بكثير، فالإعلامي المسلم يحمل أعظم رسالة إعلامية يحملها إعلامي في هذه الدنيا إنها رسالة الإسلام التي يجب على كل مسلم السعي في إبلاغها كل حسب قدرته واستطاعته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (1) » . أخرجه البخاري.
ونشر الإعلامي المسلم لعلم العلماء الراسخين في العلم وبثه في الناس ليعرفهم ما يجب عليهم من حق الله تعالى وما لا يجوز لهم فعله ويرسم لهم المنهج الصحيح في كل وقت بحسبه، كل هذا واجب على الإعلامي المسلم وهي رسالة سامية لا يمكن لغير الإعلامي المسلم أن يصل لدرجتها ولا يدانيها مهما كانت رسالته الإعلامية.
سادسا: الإعلام الإسلامي يجب أن يبث صورة مشرقة وصحيحة للدين الذي ينتسب إليه فواجب عليه أن يكون خاليا من المنكرات العقدية والعملية والأخلاقية، ويكون قدوة لغيره في نشر الخيرات؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) ويقول الله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(2) سورة النور الآية 19
(3) سورة المائدة الآية 2(68/16)
سابعا: في حال الفتن والمحن واشتداد الأمور واضطرابها يكون للإعلام وقع كبير ودور عظيم في تسيير الأحداث، وهذا أمر معلوم في عصرنا هذا الذي بات الإعلام في حال المدلهمات وعظائم الأمور يؤثر تأثيرا بالغا في نفوس الناس بإثارتها أو تثبيطها بتخويفها أو تأمينها؛ لذا كان الواجب الحذر في التعاطي مع الأحداث الجسيمة فلا تنقل ما يثبط المسلمين ويفت في عضدهم ولا ما يثيرهم ويرجف بهم، فإن هذا محرم وقد كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أناس يستغلون الأحداث بمثل هذه الأمور ففضح الله أمرهم وتوعدهم، ويقول الله تعالى {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (1) {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) وقال أيضا {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (3) {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (4)
إذن فما هو موقف الإعلام الإسلامي من الأحداث الجسام التي تؤثر في الأمة؛ إن موقفه موقف المؤمن الثابت، فالواجب أن
__________
(1) سورة التوبة الآية 81
(2) سورة التوبة الآية 82
(3) سورة الأحزاب الآية 60
(4) سورة الأحزاب الآية 61(68/17)
يوجه الإعلام لتقوية الإيمان في نفوس المؤمنين وتعزيز تعلقهم بربهم وتوكلهم عليه.
يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (2) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3)
هذه بعض الضوابط التي رأينا أهميتها لكل إعلامي مسلم حتى يكون عمله سائرا وفق شرع الله مقربا لمرضاته نافعا لعباده، ويكون العامل في هذا الميدان إذا صلحت نيته متعبدا لله بهذا العمل فيكون في عبادة يؤجر عليها.
وإنا إذ نوجه هذه الكلمة للإعلامي المسلم فإنا نعني به كل من اشتغل في هذا الباب من كاتب ومحرر، ومن معد للمواد الإعلامية، ومن مشرف على المواقع الإلكترونية، ومن مشارك فيها، ومن مسئول عن وسائل الإعلام المختلفة فكل من له صلة ومشاركة وتعاط مع الإعلام بكافة وسائله فإنه معني بهذه الكلمة.
ولجميع هؤلاء نقول لئن احتفل غيركم وفرحوا وتفاخروا بسرعة نقل الأخبار صادقا وكاذبا صحيحا وسقيما، ولئن تبجحوا بنشر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 173
(2) سورة آل عمران الآية 174
(3) سورة آل عمران الآية 175(68/18)
الفساد في الأرض بصنوفه، فإنه حقيق بكم أيها الإعلاميون المسلمون أن ترفعوا رءوسكم بهذا الدين القويم الذي يبني إعلاما صادقا مخلصا مقررا للحق داحضا للباطل ناشرا للفضيلة، محاربا للرذيلة، يستمد تعاليمه وضوابطه من الوحي الصادق، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وإني لأسأل الله العلي القدير الكريم الجواد أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ويجعلنا وإخواننا المسلمين جميعا أنصارا للحق أعوانا في العمل به وأن يعز دينه ويعلي كلمته ويكبت أعداء الدين ويذلهم ويظهر الهدى ودين الحق الذي بعث به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الدين كله ولو كره المشركون، وأن يعز الإسلام والمسلمين وينصر من نصر هذا الدين في كل مكان، كما أسأله سبحانه أن يولي على المسلمين خيارهم ويجعل ولايتهم فيمن خافه واتقاه واتبع هداه، ويلهم من ولي من أمر المسلمين شيئا العمل بكتاب الله وسنة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم وتحكيم شريعته وأن يحفظ ولي أمرنا بحفظه ويكلأه برعايته ويلبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، وأن يوفق ولي عهده ويسدده في أقواله وأفعاله ويوفق النائب الثاني ويجعلهم جميعا أعوانا على الخير أنصارا للحق، وأن يصلح لهم البطانة ويرزقهم الثبات على الحق وينير لهم البصر والبصيرة ويريهم الحق حقا ويرزقهم اتباعه،(68/19)
والباطل باطلا ويرزقهم اجتنابه، ويصلح لنا ولهم وسائر المسلمين العقب والعاقبة وأن يوزعنا شكر نعمته وحسن عبادته.
وصلى الله عليه وسلم وبارك على نبينا محمد أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، كما أسأله سبحانه أن يحشرنا معهم وينظمنا في سلكهم إنه سبحانه جواد كريم بر رءوف رحيم.(68/20)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(68/21)
صفحة فارغة(68/22)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية -رحمه الله-
تخصيص أماكن للصلاة في المدارس
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإن المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي قد بحث في دورته الخامسة المنعقدة في رجب 1384 هـ أهمية إلزام الطلبة بالصلاة في الوقت الذي يحل فيه وقتها وهم بالمدرسة، وأن تخصص أماكن لذلك في كل مدرسة. وتؤمن الفرش والماء اللازم لذلك.
وقد اقترح المجلس في دورته تلك أنني أقوم بمخاطبة معاليكم كتابيا في ذلك؛ ونظرا لما لهذا الموضوع من الأهمية، ولما في ذلك من فائدة دينية بل إن ذلك من المتعين، فإني آمل صدور أمركم إلى الجهات المسئولة بنفاذ ذلك والعمل على سرعة تحقيقه.
وفق الله الجميع للعمل الصالح النافع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(68/23)
العمل وقت صلاة الجماعة
س: هل يجوز التدريس وجميع الأعمال وقت وجوب الصلاة؟
ج: الواجب على أهل الأعمال من مدرسين وموظفين وغيرهم من أهل الأشغال المبادرة بأداء الصلاة أول وقتها مع الجماعة. فإذا أدوها عادوا لإكمال ما بقي من أعمالهم، ولا يجوز العمل الذي يفوت من صلاة الجماعة مهما كان نوعه.(68/24)
الملابس الإفرنجية ليست عذرا
س: قوم أقيمت الصلاة وهم جالسون لم يصلوا مع الجماعة، وحجتهم أنهم بملابس إفرنجية وشراريب ويصعب عليهم الوضوء، وأنهم سيصلون في بيوتهم مع أنهم أساتذة يعملون في المدارس.
ج: هؤلاء الذين يبقون في مجلسهم والناس يصلون لا رغبة لهم في الخير، ولا يبالون بالصلاة في جماعة، وأدنى أحوالهم أنهم فساق إن صدقوا أنهم سيصلون في بيوتهم، ويتعين الإنكار عليهم، ولا ينبغي أن يجعلوا معلمين في المدارس، لأنهم غير مأمونين على ذراري المسلمين. وهذه الأعذار التي زعموها كلها واهية ولو كانوا حريصين على صلاة الجماعة لاستعدوا لها بكل ما يلزم، مع أن الملابس التي جعلوها حجة غير مانعة من الصلاة كما لا يخفى على من يتتبع أحوال المسلمين.(68/24)
إغلاق العيادات إذا دخل وقت الصلاة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد استخف بعض الأطباء بأمر الصلاة، وعمدوا إلى فتح عياداتهم الخاصة والعلاج فيها في أوقات الصلوات، وهذه ظاهرة سيئة لا يجوز السكوت عليها.
فنأمل من سموكم الأمر بالتنبيه على العيادات بإغلاقها عند الشروع في الأذان، وأن لا تفتح إلا بعد الفراغ من الصلاة، وأن من يخالف ذلك فسيجازى جزاء بليغا، ويحرص على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراقبة ذلك بدقة. وفق الله سموكم لكل خير، وأيدكم بالحق، وأيده بكم، إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم.(68/25)
توجيه للأئمة والمؤذنين وأعيان الجماعة بما يلزمهم فعله نحو جماعة المسجد
من محمد بن إبراهيم إلى إمام مسجد. . ومؤذنه وأعيان الجماعة وفقهم الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فلا يخفى أن الصلاة أمرها عظيم، وهي أحد أركان الإسلام(68/25)
بعد الشهادتين، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وفي الحديث: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة» .
وأداؤها جماعة في المساجد واجب من واجبات الدين. وذكر بعض المحققين أن الجماعة شرط لصحة الصلاة. ولا يخفى ما وقع فيه كثير من الناس من التكاسل عنها وعدم الاهتمام بأدائها جماعة في المسجد، وهذه مصيبة عظمى وبلية كبرى، والسكوت على مثل هذا مداهنة في الحق والعياذ بالله.
لهذا تعين التنبيه على الجميع بالقيام على الكسالى وتفقدهم جميعا بأسمائهم لصلاة الفجر، كما وردت به السنة وعليه عمل المسلمين، والأصل في ذلك ما رواه أبو داود، والنسائي ولفظه: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا خالد بن الحارث، عن سبيعة، عن أبي إسحاق، أنه أخبرهم عن أبي عبد الله ابن أبي بصير، عن أبيه قال شعبة: وقال أبو إسحاق: وقد سمعته منه ومن أبيه، قال: سمعت أبي بن كعب يقول: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح فقال: أشهد فلان الصلاة؟ قالوا: لا. قال: وفلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين من أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، والصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو يعلمون فضيلته لابتدروه، وصلاة الرجل مع(68/26)
الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل (1) » .
وقد كتبنا لكم هذا لتقوموا باللازم على جماعتكم، فيتعين تلاوة هذا في مسجدكم. وأن يجتمع إمام المسجد ومؤذنه وأربعة أو ثلاثة من أعيان جماعته يكونون نظراء في مسجدهم. فإن رأوا محسنا أعانوه ونشطوه، أو مسيئا نصحوه وأرشدوه. ويكون ذلك بلين ورفق وتحبب إلى الناس وتعطف عليهم وإظهار للشفقة والرحمة؛ لأنهم إخواننا وإن غلب الكسل عليهم والتهاون في بعض الأشياء، والقصد نفعهم وتقويمهم ومعاونتهم على أداء هذه العبادة العظيمة إلا من ظهرت منه المكابرة والعناد ولم ينته فيبلغون به الجهات المختصة للقيام حوله بما يلزم.
وعلى كل فرد أن يهتم بأمر التفقد، فإن كان حاضرا فليجب وليتكلم باسمه، وإن تخلف لعذر فليعمد من يتكلم عنه بعذره، فرحم الله امرءا كف الغيبة عن نفسه.
والقيام بهذا الشأن متعين على الجميع كل أحد بحسب حالته، فعلى من أعطاهم الله ميزة على غيرهم مثل طلبة العلم وذوي الوظائف الدينية وكبراء الناس والمطاعين فيهم ورؤساء الأسر على كل منهم من الواجب في هذا ما ليس على من دونهم. وكذلك الجيران فقد ورد «أن العبد يتعلق يوم القيامة بجاره، ويقول:
__________
(1) سنن النسائي الإمامة (843) ، سنن أبو داود الصلاة (554) ، مسند أحمد بن حنبل (5/140) ، سنن الدارمي الصلاة (1269) .(68/27)
يا رب هذا رآني على معصية فلم ينهني» .
إذا علم هذا فيتعين على الجميع القيام بتفقد الكسالى لصلاة الفجر، ومن تكرر منه التخلف عنها لغير عذر شرعي فعلى الإمام والمؤذن وأعيان الجماعة القيام عليه بالنصيحة والموعظة، وإذا لم تجد فيه النصيحة والموعظة فعلى أعضاء الهيئة المختصين الذين عهد إليهم بملاحظة ذلك المسجد من قبل رئيسهم أن يقوموا عليه، ويرفعوا عنه إلى رئيسهم، للرفع عنه من قبله إلى فضيلة الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقرير مجازاتهم.
أما بقية الصلوات فينبغي للإمام التفطن للجماعة وملاحظتهم، وكل من يتكرر منهم التخلف من غير عذر شرعي فيقام حولهم بما يلزم حسبما ذكر أعلاه من كل من الإمام والمؤذن وأعضاء الهيئة، ونحن بدورنا سنتعاون مع الجميع للمصلحة العامة. فعليكم أن ترفعوا لنا بأسماء المتخلفين الذين يتكرر تخلفهم ولا تجدي النصيحة فيهم للقيام بتقرير ما يجب عليهم شرعا.
وكذلك تعليم الجماعة أمر الدين وسؤالهم عنه كما في "مختصر ثلاثة الأصول" فيتعين على كل إمام مسجد إبلاغ جماعته بذلك، ويعقد لهم مجلسا يوميا يسألهم فيه عن أمور دينهم، ويعلمهم ما يخفى عليهم منها. ومن طلب مهلة لتذكرها وتحفظها فيمهل، ومن امتنع من ذلك فيلزم به من قبل الإمام والمؤذن والهيئة، وإن لم يمتثل فيرفع باسمه إلينا ونحن نقوم حوله بما يلزم إن شاء الله براءة للذمة(68/28)
ونصحا للأمة.
والله الموفق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(68/29)
يصدق إذا قال: صليت في بيتي ويؤدب. والصلاة صحيحة
س: هل يصدق الإنسان بمجرد قوله: إنه صلى في بيته؟
ج: الحمد لله. يصدق الإنسان إذا قال: إنه صلى في بيته، أو إنه أدى زكاته، أو إن ما عنده ليس له ونحو ذلك، ويوكل إلى أمانته؛ لحديث «لا يستحلف الناس على صدقاتهم» . لكن لا يجوز إقرار المذكور على صلاته في بيته وتركه الجماعة في المسجد، وإذا تكرر ذلك منه من غير عذر وجب تأديبه بما يردعه وأمثاله عن ترك واجب أداء الصلاة جماعة في المسجد.(68/29)
جمع بين حديثين
س: ما الجمع بين حديث «لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه (1) » وبين حديث «من زار قوما فلا يؤمهم (2) » .
ج: يحمل على إمامتهم بغير إذنهم. أو يجمع بأن الأولى له أن يدع وإن أذن له. وبكل حال إن كلمة " بإذنه" دالة على الجواز.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (356) ، سنن النسائي الإمامة (787) ، سنن أبو داود الصلاة (596) ، مسند أحمد بن حنبل (5/53) .(68/29)
والله أعلم أنه يختلف من أذن له باختلاف الأئمة الذين لهم حق التقديم، وباختلاف من أذن له بأن يكون له علم وتقوى فيستفاد منه فضيلة الصلاة المعينة، وقد يكون بالعكس المأذون له ليس عنده الصفات السابقة. "ولا يجلس على تكرمته" وهو المحل المعد لجلوسه الذي هو أحسن مجلس في البيت "إلا بإذنه" فإن الحق له إن أذن جلس وإلا فلا.(68/30)
مكة والمدينة كغيرهما في إعادة الجماعة
س: ما حكم إعادة الجماعة في مكة والمدينة؟
ج: الجواب أن ذلك غير مكروه، كما صرح به الفقهاء رحمهم الله بقولهم: ولا تكره إعادة الجماعة لمن فاتته صلاة الجماعة مع الإمام السابق إلا في مسجدي مكة والمدينة؛ لأنه أرغب في توفير الجماعة، ولئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الراتب. وقيل: إن مسجدي مكة والمدينة كغيرهما من المساجد وهو أظهر.(68/30)
المبادرة بتحية المسجد إذا لم يشرع في الإقامة
س: رجل دخل المسجد بعد أذان المغرب فشرع في صلاة تحية المسجد ثم أقيمت الصلاة قبل فراغه منها. . . إلخ.(68/30)
ج: ما فعله هذا الرجل من مبادرته بتحية المسجد هو السنة، إذا لم يشرع المؤذن في الإقامة؛ لحديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (1) » وحديث: «بين كل أذانين صلاة (2) » ومن أنكر عليه في مثل هذه الحالة فهو مخطئ.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1167) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (714) ، سنن الترمذي الصلاة (316) ، سنن النسائي المساجد (730) ، سنن أبو داود الصلاة (467) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) ، مسند أحمد بن حنبل (5/311) ، سنن الدارمي الصلاة (1393) .
(2) صحيح البخاري الأذان (627) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) ، أول مسند البصريين (5/54، 5/56، 5/57) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .(68/31)
إذا وجد الإمام راكعا فكبر في انحنائه
س: ماذا عن إتيان المسبوق إذا أدرك إمامه في الركوع بتكبيرة الإحرام في انحنائه؟
ج: اعلم أن تكبيرة الإحرام لا تصح في الفريضة من القادر على القيام، إلا أن يأتي بها كاملة وهو واقف. وإن أتى في مبادئ انحنائه يجب أن يتمها قبل وصوله إلى أدنى الركوع صحت منه أيضا. وأدنى الركوع هو الانحناء بمقدار ما تمس أطراف أصابع يديه أعلى ركبتيه حين المبالغة في مد يديه. لكن لا ينبغي منه أن يأتي بها إلا وهو كامل الانتصاب قائما. والله يحفظكم.(68/31)
قراءة المأموم خلف الإمام
س: ما حكم قراءة المأموم خلف إمامه؟
ج: الذي نص عليه الفقهاء أنه يشرع للمأموم أن يقرأ في(68/31)
الصلاة السرية. وأما الجهرية فيقرأ المأموم فيها حال سكوت الإمام وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش. وبعضهم قال بوجوب قراءة الفاتحة مطلقا؛ لحديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (1) » والجمهور على سقوط فرضيتها عن المأموم مطلقا.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .(68/32)
تخلف عن إمامه بثلاثة أركان
س: ما الحكم في مأموم تخلف عن إمامه فسجد الإمام وجلس بين السجدتين، وسجد السجدة الثانية، فلحقه المأموم في السجدة الثانية، فلما قام الإمام للركعة الثانية جلس المأموم السجدتين وسجد السجدة الأخرى ثم قام فلحق إمامه قائما.
ج: ما كان ينبغي له أن يتخلف عن إمامه، بل المشروع أن يتابعه من غير سبق ولا تخلف. والمنصوص عليه في مثل هذا أنه إن كان تخلف لغير عذر بطلت صلاته إذا كان عالما متعمدا، فإن كان جاهلا أو ناسيا أو لعذر من نعاس ونحوه، وأمكنه الإتيان بما تخلف عنه ومتابعة إمامه قبل فوات الركعة الثانية فصلاته صحيحة ويعتد بتلك الركعة، وإلا لغت الركعة وقامت التي تليها مقامها، ويلزمه متابعة إمامه، ويأتي بركعة بدل التي لغت بعد سلام إمامه. والله أعلم.(68/32)
صلاة الفاضل خلف المفضول
س: هل يجوز للأفقه الأجود قراءة أن يصلي خلف من لا يحسن ذلك؟
ج: يجوز ذلك، مع أن الأقرأ، ثم الأفقه أولى بالإمامة من ضدهما، إلا إذا كان إمام الحي - أي الإمام الراتب - فإنه يقدم ولو كان في المأمومين من هو أقرأ أو أفقه منه. وأما إذا كان الإمام أميا وهو من لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها ما لا يدغم أو يلحن لحنا لا يحيل المعنى أو يبدل حرفا فهذا لا تصح إمامته إلا بمثله، فإن قدر على إصلاح ذلك ولم يفعل لم تصح صلاته.(68/33)
الصلاة خلف الفاسق
س: الصلاة خلف الفاسق إذا ابتلي به الناس هل تصح؟
ج: الفاسق من جهر بالمعاصي. أما صحة الصلاة خلفه ففيها الخلاف المشهور. قيل: إنه كالكافر لا تصح خلفه. وقيل: تصح. والراجح عند العلماء والأدلة أنها تصح. لكنها ناقصة بكل حال، فينبغي العدول عنه إذا كانت صلاة فيها تعدد أو الجمعة إذا كان فيها تعدد، وإلا صلى خلفه ولو مع فسقه؛ لأن الأمر دائر بين فعلها خلف فاسق وترك الجماعة، وترك الجماعة فيه الوعيد الشديد،(68/33)
فصلاة ناقصة ساقط بها الفرض خير من صلاة لا تصح بحال.
لكن كونه يقدم، أو لا؟ هذا معلوم في النصوص أنه لا يقدم بل يجب عزله ولا كرامة. ويحرم ابتداء ترتيبه.(68/34)
الصلاة خلف حالق اللحية وشارب الدخان
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ص. ح. ع. المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ 26 \ 11 \ 1382 هـ المتضمن الاستفتاء عن حكم الصلاة خلف حالق لحيته وشارب الدخان.
والجواب: لا ريب في تحريم شرب الدخان الخبيث. وكذا حلق اللحية. ومثل هذا لا يجوز أن يولى الإمامة؛ لأنه فاسق والفاسق ليس أهلا للإمامة. لكن الصلاة خلفه صحيحة مجزئة من صلاها إذا ابتلي به الناس على ما فيها من النقص، فإن الصحابة ثبت أنهم صلوا خلف الفاسق ولم يكونوا يعيدون الصلاة التي صلوها. ولا يأمرون غيرهم بإعادتها.(68/34)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا "رحمه الله"
التحذير من بدع تفعل مع الجنائز (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وفقني الله وإياهم لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد تكرر السؤال من كثير من الناس عن الأمور الآتية فرأيت التنبيه عليها والتحذير منها لكونها مخالفة للشرع المطهر:
الأول: يعمد بعض الناس إلى وضع أردية على الجنائز مكتوب عليها بعض الآيات القرآنية، فالواجب ترك ذلك والتواصي بالتحذير منه؛ لما في ذلك من تعريض الآيات القرآنية للامتهان، ولأن بعض الناس قد يظن أن ذلك ينفع الميت، وذلك خطأ منكر لا وجه له في الشرع المطهر.
__________
(1) نصيحة عامة صدرت من مكتب سماحته برقم (1587 \ 2) وتاريخ 12 \ 6 \ 1408 هـ.(68/35)
الثاني: يقوم بعض المتبعين للجنائز بقولهم: وحدوه وكبروه، وهذا منكر لا أصل له في الشرع المطهر، وإنما المشروع عند اتباع الجنائز تذكر الآخرة والموت والدعاء للميت بالمغفرة والرحمة من دون رفع الأصوات، وقد قال قيس بن عباد التابعي الجليل رحمه الله: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث عند الجنازة، وعند الذكر، وعند القتال.
الثالث: يقوم بعض الناس بالأذان والإقامة في القبر قبل وضع الميت فيه، وهذا منكر وبدعة لا أصل له في الشرع المطهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » . فالواجب ترك ذلك والتحذير منه.
الرابع: يقوم بعض الناس بالوقوف بالجنازة في حي المدعى بمكة لقراءة الفاتحة وهذا بدعة، فالواجب تركه لما تقدم في حكم المنكر الثالث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا
__________
(1) . رواه مسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث العرباض بن سارية برقم (16694) ، وأبو داود في (السنة) باب في لزوم السنة برقم (4607) .(68/36)
ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور (2) » .
فنسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا لاتباع السنة في جميع أمورهم والحذر من جميع البدع والمنكرات، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
5
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(68/37)
وضع كلمة التوحيد على الجنائز غير مشروع
س: يوضع على بعض الجنائز كلمة التوحيد ما الحكم؟ (1) .
ج: هذا غير مشروع؛ وإنما يشرع التلقين قبل الموت في حق المحتضر لقوله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (2) » رواه مسلم. والموتى هنا المراد بهم المحتضرون حتى يكون آخر كلامهم: لا إله إلا الله. أما الكتابة على كفنه أو على قبره فلا يجوز.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) برقم (10610) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (916) .(68/37)
حكم الدخول بالجنازة من باب الرحمة في المسجد النبوي
س: اعتاد كثير من الناس في المدينة المنورة الدخول بالميت من(68/37)
باب الرحمة فقط دون الأبواب الأخرى اعتقادا منهم أن الله سبحانه سيرحمه ويغفر له، فهل لهذا شيء من الصحة من شرعنا المطهر؟ (1)
ج: لا أعلم لهذا الاعتقاد أصلا في شريعتنا السمحة، بل ذلك منكر لا يجوز اعتقاده، ولا حرج في إدخال الجنازة من جميع الأبواب، والأفضل إدخالها من الباب الذي يكون إدخالها منه أقل ضررا على المصلين.
__________
(1) نشر في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند (2 \ 50) .(68/38)
القيام للجنازة سنة
س: إذا كان المسلم في المسجد ورأى الجنازة هل يقوم؟ (1) .
ج: ظاهر الحديث العموم فهو إذن مستحب، ومن تركه فلا حرج؛ لأن القيام لها سنة وليس بواجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام تارة وقعد أخرى فدل ذلك على عدم الوجوب، والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) هذا السؤال وثمانية بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(68/38)
حكم القيام لجنازة الكافر
س: هل يشرع القيام لجنازة الكافر؟(68/38)
ج: نعم، يشرع القيام لكل جنازة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا (1) » ، وجاء في بعض الروايات: «قالوا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي فقال: أليست نفسا (2) » وفي لفظ: «إنما قمنا للملائكة (3) » ، وفي لفظ: «إن للموت لفزعا» .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (10811) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1310، 1311) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (958) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (23330) والبخاري في (الجنائز) برقم (1313) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (961) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) برقم (18997، 19206)(68/39)
عمق القبر
س: ما مقدار عمق قبر المرأة والرجل؟
ج: الأفضل أن يكون ذلك بقدر نصف قامة الرجل؛ لأن ذلك أبعد عن التعرض للنبش من الدواب وغيرها.(68/39)
اللحد أفضل من الشق
س: أيهما أفضل اللحد أم الشق؟ وما هو ارتفاع القبر؟(68/39)
ج: في المدينة كانوا يلحدون وتارة يشقون القبر، واللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، والشق جائز وخصوصا إذا احتيج إليه، وحديث ابن عباس: «اللحد لنا والشق لغيرنا (1) » ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الأعلى الثعلبي وهو ضعيف، ويكون ارتفاع القبر قدر شبر أو ما يقاربه.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1045) ، سنن النسائي الجنائز (2009) ، سنن أبو داود الجنائز (3208) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1554) .(68/40)
كيفية وضع الميت في قبره
س: كيف يوضع الميت في قبره؟
ج: دل حديث عبد الله بن يزيد أن الميت يوضع من جهة رجلي القبر ثم يسل إلى جهة رأسه على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة هذا هو الأفضل والسنة، والسنة عند وضعه في اللحد أن يقول الواضع: بسم الله وعلى ملة رسول الله.(68/40)
كيفية دفن الميت في الأرض الجبلية
س: إذا كان في أرض جبلية فهل يوارى الميت في الكهوف أو الغيران؟
ج: إن تيسر أن يحفر له قبر، ويحاط بالحجارة، فهو أولى من الغار، فإن لم يتيسر ذلك جعل في الغار، وردم عليه حتى يصان عن(68/40)
السباع وغيرها عملا بقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(68/41)
استعمال الصخور أو الألواح أو الخشب إذا لم يوجد اللبن
س: إذا لم يوجد اللبن، فهل تستعمل الصخور؟
ج: إذا لم يوجد اللبن وجب استعمال الصخور أو الألواح أو الخشب، أو غير ذلك مما يصان به الميت، ثم يهال عليه التراب. للآية السابقة، وهي قوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » .
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) رواه البخاري في (الاعتصام بالكتاب والسنة) برقم (7288) واللفظ له، ومسلم في (الحج) برقم (1337) .(68/41)
حكم تغطية قبر المرأة عند دفنها
س: تغطية القبر بالنسبة للمرأة ما حكمه؟
ج: هذا أفضل.(68/41)
إنزال المرأة في القبر لا يشترط له محرم
س: إذا كان المتوفى امرأة وليس لها أولياء، فهل يتبرع أحد(68/41)
بالنزول في قبرها؟
ج: لا مانع من ذلك حتى ولو كان لها أولياء حاضرون، وقد وضع إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها غير محارمها مع وجوده صلى الله عليه وسلم.
س: أنا رجل مقطوعة رجلي، ولي زوجة أصيبت بمرض وحولت إلى أحد المستشفيات في المملكة، وكنت معها حتى توفيت، ثم نقلت بعد وفاتها إلى المقبرة بواسطة سيارة الإسعاف وبعض العاملين في المستشفى وأنا معهم، وعند إنزالها إلى القبر أنزلها أولئك الرجال الأجانب إلى القبر وحدهم أما أنا فعاجز بسبب رجلي، وأنا محتار في هذا الأمر، هل علي إثم في ذلك؟ وهل في إنزال المرأة في قبرها من رجال أجانب شيء؟ أفيدوني (1) .
ج: ليس في إنزال المرأة في قبرها حرج إذا أنزلها غير محارمها، وإنما يشترط المحرم للسفر بالمرأة لا لإنزالها في قبرها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) ، الجزء الثاني، ص140.(68/42)
حكم توجيه الميت في قبره إلى القبلة
س: هل توجيه الميت إلى القبلة من السنة أم من المستحبات؟ (1)
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء(68/42)
ج: هذا من المشروع؛ لحديث: «الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتا» ويجعل على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة.
س: الأخ أ. م. ع. من الخرطوم يقول في سؤاله: لاحظت في إحدى المقابر الواقعة في بلدي انحراف بعض القبور عن اتجاه القبلة، بعضها قديم وبعضها جديد، بل إن بعض القبور التي لم يدفن فيها أحد حتى الآن في بعضها انحراف عن جهة القبلة، فما هو رأي الشرع في ذلك؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: المشروع توجيه الميت في قبره إلى القبلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة: «إنها قبلتكم أحياء وأمواتا (2) » .
فالواجب على القائمين على حفر القبور وعلى المسلمين عموما أن يراعوا ذلك عملا بالحديث المذكور، وفق الله المسلمين لكل خير.
__________
(1) نشرت في (المجلة العربية) ، ربيع الآخر 1412 هـ.
(2) رواه أبو داود في (الوصايا) برقم (2874) .(68/43)
حكم كشف وجه الميت إذا وضع في اللحد
س: هل يكشف وجه الميت بعد وضعه في اللحد؟ (1)
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(68/43)
ج: لا يكشف، بل يغطى كله إلا المحرم فيكشف وجهه ورأسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن محرم توفي يوم عرفة: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » متفق على صحته واللفظ لمسلم.
س: هل يجوز كشف وجه الميت إذا وضع في اللحد؟ (2)
ج: لا يجوز كشف وجه الميت إذا وضع في اللحد سواء كان رجلا أو امرأة، وإنما الواجب ستره بالكفن إلا أن يكون محرما فإنه لا يغطى رأسه ولا وجهه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الذي مات محرما: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (3) » متفق عليه واللفظ لمسلم.
لكن إذا كان الميت امرأة فإنه يخمر وجهها بكفنها ولو كانت محرمة؛ لأنها عورة.
س: هل لكشف وجه الميت ووضع الحجر أصل حيث يقولون هذا الحنوط؟ (4)
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1265) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/328) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .
(2) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (مجلة الدعوة) بالرياض، وقد أجاب عليه سماحته في 5 \ 4 \ 1418 هـ
(3) صحيح البخاري الجنائز (1265) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/328) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .
(4) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية(68/44)
ج: ليس لهذا أصل، وهذا جهل لا أساس له.(68/45)
حكم حل العقد في القبر
س: هل تحل العقد في القبر؟
ج: هذا هو الأفضل، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم.(68/45)
حكم الأذان والإقامة في قبر الميت عند وضعه فيه
س: ما حكم الأذان والإقامة في قبر الميت عند وضعه فيه؟ (1)
ج: لا ريب أن ذلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن ذلك لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، والخير كله في اتباعهم وسلوك سبيلهم، كما قال الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، متفق على صحته، وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة
__________
(1) صدرت من سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية.
(2) سورة التوبة الآية 100
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(68/45)
والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (2) » . خرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه.
__________
(1) رواه مسلم في (الأقضية) برقم (1718) .
(2) رواه مسلم في (الجمعة) برقم (867) .(68/46)
ما يقال عند دفن الميت
س: ما حكم قول: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (1) عند الدفن؟ (2)
ج: هذا سنة، ويقول معه: بسم الله والله أكبر.
