المبحث الثالث: على من تجب الغرة:
اختلف الفقهاء فيمن تجب عليه الغرة على النحو التالي:
المذهب الأول: ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية في الأصح، وأشهب من المالكية (1) إلى أن الغرة تجب
__________
(1) المنتقى للباجي 7 \ 82، بداية المجتهد 2 \ 251.(63/288)
على عاقلة الجاني سواء أكانت الجناية عمدا أم خطأ، وسواء مات الجنين مع أمه أو مات منفصلا عنها وذلك لما يأتي:
1 - ما رواه مسلم بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى عليه السلام أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع (1) » .
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى على عاقلة الضاربة بالدية وبغرة الجنين، ولقد روي أن عاقلة الضاربة قالوا: أنودي من لا صاح ولا استهل (2)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 11 \ 177
(2) ولا استهل: أي ولا صاح عند الولادة، كناية عن خروجه ميتا، أي ولا خرج من بطن أمه حيا،(63/289)
ولا شرب ولا أكل ولا نطق ومثل ذلك يطل؟ (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهان (2) » . .
وهذا يدل على أن القضاء بالدية كان عليهم حيث أضافوا الدية إلى أنفسهم على وجه الإنكار (3) وأما اعتراضهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فظنا منهم أن ما أورده صلى الله عليه وسلم عاما يجوز تخصيصه بما تظهر من حالة الجنين، واعتقدوا أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج على أنه ظن أن الجنين خرج حيا، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بتلك المقولة
2 - ما رواه البخاري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها
__________
(1) يطل: أي يهدر ويلغى.
(2) سنن ابن ماجه 2 \ 882، طبعة عالم الكتب، وقوله صلى الله عليه وسلم: '' إنما هذا من إخوان الكهان '' معناه أن الذي يقول بهذا الكلام لا علم عنده إلا ما ورد من الأسجاع التي يستعملها الكهان على وجه الإلباس على الناس والتمويه. انظر. المنتقى للباجي 7 \ 79
(3) بدائع الصنائع 15 \ 4816. .(63/290)
وزوجها، وأن العقل على عصبتها (1) »
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة وألزم العصبة بتحملها، وهذا يدل على أن عقل الجنين على العاقلة.
3 - أن الدية بدل النفس لم يتحقق وجودها ولا حياتها فلا يعتد بالعمدية فيها فتكون على العاقلة.
المذهب الثاني: ذهب الحنابلة إلى التفصيل في ذلك فقالوا: إن العاقلة تحمل دية الجنين وهي الغرة إذا مات مع أمه وكانت الجناية خطأ أو شبه عمد أو مات بعدها بتلك الجناية، وذلك لما يأتي:
ما رواه البخاري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها (2) » .
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن هذا الحديث يبين أن دية الجنين تجب على العاقلة إذا مات مع أمه وكانت الجناية عليها خطأ أو شبه عمد. فإن كان الجاني قد قتل الأم عمدا أو مات الجنين وحده لم تحمل العاقلة الغرة وإنما يحملها الجاني؛ وذلك
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 \ 252.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 \ 247(63/291)
لأن العاقلة لا تحمل العمد، ولا تحمل ما دون الثلث عندهم (1) والغرة نصف عشر الدية. وذلك لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الدية ألا يحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة، والمأمومة (2) . فيها ثلث الدية (3) .
المذهب الثالث: ذهب المالكية إلى أن دية الجنين وهي الغرة تجب على الجاني سواء كانت الجناية عمدا (4) . أو خطأ؛ وذلك لأن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث وهذه الغرة لم تبلغ الثلث فوجبت على الجاني.
المذهب الرابع: ذهب الظاهرية إلى أن دية الجنين وهي الغرة تجب في الخطأ على عاقلة الجاني، سواء كانت الأم أو غيرها، كذلك في العمد قبل أن تنفخ فيه الروح، وتجب على الجاني إذا لم ينفخ فيه الروح أو نفخ وقد تعمد قتله، وإذا كان الجاني غير الأم في العمد بعد نفخ الروح وقد ماتت الأم، وأما
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 \ 801.،
(2) هي الجناية التي تصل إلى الدماغ فتهشم عظام الرأس، وفيها ثلث الدية إذا لم يمت الإنسان منها
(3) كشاف القناع للبهوتي 6 \ 62.
(4) في حالة سقوط القصاص بالعفو أو فوات المحل(63/292)
بعد نفخ الروح فيه فالقصاص على الجاني والغرة في ماله. وإن تعمدت المرأة إسقاط ولدها فعليها كفارة ولزوجها عليها غرة.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن الجناية إن كانت عمدا فإن الغرة تكون على الجاني؛ وذلك لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) ، ولقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا (2) .
ولأن إيجاب الدية على العاقلة هو من قبيل المواساة والتعاون والتضامن الاجتماعي مع المجني عليه. وأما المتعمد في جنايته ليس أهلا للمواساة ولا للتعاون معه.
وأما إذا كانت الجناية شبه عمد كما وردت في الأحاديث السابقة أو خطأ فإن الغرة في هذه الحالة تكون على العاقلة؛ لأن ضرب المرأة بحجر أو عود هو من قبيل شبه عمد، ويدلنا على أنه شبه العمد هو إيجاب الرسول صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة الجانية، ولو كانت الجناية عمدا لأوجبها عليها. والله أعلم.
__________
(1) سورة الزمر الآية 7
(2) سنن البيهقي 8 \ 104، سنن الدارقطني 3 \ 177.(63/293)
المبحث الرابع: انفصال الجنين عن أمه حيا ثم يموت بسبب الفعل:
ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية (1) . والشافعية (2) . والحنابلة. إلى أن من اعتدى على امرأة فألقت جنينها الحر المسلم حيا ثم مات من أثر الجناية فإن فيه الدية كاملة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 \ 377، مجمع الأنهر على ملتقى الأبحر 2 \ 649
(2) الإقناع 4 \ 132، مغني المحتاج 4 \ 103(63/294)
ووافقهم المالكية والظاهرية في وجوب الدية إن كانت الجناية خطأ (1) . بخلاف ما إذا كانت عمدا. .
__________
(1) وذلك بشرط أن يقسم أولياؤه أنه مات من فعل الجاني وهذا عند المالكية(63/295)
المبحث الخامس: انفصال الجنين عن أمه حيا ثم يعيش أو يموت بسبب آخر:
اتفق الفقهاء على أن من اعتدى على امرأة فألقت جنينها حيا عاش بعد ذلك أو مات بسبب آخر غير سبب الجناية على أمه فلا دية فيه وإنما عليه التعزير فقط حسب ما يراه الإمام زاجرا(63/295)
ورادعا للجاني ولأمثاله.(63/296)
المبحث السادس: انفصال بعض الجنين بالجناية عليه دون البعض الآخر:
اختلف الفقهاء في وجوب الغرة للجنين الحر المسلم إذا انفصل بعضه دون البعض الآخر، كأن انفصلت يده أو رجله أو رأسه وبقي باقيه داخل رحم الأم على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية في الأصح والحنابلة والظاهرية إلى وجوب الغرة فيه، كما لو ظهر جميعه ميتا، وكذلك لو ألقت المرأة رأسين أو أربع أرجل فلا يجب فيه أكثر من الغرة في كل ذلك؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك من جنينين أو من جنين واحد، فلا تجب الزيادة مع الشك. واستدلوا على ذلك بالأدلة السابقة التي توجب الغرة في انفصال الجنين ميتا وقد سبق ذكرها.
2 - وذهب المالكية والشافعية في مقابل الأصح إلى أنه لا يجب شيء في ذلك، إذ المعنى في وجوب الغرة هو كمال خروج(63/296)
الجنين ميتا، وهنا خرج بعضه دون البعض الآخر فيحتمل موته بالجناية عليه ويحتمل موته بغير الجناية، فلا يجب شيء مع الشك (1) .
وبعد: فإنني أرى أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من وجوب الغرة في الجنين الحر المسلم إذا انفصل بعضه دون البعض الآخر هو الأولى بالقبول؛ وذلك لأن خروج بعض الجنين دون بعضه الآخر دليل على أنه خرج بسبب الجناية عليه فوجب فيه الغرة.
__________
(1) الشرح الكبير 269 \ 4، المنتقى للباجي 7 \ 81، شرح النيل 15 \ 83، مغني المحتاج 4 \ 103.(63/297)
المبحث السابع: موت الأم وانفصال جنينها بعد موتها أو عدم انفصاله:
(أ) فإن انفصل الجنين عن أمه بالجناية عليه ميتا بعد وفاتها فقد اختلف الفقهاء في وجوب الغرة فيه أو عدم وجوبها على مذهبين:
1 - فذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا يجب على الجاني غرة للجنين، وإنما يجب عليه التعزير فقط، ويجب للأم الدية كاملة؛ وذلك لأن الموت حدث لها بسببه، وبسببها مات الجنين؛ لأن حياته بحياتها وتنفسه بتنفسها، فيتحقق موته بموتها، فلا يضمن بالشك. ولما رواه البيهقي بسنده إلى(63/297)
ابن شهاب الزهري في امرأة حامل ضربها رجل فماتت وهي حامل قال: فيها دية المرأة وليس لحملها معها إذا هلك بهلاكها دية ولا نعلم أن سبق فيها قضاء، وقال ذلك مالك وحكى ابن المنذر الكفارة في الجنين عن عطاء والحسن والنخعي (1) .
2 - وذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أنه تجب الغرة ولو بعد موت الأم؛ وذلك لأن الجنين آدمي منفصل عن أمه فلا يدخل ضمانه في ضمانها، وذلك كما لو خرج حيا.
(ب) وإن لم ينفصل الجنين عن أمه بالجناية عليها بعد موتها: فقد اختلف الفقهاء في وجوب الغرة على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية في المعتمد عندهم إلى أن الجنين إذا لم ينفصل عن أمه بالجناية عليها لم تجب فيه الغرة، وإنما يجب تعزير الجاني فقط بالعقوبة المناسبة لزجره، وتجب لأمه الدية إن ماتت بتلك الجناية، وذلك لأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه.
__________
(1) سنن البيهقي 8 \ 116، طبعة دار صادر بيروت.(63/298)
2 - وذهب الظاهرية وأشهب من المالكية إلى وجوب الغرة في الجنين إذا لم ينفصل عن أمه بالجناية عليها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الجنين الغرة سواء انفصل عن أمه أو لم ينفصل، بل أوجبها مطلقا.
ويناقش هذا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالغرة للمرأة التي ألقت جنينها ميتا، أما المرأة التي لم تلق جنينها ولا يعلم أكان موته بالجناية أم لا، فلا يجب فيها شيء.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن ما ذهب إليه الشافعية ومن وافقهم من وجوب الغرة في الجنين إذا انفصل عن أمه ميتا بعد موتها هو الأولى بالقبول، وذلك لأن الجنين آدمي منفصل عن أمه فلا يدخل ضمانه في ضمانها، كما لو خرج حيا، يضاف إلى ذلك أن اعتداء الجاني على الحامل اعتداء على نفسين لا نفس واحدة، فيجب عليه ضمانهما جميعا، أما إذا لم ينفصل الجنين عن أمه فليس فيه شيء؛ لاحتمال أن يكون قد مات بموتها، فلا يجب شيء مع الشك، وإنما يعزر على فعله.(63/299)
عقوبات أخرى غير الغرة توقع على الجاني:
بعد أن عرفنا أن الجناية على الجنين توجب الغرة له إن انفصل عن أمه ميتا أو الدية كاملة إن انفصل عن أمه حيا ومات(63/299)
بسبب الجناية حسب التفصيل السابق ذكره، فهل يقتصر على ذلك جزاء للجناية على الجنين أم أنه يجب على الجاني عقوبات أخرى مثل الكفارة. والحرمان من الميراث وكلاهما يعد حقا من حقوق الله تعالى؟ هذا ما سنوضحه بحول الله وقوته فيما يأتي:(63/300)
المبحث الثامن: الكفارة للجناية على الجنين ومن تجب عليه:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الكفارة للجناية على الجنين:
إن الكفارة عقوبة فيها معنى العبادة؛ لأنها تؤدى بالمال أو الصيام، كذلك تكفر الذنب وتقرب العبد من الله عز وجل، وقد أوجبها الشارع الحكيم في بعض الحالات، فهل هي واجبة على من أسقط جنينا أم لا؟
اختلف الفقهاء في إيجابها في الجناية على الجنين على مذهبين:
1 - فذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب الكفارة جزاء الجناية على الجنين مطلقا، سواء ألقت الأم الجنين حيا أو ميتا ووافقهم الحنفية فيما لو ألقت الأم الجنين حيا ثم مات، ووافقهم الظاهرية في حالة ما إذا كان الإسقاط بعد أربعة أشهر (1) ؛ وذلك
__________
(1) تكملة المحلى لأبي رافع 11 \ 31.(63/300)
لعموم قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) .
وجه الدلالة من هذه الآية: أن هذه الآية أوجبت الكفارة مع الدية في القتل الخطأ، ولا شك أن الجناية على الجنين قتل خطأ أو شبه عمد، فيدخل في عموم هذه الآية. كما أن الجنين مضمون بالدية فوجبت فيه الكفارة، إلا أن الأحاديث بينت أن دية الجنين نصف عشر الدية فتظل الكفارة كما هي على الوجوب حيث لا دليل على إلغائها.
وبما روي عن الزهري في رجل ضرب امرأته فأسقطت، قال: " يغرم غرة وعليه عتق رقبة ولا يرث من تلك الغرة شيئا ".
وقال إبراهيم النخعي في المرأة تشرب الدواء أو تستدخل الشيء فيسقط ولدها قال: " تكفر وعليها غرة " (2) .
واستدل الأحناف على ما ذهبوا إليه بأن الجنين حينما خرج حيا فمات علم أنه كان حيا وقت الضرب، فأدى الضرب إلى قتل
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) المغني مع الشرح 9 \ 667. .(63/301)
النفس، وأنه في معنى الخطأ، فتجب فيه الدية والكفارة.