__________
(1) سورة طه الآية 55
(2) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(68/46)
القراءة في تربة القبر ثم حثوها على كفن الميت بدعة منكرة
س: ورد في الترغيب والترهيب: إذا مات الميت خذ حفنة من تراب قبره، واقرأ عليها بعض الآيات - لا أذكرها - ثم حثها على كفنه فلن يعذب في قبره، ما صحة ذلك أثابكم الله؟ (1)
__________
(1) نشر في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند (2 \ 51) .(68/46)
ج: هذا شيء لا أصل له، بل هو بدعة منكرة، لا يجوز فعلها ولا فائدة منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك لأمته، وإنما المشروع أن يغسل المسلم إذا مات، ويكفن، ويصلى عليه، ثم يدفن في مقابر المسلمين، ويشرع لمن حضر الدفن أن يدعو له بعد الفراغ من الدفن بالمغفرة والثبات على الحق، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويأمر به. وبالله التوفيق.(68/47)
حكم وضع الحصباء على القبر ورشه بالماء
س: ما حكم وضع الحصباء على القبر ورشه بالماء؟ (1)
ج: هذا مستحب إذا تيسر ذلك؛ لأنه يثبت التراب ويحفظه، ويروى أنه وضع على قبر النبي صلى الله عليه وسلم بطحاء، ويستحب أن يرش بالماء حتى يثبت التراب ويبقى القبر واضحا معلوما حتى لا يمتهن.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(68/47)
حكم نقل نصيبة قبر قديم إلى قبر حديث
س: هل يجوز نقل نصيبة قبر قديم إلى قبر حديث؟(68/47)
ج: الذي يظهر لي من الشرع المطهر أن ذلك لا يجوز؛ لأنها علامة على القبر الأول، إذا رآها الناس احترموه فلم يطئوه ولم يجلسوا عليه ولم يضعوا عليه قذرا، فنقلها إضاعة لحرمته والقبر الجديد ليس بضرورة إليها، بل يمكن أن يجعل عليه نصيبة أخرى، فإن لم يوجد شيء فلا حرج في بقائه بدون نصيبة، إذا رفع عن الأرض قدر شبر على صفة القبر، والله الموفق.(68/48)
حكم وضع نصيبة واحدة على قبر المرأة واثنتين على قبر الرجل
س: في بعض البلاد يوضع نصيبة واحدة للمرأة وللرجل اثنتين، فهل لهذا العمل أساس ولو لمعرفة قبر المرأة من الرجل؟ (1)
ج: لا أعلم لهذا العمل أصلا، وإنما السنة أن يسوى بينهما في العمق والدفن وفي ظاهر القبر.
__________
(1) هذا السؤال وأربعة بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(68/48)
حكم وضع علامة على القبر
س: هل يجوز وضع العلامة على القبر؟(68/48)
ج: لا حرج إذا كانت من حجر أو عظم أو حديد فهذا لا بأس به كما علم النبي صلى الله عليه وسلم قبر عثمان بن مظعون.
س: وضع العلامة على القبر ما حكمها؟
ج: لا بأس بوضع علامة على القبر ليعرف كحجر أو عظم من غير كتابة ولا أرقام؛ لأن الأرقام كتابة، وقد صح النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة على القبر، أما وضع حجر على القبر أو صبغ الحجر بالأسود أو الأصفر حتى يكون علامة على صاحبه فلا يضر؛ لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم علم على قبر عثمان بن مظعون بعلامة.(68/49)
حكم وضع أرقام على القبر
س: في بعض المقابر يتم وضع أرقام على سور المقبرة، ليتم التعرف على أصحاب القبور، ما حكم ذلك؟
ج: الكتابة على القبور منهي عنها ولا تجوز؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة لبعض من يكتب على قبره، أما الكتابة على حائط المقبرة، فلم يبلغني فيها شيء، والأحوط عندي تركها؛ لأن لها شبها بالكتابة على القبور من بعض الوجوه، والله ولي التوفيق.(68/49)
لا يشرع وضع سعف النخيل والصبار الأخضر على القبر
س: ما حكم وضع جريدة النخل الخضراء على قبر الميت؟
ج: لا يشرع ذلك بل هو بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما وضع الجريدة على قبرين أطلعه الله سبحانه على عذاب أصحابهما، ولم يضعها على بقية القبور، فعلم بذلك عدم جواز وضعها على القبور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته.
وهكذا لا تجوز الكتابة على القبور، ولا وضع الزهور عليها للحديثين المذكورين؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها والكتابة عليها.
__________
(1) رواه مسلم في (الأقضية) برقم (1718) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(68/50)
س: ما حكم وضع سعف النخيل والصبار الأخضر على قبر الميت؟ (1)
__________
(1) نشر في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند (2 \ 37) .(68/50)
ج: لا يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم وضع الجريدتين على قبر ناس معذبين أطلع عليهم عليه الصلاة والسلام، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يوضع على القبور لا جريد النخل ولا غيره من الشجر. وبالله التوفيق.(68/51)
من بدع الدفن
س: بعد دفن الميت يقرأ بعض الناس من المصحف سورة (يس) عند القبر، ويضعون غرسا على القبر مثل الصبار، ويزرع سطح القبر بالشعير أو القمح بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع ذلك على قبرين من أصحابه، ما حكم ذلك؟ (1)
ج: لا تشرع قراءة سورة (يس) ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن ولا عند الدفن، ولا تشرع القراءة في القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون، كما لا يشرع الأذان ولا الإقامة في القبر، بل كل ذلك بدعة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. وهكذا لا يشرع غرس الشجر على القبور، لا الصبار ولا غيره، ولا زرعها
__________
(1) نشرت في (الجزء الخامس) ص407 من مجموع الفتاوى لسماحته
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(68/51)
بشعير أو حنطة أو غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في القبور ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريدة فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم وبالقبرين؛ لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئا من القربات لم يشرعه الله؛ للحديث المذكور، ولقول الله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) الآية، وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21(68/52)
الشجرة النابتة على القبر ليست دليلا على صلاح صاحب القبر
س: ألاحظ أن بعض الناس إذا رأى شجرا نبت على قبر ما يصف صاحب القبر بأنه كان على صفات مقدارها كذا وكذا، هل لنبات الأشجار على القبور شيء من العلاقة؟ (1)
ج: لا أصل لهذا، وليس نبات الشجر والحشيش على القبور دليلا على صلاح أصحابها، بل ذلك ظن باطل، والشجر ينبت على قبور الصالحين والطالحين ولا يختص بالصالحين، فينبغي عدم الاغترار
__________
(1) نشرت في (الجزء الرابع) ص 380 من هذا المجموع.(68/52)
بقول من يزعم خلاف ذلك من المنحرفين وأصحاب العقائد الباطلة، والله المستعان.(68/53)
حكم الدعاء للميت بعد الدفن
س: الأخ أ. ع. ع. من الطائف يقول في سؤاله: أرى بعض الناس يقفون عند القبر بعد دفن الميت ويدعون له، فهل هذا جائز؟ وهل هناك دعاء مشروع يقال بعد الانتهاء من الدفن؟ وهل هو جماعي كأن يدعو شخص ويؤمن الباقون على دعائه؟ أم أن كل شخص يدعو وحده؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: قد دلت السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم على شرعية الدعاء للميت بعد الدفن، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل (2) » ، ولا حرج في أن يدعو واحد، ويؤمن السامعون أو يدعو كل واحد بنفسه للميت، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) في ربيع الآخر 1413 هـ.
(2) رواه أبو داود في (الجنائز) برقم (3221) .(68/53)
س: ورد في الحديث الأمر بالدعاء للميت بعد دفنه، فهل هذا الأمر للوجوب أو هو سنة؟ وقد لاحظنا أن الناس تركوا هذه السنة أو هذا الواجب بعد دفن الميت، فما هو توجيه سماحتكم في ذلك؟ (1) .
ج: الدعاء للميت بعد الدفن بالثبات والمغفرة سنة وليس بواجب؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (2) » ، والله الموفق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .
(2) سنن أبو داود الجنائز (3221) .(68/54)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: تقول السائلة ينتشر في بعض المراكز الصيفية دورات للسباحة النسائية، وهذه المراكز لا تعير المسئولات أي اهتمام بلباس السباحة للنساء مما يؤدي إلى كشف عوراتهن أمام بعضهن، فهل فكرة السباحة للنساء صحيحة؟ وهل يجوز لهن تعليم السباحة أمام بعضهن والبعض بملابس غير لائقة؟
ج: الحقيقة يا إخواني خروج المرأة عما حد لها ورسم لها في الشرع يسبب لها ولغيرها البلاء والفساد، فالمرأة لو كانت تتعلم السباحة في منزلها فإن أحدا لا يمنعها، لكن أن تخرج من منزلها إلى أماكن تعليم السباحة وبالصفة المذكورة وبملابس لا تستر عورتها فإن ذلك أمر مخالف للشرع، والواجب على أولياء البنات أن يتقوا الله فيهن، وأن يحفظوا تلك الأمانة فالله سائلهم عنها، إن انتشار تلك المسابح وكثرتها دليل على الفراغ العظيم الزائد، والبيوت مملوءة من النساء، ومن تقدم لخطبتهن من الرجال وضعت العقبات(68/54)
أمامه في الغالب، فتنشأ المرأة في فراغ عظيم تحاول أن تقتل هذا الفراغ بأي وسيلة، ومن ذلك الاتجاه إلى تلك المسابح، فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله، وأن يحافظ على عورات المسلمين، وأن يبادر بإغلاق تلك المسابح درءا للمفاسد المترتبة عليها لأن خروج المرأة ومخالطتها الأخريات وكشف عورتها أمام النساء، ونظرها إلى عوراتهن محرم؛ لما رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري، عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة (1) » . . . . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 512 كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، وأحمد برقم 11173، باقي مسند المكثرين وأخرجه الترمذي برقم 2717 كتاب الأدب، باب في كراهية مباشرة الرجال الرجال والمرأة المرأة
(2) أخرجه أبو داود برقم 2732 كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، وابن ماجه برقم 1449 كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت(68/56)
س: تقول السائلة توفي زوجها ولها منه ولد يبلغ من العمر خمس سنوات وبنت سبع سنوات فإذا أرادت أن تتزوج فلمن تكون الحضانة من بعدها، هل هي لجدتهما أم أمهما أو جدهما الذي هوأبو أبيهما؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم «قال: للمرأة المطلقة ولها ابن(68/56)
وأراد أبوه أن ينتزعه منها أنت أحق به ما لم تنكحي (1) » . فإذا تزوجت المرأة سقط حقها من الحضانة، ويلي الأم في الحضانة أمها ثم أمهاتها القربى فالقربى فإن لم يكن كذلك فإنها تنتقل إلى الأب ثم أمهاته القربى فالقربى والمرجع في ذلك عند النزاع للمحاكم الشرعية.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 1938 كتاب الطلاق، باب من أحق بالولد، وأحمد برقم 6420 مسند المكثرين من الصحابة(68/57)
س: يقول توفي والدي وله أخوان ثم توفي أحد أعمامي وليس له أولاد سوى زوجة وترك خلفه تركة، السؤال هل يحق لنا أبناء الأخ المتوفى أولا أن نرث من أموال عمنا المتوفى بعد والدي ورغم وجود العم الآخر على قيد الحياة؟
ج: نعلم أن الفرائض مرتبة والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر (1) » فيقضى الدين وتنفذ الوصية، ثم يبدأ ب ذوي الفروض فهي مقدمة على غيرها فيعطى كل ذي فرض فرضه وإذا بقي شيء أخذه العاصب وأقربهم ابن فابنه وإن نزل، ثم الأب ثم الجد أب الأب وإن علا، ثم أخ لأبوين ثم لأب ثم بنوهما وإن نزلوا، ثم عم
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 6235 كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، ومسلم برقم 3028 كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، والترمذي برقم 2024 كتاب الفرائض، باب في ميراث العصبة، وأحمد برقم 2525، مسند بني هاشم(68/57)
لأبوين، ثم عم لأب، ثم بنوهما كذلك وهكذا وعلى ذلك فإذا كان الواقع كما ذكر في السؤال أن لعمكم المتوفى أخا شقيقا أو لأب فإنه أقدم منكم أنتم أبناء أخ والعم الثاني أخ له فهو مقدم عليكم ولا شيء لكم.(68/58)
س: تسأل السائلة تقول بأنها شابة نذرت لله أن لا تنام إلا وقد صلت صلاة الوتر وأحيانا لا تؤديها، السؤال هل عليها كفارة إذا نسيت صلاة الوتر ونامت؟
ج: أولا ما ينبغي النذر، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه ويدل لذلك ما ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أو لم ينهوا عن النذر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر وإنما يستخرج به من البخيل (1) » ، فإذا نذرت أن توتر قبل أن تنام وجب عليها أن تنفذ ذلك النذر إذا قدرت عليه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه (2) » أخرجه البخاري في صحيحه، وإذا تركته نسيانا فلتقض في النهار شفعا
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 6198 كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، وقوله (يوفون بالنذر) ، ومسلم برقم 3094 كتاب النذر، باب النهي عن النذر، وأنه لا يرد شيئا. وأحمد برقم 5722، مسند المكثرين من الصحابة
(2) أخرجه البخاري برقم 6202 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة(68/58)
ركعتين، أو أربعا، أو ست ركعات وهكذا تشفع كل وتر بركعة.(68/59)
س: يقول إذا أقيمت صلاة الجنازة وقد شرعت في صلاة الراتبة فهل أقطع صلاة الراتبة لأدرك صلاة الجماعة؟ .
ج: لا؛ لأنها فرض كفاية قام بها غيرك وأنت في عبادة، وكفى بالصلاة شغلا، فأنت الآن في عبادة، وصلاة الجنازة فرض كفاية وقد قام بها غيرك.(68/59)
س: يقول: أحرمنا متمتعين بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة وذلك من الميقات، وبعد أن أنهينا العمرة أحرمنا بالحج مباشرة بنفس الملابس فهل في فعلنا هذا شيء؟
ج: إذا طفتم لعمرتكم وسعيتم وقصرتم في اليوم الثامن ثم أحرمتم بالحج وقلتم: لبيك اللهم حجا، فلا شيء عليكم، المهم أن تأتوا بأعمال العمرة كاملة من الطواف والسعي والتقصير، وبذلك تنتهي أعمال العمرة، ولو لم تحلوا ملابس الإحرام، فإذا لبيتم للحج بعد ذلك قلتم: لبيك حجا ففعلكم صحيح.(68/59)
س: يقول السائل: بماذا تنصح من يريد أن يخرج مع جماعة التبليغ؟
ج: جماعة التبليغ -أسأل الله أن يوفقني وإياهم جميعا للخير- هم(68/59)
أناس يدعون ويتظاهرون بأنهم يخرجون لكي يذكروا الناس ولكي يرشدوهم، ويقولون: نحن لا نأمر من خرج معنا ولا ننهاه، ولا نقول: هذا حسن ولا هذا سيئ يكفيه أن يخرج معنا يقتدي بنا، نترك كل من خرج على ما هو عليه دون أن نقول: أنت محسن أنت مسيء، وإنما نكتفي منه بالخروج، فلعل الخروج أن يحوله من حال إلى حال - هكذا هم يقولون - وهم يشتغلون بأذكار الصباح والمساء وأنواع من النوافل فقط، لا يوجد منهم من يعلم أو يفقه في الدين ولا يهتمون بذلك وليس عندهم بصيرة ولا اهتمام في مسائل العقيدة، ولهذا يؤخذ عليهم تلك المآخذ وإن كان قصدهم حسنا وكونهم بهذه الحال مع تحديد مدة خروجهم بأربعين يوما أو أشهرا فإنه لا يجوز الخروج معهم إلا إن كان عالما لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة حتى يرشدهم وينصحهم ويبين لهم الحق ويبصرهم بأمور دينهم، أما مجرد خروج مع بعد عن الفقه في الدين فلا أعلم لهذا أصلا، نسأل الله أن يهدي الجميع لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.(68/60)
س: يقول ما حكم قراءة الفاتحة وسورة يس عند دفن الميت؟
ج: الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: «اقرءوا على موتاكم يس (1) » وذلك عند احتضار
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 2714 كتاب الجنائز، باب القراءة عند الميت.(68/60)
الميت، والحديث فيه ضعف لجهالة أبي عثمان الراوي للحديث، لكن بعضهم قالوا: تعدد طرقه يرتقي إلى الحسن لغيره، وإلا فهو ضعيف، ويعللون بأن قراءة سورة يس عند المحتضر تهون عليه كرب الموت، وقراءة القرآن عند المريض أمر طيب لكن تخصيص القراءة بسورة يس لا أصل له، وكذلك قراءتها عند الدفن بدعة لا أصل لها، والمشروع الدعاء له بالتثبيت كما ورد.(68/61)
س: ما حكم وضع البرسيم أو شيء من الشجر على القبر بعد دفن الميت؟
ج: هذا لا أصل له بل هو بدعة هؤلاء يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين يعذبان فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة، فقالوا يا رسول الله لم صنعت هذا؟ فقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا (1) » . أخرجه البخاري في صحيحه وهذا لفظه لكن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أطلعه على تعذيبهما، وغير الرسول لا يعلم، ولهذا لم يعمل بذلك الصحابة على قبورهم لعلمهم أنه غير جائز لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 211 كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، والنسائي برقم 31 كتاب الطهارة، باب التنزه من البول، وأحمد برقم 1877، ومن مسند بني هاشم، بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما(68/61)
س: شخص طلب مني أن أؤدي عنه عمرة وهو في بلاده وإذا عدت إلى بلادي يعطيني من المال مقابل هذه العمرة هل يجوز ذلك؟
ج: إذا كنت قد اعتمرت عن نفسك جاز أن تعتمر عن غيرك، ومن العلماء من يجيز الإنابة عن الحي في النافلة فقط ويقول: ما دامت نافلة فجائز، ولكن إذا تأملنا السنة حق التأمل وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الحج عمن لم يحج، ويدل لذلك «أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: نعم. وذلك في حجة الوداع (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، لكن إذا كانت العمرة تطوعا أو حجة تطوع لمن كان صحيحا يمكنه الوصول إلى البيت لأداء الحج والعمرة فلا أعلم لها دليلا فتركها أولى.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 2375 كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، والنسائي برقم 2588 كتاب مناسك الحج، باب الحج عن الحي الذي لا يستمسك على الرحل.(68/62)
س: يقول السائل: أقبض راتبا شهريا وأدخر منه جزءا ليس ثابتا في نهاية كل شهر فهل على هذا المال زكاة؟
ج: الأولى أن يزكي جميع المال المتحصل لديه حينما يحول الحول على أول نصاب يملكه منها وهذا أبرأ لذمته وأعظم أجرا له، وإن زكى وافر كل شهر إذا بلغ نصابا تبعا لحوله فله ذلك.(68/62)
س: يقول السائل: بماذا تنصحون الشباب الذين يتهمون العلماء ويتحدثون في أعراضهم؟
ج: أولا ينبغي للمسلم أن يحب في الله ويبغض في الله ويوالي في الله ويعادي في الله كما ينبغي للمؤمن أن يتقي الله فيما يقول ولا يجعل أعراض الناس تسلية يتفكه بها ولا يصغي لمن يقدح في العلماء فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1) وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله (2) » ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. أخرجه الترمذي في سننه. وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وفي الحديث «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله (3) » قال أحمد: من ذنب قد تاب منه. أخرجه الترمذي في سننه وقال: حديث حسن غريب، وفيه أيضا «لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) سنن الترمذي البر والصلة (2032) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2505) .(68/63)
ويبتليك (1) » أخرجه الترمذي في سننه وقال: حديث حسن غريب، فينبغي على المسلم أن يتقي الله ولا ينسب إلى الناس ما لا يقولون، ولا يتهمهم، ولا يقدح في أعراضهم وعليه أن يحمي نفسه؛ لأنه إذا قدح في أعراضهم فقد أهدى لهم رأس ماله وهو حسناته وهي أعظم من كل شيء. ومن أعظم ما يوقع الناس في ذلك ما يسمى بالإنترنت وهي وسيلة لا يعلم الكاتب ولا المتكلم فيها على الحقيقة في الغالب ففيها ساحات فيها من الشتائم والسباب وقذف المسلمين ورميهم بما هم برآء منه ما لا يخفى؛ لأن أولئك لا يستحون ولا يخافون من الله، فينطلقون ويكتبون ويقولون ما لا علم لهم به، ويتحملون الأوزار والآثام.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 2430 كتاب صفة القيامة والرقائق والورع.(68/64)
س: يقول السائل: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الدعاء بين الأذان والإقامة فهل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن نرفع اليدين أثناء الدعاء؟
ج: قيل للإمام أحمد رحمه الله هل تقول بين التكبير والإقامة شيئا؟ قال: لا هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قمت إلى الصلاة فليس هناك دعاء مخصوص، أما بين الأذان والإقامة فالدعاء مشروع وهو محل إجابة الدعاء فادع الله بما أحببت، وإن رفعت يديك بين الأذان والإقامة تدعو فذلك سنة ومن أسباب الإجابة، وأما إذا قمت للصلاة فلم يرد في ذلك دعاء مخصوص.(68/64)
س: يقول السائل: ما حكم الأكل من الأطعمة التي تطبخ في مناسبة معينة كالاحتفال بالمولد النبوي أو ليلة السابع والعشرين؟
ج: هذه الأطعمة الحقيقة أصل وضعها بدعة وخطأ فلا ينبغي للناس أن يحضروها، ولا أن يشجع أهلها، ولكن الطعام إذا طبخ وأصلح فكونه يؤخذ ويطعم للفقراء فذلك خير من رميه، وأما الحضور والإجابة فلا يجوز؛ لأنها بدعة ولا يجوز للمسلم أن يعين على بدعة، يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (1)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 72(68/65)
س: يقول هل من يكرر المعصية أكثر من مرة يعتبر من الذين يصرون على المعاصي؟
ج: لا شك أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) فتكرار المعصية دائما إصرار عليها نسأل الله الثبات على دينه، والواجب المبادرة بالتوبة والاستغفار لعل الله يغفر الذنب.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135(68/65)
س: يقول إذا أطال الواحد منا في جلسة الاستراحة هل يعتبر زيادة في الصلاة وهل يسجد للسهو؟(68/65)
ج: الأصل أن جلسة الاستراحة عند من يقول بها هي جلسة خفيفة إذا قام من الأولى قائلا: الله أكبر ارتاح قليلا، وهكذا إذا قام من الثالثة، لحديث مالك بن حويرث الليثي رضي الله عنه «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا (1) » أخرجه البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي في سننهما، والصحيح أن جلسة الاستراحة إنما تشرع في حق الكبير العاجز وأما القادر فلا؛ لأن الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا هذه الجلسة وإنما جاءت في حديثين فقط؛ حديث مالك بن حويرث، وحديث وائل بن حجر، لكن العلماء المحققون قالوا: الأولى أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها عندما كبر في السن وثقل.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (823) ، سنن الترمذي الصلاة (287) ، سنن النسائي التطبيق (1152) ، سنن أبو داود الصلاة (844) .(68/66)
س: تقول السائلة أختها قدمت لها سلسلة من الذهب هدية بدون علم زوجها فهل عليها شيء في ذلك؟
ج: إذا كان هذا السلسال الذهبي من مال الزوجة فلا مانع، أما إذا كان من مال الزوج فلا بد من استئذانه.(68/66)
س: يقول: ظلمت نفسي كثيرا فماذا علي أن أفعل حتى يغفر الله لي، وأنا لا زلت على قيد الحياة؟
ج: «سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم(68/66)
فقال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم (1) » أخرجه البخاري في صحيحه، والإمام مسلم في صحيحه، ورواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه في السنن، والإمام أحمد في مسنده.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (834) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2705) ، سنن الترمذي الدعوات (3531) ، سنن النسائي السهو (1302) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3835) ، مسند أحمد بن حنبل (1/4) .(68/67)
س: هل يجوز المسح على السماعة التي في الأذن، علما بأن السماعة خلف الأذن، والسلك الذي يصل بين السماعة والأذن داخل الأذن، فما الحكم في ذلك؟
ج: لا أدري هل السماعة ملازمة للأذن دائما أو توضع في وقت وتخلع فإن كانت ملازمة دائما ومسح عليها أجزأه، وإن كانت توضع وقتا وتخلع فلا بد من خلعها عند المسح.(68/67)
س: يقول: هناك شخص لا يصلي أبدا، ولم ينفع معه النصح، هل يجوز إلقاء السلام عليه أو رد السلام عليه؟
ج: إذا كان هذا الشخص لا يصلي مطلقا، وقد نصح وأرشد فلنهجره ولنتفق على هجره، لا نسلم عليه، ولا نجالسه، ولا نحضر مأدبته، ولا ندعوه حتى يشعر بالخطأ الذي وقع فيه ألا وهو إصراره على ترك الصلاة.(68/67)
س: يقول السائل: أحرمت من أبيار علي من المدينة المنورة وعندما ركبت السيارة نعست واحتلمت وأنزلت المني، وعندما حضرت إلى مكة اشتريت ملابس إحرام جديدة، واغتسلت واستعملت الصابون غير متعمد، ثم أتممت عمرتي هل علي شيء؟
ج: لا شيء عليك؛ لأن الاحتلام بغير اختيارك ولا شيء عليك في استعمال الصابون الذي فيه طيب لجهلك بالحكم.(68/68)
س: هل يجوز للمرأة أن تدرس في المسجد علما بأن نساء بلادنا يحتجن إلى دعوة؛ لأنهن يتخبطن في الشرك والمعاصي، ولا يوجد أي مكان إلا المسجد؟
ج: لا بأس بذلك بشرط أن يفصل بينهن وبين الرجال.(68/68)
س: الكثير من النساء يستعملن البراقع والنقاب الواسع في الحرم، وبعض النقاب قد يظهر الحواجب فما حكم هذه الألبسة؟
ج: البرقع والنقاب لا يحل للمحرمة لبسهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين (1) » أما إن كانت غير محرمة فيشترط أن يكون هذا النقاب نقابا ساترا لا يسبب افتتان الرجال بها بمعنى أن يكون ساترا لعموم الوجه فإذا كان كذلك فلا مانع منه.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1838) ، سنن الترمذي الحج (833) ، سنن النسائي مناسك الحج (2681) .(68/68)
س: يقول السائل: رجل تزوج من زوجة أخيه الميت بدون ولي أمرها، أي هي لم تستأذن أحدا من أهلها، وقد كتب عليها بدون مأذون شرعي فما حكم هذا الزواج؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما امرأة نكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل (1) » وفي الحديث الآخر: «لا نكاح إلا بولي (2) » وعلى ذلك فنكاح هذه المرأة نكاح باطل ويجب تجديد عقد النكاح.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 1021 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، وأبو داود برقم 1784 كتاب النكاح باب في الولي وابن ماجه برقم 1869 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، وأحمد برقم 23236. باقي مسند الأنصار، حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه الترمذي برقم 1020 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، وأبو داود برقم 1785 كتاب النكاح، باب في الولي، وابن ماجه برقم 1870 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، وأحمد برقم 2148. ومن مسند بني هاشم، بداية مسند عبد الله بن عباس.(68/69)
س: يقول السائل: هل السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف الحسنات؟
ج: السيئات تضاعف ولكنها تختلف عن مضاعفة الحسنات فالحسنات تضاعف أعدادها، والسيئات تعظم، فسيئة في الحرم أعظم منها في غيره فإن الله جل وعلا يعاقب على مجرد الهم في الحرم بالمعصية(68/69)
قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 25(68/70)
س: يقول السائل: أنا مقيم بمكة ووالدتي في بلدي لم تحج وذلك بسبب تكاليف السفر هل أحج عنها؟
ج: إن كانت عاجزة لا تستطيع الحج لكبر سنها أو لمرض لا يرجى برؤه فحج عنها، وإن كانت قادرة ببدنها ولكن منعتها تكاليف السفر فلا يجزئ أن تحج عنها والحج ليس واجبا عليها في هذه الحالة وانتظر حتى ييسر الله أمرها.(68/70)
س: أريد أن أعتمر ومعي طفلة لم يتجاوز عمرها سنة فهل يكفيني طواف وسعي واحد؟
ج: طوافك يكفي لك ولمن أنت حامل له إن شاء الله في أصح قولي العلماء إذا نويت الطواف عنك وعن من تحمله.(68/70)
س: هل الصلاة في النعال سنة يثاب فاعلها، وإذا كانت كذلك فكيف يمكن أن نعمل بهذه السنة في المساجد المفروشة؟
ج: جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا في نعالكم خالفوا اليهود (1) » رواه أبو داود في سننه في باب الصلاة
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 556 كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل.(68/70)
في النعل، فبعض العلماء قال: عموم هذا الحديث يدل أن الصلاة في النعلين مستحبة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه دخول المسجد بالنعال والصلاة فيها، ولهذا لما صلى فيهما مرة أتاه جبريل وأخبره أن فيهما قذرا فخلعها فخلع الناس نعالهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا (1) » ، وقال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما (2) » ، وبعض العلماء قال: هذا لما كانت المساجد ترابية أما المبلطة والمفروشة فدخول الأحذية قد يحمل الأتربة والقاذورات في المسجد فيتسخ المسجد، فإذا كان كذلك فعدم الصلاة فيها أولى، وليس ذلك كرها للسنة حاشا، ولكن لما يترتب على الدخول بها في المساجد المفروشة من أن تنتقل من تلك الأحذية الوسخات وأنت لا تستطيع التأكد من خلو النعل من القذر عند دخول المسجد.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (650) ، مسند أحمد بن حنبل (3/20) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) .
(2) أخرجه أحمد برقم 11443، باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو داود برقم 555 كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل.(68/71)
س: يقول السائل: على من تجب وليمة الزواج، على الزوج أم على أهل الزوجة؟(68/71)
ج: الأصل أنها على الزوج؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر به عبد الرحمن بن عوف ورأى عليه أثر الزعفران قال: ما شأنك قال: تزوجت البارحة، قال: أولمت قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة (1) » متفق عليه، فدل ذلك على استحباب وليمة العرس وأنها على الرجل.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2049) ، صحيح مسلم النكاح (1427) ، سنن الترمذي البر والصلة (1933) ، سنن النسائي النكاح (3388) ، سنن أبو داود النكاح (2109) ، سنن ابن ماجه النكاح (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/205) ، موطأ مالك النكاح (1157) ، سنن الدارمي النكاح (2204) .(68/72)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ امرأة قدمت من دول الخليج فحجت وطافت طواف الوداع للحج على غير طهارة أي على غير وضوء فما يلزمها؟
ج: هذه المرأة إن كانت حائضا أو نفساء فإن طواف الوداع يسقط عن الحائض والنفساء وإن كانت غير حائض لكنها طافت على غير طهارة طواف الوداع فالواجب أن تذبح كبشا بمكة يوزع على فقراء الحرم؛ لأنها تركت واجبا، والواجب يجبر بدم.(68/72)
س: هل الإمام إذا قال في الرفع من الركوع: الله أكبر بدلا من سمع الله لمن حمده يلزمه سجود السهو؟
ج: السنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد (1) » فبين صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 680 كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم برقم 329 كتاب الصلاة، باب ما جاء إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا.(68/72)
أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده ولا يقول: الله أكبر، فإن قال: الله أكبر مقام سمع الله لمن حمده عامدا تبطل صلاته، وإن كان ساهيا جبر بسجود السهو فيسجد سجدتين قبل أن يسلم؛ لأن هذا إخلال بواجب من واجبات الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد (1) » فجعل حق المأموم أن يقول: ربنا لك الحمد، لا يقل: الله أكبر، والإمام يقول: سمع الله لمن حمده، فإن تركها ساهيا سجد سجدتين قبل أن يسلم جبرا لذلك الواجب الذي تركه.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (722) ، صحيح مسلم الصلاة (414) ، سنن النسائي الافتتاح (921) ، سنن أبو داود الصلاة (603) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (846) ، مسند أحمد بن حنبل (2/314) ، سنن الدارمي الصلاة (1311) .(68/73)
س: تقول السائلة من مكة: كثر في الآونة الأخيرة المراكز الصيفية سواء في المؤسسات العلمية، أو دور تحفيظ القرآن، والملاحظ على هذه المراكز أنها تقوم برحلات للنساء فقط وبدون محارمهن، وهذه الرحلات تتجه إلى حدائق عامة أو استراحات، وبعض هذه الرحلات تكون خارج مكة، وتزود هذه الرحلة ببرنامج للاستفادة من الوقت يشمل المسابقات، والمحاضرات، والأناشيد مع العلم أنهن يخرجن من الصباح إلى المساء، وبعض المراكز التي تقوم في دور تحفيظ القرآن تترك المعلمة وظيفتها ذلك اليوم بحجة أنهن قائمات على هذه الرحلات فما حكم هذه(68/73)
المراكز؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الذي أراه أن هذا منكر، وأن هذا عمل ليس مشروعا، فالنساء والعناية بأمرهن والمحافظة على أعراضهن، واجب شرعي، المرأة ليس شأنها الخروج عن المنزل وتركه إلى آخر النهار في رحلات النساء، هذه قضية خطيرة والسماح بهذا والتوسع فيه فتنة ومنكر لا يجوز. يقول الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1)
لا بأس أن نعلمهن ما ينفعهن في المدارس داخل المدينة، أما أن نخرج بهن لتعليمهن عدم البقاء في البيت والسعي في إخراجهن من البيت، وخروجهن خارج المدينة اليوم خارج مكة، وغدا خارج كذا إلى أن يتوسع الأمر بما لا يستطاع أن يتدارك، فوصيتي للقائمين على تلك المراكز الصيفية أن يتقوا الله في أنفسهم، وعلى المعلمات أن يعلمن البنات داخل المدارس، وأما التوسع للنساء في جنس هذه الأمور فتلك جريمة خطيرة ونتائجها بلا شك غير سليمة، فلا يحق لنا أن نأمر النساء بما يفقدهن الحياء، وخير للمرأة وأطهر لها وأحفظ لها أن تبقى في بيتها وأن لا تخرج إلا لأمر ضروري كطلب العلم والتعليم، وأما الخروج بها في رحلات تشابه رحلات الأولاد فأخشى أن يجر ذلك إلى أمور لا تحمد عقباها، وعلى كل
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33(68/74)
فخروجهن خارج المدينة في حد ذاته منكر أسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه.(68/75)
س: يقول السائل: سماحة الشيخ والدي ربط كلبا صغيرا من أجل تربيته فمات ذلك الكلب في رباطه، وأمي كذلك قتلت دجاجة من دون قصد فماذا عليهما؟ علما أن والدي قد توفي، ووالدتي ما زالت على قيد الحياة.
ج: نسأل الله أن يتجاوز عن والدك وعن والدتك، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (1) » .
فالحيوانات عموما لا يجوز اقتناؤها إلا لمن يثق من نفسه القدرة على الرعاية والحماية لها، والكلب لا يجوز اقتناؤه إلا في ثلاث حالات وهي: كلب الصيد، وكلب ماشية، أو حرث، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط (2) » ، ومن
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 3071 كتاب بدء الخلق باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم. ومسلم برقم 4951 كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.