2 - وذهب المالكية إلى عدم وجوب الكفارة للجناية على الجنين سواء ألقي حيا أو ميتا بل هي مستحبة فقط، ووافقهم الحنفية في حالة ما إذا نزل الجنين ميتا.
ووافقهم الظاهرية إن كان الإسقاط قبل أربعة أشهر. واستدلوا جميعا على ذلك: بأن الكفارة عقوبة فيها معنى العبادة شرعت لتكفير الذنب ومحو الجرم الذي اقترفه المذنب بالتقرب إلى الله عز وجل، وقد عرفت في النفوس الكاملة بالنص، فلا يقاس عليها الجنين؛ وذلك لأن الجنين نفس من وجه دون وجه، بدليل أنه لا تجب فيه كمال الدية؛ ولأن الكفارة من باب المقادير، والمقادير لا تعرف بالرأي والاجتهاد بل بالتوقيف، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا حين تحدث في الجناية على الجنين، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، مع أن الحال حال الحاجة إلى بيان.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن الجنين إن انفصل عن أمه ميتا لا يجب فيه الغرة؛ وذلك لوجود الشك في الجناية: هل هي التي قتلته أم(63/302)
أنه كان ميتا في بطن أمه أصلا؟ وهل الحركة التي في بطن الأم حركة جنين أم أنها حركة ريح؟
أما إن انفصل الجنين عن أمه حيا ثم مات من أثر الجناية عليه فإنه يجب فيه الكفارة زيادة على الغرة، وذلك لتحقق حياته. وتؤدى الكفارة أولا بعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد هذه الرقبة؛ لعدم وجودها أو لضيق ذات اليد كان على الجاني صيام شهرين متتابعين.
هل تؤدى الكفارة بتعدد الأجنة وتعدد الجناة؟
نعم، تتعدد الكفارة إذا تعددت الأجنة، فإذا أدت الجناية إلى إسقاط أكثر من جنين فإنه يجب على الجاني إذا كان فردا أن يؤدي عن كل جنين كفارة، كما يؤدي عن كل جنين غرة؛ لأنه قاتل لهم، وكذا إذا تعددت الجناة وثبت اشتراكهم في قتل الجنين أو الأجنة فإنه يجب على كل جان كفارة عن قتل كل جنين واحد. وهل الكفارة تجب في هذه الحالة على كل من يعتدي على المرأة فيسقط جنينها أم أن هناك شروطا يجب توافرها في المعتدي؟ هذا ما سنبينه في المطلب الثاني.(63/303)
المطلب الثاني: شروط من تجب عليه الكفارة:
اتفق الفقهاء القائلون بوجوب الكفارة على المعتدي؛ إن كان عاقلا بالغا مسلما حرا كان أم عبدا فإنه تجب عليه الكفارة،(63/303)
وذلك لما ذكروه من أدلة سابقة. ثم اختلفوا بعد ذلك في وجوب الكفارة على الصبي والمجنون والكافر الذي يعيش مع المسلمين أو داخل ديارهم بعقد أمان على النحو التالي:
(أ) البلوغ والعقل:
اختلف الفقهاء في اشتراط التكليف لوجوب الكفارة على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط التكليف في إيجاب الكفارة، فتجب على الصبي والمجنون؛ وذلك لأن الكفارة حق مالي يتعلق بالجناية وقد وجدت الجناية منهما، وقياسا على الدية؛ بجامع أن كلا حق مالي وجب بسبب الجناية (1) .
2 - وذهب الحنفية إلى أنه يشترط التكليف في إيجاب الكفارة، فلا تجب الكفارة على الصبي والمجنون؛ وذلك لأن الكفارة عبادة، والصبي والمجنون ليسا من أهل العبادة، وقياسا على الصلاة والصيام؛ بجامع أن كلا عبادة (2) .
ويناقش هذا: بأن هذا القياس مع الفارق؛ وذلك لأن الصلاة والصيام عبادة محضة، بخلاف الكفارة فإنها عقوبة فيهما معنى العبادة المالية، فأشبهت نفقات الأقارب التي تجب على الصبي والمجنون.
__________
(1) مغني المحتاج 7 \ 385، المغني 7 \ 806.
(2) بدائع الصنائع 10 \ 4658.(63/304)
وبعد فإنني أرى أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء هو الأولى بالقبول؛ وذلك لظهور دليلهم، ورد الدليل المخالف.
(ب) الإسلام:
اختلف الفقهاء في اشتراط إسلام الجاني لوجوب الكفارة، وذلك على مذهبين:
1 - ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط إسلام الجاني في إيجاب الكفارة عليه، فإن كان الجاني غير مسلم وجبت عليه الكفارة؛ وذلك لأنه يعيش في دار الإسلام فلا بد أن يلتزم بأحكامه، وقياسا على وجوب الدية عليه (1) .
2 - وذهب الحنفية إلى أنه يشترط إسلام الجاني في إيجاب الكفارة؛ وذلك لأن المسلم هو المخاطب بالعبادات، والكفارة عبادة فلا يخاطب بها الكافر، يضاف إلى ذلك أن الكفارة قربة وهو ليس من أهل القرب.
ويناقش هذا: بأن الكفارة ليست عبادة محضة، وإنما هي حق لله عز وجل دائر بين العقوبة والعبادة، فإن لم يكن الكافر
__________
(1) نهاية المحتاج 7 \ 385، المغني لابن قدامة 7 \ 806.(63/305)
أهلا للعبادة فهو أهل للعقوبة فتجب عليه.
وبعد فإنني أرى أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أنه لا يشترط إسلام الجاني في إيجاب الكفارة هو الأولى بالقبول؛ لظهور دليلهم ورد الدليل المخالف.(63/306)
المبحث التاسع: حرمان قاتل الجنين من الميراث:
إن قاتل الجنين إما أن يكون متعمدا الجناية عليه أو غير متعمد، فإن كان متعمدا الجناية عليه فجنايته عند جمهور الفقهاء شبه عمد، وإن كان غير متعمد فجنايته خطأ كما سبق بيانه. وهذا يتطلب منا أن نبين الحالتين، وهل يرث القاتل للجنين فيهما أم لا؟
الحالة الأولى: هل القاتل يحرم من الميراث إن كان متعمدا الجناية على الجنين؟
أ- ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن هذا القتل يمنع القاتل من الميراث مطلقا سواء كان الميراث للدية أو لغيرها، واستدلوا على ذلك(63/306)
بما يأتي:
1 - ما رواه ابن ماجه بسنده إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«ليس للقاتل شيء (1) » .
2 - ما رواه الدارقطني بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده فليس للقاتل ميراث (2) » . وهذه الأحاديث واضحة الدلالة على المدعى. وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه القاتل، وقد كان حذفه بسيفه فقتله (3) ، واشتهرت هذه القصة بين الصحابة ولم ينكر أحد ذلك فكان إجماعا. يضاف إلى ذلك أن القاتل لو ورث من مقتوله لتفشى القتل بين الناس، ولأدى ذلك إلى فساد مستطير، ولاستعجل الوارث موت مورثه ليأخذ أمواله، فكان لا بد أن يعامل بنقيض مقصوده فيحرم من الميراث.
ب- وذهب كل من الإمام الفقيه سعيد بن المسيب بن حزن
__________
(1) سنن ابن ماجه 2 \ 844، طبعة الكتب العلمية بيروت.
(2) سنن الدارقطني 4 \ 95، طبعة الطباعة الفنية المتحدة.
(3) السنن الكبرى للبيهقي 8 \ 134، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية.(63/307)
المخزومي وابن جبير إلى أن هذا القتل لا يمنع (1) من الميراث؛ وذلك لأن آيات المواريث بعمومها لم تتناول هذا القاتل فيجب العمل بها.
ويناقش هذا: بأن عموم هذه الآيات مخصص بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي سبق ذكرها.
تنبيه: قد يشكل على البعض أن يكون الجنين موروثا مع أنه لم يظهر إلى الوجود، لكن يزول الإشكال حين يعلم أن الجنين له حياة وأهلية من وجه دون وجه، فيملك المال بالهبة والوقف والإرث.
الحالة الثانية: هل القاتل يحرم من الميراث إن كان غير متعمد الجناية؟
اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن القاتل خطأ لا يرث مطلقا. واستدلوا على ذلك بالأدلة العامة التي تقضي بحرمان القاتل من الميراث، وهي تشمل بعمومها القتل العمد والخطأ وقد سبق ذكرها.
2 - وذهب المالكية والنخعي إلى أن القتل الخطأ لا يمنع القاتل
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 7 \ 166.(63/308)
من الميراث، ولكنه يمنعه من أن يرث ديته. واستدلوا على ذلك بما رواه الدارقطني بسنده إلى محمد بن سعيد عن عمرو بن شعيب أخبرني أبي عن جدي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة يوم فتح مكة: «لا يتوارث أهل ملتين، والمرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها، ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدا، فإن قتل أحدهما صاحبه عمدا لم يرث من ماله ولا من ديته شيئا، وإن قتله خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته (1) » .
ويناقش هذا: بأن الحديث ضعيف فلا يصح الاحتجاج به؛ وذلك لأن عبد الحق بعد أن ذكر الحديث قال: ومحمد بن سعيد هذا أظنه الصلت وهو متروك الحديث عند الجميع. وقد جاء في نسخ ابن ماجه أنه عمرو بن سعيد وهو كذلك من أطراف الإمام الحافظ الشامي الثبت الحجة الدمشقي الشافعي ابن عساكر وقال أحمد: حديثه موضوع (2) .
__________
(1) سنن الدارقطني 4 \ 72 وقال الدارقطني: محمد بن سعيد الطائفي ثقة، سنن ابن ماجه 2 \ 914.
(2) نيل الأوطار للشوكاني 7 \ 166.(63/309)
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن القاتل لا يرث مطلقا سواء كان القتل عمدا أو خطأ هو الأولى بالقبول؛ لظهور أدلتهم.(63/310)
المبحث العاشر: دية الجنين ولمن تكون:
لقد سبق أن عرفنا أن الجنين إن مات بالاعتداء عليه فإنه تجب فيه الغرة أو الدية حسب التفصيل المتقدم، لكن هذه الدية تكون لمن؟ أتكون للجنين وتورث عنه؟ أم تكون للأم المجني عليها؟ أم تكون للأب؟ اختلف الفقهاء في ذلك على عدة مذاهب:
المذهب الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية في المعتمد إلى أن الغرة حق للجنين فيرثها عنه ورثته، يقسمونها فيما بينهم على سنة المواريث؛ وذلك لأن الغرة التي تجب للجنين تأخذ حكم دية النفس، لا حكم دية الأعضاء، فتكون للورثة لا للأم، ولأنها لو كانت واجبة للأم لما وجب في(63/310)
الجنين شيء إذا ماتت أمه قبل أن ينفصل منها؛ لأن الميت لا يستحق شيئا بعد موته، والأم قد ماتت قبل جنينها فلا يجب لجنينها شيء على الجاني، وهذا خلاف ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية، يضاف إلى ذلك أن الجنين نفس مستقلة؛ لأنه يمنع القصاص عن أمه وإقامة الحد عليها.
ويناقش هذا: بأن قياس الغرة على دية النفس قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لأن الدية في النفس بدل عن نفس قد قتلت، وأما الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح لم يقتل، فكلامهم السابق يصدق على الجنين الذي نفخت فيه الروح، أي الذي تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة.
المذهب الثاني: ذهب المالكية في المرجوح وربيعة والليث إلى أن دية الجنين ترثها الأم وحدها؛ وذلك لأن الجنين في جميع مراحله جزء من أجزاء أمه، فهو بعض من أبعاضها ودم من دمها ولحم من لحمها، فهي المجني عليها وهي المتألمة بالجناية، فكانت الغرة للأم دون سواها.
يضاف إلى ذلك أن في دية الجنين تكون مؤجلة إلى سنة، كما في بدل الطرف فإنه يؤجل إلى سنة، وهذا بخلاف البدل في(63/311)
النفس، فإن ديتها على ثلاث سنين، قل أو كثر.
ويناقش هذا: بأن الجنين لو كان في معنى أجزاء الأم لما انفرد الجنين بحكم بل دخلت الغرة في دية أمه، كما إذا قطعت يد الأم فماتت فإنه تدخل اليد في النفس. ويضاف إلى ذلك أن عاقلة الضاربة لما أنكروا حمل الدية فقالوا: أنودي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه يطل؟ لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إني أوجبت ذلك بجناية الضاربة على المرأة لا بجنايتها على الجنين، ولو كان وجوب الغرة فيه لكونه جزءا من أجزاء الأم لرفع إنكارهم بما قلنا، فدل ذلك على أن الغرة وجبت بالجناية على الجنين لا بالجناية على الأم، فكانت معتبرة بنفسه لا بالأم.
المذهب الثالث:
ذهب الظاهرية والليث بن سعد (1) . إلى التفصيل في ذلك فقالوا: إن الجناية على الجنين إن تيقنا أنه قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة فإن الغرة تكون لورثته الذين كانوا يرثونه لو خرج حيا فمات على حكم المواريث، وإن لم نوقن أنه تجاوز الحمل له مائة وعشرين ليلة فالغرة تكون لأمه فقط (2) ، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
__________
(1) سبق تعريقه
(2) تكملة المحلى لأبي رافع 11 \ 32.(63/312)
{مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) .
وجه الدلالة في هذه الآية: أن هذه الآية بينت أن القتل الخطأ فيه كفارة ودية، وهذه الدية تكون لأهل القتيل أي لورثته، والقتل لا يكون إلا لحي ينقله القتل من الحياة إلى الموت، والجنين بعد مائة وعشرين ليلة تكون قد نفخت فيه الروح ودبت فيه الحياة، فيكون الاعتداء عليه اعتداء على حي، فيأخذ حكم الأحياء في أن الدية تكون لأهله.
2 - وما رواه البخاري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد (2) » .
وجه الدلالة من هذا الحديث: هو أن أهل القتيل يخيرون بين القتل وأخذ الدية، فدل هذا على أنهم هم الورثة للقتيل، ولا شك أن الجنين الذي نفخت فيه الروح قتيل، فتكون الدية لأهله وهم الورثة. وأما الذي لم نوقن أنه تجاوز مائة وعشرين ليلة فإنه لم تدب فيه الحياة فتكون الجناية عليه ليست جناية قتل، وإنما هو ماء أو علقة من دم أو مضغة من عضل أو عظام ولحم، فهو في كل ذلك بعض أمه.
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 \ 205، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 129.(63/313)
ويناقش هذا: بأن هذا الكلام لا يسلم؛ لأنه لو كان عضوا لما منع من إقامة الحد عليها من أجله، ولما وجبت الكفارة بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها دونه. ولو كان في معنى أجزاء الأم لما أفرد الجنين بحكم، بل دخلت الغرة في دية الأم، كما إذا قطعت يد الأم فماتت فإنه تدخل دية اليد في النفس (1) .
المذهب الرابع:
ذهب إبراهيم النخعي إلى أن دية الجنين تجب للأب إن كانت أمه هي المعتدية، ولا يجب لأمه شيء؛ وذلك لأن الأب هو سبب وجوده. هكذا حكاه السرخسي وغيره (2) .
والتحقيق أن هذا ليس بمذهب
خالف فيه جمهور الفقهاء، فإن انفراد الأب بالغرة هنا ليس بإثباتها حقا له نظرا للأبوة؛ بل بكونه الوارث الوحيد لحرمان الأم من الميراث، وغيرها لا يشارك في ميراث الجنين.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن دية الجنين تكون لورثته يقسمونها فيما بينهم على سنة المواريث هو المختار؛ لما ذكروه ورد أدلة المخالفين، والله أعلم.
__________
(1) بدائع الصنائع 10 \ 4827، المغني لابن قدامة 7 \ 805. .
(2) المبسوط للسرخسي 26 \ 28، المنتقى للباجي 7 \ 80، تكملة المحلى لأي رافع 11 \ 32.(63/314)
تتمة: في انقضاء العدة بالسقط:
هل المرأة التي أسقط جنينها تنقضي عدتها بهذا السقط أم لا؟
اتفق الفقهاء على أن المرأة لا تنقضي عدتها بإلقاء النطفة، كما أنهم اتفقوا على انقضاء العدة بالسقط إذا استبان خلقه أو بعض خلقه كيد أو رجل أو رأس أي مضغة مخلقة؛ وذلك لأنه إذا استبان خلقه أو بعضه فهو ولد، وعلى ذلك يكون قد وجد وضع الحمل فتنقضي به العدة. أما إن ألقت المرأة علقة أو مضغة غير مخلقة لم تنقض؛ لأن الحمل اسم لنطفة متغيرة بدليل أن الساقط إذا كان علقة أو مضغة لم تنقض به العدة؛ لأنها لم تتغير فلا يعرف كونها متغيرة بيقين إلا باستبانة بعض الخلق، ولكن بشرط خروج الولد كله حتى تنقضي العدة، أو خروج جميع الحمل إذا كان أكثر من ولد، وهذا قول جمهور العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا أبو قلابة وعكرمة فإنهما قالا: تنقضي العدة بوضع الولد الأول إذا كان الحمل أكثر من ولد، ولكن لا تتزوج حتى تضع الولد الثاني.(63/315)
ولكن هذا القول شاذ؟ لأنه مخالف لظاهر الكتاب؛ لأن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل، فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن من وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجب لانقضاء العدة.
وقد اختلف الفقهاء في انقضاء العدة بوضع السقط الذي لم يستبن خلقه على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى عدم انقضاء عدة المرأة بإلقاء العلقة والمضغة غير المخلقة، وذلك أنه إذا لم يستبن الخلق ولم يعلم كونه ولدا بل يحتمل ألا يكون، فيقع الشك في وضع الحمل، والعدة لا تنقضي بالشك.
2 - وذهب المالكية والظاهرية إلى أن العدة تنقضي بوضع السقط، سواء استبان خلقه أو لم يستبن، حتى ولو كان ما أسقطته علقة، ويعرف بحيث إذا صب عليه الماء الحار لم يذب (1) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 \ 387، الفواكه الدواني 2 \ 62، المحلى لابن حزم الظاهري 10 \ 266.(63/316)
وأرى أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بأن العدة لا تنقضي بوضع النطفة أو العلقة أو المضغة غير المخلقة وإنما تنقضي بما فوق ذلك هو الأولى بالقبول.(63/317)
الخاتمة:
في أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث، وهي:
1 - يجوز العزل عن النساء مع الكراهة حتى ولو كان ذلك برضا الزوجة إلا لحاجة.
2 - الجنين يطلق على حمل المرأة ما دام في بطنها وقد تبين منه شيء من خلقة الآدمي أو يشهد الثقات بأنه مبدأ آدمي.
3 - أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، أي بعد مائة وعشرين يوما من الحمل.
4 - أن الجناية على الجنين تعد تامة إذا انفصل عن أمه، بغض النظر عن حياته أو موته، ولا تعد الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل عن أمه.
5 - أن الفعل المكون للجناية قد يكون عملا أو قولا، كالضرب والجرح والضغط على البطن والتخويف والصياح والإفزاع. . . إلخ.(63/317)
6 - يحرم إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه، ومن باب أولى بعد ذلك.
7 - لا تجوز الجناية على الحمل، سواء أتى عن طريق شرعي بالزواج وملك اليمين أو أتى عن طريق غير شرعي كالسفاح والوطء بشبهة ونكاح المتعة، بل يحرم إسقاط الجنين مطلقا.
8 - قد ثبت طبيا أن الإجهاض فيه ضرر كبير على صحة المرأة، وله مؤثرات خطيرة على جهازها العصبي.
9 - يجوز للمرأة إسقاط جنينها إن كانت هناك ضرورة شرعية حقيقية غير متوهمة، وتقدر بقدرها.
10 - أن الجناية على الجنين تعد من قبيل قتل شبه العمد إن تعمد الجاني الضرب، ومن قبيل الخطأ إن لم يتعمد الجاني ذلك.
11 - أن الغرة تجب إذا ألقت المرأة ما يشهد له الثقات بأنه مبدأ آدمي إذا استمر في تكونه، وما كان أعلى من ذلك، أما ما كان دون ذلك فليس فيه شيء من الدية، وإنما يعزر الجاني فقط.
12 - تجب الغرة في انفصال الجنين من أمه ميتا، سواء كان ذكرا أو أنثى وتتعدد بتعدد الأجنة.
13 - أن الغرة تجب على الجاني إن كانت الجناية عمدا، وتجب على العاقلة إن كانت الجناية خطأ، وسواء كان الجنين مع(63/318)
أمه أو مات منفصلا عنها.
14 - تجب الدية كاملة في حالة ما إذا انفصل الجنين عن أمه حيا ثم يموت بعد ذلك بسبب الفعل.
15 - لا تجب الغرة إن انفصل الجنين عن أمه حيا وعاش بعد ذلك، أو مات بسبب آخر غير سبب الجناية.
16 - تجب الغرة بانفصال بعض الجنين بالجناية عليه دون البعض الآخر.
17 - تجب الغرة بانفصال الجنين بعد موت أمه حيا، ولا يجب شيء إن لم ينفصل عن أمه.
18 - تجب الكفارة على الجاني إن انفصل الجنين عن أمه حيا ثم مات، ولا تجب إن انفصل الجنين ميتا.
90 - أن دية الجنين تكون لورثته، يقسمونها فيما بينهم على سنة المواريث.
20 - أن عدة المرأة لا تنقضي بوضع النطفة أو العلقة أو المضغة غير المخلقة، وإنما تنقضي بما فوق ذلك، بأن يستبين خلق الجنين أو عضو من أعضائه.
وبعد فهذا جهد الضعيف المقل، فإن أكن قد وفقت فما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وإن تكن الأخرى فالله أسأل أن يغفر لي هذا التقصير. وأسأله سبحانه وتعالى وهو المسئول وحده أن ينفع به، وأن يجزل لنا ولمشايخنا ولأصحاب الفضل علينا المثوبة والعطاء، وأن يجمعنا وإياهم مع النبيين(63/319)
والصديقين والشهداء والصالحين، إنه نعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم.(63/320)
بحث في صيغ الظهار
للدكتور خالد بن علي بن محمد المشيقح (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
أما بعد:
إن من تمام نعم الله وعظيم منته أن هدى هذه
__________
(1) الأستاذ المشارك بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(63/321)
الأمة إلى هذا الدين القويم، والصراط المستقيم الذي به تصلح نفوسهم، وتهذب أخلاقهم، وتنتظم معاملاتهم، ويصح سلوكهم وتقوم حياتهم وفق توجيه قرآني وهدي نبوي، تضمنا علما هو أجل العلوم قدرا، وأعلاها فخرا، وأبلغها فضيلة وأشرفها مكانة، وهو علم الشرع الشريف وبيان أحكامه وتفصيل حلاله وحرامه.
كل ذلك ليقوم العباد بالحق الذي من أجله خلقوا؛ وهو عبادته على الوجه الذي ارتضى لهم، قال الله تعالى. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) .
ولقد شرع الله عز وجل الزواج بين الذكر والأنثى؛ لما يترتب على ذلك من مصالح عظيمة، منها: الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وموافقة الفطرة، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ المجتمع، والأعراض والأنساب، والفروج والأبصار، وسعادة الجنسين وغير ذلك مما لا يخفى، ورتب لهذا الاقتران بين الجنسين أحكاما كثيرة، منها أحكام الظهار.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الحج الآية 77
(3) سورة البينة الآية 5(63/322)
ولما كانت الحاجة قائمة إلى تبيين أحكام هذا الباب من كلام أهل العلم المعتمد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال صحابته، ولم أقف على مؤلف جامع لمسائل هذا الباب، قمت بجمع مسائله، وقد أفردت منه في هذه الكتابة مبحث: " صيغ الظهار ".
وقد تضمن هذا البحث ما يلي:
المقدمة.
التمهيد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: شرح مفردات العنوان اللغوية.
المطلب الثاني: بيان حقيقة الظهار الشرعية.
المبحث الأول: حكم الظهار وأدلته.
المبحث الثاني: صيغ الظهار، وفيه مطالب:
المطلب الأول: تشبيه الزوجة بظهر الأم.
المطلب الثاني: تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد من أقاربه.
المطلب الثالث: تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى أقاربه.
المطلب الرابع: تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأقيت.
المطلب الخامس: تشبيه الزوجة بظهر ذكر.(63/323)
المطلب السادس: تشبيه عضو من أعضاء الزوجة بظهر الأم أو بعضو من أعضائها.
المطلب السابع: تشبيه الزوجة بظهر بهيمة، ونحوها.
المطلب الثامن: تشبيه الزوجة بالأم بحذف لفظ الظهر.
المطلب التاسع: قول الزوج لزوجته: أنت كأمي، أو أنت أمي.
المبحث الثالث: تشبيه الزوجة زوجها بظهر أبيها.
المبحث الرابع: المظاهرة من نسائه بكلمة أو كلمات.
المبحث الخامس: تكرار صيغة الظهار.
هذا وقد سلكت في كتابته المنهج العلمي المتعلق بتحرير مذاهب الأئمة من كتبهم، وذكر أدلتهم، مع ترقيم الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار. . . إلخ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(63/324)
التمهيد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: شرح مفردات التعريف اللغوية (1) ، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف الصيغ لغة:
الصيغ: جمع صيغة، والصيغة أصلها الواو مثل القيمة.
__________
(1) ينظر: الصحاح (4 \ 1324) ولسان العرب (8 \ 442) والمصباح المنير (2 \ 352) مادة: ''صيغ''.(63/324)
وصيغة الله: خلقته، والصيغة: العمل والتقدير، وهذا صوغ هذا إذا كان على قدره، وصيغة القول كذا: أي مثاله وصورته على التشبيه بالعمل والتقدير.
فتلخص أن الصيغة تطلق لغة: على الخلق، والعمل، والتقدير، ومثال الشيء وصورته، وأقرب هذه المعاني لموضوعنا هو المعنى الأخير، والله أعلم.
المسألة الثانية: تعريف الظهار لغة:
قال ابن فارس: "الظاء والهاء والراء أصل صحيح واحد، يدل على قوة وبروز، من ذلك ظهر الشيء يظهر ظهورا فهو ظاهر إذا انكشف وبرز؛ ولذلك سمي وقت الظهر والظهيرة، وهو أظهر أوقات النهار، وأضوؤها، والأصل فيه كله: ظهر الإنسان، وهو خلاف بطنه، وهو يجمع البروز والقوة، ويقال للركاب الظهر؛ لأن الذي يحمل منها الشيء ظهورها. . . " (1) .
وفي اللسان: "الظهر من كل شيء: خلاف البطن، والظهر من الإنسان: من لدن مؤخر الكاهل إلى أدنى العجز عند آخره، مذكر لا غير. . . والجمع أظهر، وظهور، وظهران " (2) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 3 \ 471، مادة (ظهر) .
(2) لسان العرب 4 \ 520، مادة (ظهر) .(63/325)
والظهار: مشتق من الظهر؛ لأن الوطء ركوب، والركوب غالبا إنما يكون على الظهر (1) .
مصدر ظاهر من امرأته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، ولفظ ظهر يطلق لغة على معان منها:
مقابلة الظهر للظهر حقيقة: يقال: ظاهرته، إذا قابلت ظهرك لظهره حقيقة.
والبروز بعد الخفاء: يقال: ظهر لي رأي، إذا علمت ما لم تكن علمته.
والغلبة: يقال: ظهر على عدوه إذا غلبه، قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (2) .
والتبين: يقال: ظهر الحمل إذا تبين.
والنصرة: يقال: تظاهر القوم، إذا تناصروا.