(2) أخرجه مسلم برقم 2946 كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه، وأحمد برقم 4582 مسند المكثرين من الصحابة.(68/75)
يقتنون الطيور من حمام وغيره يخطئون أحيانا فيذهبون عن البيت فيموت الحيوان عطشا وجوعا، وكل هذا خطأ، الحيوان لا يجوز أن تحبسه إلا أن تطعمه وتسقيه، وتحافظ عليه، وأما أن تهمله وتضيعه فأنت بذلك مخطئ وآثم، وما دام أن والدتك لم تتعمد قتل تلك الدجاجة وإنما قتلتها من غير قصد فلا حرج عليها إن شاء الله ولعل الله أن يعفو عنها. وعليك بالاستغفار عن والدك والصدقة عنه والدعاء له لعل الله أن يعفو عنه.(68/76)
س: سائل يقول: أنا شاب تائب وعلي ديون ولم أستطع سداد تلك الديون فهل توبتي صحيحة؟
ج: توبتك صحيحة فيما بينك وبين الله، أما حقوق عباد الله فلا بد من أدائها، فإن كنت قادرا على الوفاء فبادر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله (1) » وأمر الدين عظيم، النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستعيذ بالله من الدين، ففي الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن البخل والجبن ومن غلبة الدين وقهر الرجال (2) » فعلى المسلم أن
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 2212 كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها.
(2) أخرجه أبو داود برقم 1330 كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة.(68/76)
يتقي الله في حقوق العباد ويتخلص منها قبل القدوم على الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس فيكم قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال أمثال الجبال ويأتي وقد ظلم هذا وضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار (1) » وروح المؤمن معلقة بدينه. لكن إن عجز عن أداء دينه فينبغي أن ينظر إلى ميسرة، ولا يجوز لأرباب الدين أن يكلفوه بما لا يطيقه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) فعليه الصبر والجد في طلب قضاء دينه ويستعين بالله عسى الله أن يعينه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 4678 كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم.
(2) سورة البقرة الآية 280(68/77)
س: يقول أنا شاب متمسك وملتزم بديني ولله الحمد وأعمل في الحرم، وأحيانا أشاهد النساء كاشفات وأصرف نظري عنهن لكنني ملزم بالعمل في هذا المكان، هل علي إثم وبماذا تنصحني؟
ج: إذا ابتليت يا أخي بذلك فغض بصرك واصرفه عما لا يحل(68/77)
النظر إليه بقدر ما تستطيع ولا تكرر النظر، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (1) وعليك نصحهن وأمرهن بالحجاب برفق ولين لعل الله أن يهديهن على يديك.
__________
(1) سورة النور الآية 30(68/78)
س: يقول السائل: ما الحكم فيمن اعتمر وعند الطواف تطيب من البخور الموجود في المطاف وهو محرم هل عليه شيء؟
ج: إن كان عن جهل ونسيان فأرجو ألا شيء عليه، وإن كان عن قصد فإن عليه دما مقابل هذا المحظور، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام.(68/78)
س: يقول السائل: عندي شاب يبلغ من العمر اثنين وعشرين سنة لكنه لا يحافظ على الصلاة، يحافظ عليها أحيانا إن كان في البيت، وإذا خرج يصاحب أصدقاء لا يصلون فكيف أتعامل معه؟ وبماذا تنصحونني؟
ج: احتو هذا الابن وحاول التقرب منه والتودد والجلوس معه لتبدي له نصائحك، وتحذره من جلساء السوء، وترغبه في الطاعة وتبين له آثارها الطيبة، وتحذره من أصدقاء السوء، وتبين له النتائج(68/78)
السيئة من صحبتهم وأنهم فئة لا خير فيهم ولا يرجى منهم خير، مع الدعاء له بالهداية والتوفيق فلعل الله أن يستجيب دعاءك، نسأل الله للجميع التوفيق لما يحبه ويرضاه.(68/79)
س: هذه السائلة تقول: يقال بأن جبل الرحمة أتى من الشام عند بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة هل ذلك صحيح؟
ج: كل هذه من الخرافات التي لا أصل لها فلا ينبغي تصديقها.(68/79)
س: ما هو الدعاء الذي يقال في الصلاة على الميت والطفل؟
ج: أما الدعاء للميت عند الصلاة عليه فقد حفظ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان (1) » . وروى مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1024) ، سنن النسائي الجنائز (1986) ، مسند أحمد بن حنبل (4/170) .(68/79)
مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من فتنة القبر أو من عذاب النار (1) » . وفي الدعاء للفرط عند الصلاة عليه «اللهم اجعله فرطا وذخرا لوالديه وشفيعا مجابا، اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم» .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (963) ، سنن الترمذي الجنائز (1025) ، سنن النسائي الجنائز (1984) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1500) ، مسند أحمد بن حنبل (6/23) .(68/80)
س: يقول السائل: هل الاضطباع يكون في الطواف والسعي أم في الطواف فقط؟
ج: الاضطباع وهو: جعل طرفي الرداء على العاتق الأيسر وجعل الكتف الأيمن مكشوفة، هذا يستحب في أداء كل طواف تطوفه إذا قدمت البيت، فسواء كان في الحج أو في العمرة، أما السعي فلا يشرع فيه الاضطباع؛ لأن النبي اضطبع في الطواف ولم يضطبع في السعي.(68/80)
س: يقول السائل: هل يجوز لزوجتي أن تكشف على أولاد أخي وكذلك أن تكشف على عمي شقيق والدي؟
ج: أولاد أخيك وعمك ليسوا محارم لزوجتك، فلا يحل لها(68/80)
الكشف عليهم.(68/81)
س: ما حكم القصر في الصلاة في السفر؟
ج: القصر في السفر سنة ثابتة بل يرى علماء الظاهرية وجوبها وفرضها، يقول الله جل وعلا {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) فالآية قيدت القصر بالخوف في السفر، لكن هذا القيد خرج مخرج الغالب، فالله سبحانه علق القصر على الخوف؛ لأن غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم لم تخل منه ولا اعتبار لذلك ويدل لذلك أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه: ما لنا نقصر وقد أمنا؟ قال: عجبت ما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (2) » . أخرجه مسلم والإمام أحمد في مسنده. فدلت السنة على أن القصر مشروع في السفر سواء كنا خائفين أو آمنين. وتقول عائشة رضي الله عنها: " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر " متفق عليه. ونبينا صلى الله عليه وسلم سافر وقصر في كل أسفاره ولم ينقل عنه أن أتم الرباعية - أعني الظهر والعصر والعشاء - في أي
__________
(1) سورة النساء الآية 101
(2) أخرجه مسلم برقم 1108 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها وأحمد برقم 169، مسند العشرة المبشرين بالجنة.(68/81)
سفر من الأسفار.(68/82)
س: يقول السائل: ماذا يفعل من ابتلي بأمراض مزمنة لا يجد الطب لها علاجا مع العلم بأنه صابر ومحتسب عند الله ولا يشكو لأحد لكنه يجد في نفسه أحيانا بعض الضيق والألم فبماذا تنصحونه؟
ج: الله جل وعلا أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وربنا أرحم بعبده من والدته به، مرت امرأة في إحدى غزوات النبي، فلما رأت ابنها عرفته فألصقته على صدرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أترون هذه تلقي ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: والله لله أرحم بعبده من هذه بولدها (1) » فالذي قدر لك هذه الأمراض والأسقام هو رب العالمين أرحم بك من أمك الشفيقة عليك فأحسن الظن بربك وتوكل عليه والتجئ إليه وناده كما ناداه عبده أيوب {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2) فالله جل وعلا جدير أن يجيب دعاءك أو يجعل ذلك مدخرا لك في دار كرامته تنال به الأجر والثواب {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 5540 كتاب الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم برقم 4947 كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى.
(2) سورة الأنبياء الآية 83
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157(68/82)
وفي الحديث: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (1) » . ثم يا أخي الطب مهما بلغ من التقدم والرقي لكن مع تقدمه ورقيه يقف أمام قدرة الله لا يستطيع أن يتقدم ولا يتأخر، قال الله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (3) {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} (4) {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} (5) {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} (6) {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (7) البشر كل البشر لا يستطيعون تأجيل الموت ولا إرجاع الروح بعد خروجها، والطب معروف وله فضل، ونعمة من نعم الله لكنه في حدوده التي قدرها الله، والواجب الصبر على البلاء وسؤال الله العافية وبذل الأسباب المباحة النافعة.
__________
(1) أخرجه أحمد برقم 7521 باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة بلفظ: '' لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة ''.
(2) سورة المنافقون الآية 11
(3) سورة الواقعة الآية 83
(4) سورة الواقعة الآية 84
(5) سورة الواقعة الآية 85
(6) سورة الواقعة الآية 86
(7) سورة الواقعة الآية 87(68/83)
س: يقول السائل: هل ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن من وقع نظره على الكعبة له دعوة مستجابة.(68/83)
ج: لا أعلم لهذا أصلا، لكن الحقيقة المجيء إلى الحرم والصلاة فيه والجلوس فيه يجد الإنسان في نفسه انشراح الصدر وطيب النفس وقرة عين، يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} (1) قال بعض السلف: ما يقضون منه وطرا كلما أتوا ازدادوا له حبا وشوقا، فبيت الله شرفه الله وزاده شرفا وفضلا وأدام عليه هذه النعمة العظيمة والأمن العظيم وفق الله رعاته ومن شرفوا بخدمته لما فيه الخير والصلاح، وإذا دخله المسلم يجد من نفسه الطمأنينة وانشراح الصدر وقرة العين، والوقت ينقضي فيه كأن الساعة دقائق يسيرة، وذلك لما أودع الله فيه من الخير العظيم، فصلاة فيه بمائة ألف صلاة، ودعاء يرجى إجابته. ذكر بعض السلف سلسلة عظيمة لعلماء من السلف توارثوها خلفا عن سلف كل منهم يقول أتيت الملتزم ودعوت بدعوة فأجبت، كلهم شهدوا بأنهم حصلت لهم إجابة دعوة عند بيت الله الحرام فبيت الله لمن عمره بالطاعة، بالصلاة والطواف وتلاوة القرآن والتضرع بين يدي الله يرجى له أن يحقق الله له الخير، ولهذا إذا اعتمر المسلم وأدى نسك العمرة يجد في نفسه الراحة والطمأنينة؛ لأنه طاف بهذا البيت العتيق وسعى بين الصفا والمروة وصلى في ذلك المكان فنسأل الله أن يجعلنا من عماره وأن يجعلنا من المجيبين له الراغبين، فإنه على كل شيء قدير.
__________
(1) سورة البقرة الآية 125(68/84)
س: يقول معتمر قدم لأول مرة وبدون قصد قام بقص شعره في الشوط الخامس في السعي هل عليه شيء؟
ج: إن كان أكمل السعي ووقع التقصير عن جهل منه بالحكم فأرجو أن لا شيء عليه، وإن كان عامدا فعليه فدية ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، وإن لم يكمل السبعة أشواط فليعد سعيه.(68/85)
س: يقول السائل: هل ورد قول: إنك لا تخلف الميعاد بعد الأذان؟
ج: نعم وردت هذه الزيادة " إنك لا تخلف الميعاد " من رواية البيهقي في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ذكرها بعد دعاء طلب الوسيلة والفضيلة بعد الأذان.(68/85)
س: يقول السائل: ماذا يقال عند المسح بيده اليمنى عند الركن اليماني؟
ج: لم يرد دعاء مخصوص عند استلام الركن اليماني لكن إن تيسر له استلامه فكبر قائلا " باسم الله والله أكبر " فحسن وإن شق عليه استلامه فلا يشير إليه ولا يكبر، يقول العلماء: لم يثبت في الطواف دعاء إلا «قول النبي صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليماني(68/85)
والحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (1) » والأصل أن الطواف فيه ذكر الله كما في الحديث «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (2) » .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1892) ، مسند أحمد بن حنبل (3/411) .
(2) سنن الترمذي الحج (902) ، سنن أبو داود المناسك (1888) ، مسند أحمد بن حنبل (6/75) ، سنن الدارمي المناسك (1853) .(68/86)
س: يقول: اشتريت جهاز جوال بثلاثمائة وخمسين ريالا على أن أدفع للشخص مبلغ أربعمائة وخمسين ريالا، دفعت منها مائة ريال نقدا والباقي كل شهر خمسون ريالا هل هذا البيع جائز؟ ج: إذا حصل الاتفاق بينك وبين صاحب الجوال على أن يبيعك إياه بأربعمائة وخمسين ريالا مؤجلة وكان الاتفاق على ذلك من بداية العقد فالبيع جائز ولا محظور فيه أما إن كان بيعك بثلاثمائة وخمسين ثم جعل بعد ذلك زيادة مائة ريال مقابل التأخير والعجز عن السداد فهذا غير جائز؛ لأنه من الربا المحرم الذي قال الله عنه {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) كفانا الله وإياكم بحلاله عن حرامه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(68/86)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الفتوى رقم (1179)
س: أنا إمام مسجد وأصابني مرض السرطان في الأمعاء، وقرر الدكاترة أن المرض في المستقيم الذي فيه الفضلات وأنه لا بد من استئصاله وفعلا أجروا العملية وسدوا المخرج وفتحوا فتحة جانبية للبراز ونستعمل أكياسا من النايلون كل يوم وليلة نلصق كيس على هذه الفتحة بغراء فلا يخرج منها ريح ولا عرق ولا أي شيء يستنكر ثم ننزعه بعد يوم وليلة ونغسل الفتحة غسلا جيدا، ونلصق أخرى مكانها ويكون لي إمامة المسجد، فهل تصح إمامتي أم لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الأمر كما ذكرت فوضوءك ينتقض بما يخرج منك(68/87)
من الغائط إلى الكيس قليلا أو كثيرا، ويجب عليك الوضوء لكل صلاة كمن به سلسل البول وكالمستحاضة، ويعفى عنك بالنسبة لحملك الكيس في الصلاة وبه نجاسة وعن خروج البراز منك إلى الكيس وأنت في الصلاة، ولا يجوز لك أن تصلي بالناس إماما فريضة أو نافلة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/88)
من الفتوى رقم (7011)
السؤال السابع: إذا توضأت كل وقت وخرجت للمسجد ينزل مني مذي فهل لي صلاة؟ علما أنني إذا استحميت وخرجت فهو يخرج مني بغير شهوة فهل يلزمني في كل وقت أن أستحم؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا نزل ذلك منك باستمرار فهو سلس، وعليك أن تتوضأ منه لكل صلاة عند دخول الوقت، وصلاتك صحيحة ولو نزل أثناءها. وإذا كان لا يتكرر نزوله منك كثيرا وجب عليك الوضوء(68/88)
الشرعي منه للصلاة وذلك بعد أن تغسل الذكر والأنثيين وليس عليك الغسل (الاستحمام) من ذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/89)
الفتوى رقم (1821)
س: سائل جامع زوجته أيام نفاسها بعد مضي عشرين يوما من ولادتها وقد سمع من المحدثين في المساجد أن المرأة التي لم تكمل عدة نفاسها إذا توقف دمها مدة النفاس تغتسل وتصلي، ويسأل ماذا عليه في جماعه قبل انتهاء مدة النفاس؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أكثر مدة النفاس في قول أكثر أهل العلم أربعون يوما بلياليها لما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما وأربعين ليلة (1) » . وروى الدارقطني عن أم سلمة أنها «سألت
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (139) ، سنن أبو داود الطهارة (312) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (648) ، مسند أحمد بن حنبل (6/300) ، سنن الدارمي الطهارة (955) .(68/89)
النبي صلى الله عليه وسلم كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك (1) » . وقال أبو عيسى الترمذي: (أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي) . وحكم جماع النفساء والدم نازل حرام كجماع الحائض، ومن فعل ذلك فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وعليه أيضا أن يتصدق بدينار أو نصفه كفارة لما حصل منه؛ لما رواه أحمد وأصحاب السنن بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن يأتي امرأته وهي حائض: «يتصدق بدينار أو نصفه (2) » . ومقدار الدينار أربعة أسباع الجنيه السعودي، فإذا كان صرف الجنيه السعودي مثلا سبعين ريالا فعليك أن تخرج أربعين ريالا أو عشرين ريالا سعوديا تتصدق بها على الفقراء. أما إن كان وطؤك زوجتك النفساء في فترة انقطع فيها الدم وكان بعد أن اغتسلت فلا شيء عليك ولو لم تكمل الأربعين يوما.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (139) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود النكاح (2168) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (640) ، مسند أحمد بن حنبل (1/363) ، سنن الدارمي الطهارة (1105) .(68/90)
من الفتوى رقم (3923)
السؤال الثاني: هل يكون نفاس للمرأة بعد أربعين يوما؟ وهل تقضي الصلاة التي فاتتها أثناء الحيض أو النفاس؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يكون ما تراه من الدم بعد الأربعين نفاسا بل دم استحاضة فتغتسل بعد الأربعين وتصلي وتصوم وتتوضأ لكل صلاة وتضع خرقة أو نحوها على فرجها لتمنع نزول الدم، ولا يجب عليها أن تقضي ما فاتها من الصلاة أثناء حيضها أو أثناء نفاسها، وإنما عليها أن تقضي الصيام الذي فاتها من رمضان بسبب الحيض أو النفاس إلا إذا صادف الدم الخارج منها بعد الأربعين وقت العادة فإنها لا تصوم ولا تصلي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/91)
من الفتوى رقم (4514)
السؤال الرابع: إذا انقطع دم النفاس قبل أربعين يوما فهل يجوز للمرأة أن تغتسل وتصلي حتى ولو عاد مرة أخرى قبل الأربعين أيضا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا رأت المرأة النفساء الطهر قبل تمام الأربعين فإنها تغتسل وتصلي وتصوم، ولزوجها جماعها. فإن استمر معها الدم بعد الأربعين فإنها تعتبر نفسها في حكم الطاهرة؛ لأن الأربعين هي نهاية مدة النفاس في أصح قولي العلماء، ويعتبر الدم الذي معها بعد الأربعين دم فساد حكمه حكم دم الاستحاضة، إلا إن صادف عادتها فإنها تعتبره حيضا تدع له الصلاة والصوم ويحرم على زوجها جماعها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/92)
الفتوى رقم (1795)
س: أسقطت امرأة في الشهر الثالث من حملها أول رمضان وأفطرت خمسة أيام بعد الإسقاط لوجود الدم من أثر الإسقاط الظاهر واستمر معها الدم في نفس الفرج وهو غير خارج منه وقد استمرت على الصوم والصلاة خلال خمسة وعشرين يوما فهل يصح الصوم والصلاة وهي على هذه الحالة؟ مع العلم أنها تتوضأ وضوءا كاملا لكل صلاة ولا تزال على هذه الحالة حتى الآن حيث تجد الدم والبلل في الفرج وتذكر أنها كانت تستعمل حبوب منع الحمل والحيض قبل أن تحمل؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت من إسقاطها الحمل في الشهر الثالث من حملها فلا يعتبر دم نفاس؛ لأن ما نزل منها من الحمل إنما هو علقة لا يتبين فيها خلق آدمي، وعلى ذلك يصح صومها وتصح صلاتها وهي ترى الدم في الفرج ما دامت تتوضأ لكل صلاة كما ذكر في السؤال، وعليها أن تقضي ما فاتها من الصوم والصلاة في الأيام الخمسة التي أفطرتها ولم تصل فيها. مع العلم بأن هذا الدم(68/93)
يعتبر دم استحاضة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/94)
من الفتوى رقم (2012)
السؤال الأول: إذا أسقطت المرأة فهل عليها أن تصلي وتصوم من وقت خروج الدم قبل الإسقاط أم أن حكمها حكم الحائض؟ ولو فرض أن ارتفع ما يسمى بالعوار فما الحكم؟ وفي حالة الإسقاط هل يكون هناك نفاس أم لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا أسقطت المرأة علقة أو مضغة لم يظهر فيها خلق الإنسان فلا نفاس عليها، وما خرج منها من الدم قبيل الإسقاط وبعده يعتبر دم فساد تصوم وتصلي مع وجوده، وتتوضأ لكل صلاة، وتتحفظ منه بقطن ونحوه. أما إن سقط منها ما تبين فيه خلق إنسان فحكمها حكم النفساء تدع الصلاة والصيام ويجتنبها زوجها حتى تطهر أو تكمل أربعين يوما، فإذا طهرت قبل الأربعين اغتسلت وصلت وحل(68/94)
لها الصوم وحلت لزوجها ولو كان ذلك قبل إكمال الأربعين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/95)
من الفتوى رقم (8597)
السؤال الرابع: بعض النسوة تعسر عليهن الولادة فيضطر إلى توليدهن بطريقة العملية الجراحية ولربما يحصل من جراء ذلك خروج الولد عن طريق غير الفرج. فما حكم أمثال هؤلاء النسوة في الشرع من ناحية دم النفاس؟ وما حكم غسلهن شرعا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
حكمها حكم النفساء إن رأت دما جلست حتى تطهر، وإن لم تر دما فإنها تصوم وتصلي كسائر الطاهرات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/95)
من الفتوى رقم (4123)
السؤال الرابع: إذا وضعت الحامل ولم يخرج دم فهل يحل لزوجها أن يجامعها وهل تصلي وتصوم أو لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا وضعت الحامل ولم يخرج دم وجب عليها الغسل والصلاة والصوم، ولزوجها أن يجامعها بعد الغسل؛ لأن الغالب في الولادة خروج دم ولو قليل مع المولود أو عقبه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/96)
الفتوى رقم (7694)
س: هل يجوز للرجل أن يجامع زوجته بعد ما تضع حملها بثلاثين يوما أو بعد خمسة وعشرين يوما أو ما يجوز إلا بعد أربعين يوما؛ لأني سمعت من بعض الناس يقولون على استطاعة الزوجة(68/96)
وبعض يقولون: لازم توفي أربعين يوما فلا أدري من أصدق أفيدونا لما هو أصح جزاكم الله خير الجزاء؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يجوز للرجل أن يجامع زوجته بعد ولادتها أيام نفاسها حتى يمضي عليها أربعون يوما من تاريخ الولادة، إلا إذا انقطع دم النفاس قبل الأربعين فيجوز له أن يجامعها مدة انقطاعه بعد اغتسالها، فإذا عاد إليها الدم قبل الأربعين حرم عليه جماعها وقته. وعليها ترك الصوم والصلاة إلى تمام الأربعين أو انقطاع الدم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/97)
من الفتوى رقم (7141)
السؤال العاشر: هل يجوز للرجل مباشرة امرأته في حالة النفاس دون الفرج قبل أربعين يوما ولو لم ينقطع الدم؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله(68/97)
وصحبه. . وبعد:
نعم يجوز ذلك، لكن السنة أن يأمرها أن تتزر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض (1) » متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (301) ، سنن الترمذي الطهارة (132) ، سنن أبو داود الطهارة (268) ، مسند أحمد بن حنبل (6/55) .(68/98)
من الفتوى رقم (9520)
السؤال الأول: لدينا امرأة سقط الجنين الذي في بطنها بدون سبب (أمر الله) هل يستمر الرجل معها بالجماع مباشرة أو يتوقف لمدة 40 يوما؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الجنين قد تخلق، بأن ظهرت فيه أعضاؤه من يد أو رجل أو رأس حرم عليه جماعها ما دام الدم نازلا إلى أربعين يوما، ويجوز أن يجامعها في فترات انقطاعه أثناء الأربعين بعد أن تغتسل،(68/98)
أما إذا كان لم تظهر أعضاؤه في خلقه فيجوز له أن يجامعها ولو حين نزوله؛ لأنه لا يعتبر دم نفاس، وإنما هو دم فساد تصلي معه وتصوم ويحل جماعها وتتوضأ لكل صلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/99)
الفتوى رقم (4952)
س: قد نفست أي ولدت وأصبحت في النفاس ولكن أجري لي عملية تنظيف للرحم ولم ينزل علي دم إلا ثلاثة أيام ثم أصبحت بعد ذلك نظيفة لا ينزل علي أي شيء حوالي خمسة أيام أقمت فيها الصلاة ولكن ناسا عارضوني في ذلك ولم أسمع اعتراضهم وصليت، بعد الخمسة الأيام نزل علي الدم وقطعت الصلاة لمدة لا أعلمها الآن وانقطع الدم بعد ذلك ولم أصل؛ لأني ارتبت في أن أكون غير نظيفة؛ لأن الدم انقطع ونزل معي ماء أصفر، ولأن الذين حولي ليسوا أهلا للسؤال لم أسأل وظللت حائرة في أمري. وأخذت على ذلك عدة أيام لم أحصها ولا أعلم(68/99)
كم هي، وقدر الله أن أسأل الشيخ علي مشرف إمام مسجد قباء وأفتاني بأن أصلي، نظرا لأن هناك حديثا عن أم عطية الأنصارية تقول: " كنا لا نبالي بالصفرة ولا الكدرة "، وصليت إلى أن أنهيت فترة النفاس. ولكنني أسأل عن الأيام التي تركتها دون أن أصلي وذلك لجهلي طبعا ماذا أفعل بها وهل علي أن أصلي ما فاتني فيها مع العلم بأني لم أحصها ولا أعرف عددها بالضبط أفتوني أرشدكم الله لما فيه خير المسلمين وكيف أصليها؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الأيام الخمسة التي انقطع فيها الدم صلاتك فيها صحيحة وهذا هو الواجب عليك، أما الأيام التي نزل فيها الدم فهي من النفاس ولا تجب ولا تصح الصلاة فيها إذا كان ذلك قبل تمام الأربعين. أما الأيام التي نزل فيها الماء الأبيض والصفرة ففيها تفصيل فإن كان الماء الأبيض متصلا بالدم وليس فيه كدرة فهذا في حكم الطهارة، والصفرة التي بعده لا يعول عليها بل الجميع في حكم البول لقول أم عطية رضي الله عنها: " كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا ". أما إن كانت الصفرة متصلة بالدم وحدها أو مع الماء الأبيض فهي في حكم النفساء إذا كانت قبل الأربعين لا تجب فيها الصلاة ولا تصح.(68/100)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/101)
من الفتوى رقم (5172)
السؤال الثالث: هل تقضي المرأة الصلاة والصيام إذا وضعت أو لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا تصلي المرأة ولا تصوم وهي حائض أو نفساء، وإذا انقطع حيضها أو نفاسها ولو أثناء أيام حيضها أو نفاسها اغتسلت وتوضأت وصلت الصلاة الحاضرة وصامت. أما ما فاتها من ذلك أيام حيضها أو نفاسها فتقضي منه الصيام دون الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/101)
من الفتوى رقم (13160)
السؤال الثاني: امرأة خرجت من النفاس بعد تمام الأربعين وطهرت طهرا صحيحا وبعد عشرة أيام رأت الدم نقطا بسيطة وتركت صلاة الظهر وبعد خمسة أوقات انقطع الدم ولم يكن في زمن العادة الشهرية فسؤالها هل تقضي هذه الأوقات الستة ولا عبرة في النقطتين أو الثلاث من الدم في غير زمن الحيض أم أنها تترك هذه الأوقات كما سلف؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا رأت النفساء بعد طهرها بعشرة أيام نقطا من الدم فإن لم يوافق عادة الحيض فإنها لا تترك الصلاة ولا الصيام؛ لأن هذا الدم دم فساد وعليها أن تقضي ما تركت من الصلاة في الأيام التي نزلت فيها النقط.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/102)
من الفتوى رقم (8230)
السؤال الأول: إذا أسقطت المرأة في الشهر الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع فهل يعتبر نفاسا أم تصلي فيه؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا أسقطت المرأة في الشهر الرابع ما فيه خلق الإنسان فدمها دم نفاس، فلا تصلي ولا تصوم حتى تطهر، وكذلك لا يطؤها زوجها، وأما في الشهور الثلاثة فليس دمها دم نفاس، وعليه فتصوم وتصلي ويطؤها زوجها إذا كان الجنين لم يتبين فيه خلق الإنسان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/103)
من الفتوى رقم (4321)
السؤال الثالث: هل الصلاة واجبة في جميع الحالات، وهل الامتناع عن الصلاة لإحساس الشخص أنه غير جدير بالصلاة أو(68/103)
أنه يصلي ورغم هذا يفعل ما نهى الله عنه، هل هذا خطأ، وهل له أن يصلي في جميع الحالات؟
ج: الصلاة واجبة على كل مكلف من الرجال والنساء كل يوم وليلة خمس مرات بالنص والإجماع، وهي عمود الإسلام وأعظم أركانه بعد الشهادتين سواء كان مرتكبا لشيء من الذنوب أو غير مرتكب لها بل مرتكب الذنوب أحوج إلى ما يغفر الله به ذنوبه بإتباع السيئة الحسنة كالصلاة والصيام والصدقات ونحوها من الأعمال الصالحات قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (1)
وعلى المسلم أن يحصن نفسه بذكر الله ومراقبته وتلاوة كتابه الكريم وعظم الرجاء في عفوه ومغفرته حتى لا يتسرب اليأس إلى قلبه، وليس وقوع الذنوب منه دليلا على فساد صلاته أو صيامه أو زكاته أو غيرها من عباداته فقد يجتمع في الإنسان مطلق الإيمان والأعمال الصالحات مع ارتكابه لما نهى الله عنه سوى الشرك بالله وغيره من نواقض الإسلام، ونسأل الله تعالى أن يمنحنا وإياك الفقه في الدين والثبات عليه، والله المستعان.
__________
(1) سورة هود الآية 114(68/104)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(68/105)
من الفتوى رقم (6196)
السؤال الأول: إنني شاب هداني الله إلى طاعته وأصلي جميع الصلوات الخمس ما عدا صلاة الفجر في بعض الأوقات يغلب علي النوم ولا أصحو إلا بعد طلوع الشمس هل يجوز لي أن أصلي في ذلك الوقت. وكيف يقضي المصلي الصلاة التي فاتته مثلا: صلاة العصر إذا فاتت عن وقتها هل أقضيها مع اليوم الثاني أم مع المغرب؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
ما نمت عنه من الصلوات حتى فات وقته أو نسيته فصله إذا استيقظت من نومك أو تذكرت، ولو كان استيقاظك أو تذكرك عند طلوع الشمس أو غروبها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3\100، 243، 267، 282، من حديث أنس، والبخاري في الصحيح رقم 597، ومسلم في الصحيح رقم 684. والإمام أحمد 5\22 وأبو داود رقم 431 دار المعرفة، والنسائي 1\236 و 237 ط الحلبي، والترمذي برقم 187 ط دار الفكر(68/105)
أما ما تركته من الصلوات الخمس عمدا مع الاعتراف بوجوبه حتى فات وقته فالصحيح من قولي العلماء أن ذلك كفر أكبر ولا قضاء عليك، وإنما عليك التوبة والاستغفار والندم على ما مضى والمحافظة على الصلوات الخمس في وقتها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) أخرجه أحمد في المسند 3\370 ومسلم في الصحيح رقم 82. وأبو داود في السنن رقم 4678 والترمذي في الجامع رقم 2621، 2622 وابن ماجه في السنن رقم 1064 وابن أبي شيبة في الإيمان رقم 44، 45 ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة رقم 886، 887، 888 من حديث جابر.(68/106)
شبهات حول الإسلام
لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فتكثر هجمات الغربيين بين وقت وآخر على الإسلام، وعلى تعاليم هذا الدين، متعرضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بما يرمون من ورائه الإساءة لدين الله الحق، واعتباره مفكرا لا رسولا، ووراء ذلك كما نلمس اليوم من الهجمات الكثيرة على المملكة العربية السعودية، وعلى تعاليم دين الله الحق، الذي لا يقبل الله من البشر دينا سواه، وهو الإسلام، الدين الذي أرسل الله به الرسل، من أولهم إلى آخرهم - محمد صلى الله عليه وسلم - الذي ختم الله به الرسالة، وهو الدين الذي رضيه الله لخير أمة أخرجت للناس.
يحرك الأمور اليهود، الذين أخبر الله عنهم بأنهم: أشد الناس عداوة للذين آمنوا بقوله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1)
وقد اندس كثير منهم بين المستشرقين في بلاد الغرب
__________
(1) سورة المائدة الآية 82(68/107)
والشرق، الذين اهتموا بدراسة الإسلام وكتبوا عنه، ما بين طالب للحق، ومبطل له، وأكثرهم مبطلون.
ومما لا يخفى على ذوي البصيرة أن غالبية من كتب عن الإسلام في بلاد الغرب، حسب ما ظهر من كتاباتهم، أمثال كولدزيهر الألماني، وغوستان لوبون الفرنسي، ودينيه جنيون، وفانساي مونيوي، وإثيان دينيه، ولورد هدلي، وتولستوي وكارليل وغيرهم كثير. هؤلاء الذين كتبوا عن الإسلام وأخذ عنهم من يكتب اليوم، ينقسمون إلى قسمين: 1 - إما خصوم للإسلام، يريدون من دراستهم تشويه حقيقة هذا الدين، والتنفير منه. فهم يكتبون عن عداوة مبيتة.
2 - وإما غير فاهمين له، ويقيسون ما يكتبون بمفاهيم سائدة في عقائدهم، وأمور يرونها بارزة في مجتمعاتهم " ومن جهل شيئا عاداه " (1) .
ولما كانت تعاليم الإسلام، جاءت من عند الله سبحانه: عقيدة وتعليما وعبادة، والقرآن الكريم الذي هو مصدر التشريع الأول والأساس: منزل من الله جل وعلا، وليس من تأليف محمد عليه الصلاة والسلام، كما يفهمه كثير من الدارسين للإسلام من بلاد الغرب والشرق، أو يقوله من تشبع بفكرهم وتعلم على
__________
(1) مثل عربي، انظر: معجم الأمثال العربية للدكتور \ عفيف عبد الرحمن 2: 905(68/108)
أيديهم. حيث يصر على هذا المفهوم، تقليدا وتأثرا.