وعلى العلو: قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} (3) أي يعلوه (4) .
والتقاطع: يقال: تظاهروا أي تقاطعوا.
والتحري والاحتياط: يقال: استظهرت في طلب الشيء
__________
(1) الشرح الصغير 1 \ 483.
(2) سورة الصف الآية 14
(3) سورة الكهف الآية 97
(4) انظر: الصحاح 2 \ 731، لسان العرب 4 \ 526، مادة (ظهر) .(63/326)
تحريت، وأخذت بالاحتياط.
والظفر: يقال: ظهر بالشيء أي ظفر به.
والتعاون: يقال: ظاهر فلان فلانا عاونه.
والخروج: يقال: ظهر من بلد كذا إذا خرج منه.
والقوة: يقال: ظهر فلان على فلان، أي قوي عليه (1) .
وفي المصباح: " وإنما خص بذكر الظهر؛ لأنه من الدابة موضع الركوب، والمرأة مركوبة وقت الغشيان، فركوب الأم مستعار من ركوب الدابة، ثم شبه ركوب الزوجة بركوب الأم الممتنع، وهو استعارة لطيفة، فكأنه قال: ركوبك للنكاح حرام علي كركوب أمي " (2) .
__________
(1) الصحاح 2 \ 731، ومعجم مقاييس اللغة 3 \ 471، ولسان العرب 4 \ 526 مادة (ظهر) والمصباح المنير 2 \ 387.
(2) المصباح المنير 2 \ 388.(63/327)
المطلب الثاني: بيان حقيقة الظهار الشرعية:
ذكر العلماء رحمهم الله تعالى للظهار تعاريف متعددة، ترجع إلى ما استنبطوه من أدلة الظهار، مما يكون ظهارا، وما لا يكون، وما يشترط لصحة الظهار، وما لا يشترط، وغير ذلك.
فمن تعاريف الحنفية:
" تشبيه المسلم زوجته، ولو كتابية، أو صغيرة، أو مجنونة، أو تشبيه ما يعبر به عنها من أعضائها، أو تشبيه شائع(63/327)
منها بمحرم عليه تأبيدا " (1) .
قوله: " المسلم " أخرج الذمي.
قوله: "ما يعبر عنها من أعضائها" أي يعبر به عن كل الزوجة كالرأس.
ومن تعاريف المالكية:
" تشبيه المسلم من تحل بالأصالة من زوجة أو أمة، أو جزؤها بظهر محرم " (2) .
قوله: "من تحل بالأصالة من زوجة أو أمة" يشمل المحرمة لعارض كالمحرمة، والرجعية، فإذا قال لزوجته الرجعية: أنت علي كظهر أمي، فظهار.
قوله: " محرم " بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الراء المفتوحة، قوله " أصالة "، فلو شبه زوجته بامرأته الحائض، أو النفساء، أو المحرمة بحج أو عمرة، فلا ظهار.
قوله: " أو جزؤها " يشمل الحقيقي كالرأس، والحكمي كالشعر والريق.
ومن تعاريف الشافعية:
" تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلا " (3) .
__________
(1) الدر المختار 3 \ 466
(2) الشرح الكبير للدردير 2 \ 439.
(3) مغني المحتاج 3 \ 352.(63/328)
قوله: " الزوجة " يشمل الصغيرة، والكبيرة، والمسلمة، والذمية.
قوله: "غير البائن "؛ لكي يشمل الرجعية.
قوله: "بأنثى لم تكن حلا"؛ ليخرج من طرأ تحريمها كزوجة ابنه ونحوها، فالتشبيه بها لا يكون ظهارا.
ومن تعاريف الحنابلة:
" أن يشبه امرأته أو عضوا منها، بظهر من تحرم عليه على التأبيد، أو بها، أو بعضو منها " (1) .
قوله: " أو عضوا منها " كالوجه، والرأس، واليد، ونحو ذلك، دون ما هو في حكم المنفصل كالشعر، والظفر، والسن، وكذا العرق، والدم، والريق، والروح.
قوله: " التأبيد " يشمل من تحرم عليه على التأبيد من ذوي رحمه كالعمة والخالة ونحوها، ومن ليس من ذوي رحمه كالأم المرضعة، وزوجة الأب، ونحوهما.
وقوله: " على التأبيد " يخرج من تحرم عليه على التأقيت كأخت الزوجة ونحوها.
قوله: " أو بعضو منها " كرأس أمه، أو رأس أخته ونحو ذلك، دون ما هو في حكم المنفصل كالشعر ونحوه كما تقدم.
ومن تعاريفهم أيضا: " أن يشبه امرأته، أو عضوا منها بمن
__________
(1) المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 23 \ 228.(63/329)
تحرم عليه ولو إلى أمد، أو بعضو منها، أو بذكر أو بعضو منه" (1) .
قوله: "بمن تحرم عليه" من نسب، أو رضاع، أو صهر، قوله: "ولو إلى أمد"؛ لكي يشمل أخت الزوجة، وخالتها.
التعريف المختار:
يظهر لي من خلال دراستي لأحكام الظهار التعريف الآتي للظهار: " أن يشبه زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد ".
__________
(1) المنتهى 2 \ 324.(63/330)
المبحث الأول: حكمه، وأدلته:
أما حكم الظهار التكليفي، فمحرم ولا يجوز، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، وقد صرح بعض العلماء بأنه من الكبائر (1) .
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: " ومنها أن الظهار حرام لا
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 \ 439، ومغني المحتاج 3 \ 352، ونهاية المحتاج 7 \ 82.
(2) سورة المجادلة الآية 2(63/330)
يجوز الإقدام عليه؛ لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، وكلاهما حرام، والفرق بين جهة كونه منكرا وجهة كونه زورا، أن قوله: أنت علي كظهر أمي يتضمن إخباره عنها بذلك، وإنشاءه تحريمها، فهو يتضمن إخبارا وإنشاء، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت، والمنكر خلاف المعروف، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (1) وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرته لآخذ به " (2) .
وأما السنة: فمنها: حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه قال: «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتايع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ تكشف لي منها شيء، فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر، وقلت: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا والله، فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال: أنت بذاك يا سلمة؟ قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين،
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) زاد المعاد 5 \ 326
(3) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب في الظهار (ح 2213) والترمذي في تفسير القرآن، سورة المجادلة (ح 3295) وابن ماجه في الطلاق، باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر 3 \ 63 (ح 2064) والحاكم 1 \ 221، والدارمي 2 \ 217، وأحمد في المسند 4 \ 37- مختصرا- وابن الجارود 3 \ 67، والطبراني في الكبير 7 \ 43، والبيهقي 7 \ 385، كلهم من طرق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار، قال الترمذي: '' هذا حديث حسن ''. وقال: قال البخاري: '' سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر ''. وقال الحافظ في التلخيص 3 \ 249: '' وأعله عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان لم يدرك سلمة ''. وعليه فقول الحافظ في الفتح، '' إسناده حسن '' فيه نظر. وقد توبع سليمان بن يسار عليه. وأخرجه الترمذي في الطلاق، باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر (ح 1198) وعبد الرزاق 6 \ 431، والطبراني في الكبير 7 \ 42، 43، والبيهقي في الكبرى 7 \ 390، من طرق عن يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أن سلمة بن صخر، فذكر نحوه. قال الترمذي: '' حسن غريب '' وقال الحاكم: '' هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ''. لكن أشار البيهقي إلى كونه مرسلا. ورواية سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر وإن كان لم يسمع منه، إلا أنه كان مولى لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا تابعه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن عبد الرحمن كلاهما عن سلمة بن صخر، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يأتي مما يدل على ثبوته.(63/331)
وأنا صابر لأمر الله فاحكم في ما أراك الله. قال: حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي. قال: فصم شهرين متتابعين. قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟! قال: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا. قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام. قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها. فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمرني، أو أمر لي بصدقتكم (1) » .
__________
(1) أي يلازمني، فلا أستطيع الفكاك منه. ينظر: لسان العرب 8 \ 38. (3)(63/332)
ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر؟ فقال: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به (1) » لكنه مرسل.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب في الظهار (ح 2221) من طريق سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان عن عكرمة ''أن رجلا ظاهر من امرأته. . . '' مرسلا. وأخرجه سعيد بن منصور 2 \ 15، وأبو داود (ح 2225) من طريق معتمر بن سليمان عن الحكم عن عكرمة، قال: ''جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم. . . '' مرسلا. وأخرجه سعيد بن منصور 2 \ 15 عن إسماعيل بن علية عن الحكم عن عكرمة مرسلا، وأخرجه أبو داود (2223) من طريق زياد بن أيوب عن إسماعيل عن الحكم عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجه (ح 2065) من طريق غندر عن معمر بن راشد عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما متصلا. وأخرجه أبو داود (2225) والترمذي (ح 1199) وصححه، والنسائي 6 \ 167، وابن الجارود 3 \ 67، والطبراني 11 \ 236، من طريق الفضل بن موسى عن معمر بن راشد عن الحكم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما متصلا. وأخرجه الحاكم 2 \ 204، والبيهقي 7 \ 386 عن حفص بن عمر العدني عن الحكم به، قال الذهبي: '' العدني غير ثقة ''. وأخرجه الدارقطني 4 \ 316، والحاكم، والبيهقي، والطبراني في الكبير (ح 10887) عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس به، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: '' إسماعيل واه ''. وأخرجه عبد الرزاق 6 \ 430 من طريق معمر بن راشد عن الحكم عن عكرمة مرسلا. قال النسائي كما في التحفة 5 \ 123: '' والمرسل أولى بالصواب من المسند''. وذكره ابن أبي حاتم في العلل (ح 1194، 1307) عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن الحكم موصولا، وقال: '' قال أبي: هو خطأ إنما هو عن عكرمة مرسلا، وذكره أيضا (ح 1309) من طريق إسماعيل بن مسلم، وقال: إنما هو عن طاوس مرسلا ''.(63/333)
ومنها: حديث خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها قالت: «ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله يجادلني فيه، ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك. فما برحت حتى نزل القرآن(63/334)
إلى الفرض، فقال: يعتق رقبة. قالت: لا يجد. قال: فيصوم شهرين متتابعين. قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينا. قالت: ما عنده من شيء يتصدق به. قالت: فأتي ساعتئذ بعرق من تمر. قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك (3) » قال: والعرق: ستون مدا.
__________
(1) إسناده لا بأس به، وحسنه الحافظ في الفتح 9 \ 343، وأخرجه الإمام أحمد 6 \ 410، وأبو داود في الطلاق، باب في الظهار (2214) وابن الجارود (746) وابن حبان (1334) موارد، والبيهقي 7 \ 389، من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة. قال الذهبي في الميزان 4 \ 155 عن معمر بن عبد الله: '' كان في زمن التابعين لا يعرف، وذكره ابن حبان في ثقاته، ما حدث عنه سوى ابن إسحاق بخبر مظاهرة أوس بن الصامت ''. وقال الحافظ في التقريب 2 \ 266: '' مقبول '' أي عند المتابعة. وللحديث شواهد يتقوى بها، منها: ما أخرجه سعيد بن منصور (ح 1324) والبيهقي 7 \ 389، والبغوي في شرح السنة (ح 2364) وغيرهم من طريق محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار به مرسلا مختصرا ومطولا. قال البيهقي: '' هذا مرسل، وهو شاهد للموصول قبله ''. وشاهد آخر أخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب الظهار (ح 2063) والحاكم 2 \ 481، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، من طريق تميم بن سلمة السلمي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: '' تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع له ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. قالت عائشة. فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات: '' قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها '' قال: وزوجها أوس بن الصامت ''. وأصله في البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعا بصيرا 13 \ 372 فتح، والنسائي 2 \ 103، قال الأعمش عن تميم عن عروة عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: '' قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ''. وأخرجه الحاكم 2 \ 481، والبيهقي 7 \ 390، وابن حزم 10 \ 52 من طريق محمد بن الفضل ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: ''أن جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت، وكان أوس امرأ به لمم، فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته، فأنزل الله فيه كفارة الظهار ''. صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال ابن حزم: '' ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده، إلا خبرا نذكره بعد هذا إن شاء الله ''. وصححه ابن القيم في الهدي 5 \ 333. وشاهد ثالث: أخرجه سعيد بن منصور 8 \ 75، من طريق صالح بن كيسان، وهو مرسل صحيح. ورابع: أخرجه ابن جرير 28 \ 2، وابن عدي في الكامل 3 \ 24، عن أبي العالية مرسلا. وخامس: أخرجه الدارقطني 3 \ 316 عن قتادة عن أنس: أن أوس بن الصامت ظاهر. . . إلخ. وهو عند ابن جرير عن قتادة مرسلا. وسادس: أخرجه ابن جرير 28 \ 3 عن عكرمة عن ابن عباس ''كان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت. . . '' الحديث.
(2) سورة المجادلة الآية 1 (1) {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
(3) أي إلى ما فرض الله في هذه الآيات من كفارة الظهار. (2)(63/335)
صفحة فارغة(63/336)
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: " وأجمعوا على أن صريح الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وأجمعوا على أن ظهار العبد مثل ظهار الحر " (1) .
وأما حكمه الوضعي: فصحيح، وتترتب عليه آثاره وأحكامه، إذا توفرت فيه شروط صحته.
__________
(1) الإجماع، ص 105، ومراتب الإجماع لابن حزم، ص 81، والإفصاح 2 \ 63، وبداية المجتهد 2 \ 105.(63/337)
المبحث الثاني: صيغ الظهار:
المطلب الأول: تشبيه الزوجة بظهر الأم:
بأن يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي. وهذا ظهار بالإجماع.
قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي ".
ودليل ذلك: ما تقدم من أدلة الظهار (1) .
__________
(1) انظر: ص 330 وما بعدها.(63/337)
وفي معنى هذا قوله: جملتك، أو نفسك، أو ذاتك، أو جسمك، أو بدنك علي كظهر أمي.
وكذا قوله: أنت علي كبدن أمي، أو جسمها، أو ذاتها؛ لدخول الظهر فيها (1) .
__________
(1) الأم 5 \ 277، وروضة الطالبين 8 \ 262.(63/338)
المطلب الثاني: تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد من أقاربه:
كجدته، وعمته، وخالته، وأخته، ونحو ذلك.
فاختلف أهل العلم في كونه ظهارا على قولين:
القول الأول: أنه ظهار. وهو قول جمهور أهل العلم.
فهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وقال به: الحسن، وعطاء،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 422، وفتح القدير 4 \ 85، والبحر الرائق 4 \ 101.
(2) المدونة 2 \ 296، والكافي لابن عبد البر 2 \ 603، والتفريع 2 \ 94، والشرح الصغير 1 \ 484.
(3) الأم 5 \ 277، مغني المحتاج 3 \ 352، ونهاية المحتاج 7 \ 83.
(4) الكافي 3 \ 255، والمحرر 2 \ 89، وشرح الزركشي 5 \ 479.(63/338)
والشعبي، والنخعي، والزهري، والثوري (1) .
القول الثاني: أنه لا يكون ظهارا إلا بالأم أو الجدة.
وهو أحد قولي الشافعي في القديم (2) .
الأدلة: استدل الجمهور بالأدلة الآتية:
1 - قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (3) وهؤلاء محرمات بالقرابة على التأبيد فأخذن حكم الأم (4) .
2 - ولأنها جهة من النسب متأبدة التحريم كالأمومة (5) .
ودليل القول الثاني: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (6) ، فهذا في
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 228.
(2) روضة الطالبين 8 \ 264.
(3) سورة المجادلة الآية 2
(4) الإشراف 2 \ 146.
(5) المصدر السابق.
(6) سورة المجادلة الآية 2(63/339)
الأم، والجدة أم أيضا.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن تعليقه بالأم لا يمنع الحكم في غيرها إذا كانت مثلها (1) .
القول الثالث: أنه لا يكون ظهارا مطلقا.
وهو مذهب الظاهرية (2) .
إذ الظهار عند الظاهرية لا يكون إلا بالتشبيه بظهر الأم، وتكرير اللفظ مرة أخرى.
وحجته: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (3)
وجه الدلالة: أن العرب لا يعقل في لغاتها العود إلى الشيء إلا فعل مثله مرة ثانية.
ونوقش من وجهين:
الأول: أنه لو كان معنى العود إعادة اللفظ مرة أخرى، لقال: ثم يعيدون ما قالوا، لأنه يقال: أعاد كلامه بعينه، وأما عاد فإنما هو في الأفعال.
الثاني: أنه لا يعرف عن أحد من السلف من الصحابة أو التابعين أن المراد إعادة اللفظ مرة أخرى.
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف (23 \ 229) .
(2) المحلى (10 \ 49)
(3) سورة المجادلة الآية 3(63/340)
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد من أقاربه أنه ظهار؛ إذ الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.(63/341)
المطلب الثالث: تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب:
كالأمهات المرضعات، والأخوات من الرضاعة، وحلائل الآباء والأبناء، وأمهات النساء، والربائب اللاتي دخل بأمهاتهن. وقد اختلف العلماء في المسألة على قولين:
القول الأول: أنه ظهار. وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (1) ، وهؤلاء محرمات بالتأبيد، فأخذن حكم الأم.
قال الجصاص: " فأخبر أنه ألزمهم هذا الحكم؛ لأنهن لسن بأمهاتهم، وأن قولهم هذا منكر من القول وزور، فاقتضى
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2(63/341)
ذلك إيجاب هذا الحكم في الظهار بسائر ذوات المحارم "، أي من تحرم عليه.
2 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » .
قال الشافعي: " فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الرضاع مقام النسب، فلم يجز أن يفرق بينهما " (2) .
القول الثاني: إن كانت هذه المحرمة لم يطرأ تحريمها كمرضعة أبيه، ومرضعة أمه ونحو ذلك فظهار، وإن طرأ تحريمها كحليلة ابنه، فليس ظهارا.
ومثل زوجة أبيه إن تزوجها أبوه قبل أن يولد فالتشبيه بها ظهار، وإن تزوجها بعد أن ولد، فليس ظهارا.
وهو مذهب الشافعية (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء (ح 5239) ، ومسلم في الرضاع، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل (ح 1445) .
(2) الأم 5 \ 277.
(3) الأم 5 \ 278، مغني المحتاج 1 \ 354، ونهاية المحتاج 7 \ 82، وإعانة الطالبين 4 \ 35.(63/342)
وحجة هذا الرأي: أن المحرم إذا كانت حلالا له في وقت ما فيحمل إرادته له (1) .
ونوقش: بأن العبرة وقت الظهار، وهي محرمة عليه على التأبيد (2) .
الترجيح:
يظهر- والله أعلم- أن الأقرب هو قول جمهور أهل العلم، إلحاقا للمحرمة إلى أبد بالأم.
__________
(1) مغني المحتاج 1 \ 354.
(2) الإشراف 2 \ 146.(63/343)
المطلب الرابع: تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأقيت:
كأخت امرأته، أو عمتها، أو الأجنبية، ونحو ذلك.
فاختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه ليس ظهارا. وهو مذهب الحنفية، والشافعية (1) .
الأدلة: دليل الرأي الأول:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (2)
__________
(1) الأم 5 \ 278، وروضة الطالبين 8 \ 262، وإعانة الطالبين 4 \ 36.
(2) سورة المجادلة الآية 2(63/343)
والمحرمة إلى أمد ليست أما، ولا في معنى الأم.
2 - ولأنها غير محرمة على التأبيد، فلا يكون التشبيه بها ظهارا، كالحائض، والمحرمة من نسائه.
ونوقش: بالفرق، فالحائض يباح الاستمتاع بها في غير الفرج، والمحرمة يحل النظر إليها ولمسها بغير شهوة، وليس في وطء واحدة منهما حد (1) .
القول الثاني: أنه ظهار.
وهو مذهب المالكية (2) ، والحنابلة (3) ، واختاره الشنقيطي (4) .
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (5) والتشبيه بالمحرمة تأقيتا منكر من القول وزور.
ونوقش هذا الاستدلال: بما قاله الجصاص: " إن الأجنبية - وكذا المحرمة تأقيتا - لما كانت قد تحل له بحال لم يكن قوله: أنت علي كظهر الأجنبية مفيدا للتحريم في سائر
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 239
(2) المدونة2 \ 296، والكافي لابن عبد البر 2 \ 603، والشرح الصغير 1 \ 484.
(3) المغني 11 \ 58، والمحرر 2 \ 89، والفروع 5 \ 491.
(4) أضواء البيان 6 \ 521.
(5) سورة المجادلة الآية 2(63/344)
الأوقات؛ لجواز أن يملك بضع الأجنبية، فتكون مثلها، وفي حكمها، وأيضا لا خلاف أن التحريم بالأمتعة وسائر الأموال لا يصح بأن يقول: أنت علي كمتاع فلان، أو كمال فلان؛ لأن ذلك قد يملكه بحال فيستبيحه" (1) .
2 - أنه شبهها بمحرمة أشبه ما لو شبهها بالأم (2) .
ونوقش: بالفرق بين التشبيه بالأم، والتشبيه بأخت الزوجة ونحوها، إذ الأم لا تحل بحال بخلاف أخت الزوجة ونحوها.
3 - أن مجرد قوله أنت علي حرام إذا نوى به الظهار ظهار، والتشبيه بالمحرمة تحريم، فكان ظهارا (3) .
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن تحريم الزوجة لا يكون ظهارا إلا بالنية.
الوجه الثاني: أن الأصل المقيس موضع خلاف بين أهل العلم.
4 - أن مدار الظهار على تحريم الزوجة بواسطة تشبيهها بمحرمة، وذلك حاصل بتشبيهها بامرأة محرمة في الحال، ولو تحريما مؤقتا (4) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 423
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 239
(3) المغني 11 \ 58
(4) أضواء البيان 6 \ 521(63/345)
ونوقش: بعدم التسليم، فليس كل تشبيه للزوجة بمحرم ظهارا، فهذه دعوى تحتاج إلى دليل.
وحاصل هذا: أنه استدلال بمحل النزاع.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وسبب الخلاف هل تشبيهه الزوجة بمحرمة غير مؤبدة التحريم كتشبيهها بمؤبدة التحريم؟ " (1) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- ما ذهب إليه الحنفية والشافعية، إذ التشبيه بأخت الزوجة ونحوها ليس في الغلظة والقبح والشناعة كالتشبيه بالأم، حيث شبه أحل الناس له بأحرم الناس عليه، ومعلوم أن تحريم الأم أشد وأعظم من تحريم الأجنبية، أو المحرمة على سبيل التأقيت، فلا يقوى على إيجاب الكفارة المغلظة فيه وهي كفارة الظهار، وإنما يجب في تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه على سبيل التأقيت الكفارة المخففة وهي كفارة اليمين، إذ تحريم الحرام زوجة أو غيرها فيه كفارة يمين.
وعلى هذا فإن نوى باللفظ الظهار، أو أطلق فكفارة يمين، وإن نوى الطلاق فطلاق؛ إذ تشبيه الزوجة بالمحرمة تأقيتا إذا لم يكن ظهارا، فلا يخرج عن كنايات الطلاق، والطلاق يقع بالكناية مع النية، والله أعلم.
__________
(1) بداية المجتهد 2 \ 105(63/246)
المطلب الخامس: تشبيه الزوجة بظهر ذكر:
مثل أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أبي، أو ابني، أو غيرهما من الرجال. فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يكون ظهارا. وهذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، ورواية عن الإمام أحمد (3) .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (4) .
وظهر الأب والابن ليس أما ولا في معناها.
2 - أنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، فأشبه ما لو قال:
أنت علي كمال زيد (5) .
القول الثاني: أنه ظهار. وهو مذهب المالكية (6) ،
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 231، وفتح القدير 4 \ 85، والدر المختار 3 \ 467.
(2) الأم 5 \ 278، وإعانة الطالبين 4 \ 37، ومغني المحتاج 3 \ 354.
(3) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 238، والفروع 5 \ 492، وشرح المنتهى 3 \ 199.
(4) سورة المجادلة الآية 2
(5) المغني 11 \ 63.
(6) التفريع 2 \ 94، والإشراف 2 \ 147، وأحكام القرآن للقرطبي 17 \ 275، والشرح الصغير 1 \ 485.(63/347)
والحنابلة (1) .
وحجة هذا القول: أنه شبهها بظهر من يحرم عليه على التأبيد أشبه الأم (2) .
ونوقش هذا الاستدلال: بالفرق؛ إذ الأم محل للاستمتاع، دون الأب ونحوه.
الترجيح:
يترجح - والله أعلم - قول من قال: بأنه ليس ظهارا.
قال الشنقيطي رحمه الله: " الذي يظهر جريان هذه المسألة على مسألة أصولية، فيها لأهل الأصول ثلاثة مذاهب، وهي في حكم ما إذا دار اللفظ بين الحقيقة الحرفية والحقيقة اللغوية على أيهما يحمل؟ والصحيح عند جماعات من الأصوليين: أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية أولا إن كانت له حقيقة شرعية، ثم إن لم تكن شرعية حمل على العرفية، ثم اللغوية، وعن أبي حنيفة (3) : أنه يحمل على اللغوية قبل العرفية، قال: لأن العرفية وإن ترجحت بغلبة الاستعمال، فإن الحقيقة اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
والقول الثالث: أنهما لا تقدم إحداهما على الأخرى، بل
__________
(1) المغني 11 \ 63، والشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 237، والمبدع 8 \ 33.
(2) المغني 11 \ 63
(3) ينظر: بدائع الصنائع 3 \ 36، 40(63/348)
يحكم باستوائهما، فيكون اللفظ مجملا لاستواء الاحتمالين فيهما، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج. . . وإذا علمت ذلك فاعلم: أن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أبي مثلا لا ينصرف في الحقيقة العرفية إلى الاستمتاع بالوطء أو مقدماته؛ لأن العرف ليس فيه استمتاع بالذكور فلا يكون فيه ظهار، وأما على تقديم الحقيقة اللغوية فمطلق تشبيه الزوجة بمحرم ولو ذكرا يقتضي التحريم، فيكون بمقتضى اللغة له حكم الظهار " (1) .
وعلى هذا فإن نوى بهذا اللفظ الظهار أو لم ينو شيئا، فكفارة يمين، وإن نوى الطلاق فطلقة؛ لما تقدم في المطلب السابق.
__________
(1) أضواء البيان 6 \ 522(63/349)
المطلب السادس: تشبيه عضو من أعضاء الزوجة بظهر الأم أو بعضو من أعضائها:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن يشبه عضوا من أعضاء زوجته بظهر أمه.
المسألة الثانية: أن يشبه زوجته بعضو من أعضاء أمه غير الظهر.
المسألة الثالثة: أن يشبه عضوا من أعضاء زوجته بعضو من(63/349)
أعضاء أمه غير الظهر.
المسألة الأولى: أن يشبه عضوا من أعضاء زوجته بظهر أمه:
مثل أن يقول: ظهرك، أو يدك، أو رأسك علي كظهر أمي. فاختلف العلماء في كونه ظهارا على أقوال:
القول الأول: أنه لا يكون ظهارا حتى يشبه جملة امرأته.
وهو قول عند الشافعية (1) ، ورواية عن الإمام أحمد (2) .
وعند الظاهرية: لا يكون ظهارا مطلقا؛ إذ الظهار عندهم لا يكون إلا بتكرار لفظ الظهار- أنت علي كظهر أمي- مرة أخرى (3) .
وحجة هذا القول:
1 - أنه ليس منصوصا، ولا في معنى المنصوص عليه.
2 - أنه لو حلف لا يمس عضوا منها، فلا يسري إلى غيره فكذا المظاهرة.