ذلك أن عمق الدلالة من القرآن الكريم، لا يدركها إلا من درس اللغة العربية. فمثلا هذا " موريس بوكاي " الطبيب الفرنسي، كانت له آراء جدلية في القرآن الكريم، يقلب بها الفهم الصحيح للقرآن، من باب طرح الشبهات. وبعد أن اجتمع بالملك فيصل - رحمه الله - ليعالجه اعتبر الفرصة سانحة، وفرح بهذه الفرصة، التي إن فاز فيها، حقق مكسبا كبيرا للتبشير النصراني.
فقال له موريس بوكاي: أريد مناقشتك في القرآن، لأثبت لك ما فيه من أخطاء؟
فقال له الملك فيصل: هل قرأت القرآن باللغة العربية؟ قال: لا ولكن بترجمة معانيه إلى اللغة الفرنسية.
قال: هذا لا يكفي، اقرأه باللغة العربية، لتفهمه ثم ناقشني بعد ذلك.
فعكف موريس بوكاي على تعلم اللغة العربية لمدة عامين، حتى أتقنها ثم لما قرأ القرآن بها، تغير حكمه، ووجد أن كل ما فهمه من كتاب الغرب عن القرآن خطأ في خطأ. فهداه الله للإسلام بعد ذلك.(68/109)
ولذا ألف كتابه: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم، الذي ترجم من اللغة الفرنسية إلى اللغات: الإنجليزية والعربية والأندونيسية والصرب كرواتية وغيرها، ونفع الله به، لما فيه من إثباتات لتحريف اليهود وكذبهم.
كما ألفت المستشرقة الألمانية: زيغريد هونكه كتابا عن أثر الحضارة العربية في أوروبا، الذي ترجم لعدة لغات بعد أن أسلمت، وحقق نتائج طيبة، لمخاطبته عقول الناس في الغرب، بما يعرفون وبما يهتمون به، وهذا عنوانه: (DR. SIGRID HUNKE. ALLAHS SONNE UBER DEM ABENDLAND UNESER AKABISCHES ARBE) وقد كان لمثل هذين الكتابين، من الكتب الكثيرة التي ألفها أناس درسوا الإسلام، وفهموه من منابعه، تأثير في فهم كثير من أبناء الغرب، لحقيقة الإسلام، فوفق الله سبحانه، من أراد هدايته لنور اليقين، والدخول في الإسلام عن قناعة، يقول سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1)
ولقد اطلعت على كتابة لأحد الألمان اسمه: جاتلا في جريدة رتشاد، ظهر لي منها أنه لا يعلم بالدين الإسلامي، وأنه اقتبس من: كتاب البرفسور الدكتور: أرنست ورز، والدكتور: كيرن رودلف. كما أخبرني من تحدثت معه في الموضوع، وما جاء في المقال من
__________
(1) سورة القصص الآية 56(68/110)
شبهات نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام.(68/111)
وأبدي هنا بعض الملاحظات على ما ورد في تلك الكتابة، التي أرجو أن يكون فيها تصحيح للمعلومات التي ترد على بعض الكاتبين عن الإسلام في بلاد الغرب والشرق، لعل الله ينفع بها فأقول، عن تلك الشبهات، والتي تأتي عندهم كثيرا:
1 - قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وقد توفي والده التاجر بعد ولادته بقليل ". وهذا غير صحيح، فإن المعروف أن والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان فقيرا، وأن التاجر هو جده عبد المطلب. أما والده عبد الله فقد توفي قبل ولادته عليه الصلاة والسلام.(68/111)
2 - قال عنه أيضا عليه الصلاة والسلام: " اضطر محمد إلى العمل راعيا، كي يكسب قوت يومه، ثم عمل بعد ذلك دليلا للقوافل التجارية ": الصحيح أن محمدا عليه الصلاة والسلام، عمل راعيا للغنم لهدف أراده الله سبحانه: وهو توطين نفسه على الصبر والتحمل، وسياسة الناس، وقد رعاها غيره من الأنبياء. كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم، ليوضح فيما بعد الحكمة: «ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم قال أصحابه، وفي رواية قال له عمر رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، كنت أرعاها بقراريط لأهل مكة (1) » . والقراريط
__________
(1) أخرجه البخاري في الإجارة، وكذا ابن ماجه، ورواه مالك في الموطأ في الاستئذان 2: 971.(68/111)
شيء زهيد مما يدل على أن الهدف ليس كسب القوت كما قال الكاتب.
كما كان من صفات أهل مكة أنهم كانوا يحرصون على تعويد أولادهم العمل من الصغر؛ لتهيئتهم في تحمل مشاق الحياة، وتعويدهم العمل، والصبر على مكاره الحياة المقبلة عليهم. أما كونه دليلا للقوافل التجارية: فإن ما رصد من تاريخه عليه الصلاة والسلام قديما وحديثا لم يذكر ذلك، وإنما عرف في سيرته أنه سافر مرة واحدة مع قوافل التجارة للشام، كما يسافر غيره من شباب مكة ولم يكن دليلا للقوافل؛ لأن الدليل يترتب عليه أن يكون في حياته كثير الأسفار، حتى يتعرف على مسالك الطريق، ويكسب بالخبرة والمران خبرة ودراية بالدروب، وما عرف هذا في سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.(68/112)
3 - قوله: وقد أحبته المرأة التي تكبره بخمس عشرة سنة وتزوجته إلخ ما قال: يعني بذلك خديجة بنت خويلد، فهي رضي الله عنها: لم تحبه الحب المفهوم في نظر الكاتب، والسائد في القصص الغرامية، وإنما أعجبت به، وبالبركة التي حصلت على يديه، حيث ربحت تجارتها، ورأت الخير في أعماله، وفيما على تجارتها من نمو؛ لصدقه وأمانته، حيث كان يعرف في مكة بذلك فسموه: الأمين.
وخديجة رضي الله عنها، لم تكن بعيدة عن محمد، فقد كانت(68/112)
قريبة له، وتعرفه جيدا وعندها مال، ولا مدبر له من الرجال، فكان من المألوف أن تعرض عليه الزواج - لحكمة أرادها الله سبحانه - لأنها وجدت فيه من الصفات، ما تنعدم في غيره، من الكرم وحسن الأخلاق، وحميد السجايا، وعفة النفس والأمانة.
فكان زواجا سعيدا، وقد لاقى من بني هاشم كل سرور وبهجة، لأن فيه تكافؤا ومقاربة.(68/113)
4 - قال عن سفر الرسول الكريم إلى الشام: حيث تعرف على النصرانية، وكذلك على اليهودية، فأعجب أيما إعجاب بالديانتين، مما جعله يعتزل باستمرار للتحنث. . إلى آخر ما ذكر. . في هذا الموقف فيجب أن يعرف الكاتب أمورا منها:
أ - أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا، لا يقرأ ولا يكتب، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (1) الآية.
فكيف يتعلم من اليهود أو النصارى. . كما أنه لم يعرف عنه أنه جلس عندهم، أو عند غيرهم للتعلم.
ب - أن اليهود الذين كانوا في المدينة، اعتادوا طرح الشبه التي كانوا يعرفون عنها في كتبهم، ويجهلها أهل مكة، لأن العرب أهل جاهلية، فيلقونها لمشركي مكة في محاولة لتعجيز محمد صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2(68/113)
إذا لم يكن نبيا. . مثل: السؤال عن أهل الكهف، وعن قصة الخضر مع موسى، والسؤال عن ذي القرنين، وعن الروح وغير ذلك من شبه لها أخبار في كتبهم ويجهلها العرب. ويقول لهم اليهود: لا يجيبكم على هذه الشبه إلا نبي (1) ، ومع أنه أخبرهم لم يؤمنوا.
علما بأن التوراة والإنجيل لم تتعرضا لبعض تلك الشبه المطروحة. . ولو كان عليه الصلاة والسلام، قد تأثر باليهود والنصارى، لوقف حيث وقفوا. . ولكن الجواب كان في القرآن الكريم أشمل مما لديهم، وجاء فيه أخبار تبين كذب اليهود، وتوضيحات عن أمور لم تكن في كتب اليهود والنصارى.
ج - من المعلوم أن المتأثر يكون فهمه للموضوع، وإجابته عما يطرح عليه أقل من الأصل، ولكن القرآن الكريم، أصبح في بيانه أوفى وأدق، من التوراة والإنجيل، مما يبرهن على نقصهما، وكمال القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه. وأن مصدر القرآن التنزيل من الله سبحانه؛ لأنه أخبر عن أمور غيبية، لم يدركها اليهود ولا النصارى.
د - أن القرآن الكريم: جاء فيه حوار ونقاش مع اليهود والنصارى فيما يتعلق بالمسيح ابن مريم عليه السلام، وأمه مريم وعزير، وقولهم عليهم بما يغضب الله سبحانه، وكذبهم على الله وتحريف الكلم عن
__________
(1) جاء الرد على هذه الشبه في سورة الكهف.(68/114)
مواضعه. . وقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء، وإن يد الله مغلولة فلعنهم الله بذلك. قال سبحانه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (1) الآية، وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (2) وبيان قصة يوسف مع إخوته، وعناد اليهود ومخالفتهم. . وفي المباهلة مع النصارى أهل نجران، والذين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وغير هذا من المواقف الكثيرة التي هي من الغيبيات وذكرها الله سبحانه في القرآن الكريم، ولو كان محمد عليه الصلاة والسلام متأثرا باليهود - في هذه الشبهة - لما فضحهم الله في أمور ادعوها وتبين كذبها، وجاءت في القرآن الكريم لتقوم الحجة عليهم بذلك.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم آخذا عن النصارى واليهود، لما اختلف معهم في حقيقة عيسى ومريم. . وعزير وغيرهم، إذ يتأثر بهم، ولكنه يأتي بأشياء تنافي ما يعتقدونه، وهذا برهان على أنه لم يعجب بهاتين الديانتين كما ذكر الكاتب.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 181
(2) سورة المائدة الآية 64(68/115)
5 - لذا يجب أن نعرف أنه لم يتأثر بهم، وإنما الذي جاء في القرآن الكريم، هو إجابة لما يرى اليهود أن فيه تعجيزا، عن أمور حصلت(68/115)
لأمم سابقة ورد ذكرها في التوراة، وعرف بعضها لدى النصارى، فكان الجواب حجة عليهم، بأن هذا هو تفاصيل وحقائق لما سألتم عنه. وجاءت هذه الأمور في القرآن الكريم أوفى وأدق، وصححت ما بدله أصحاب الديانات والأهواء السابقة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وفي هذا مقنع على ادعاءاتهم، وإفحام عن تعجيزاتهم وشبهاتهم.(68/116)
6 - ولما كانت الديانات الحقة كلها من عند الله، فإن آخرها ينسخ أولها، ومن هنا نعرف أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الله، ليبلغه للثقلين الإنس والجن، لم يعاد اليهود والنصارى ليهوديتهم ولا لنصرانيتهم، ولم يهاجم كتبهم بل احترمها وجعل الإيمان بها جزءا من عقيدة الإسلام، ورأى معاملاتهم معاملة حسنة، وسموا أهل الكتاب وأنزلوا في الإسلام منزلة كريمة فيجوز التزوج منهم، وأكل ذبائحهم، مع إبقاء من لم يصر على محاربة المسلمين على ديانتهم، مع دفع الجزية وأمر المسلم بالإيمان بما أنزل الله عليهم من كتب، والتصديق برسلهم: موسى وعيسى وغيرهما عليهم السلام. ثم مناقشتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن في مواضع الخلاف في ديانتهم مما دخله التغيير والتبديل، حتى يتضح الحق والصواب، ويستبين الرشد من الغي، أما النسخ فهو لحكمة أرادها الله بالتخفيف، حيث كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم(68/116)
فيها التخفيف والتيسير.
وندرك حكمة ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وأنها حق من عند الله سبحانه في أمور منها:
أ - أن شريعة الإسلام تخاطب دائما العقول السليمة وتدعو إلى العلم لأن الحقيقة لا يمكن التوصل إليها إلا بذلك، يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
ب - أن تشريعات الإسلام عندما تناقش بعقل وتجرد يلمس المرء أنها عبادة لله، فإنها أوجدت لمصالح البشر البدنية والاجتماعية، وأنها صالحة لكل عصر ومصر، مهما تغيرت الأحوال ومتطلبات الناس: صحيا واجتماعيا وتعليميا، لأنها جاءت من عند الله سبحانه الذي يعلم ما تصلح به أحوال الناس إلى يوم القيامة.
ج - كما أن عالمية شريعة الإسلام، الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام أن يبلغها للناس، تجعل هذا الدين لا يفرق بين جنس وجنس ولا بيئة وبيئة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) «ولا فرق بين عربي على عجمي إلا بالتقوى (3) » .
ذلك أن تعاليم دين الإسلام تتلاءم مع أعلى المستويات التي
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) جزء من حديث رواه الإمام أحمد في مسنده.(68/117)
تصل إليها حضارة الإنسان ومداركه ومتطلباته في كل زمان ومكان، فلا تجد مدخلا من مداخل العلوم والطب والفلك والاقتصاد والتربية وعلم النفس والاجتماع وغير ذلك إلا والإسلام سابق إليها، بعكس ما حصل لأوروبا في عصر النهضة عندما وقفت الكنيسة ضد المسائل العلمية الحديثة، فاستعانوا بالقاعدة العلمية الحضارية الإسلامية، وأسسوا علومهم على ما وجدوه عن العرب المسلمين في الأندلس في مرافق شتى، كما أوضحت ذلك الدراسات العلمية في بلادهم من باب الاعتراف بالفضل لأهله.
د - أن ما يراه مفكروهم من الأمور الجامدة في مفهوم التوراة والإنجيل، كانت معالجة الإسلام لها أكثر وضوحا، وأدق في الدلائل بحيث اقتنعت العقول بوجهة نظر الإسلام، وخاصة في النواحي العقلانية التي جذبت كثيرا من أرباب القلم والفكر في بلاد الغرب، فكتب المصنفون منهم عن الإسلام بتجرد - وهم بحمد الله كثير - وخاصة في هذه الأيام التي كثر فيها الهجوم على الإسلام واتهام تعاليمه بالإرهاب، ورغبة بعضهم بتعديل بعض النصوص مما يرفضه كل مسلم.
وإن من يتمعن في كتاب الله الكريم ليجد عددا كبيرا من الآيات تخاطب العقول والقلوب؛ لأنها موطن الفهم والإدراك " أولي(68/118)
الألباب - لقوم يعقلون - لهم قلوب لا يفقهون بها " إلخ.(68/119)
7 - قال الكاتب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما بلغ الأربعين تملكه شعور بأن تخيلاته قد سيطرت عليه وملكت عليه جميع حواسه إلى درجة أنه اقتنع بأنه رسول إلى العرب فراح يجهر بنظرياته في مكة، وينذر في هذه النظريات.
هذا الكلام يتناقض مع العنوان الذي وضعه الكاتب لموضوعه عندما قال: النبي محمد يضع الأركان الخمسة للإسلام.
وكأن الكاتب يريد نفي الرسالة من الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم والقول بأنها - يعني الرسالة بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا ادعاء وقناعة شخصية، ولو كان قرأ القرآن الكريم الذي عندما نناقش ونجادل بالتي هي أحسن القساوسة وبعض المفكرين منهم، فإنهم يسلمون الأمر؛ لأنهم يرونه حقا، اللهم إلا من الملاحدة واليهود فإنهم يتكبرون ويعاندون.
نقول إن آيات كثيرة في هذا المصدر الكريم، تبين أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، مما لا يدع مجالا بأنه ناتج عن تخيلات وادعاء كما يقول هذا الكاتب، يقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 119
(2) سورة النساء الآية 79(68/119)
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} (1)
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بنص القرآن أولا، ثم ما يجدونه في كتبهم، وبشارة عيسى عليه السلام به ثابت لا مراء فيه، وأنه مؤيد من ربه بإظهار هذا الدين الذي بلغ بالدعوة إليه، ولو كان الأمر بالادعاء لكثر من يدعي هذا الأمر، ولكنها رسالة يعرفها كبراؤهم، كما يعرفون أبناءهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (2) ولكنهم قوم يكتمون الحق، وينكرون ذلك بسابق الإصرار؛ حسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله بالرسالة، وكانوا يظنون أن نبي آخر الزمان سيكون من ذرية إسرائيل.
ولما كانت الحكمة تقول: إن البقاء للأصلح: فإن محمدا صلى الله عليه وسلم بقيت رسالته، وثبتت أوامر هذه الرسالة وتشريعاتها، وحفظ الله كتابه الكريم - القرآن - الذي أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم، وسيبقى بإذن الله دين الإسلام عاليا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما أصحاب الادعاءات والقناعات الشخصية فلم ولن يكتب لهم البقاء، وما يحصل فإنما هو ابتلاء، يمتحن الله به قلوب
__________
(1) سورة الرعد الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 146(68/120)
وأعمال أهل الإيمان الصادق، كما قال سبحانه: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} (1)
وفي هذا دلالة لا تقبل المراء على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، وأن ما سماه الكاتب نظرياته، ما هي إلا تعليمات دين الإسلام، التي نزلت من الله جل وعلا، قرآنا يتلى واضحة آياته، بينة دلالاته، لم يؤلفه ولم يتقوله من نفسه، يقول سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} (2) {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (3) {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (4)
وقد تعهد الله جل وعلا بحفظ ما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام - القرآن الكريم كتاب الله الخالد - عن التعديل وعبث العابثين، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5)
ففي تاريخ الإسلام عرف أن طبعات وتعديلات، أدخلت - دسا - على القرآن الكريم عن طريق اليهود وغيرهم من أعداء دين الله، فانكشفت أعمالهم ولم يقدر لها أن تبقى وهذا من حفظ الله سبحانه لكتابه الخالد، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، عن كل عابث وحاقد.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 37
(2) سورة الحاقة الآية 44
(3) سورة الحاقة الآية 45
(4) سورة الحاقة الآية 46
(5) سورة الحجر الآية 9(68/121)
ومن هنا لا توجد في القرآن تناقضات كما يصورون في شبهاتهم، أما نسخ التوراة والأناجيل، التي بين أيديهم اليوم، فهي خاضعة للتعديل والتبديل بما تصف ألسنتهم، كما أخبر الله عنهم بأنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب، وما هو من الكتاب، وأنهم يتعمدون الكذب على الله وهم يعلمون.
ولأنهم يرون ما في كتبهم التي بين أيديهم تناقضا يتنافى مع العقل والعلم، ومتطلبات الحياة، فقد جاءت مرئياتهم عن القرآن الكريم والرسالة المحمدية على هذا القياس، وهو قياس فاسد، لتباين ما يصدر من الله، - الذي لا نقص فيه - مع ما يصدر من البشر - الذي سمته القصور -، فقد جاء القرآن الكريم شاملا ووافيا، بأمور الدين والدنيا، وما يوصل إلى الآخرة، يقول جل وعلا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) هذا فيما يتعلق بما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أما القرآن الكريم فيقول الله جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) ولو كانت المسألة قناعة من محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة - كما يدعي هذا الكاتب -: لما عاتبه ربه في أكثر من موضع، وإنما المسألة تكليف من الله، ولكن اليهود
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة النحل الآية 89(68/122)
حسدوه على هذا ودبروا له المكائد. أما قوله: بأنها نظريات: فما هي إلا شرائع وتكليفات في العبادة من الله سبحانه، وفي المعاملات لتغيير المجتمع الجاهل في بلاد العرب، ذلك أن النظرية تحتمل الصدق والكذب لأنها من البشر، أما الشرائع التي هي من الله، وكلف محمد صلى الله عليه وسلم تبليغها فهي حقائق ثابتة، ولو نوقشت بالعقل والمنطق، ووفق متطلبات الإنسان، في كل زمان ومكان لما كانت متناقضة - كما يحلو لهم أن يصموا الإسلام رغبة في النيل منه، والتنفير عنه -، بل إنها تسبق التطورات البشرية في العلوم والمخترعات، وشتى الفنون والمعارف.
وتخيلات الإنسان مهما كان من العبقرية، لا ترقى إلى إحداث تعليمات - كما يقول الكاتب - تغير بنية المجتمع بأسره في شتى مجالات الحياة ويكون لها ديمومة وانتشار بعيد الأثر؛ لأن البشر سمتهم القصور عن استيعاب جميع جوانب الحياة، ومتطلباتهم فيها، فضلا عن الأمور الغيبية، التي لا يعلمها إلا الله سبحانه.
ولكن عندما جاءت هذه الأساسيات في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت متكاملة، وفي فترة وجيزة من الزمن، في مكة قبل الهجرة، وفي المدينة بعدها، أدركنا أنها بقوة فوق قدرات البشر وعلمهم، وأنها تنزيل من عليم بأحوال الناس، وما يصلحهم في حياتهم ومعاشهم، ويسعدهم بعد مماتهم لمن استجاب وعمل،(68/123)
وهو الله سبحانه وتعالى العليم بكل شيء، والقادر على كل شيء، وكل شيء يأمر به عباده فلحكمة أرادها سبحانه.
ولما بلغ محمد عليه الصلاة والسلام الأربعين، وهو من النضج والكمال العقلي الذي هيأه الله فيه لتبليغ الرسالة المكلف بها، والدعوة لدين الله الحق ومن ثم محاورة العقول بما يقنعها، حتى تخرج من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، أرسل إلى قومه والناس كافة والجن أيضا؛ لأن رسالته شاملة للثقلين فهو - صلى الله عليه وسلم - مبلغ وأمين على ما أوحي إليه، وليس بمبتكر أو مبتدع من تلقاء نفسه أو بمدع للرسالة من ذاتيته، ولذا استجاب الناس بعد نقاش وحوار عن قناعة، ودخل من أراد الله هدايته من أمم الأرض برضا وطواعية بهذا البلاغ، الذي حمله الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (2)
ومثل ذلك القول قد طرحه اليهود والمشركون كشبهة من الشبه، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرد من القرآن الكريم، بتعليق الأمر بالله سبحانه، حيث يقول جل وعلا: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (3) وقوله سبحانه:
__________
(1) سورة النصر الآية 1
(2) سورة النصر الآية 2
(3) سورة يونس الآية 16(68/124)
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1)
فمحمد صلى الله عليه وسلم، لا يدعي أنه يأتي بنظريات من تلقاء نفسه، وينسبها إلى الله ثم يدعو إليها؛ لأن النظريات يقابلها نظريات أخرى، والبلاغة اللسانية لها مقاييس عند العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة، ومن قبل كلام هذا الكاتب، قد أتوا بأفصحهم لغة، وأقدرهم شعرا، وأمكنهم في النقد وأكثرهم حكمة، ووضعوا موازينهم في هذه الأمور، فخرجوا بنتائج:
- منها عدم استطاعتهم الإتيان بمثل ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
- وأن ما جاء به يختلف عن مقاييس الشعر والبلاغة.
- وأن ما فيه من بيان وحكمة، يفوق ما ألفوا من أساليب الحكم.
فلما عجزوا عن كل ذلك قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (2)
__________
(1) سورة يونس الآية 15
(2) سورة المدثر الآية 24(68/125)
8 - قوله: لقد كان أهل يثرب يبحثون في مكة عن شخصية تستطيع إنهاء النزاع، القائم في يثرب بين قبائلها، ومقابل ذلك قدموا له - يعني محمدا رسول الله - اعترافه بتعاليمه كدين وحيد عندهم. هذا المفهوم عنده، يجب أن يبلور: بأن اليهود لهم حلف في يثرب(68/125)
مع بعض القبائل، فكانوا يناصرونهم ضد القبيلة الثانية، فإذا حصل لليهود ضرر صاروا يتوعدونهم بنبي سيخرج صفته كذا، ونعته كيت، وأن زمانه قد قرب، وأن من اتبعه لن يغلب، حسبما يجدون في التوراة التي بين أيديهم، ويتوعدون بعض القبائل المتناحرة في يثرب بسرعة الانضمام لهذا النبي ساعة خروجه، لأن ما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة قد أخبرتهم عنه وعن أعماله وأنصاره.
كما أن عيسى عليه السلام قد بشر برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول يأتي من بعده: يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1) ولكن اليهود كما هي عادتهم العناد مع جميع أنبياء الله، والمخالفة للديانات الأخرى، كما حصل مع المسيحية من قبل الإسلام، فقد عاندوا مع موسى عليه السلام، ومع زكريا ويحيى عليهما السلام، ومع عيسى ثم محمد عليهما السلام، بعدما خرج كل منهما بالرسالة التي أمره الله بتبليغها فكذبوا وعاندوا. فقلد بعض أهل المدينة اليهود حيث نافقوا، أما الأوس والخزرج، فوجدوها فرصة للمسارعة باتباعه؛ لأن من فطرتهم وخلو أذهانهم هيأهم الله بذلك للبحث عن الأصلح
__________
(1) سورة الصف الآية 6(68/126)
الذي وصفه لهم أهل الكتاب - اليهود - فوفقهم الله إلى الالتقاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، وبعد ما عرفوا ما يدعوهم إليه، سارعوا في الاستجابة والإيمان به، وبما جاء به، وعاهدوه على نصرته إذا هو هاجر إليهم. . بعد أن خذله قومه. فسموا من ذلك الوقت بالأنصار. كما عاهدوه على ترك وثنية الجاهلية، وعبادة الأصنام، فأرسل إليهم أصحابه نجاة بدينهم وليعلموا هؤلاء المسلمين الجدد دينهم. . وبعد أن أذن الله بالهجرة إليهم، شد الرحال مما أغاظ يهود المدينة، فزاد حقدهم، وتكاثرت دسائسهم، وما تخفي صدورهم أكبر.
وهو عليه الصلاة والسلام لا يعمل شيئا تجاه هذا الدين الذي دعا إليه من تلقاء نفسه، بل هو مبلغ وأمين على التبليغ. . فإنسان عرف عند قومه منذ حداثة سنه بأمانته وصدقه، ووفائه وجميع مكارم الأخلاق، ولم يعرف في حياته أنه خان أحدا من البشر، فكيف يخون الله سبحانه في الرسالة، وكيف يكذب عليه جل وعلا؟؟! .(68/127)
9 - أما قول الكاتب: فأظهر في أقصر وقت، أنه منظم ذكي، وسياسي ذو نظرة ثاقبة، ومؤسس دين حكيم.
فقد تكون العبارة أدعى للعقلانية، وتقريب المفهوم لو قال: وظهر في أقصر مدة، أنه حكيم وذكي وسياسي ذو نظرة ثاقبة، لأن هذا الدين - الإسلام - الشامل، الذي جاء به عن أمر الله يصلح(68/127)
أحوال الدين والدنيا. . لو قال ذلك لما تعارض مع الدارسين من أبناء جلده لهذا الدين.
أما عن تأسيس الدين الحكيم، فهو لا شك بتوفيق الله، قد جاء من صبره عليه الصلاة والسلام على الدعوة، وما تحمل في فترة التبليغ من الأذى، والمصابرة في سبيلها، على فترتين الأولى في مكة:
- فقد كان ينطلق في تبيلغ ما أنزل الله عليه من شرائع، حسب حاجة النفوس إلى البناء، والتشبع بفهم الإسلام، وتمكين العقيدة مع الله سبحانه. وهي وإن كانت أطول المدتين، إلا أن بناء العقول، أثقل من بناء الدول.
- والثانية في يثرب، التي سميت المدينة - أو مدينة الرسول -، حيث اتخذها قاعدة الانطلاق، لأن الأتباع وهم المؤمنون، قد تشبعوا بالعقيدة وتمكنت من قلوبهم تعاليم الإسلام، ومع أن أعداء الدعوة يصرون على ملاحقتها في منتجعها الأخير، واليهود في المدينة، الذين تنكروا لهذه الدعوة، وأخذوا على أنفسهم عهدا قطعوه بالمعاداة والكيد لهذه الدعوة وللداعي لها وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
فكان لا بد من رد العدوان، ومقاتلة من تسلط عليهم وإظهار القوة أمام الخصوم، فأعداء محمد عليه السلام ودعوته، هم أعداء الله يريدون القضاء على محمد وأصحابه، ولا تزال عداوتهم مستمرة، أما المسلمون بقيادة محمد عليه الصلاة والسلام، وأصحابه من بعده،(68/128)
ومن تبعهم بإحسان فلا يريدون للبشرية عموما إلا الخير والفلاح، وهدايتهم لما فيه فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الأخرى. وقد وضح هذا المنهج الصحابي: ربعي بن عامر لكسرى، لما جاءه يدعوه وهو في إيوانه فقال: جئنا لنخرجكم من الظلم إلى عدالة الإسلام.(68/129)
10 - قول الكاتب: " وبعد ذلك يعني محمدا عليه الصلاة والسلام حرم اليهود بعض حقوقهم " لست أدري ما الحقوق التي حرموا منها؛ لأن ذلك لم يأت له في التاريخ الموثوق ذكر، وإنما المعروف: أن محمدا عليه الصلاة والسلام، منذ وصل المدينة مهاجرا، كان أول شيء حرص عليه أن عمل معاهدة مع اليهود، وكتابة ميثاق بينه وبينهم، فتمسك هو بنصوصه، أما هم فقد:
- تحايلوا على بعض نصوصه، وسخروا أموالهم لمساعدة خصومه عليه.
- وساعدوا أعداءه عليه في غزوة الأحزاب وأحد بالتخطيط والأموال والسلاح والرجال والتجسس.
- سلطوا شعراءهم عليه بالإيذاء، ثم إيذاء نساء المسلمين، كما فعل كعب بن الأشرف اليهودي.
- حاولوا قتله بإلقاء حجر عليه، من فوق جدار، وهو جالس يحادثهم (1) . وغير ذلك من أمور عملوها ضده صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) يراجع في هذا سيرة ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، البداية والنهاية.(68/129)
والمعروف في جميع الملل والنحل أن المواثيق تحترم بنودها وزمانها، وأنها عهد تلتزم به النفوس، فمحمد صلى الله عليه وسلم تحمل منهم النقض مرارا وتكرارا، ولم يعاجلهم العقوبة، مع أنه قادر، حتى رآهم يستمرئون المخالفة، ويستهينون بالمواثيق، ويرون تطبيقها من جانب واحد، وهو ما فيه مصلحة لهم، أما هم فيتصرفون كيفما شاءوا. . مثل ما حكى الله عنهم بقوله تعالى عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) ويريدون بالأميين من ليس يهوديا من العرب.
فكانت النذارة لهم ثم لما تمادوا في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام وخانوا العهود أجلى قبيلة منهم عن المدينة، ثم بعد زيادة العداوة والمكيدة وجد أنه لا ينفع معهم غير القوة، أما من دخل الإسلام منهم عن علم ومعرفة فقد طالهم من بني جلدتهم - اليهود - الأذى أيضا، كما حصل لعبد الله بن سلام وصفية بنت حيي رضي الله عنها، التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك تسلية لنفسها.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75(68/130)
11 - أما قوله: فأخذ يغير على قوافل مكة التجارية، يقطع طرقها، مما جلب له الغنائم الكثيرة، وكان من مبادئ محمد إطماع كل محارب معه بالغنى من الغنائم، وهو بديهي، أمر له تأثيره الكبير على معنويات القتال، وتلا ذلك معارك كثيرة في الصحراء، كانت(68/130)
لها انتصاراتها المتفاوتة، ولكن روح القتال في المدينة ظلت تزداد تزمتا وتعصبا. أ. هـ، هذه النظرة من الكاتب ومن بني جنسه: حول مفهوم الجهاد في الإسلام، يجب أن تصحح فالمغانم لم تكن هي الهدف، ولا التسلط ولا المكاسب من وراء ذلك المادية، ذلك أن الغرض المصلحة التي لا يعدلها مصلحة وهي عبادة الله وحده، ودعوة الناس إلى ذلك.
ولعل أقرب ما يميل إليه الإنسان في هذا الأمر، ما أخبر عنه أكبر قساوسة وقادة المسيحية في سوريا، بعد أن تقهقرت جيوش الروم، أمام الجيوش المجاهدة في سبيل نشر الإسلام، فقد انهزمت الروم من موقع لموقع، فاجتمعت فلولهم في أنطاكية عام 13 هـ، وقال قائد الرومان: ما بال جيوشنا تنهزم أمام جيوش المسلمين، ونحن أكثر منهم عددا وعدة، وأكثر تدريبا وأوفر سلاحا؟! . فلم يجبه أحد، ثم قال لقواده وكبار من حوله: أجيبوا. قال أكبرهم قيادة وأكبرهم سنا: هل تأذن لي بالجواب؟ . قال: نعم. قال السبب أننا نحب الحياة، وهم يحرصون على الموت، ونحن نريد المغانم، وهم يريدون الجزاء من الله، ويحرصون على الجنة التي وعدوا بها (1) ، ونحن نشرب الخمر ونطرب الليل، وهم يسهرون الليل بالعبادة، قال: القائد الروماني: صدقت. فهل يمكن أن نغلبهم؟ قال: لا إلا إذا
__________
(1) يراجع في هذا كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير حوادث عام 13 هـ.(68/131)
عملوا بما عملنا، وعصوا الله فهنالك يتخلى الله عنهم، ونغلبهم بقوتنا التي تفوقهم، ففرح القائد الروماني، وقال: ومتى ذلك؟ قال: عندما يهتمون بالدنيا، ويحرصون على مكاسبها، ويخفى وازع الدين من قلوبهم أ. هـ.
كما يجب أن يعرف الكاتب وغيره، أن محمدا عمق في قلوب المسلمين مفهوم أن الحرب تختلف عن الجهاد، فمفهوم الحرب عند الأمم الأخرى، غير مفهوم الجهاد في الإسلام من حيث الهدف والغاية:
- فهدف الجهاد، بناء مجتمعات سليمة العقيدة والعمل، وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام وصفائه في العقيدة والعمل ليكون الدين كله لله.
- وهدف الحرب: الاستئثار بالمكاسب السريعة، وإذلال الشعوب بسيطرة القوى.