3 - أن التشبيه بالجملة تشبيه بمحل الاستمتاع بما يتأكد تحريمه، وفيه تحريم لجملتها، فيكون آكد (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 \ 353، وتكملة المجموع الثانية 17 \ 347
(2) المغني 11 \ 64
(3) المحلى 10 \ 50، وانظر: ص 340
(4) المغني 11 \ 64(63/350)
4 - ولأن التشبيه بالعضو ليس على صورة الظهار المعهودة في الجاهلية (1) .
القول الثاني: أنه إن شبه عضوا من زوجته يعبر به عن الكل كالرأس، أو جزءا مشاعا من زوجته كالنصف، والربع ونحو ذلك بظهر أمه، فظهار، وإلا فلا.
وهو مذهب الحنفية (2) .
وحجة هذا القول: أن العضو الذي يعبر به عن الكل قائم مقام الجملة.
وأيضا: العضو الذي يعبر به عن جميع البدن، الإضافة إليه إضافة إلى جميع البدن. والجزء الشائع يشمل الظهر (3) .
ونوقش: على تسليم هذا التعليل، فإنه لا يلزم من ذلك صحة الظهار؛ لما استدل به أهل القول الأول.
القول الثالث: أنه ظهار مطلقا.
وهو مذهب المالكية، والحنابلة (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 \ 353.
(2) أحكام القران للجصاص 3 \ 423، والمبسوط 6 \ 234، وبدائع الصنائع 3 \ 233، وحاشية ابن عابدين 3 \ 466.
(3) ينظر إلى: المصادر السابقة.
(4) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 231، ومعونة أولي النهى 7 \ 702، والإقناع مع شرحه 5 \ 369.(63/351)
وسواء شبه عضوا، أو جزءا مشاعا كالنصف والربع، ونحو ذلك.
لكن عند الحنابلة: إن كان العضو في حكم المنفصل كالشعر والسن والظفر فتشبيهه بظهر الأم ليس ظهارا، لعدم ثبوتها، وكذلك ريق الزوجة وروحها، ودمها، وعرقها.
ونص المالكية على أن تشبيه الشعر والريق بظهر الأم ظهار.
فظاهر كلام المالكية: أن ما كان موضع تلذذ، فتشبيهه بظهر الأم ظهار.
وحجة هذا القول:
1 - أن تشبيه العضو بمنزلة تشبيه الجملة، بجامع تحريم الاستمتاع في كل منهما (1) .
ونوقش: بوجود الفرق كما في أدلة الرأي الأول.
2 - أنه لفظ يقتضي تحريم الوطء، فإذا علق بعضو سرى إلى الجملة كالطلاق (2) .
3 - أنه يصح إضافة الطلاق إلى العضو، فصح إضافة الظهار إليه (3) .
__________
(1) الإشراف 2 \ 147
(2) الإشراف 2 \ 147
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 \ 1749(63/352)
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: عدم تسليم الأصل المقيس عليه، فهو موضع خلاف بين أهل العلم.
الوجه الثاني. وجود الفرق بين الطلاق والظهار؛ إذ لو سلم الطلاق، فلا يسلم الظهار، إذ المناط في الظهار تشبيه جماع الزوجة بجماع الأم في التحريم، وهذا لا يتحقق بالإضافة إلى بعض الأعضاء.
4 - أن الشعر ونحوه مما ينفصل لا يكون ظهارا؛ لأنه ليس من الأعضاء الثابتة، ولا يقع الطلاق بإضافته إليها، فكذلك الظهار (1) .
القول الرابع: أنه إن شبه عضوا من أعضاء زوجته كاليد، والبطن والصدر والشعر ونحو ذلك من الأعضاء التي لا تذكر في موضع الكرامة والإعزاز أو شبه جزءا شائعا من زوجته، فظهار.
وإن كان العضو كالرأس والعين ونحو ذلك مما يذكر في موضع الكرامة والإعزاز، فليس ظهارا إلا إن نوى الظهار.
وهذا مذهب الشافعية (2) .
وحجة هذا القول:
1 - أن يد الزوجة، وبطنها، وظهرها ونحو ذلك لا تذكر في
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 231، ومعونة أولي النهي 7 \ 702، والإقناع مع شرحه 5 \ 369
(2) المنهاج وشرحه مغني المحتاج 3 \ 353(63/353)
موضع الكرامة والإعزاز، فلا يحتمل تشبيهها بظهر الأم إلا الظهار.
2 - أن عين الزوجة ورأسها ونحو ذلك مما يذكر في موضع الكرامة والإعزاز فتشبيهها بظهر الأم يحتمل الظهار وغيره كالكرامة، فلا يكون ظهارا إلا بنيته، دون نية الكرامة، أو الإطلاق (1) .
ونوقش: بأن محصل هذا الدليل بأن ما لا يذكر من الأعضاء في موضع الكرامة فتشبيهه بظهر الأم ظهار، وأن ما يذكر في موضع الكرامة فتشبيهه بظهر الأم ليس ظهارا إلا مع النية، وهذه دعوى تحتاج إلى دليل.
الترجيح:
يترجح - والله أعلم - ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وأنه لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة زوجته؛ لما تقدم في المطلب الرابع من المبحث الثاني.
وقد يستثنى من ذلك ما إذا شبه عضوا يفيد تشبيه جماع الزوجة بجماع الأم في الحرمة، كالفرج، والله أعلم.
__________
(1) المصادر السابقة(63/354)
المسألة الثانية: أن يشبه زوجته بعضو من أعضاء أمه غير الظهر:
مثل أن يقول: أنت علي كيد أمي، أو رأسها، أو رجلها، ونحو ذلك.
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:(63/354)
القول الأول: أنه ليس ظهارا. وهو قول للشافعي.
واستثنى بعض الشافعية: الفرج. فقال: إن تشبيه الزوجة بفرج الأم ظهار (1) .
وحجة هذا القول: ما تقدم من حجة القول الأول في المسألة السابقة (2) .
القول الثاني: أنه إذا شبه زوجته بعضو يحرم النظر إليه من الأم كالفرج والفخذ ونحوهما فظهار، وإن لم يحرم النظر إليه كالرأس والوجه ونحوهما لم يكن مظاهرا.
وهو مذهب الحنفية (3) .
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (4) .
وجه الدلالة: أن الظهار أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، والظهر لا يحل النظر إليه، فوجب أن يكون سائر ما لا يستباح النظر إليه في حكمه، وما يجوز النظر إليه فليس فيه دلالة على تحريم الزوجة بتشبيهها به؛ إذ ليس تحريمها من الأم مطلقا، فوجب أن لا يصح الظهار به (5) .
__________
(1) روضة الطالبين 8 \ 263، ومغني المحتاج 3 \ 353
(2) انظر: ص 350
(3) المبسوط 6 \ 233، وبدائع الصنائع 3 \ 233
(4) سورة المجادلة الآية 2
(5) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 423(63/355)
ونوقش: بعدم التسليم؛ إذ ليس المناط التشبيه بما يحرم النظر إليه، بل المناط تشبيه جماع الزوجة جماع الأم، والله أعلم.
2 - أنه لما جاز له استباحة النظر إلى هذه الأعضاء، أشبه سائر الأشياء التي يجوز أن يستبيح النظر إليها مثل الأموال، والأملاك (1) .
ونوقش: بما تقدم.
3 - أنه شبهها بعضو لا يحرم النظر إليه، فلم يكن مظاهرا، كما لو شبهها بعضو زوجة له أخرى (2) .
ونوقش: بوجود الفرق بين الزوجة والأم، فإنه لو شبهها بظهر زوجته لم يكن مظاهرا، وكذا فإن النظر إلى عضو الأم إن لم يحرم، فإن التلذذ به يحرم.
قال القرطبي عن قول أبي حنيفة: " وهذا لا يصح؛ لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه، وإياه قصد المظاهر " (3) .
القول الثالث: أنه ظهار مطلقا. وهو مذهب المالكية (4) .
__________
(1) المصدر السابق
(2) أحكام القران للجصاص 3 \ 423، والمبسوط 6 \ 233، وحاشية ابن عابدين 3 \ 466.
(3) أحكام القرآن للقرطبي 17 \ 374.
(4) المدونة 2 \ 296، أحكام القرآن للقرطبي 17 \ 374، الشرح الكبير وحاشية 2 \ 439، والشرح الصغير 1 \ 484(63/356)
والحنابلة (1) .
وحجة هذا القول:
1 - أنه شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه، فكان مظاهرا، كما لو شبهها بظهرها.
2 - أنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر (2) .
ونوقش هذان الدليلان: بأن محصلهما إلحاق بقية الأعضاء بالظهر، وهذا قياس مع الفارق؛ إذ التشبيه بالظهر معناه. تشبيه جماع الزوجة بجماع الأم.
القول الرابع: أنه إن شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه كاليد والبطن والشعر، ونحو ذلك مما لا يذكر في موضع الكرامة، أو شبه زوجته بعضو شائع من أمه فظهار. وإن شبهها برأس أمه أو عينها، ونحو ذلك مما يذكر موضع الكرامة والإعزاز، فليس ظهارا، إلا مع نيته.
وهذا مذهب الشافعية (3) .
وحجة هذا القول: ما تقدم من حجة قولهم في المسألة السابقة.
__________
(1) معونة أولي النهى 7 \ 207، وكشاف القناع 5 \ 369.
(2) المصادر السابقة
(3) الأم 5 \ 277، وروضة الطالبين 8 \ 263، ومغني المحتاج 3 \ 353.(63/357)
الترجيح:
الراجح - والله أعلم- القول الأول؛ لما تقدم في المطلب الرابع من المبحث الثاني، وقد يستثنى من ذلك ما إذا شبه زوجته بعضو يفيد تشبيه جماع الزوجة بجماع الأم في الحرمة، كالفرج، والله أعلم.(63/358)
المسألة الثالثة: تشبيه عضو من أعضاء زوجته بعضو من أعضاء أمه غير الظهر:
كأن يقول: يدك كيد أمي، أو كرجل أمي. . . ونحو ذلك فاختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة أمه وهو قول للشافعي (1) ، ورواية عن الإمام أحمد (2) .
وتقدم دليل هذا القول في المسألة السابقة (3) .
القول الثاني: أنه إذا شبه عضوا من أعضاء زوجته مما يعبر به عن الكل كالرأس، أو جزءا مشاعا كالنصف والربع ونحو ذلك بعضو يحرم النظر إليه من أمه كالفخذ ونحوه كان مظاهرا.
وهذا مذهب الحنفية (4) . وتقدم دليلهم.
__________
(1) المصادر السابقة ص 355
(2) المصادر السابقة ص 357
(3) انظر ص355
(4) المصادر السابقة ص 355(63/358)
القول الثالث: أنه ظهار مطلقا. وهو مذهب المالكية (1) ، والحنابلة (2) .
لكن عند المالكية سواء كان العضو في المشبه، أو المشبه به في حكم المتصل كاليد والرجل، أو المنفصل كالشعر والريق.
وعند الحنابلة وبعض المالكية: أن العضو إذا كان في حكم المنفصل كالشعر لا يكون تشبيهه أو التشبيه به في حكم الظهار. وتقدم دليل هذا القول (3) .
القول الرابع: إن كان العضو المشبه، أو المشبه به كاليد أو البطن أو الشعر ونحو ذلك مما لا يذكر في موضع الكرامة والإعزاز فظهار وإن كان العضو كالرأس والعين ونحو ذلك مما يذكر في موضع الكرامة والإعزاز فليس ظهارا إلا مع نيته.
وهو مذهب الشافعية (4) . وتقدم دليله (5) .
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- ما ذهب إليه أهل القول الأول لما تقدم في المطلب الرابع من المبحث الثاني. وقد يستثنى من ذلك ما إذا شبه عضوا من أعضاء زوجته بعضو من أعضاء أمه يفيد
__________
(1) المصادر السابقة ص 356
(2) المصادر السابقة ص 357
(3) انظر: ص 356
(4) انظر: ص 355
(5) انظر: ص 355(63/359)
تشبيه جماع الزوجة بجماع الأم في الحرمة، والله أعلم.(63/360)
المطلب السابع: تشبيه الزوجة بظهر بهيمة:
كأن يقول لزوجته: أنت علي كظهر البهيمة، أو دابتي.
فللعلماء في ذلك قولان:
القول الأول. أنه لا يكون ظهارا. وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (1)
2 - أن ظهر البهيمة ليس محلا للاستمتاع، فلم يكن تشبيه الزوجة به ظهارا.
القول الثاني: أنه ظهار. وهو مذهب المالكية (2) .
وحجته: أن حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم.
ونوقش: بعدم التسليم أن الظهار مجرد تشبيه ظهر بظهر،
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) التفريع 2 \ 94(63/360)
بل تشبيهه بظهر مخصوص، فلا يشمل كل ظهر (1) .
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم؛ إذ ظهر البهيمة ليس محلا للاستمتاع.
__________
(1) انظر: ص 346(63/361)
المطلب الثامن: تشبيه الزوجة بالأم بحذف لفظ الظهر:
كأن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كأمي، أو مثل أمي، ولم يذكر الظهر، فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن ينوي أنها مثلها في الكرامة، والتوقير، أو أنها مثلها في الصفة، ونحو ذلك.
فلا يكون ظهارا باتفاق الأئمة؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (1) .
وهذا لم يقصد الظهار بهذا اللفظ، ولأن هذا اللفظ لا يتعين للظهار، لا عرفا، ولا لغة، إلا لقرينة تدل على قصده.
الحال الثانية: أن ينوي الظهار. فإنه يكون مظاهرا باتفاق الأئمة الأربعة
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2(63/361)
وحجة هذا القول: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (1) .
وإذا قال الزوج لزوجته أنت علي مثل أمي، ونوى به الظهار كان في معنى قوله: أنت علي كظهر أمي، لدخول الظهر في جملة الأم.
الحال الثالثة: أن يطلق، فلا ينوي ظهارا، ولا غيره.
فاختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يكون ظهارا. وبه قال أبو حنيفة (2) ، والشافعي (3) ، ورواية عن الإمام أحمد (4) .
واحتجوا: بأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم، فلم ينصرف إليه بغير نية ككناية الطلاق (5) .
القول الثاني: أنه ظهار. وهو قول المالكية (6) ، ومذهب
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) الدر المختار وحاشيته 3 \ 470.
(3) الأم 5 \ 279، روضة الطالبين 8 \ 263، وتكملة المجموع الثانية 17 \ 348.
(4) المغني 11 \ 60
(5) المصدر السابق
(6) التفريع 2 \ 94، والإشراف 2 \ 147، والشرح الصغير وحاشيته 1 \ 485.(63/362)
الحنابلة (1) .
واحتجوا: بأنه شبه امرأته بجملة أمه، فكان مشبها لها بظهرها، فيثبت الظهار كما لو شبهها به منفردا (2) .
ونوقش: بأن هذا اللفظ محتمل لغيره احتمالا كثيرا، فلا يتعين فيه الظهار بغير دليل.
الترجيح:
يترجح - والله أعلم - القول بعدم كونها ظهارا، لما عللوا به.
قال الشنقيطي رحمه الله: " وهذا القول هو الأظهر عندي؛ لأن اللفظ المذكور لا يتعين للظهار لا عرفا ولا لغة، إلا لقرينة تدل على الظهار " (3) .
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 235، ومعونة أولي النهى 7 \ 702، ومنار السبيل 2 \ 237.
(2) الإشراف 2 \ 147، والمغني 11 \ 60.
(3) أضواء البيان 6 \ 524.(63/363)
المطلب التاسع: قول الزوج لزوجته: أنت كأمي، أو أنت أمي بحذف لفظ " علي " أو " عندي ":
وله ثلاث حالات:
الحال الأولى، والثانية: أن ينوي أنها كأمه في الكرامة ونحو ذلك، أو يطلق.(63/363)
فإن نوى أنها كأمه في الكرامة، والتقدير، ونحو ذلك أو أطلق فلم ينو شيئا، فلا يلحقه ظهار.
ودليل ذلك: أنه ليس بصريح في الظهار، لكونه غير اللفظ المستعمل فيه، فلا يكون ظهارا بغير نية، كما لو قال: أنت كبيرة مثل أمي.
ولأنه يحتمل التشبيه في التحريم وغيره، فلا يجوز أن يتعين التحريم بغير نية.
الحال الثالثة: أن ينوي الظهار، فإن نوى الظهار، فللعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه ظهار. وهو قول عند المالكية (1) ، والشافعية (2) ، ومذهب الحنابلة (3) .
وحجة هذا القول: أن هذا اللفظ يحتمل الظهار، فإذا نوى به الظهار كان ظهارا.
القول الثاني: أنه ليس بظهار. وهو مذهب الحنفية (4) .
__________
(1) الشرح الصغير وحاشيته 1 \ 485.
(2) ينظر: المصادر السابقة للشافعية
(3) المنتهى وشرحه معونة أولي النهى 7 \ 702.
(4) فتح القدير 4 \ 253، والدر المختار وحاشيته 3 \ 470.(63/364)
واستدلوا: بما رواه أبو تميمة الهجيمي رضي الله عنه: «أن رجلا قال لامرأته: يا أخية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أختك هي؟ فكره ذلك، ونهى عنه (1) » .
" ومعنى النهي قربه من لفظ التشبيه، ولولا هذا الحديث لأمكن أن يقال: هو ظهار أي قوله أنت أمي؛ لأن التشبيه في أنت أمي أقوى منه مع ذكر الأداة، ولفظ: يا أخية استعارة بلا شك، وهي مبنية على التشبيه، لكن الحديث أفاد كونه ليس ظهارا حيث لم يبين فيه حكما سوى الكراهة والنهي، فعلم أنه لا بد في كونه ظهارا من التصريح بأداة التشبيه شرعا " اهـ (2) .
لكن الحديث مرسل (3) .
وأيضا: فعلى تسليم ثبوت الحديث لم توجد نية الظهار، فلا يكون ظهارا.
الترجيح في هذه الحال كالترجيح في الحال الثالثة من المبحث السابق، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب في الرجل يقول لامرأته: يا أختي برقم (2210) .
(2) فتح القدير لابن الهمام 4 \ 253
(3) مختصر السنن للمنذري 3 \ 136(63/365)
المبحث الثالث: تشبيه الزوجة زوجها بظهر أبيها:
المطلب الأول: كونه ظهارا.
المطلب الثاني: وجوب الكفار ة.
المطلب الثالث: تمكين الزوجة زوجها من الاستمتاع.
المطلب الأول: كونه ظهارا:
إذا قالت الزوجة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، فاختلف أهل العلم في كونه ظهارا على قولين:
القول الأول: أنه ليس ظهارا. وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة.
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (1) فخص الرجال بذلك.
2 - أنه قول يوجب تحريما في الزوجة يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجل كالطلاق (2) .
3 - أن الحل في المرأة حق للرجل، فلم تملك المرأة إزالته
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 252.(63/366)
كسائر حقوقه (1) .
القول الثاني: أنه يكون ظهارا. وهو قول الحسن، والزهري، والأوزاعي، والنخعي (2) .
وحجة هذا القول:
1 - أنها أحد الزوجين ظاهر من الآخر، فكان مظاهرا كالرجل (3) .
ونوقش: بوجود الفرق بين الرجل والمرأة، إذ العقد والحل بيد الزوج دون الزوجة.
2 - أن الظهار تحريم يرتفع بالكفارة، وهي من أهل الكفارة، فكانت من أهل الظهار (4) .
ونوقش: بعدم التلازم، فليس كل من كان من أهل الكفارة كان من أهل الظهار؛ إذ الظهار له شروطه المعتبرة.
الترجيح:
الراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، إذ هو ظاهر القرآن، والله الموفق.
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي 17 \ 276.
(2) المغني 11 \ 112، والشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 257.
(3) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 253.
(4) بدائع الصنائع 3 \ 231.(63/367)
المطلب الثاني: وجوب الكفارة:
اختلف العلماء في وجوب الكفارة على المرأة إذا قالت لزوجها: أنت. علي كظهر أبي، على قولين:
القول الأول: أنه تجب فيه كفارة يمين، وبه قال عطاء، وبعض الحنفية (1) ، وهو رواية عن الإمام أحمد (2) ، وقال الإمام أحمد: "قد ذهب عطاء مذهبا حسنا جعله بمنزلة من حرم على نفسه شيئا مثل الطعام وما أشبهه ".
واستدلوا بما يلي:
1 - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (4) .
قال ابن القيم: " وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان، إما مختصا به، وإما شاملا له ولغيره، فلا يجوز أن يخلى سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة، ويعلق بغيره، وهذا ظاهر الامتناع " اهـ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 231، وحاشية ابن عابدين 3 \ 467.
(2) المغني 11 \ 112، والشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 253، والفروع 5 \ 489.
(3) سورة التحريم الآية 1
(4) سورة التحريم الآية 2
(5) زاد المعاد 3 \ 316.(63/368)
2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (1) ثم قال تعالى بعد ذلك: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} (2) الآية.
قال شيخ الإسلام: " ذكر هذا بعد النهي عن التحريم ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يمينا بالله، أو يمينا أخرى، وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين " (3) .
3 - أن مجرد المنكر من القول والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب، والظهار قبل العود، والظهار من أمته وأم ولده.
4 - أنه تحريم لا يثبت التحريم في المحل فلم يوجب كفارة الظهار كتحريم سائر الحلال.
5 - أنه ظهار من غير امرأته أشبه الظهار من أمته (4) .
القول الثاني: أنه تجب عليها كفارة ظهار. وهو قول بعض الحنفية (5) ، ومذهب الحنابلة (6) .
وحجة هذا القول: ما ورد عن عائشة بنت طلحة قالت:
" إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي، فسألت أهل
__________
(1) سورة المائدة الآية 87
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) مجموع الفتاوى 14 \ 450.
(4) المغني، الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 253، والمبدع 8 \ 38.
(5) بدائع الصنائع 3 \ 231.
(6) المحرر 2 \ 98، والفروع 3 \ 489، والمبدع 8 \ 37.(63/369)
المدينة، فرأوا أن عليها الكفارة".
وروى أبو إسحاق الشيباني، قال: كنت جالسا في المسجد. . . فجاء رجل حتى جلس إلينا فقال: أنا مولى لعائشة بنت طلحة أعتقتني عن ظهارها، خطبها مصعب بن الزبير، فقالت: هو علي كظهر أبي إن تزوجته، ثم رغبت فيه بعد فاستفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ كثير، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه فتزوجته واعتقتني ".
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: قال ابن قدامة: " وما روي عن عائشة بنت طلحة في عتق الرقبة، فيجوز أن يكون إعتاقها تكفيرا ليمينها، فإن عتق الرقبة أحد خصال كفارة اليمين، ويتعين حمله على هذا؛(63/370)
لكون الموجود منها ليس بظهار، وكلام أحمد لا يقتضي وجوب كفارة الظهار، وإنما قال: الأحوط أن تكفر، وكذا حكاه ابن المنذر ".
الوجه الثاني: أن ثبوته عن الصحابة فيه نظر فإن الراوي عنهم مبهم. وفي لفظ: " فاستفتى لها فقهاء كثير، فأمروها أن تكفر، فأعتقت غلاما لها، ثمن ألفين " (1) .
وفي لفظ: " فسئل عن ذلك أصحاب ابن مسعود، فقالوا: تكفر) (2) .
وفي لفظ: " فاستفت بالمدينة، فأفتيت أن تكفر عن يمينها وتنكحه " (3) .
القول الثالث: أنه لا يلزمها شيء. وبه قال الإمام مالك (4) ، والشافعي (5) ، وهو رواية عن الإمام أحمد (6) .
وحجة هذا القول: أنه قول منكر وزور، وليس بظهار، فلم يوجب كفارة كالسب والشتم ليس فيه تحريم للحلال، فتجب فيه كفارة يمين.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق 6 \ 444. والعبارة هكذا في الأصل.
(2) أخرجه عبد الرزاق 6 \ 444.
(3) أخرجه عبد الرزاق 6 \ 444.
(4) المدونة 2 \ 298، والشرح الكبير وحاشيته 2 \ 439.
(5) روضة الطالبين 8 \ 263.
(6) المغني 11 \ 112.(63/371)
الترجيح:
يترجح- والله أعلم- القول الأول؛ لدلالة القرآن على ما ذهبوا إليه.(63/372)
المطلب الثالث: تمكين الزوجة زوجها من الاستمتاع:
اختلف العلماء القائلون بوجوب كفارة الظهار في تمكين الزوجة من نفسها قبل تكفيرها على قولين:
القول الأول: أنه يجب عليها أن تمكنه قبل أن تكفر.
وهذا هو المذهب (1) .
وحجة هذا القول:
1 - أنه حق له عليها، فلا يسقط بيمينها.
2 - أنه ليس بظهار، وإنما هو تحريم للحلال، فلا يثبت تحريمها، كما لو حرم طعامه (2) .
القول الثاني: أنها لا تمكنه. حكي عن أبي بكر من الحنابلة (3) .
وحجته: قياس ظهار المرأة على ظهار الرجل (4) .
قال ابن قدامة: " وليس بجيد؛ لأن الرجل ظهاره صحيح،
__________
(1) شرح الزركشي 3 \ 508، والفروع 5 \ 489، والمبدع 8 \ 37.
(2) المغني 11 \ 114.
(3) المغني 11 \ 114، والمحرر 2 \ 89.
(4) شرح الزركشي 5 \ 509.(63/372)
وظهار المرأة غير صحيح، ولأن حل الوطء حق للرجل، فملك رفعه، وهو حق عليها، فلا تملك إزالته".
الترجيح:
الراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ لما تقدم أنه ليس ظهارا لا حقيقة ولا حكما.(63/373)
المبحث الرابع: المظاهرة من النساء بكلمة واحدة، أو كلمات:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أن يظاهر من نسائه بكلمات.
المطلب الثاني: أن يظاهر من نسائه بكلمة واحدة.
المطلب الأول: أن يظاهر من نسائه بكلمات:
كأن يقول لكل امرأة من نسائه: أنت علي كظهر أمي.
ففي لزوم كفارة أو كفارات للعلماء في ذلك أقوال:
القول الأول: أن تلزمه كفارات. وهو قول جمهور أهل العلم.(63/373)
وحجة هذا القول ما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) ، فأوجب الله عز وجل الكفارة بالظهار والعود، وقد تكرر ذلك، فتتكرر الكفارة.
2 - أنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة، فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر.
3 - ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها في الحنث في الأخرى، فلا تكفرها كفارة واحدة كالأصل.
4 - أن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعدد بتعدده في المحال المختلفة كالقتل (2) .
القول الثاني: أنه تلزمه كفارة واحدة. وهو رواية عن الإمام أحمد (3) .
وحجة هذا القول: أن كفارة الظهار حق لله تعالى، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد (4) .
ونوقش من وجهين:
الأول: أنه اجتهاد مخالف لظاهر القرآن.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3
(2) المغني 11 \ 79.
(3) المصدر السابق.
(4) المغني 11 \ 79، وكشاف القناع 5 \ 373.(63/374)
الثاني: أنه حصل التداخل في الحد - على القول به - لإحاطة إحدى العقوبتين بالأخرى.
الترجيح:
يترجح - والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ إذ هو ظاهر القرآن الكريم.(63/375)
المطلب الثاني: أن يظاهر من نسائه بكلمة واحدة:
إذا ظاهر الزوج من نسائه بكلمة واحدة بأن قال لنسائه:
أنتن علي كظهر أمي. فاختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أنه تلزمه كفارة واحدة. وهو مذهب المالكية (1) والحنابلة (2) ، وبه قال عطاء، وطاوس، وأبو ثور، وإسحاق (3) .
وحجة هذا القول:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (4) .