- وغاية الجهاد: إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن تكون الأمور كلها مسيرة بشرع الله الذي شرع لعباده.
- وغاية الحرب: تسلط الغالب على المغلوب، وفرض إرادته وأنظمته، ليكون هو الآمر والناهي، وإبعاد شرع الله عن أرضه سبحانه.
وحتى يدرك القارئ ذلك: فإن الوقائع الجهادية، تثبت أن محمدا عليه السلام، ومن جاء بعده رافعا لراية الجهاد في سبيل الله، لم(68/132)
يسبق أن قاتلوا أحدا إلا بعد إرسال مكاتبات لبيان أن الجهاد للدعوة إلى دين الله، فمن استجاب فله ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، ومن لم يستجب عليه أن يؤدي الجزية، ويبقى على دينه وهم أهل الكتاب، ومن امتنع يعطى إنذارا لمدة ثلاثة أيام ليراجع نفسه حيث يبين له الدين الذي جاءوا لنشره، وفيه السعادة كل السعادة للبشرية جمعاء، كما يبين ذلك نص الرسائل التي كتبها محمد صلى الله عليه وسلم لقيصر عظيم الروم، وكسرى عظيم فارس، ومقوقس مصر وغيرهم؛ ولعناد اليهود فإنهم يخافون من الجهاد الذي يدحضهم ويظهر الله به الحق، نراهم هذه الأيام وفي كل وقت يحاولون التقليل من شأن الجهاد، بل يطالبون بحذف آياته من القرآن، كما هي عادتهم تبديل ما بين أيديهم بما تحلو له ألسنتهم. ودين الإسلام لا تفرقة فيه بين الناس، ولا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ لأن محمدا عليه السلام علمه ربه مقت العنصرية والطائفية والتفاخر بالأحساب والأنساب، فهو يقول: «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (1) » .
ويقول خليفته أبو بكر رضي الله عنه: " القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له " (2) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي ضمن ترجمة لأبي بكر الصديق، من خطبته رضي الله عنه عندما تولى الخلافة.(68/133)
ويقول محمد صلى الله عليه وسلم أيضا: «يا فاطمة بنت محمد، يا عباس بن عبد المطلب، يا فلان يا فلان - لأناس من قرابته - فإني لا أغني عنكم من الله شيئا (1) » .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 في تفسير سورة الشعراء للآية 214.(68/134)
12 - قوله: وتوفي محمد عام 632م تاركا دولة قوية دينيا واقتصاديا وسياسيا، ما عتم الأمر بعدها إلا أن تفككت أ. هـ.
والذي يجب أن يدركه الكاتب وغيره ممن لم يتشبع بمعلومات صحيحة عن تاريخ الإسلام، وانتشاره في الأرض: أن دولة الإسلام كبرت واتسعت، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى شملت أغلب المعمور من الأرض، ذلك الوقت: من الصين شرقا حتى الأندلس والمحيط الأطلسي غربا، وملخص ذلك بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
- دولة الخلفاء الراشدين 30 عاما. وقاعدتهم في المدينة.
- دولة بني أمية 92 عاما. وقاعدتهم في دمشق.
- دولة بني العباس 524 عاما. وقاعدتهم بغداد.
- الدولة الأموية في الأندلس 720 عاما. وقاعدتهم قرطبة.
- الدولة العثمانية بعد العباسية وقاعدتهم في تركيا، لم تنته إلا بعد الحرب العالمية الأولى عام 1335 هـ.
فكيف بهذه المدد الطويلة أن يقال: ما عتم الأمر بعدها إلا أن(68/134)
تفككت.
أما أسباب التفكك فيعود - والله أعلم - إلى تقليدهم الأمم الأخرى، والابتعاد عن دينهم، وكونه مصدرا لإصلاح أمورهم، وتنظيم الأمور في الحياة لهم ولغيرهم، والابتعاد عن وصية محمد عليه الصلاة والسلام، عندما طلب منه ذلك في آخر حياته، فقال: «تركت فيكم ما لن تضلوا إذا تمسكتم به: كتاب الله الكريم (1) » .
يقول المؤرخ الإنجليزي تونبي: وهو مؤرخ أوروبا في العصر الحاضر: لقد درست حضارات الأمم منذ بدء الخليقة، فما رأيت أمة طال ملكها، وانصهرت فيه الأمم المغلوبة، وأحبوا عقيدتهم، مثل الإسلام، وكل حضارة قامت وانتهت؛ لأن دعائمها التي قامت عليها وقتية، إلا حضارة الإسلام، فإنها قامت على عقيدة دينية، انجذبت إليها الأمم التي شملتها حضارة الإسلام، وكل الحضارات: من صينية وفينيقية، وحمورابية، وآشورية، ورومانية، إلى آخر الحضارات التي ذكر، قد انتهت ولن تعود، إلا حضارة الإسلام فإنها سوف تعود مرة أخرى قوية، وإن البشرية اليوم، مدينة لحضارة الإسلام. أ. هـ. كلامه.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3788) .(68/135)
13 - يقول عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: إلا أنه لا ينكر وجود عناصر قوية فيه، من النصرانية واليهودية. . فما يجب أن يؤمن به الكاتب: أن اليهودية في أصلها: ديانة جاء بها موسى عليه السلام لإنقاذ قومه من الضلال، بعد أن أنقذهم الله من فرعون مصر، الذي(68/135)
كان يسومهم سوء العذاب. وأن النصرانية جاء بها عيسى عليه السلام من عند ربه؛ ليجدد بها الدين الذي جاء به موسى، وليحلل لبني إسرائيل ما حرم عليهم، فكانت الثانية ناسخة للأولى في بعض الأشياء. ثم جاء محمد عليه الصلاة والسلام، بالإسلام ليجدد ما اندرس من الدين، بعد أن كثر الفساد والضلال في الأرض، فكانت ناسخة لما قبلها. أما في العقيدة مع الله فإن جميع الديانات تدعو إلى الإسلام. وما يأتي في الأخيرة مما يتفق مع ما قبلها، فإنه لم ينسخ، فيبقى حكمه، ولنضرب لذلك هذا النموذج: شخص ألف كتابا، فظهر له فيه حاجة للتصحيح والزيادة والتعديل والتبديل، فإن المؤلف يخرج طبعة ثانية، ثم يظهر له تغيير النظريات حسب مجريات الأمور فيخرج الطبعة الثالثة. . . وهكذا. وتكون الطبعات السابقة قد دخلها بعض التعديل ممن تولاها هذا المثل حسب المعهود لدى أصحاب هاتين الديانتين الذين سماهم الله في القرآن الكريم بأهل الكتاب، وهي سمات البشر في نظراتهم القاصرة. . لكن تشريع الله سبحانه وتعالى لعباده، ليس شبيها بما يصدر عن البشر، فتعالى وتقدس عن الشبيه والنظير. . حيث يقول سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) ولكن من باب مخاطبة العقول بما تعرف، حتى لا يكذب الله ورسوله (2) ، ولتقريب
__________
(1) سورة النحل الآية 74
(2) كلمة لعلي بن أبي طالب.(68/136)
الحق لها، لعلها ترعوي إلى أمر الله، وتستجيب إلى دينه الكامل الذي لا يقبل الله من البشر دينا سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)
وما سوف يرونه في معهودهم تغييرا أو تبديلا، فهو قصور في الفهم منهم، وإنما هو في الشريعة نسخ حكم بآخر، وتخفيف من الله سبحانه عن الأمة المستجيبة، كما قال سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2)
فالله عليم بخلقه وما يتلاءم مع قدراتهم ولذا نهى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، عن كثرة السؤال والاختلاف، كما حصل من بني إسرائيل في اختلافهم على أنبيائهم، وتعنتهم في الأمور، فشدد الله عليهم بذلك.
وقد جاء في كلام محمد صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد سكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» . وهذا من رحمته سبحانه بأمة محمد أمة الإسلام، وليس نسيانا فتعالى الله عن ذلك. . وكما ورد في حديث فرضية الصلاة، حيث يقول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام: «ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عن أمتك فإنها لا تطيق ذلك، فقد جربت قبلك بني إسرائيل (3) » . .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3207) ، صحيح مسلم الإيمان (162) ، سنن النسائي الصلاة (450) ، مسند أحمد بن حنبل (3/149) .(68/137)
فخففت من خمسين صلاة إلى خمس في اليوم والليلة، ولمن حافظ عليها بعقيدة وإيمان أجر الخمسين، فضلا من الله وتيسيرا (1) .
فالإسلام الذي مصدره القرآن الكريم، وهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قد خصه الله بميزة أشمل مما في الديانات السابقة، من حيث شموليته لشئون الناس: حياتهم وعلمهم وفكرهم، فكان كاملا، ويصلح لكل زمان ومكان، ولا يوجد بين تعليماته وبين الواقع تباين أو تنافر بعكس ما يوجد في الديانات الأخرى المعدلة المبدلة، أو مما هي من وضع البشر، حيث يبرز فيها القصور.
والكاتب: لو طلب جوابا لكل مسألة في الإسلام لوجدها لا تتعارض مع العلم والفكر والمنطق، علاوة على فتحها الأفق أمام طالب المعرفة، ولكن لو أن ذلك قسا في الكنيسة أو حبرا في المعبد اليهودي، لما أعطاه الجواب، بل يقول له: هكذا قال الرب، ويمنعه من طلب المزيد؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ ولهذا جاءت عندهم كثير من الشبه، التي عجزوا عن جوابها فجاءوا ليقيسوا الإسلام على منوالها. والإسلام بنظرته الواسعة، وعالميته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يعطي الجواب المريح، المعلل لكل سبب؛ مما يقنع العقول، ويريح البصائر.
__________
(1) يراجع حديث الإسراء والمعراج عند البخاري، وفي تفسير ابن كثير.(68/138)
14 - يقول الكاتب: اعترف محمد بكل من: إبراهيم وموسى،(68/138)
ويوحنا المعمدان، وكذلك بالمسيح كأنبياء. . إلخ.
ونقول له إن دين الإسلام الذي دعا إليه محمد عليه الصلاة والسلام، لا يكتمل عند الإنسان ما لم يؤمن: بالله ربا لا شريك له في العبادة والاعتقاد، وبالملائكة، وبالكتب التي أنزلها الله على رسله، ويؤمن بالرسل الذين أرسلهم سبحانه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. فالإيمان بالله: التصديق بأنه سبحانه وحده المستحق للعبادة، فتصرف له جميع أنواع العبادات، وهو الذي تتعلق به القلوب.
والإيمان بالملائكة، التصديق بوجودهم دون العداوة لأحد منهم، وأن كلا منهم موكل بعمل أراده الله سبحانه، وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، والإيمان بالرسل: التصديق بهم كلهم، دون تمييز من عهد آدم، الذي هو أول الأنبياء إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا الذي هو آخرهم، وأنهم جميعا مكلفون بتبليغ شرع الله وهو الإسلام، وأنهم صدقوا في أداء الأمانة.
أما يوحنا المعمدان، فلم يأت له ذكر في القرآن الكريم، فإن كان هو يحيا بن زكريا، فهو واحد منهم، وكلهم أنبياء كرام، وقد ذكر الله قصته في القرآن الكريم. . وإن كان غيره فنقف من حيث أمرنا الله بقوله الكريم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 135
(2) سورة البقرة الآية 136(68/139)
وقد وضح الله حقيقة الإيمان وكماله في هذا الخطاب الكريم، بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1)
والإيمان بالكتب: هي ما أنزل على كل رسول ليبلغه أمته، والمسلمون يؤمنون بها من غير تفريق، وقد جاء ذكر بعضها في القرآن مثل: التوراة والإنجيل، ويجب عليكم أن تؤمنوا بالقرآن وهو آخرها، وتصدقوا بما فيه.
__________
(1) سورة النساء الآية 136(68/140)
15 - يقول: عندما يسمع السور التي يغنيها المؤذن من مآذن المساجد، لعله يعني بذلك الأذان الذي ينبه الناس للصلاة في أوقاتها. . فالأذان ليس سورا. . وإنما هو الإعلام بموعد كل صلاة من الصلوات الخمس، ودخول وقتها.
والصلاة قد فرضت من قبل على أهل الكتاب: اليهود والنصارى، ولكنهم عدلوا فيها، ولم تثبت بالصيغة التي أرادها الله إلا في الإسلام، وبقية الأمم غيرت وبدلت، وكان النصارى وأهل الكتاب يدقون الأجراس والنواقيس من كنائسهم إعلاما بالوقت،(68/140)
فجاء الإسلام بصيغة الأذان، الذي يرتبط بالله سبحانه عقيدة وذكرا، ومميزا عن الأمم الأخرى، وهذا نصه يلقى من فوق مكان بارز حتى يسمع الصوت، فيجيب كل فرد في أداء الصلاة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
فهذا النداء ليس سورة، وإنما السور تطلق على الأجزاء والسور من القرآن، وإنما هذا نداء للصلاة، ودعوة لأداء هذه العبادة: حي على الصلاة: أي أسرعوا إليها وأجيبوا، حي على الفلاح: أي حافظوا على ما فيه فلاحكم ونجاتكم؛ لأن المسارعة طاعة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. والمؤذن لا يغنيها، وإنما يرفع بها صوته لإسماع الناس، حتى يعرفوا دخول الوقت، ويستجيبوا لحضور هذه العبادة في وقتها. وهذه العبادة المفروضة في الإسلام، قد فرضت على اليهود والنصارى من قبل، كما كتب الصيام عليهم أيضا قبلنا معاشر المسلمين، ولكنهم بدلوا في دينهم وغير لهم المتتابعون على دياناتهم من قادة وغيرهم، كما أخبر صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما أسلم وتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان نصرانيا هذه الآية:(68/141)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1) {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) قال عدي: لسنا نعبدهم؟ قال رسول الله: أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما حرم الله فتحرمونه قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم. فاليهود والنصارى عطلوا كثيرا من شرائع الله التي فرضت عليهم، ومنها الصلاة واكتفوا بتعظيم يومي السبت لليهود، والأحد للنصارى. . واقتصروا على زيارة المعابد في هذين اليومين، ولا يرتادها إلا العجائز والأطفال. . ونبذوا ما شرع الله عليهم وراء ظهورهم. أما المسلمون فقد حرصوا على تطبيق تأكيدات محمد عليه الصلاة والسلام، وفق ما شرع الله بالمحافظة على العقيدة والعبادات. . وفي مقدمتها الصلاة، التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من تركها كفر أو أشرك. . واعتبرت الصلاة ركنا من أركان الإسلام، لا يقوم الإسلام إلا بها، كما أن البيت لا يقوم إلا على الأركان وهي العمد، فإذا سقط منها واحد أو أكثر سقط البيت.
__________
(1) سورة التوبة الآية 30
(2) سورة التوبة الآية 31(68/142)
16 - أما قوله: ويجب أن يسبق الصلاة غسل ذو طقوس، للوجه واليدين والأقدام، أما في الصحراء فيمكن أن يتم هذا الغسل بالتراب. . ولتصحيح مفهوم الكاتب عن الوضوء، الذي هو الطهارة: نوضح له(68/142)
أن الإسلام علاوة على كونه عبادة لله سبحانه، فإنه يحرص على حماية النفس البشرية، والمجتمع من الآفات، كل ذلك لمصلحة الإنسان، واستقامة سلامته. . فقد اعتبر الطب الحديث: أن تعاليم الإسلام في الصلاة والنظافة والطهارة، قد كفلت للنفس البشرية أهم المقومات الصحية. يقول سبحانه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (1) {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (2) ولأهمية الصلاة والمحافظة عليها. فإن المسلم عند أداء الصلاة مأمور بالطهارة الحسية، والطهارة الوجدانية. . فأما الحسية: ففي الثوب والبدن والبقعة التي يصلي فيها. . بحيث يراعي هذا في هذه الثلاثة؛ لأن مبدأ الإسلام الحث على ذلك، حتى تزكو النفس، وتخلص في أداء العبادة. وأما الوجدانية فبإخلاص القلب والمعتقد لله، فلا يشرك مع الله غيره في أي نوع من أنواع العبادات، لأن الله طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا نقيا.
ولما كانت الصلاة خمس مرات يوميا، فقد أمر الفرد في المجتمع الإسلامي، بأن يتهيأ لذلك بالطهارة المحسوسة الظاهرة، وبالطهارة الباطنة التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، وصاحب العمل المحاسب عليه. وهذه ليست اجتهادية من الإنسان، ولكنها أوامر شرعية لا تقبل الجدل. فالظاهرة بالوضوء وتنظيف الأعضاء التي حددها أمر الله سبحانه بقوله الكريم:
__________
(1) سورة المدثر الآية 3
(2) سورة المدثر الآية 4(68/143)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)
أما الباطنة: فهي طهارة القلب من الحسد والحقد، والعمل من الرياء، وعدم إضمار ما يخل بالعمل، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2) فلا بد أن يكون المصلي طاهرا ونقيا ظاهرا وباطنا، ونظيفا من كل ما يخل بالصلاة، والوضوء بالماء وإذا لم يجده أو يستطعه في بدنه، فقد خفف الله سبحانه عن المسافر والمريض غير القادر ومن به حروق أو غير ذلك مما يضره الماء، فإن الله خفف عن المسلمين بالتيمم: وهو ضرب التراب باليدين، ومسح الوجه بذلك. . وهذا مما خفف الله به عن أمة محمد، ولما كانت الخصال الخمس التي أعطيها محمد ولم تعط لأحد من الأنبياء قبله، من التخفيف تعتبر فضلا من الله، فإن منها قوله: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل (3) » . فكانت تعاليم دين الإسلام سهلة وميسرة، لا مشقة فيها يقول
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة العنكبوت الآية 45
(3) من حديث رواه الترمذي برقم 217، وأبو داود برقم 492.(68/144)
سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) أي طاقتها وقدرتها، ويقول عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)
ومن باب الفائدة نوضح لهذا الكاتب وغيره: أن طبيبا فرنسيا قد فتح له مصحا منذ عدة سنوات، في إحدى ضواحي باريس حسبما ذكرت إذاعة لندن التي حاورته، ومهمته في هذا المصح: علاج الروماتيزم في المفاصل بدون عقاقير لدى كبار السن، وكان يعالجهم بالصلاة المفروضة في الإسلام، ويلزمهم بالوضوء لكل صلاة، على طريقة المسلمين، ويقول إن الوضوء للمفاصل بمثابة الزيوت للمعدات والمركبات حيث تلينها وتعينها على العمل، وإن أداء الصلاة في أوقاتها الخمسة، تمرين للمفاصل خمس مرات، وأهمها صلاة الفجر، حيث تتم بعد النوم والراحة، فكان مرضاه يصلون من أجل الشفاء لا العبادة. ويضيف هذا الفرنسي: بأنه لم يقدم على ذلك إلا بعدما أجرى دراسة عميقة استمرت ست سنوات، بين المسلمين في مصر وشمال أفريقيا، وعاش بين المسلمين وحادثهم فأدرك قلة روماتيزم المفاصل عند المحافظين على الصلاة منهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة البقرة الآية 185(68/145)
17 - وقال عن الزكاة: وأوجب محمد على كل مسلم أن يتصدق(68/145)
يوميا على متسول. . وهذا الحكم الذي قاله ليس موجودا في الإسلام، ولم يأمر به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء في الزكاة أنها نسبة قليلة، بحسب نوعية المال، سواء كان المال حيوانات أم نقودا من فضة أو ذهب، أو ما يقوم مقامها، أو عروض تجارة أو زروعا، ولا زكاة على ما توفرت فيه شروط الزكاة وبلغ نصابا إلا بعد أن يحول عليه الحول، أي بمضي سنة والمال عنده. وتدفع الزكاة لأحد أصحابها الثمانية، الذين حددهم الله سبحانه في القرآن الكريم، وليست للمتسول، إلا إذا كانت تنطبق عليه صفة من الثمانية. . وهم: الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها، والغارمون، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل. .
ولأن الفقراء والمساكين معروفون، فإن المؤلفة قلوبهم هم من دخلوا الإسلام مجددا، أو من يرجى دخوله فيه، فيعطى ما يرغبه في هذا الدين، ليشعر بتكافل المسلمين مع بعضهم ومحبة بعضهم لبعض، فيعطى ما يمكن فيه هذا الدين، حتى يستقر في قلبه، أو ممن يرجى إسلام قومه معه. والعاملون عليها: هم جباتها عوضا عن جهدهم، إذا لم تؤمن لهم الدولة أو الجهة المسئولة عن جمع الزكاة ما يكفيهم.
أما الغارمون: فهم من يحرصون على إصلاح ذات البين، بين الناس، أو تحمل الديون عن المعسرين، أو فك الشحناء بجهدهم ومالهم، فيعطى من قام بذلك من الزكاة ما يعينه على هذا العمل الذي فيه(68/146)
صلاح وحماية للمجتمع، وتأليف للقلوب وأداء للحقوق حتى لو كان غنيا. والرقاب: تعني عتق من وقع في الرق، ليكون حرا كغيره من البشر، سواء كاتب مالكه لكي يتحرر أو أعتقه ولم يطلب ذلك، ذلك أن الإسلام يمقت الرق، ويدعو لفك الرقاب؛ ولذا كان العتق زيادة على حرص المملوك بالتخلص من الرق، جاءت الكفارات لكثير من الأخطاء التي يقع فيها المسلم: عتق الرقبة. وفي سبيل الله: هم المجاهدون لإعلاء كلمة الله. وفي ابن سبيل الله: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة بأي سبب فيعطى من الزكاة ولو كان غنيا ما يوصله إلى بلده.
والزكاة في الإسلام لها هدف كبير، بامتصاص نقمة الفقراء على الأغنياء، وإشعارهم بأن هناك من يهتم بهم، ويتفقد أحوالهم، ويعينهم على تخطي ما يعانون من مشكلات، إذ ثبت بما لا يقطع الشك أن المجتمع الذي تدفع فيه الزكاة تخف فيه الجريمة {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) ذلك أن دراسة أثر الزكاة في الإسلام، تشعر المتابع والمهتم: بأن هذا الدين وسط بين الرأسمالية والشيوعية. وفي هذا توازن للمجتمع، ومتابعة لأحوال المحتاجين، ومكافحة للجريمة، وما من مجتمع إلا يحرص على ذلك؛ ولهذا قال بعض المستشرقين من الإنجليز، بعد أن درس الإسلام
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25(68/147)
جيدا: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وأخذوها منهج عمل وسلوك لصلحت المجتمعات، ولأغلقت من بلادهم المحاكم والسجون ودور الشرطة، ولوجدنا أوروبا تنساق إلى الإسلام، لأنهم يجدون فيه، ما يحل مشكلاتهم، ويلبي متطلباتهم.(68/148)
18 - أما قوله عن الحج: أما إذا لم يتوفر لديه المال الكافي، فعليه أن يقوم بزيارة أحد الأمكنة المقدسة في بلده، سبع مرات: في مراكش يحجون إلى مولاي إدريس إلخ ما ذكر.
ما ذكره هذا الكاتب ليس له أساس في الإسلام، ولم يقل به أي مسلم، ولم يقل به محمد عليه الصلاة والسلام، منذ بعثه الله إلى أن توفاه إليه، وإنما هذا شيء باطل، أدخل كذبا على الإسلام من أعدائه.
والصحيح أن من لم يستطع الحج، سواء من الفقر أو العجز أو الخوف؛ لأن الطريق غير مأمون، أو في حالات الحرب، أو لأي عذر من الأعذار المانعة، فإنه يسقط، ولا شيء على الإنسان ما دام العذر قائما. . والله يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) والأضرحة والقبور ليست أماكن مقدسة، يستعاض بها عن الحج؛ لأنها مما ينهى عنها الإسلام بشدة لأنها تعلق بغير الله، ونبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، شدد في هذا الأمر، فقال: «لعن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97(68/148)
الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا قبري عيدا، فإني أنهاكم عن ذلك (1) » . أما من يتعلق بالقبور والأضرحة في ديار المسلمين فهو مقلد لأهل الكتاب الذين مقت عملهم محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) حديث شريف، جاء بعدة روايات في جامع الأصول لابن الأثير، ص472 - 474 الجزء 5.(68/149)
19 - قوله: أما وضع المرأة في الإسلام، فإنه أقل تقييما منه عندنا. . وهذا غير صحيح، فإن المرأة لم تحظ في حياتها بحقوق، بمثل ما حظيت به في الإسلام: فلقد كان الرومان يبيعونها مع أثاث البيت، ويرثونها كما يورث ذلك المتاع، كما قال ديورانت في موسوعته، قصة الحضارة، والعرب في الجاهلية يدفنونها حية، ويسمون ذلك وأدا، كما قال الله عنهم: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1) {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2)
وقد أنصف ديورانت في كتابه قصة الحضارة: عندما بين المكانة الرفيعة التي أحلها الإسلام للمرأة، وقبل فترة قامت صحيفة أمريكية بمهاجمة الأناجيل لماذا لم تخاطب المرأة في الوقت الذي انصب الخطاب على الرجل وحده، بينما الإسلام في القرآن خاطب الرجل والمرأة على السواء، وأعطى للمرأة حقوقا كثيرة، وبشهادة نساء من الغرب في العصر الحاضر فإن الإسلام أعطى المرأة من التقدير والحقوق ما لم تعطه حضارة العصر، التي جعلت المرأة دمية يتلهى
__________
(1) سورة التكوير الآية 8
(2) سورة التكوير الآية 9(68/149)
بها الرجل، ويسخرها لمآربه، حيث أعطاها مكانة تتوق إليها المرأة الغربية.
ولقد شهدت امرأة ألمانية تزوجها أحد الأردنيين، الذين يعملون أطباء في ألمانيا، منذ فترة، حيث حرصت هذه الزوجة أن تذهب مع زوجها إلى بلاده لزيارة والدته التي جاءه خبر مرضها، وبعد أن عاينت اهتمام الأبناء والبنات والأحفاد والأقارب بالأم، سألت زوجها: هل أمك ملكة؟ أو من أسرة ذات زعامة؟ فقال: أبدا إنها امرأة عادية كسائر النساء في المجتمع. . قالت: ولماذا هذه الحفاوة؟ قال: لأن ديننا يأمرنا ببر الأمهات، ويؤكد عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «الجنة تحت أقدام الأمهات» ، والقرآن الكريم يأمرنا بذلك، حيث قرن طاعة الوالدين بطاعته فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (1) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2)
فقالت: هنيئا لكم هذا الدين، فلو كانت عندنا، لكانت في بيت العجزة، ولتخلف عنها أولادها حتى عن الزيارة، ولشعرت بالضجر النفسي أكثر، لأنها تشعر بالحرمان وخاصة في مثل هذا
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الإسراء الآية 24(68/150)
السن؛ مما دفع هذه المرأة بعد عودتها لألمانيا أن تحرص على الكتب الإسلامية، وزيارة المركز الإسلامي، حيث هداها الله للإسلام عن قناعة وحب في دين هذه تعاليمه.
فالإسلام صان المرأة، وحفظ كرامتها وأعلى قدرها: بنتا بالرعاية والاهتمام والتوجيه، وزوجة بالتقدير والحقوق، والمعاشرة الحسنة، والإنفاق والمودة والرحمة، وأما بالبر والإحسان، ورعاية المكانة وصلة أقربائها، وصديقاتها من أجلها. كما أن المرأة لها أن تتملك المال، وترث ما قدر لها حسب مكانة القرابة، ولها نصيبها من المال كاملا، لا ينقصها منه أحد وتتصرف فيه.(68/151)
20 - قوله: والقرآن هو كتاب الإسلام المقدس، وهو في أهميته مثل كتابنا المقدس ويعتبر محتواه وحيا من الله صاغه محمد. . إلا أنه لم يكتبه؛ لأنه شخصيا ربما لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وقد رتبت سوره الأربع عشرة والمائة، دونما أي ترابط وراء بعضها البعض ووضعت هذه السور أمام المسلمين كعمل تم إنجازه بعد وفاة محمد.
هذه العبارة تحتاج إلى تغيير في الصياغة والمعنى، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يصغه، وإنما هو كلام الله بلغه عن ربه بأمانة. وقد يكون من المناسب أن تكون هكذا: والقرآن الكريم، هو كتاب الإسلام المقدس، وهو ذو أهمية كبيرة في عقيدة المسلمين وعباداتهم، ويعتبر محتواه وحيا من الله، بلغه محمد إلا أنه لم يكتبه، لأنه أمي، لم(68/151)
يكن يعرف القراءة والكتابة، فكان يمليه على كتاب الوحي، أما ترتيب سوره الأربع عشرة والمائة، فقد تم باجتهاد من أصحابه بعد وفاته، حيث وضعت مرتبة حسب كبرها. . ويعرف هذا الترتيب، والخط الذي رسم به، باسم الرسم العثماني. هذا من جانب الصياغة.
وعن جمع القرآن وترتيبه: فإن أبا بكر رضي الله عنه، خليفة رسول الله قد حرص بالتشاور مع كبار الصحابة على حفظ القرآن وجمعه بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يدب الخلاف بين قراء وحفظة القرآن من المسلمين، والخليفة الراشد الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه، قد جمع القرآن في عهده، وأرسل منه نسخا للأمصار، للتقيد بها، ووحد المسلمين على رسم واحد.
وهذا جزء من حرصهم على المحافظة على هذا الكتاب، الذي تعهد الله بحفظه، وصيانته عن التبديل والأهواء، كما حصل مع أهل الكتاب الذين عدلوا وبدلوا فيما بين أيديهم وقالوا على الله الكذب، يقول سبحانه عنهم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)
فكان من حرص الخلفاء الراشدين، الذين قال عنهم محمد صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 78(68/152)
بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (1) » ، الاهتمام بالقرآن وجمعه بعد أن قتل أو مات كثير من القراء؛ لأنه المصدر الأول لشرع الله، في العبادة والمعاملات والعقيدة، ولذا لن تختلف الأحكام في حياة المسلمين، منذ عهد الرسول الكريم: محمد عليه الصلاة والسلام، حتى اليوم ما داموا متمسكين بهذا الكتاب العزيز، الذي قال عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2)
وأختتم حديثي، مع هذا الكاتب وغيره بطلب الهداية للطريق المستقيم، والحرص على أخذ المعارف عن الإسلام والقرآن، من مصادرها الموثوقة، وأن يقرأ من كتاب الغرب المنصفين، الذين درسوا وكتبوا عن الإسلام، بتجرد من التقليد والتعصب، رغبة في العلم وإزالة الشبهة، ومعرفة بعض أسرار التشريع في الإسلام، مثل الكاتب الألماني كيتاني في كتابه: سنن الإسلام وهذا اسمه:
GAETNI CANNALI DELL ISLAM 11. P 429 T. W AMOLD PREACHING OF ISLAM LONDON.
حيث يقول: ولقد كان هؤلاء الصحابة الكرام، ممثلين صادقين لتراث محمد رسول الله الخلقي، ودعاة الإسلام في المستقبل، وحملة تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم، التي بلغها إلى أهل التقوى والورع، لقد رفع بهم اتصالهم المستمر برسول الله، وحبهم الخالص
__________
(1) جزء من خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأمته من بعده.
(2) سورة الحجر الآية 9(68/153)
له، إلى عالم من الفكر والعواطف، لم يشهد محيط أسمى منه وأرقى مدنية واجتماعا.
والواقع أن هؤلاء الصحابة، قد حدثت فيهم تحولات، ذات قيمة كبيرة، من كل زاوية، وأثبتوا فيما بعد في أصعب مناسبات الحروب، أن مبادئ محمد، إنما بذرت في أخصب أرض، فأنبتت نباتا حسنا. وذلك عن طريق رجال ذوي كفاءات عالية جدا، كانوا حفظة الصحيفة المقدسة وأمناءها، وكانوا محافظين على كل ما تلقوه من رسول الله من كلام وأوامر، لقد كان هؤلاء قادة الإسلام، السابقين الكرام، الذين أنجبوا فقهاء المجتمع الإسلامي، وعلماءه ومحدثيه الأولين. ا. هـ.
ومثل هذا القول قد جاء في كثير من الدراسات الإسلامية الخالية من الأهواء أو الجهل، أو التقليد، مما ينبغي مراعاة مثله، حتى لا يكتب كاتب عن تقليد - إذا أحسنا الظن - فيقع في مزالق تثير حفيظة المسلمين على دينهم، ويصل الأمر إلى المحذور الذي نهى الله عنه بقوله عز وجل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1)
ونسأل الله للجميع الهداية ومعرفة الحق والذي أمر به الله سبحانه، وأن يعلي كلمته، وينصر دينه فهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108(68/154)
قصة إبراهيم عليه السلام الواردة في
سورة الأنعام وما فيها من مباحث النبوة
للدكتورة سارة بنت فراج بن علي العقلاء
فكرة البحث ونتائجه: شملت الآيات الواردة في سورة الأنعام والتي تذكر قصة إبراهيم - عليه السلام - مباحث كثيرة متعلقة بموضوع النبوات ولم تفرد ببحث مستقل، لذا عزمت الباحثة على بحث هذا الموضوع وكان من أهم النتائج:
أن النبوة من أعظم ما من الله تعالى به على خلقه وأن قول المعتزلة والفلاسفة في إيجابها غير صحيح.
أن إبراهيم - عليه السلام - من أعظم الأنبياء وممن أجمعت الأمم على قبوله، لذا تكررت قصته كثيرا في القرآن الكريم، وكان قومه ممن يعظم الكواكب، لذا ناظرهم فيها، وكان قوله: (هذا ربي) على سبيل المناظرة، وهذا هو الراجح من أقوال العلماء، ولما أبانه - عليه السلام - من التوحيد آتاه الله أجره في الدنيا وفي الآخرة،(68/155)
وكان أعظم ما آتاه في الدنيا أن كان الأنبياء من ذريته، ذكر منهم في هذه السورة: خمسة عشر نبيا من ذريته إضافة لذكر نوح ولوط عليهما السلام، وهؤلاء الأنبياء - المذكورين - قيل فيهم إنهم أولو العزم من الرسل، إلا أن القول المشهور أن أولي العزم هم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وأما عدد الأنبياء فلم يثبت في حديث صحيح، لذا كان من الأسلم التوقف في ذلك والإيمان إجمالا أن الله قد بعث في كل أمة رسولا، يراد بالمسلك النوعي: إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق إثبات نبوة الأنبياء قبله ثم يكون إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم ظاهرا؛ لأن ما جاء به أكمل، وجاءت الإشارة إلى عموم دعوته صلى الله عليه وسلم في الآيات، وكان هذا مما اختص به صلى الله عليه وسلم وخالف في هذا أهل الكتاب من اليهود والنصارى.(68/156)
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فإن فضل إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام - جاء في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة، ذلك أن هذا النبي الكريم ممن أجمعت اليهود والنصارى والمسلمون بل ومشركو العرب على الانتساب إليه، وذكر الله تعالى في كتابه أن أولى الناس به هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (1)
وعلى تعدد ذكر قصته - عليه السلام - إلا أن تفصيل مناظرته لقومه ورد في سورة الأنعام، وتعداد للأنبياء من ذريته، ثم إشارة لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك رغبت الباحثة في البحث فيها إضافة إلى أنها لم تفرد ببحث مستقل - حسب علم الباحثة - وكان عنوان هذا البحث: (قصة إبراهيم - عليه السلام - الواردة في سورة الأنعام وما فيها من مباحث النبوة) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 68(68/157)
أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
- ورود تفصيل مناظرة إبراهيم - عليه السلام - لقومه في هذه الآيات، واختلاف المفسرين فيها.
- ذكر الله تعالى فيها أسماء ثمانية عشر نبيا على نسق واحد.
- إثبات النبوة عن طريق المسلك النوعي في آياتها.(68/157)
- كون الموضوع متعلقا بالنبوات التي لا غنى للبشرية عنها - قديما وحديثا -.
الهدف من البحث:
ذكر قصة إبراهيم - عليه السلام - الواردة في سورة الأنعام وبيان العبر المستفادة منها لا سيما ما يتعلق منها بالنبوات.
منهج البحث:
سيكون المنهج المتبع في هذا البحث هو المنهج التحليلي - إن شاء الله -.
خطوات البحث:
يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة، تشمل المقدمة أهمية الموضوع وأسباب اختياره ومنهج الباحثة فيه، وأما التمهيد ففي حكم إرسال الرسل.
والمبحث الأول بعنوان: مناظرة إبراهيم -عليه السلام- لقومه.
والمبحث الثاني: أسماء الأنبياء الوارد ذكرهم وأولي العزم منهم.
والمبحث الثالث: إثبات النبوة بالمسلك النوعي كما ورد في الآيات.
والمبحث الرابع: عموم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والرد على المخالفين.
ثم الخاتمة وفيها أهم النتائج، ثم فهرس المصادر والمراجع.
هذا وإذ أتقدم بهذا البحث فإني أعتذر عما به من قصور ونقص وأشكر سلفا كل من يسهم في تصحيحه فجزاه الله عني خير الجزاء.(68/158)
تمهيد
حكم إرسال الرسل:
الخلاف في حكم إرسال الرسل بين المعتزلة والفلاسفة من جهة وبين أهل السنة والأشاعرة من جهة أخرى.
فيذهب المعتزلة إلى وجوب بعثة الرسل بناء على قاعدة وجوب مراعاة الأصلح فمن أقوالهم: (إنه تعالى إذا علم صلاحنا في بعثة شخص واحد بعينه وجب أن يبعثه بعينه ولا يعدل إلى غيره،(68/159)
وإذا علم أن صلاحنا في بعثة شخصين وجب بعثتهما لا محالة ولا يجوز له الإخلال بها، وإذا علم أن صالحنا في بعثة جماعة وجب أن يبعث الكل) (1) .
وعللوا ذلك بأن النظام المؤدي إلى صلاح النوع الإنساني على العموم في المعاش والمعاد لا يتم إلا ببعثة الرسل وكل ما هو كذلك فهو واجب على الله تعالى (2) .
وقال بعضهم: إذا علم الله من أمته أنهم يؤمنون وجب عليه إرسال النبي، وإلا لم يجب الإرسال بل حسن (3) .
وذهبت الفلاسفة إلى إيجاب النبوة عقلا على الله (لأن النظام الأكمل الذي تقتضيه العناية الأولية لا يتم بدون وجود النبي الواضع لقوانين العدل) (4) .
ذلك أن من عرف النبوات منهم يظن أن شرائع الأنبياء من جنس نواميسهم وأن المقصود بها مصلحة الدنيا (5) .
__________
(1) شرح الأصول الخمس، القاضي عبد الجبار، ص 575، المغني، القاضي عبد الجبار 15 \ 28.
(2) شرح جوهرة التوحيد، البيجوري ص119، ينظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار ص 563.
(3) المواقف، الأيجي، ص 342، شرح المقاصد للتفتازاني 5 \ 19.
(4) المواقف، الأيجي، ص 342، شرح المقاصد 5 \ 7 ينظر: آراء أهل المدينة الفاضلة، الفارابي \ ص 11.
(5) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 17 \ 330.(68/160)
والصحيح الذي ذهب إليه أهل السنة وكذلك الأشاعرة: أن النبوة نعمة من الله تعالى ومنة منه تفضل بها على خلقه، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (1) .
وأما مسألة إيجاب شيء على الله ووضع شريعة لله بالعقل والتسوية بين الله وبين عباده فيما يحسن منهم ويقبح - كما ذهب إليه المعتزلة - فهو أمر ممتنع ومنتف من وجوه عديدة أشار إليها ابن القيم، منها:
أن الله تعالى كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، فكذلك ليس كمثله شيء في أفعاله؛ فلا تقاس أفعاله على أفعال خلقه فيحسن منه ما يحسن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم؛ ذلك أن كثيرا من الأفعال تقبح منا وهي حسنة منه تعالى.
كذلك الإيجاب والتحريم يقتضي موجبا آمرا ناهيا، وهو طلب للفعل أو الترك على وجه الاستعلاء، وهذا محال في حق الواحد القهار (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2) مفتاح دار السعادة، ابن القيم 2 \ 52.(68/161)
ثم ذكر ثمانية عشر لازما فاسدا على قاعدة الصلاح والأصلح، منها ما ألزمه أبو الحسن الأشعري للجبائي وقد سأله عن ثلاثة إخوة أمات الله أحدهم صغيرا وأحيا الآخرين فاختار أحدهما الإيمان والآخر الكفر، فرفع درجة المؤمن البالغ على أخيه الصغير في الجنة لعمله، فقال أخوه يا رب لم لا تبلغني منزلة أخي فقال: إنه عاش وعمل أعمالا استحق بها هذه المنزلة. فقال: يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله فقال: كان الأصلح في حقك أن توفيتك صغيرا لأني علمت أنك إن بلغت اخترت الكفر فكان الأصلح في حقك أن أمتك صغيرا، فنادى أخوهما الثالث من أطباق النار: يا رب فهلا عملت معي هذا الأصلح واخترمتني صغيرا كما عملت مع أخي واخترمته صغيرا، فأسكت الجبائي ولم يجبه بشيء.
ثم كان آخر إلزام ذكره ابن القيم: أن الإيجاب والتحريم(68/162)
يقتضي سؤال الموجب المحرم لمن أوجب عليه وحرم: هل فعل مقتضى ذلك أم لا؟ وهذا محال في حق من لا يسئل عما يفعل، وإنما يعقل في حق المخلوقين وأنهم يسألون (1) .
وقابل المعتزلة الأشاعرة في هذه المسألة فقالوا: لا يجب عليه شيء ويجوز عليه كل شيء (2) .
وتوسط أهل السنة فقالوا: إن الله سبحانه أخبر عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه؛ كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)
فلا يمتنع في حق الرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناه، أن يكون طالبا من نفسه، فيكتب على نفسه ويحق على نفسه ويحرم على نفسه، وكتابة ما كتبه على نفسه وإحقاقه ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته للفعل وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء (4) .
__________
(1) ينظر مفتاح دار السعادة، ابن القيم 2 \ 52، 55.
(2) ينظر: الإرشاد، الجويني، 236، 234.
(3) سورة الأنعام الآية 54
(4) ينظر مفتاح دار السعادة 2\110 - 111.(68/163)
المبحث الأول: مناظرة إبراهيم لقومه:
لما كان إبراهيم عليه السلام ممن أجمعت الملل والطوائف على الاعتراف بفضله لأن أكثرهم من نسله؛ كاليهود والنصارى والمشركين من العرب والمسلمين، ولما يعلمونه من إخلاصه لله تعالى واحتمال الأذى فيه، لذلك كثيرا ما احتج عليهم بأحوال إبراهيم عليه السلام (1) وفي سورة الأنعام بيان لمحاجة إبراهيم عليه السلام ومراجعته لقومه في باطل ما هم عليه مقيمين من عبادة الأوثان وابتدأها بقوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2)
فأنكر إبراهيم عليه السلام على أبيه التأله لصنم يعبد من دون الله، وهو التمثال يصنع على صورة وذكر له أن هذا الفعل فعل التائهين الذين لا يهتدون أين يسلكون؛ بل هم في حيرة وجهل وضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم حيث عبدوا من لا يستحق من العبادة شيئا، وتركوا عبادة خالقهم ورازقهم ومدبرهم (3) .
وقد اختلف في اسم أبي إبراهيم، وهل كان قوله (آزر) اسم له أم صفة، على أقوال:
__________
(1) ينظر التفسير الكبير، الرازي، 13 \ 34، نظم الدرر، البقاعي، 2\ 657.
(2) سورة الأنعام الآية 74
(3) ينظر تفسير ابن كثير 2\155، تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2\423.(68/164)
الأول: أنه اسم أبيه وهذا قول السدي ومحمد بن إسحاق حيث قال: آزر أبو إبراهيم وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلا من أهل كوثي من قرية بالسواد سواد الكوفة (1) (2) .
القول الثاني: أن اسم أبيه تارح وهو الوارد في التوراة (3) قال الفراء (وقد أجمع أهل النسب على أنه ابن تارح) (4) .
وأما (آزر) فقالوا: إما أنه لقب له، أو أنه اسم صنم، فسمي به
__________
(1) بالضم هي الحصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ومصرت في عهد عمر، معجم البلدان 4\491.
(2) تفسير الطبري 11\465.
(3) سفر التكوين، الإصحاح الحادي عشر، 27.
(4) معاني القرآن، الفراء 1\340.(68/165)
للزومه عبادته وخدمته إياه، أو أنه سب وعيب بكلامهم ومعناه: معوج فعابه بزيغه واعوجاجه عن الحق، وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهرم بالفارسية.
وقيل: هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال: يا مخطئ.
قال الطبري: فأولى القولين بالصواب من قال: هو اسم أبيه؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائله أنه نعت. فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح فكيف يكون آزر اسما له، والمعروف به من الاسم تارح؟ قيل له: غير محال أن يكون كان له اسمان كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما(68/166)
مضى لكثير منهم، وجائز أن يكون لقبا يلقب به) (1) .
ووافقه القرطبي ورد على من ادعى إجماع واتفاق أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم تارح فقال: (ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق فقد قال ابن إسحاق والكلبي والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم وهو تارح مثل إسرائيل ويعقوب. قلت: فيكون له اسمان) (2) .
__________
(1) تفسير الطبري، 11 \ 469.
(2) تفسير القرطبي 7\22.(68/167)
ثم قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (1)
أي وكما وفقناه وأريناه البصيرة في دينه والحق، نبين له وجه الدلالة في نظره إلى ملكوت السماوات والأرض، ويرى ببصيرته ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة على وحدانية الله عز وجل في ملكه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 75(68/167)
وخلقه، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه، ليكون عالما موقنا فإنه بحسب قيام الأدلة يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب، وفي قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (1) تنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم وصل في معرفة ربه إلى مرتبة الإيقان بالاستدلال وإقامة البرهان بحيث قدر على إلزامهم (2) كما سيأتي.
والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه: الملك العظيم والسلطان القاهر، وقيل: ملكوتها: عجائبها وبدائعها؛ روي أنه كشف له عليه السلام عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين حتى جلى له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله إني أرحم بعبادي منك فرده الله كما كان قبل ذلك.
قال ابن كثير: في هذه المرويات: إنه لا تصح أسانيدها (3) .
وقيل: آياتهما، وقيل: ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والأشجار والبحار، والإراءة لا تقتصر على مجرد الإبصار والمشاهدة؛ بل اطلاعه عليه السلام على
__________
(1) سورة الأنعام الآية 75
(2) حاشية الشهاب، 4\85.
(3) تفسير ابن كثير 2 \ 156.(68/168)
حقائقها ودلالتها على وحدانية الله (1) .
وكان قوم إبراهيم ممن يعبدون الكواكب ويعتقدون إلهية النجوم في السماء ويقال لهم: الكلدانيون، أو الكشدانيون، أو الصابئة المشركة؛ فكانوا يعبدون الكواكب ويدعونها ويجعلون لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه؛ كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها، فالصنم عندهما رمز للكواكب، فإذا أرادوا التقرب إلى ذلك الكوكب عبدوا ذلك الصنم.
__________
(1) تفسير أبي السعود 3 \151.(68/169)
فأنكر إبراهيم عليه السلام أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر وذلك في خطابه لأبيه، ثم أبطل منشأها وما نسبت إليه من الكواكب وبين عدم استحقاقها لذلك أيضا (1) وذلك عن طريق المناظرة والاستدلال، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (2) أي لما غطاه الليل وستره رأى نجما مضيئا، قال بعضهم: إنه الزهرة وقيل: بل المشتري؛ فقال على سبيل المناظرة (هذا ربي) : قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، وقيل: قاله على وجه النظر الاستدلال، وكان ذلك في زمان مراهقته وأول أوان بلوغه.
__________
(1) حاشية الشهاب 4 \85.
(2) سورة الأنعام الآية 76(68/169)
وقيل إنما معنى الكلام: أهذا ربي؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي ليس هذا ربي. والصحيح الذي عليه أكثر المفسرين أنه قال ذلك (على وجه الاعتبار والاستدلال لا على وجه الإخبار ولذلك فإن الله تعالى لم يذم إبراهيم عليه السلام على ذلك بل ذكره بالمدح والتعظيم وأنه أراه ذلك كي يكون من الموقنين) .
قال القاضي عياض: (وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مبكتا لقولهم ومستدلا عليهم) (1) .
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (2) أي فلما غاب وذهب {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (3) قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول (4) .
__________
(1) الشفاء، القاضي عياض 2 \ 260.
(2) سورة الأنعام الآية 76
(3) سورة الأنعام الآية 76
(4) تفسير ابن كثير 2 \ 156.(68/170)
وقال بعضهم: الأفول هو الانتقال، والانتقال حركة وهي دليل الحدوث؛ ورد عليهم ابن تيمية بأن المعنى اللغوي للأفول: هو التغيب والاحتجاب سواء أريد بالأفول ذهاب ضوء القمر والكواكب بطلوع الشمس، أو أريد به سقوطه من جانب المغرب فإنه إذا طلعت الشمس يقال عن الكواكب إنها غابت واحتجبت وإن كانت موجودة في السماء ولكن طمس ضوء الشمس نورها، ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يقل {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (1) لما رأى الكوكب يتحرك والقمر والشمس؛ بل قال ذلك حين غاب احتجب، فبطل قولهم الحركة دليل الحدوث (2) .
فهنا بين إبراهيم عليه السلام أن الله قائم على عبده كل وقت، وأما النجم فهو آفل يغيب تارة ويظهر تارة فليس هو قائما
__________
(1) سورة الأنعام الآية 76
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 5 \ 547.(68/171)
على عبده في كل وقت، ففيه نقص وأما الرب فاطر السماوات والأرض فله صفات الكمال (1) .
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} (2)
أي لما رأى القمر طالعا قال: هذا ربي تنزلا، فلما غاب قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} (3) فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه، وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له فقالها على معنى الإشفاق والحذر (4) .
قال القرطبي في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} (5) أي: لم يثبتني على الهداية وقد كان مهتديا (6) . وفي هذا تلميح لضلال قومه.
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (7)
أي فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام السماوية الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع، تبرأ إبراهيم عليه السلام من معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله وقال
__________
(1) ينظر مجموع الفتاوى، ابن تيمية 11 \207، 206.
(2) سورة الأنعام الآية 77
(3) سورة الأنعام الآية 77
(4) تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2 \ 424، وينظر الشفاء، القاضي عياض 2 \ 260.
(5) سورة الأنعام الآية 77
(6) تفسير القرطبي 7 \ 27.
(7) سورة الأنعام الآية 78(68/172)
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)
فتبرأ من الشرك وأذعن للتوحيد ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من الجهر بالحق والثبات عليه مع خلاف جميع قومه لقوله وإنكارهم عليه، وبين لهم أنه وجه وجهه في عبادته للذي خلق السماوات والأرض، وذلك على ما يجب لله من التوحيد مقبلا عليه معرضا عما سواه متبرئا من المشركين فليس هو منهم ولا ممن يدين دينهم.
ولكن قوم إبراهيم لم يذعنوا للحق بعد بيانه لهم وأقاموا على باطلهم وصاروا يناظرون إبراهيم، قال الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَان وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (2)
والمحاجة في اللغة مصدر حاج يحاج حجاجا ومحاجة وهي الجدل والتخاصم (3) .
قال ابن عباس في قوله {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} (4) أتخاصموني في الله (5) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 79
(2) سورة الأنعام الآية 80
(3) لسان العرب ابن منظور مادة حجج 2 \ 228.
(4) سورة الأنعام الآية 80
(5) تفسير ابن أبي حاتم 4 \ 1331.(68/173)
فصار قوم إبراهيم عليه السلام يجادلونه ويناظرونه فيما ذهب إليه من التوحيد، وأوردوا عليه الشبه بما يدل على أن أصنامهم التي يعبدون آلهة. فقال {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَان} (1) أي كيف تجادلونني في أمر الله وقد بصرني وهداني إلى الحق، وأنه لا إله إلا هو وقد بصرني وهداني وأنا على بينة من أمري، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة (2) .
وهذا تأكيد للإنكار؛ فإن كونه مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده مما يوجب استحالة محاجته (3) .
ولما خوفوه آلهتهم أن تمسه بسوء، أجابهم بعدم خوفه وأنها لا تضر ولا تنفع، فكيف يخافها ولكن خوفه من الله الذي إن شاء ناله في نفسه أو ماله بما شاء من جهته تعالى من غير دخل لتلك الآلهة فيه أصلا؛ لأنه القادر على ذلك، إظهارا منه لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلامه لأمره، واعترافا بكونه تحت ملكوته وربوبيته (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 80
(2) تفسير ابن كثير 2 \ 157، فتح القدير، الشوكاني 2 \ 134.
(3) تفسير أبي السعود 3 \ 154.
(4) ينظر تفسير ابن كثير 2 \ 157، تفسير أبي السعود 3 \ 154.(68/174)
ثم تعجب من حالهم وكيف يخوفونه بآلهتهم وفي نفس الوقت لا يخافون الله الذي خلقهم ورزقهم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 81(68/174)
فكيف يخاف ما ليس في حيز المخوفات أصلا، وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها، وهو: إشراككم بالله الذي ليس كمثله شيء، وتسويتكم بين العاجز والقادر فهذا الحقيق بأن يخاف منه كل الخوف (1) .
فأي الطائفتين أحق بالأمن: الذي عبد من بيده النفع والضر أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل، أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ومن عقابه وحلول سخطه في عاجل الدنيا (2) .
ثم قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3)
أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئا، ولم يخلطوا إيمانهم بظلم هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا.
وقد اختلف في الذي أخبر الله تعالى عنه أنه قال هذا، فقال بعضهم: هذا فصل القضاء من الله بين إبراهيم الخليل - عليه السلام - وبين من حاجه من قومه من أهل الشرك بالله، وقال غيرهم: إن هذا جواب من قوم إبراهيم لإبراهيم - عليه السلام - حين قال لهم: أي الفريقين أحق بالأمن؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحدوه أحق
__________
(1) ينظر تفسير أبي السعود 3 / 154، تفسير البيضاوي 4 / 84.
(2) ينظر تفسير الطبري 11 \ 492، تفسير ابن كثير 2\ 158.
(3) سورة الأنعام الآية 82(68/175)
بالأمن، واختار الطبري الأول ورجحه؛ لأن قوم إبراهيم لو قالوا ذلك لأقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم - عليه السلام -.
كذلك اختلف في المراد بالظلم في هذه الآية، فقال بعضهم: إن الظلم هو الشرك، واستدلوا بما روى عبد الله بن مسعود أنه لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (1) قال أصحاب رسول الله: أينا لم يظلم فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) .
وقال آخرون بل المراد لم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم مثل المعاصي فالآية على العموم، لأن الله لم يخص به معنى من معاني الظلم (3) .
واختار الطبري القول الأول وكذا ابن كثير وغيرهما (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) ينظر تفسير الطبري 11 \ 502، تفسير البيضاوي 4 \ 89.
(4) ينظر تفسير الطبري 11 \ 503، تفسير ابن كثير 2 \ 158.(68/176)
وفصل ابن تيمية في معنى الظلم ومعنى الاهتداء والأمن؛ فذكر أن الظلم ثلاثة أنواع هي: الذي هو شرك لا شفاعة فيه، وظلم الناس بعضهم، وظلم الإنسان لنفسه بترك الطاعات وفعل المعاصي.
وبين أن الصحابة رضي الله عنهما شق عليهم الأمر لما ظنوا المشروط هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا يكون الأمن والاهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فمن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء مطلقا، وإن لم يسلم من أجناس الظلم الأخرى فيحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه، وأما إن سلم منها كان له الأمن التام والهداية التامة (1) .
وكذلك السعدي.
قال: " فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا لا بشرك ولا بمعاصي حصل لهم الأمن التام والهداية، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ولكنهم يعملون السيئات
__________
(1) ينظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 7 \ 78، 81، 80.(68/177)
حصل لهم أصل الهداية وأصل الأمن وإن لم يحصل لهم كمالها " (1) .
وإن قيل: إن العاصي الموحد قد يعذب، فما الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ أجيب: فإنه آمن من التخليد في النار وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة فهو مهتد إلى طريقها (2) .
ثم قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (3)
الإشارة في قوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} (4) إلى ما تقدم من الحجج التي أوردها إبراهيم - عليه السلام - عليهم، أي تلك البراهين من قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} (5) إلى قوله {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (6) وتلك الحجج والبراهين علا بها إبراهيم - عليه السلام - على قومه وقطع عذرهم وانقطعت حجتهم، فرفعنا درجته عليهم في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فآتيناه أجره، وأما في الآخرة فهو من الصالحين. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} (7) أي كما رفعنا درجات إبراهيم - عليه السلام - في الدنيا والآخرة.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (8) أي حكيم في أقواله وأفعاله، عليم بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين، وهو لا
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن، السعدي، 2 \ 426.
(2) ينظر: مجموع الفتاوى ابن تيمية، 7\ 81، الفتح، ابن حجر 1 \ 89.
(3) سورة الأنعام الآية 83
(4) سورة الأنعام الآية 83
(5) سورة الأنعام الآية 76
(6) سورة الأنعام الآية 82
(7) سورة الأنعام الآية 83
(8) سورة الأنعام الآية 83(68/178)
يضع العلم والحكمة إلا في المحل اللائق بهما وهو أعلم بذلك المحل وبما ينبغي له.
ومن الأجر الذي أوتيه إبراهيم - عليه السلام - أن كان الأنبياء من بعده من ذريته وهو موضوع المبحث القادم.(68/179)
المبحث الثاني: أسماء الرسل الذين وردوا في الآيات وأولي العزم منهم
من قواعد الإيمان بالرسل وجوب الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم؛ فيؤمن بهم جملة؛ لأنه لم يأت في عددهم نص، قال الله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) وقال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (2) .
ومن الأحاديث التي ذكرت عددهم؛ حديث أبي ذر الطويل
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) سورة غافر الآية 78(68/179)
المتنازع في صحته والذي يحدد عدد الأنبياء بمائة ألف وأربعمائة وعشرين ألفا وعدد الرسل بثلاثمائة وثلاثة عشر أو خمسة عشر.
وأصح منه ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي أمامة أن رجلا قال: «يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا (1) » . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/266) .
(2) المستدرك، الحاكم، وبذيله التلخيص للذهبي 2 \ 262.(68/180)
فلم يذكر في هذا الحديث عدد الأنبياء بل اقتصر على ذكر عدد الرسل.
وجزم بعض المؤلفين في الفرق بهذا العدد؛ منهم البغدادي الذي ذكر إجماع (أصحاب التواريخ من المسلمين على أن أعداد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، أولهم أبونا آدم عليه السلام، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر) (1) . كذلك ابن القيم جزم بهذا العدد (2) .
وفي المقابل هناك من يرى أنه لم يأت حديث صحيح في تعيين عددهم، منهم ابن كثير الذي ساق عند تفسيره لآية النساء أحاديث يذكر فيها أن عدد الأنبياء: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وأحاديث أخرى تذكر أن عددهم ثمانية آلاف، وغيرها يذكر أن عددهم ألف نبيا؛ ثم بين أن الأحاديث الواردة لا تخلو من ضعف على كثرتها (3) .
__________
(1) أصول الدين، البغدادي 157.
(2) زاد المعاد، ابن القيم 1 \ 43.
(3) ينظر تفسير ابن كثير 1 \ 601، 599.(68/181)
وكذلك ابن تيمية الذي أشار إلى حديث أبي ذر بصيغة التضعيف فقال: (وقد روي في حديث أبي ذر أن عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر) وكأنه لم يصح عنده إذ لم يستدل به، بل استدل بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على أن كل أمة قد بعث فيها رسول، مثل قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (1) ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (2) » وقال: وهذه السبعون سواء كانت هي التي هداها الله أو هي الجميع فإنه يدل على أكثرية الرسل (3) .
وأشار في موضع آخر إلى كثرة أنبياء بني إسرائيل وأنهم أكثر الأمم أنبياء بعث إليهم موسى وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون حتى قيل إنهم ألف نبي (4) .
كذلك الإمام أحمد بن حنبل مع أنه روى حديث
__________
(1) سورة فاطر الآية 24
(2) مسند أحمد 5 \ 3 عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
(3) الجواب الصحيح، ابن تيمية 2 \ 169.
(4) الجواب الصحيح، ابن تيمية 1 \ 210.(68/182)
أبي ذر، فإنه لم يصح عنده، ذلك أنه صرح بأنه لا يعرف عدد الأنبياء والرسل والكتب (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 7 \ 409.(68/183)
لذا كان من الأسلم - كما سبق ذكره - الإمساك عن تعيين عدد الأنبياء والإيمان بمن سمى الله منهم والإيمان بالبقية إجمالا (1) .
وقد سمى الله تعالى في كتابه خمسة وعشرين نبيا ذكر منهم في سورة الأنعام على نسق واحد ثمانية عشر نبيا وهم الوارد ذكرهم في هذه الآيات {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2) {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4) {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (5)
فأول الأنبياء الوارد ذكرهم في هذه السورة هو: نبي الله إبراهيم الذي هو أكرم الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وهو خير البرية وأعزها، ومما أكرمه الله تعالى به أن جعل
__________
(1) ينظر فتاوى اللجنة الدائمة 3 \ 195، رقم الفتوى 5611.
(2) سورة الأنعام الآية 83
(3) سورة الأنعام الآية 84
(4) سورة الأنعام الآية 85
(5) سورة الأنعام الآية 86(68/183)
أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة وأعظم السرور علم المرء بأن يكون من عقبه الأنبياء والملوك وهذا من أجره الذي آتاه الله في الدنيا جزاء على طاعته لله وإخلاصه له ومفارقته دين قومه المشركين بالله (1) .
وإبراهيم اسم أعجمي وجاء في التوراة أن اسمه كان إبرام، ثم لما سار ابن تسع وتسعين سنة قال له الله: فلا يدعى اسمك بعد إبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم.
وثاني الأنبياء الوارد ذكرهم: إسحاق وأمه سارة زوجة إبراهيم، وهو أبو يعقوب، فذكر والد إبراهيم وولد ولده، وابتدأ سبحانه بهما؛ لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام، وهو أشد سرورا بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله (2) .
وكذلك البشارة بإسحاق ويعقوب معا، قال تعالى
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري 11 \ 507، التفسير الكبير، الرازي 13 \ 63، النبوات، ابن تيمية، ص 25.
(2) نظم الدرر، البقيع، 2 \ 664.(68/184)
{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (1) ؛ ذلك أن سارة كانت امرأة عاقرا، فوهبت لإبراهيم جاريتها هاجر، فدخل عليها، وولدت له إسماعيل، ثم بشرت سارة بإسحاق بعد ذلك، فولدته وعمرها تسعون سنة وعمر إبراهيم مائة سنة كما ورد في التوراة (2) .
وأما في القرآن فلم يرد تحديد العمر بل ورد قولها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (3)
وكانت البشارة قد وقعت بإسحاق وبابنه لأن ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ولأن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب (4) .
ويدعي أهل الكتاب أن إسحاق هو الذبيح وسيأتي مناقشة هذا عند ذكر إسماعيل عليه السلام.
وأما يعقوب فهو إسرائيل - عليه السلام - وسمي يعقوب؛ لأنه لما ولد كان ممسكا بعقب أخيه التوأم العيص كما ورد في التوراة، وأما ابن كثير فيقول: يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية (5) .
وغير اسمه إلى إسرائيل بعد أن نبأه الله، وبنى هو مذبحا لله
__________
(1) سورة هود الآية 71
(2) سفر التكوين الإصحاح 17: 17.
(3) سورة هود الآية 72
(4) تفسير ابن كثير 2 \ 159.
(5) تفسير ابن كثير 2 \ 159.(68/185)
أسماه مذبح إيل، وإيل عندهم اسم لله، في التوراة أن الله قال له: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يكون اسمك إسرائيل (1) .
وقد ولد يعقوب في حياة إبراهيم وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما كما سبق، ولقوله تعالى في هذه الآية: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (2) فلو لم يوجد في حياتهما لما كان في تخصيصه من بين ذرية إسحاق فائدة، ولقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (3) أي أنه كان حاضرا موت إبراهيم، كذلك كان هو باني المسجد الأقصى وبين بنائه وبناء المسجد الحرام أربعون سنة كما روى البخاري سنده إلى أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة (4) » .
__________
(1) سفر التكوين الإصحاح 35: 9.
(2) سورة الأنعام الآية 84
(3) سورة البقرة الآية 132
(4) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 10، ح 3366، الفتح 6 \ 407.(68/186)
ومعنى إسرائيل هو عبد الله كما قال ابن عباس: إسرائيل هو كقولك عبد الله (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 11، وفي العبرية معناه: يجاهد مع الله، ينظر قاموس الكتاب المقدس ص 66.(68/187)
ثم ذكر الله تعالى نوحا - عليه السلام - فهو رابع الأنبياء المذكورين في هذه السورة؛ فقال الله تعالى: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} (1) أي من قبل إبراهيم، وعد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد، فجعل إبراهيم في أشرف الأنساب؛ لأنه رزقه أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح وشيت عليهما السلام فالمقصود بيان كرامة إبراهيم - عليه السلام - بحسب الأولاد وبحسب الآباء (2) .
ولكل من نوح وإبراهيم عليهما السلام خصوصية عظيمة؛ فأما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 84
(2) ينظر التفسير الكبير، الرازي 13 \ 63، تفسير البيضاوي 4 \ 90، تفسير أبي السعود 3 \ 157.(68/187)
به وهم الذين صحبوه في السفينة جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم - عليه السلام - فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} (1) .
ونوح اسم أعجمي، وقيل إنه مشتق من النوح وسمي به لطول ما ناح على نفسه (2) . وهو ابن لمك بن متوشلح بن خنوح وهو إدريس (3) على قول بعضهم - وسيأتي تحقيق هذا - وهو أول الرسل كما جاء في الحديث «إن الناس يوم القيامة يأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبدا شكورا (4) » .
وأورد ابن حجر عند شرحه للحديث أن كونه أول الرسل قد استشكل بأن آدم كان نبيا، وبالضرورة كان على شريعة من
__________
(1) سورة الحديد الآية 26
(2) تفسير ابن أبي حاتم 8 \ 2787.
(3) ينظر: أعلام النبوة، الماوردي، 62، فتح الباري، ابن حجر 6 \ 382.
(4) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 3 ح 3340، الفتح 6 \ 371.(68/188)
العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك عنه فعلى هذا فهو رسول إليهم فهو أول رسول، وأجاب بأنه يحتمل أن تكون الأولوية في قول أهل الموقف لنوح مقيدة بقولهم إلى أهل الأرض، لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهل، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد (1) .
وذكر ابن تيمية أن القول الراجح في التفريق بين النبي والرسول: أن الرسول هو الذي يبعث إلى قوم كافرين به، وأما آدم عليه السلام فقد بعث إلى أبنائه وهم مؤمنون به فهو أول الأنبياء كما أن نوحا هو أول الرسل (2) .
وقال ابن حجر: واستشكله بعضهم بإدريس، أي استشكل كون نوح أول الرسل، ثم أجاب بأنه لا يرد ثم أجاب بأنه لا يرد لأنه اختلف في كونه جد نوح (3) .
فيرى فريق من العلماء أن أخنوخ أو خنوخ - على اختلاف في ضبطه - جد نوح هو إدريس عليه السلام منهم البخاري حيث قال في صحيحه: (باب ذكر إدريس - عليه السلام - وهو جد أبي نوح ويقال جد نوح عليهما السلام) (4) .
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر، 6 \ 372.
(2) ينظر: النبوات، ابن تيمية، 172، 173.
(3) فتح الباري، ابن حجر، 6\ 372.
(4) صحيح كتاب الأنبياء باب 5، الفتح 6 \ 274.(68/189)
وكذلك ابن كثير قال: فإدريس عليه السلام قد أثنى الله عليه ووصفه بالنبوة والصديقية وهو خنوخ، وهو في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب (1) .
وجزم الماوردي بهذا فقال: أخنوج بن يارد وهو إدريس، وولد بعد مائة واثنتين وستين سنة من عمر يارد، وهو نبي على قول جميع أهل الملل (2) .
كذلك ابن تيمية قال: وقد كان قبله - أي نوح - أنبياء كشيث وإدريس (3) .
وأما تسميته بإدريس فقال بعضهم: لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى، فاشتقاقه من الدراسة، وهذا إذا قيل إنه عربي، وقد قيل إنه سرياني.
قال ابن حجر: ولا يمنع ذلك كون لفظ إدريس عربيا إذا
__________
(1) البداية والنهاية، ابن كثير، 1 / 92.
(2) أعلام النبوة، الماوردي، ص 62.
(3) النبوات، ابن تيمية، ص 173.(68/190)
ثبت بأن له اسمين (1) .
ونسبت إلى إدريس أوليات منها: أنه أول من خط بالقلم، وأول من لبس الثياب - وكانوا يلبسون الجلد - وأول من اتخذ السلاح، وأول من وضع الأوزان والكيل (2) .
وقد جاء ذكره في القرآن في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (3) {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (4)
فقد اختلف في المكان العلي على أقوال منها: أنه الجنة، وقال بعضهم إنه رفع ولم يمت كما رفع عيسى، قال ابن حجر: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية (5) .
وذكر آخرون أنه سأل خليلا له من الملائكة أن يسأل ملك الموت عن عمره فحمله إلى السماء الرابعة فتلقاه ملك الموت منحدرا، فكلمه الملك وسأله فقال له ملك الموت: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: العجب بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فنظر الملك إلى تحت
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر 6 \373، وينظر أعلام النبوة، الماوردي ص 62، تفسير القرطبي 7 \ 58.
(2) أعلام النبوة الماوردي ص 62، البداية والنهاية، ابن كثير 1 \ 92، فتح الباري، ابن حجر 6 \ 375.
(3) سورة مريم الآية 56
(4) سورة مريم الآية 57
(5) فتح الباري: ابن حجر 6 \ 375.(68/191)
جناحه فإذا إدريس قد قبض وهو لا يشعر.
قال ابن كثير بعد أن أورد الخبر: هذا من الإسرائيليات وفيه نكارة والله أعلم (1) .
وفي المقابل يرى فريق آخر أن إدريس - المذكور في القرآن - ليس من أجداد نوح - عليه السلام - بل من أبنائه ويستدلون لذلك بحديث الإسراء والمعراج، وأنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح (2) » ولم يقل له: (مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح) (3) كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.
قالوا: فلو كان في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم لقال له كما قالا عليهم الصلاة والسلام، وأجاب الأولون بأن هذا لا يدل ولا بد لأنه قد يكون الراوي لم يحفظه جيدا، أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع ولم ينتصب له في مقام الأبوة كما انتصب آدم الذي هو أبو البشر وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن، فليس ذلك نصا فيما ذهبوا إليه (4) .
وذكر بعض هؤلاء أن إدريس هو إلياس وبالتالي هو من ذرية نوح (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 3 ص 133، ينظر البداية والنهاية، ابن كثير 1 \ 93.
(2) صحيح البخاري الصلاة (349) ، صحيح مسلم الإيمان (163) ، مسند أحمد بن حنبل (5/144) .
(3) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 5 ح 3342، الفتح 6 \ 374.
(4) ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير 1 \ 93، فتح الباري، ابن حجر 6 \ 373.
(5) ينظر: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب 4، الفتح 6 \ 373.(68/192)
ثم قد اختلف في الضمير في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} (1) فقيل المراد من ذرية نوح؛ لأنه أقرب مذكور ولأن لوطا ليس من ذرية إبراهيم - عليه السلام -.
وقيل: بل الضمير يعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأنه هو المقصود بالذكر في هذه الآيات، وإنما ذكر الله تعالى نوحا عليه السلام لأن كون إبراهيم عليه السلام؛ من أولاده إحدى موجبات رفعة إبراهيم - عليه السلام -.
وأما ذكر لوط - عليه السلام -؛ فلأنه ابن أخي إبراهيم - عليه السلام -، والعرب تجعل العم أبا للتغليب، أو لأنه من أتباعه - عليه السلام - وممن آمن على يديه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 84(68/193)
ما الخامس من الأنبياء المذكورين فهو داود (1) بن أيشار، من نسل يهوذا بن يعقوب، وهو الذي قتل جالوت، ثم صار الملك إليه فجمع الله له بين الملك والنبوة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في سبط آخر، واجتمع في داود هذا وهذا كما قال تعالى:
__________
(1) داود: اسم عبري معناه: محبوب، قاموس الكتاب المقدس ص 391.(68/193)
{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (1)
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (2) {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) فذكر الله تعالى أنه أعانه على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها.
وداود عليه الصلاة والسلام هو أب النبي السادس المذكور في هذه السورة، وهو سليمان عليه الصلاة والسلام، وقد ورثه في النبوة والملك، قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (4)
وسليمان (5) هو الذي جدد بناء بيت المقدس وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف سنة وقد أعطاه الله ملكا عظيما كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (6) {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (7) {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (8) {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (9) {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10)
__________
(1) سورة البقرة الآية 251
(2) سورة سبأ الآية 10
(3) سورة سبأ الآية 11
(4) سورة النمل الآية 16
(5) سليمان اسم عبري معناه رجل سلام، قاموس الكتاب المقدس 481.
(6) سورة ص الآية 35
(7) سورة ص الآية 36
(8) سورة ص الآية 37
(9) سورة ص الآية 38
(10) سورة ص الآية 39(68/194)
وجاء في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظرون إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: فرددته خاسئا (2) » .
ومكث الجن في خدمته بعد موته مدة من الزمن، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (3)
وجاء في تحديد هذه المدة أنها حول كامل وذلك في الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب (4) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 40 ح 3423، الفتح 6 \457.
(2) سورة ص الآية 35 (1) {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}
(3) سورة سبأ الآية 14
(4) ينظر فيما سبق البداية والنهاية، ابن كثير 2 \ 9، 29.(68/195)
وسابع الأنبياء المذكورين في هذه السورة هو: أيوب عليه الصلاة والسلام وهو من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام.(68/195)
وقال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء.
وجاء ذكر ابتلائه في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (1) {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (2) {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (3) {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (4)
وقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (5) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (6)
قال علماء التفسير والتاريخ: إن أيوب كان رجلا كثير المال والولد، فسلب منه ذلك جميعه وابتلي في جسده وهو صابر محتسب، وطال مرضه ولم يعد يحنو عليه أحد إلا زوجته وهي صابرة معه، وامتد ذلك به مدة من الزمن اختلف فيها فقيل: ثلاث عشرة سنة وقيل: ثلاث سنين وقيل: سبع سنين، ورجح ابن حجر أنها ثلاث عشرة سنة (7) ، حتى دعا الله ففرج عنه وأبدله الله صحة ظاهرة وباطنة، وأخلف له أهله وآتاه مالا كثيرا حتى صب له من المال صبا مطرا
__________
(1) سورة ص الآية 41
(2) سورة ص الآية 42
(3) سورة ص الآية 43
(4) سورة ص الآية 44
(5) سورة الأنبياء الآية 83
(6) سورة الأنبياء الآية 84
(7) فتح الباري، ابن حجر 6 \ 422.(68/196)
عظيما (1) .
روى البخاري بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك (2) » .
__________
(1) ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 1\ 206 - 209.
(2) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 20 ح 3391، الفتح 6 \ 420.(68/197)
وثامن الأنبياء المذكورين هو يوسف (1) بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام أكرم الناس كما جاء في الحديث (2) . وقصته مذكورة في القرآن في سورة يوسف.
أما تاسع الأنبياء وعاشرهم في هذه الآيات فهما: موسى (3) وهارون ابنا عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب، وقصتهما مع فرعون (أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ثناها الله أكثر من غيرها) (4) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل: أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم
__________
(1) يوسف اسم عبري معناه يزيد قاموس الكتاب المقدس ص 115.
(2) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 19، ح 3383، 3390.
(3) اسم مصري معناه ولد ومعناه بالعبري منتشل، قاموس الكتاب المقدس ص 930.
(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 17 \ 21.(68/197)
الله لموسى (1) .
ثم ذكر الله تعالى زكريا (2) وابنه يحيى وفي زكريا أربع لغات المد والقصر وحذف الألف مع تخفيف الياء وفي تشديدها وحذفها، وزكريا هو ابن أدن، ويقال ابن شبوى، ويقال ابن بارخيا، وهو من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، وابنه يحيى لم يسم أحد قبله به، رزق به على الكبر كما جاء في سورة آل عمران وسورة مريم.
واختلفت الرواية في موته: هل مات موتا أو قتل قتلا؟
وأما يحيى فقد قتل واختلف في سبب قتله (3) .
يحيى بن زكريا هو ابن خالة عيسى ابن مريم، وقد ذكر الله تعالى قصة مريم وحملها بولدها عيسى في سورة مريم، وأبوه عمران كان صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وأما زكريا نبي ذلك الزمان فكان زوج أختها، وقيل زوج خالتها.
وفي ذكر عيسى عليه السلام في سياق الآيات دليل بين على أن
__________
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 32.
(2) زكريا اسم عبري معناه يهوه قد زكر أي ذكر، قاموس الكتاب المقدس 427.
(3) ينظر فتح الباري 6 \ 468، البداية والنهاية 2 \ 43 - 51.(68/198)
الذرية تتناول أولاد البنات (1) ومريم بالسريانية الخادم (2) .
ثم ذكر الله تعالى إلياس، وروي أنه إدريس، وقيل بل هو من أسباط هارون أخي موسى، وقيل من سبط يوشع بن نون، وقيل من ولد إسماعيل.
ورجح الطبري في تفسيره أن إلياس من ذرية هارون، وأن إدريس جد نوح، لأن الله تعالى نسب إلياس في الآيات إلى نوح وجعله من ذريته، ونوح - كما يقول - هو ابن إدريس عند أهل العلم، فمحال أن يكون جد أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته (3) .
كذلك ابن تيمية يقول: وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل (4) وإلياس هو المذكور في سورة الصافات في قوله تعالى {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (5) {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} (6) {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (7) {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (8) {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (9) {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (10) {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (11) {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (12)
__________
(1) ينظر البداية والنهاية 1 \ 42 - 51، فتح الباري، ابن حجر 6 \ 469.
(2) تفسير أبي السعود 3 \ 157، تفسير الجلالين 113.
(3) تفسير الطبري 11 \ 508 وينظر البداية والنهاية، ابن كثير 1 \ 316.
(4) النبوات، ابن تيمية ص 26.
(5) سورة الصافات الآية 123
(6) سورة الصافات الآية 124
(7) سورة الصافات الآية 125
(8) سورة الصافات الآية 126
(9) سورة الصافات الآية 127
(10) سورة الصافات الآية 128
(11) سورة الصافات الآية 129
(12) سورة الصافات الآية 130(68/199)
وأضيفت إليه النون، لأن العرب تلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها، وإرساله كان لأهل بعلبك فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل وترك عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا، فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله، فهرب واختفى منهم.
وهناك أحاديث موضوعة وضعيفة تفيد حياة إلياس لم يصح منها شيء (1) .
__________
(1) شيء ينظر البداية والنهاية، ابن كثير 1 \ 315، 314.(68/200)
وأما النبي الخامس عشر المذكور: فهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأمه هاجر جارية سارة زوجة إبراهيم، وإسماعيل اسم أعجمي، وجاء في التوراة أن ملاك الرب بشر هاجر بإسماعيل وقال لها: (تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك) (1) وهو بكر إبراهيم - عليه السلام - وأفضل بنيه لقول
__________
(1) سفر التكوين الإصحاح 16، 10 \ 11 وفي قاموس الكتاب المقدس: إسماعيل اسم عبري ومعناه يسمع الله ص 73.(68/200)
رسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل (1) » . ووصفه الله تعالى بأنه صادق الوعد فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (2) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (3)
ومن أعظم صدقه للوعد صدقه فيما وعد أباه من صبره للذبح وبذلك، قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (4) {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (5) {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (6) {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (7) {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (8)
ويدعي أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق وعندهم أن الله أمره أن يذبح ابنه وحيده وأقحموا إسحاق لأنه؛ أبوهم ففي التوراة: (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق) (9) .
وهذا تحريف باطل؛ لأنه لا يقال وحيد إلا لمن ليس له غيره، وبنص التوراة إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، ثم إن
__________
(1) جامع الترمذي، كتاب المناقب باب 1 رقم الحديث 3605، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح 5 \ 544.
(2) سورة مريم الآية 54
(3) سورة مريم الآية 55
(4) سورة الصافات الآية 101
(5) سورة الصافات الآية 102
(6) سورة الصافات الآية 103
(7) سورة الصافات الآية 104
(8) سورة الصافات الآية 105
(9) سفر التكوين، الإصحاح الثاني والعشرون 20.(68/201)
أول من يولد له معزة ليست لمن بعده، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء، كذلك المناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث إسماعيل لا إسحاق (1) .
وقد بشر إبراهيم بإسحاق بعد الفراغ من قصة الذبح، قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (2) {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (3) {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (4) {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (5) {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (6) {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (7)
وكما سبق فإن البشارة بإسحاق شملت يعقوب أي أنه يكون من ذريته عقب ونسل فلا يجوز أن يؤمر بذبحه وهو بعد صغير وقد وصف إسماعيل بالحلم وهو المناسب في هذا المقام لذلك أن الذبيح هو إسماعيل (8) .
ثم ذكر الله تعالى: أليسع، واختلفت القراءة فيه فقرأ بلام مخففة، وقرأ بلام مشدودة (الليسع) ، والذين قرءوا بالتشديد ردوا القراءة الأولى وقالوا: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى، وأجيبوا بأن هذا الرد لا يلزم، لأن الاسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا، والعرب تغيرها بتقويم حرف من غير حذف ولا زيادة فيها ولا نقصان؛ وعلى هذا فلا يمتنع أن يأتي الاسم بلغتين (9) .
__________
(1) ينظر تفسير ابن كثير ج 4 \ 18، 17.
(2) سورة الصافات الآية 107
(3) سورة الصافات الآية 108
(4) سورة الصافات الآية 109
(5) سورة الصافات الآية 110
(6) سورة الصافات الآية 111
(7) سورة الصافات الآية 112
(8) ينظر: تفسير ابن كثير 4 \ 17، 18.
(9) تفسير الطبري 11 \510، تفسير القرطبي 7 \ 32.(68/202)
وكما اختلف في لفظه اختلف في تحديد المراد به؛ فقيل: هو ابن أخطوب بن العجوز خليفة إلياس وابن عمه، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. وقيل اليسع: هو الخضر، وقيل هو يوشع بن نون.
وجزم الطبري بأنه اليسع بن أخطوب بن العجوز خليفة إلياس.
وقيل: إنه الأسباط، والصحيح أن الأسباط هم حفدة يعقوب وذرية أبنائه الاثني عشر وليس من أبنائه الاثني عشر نبي إلا يوسف - عليه السلام -.(68/203)
وأما النبي المذكور بعده فهو يونس عليه الصلاة والسلام، وهو بالاتفاق يونس بن متى، قال الله تعالى في سورة يونس: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1)
وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2)
__________
(1) سورة يونس الآية 98
(2) سورة الأنبياء الآية 87(68/203)
وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (2) {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (3) {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (4) {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (5) {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (6) {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} (7) {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (8) {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (9) {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (10)
قال المفسرون: بعث يونس إلى أهل نينوى (11) من أرض الموصل فدعاهم إلى الله، فكذبوه وتمردوا، فتوعدهم بالعذاب بعد ثلاث ليال وخرج من بين أظهرهم، ثم قذف الله في قلوبهم التوبة وتضرعوا وجأروا إليه، فكشف الله عنهم برحمته العذاب الذي اتصل بهم، واختلفوا هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده، أو هما أمتنان على ثلاثة أقوال.
ولما ذهب مغاضبا بسبب قومه - على قول من قال إن إرساله إليهم كان قبل الحوت - ركب سفينة فاضطربت وماجت، فاستهموا على إلقاء واحد منهم في البحر، فألقي يونس والتقمه
__________
(1) سورة الصافات الآية 139
(2) سورة الصافات الآية 140
(3) سورة الصافات الآية 141
(4) سورة الصافات الآية 142
(5) سورة الصافات الآية 143
(6) سورة الصافات الآية 144
(7) سورة الصافات الآية 145
(8) سورة الصافات الآية 146
(9) سورة الصافات الآية 147
(10) سورة الصافات الآية 148
(11) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح النون والواو وهي قرية يونس -عليه السلام- بالموصل، معجم البلدان 5 \ 339.(68/204)
الحوت واختلف في مدة مكثه، فقيل: التقمه ضحى ولفظه عشية، وقيل: ثلاث ليال، وقيل: أربعين يوما والله أعلم (1) . وهو من بني إسرائيل (2) .
وأما النبي الثامن عشر والأخير فهو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وقد أرسل إلى أهل سادوم (3) وكانوا يستحلون الفاحشة، قال ابن تيمية: (ولم يذكروا بالتوحيد بخلاف سائر الأمم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين، وإنما ذنوبهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشد إذ ليس في ذلك تدين بل شر يعلمون أنه شر) (4) .
ولوط عليه الصلاة والسلام بعث في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ كان ممن آمن معه وهاجر معه وذكره كان في آخر الأنبياء مما يدل على أن الترتيب الزماني لم يكن مقصودا، فلذلك حاول بعض المفسرين استنباط الحكم في الترتيب المذكور، إضافة إلى أنه لم يراع فيه الفضل والدرجة، مع أنه من المتفق عليه أن الواو لا توجب الترتيب.
فكان مما قالوا: أن الله خص كل طائفة من طوائف الأنبياء
__________
(1) ينظر البداية والنهاية، ابن كثير، 1\ 216 - 219.
(2) الطبقات الكبرى، ابن سعد 1 \ 55.
(3) سدوم مدينة تقع في جنوب البحر الميت، قاموس الكتاب المقدس 461.
(4) النبوات: ابن تيمية ص 27.(68/205)
بنوع من الإكرام والفضل، فمن ذلك الملك والسلطان والقدرة وقد أعطي داود وسليمان من هذا نصيبا عظيما، ثم من شابههما من ذلك فصبر واغتنى فشكر، ثم ذكر من سلطهما على الملوك وهما موسى وهارون، ثم من سلط الملوك عليهما وهما زكريا ويحيى، ثم من عاندهما الملوك ولم يسلطوا عليهما وهما عيسى وإلياس، ثم أتبعهم بمن لم يكن بينهم وبين الملوك أمر وهم إسماعيل وإليسع وهما ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب، ثم من هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله، ثم لما انقضت ذرية إبراهيم ختمهم بابن أخيه لوط الذي أهلك الله قومه.
وقيل غير ذلك، فكل من المفسرين يشير إلى حكمة لا يذكرها الآخر (1) .
وبغض النظر عن الحكمة في ترتيبهم فإنه لا شك أن هؤلاء الرسل هم من أفضل الرسل على الإطلاق ذلك أن الرسل الذين قصهم الله في كتابه أفضل ممن لم يقصص علينا نبأهم (2) .
وفي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (3)
__________
(1) ينظر: التفسير الكبير، الرازي 13 \ 64، نظم الدرر، البقاعي 2 \ 644.
(2) تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2 \ 430.
(3) سورة الأنعام الآية 89(68/206)
تصريح بكفر مشركي قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد وكل بالإيمان بها قوما آخرين اختلف فيهم؛ فقيل: إنهم المهاجرون والأنصار، وقيل بأنهم الملائكة، وقيل: إنهم الأنبياء الذين سماهم الله في الآيات قبل هذه الآية (1) .
وإذ ورد لفظ الكفر فيحسن ذكر العلاقة بينه وبين الشرك؛ فإن نظر إلى المعنى اللغوي لكل منهما فلا شك في اختلافه، ذلك أن أصل الكفر في اللغة الستر والتغطية (2) . وأما الشرك فأصله في اللغة من الشركة وهي المخالطة (3) .
وأما في الشرع فإن الكفر والشرك يعدان من الألفاظ المترادفة، فالشرك إذا أطلق فإنه يراد به الكفر، فهو وإن كان أصله من الشرك الذي هو تشريك غير الله مع الله في العبادة فإنه يطلق أيضا على من عبد غير الله عبادة كاملة فيسمى مشركا، وكذلك من ترك عبادة الله بالكلية وجعل عبادته لغير الله فهو مشرك وإن كان أعظم كفرا وأشد شركا، وهكذا من ينكر وجود الله ويقول ليس هناك إله والحياة مادة، فهو أكفر الناس وأضلهم وأعظمهم شركا فيطلق على جميع هذه الاعتقادات شركا ويطلق عليها كفرا بالله عز وجل (4) .
__________
(1) ينظر تفسير الطبري 11 \ 514، فتح القدير، الشوكاني 2 \ 136.
(2) لسان العرب، ابن منظور مادة كفر، 5 \ 114.
(3) لسان العرب، ابن منظور مادة شرك 1 \ 448.
(4) ينظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، ابن باز 4 \ 33.(68/207)
وأما إذا اقترن هذان اللفظان فيكون الكفر (عدم الإيمان بالله ورسله؛ سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله، حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة) (1) .
وأما الشرك فكما يقول ابن تيمية (وأصل الشرك أن تعدل بالله مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئا من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به) (2) .
فهؤلاء الثمانية عشر نبيا المذكورون في هذه الآيات وبقي سبعة ممن سماهم الله تعالى في كتابه هم:
آدم عليه السلام، إدريس - عليه السلام -، هود - عليه السلام -، صالح - عليه السلام -، شعيب - عليه السلام -، ذو الكفل - عليه السلام -، محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعد ذكر الأنبياء الثمانية عشر بالاقتداء بهم، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (3) وقد قال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (4)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 12 \ 335.
(2) الاستقامة: ابن تيمية 1 \ 344.
(3) سورة الأنعام الآية 90
(4) سورة الأحقاف الآية 35(68/208)
فلذلك اختلف فيهم وهل هم أولو العزم أم لا؟ على أقوال:
فقال قوم: أولو العزم هم نجباء الرسل وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر، لقوله تعالى بعد ذكرهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (1) . وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس - عليه السلام - لعجلة كانت منه؛ ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (2)
وقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، ولم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما دخلت من للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال: اشتريت أكيسة من الخز وأردية من البز.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو المشهور.
فأولو العزم من الرسل هم أفضل الرسل، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 90
(2) سورة القلم الآية 48(68/209)
«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة (1) » .
وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (2) على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقتدى بهم بأسرهم، أي: بأن يجمع خصال العبودية والطاعة التي كانت متفرقة فيهم، فاجتمع فيه ما كان متفرقا بأسرهم، قالوا: فوجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكليتهم (3) .
فحال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل أحوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك أنه (كان عبدا رسولا مؤيدا مطاعا فأعطي فائدة كونه مطاعا متبوعا ليكون له مثل أجر من اتبعه ولينتفع به الخلق ويرحموا ويرحم بهم، ولم يختر أن يكون ملكا لئلا ينقص لما في ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال عن نصيبه في الآخرة فإن العبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك) .
ويلي محمد صلى الله عليه وسلم في الفضيلة إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم فهما خير الرسل.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، شرح النووي 15 \ 37، وفي البخاري بلفظ '' أنا سيد الناس يوم القيامة '' كتاب الأنبياء باب 3 ح 3340، الفتح 6 \ 371.
(2) سورة الأنعام الآية 90
(3) ينظر: التفسير الكبير، الرازي 13 \ 70.(68/210)
قال ابن تيمية: (والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا؛ بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما، وفي هذا ظهور برهانه وآيته وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم، وأظهره أيضا بالقدرة، وإبراهيم بعد هذا لم يقم فيهم بل هاجر وتركهم فلم يوجد في حقهم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك، ومحمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود، وقد يتوب منهم بعد ذلك من يتوب) (1) .
وأما أفضل الأنبياء بعد إبراهيم فقالوا: موسى ثم عيسى ثم نوح عليهم الصلاة والسلام (2) .
__________
(1) النبوات، ابن تيمية، ص 26.
(2) شرح جوهرة التوحيد، البيجوري ص 130.(68/211)
المبحث الثالث: إثبات النبوة بالمسلك النوعي كما ورد في الآيات
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس في الإيمان بنبوته على درجات، فمنهم من يكذب بجنس النبوة فلا يؤمن بالرسل من البشر، كما كان على ذلك قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم؛ ولهذا يقول الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (1) ويقول:
__________
(1) سورة الشعراء الآية 105(68/211)
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} (1) ويقول: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} (2) ؛ لأن تكذيبهم لم يكن لرسولهم فحسب؛ بل كانوا مكذبين لجميع الرسل، أو بعبارة أخرى مكذبين لجنس الرسالة والنبوة وهذه هي المرتبة الأولى.
ومنهم من يصدق بجنس الرسالة ويقر بنبوة الأنبياء، ولا يدري هل يبعث نبي أولا؟ وهذه هي المرتبة الثانية.
ومنهم من يقر بجنس النبوات مثل أهل الكتاب، ويعرفون أنه سيبعث نبي، ويعرفون بعض نعوته، وهذه هي المرتبة الثالثة.
فما تحتاجه كل طائفة من هؤلاء من دلائل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أنها مختلفة، ذلك أن الطائفة الأخيرة وما تحتاجه من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم أيسر إذ كانت حاجتهم هي: أن يعرفوا هل هو النبي المذكور أو غيره؟ ومن أمثلة هؤلاء هرقل الذي سأل عن صفته صلى الله عليه وسلم وصفة
__________
(1) سورة الشعراء الآية 123
(2) سورة الشعراء الآية 141(68/212)
أتباعه وما يأمر به، ويسمى ما سلكه هرقل هو إثبات النبوة بالمسلك الشخصي.
وأما المسلك النوعي فيراد به تبيين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بنبوة من قبله أي بإثبات جنس النبوة، وأن هناك أنبياء بعثهم الله إلى أقوامهم، وأن أقواما كذبوهم وأقواما صدقوهم، ويذكر عاقبة هؤلاء وهؤلاء، فيعلم بالاضطرار ثبوت وجود الأنبياء، ثم من أقر بجنس الأنبياء كان إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور (1) .
قال ابن تيمية: (طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم، كما يعرف الأطباء والفقهاء، ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه) (2) وسائر الأنبياء.
فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام، فإن أبناءه كانوا يعلمون نبوته وأحواله ويعلمون جنس ما تدعو إليه الرسل، وقد استدل النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة، كان ممن حسن إسلامه ولم يهاجر ولا له رؤية فهو تابعي من وجه، صاحب من وجه، توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه صلاة الغائب وذلك سنة تسع من الهجرة، ينظر: سير أعلام النبلاء 1 \ 428، الإصابة 1 \ 177. على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بمجيء
__________
(1) ينظر النبوات، ابن تيمية، ص 23، 24.
(2) النبوات، ابن تيمية ص 23.(68/213)
النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما جاءت به الأنبياء قبله، فإنه لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوه عليه قال: - إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فكان عنده علم بما جاء به موسى واعتبر به ولولا ذلك لم يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويلحظ كثرة ورود قصص الأنبياء في السورة المكية، والحكمة من ذلك: إثبات وجود جنس الأنبياء ابتداء وإثبات سعادة من اتبعهم وشقاء من خالفهم، ثم تكون نبوة عين هذا النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة؛ لأن الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء.
فمن أقر بجنس الأنبياء كان إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور، وأما إنكار أهل الكتاب فكان لعنادهم وحسدهم فجميع ما ذكر من قصص الأنبياء في القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى؛ ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية، ولا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين واليهود والنصارى إلا رجحت دين المسلمين (1) .
__________
(1) النبوات، ابن تيمية ص 23، 24.(68/214)
وجاء بيان حكم من أنكر النبوة في نظم غاية في الحسن، وذلك بعد أن ذكر الله تعالى في سورة الأنعام محاجة إبراهيم لقومه وذكر الأنبياء ثم قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (1) أي ما عظم الله حق تعظيمه ولا عرفه حق معرفته، من أنكر النبوة ونفى الرسالة من المشركين وغيرهم.
ذلك أن منكر الرسالة إما أن يقول: إنه تعالى ما كلف أحدا من الخلق تكليفا أصلا، أو يقول: إنه كلفهم التكاليف، والأول باطل؛ لأنه يقتضي إباحة جميع المنكرات والقبائح، وإن قال بل كلفهم؛ فلا بد من مبلغ وشارع ومبين وما هو إلا الرسول.
كذلك إنكار الرسالة والنبوة طعن في الله فقد ثبت حدوث العالم، وحدوثه يدل على أن إله العالم قادر حكيم عليم، والخلق كلهم عبيده، وهو مالك لهم على الإطلاق، وملك لهم على الإطلاق، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر تكليف على عباده، وأن يكون له وعد على الطاعة ووعيد على المعصية، وذلك لا يتم إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكا مطاعا، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2) التفسير الكبير، الرازي 13 \ 74.(68/215)
فبعثة الرسل من أعظم نعم الله، ونقض الله تعالى في هذه الآيات دعوى المنكرين بإنزال التوراة العظيمة، وهو الكتاب الذي شاع ذكره حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس ويتصرفون فيه بما شاءوا، أي اليهود، وفي قوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (1) قراءتان بالتاء وبالياء (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا) فعلى قراءة الياء يكون القائلون ما أنزل الله على بشر من شيء هم مشركي قريش، وقصدهم من ذلك إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واحتجاجه عليهم تعالى بالتوراة؛ لأنه شاع ذكرها وليس المراد مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن (2) ، والقائلون بأن قائل هذا مشركو قريش هم: ابن عباس ومجاهد وغيرهما واختاره الطبري وابن كثير (3) .
وقيل: بل القائل: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (4) هو رجل من اليهود اختلف في اسمه، ويشهد لهذا القول قراءة التاء، وهم إنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بسوء صنيعهم بالتوراة، وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض ما انتخبوه وكتبوه في أوقات متفرقة، وإخفاء بعض مثل ما أخفوه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2) ينظر: تفسير أبي السعود 3 \ 160، الكشاف، الزمخشري 2 \ 34.
(3) ينظر تفسير الطبري 11 \ 523، تفسير القرطبي 7 \ 36، تفسير ابن كثير 2 \ 161.
(4) سورة الأنعام الآية 91
(5) ينظر الكشاف، الزمخشري 2 \ 34، تفسير البيضاوي 4 \ 93.(68/216)
ثم أكد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (1)
أي أن الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم يوافق ما قبله من الكتب المنزلة في نفي الشرك وإثبات التوحيد، فكيف يقال ما أنزل الله على بشر من شيء، بل أنزل التوراة وأنزل القرآن (2) .
وقد قال النجاشي لما سمع القرآن: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى (3) - كما سبق - ذلك أنه موافق لها في الأصول العامة.
ثم بين الله تعالى صدق الأنبياء إذ كيف يقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، وهذا يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام (4) ، وبين أن أعظم الافتراء عليه دعوى النبوة والرسالة كذبا، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (5)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 92
(2) ينظر تفسير القرطبي 7 \ 37، تفسير أبي السعود 3 \ 160، فتح القدير، الشوكاني 2 \ 139.
(3) السيرة النبوية، ابن كثير، 2 \ 21.
(4) فتح القدير، الشوكاني 2 \ 139.
(5) سورة الأنعام الآية 93(68/217)
أي لا أحد أعظم ظلما ولا أكبر جرما ممن كذب على الله، فنسب إليه قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، ويدخل في ذلك ادعاء النبوة وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله وجرأته على عظمته وسلطانه، يوجب على الخلق أن يتبعوه ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم (1) .
فلا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب في شيء من الأشياء {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (2) وقد صان الله أنبياءه عن الكذب وعما يفتريه عليهم المفترون وإنما هذا شأن الكذابين، وهؤلاء الذين يفترون على الله الكذب نوعان وهم من جنس واحد، ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) ولم يقل: أو قال ذلك أن الذي يقول هذا القول لا يدعي أنه رسول، إنما يدعي المعارضة ويزعم أن في إمكانه أن يأتي بمثل القرآن (4) .
فذكر هنا المدعون لشبه النبوة، وقد تقدم قبلهم ذكر المكذب للنبوة، فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2 \ 434.
(2) سورة الأنعام الآية 93
(3) سورة الأنعام الآية 93
(4) ينظر النبوات، ابن تيمية 229، تيسير الكريم الرحمن، السعدي 2 \ 434.(68/218)
مضاهاتهم.
وقال الرازي في الفرق بين من {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (1) وبين من قال {أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} (2) : أن الأول يدعي أنه أوحي إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا جمعا بين نوعين عظيمين من الكذب وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود (3) .
وروى الطبري في تفسيره عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وفي عبد الله بن أبي سرح.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 93
(2) سورة الأنعام الآية 93
(3) التفسير الكبير، الرازي 13 \ 83.(68/219)
وقال غيره: بل نزل ذلك في ابن أبي سرح خاصة. ثم قال: ودخل في هذه الآية كل من كان مختلقا على الله كذبا وقائلا في ذلك الزمان أو غيره: أوحى الله إلي، وهو في قوله كاذب، فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون منزل بسبب بعضهم، وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم، وجائز أن يكون عني به جميع المشركين من العرب (1) .
ثم أشار رحمه الله إلى تناقض أقوالهم وكيف يقول القائل: منهم أوحى الله إلي، ويقول: ما أنزل على بشر من شيء، فيكذب بالذي تحققه وينفي الذي يثبته.
ففي هذه الآيات أثبت الله تعالى وجود نوع الأنبياء ابتداء، ثم استدل بذلك على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء ذلك في مواضع كثيرة، وأمر بسؤال أهل الكتاب؛ ذلك أن العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2) بل قد تقدم له نظراء وأمثال.
وأما من جاءهم رسول ما يعرفون قبله رسول مثل قوم نوح
__________
(1) تفسير الطبري 11 \ 534 - 536.
(2) سورة الأحقاف الآية 9(68/220)
وإبراهيم فهذا بمنزلة ما يبتدئه الله من الأمور، فهذا يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر، فلذلك يضيف الله الأمر إلى نوح وإبراهيم عليهما السلام كما في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} (1) الآية. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2) وذلك أن نوحا وإبراهيم أرسلا إلى كفار لا نبوة لهم (3) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 26
(2) سورة آل عمران الآية 33
(3) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية ج 15 ص 30، ج 4 ص 86، النبوات، ابن تيمية ص 14 - 19.(68/221)
المبحث الرابع: عموم دعوته صلى الله عليه وسلم
جاءت الإشارة إلى عموم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (1) وأم القرى هي مكة ومن حولها أي أهل المشرق والمغرب بل وأهل الأرض كلها.
وذكرت مكة (باسمها المنبئ عن كونها أعظم القرى شأنا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 92(68/221)
وقبلة لأهلها قاطبة إيذانا بأن إنذار أهلها أصل مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة) (1) . وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس قوله: يعني بأم القرى مكة ومن حولها الأرض كلها (2) .
ومما جاء في السنة ويؤكد على ما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (3) » .
قال النووي: أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما؛ وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى (4) .
__________
(1) تفسير أبي السعود 3 \ 162.
(2) تفسير الطبري 11 \ 531.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، شرح النووي 2 \ 186.
(4) شرح مسلم للنووي، 2 \ 188.(68/222)
وعموم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مما اختص به صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي (1) » وذكر منها «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (2) » .
وذكر ابن حجر عند شرحه للحديث أنه لا يعارض هذا بأن نوحا عليه السلام كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان مرسلا إليهم، وأجاب بعدة أجوبة منها:
أن العموم لم يكن في أصل بعثته وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين معه المؤمنين به بعد هلاك سائر الناس، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.
أو أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح فبعثته خاصة؛ لكونها إلى قومه فقط وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم (3) .
قال: (ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(2) صحيح البخاري، كتاب التيمم (ج 335) ، الفتح 1 \ 436.
(3) ينظر فتح الباري، ابن حجر، 1 \ 436.(68/223)
يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته) (1) .
فعموم دعوته دليل على ختم النبوة به وإن كان ختم النبوة به قد جاء في أدلة أخرى منها قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (2)
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (3) » .
ومن العلامات التي كان أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بها، خاتم النبوة وهو بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم (4) ، وكان أهل الكتاب يسألون عنه ويطلبون الوقوف عليه.
قال العلماء في حكمة وجوده بين كتفيه أو على نصف كتفه الأيسر: هو على جهة الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم لما ملئ قلبه من الإيمان والأنوار وجمع له أجزاء النبوة وحواشيها، ختم عليه كما
__________
(1) ينظر فتح الباري، ابن حجر، 1 \ 436.
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب 18 ح 3535، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين شرح النووي 15 \ 51.
(4) ينظر في صفته: بشرح مسلم، النووي، 15 \ 97، عارضة الأحوذي 13 \ 106، فتح الباري 6 \ 561.(68/224)
يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم؛ لأن الشيء المختوم محروس، كما بين لنا أنا إذا وجدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصم فيما بين الآدميين، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما يطمئن له القلب (1) .
ومعنى ختم النبوة بنبوته صلى الله عليه وسلم أنه لا تبدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشريعته، وأما نزول عيسى عليه السلام وكونه متصفا بنبوته السابقة فلا ينافي ذلك أن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم دون شريعته المتقدمة؛ لأنها منسوخة (2) .
وقد سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء دلت على عموم رسالته وختم النبوة به، فمن تلك الأسماء ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب (3) » .
فأول الأسماء الدالة على ذلك: الماحي، وفسر بالحديث بأنه
__________
(1) لوامع الأنوار، السفاريني 2 \ 269.
(2) لوامع الأنوار، السفاريني 2 \ 277، وينظر أصول الدين، البغدادي، ص 159.
(3) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب 17، ح 3532، الفتح 6 \ 554، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب أسمائه صلى الله عليه وسلم، شرح النووي 15 \ 104.(68/225)
الذي محا الله به الكفر (ولم يمح الكفر بأحد من الخلق كما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين: عباد أوثان، ويهود ومغضوب عليهم، ونصارى ضالين، وصائبة دهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب، وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، فمحا الله سبحانه برسوله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى ظهر دين الله على كل دين (1) .
وذكر القاضي عياض وغيره أنه يراد بالمحو: إما محو الكفر من مكة وبلاد العرب وما زوي له من الأرض، ووعد أنه يبلغه ملك أمته، أو يكون المحو عاما بمعنى الظهور والغلبة كما قال الله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (2) أو كما ورد تفسيره في الحديث (أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه) وإذا محي الكفر به فلا يحتاج بعده إلى رسول.
كذلك من أسمائه الدالة على ختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة: الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه وقدمه قال العلماء: معناه
__________
(1) زاد المعاد، ابن القيم 1 \ 86، وينظر دلائل النبوة، البيهقي 1 \ 151.
(2) سورة التوبة الآية 33(68/226)
يحشرون على أثري وزمان نبوتي ورسالتي وليس بعدي نبي (1) .
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم: العاقب الذي ليس بعده نبي، كما جاء تفسيره في الحديث السابق فالعاقب: (هو الآخر فهو. بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإطلاق، أي عقب الأنبياء جاء بعقبهم) (2) .
وقال البيهقي: العاقب يعني الخاتم (3) .
والمخالفون في هذا الباب هم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مع معرفتهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو الحق ولكنهم خسروا أنفسهم وأهلكوها وألقوها في نار جهنم بإنكارهم محمدا صلى الله عليه وسلم أنه لله رسول وهم بحقيقة ذلك عارفون فوقعوا بما وقعوا فيه بسبب بعدهم عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم.
وهم بفعلهم هذا كانوا أظلم الخلق؛ لذلك قال الله تعالى:
__________
(1) الشفا القاضي عياض، 1 \ 447، شرح مسلم النووي، 15 \ 105.
(2) زاد المعاد، ابن القيم 1 \ 86.
(3) دلائل النبوة، البيهقي 1 \ 154.(68/227)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} (1) كما فعل أهل الكتاب {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (2) أي لا يفلح القائلون على الله الباطل، والمفترون عليه الكذب، والجاحدون بنبوة أنبيائه (3) .
وأهل الكتاب في إنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على أقسام، فمنهم من ينكر نبوته أصلا ومنهم من يثبتها ويزعم أنه رسول إلى العرب خاصة، وأما هم فلهم شريعتهم الخاصة بهم.
وقد ذكر ابن تيمية أنه بنفي رسالته صلى الله عليه وسلم وإنكارها يلزم نفي جميع الرسالات السابقة، فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، مع التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أن (الدلائل الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى عليهما السلام، ومعجزاته أعظم وأكثر من معجزات غيره، والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره، والشريعة التي جاءت به أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، وأمته أكمل في جميع الفضائل) (4) .
فالطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى عليهم السلام
__________
(1) سورة الأنعام الآية 21
(2) سورة الأنعام الآية 21
(3) تفسير الطبري 11 \ 294، فتح القدير، 2 \ 105، نظم الدرر، البقاعي، 2 \ 618.
(4) الجواب الصحيح، ابن تيمية 1 \ 168، وينظر أصول الدين، البغدادي، 160.(68/228)
يعلم به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، فحكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه (1) . وأما الذين يثبتون رسالته وإنها إلى العرب خاصة، فيرد عليهم بأن كل من أرسله الله لا بد أن يكون صادقا فيما يبلغه عن الله فمقصود الرسالة لا يحصل بدون ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر أنه أرسل إلى اليهود والنصارى، بل إلى بني آدم كلهم عربهم وعجمهم، بل إلى الثقلين، وهذا من الأمور المتواترة عنه فدعاهم وأمر بجهادهم وهذا من المعلوم بالضرورة.
فالإقرار برسالته إلى العرب ودون غيرهم مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق قول متناقض ظاهر الفساد، فمن اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق.
__________
(1) ينظر: الجواب الصحيح، ابن تيمية 1 \ 175 ينظر إعلام النبوة، الماوردي، 71.(68/229)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيد المخلوقات وعلى آله وأتباعه على يوم الدين، وبعد، فقد كان أهم ما تضمنه البحث ما يلي:
1 - أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ممن أجمع على قبوله من الأمم(68/229)
فلذا كثر ورود قصته في القرآن الكريم.
2 - ورد خلاف في اسم والد إبراهيم أهو آزر أم تارح؟ والراجح هو الاسم الوارد في القرآن وهو آزر.
3 - أن قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانوا من الوثنيين الذين يعظمون الكواكب، فلذلك كانت مناظرته صلى الله عليه وسلم لهم في الكواكب.
4 - أن قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم عن الكواكب الثلاثة (هذا ربي) إنما هو على سبيل المناظرة، وقالها تبكيتا لقومه، وهذا هو الراجح من أقوال العلماء وهو الذي دلت عليه الآيات.
5 - أن الظلم المنفي في الآيات هو الشرك، وهذا ما جاء في الحديث.
6 - أن عدد الأنبياء لم يثبت في حديث صحيح لذا فإن الأسلم الإمساك عن تحديد عددهم، والإيمان إجمالا أن الله قد بعث لكل أمة من الأمم رسولا.
7 - كان من أعظم الأجر الذي أوتيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدنيا أن كان الأنبياء من ذريته، وذكر في الآيات أسماء ثمانية عشر نبيا، قيل: فيهم إنهم هم أولو العزم من الرسل، على أن القول المشهور أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين هو الأرجح.(68/230)
8 - يراد بالمسلك النوعي إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإثبات جنس النبوة وأن هناك أنبياء بعثهم الله من قبله، ثم يكون إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم ظاهرة؛ لأن ما جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء.
9 - أن مما خص به محمد صلى الله عليه وسلم عموم دعوته للخلق كافة فلم تكن دعوته صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه مثل الأنبياء السابقين بل هي لكل الخلق من الإنس والجن إلى قيام الساعة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون.(68/231)
صفحة فارغة(68/232)
حجية خبر الآحاد في العقيدة والرد على من أنكر ذلك
للدكتور \ عبد الله بن سليمان الغفيلي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، قسم العقيدة.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(68/233)
أما بعد:
فإن من الانحراف في منهج الاستدلال على مسائل العقيدة ما أحدثه علماء الكلام قديما من رد خبر الواحد وعدم العمل به مما ترتب عليه رد كثير من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في مسائل الشرع كلها، فأحببت أن أدلي بدلوي مع الدلاء في هذا الموضوع وأبين فيه معتقد أهل السنة والجماعة سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -، في هذه المسألة الخطيرة التي ما زال بعض المعاصرين ممن سار على نهج أهل الكلام - يرددها ويسير عليها، وأن أرد على دعواهم، وأنقض أدلتهم، فاستعنت بالله عز وجل ورتبت هذا البحث الترتيب التالي:
تمهيد: ويشتمل على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفته.
المبحث الأول: تعريف الآحاد والمتواتر لغة واصطلاحا.(68/234)
المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الأخذ بخبر الواحد والعمل به.
المبحث الثالث: عمل السلف بخبر الواحد والأخذ به.
المبحث الرابع: الرد على من أنكر حجة خبر الآحاد في العقيدة.
المبحث الخامس: الآثار السيئة المترتبة على عدم الأخذ بخبر الواحد في العقيدة.
هذا، وقد قمت في هذا البحث بعزو الآيات القرآنية وتخريج الأحاديث النبوية والترجمة للأعلام والتعريف بالفرق والمصطلحات ثم أعقبت ذلك بخاتمة تشتمل على أهم نتائج البحث، وختمت ذلك بفهرس للمصادر والمراجع وآخر للموضوعات.
وفي الختام أسأل المولى تبارك وتعالى أن ينفع بهذا البحث وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/335)
تمهيد:
وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفته:
فرض الله سبحانه وتعالى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق، وجعل طاعته سبحانه وتعالى طاعة للرسول صلى(68/335)
الله عليه وسلم وذلك أن التصديق الجازم بالرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي التسليم المطلق والتام لما جاء به ويستلزم طاعته فيما بلغه عن الله تعالى، وهذا من أعظم لوازم محبته والإيمان به صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت نصوص كثيرة في القرآن والسنة توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحذر من معصيته ومخالفة أمره عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 32
(4) سورة النساء الآية 80
(5) سورة الحشر الآية 7(68/236)
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه فلا يذكر إلا ذكر معه) (3) .
ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله (4) » الحديث.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (5) » .
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النساء الآية 14
(3) مجموع الفتاوى (19 \ 103) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأحكام (8 \ 104) ، ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة (3 \ 1465) .
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(68/237)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق (1) » .
فهذه الآيات والأحاديث توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وذلك بفعل ما أمر به وتجنب ما نهى عنه، وتبين أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مفتاح الجنة وسبيل النجاة فلا فلاح ولا سعادة ولا نجاة للعبد إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أطاعه فيما جاء به من الحق المبين فقد نجا وزحزح نفسه من النار، ومن أبى وتكبر وعصى ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به فقد خسر خسرانا مبينا، وعرض نفسه لعذاب الله عز وجل، فإنه ما من خير يوصل إلى الجنة إلا ودلنا عليه، وما من شر يوصل إلى النار إلا وحذرنا منه عليه الصلاة والسلام.
فيجب على كل مسلم طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه واقتفاء أثره والسير على هديه، وعدم مخالفة أمره ونهيه، كما قال
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4 \ 1789) .(68/238)
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1)
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2)
فعبادة الله وطاعته لم تترك للأهواء والأفكار بل هي مقيدة باتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه لأمته وهذا هو مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله.
وقد رتب الله سبحانه وتعالى على اتباعه والاقتداء بسننه الاهتداء والمغفرة وجعله علامة على صدق المحبة لله تعالى قال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) ولما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه أنزل آية المحبة وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (5)
والمتأمل في حال كثير من المسلمين اليوم يرى أنهم تركوا الاتباع والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت السنة عندهم أمرا مستغربا لجهلهم وبعدهم عنها واستبدلوا بذلك البدع
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة آل عمران الآية 31
(5) سورة آل عمران الآية 32(68/239)
التي لا أصل لها ولا دليل عليها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فاتخذوه دينا يدينون به فانعكست بذلك الموازين لديهم فأصبحوا يرون الحق باطلا والباطل حقا، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، وما ذلك إلا لكونهم لم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه بسبب ما هم عليه من قلة العلم وعدم معرفتهم بالسنة حتى وصل الحال إلى الوقوع في الشرك كما هو مشاهد في كثير من بلاد المسلمين، وذلك بصرف ما هو حق لله سبحانه وتعالى لأصحاب القبور وإشراكهم مع الله فيما لا يستحقه ولا يقدر عليه إلا الله، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله أبدا، وقد حث العلماء رحمهم الله على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه والعمل بسنته.
وقال الإمام الآجري - رحمه الله -: (ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء قد ثبت عند العلماء، فعارض إنسان جاهل فقال: لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله عز وجل، قيل له: أنت رجل سوء وأنت ممن حذرناك النبي صلى الله عليه وسلم وحذرنا منك العلماء، وقيل له: يا جاهل: إن الله عز وجل أنزل فرائضه جملة، وقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم(68/240)
أن يبين للناس ما أنزل إليه، قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1)
فأقام الله عز وجل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم مقام البيان عنه، وأمر الخلق بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وأمرهم بالانتهاء عما نهاهم عنه، وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) (3) .
وقال القاضي عياض: (فجعل تعالى طاعة رسوله طاعته، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه، قال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول في التزام سنته، والتسليم لما جاء به، وقالوا: ما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسل إليه، وقالوا: من يطع الرسول في سنته يطع الله في فرائضه، وسئل سهل بن عبد الله عن شرائع الإسلام فقال:
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) الشريعة للآجري ص 49.(68/241)
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) يقال: أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سننه، وقيل: أطيعوا الله فيما حرم عليكم والرسول فيما بلغكم، ويقال: أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية، والنبي بالشهادة له بالنبوة (2) .
ويقول العلامة ابن القيم: " وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3)
فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول " (4) .
وقال ابن أبي العز الحنفي: " فالواجب اتباع المرسلين
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) الشفا (2 \ 6)
(3) سورة النساء الآية 59
(4) إعلام الموقعين (1 \ 48)(68/242)
واتباع ما أنزله الله عليهم، وقد ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأنبياء، وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين، الجن والإنس، باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت به حجة العباد على الله، وقد بين الله به كل شيء، وأكمل له ولأمته الدين خبرا وأمرا، وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول، وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحسانا وتوفيقا " (1) .
فالواجب على كل مسلم الطاعة التامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بكل ما جاء به والبعد عن مخالفته، وبهذا يحصل الفوز بالجنة والنجاة من النار.
__________
(1) شرح العقيد الطحاوية ص (70، 71)(68/243)
المبحث الأول: تعريف الآحاد والمتواتر وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بخبر الآحاد.
أ - تعريف الآحاد لغة:
الآحاد جمع أحد، كبطل وأبطال وحجر وأحجار، وهمزة أحد مبدلة من واو الواحد، وأصل آحاد أأحاد بهمزتين، أبدلت الثانية ألفا كآدم.
ويجمع الواحد على أحدان، والأصل وحدان (1) .
ب: تعريف الآحاد اصطلاحا:
عرف الغزالي خبر الواحد بقوله: " ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم " (2) ، وعرفه الآمدي بقوله: " خبر الواحد ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر " (3) .
__________
(1) انظر: لسان العرب (3 \ 447، 448) ، والقاموس المحيط (1 \ 83)
(2) المستصفى (2 \ 79)
(3) الإحكام في أصول الأحكام (2 \ 31)(68/244)
وعرفه الحافظ ابن حجر بقوله: " ما لم يجمع شروط التواتر " (1) .
__________
(1) نزهة النظر ص (26)(68/245)
المطلب الثاني: تعريف المتواتر
أ - تعريف المتواتر لغة:
المتواتر لغة: اسم فاعل من التواتر وهو التتابع.
وهو عبارة عن تتابع أشياء واحدا بعد واحد بينهما مهلة.
وهو مأخوذ من الوتر، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} (1) أي: واحدا بعد واحد (2) .
ب - تعريف المتواتر اصطلاحا:
عرفه الآمدي بقوله: " عبارة عن خبر مفيد بنفسه العلم بمخبره " (3) .
وعرفه ابن النجار بقوله: " خبر عدد يمتنع معه - لكثرته - تواطؤ على كذب، عن محسوس " (4) .
وعرفه الحافظ الخطيب البغدادي بقوله: " فأما الخبر المتواتر،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 44
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة (1 \ 84) ، النهاية في غريب الحديث (1 \ 181) ، لسان العرب (5 \ 275)
(3) الإحكام في أصول الأحكام (2 \ 15)
(4) شرح الكوكب المنير (2 \ 324)(68/245)
فهو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدا يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة، أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وإن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة (1) . وقال ابن الصلاح: إن (أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في روايتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرارية هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه) (2) .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص (50) .
(2) علوم الحديث لابن الصلاح ص 241.(68/246)
ولعل ما ذكره ابن الصلاح من عدم ذكر أهل الحديث لتعريفه الخاص بالقدماء منهم؛ لأن متأخريهم يعرفونه مع تعريف أهل الأصول وإن لم يفصلوا فيه القول مثل أهل الأصول.
يقول النووي: " ومنه المتواتر المعروف في الفقه وأصوله، ولا يذكره المحدثون وهو قليل لا يكاد يوجد في رواياتهم، وهو ما نقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة عن مثلهم من أوله إلى آخره " (1) .
وعرفه الحافظ ابن حجر بأنه: " الخبر الذي جمع أربع شروط وهي:
- عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب.
- رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.
- وكان مستند انتهائهم الحس.
- وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسماعه (2) .
ج - الإجماع على قطعية الخبر المتواتر:
أجمعت الأمة على إفادة الخبر المتواتر العلم القطعي، يقول ابن
__________
(1) أنظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النووي (2 \ 276) .
(2) نزهة النظر ص 21.(68/247)
حزم - رحمه الله تعالى - " الخبر المتواتر: وهو ما نقلته الكافة بعد الكافة حتى تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه مقطوع على مغيبه لأنه بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم (1) .
ويقول أبو البركات: " الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي وهو قبول كافة أهل العلم (2) .
ويقول ابن قدامة: " فالتواتر يفيد العلم ويجب تصديقه وإن
__________
(1) أحكام الإحكام لابن حزم (1 \ 116، 117)
(2) المسودة في أصول الفقه ص (233) .(68/248)
لم يدل عليه دليل آخر (1) .
ويقول ابن النجار: " وكون خبر التواتر مفيدا للعلم هو قول أئمة المسلمين " (2) .
__________
(1) روضة الناظر مع شرحها (1 \ 244) .
(2) شرح الكوكب المنير 2 \ 326.(68/249)
المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الأخذ بخبر الواحد:
دلت أدلة كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب الأخذ بخبر الواحد والعمل به، من ذلك:
أولا - قول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1)
فهذه الآية تحث المؤمنين على التفقه في الدين، وقد أمر الله تعالى الطائفة النافرة بالتفقه في الدين، ثم إنذار القوم وتخويفهم، وهذا في الأصل إنما يكون لترك واجب، أو فعل محرم، ثم بين الغاية من هذا الإنذار، وهو: حذر القوم مما أنذروا به.
ومعلوم أن الطائفة قد تطلق على الواحد فما فوق، كما قال تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 122
(2) سورة التوبة الآية 66(68/249)
قال محمد بن كعب: طائفة: رجل.
قال الإمام البخاري: ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1) فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية (2) .
وعلى هذا فقد أمر الله تعالى القوم بالحذر من إنذار الواحد والعمل بما يقوله لهم.
ثانيا: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (3) وفي قراءة " فتثبتوا " من التثبت (4) ، وهذا يدل على الجزم والقطع بقبول خبر الواحد الثقة، وأنه لا يحتاج إلى التثبت لعدم دخوله في الفاسق، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمره بالتثبت مطلقا حتى يحصل العلم.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) صحيح البخاري، كتاب أخبار الآحاد (8 \ 132)
(3) سورة الحجرات الآية 6
(4) انظر تفسير الشوكاني 5 \ 60.(68/250)
يقول ابن القيم - رحمه الله -: " وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمره بالتثبت حتى يحصل العلم، ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا، وأمر بكذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة، وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثيرة من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم (1) .
ثالثا: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) قال ابن القيم: " أجمع المسلمون أن الرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وهو الرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته، فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه " (3) .
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة (2 \ 394، 395) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (2 \ 353) .(68/251)
رابعا: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ له من سامع (1) » .
فهذا الحديث عام يتناول كل الأعمال والأحكام الاعتقادية وغيرها، ولو لم يكن الإيمان بما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم من عقائد بأخبار الآحاد واجبا لما كان لهذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ حديثه مطلقا معنى، بل ليبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك مقصورا على أحاديث الأعمال دون غيرها.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعد استدلاله بهذا الحديث " فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمره يؤديها، والأمور واحدة، دل على أنه لا يؤمر أن يؤدي عنها إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا (2) .
خامسا: ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1 \ 437) والترمذي في سننه: كتاب العلم (4 \ 141) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وانظر كتاب دراسة حديث '' نضر امرأ سمع مقالتي '' لفضيلة شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد - حفظه الله -.
(2) الرسالة للشافعي ص (175) .(68/252)
بالدعاء إلى الإسلام، وتبليغ الأخبار والأحكام، وفصل الخصومات، وقبض الزكوات، ونحو ذلك، ولو لم يكن خبر هؤلاء الآحاد مما تقوم به الحجة، ويحصل به البلاغ، ويجب به العمل، لم يكن في بعثهم فائدة، ولما أمضى النبي صلى الله عليه وسلم أحكامهم وأخبارهم ولما نفذ أمورا بمقتضى كلامهم.
ومما حصل من ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث أبا بكر أميرا على الحاج (1) وبعث عليا قاضيا إلى اليمن (2) ، وبعث معاذا إلى اليمن داعيا للإسلام وجابيا للصدقات (3) ، وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة (4) ، وأمر مناديا بتحريم الخمر (5) ، وتحريم صيام أيام منى (6) ، وغير ذلك.
ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5 \ 115) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5 \ 110) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة (2 \ 136) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار (4 \ 263) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة (6 \ 241 - 242) وكتاب أخبار الآحاد (8 \ 134) .
(6) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2 \ 800) .(68/253)
العسيف (1) أنه قال: «واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها (3) » . فاعترفت فرجمها.
وقد اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد، وقتل نفس مسلمة (4) .
سادسا: ما تواتر واشتهر في عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر، وقد حكى إجماعهم على ذلك غير واحد من العلماء.
ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر، قال: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة " (5) .
__________
(1) العسيف: الأجير. النهاية (3 \ 237) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد (8 \ 135) ، ومسلم في كتاب الحدود (3 \ 1324، 1325) . واللفظ له
(3) أنيس بن أبي يحيى الأسلمي، أحد الصحابة (2)
(4) انظر: أخبار الآحاد للشيخ ابن جبرين ص (123) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد (8 \ 133، 134) ، ومسلم في كتاب المساجد (1 \ 375) .(68/254)
يقول ابن القيم - رحمه الله -: " إن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره، وتركوا الجهة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد علم وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترن بقرينة، وكثير منهم يقول: لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها، وهذا في غاية المكابرة، ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرن بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها (1) .
وقد عمل أبو بكر رضي الله عنه بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة.
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة (2 \ 394) .(68/255)
وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس (1) .
وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها.
ورجع جماعة من الصحابة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد (2) .
كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابا من فضيخ (3) - وهو التمر - فجاءهم آت فقال أن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها قال أنس: فقمت إلى مهراس: لنا فضربتها بأسفلها حتى
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجزية والموادعة، (4 \ 62) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أخبار الآحاد 8 \ 134
(3) الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ، أي المشدوخ، النهاية لابن الأثير (3 \ 453) .(68/256)
انكسرت (1) .
فهذه الأخبار والوقائع وغيرها مما لم أذكره تبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتفون بخبر الواحد في أمور دينهم سواء ما كان منها اعتقادية أو عملية.
وعلى هذا فالقول بأن أحاديث الآحاد لا تثبت بها عقيدة قول مبتدع محدث لا أصل له في الدين ولم يقل به واحد من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم ولم ينقل عن أحد منهم بل ولا خطر لهم على بال ولو وجد دليل قطعي يدل على أن الآحاد لا تثبت بها عقيدة لعلمت الصحابة وصرحوا به، وكذلك من بعدهم من السلف الصالح ثم إن هذا القول المبتدع يتضمن عقيدة تستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالذين لا يأخذون بخبر الواحد في العقيدة يلزمهم أن يردوا كثيرا من العقائد التي ثبتت بأحاديث الآحاد.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أخبار الآحاد (8 \ 134) .(68/257)
المبحث الثالث: عمل السلف بخبر الواحد والأخذ به في العقيدة
ذهب الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء(68/257)
والمتكلمين إلى القول بالتعبد والعمل بخبر الواحد.
وقد حكى القاضي أبو يعلى إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد (1) .
يقو الشافعي - رحمه الله تعالى -: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد (2) .
ويقول الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: " أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار - فيما علمت - على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء، في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا " (3) .
ويقول - رحمه الله تعالى -: أيضا " ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه، إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه " (4) .
__________
(1) انظر العدة (3 \ 865) .
(2) الرسالة ص (197) .
(3) التمهيد لابن عبد البر (1 \ 2) .
(4) جامع بيان العلم وفضله (2 \ 96) .(68/258)
ويقول الخطيب البغدادي: " وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعترض عليه فثبت أن دين جميعهم وجوبه، إذا لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه والله أعلم " (1) .
وجاء في شرح الكوكب المنير: " يعمل بآحاد الأحاديث في أصول الديانات، وحكى ذلك ابن عبد البر إجماعا " (2) .
ويقول ابن حزم: " قال أبو سليمان والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا وبهذا نقول " (3) .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص (31) .
(2) شرح الكوكب المنير (2 \ 352) ، وانظر: لوامع الأنوار البهية (1 \ 19) .
(3) الإحكام في أصول الأحكام (1 \ 115، 116) .(68/259)
وقال أبو المظفر السمعاني: " إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأئمة بالقبول، فإنه يوجب العلم فيما سبيل العلم، هذا قول عامة أهل الحديث، والمتقنين من القائلين على السنة ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات ". ثم نقل عن القاضي أبي يعلى: ما يؤيد كلامه (1) .
ويقول العلامة صديق حسن خان - رحمه الله -: " والضرب الآخر من السنة خبر الآحاد، ورواية الثقات الأثبات بالسند المتصل والصحيح والحسن، فهذا يوجب العمل عند جماعة من علماء الأمة
__________
(1) المسودة ص (248) .(68/260)
وسلفها الذين هم القدوة في الدين والحجة والأسوة في الشرع المبين ومنهم من قال يوجب العلم والعمل جميعا وهو الحق وعلى درج سلف الأمة وأئمتها " (1) .
فأهل السنة والجماعة كما يرون الأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة في الأحكام الفقهية فإنهم يرون الأخذ بها كذلك في العقائد، لأنها تفيد العلم، وعلى فرض أنها لم تفد العلم القاطع فهي تفيد - على الأقل - الظن الغالب وما كان كذلك فإنه يؤخذ به في أحكام الشريعة.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: " إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين، فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها، كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها. . . ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعيهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته. . . . " (2) .
فمن أفاده الدليل العلم القاطع وجب عليه الأخذ به وتيقن دلالته، ومن أفاده الظن الغالب لم يجز له أن يترك هذا الظن الغالب لعجزه
__________
(1) الدين الخالص (3 \ 284) .
(2) مختصر الصواعق (2 \ 412) .(68/261)
عن تمام اليقين (1) .
فالواجب الأخذ بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي مجال، واعتقاد موجبه، والعمل به، وذلك لأن أخبار الآحاد الصحيحة قد مضى اتفاق الأئمة على نقلها، وروايتها، وتخريجها في الصحاح والمسانيد، وتدوينها في الدواوين، وحكم الحفاظ المتقنين عليها بالصحة، وعلى رواتها بالإتقان والعدالة، فطرحها مخالف للإجماع، خارج عن أهل الاتفاق، فلا يلتفت إليه، ولا يعرج عليه (2) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: " وأئمة أهل السنة والحديث - من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - يثبتون الصفات الخبرية، لكن منهم من يقول: لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة، وما لم يقم دليل قاطع على إثباته ونفيه، كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانا، ومنهم من يقول: بل نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقا، ومنهم من يقول: يعطى كل دليل حقه، فما كان قاطعا في الإثبات قطعنا بموجبه، وما كان راجحا - لا قاطعا - قلنا بموجبه، فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع، وإذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين، وهذا
__________
(1) انظر: درء التعارض (1 \ 53) .
(2) تحريم النظر في كتب أهل الكلام ص (38، 39) .(68/262)
أصح الطرق " (1) .
ويقول ابن أبي العز: " وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة وهو إحدى قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع " (2) .
وبهذا يتبين لنا أن المنهج الصالح في هذا هو الأخذ بكل حديث صحيح واعتقاد موجبه والعمل به.
__________
(1) انظر: درء التعارض (3 \ 383، 384) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص 398 - 400(68/263)
المبحث الرابع: الرد على من أنكر حجية خبر الآحاد في العقيدة
ذهب بعض أهل الكلام من القدرية والرافضة وبعض(68/263)
المعتزلة كالجبائي وبعض أهل الظاهر إلى أن خبر الآحاد لا يجوز العمل به في الشرع وإنما يعمل بالدليل القطعي آية أو حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قرر هذا المعنى أهل الكلام في كثير من كتبهم، وردوا به أحاديث صحيحة مشهورة، بل أحاديث متواترة زعموا أنها آحاد وأنها ظنية، فلا يؤخذ بها في العقيدة.
فمن المعتزلة الذين سطروا هذا المعنى القاضي عبد الجبار. فقد قال: " وأما ما لا يعلم كونه صدقا ولا كذبا، فهو كأخبار الآحاد، وما هذه سبيله يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه، فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا " (1) .
__________
(1) شرح الأصول الخمسة ص (769) .(68/264)
وبناء على هذه القاعدة التي سار عليها القاضي عبد الجبار رد كثيرا من أحاديث الآحاد الصحيحة بل المتواترة أحيانا بعد أن زعم أنها آحاد ويقرر أن خبر الواحد مما لا يقتضي العلم، ومسائل الاعتقاد طريقها القطع والثبات، فرد أحاديث الرؤية والشفاعة وغيرها (1) .
ومنهم الحاكم الجشمي الذي قرر أن أخبار الآحاد لا يصح قبولها فيما طريقه العلم وهو الاعتقاد (2) .
ومن الأشاعرة الجويني الذي قال: " وأما الأحاديث التي يتمسكون بها، فآحاد لا تفضي إلى العلم ولو أضربنا عن جميعها لكان سائغا ... " (3) .
__________
(1) انظر: شرح الأصول الخمسة ص (269، 672، 690) .
(2) انظر: الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن، لعدنان زرزور ص (258، 263) .
(3) الإرشاد للجويني ص (161) .(68/265)