ولم يقل فتحرير رقبات، فجعل كفارة المظاهر تحرير رقبة،
__________
(1) الموطأ (560) والمدونة 2 \ 299، والاستذكار 17 \ 117، والإشراف 2 \ 149،
(2) الكافي 3 \ 355، ومعونة أولي النهى 7 \ 713، والإقناع مع شرحه 5 \ 375
(3) الاستذكار 17 \ 117، والمغني 11 \ 78.
(4) سورة المجادلة الآية 3(63/375)
ولم يخص واحدة من أربع.
2 - أنه قول عمر وعلي رضي الله عنهما.
قال ابن قدامة: " ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا فكان إجماعا " (1) .
3 - ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى (2) .
القول الثاني: أنه إذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة، فعليه لكل واحدة كفارة. وهو مذهب الحنفية (3) ، ورواية عن الإمام أحمد (4) ، وبه قال الأوزاعي، والثوري (5) .
وحجة هذا القول:
1 - ما روي عن علي رضي الله عنه قال: " إذا ظاهر مرارا
__________
(1) المغني 11 \ 65.
(2) المصدر السابق
(3) بدائع الصنائع 3 \ 234.
(4) المغني 11 \ 65
(5) الاستذكار 17 \ 118.(63/376)
في مجلس واحد فكفارة واحدة، وإن ظاهر في مقاعد شتى فكفارات، والأيمان كذلك ".
ونوقش: بضعفه مع مخالفته ما ورد عن عمر رضي الله عنه.
2 - أن الظهار وإن كان بكلمة واحدة فإنها تتناول كل واحدة منهن على حيالها، فصار مظاهرا من كل واحدة منهن، والظهار تحريم لا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا تعدد التحريم تتعدد الكفارة (1) .
ونوقش هذا الدليل: بأن محصله استدلال بمحل النزاع، ولا يسلم أن الظهار بكلمة واحدة يتناول كل امرأة على حيالها، بل يتناول الجمع دفعة واحدة، فهو ظهار واحد، فلا تلزم فيه أكثر من كفارة.
3 - ولأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن، فوجب عليه لكل واحدة كفارة، كما لو أفردها (2) .
ونوقش هذا القياس: بوجود الفارق، فإنه إذا أفرد كل واحدة بكلمة فقد تعدد الظهار، بخلاف ما إذا ظاهر منهن بكلمة واحدة، فلم يتعدد الظهار.
__________
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 280.
(2) الشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 280.(63/377)
الراجح:
يترجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لقوة ما استدلوا به، ومناقشة الرأي الثاني.(63/378)
المبحث الخامس: تكرار الظهار:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أن يكون قبل التكفير:
مثل: أن يظاهر من امرأته، ثم يكرره قبل أن يكفر، فاختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه تلزمه كفارة واحدة. وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجة هذا القول:
1 - أنه قول لم يؤثر تحريما في الزوجة، فلم تجب به كفارة أخرى كاليمين بالله تعالى.
2 - أنه لفظ يتعلق به كفارة، فإذا تكرر كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى (1) .
القول الثاني: أنه تلزمه كفارات، إلا أن يكون في مجلس واحد، وأراد التكرار، فعليه كفارة واحدة.
__________
(1) المغني 11 \ 115.(63/378)
وهذا مذهب الحنفية (1) ، وعند المالكية: إن نوى كفارات لزمته، وإلا كفارة واحدة.
وحجته:
1 - أن الظهار لما كان سببا لتحريم ترفعه الكفارة وجب أن تجب بكل ظهار كفارة.
لكن إن أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة؛ لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار (2) .
ونوقش: بعدم التسليم؛ إذ الكفارة وجبت بالسبب الأول، فلم تجب بالسبب الثاني، كاليمين بالله عز وجل.
وأجيب: أنه يصح الظهار الثاني والثالث، ولا منافاة في اجتماع أسباب الحرمة كالخمر حرام على الصائم لعينها، ولصومه، وليمينه.
وأما اليمين بالله عز وجل، فالكفارة لهتك حرمة الاسم العظيم، ولم يتعدد ذكره (3)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 424، وفتح القدير 4 \ 257، والدر المختار وحاشيته 3 \ 471.
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 424، وبدائع الصنائع 3 \ 235.
(3) بدائع الصنائع 3 \ 235، فتح القدير 4 \ 257.(63/379)
ورد: أنه لا يلزم من اجتماع الأسباب تعدد المسبب، فلا تتعدد الطهارة بتعدد أسباب الحدث.
2 - أنه قول يوجب تحريم الزوجة، فإذا نوى الاستئناف تعلق بكل مرة حكم كالطلاق (1) .
ونوقش: بأن ما زاد على الطلاق الثلاث لا يثبت له حكم بالإجماع، وبهذا ينتقض ما علل به، وأما الطلقة الثالثة فيثبت بها تحريم زائد، وهو التحريم قبل زوج وإصابة بخلاف الظهار الثاني، فإنه لا يثبت به تحريم، فنظير الظهار الطلقة الثالثة، لا يثبت بما زاد عليها تحريم، ولا يثبت له حكم.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لأن الأصل براءة الذمة من الكفارة الثانية.
__________
(1) المغني 11 \ 115، والشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 278.(63/380)
المطلب الثاني: أن يكون بعد التكفير:
إن كفر عن الأول، ثم ظاهر لزمه للثاني كفارة بلا خلاف؛ لأن الظهار الثاني مثل الأول، فإنه حرم الزوجة المحللة فأوجب الكفارة كالأول، بخلاف ما قبل التكفير (1) .
__________
(1) المغني 11 \ 115، والشرح الكبير مع الإنصاف 23 \ 278(63/380)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشكره سبحانه على ما من به من التوفيق.
ومن خلال معايشتي لبحث الظهار خرجت بهذه الثمار:
الأولى: عناية الشارع بأحكام الظهار حيث جاءت أحكامه صريحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن تعريف الظهار في الشرع: " أن يشبه زوجته بمن تحرم عليه على تأبيد ".
الثالثة: أن حكمه التكليفي التحريم، وحكمه الوضعي الصحة إذا توافرت شروطه.
الرابعة: أن تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد ظهار سواء كان من أقاربه أم لا، دون من يحرمن عليه على التأقيت، ودون تشبيه الزوجة بظهر ذكر، أو بهيمة.
الخامسة: أن تشبيه عضو من أعضاء الزوجة، أو تشبيه الزوجة بعضو غير الظهر لا يكون ظهارا، وقد يستثنى ما إذا أفاد العضو الجماع كالفرج.
السادسة: أن قول الزوج لزوجته: أنت علي كأمي، أو مثل أمي لا يكون ظهارا إلا مع النية.
السابعة: أن تشبيه الزوجة زوجها بظهر أبيها لا يكون ظهارا، وعليها كفارة يمين.(63/381)
الثامنة: إذا ظاهر من نسائه بكلمات فعليه كفارات، وبكلمة واحدة عليه كفارة واحدة.
التاسعة: إذا كرر الظهار قبل التكفير، فتلزمه كفارة واحدة، وإن كان بعد التكفير فواحدة أخرى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(63/382)
حديث شريف
عن أبي هريرة [رضي الله عنه] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (1) »
رواه أبو داود في الصلاة برقم (1455) .
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(63/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (1)
(سورة الأنبياء، الآية 30)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 30(64/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(64/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(64/3)
المحتويات
الافتتاحية
أقسام المياه لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) 35
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 55
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 75
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 93(64/4)
البحوث
معتقد أهل السنة والجماعة في الشفاعة للدكتور / عبد الله بن سليمان الغفيلي 119
عقيدة الإمام محمد بن إدريس الشافعي للدكتور / محمد بن عبد الرحمن الخميس 193
الرأي السديد فيما إذا وافق يوم الجمعة يوم العيد للدكتور / عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين 253
الحكمة في تذييل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدكتور / حسين بن محمد شريف هاشم 297
الإدغام الصرفي للدكتورة / فائزة بنت عمر علي المؤيد 355(64/5)
صفحة فارغة(64/6)
أقسام المياه
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
إخوة الإسلام، فإن الله سبحانه قد شرع لنا دين الإسلام ومن علينا بأن أكمله وأتمه ورضيه لنا دينا، وما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وقد تلقى هذا الدين والعلم عنه أصحابه رضي الله عنهم، فبلغوه كما سمعوه وأدوا أمانته فرضي الله عنهم وأرضاهم، وهكذا من بعدهم إلى أن وصل إلينا محفوظا مبينا، وكان الناس في تلقي هذا العلم والنور على درجات، أكملها من فقه في دين الله ونفعه ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وأخسرهم صفقة من لم يرفع به رأسا، فعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ(64/7)
والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري.
فظهر من هذا الحديث أن أفضل خلق الله هو: من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، وهو مع ذلك علم العلم ثم علمه فانتفع به في نفسه ونفع به غيره من خلق الله، وهذا دأب العلماء الربانيين الصالحين المصلحين - نظمنا الله في سلكهم وهدانا لسلوك طريقهم وجادتهم -.
وقد جاء في البخاري أيضا من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » فعلامة إرادة الله الخير بعبده أن يفقهه في دينه، هذا وإن لعلمائنا رحمهم الله سلفا وخلفا يدا طولى في بيان دين الله. عقيدة وشريعة على مر القرون، حتى وصل إلينا سهلا ميسرا عذبا نميرا في بطون الكتب، لا تحتاج إلا إلى همة في البحث والتعلم، مع الضراعة إلى الله سبحانه وسؤاله التوفيق والسداد، ثم إن من المعلوم أن العلماء في المسائل الفقهية خاصة لا زالوا يختلفون، وأسباب خلافهم كثيرة جدا، ذكر طرفا منها شيخ
__________
(1) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(64/8)
الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه النافع: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ومن جملة الأسباب: أن يكون العالم أو الإمام لم يبلغه في المسألة الدليل الذي بلغ العالم الآخر فيقول بخلاف قوله. ومنها: أن يبلغه الدليل لكنه يفهمه فهما بخلاف ما فهمه غيره من العلماء، أو يظن نسخه أو ترجيحه أو غيرها من الأسباب المبسوطة في مظانها، والواجب على طالب العلم إذا ورد عليه مثل هذه المسائل أن يجتهد في البحث واستقصاء الأدلة وما يرد على الأدلة من مناقشات ويكرر النظر ويدققه حتى يخرج بالرأي الذي تطمئن إليه نفسه، ويدين به ربه سبحانه، ثم مع هذا ليتق الله في علماء الأمة وليسلم لسانه من أعراضهم، أو الطعن في قصورهم ونياتهم، أو تتبع زلاتهم وهناتهم، فإن العالم كما لا يتبع في زلته فإنه لا يتبع بزلته؛ بل يعتذر عنه ويستغفر له ويظن فيه الظن الحسن ما دام على الجادة الحق سائرا وعن كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صادرا وإليها واردا، فذاك حق له الدعاء والاستغفار، والله تعالى يقول في شأن المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
فنسأل الله لعلمائنا المغفرة والرحمة، كما نسأله سبحانه أن يرفع درجاتهم ويعلي منازلهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويحشرنا
__________
(1) سورة الحشر الآية 10(64/9)
وإياهم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ولما كان الأمر بهذه المثابة فإنا قد اخترنا أن تكون افتتاحية هذا العدد المبارك من مجلة البحوث، في مسائل فقهية تمس الحاجة إليها، وعادة العلماء البداءة بكتاب الطهارة؛ لأنه مفتاح الصلاة والصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ويبدءون من كتاب الطهارة بباب المياه ونحن على سننهم سائرون وبهم مقتدون، والله سبحانه الموفق والمعين. فنقول: باب المياه فيه مسائل:(64/10)
المسألة الأولى: في تقسيم الماء وهل هو منقسم إلى قسمين أو ثلاثة، وبعبارة أخرى هل الطهور بمعنى طاهر أو أنه قسم له؟
في المسألة خلاف:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر.
أدلتهم:
1 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) ، فقوله: (طهور) يراد به ما يتطهر به؛ يفسر ذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 48
(2) سورة الأنفال الآية 11(64/10)
2 - ما أخرجه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » أي مطهرة، والأمة إنما خصت بجعل الأرض لهم مطهرة لا بكونها طاهرة، لأنها طاهرة في حق كل أحد.
3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر قال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته (2) » أخرجه الترمذي.
وجه الدلالة: أن من المعلوم أنهم إنما سألوا عن التطهر بماء البحر لا عن طهارته، ولولا أنهم يفهمون من الطهور أنه المطهر، لم يحصل الجواب.
4 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا (3) » والمعنى: مطهر إناء أحدكم.
القول الثاني: قول الحنفية، وهو اختيار الخرقي من الحنابلة، وهو محكي عن الحسن البصري، وسفيان، وأبي بكر الأصم، وابن داود، وقول بعض أهل اللغة: إن الطهور هو الطاهر.
أدلتهم:
1 - قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (4) .
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (69) ، سنن النسائي المياه (332) ، سنن أبو داود الطهارة (83) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (386) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، موطأ مالك الطهارة (43) ، سنن الدارمي الطهارة (729) .
(3) صحيح البخاري الوضوء (172) ، صحيح مسلم الطهارة (279) ، سنن الترمذي الطهارة (91) ، سنن النسائي المياه (338) ، سنن أبو داود الطهارة (71) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (363) ، مسند أحمد بن حنبل (2/427) ، موطأ مالك الطهارة (67) .
(4) سورة الإنسان الآية 21(64/11)
وجه الدلالة: أن هذه الآية في بيان نعيم أهل الجنة، ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس، فعلم أن المراد بالطهور الطاهر.
2 - قال جرير في وصف النساء:
خليلي هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال هيف خصورها ... عذاب الثنايا ريقهن طهور
وجه الدلالة: أنه وصف الريق بأنه طهور والريق لا يتطهر به. وإنما مراده أنه طاهر.
3 - قالوا: إن العرب لا تفرق بين الفاعل والفعول في التعدي واللزوم، فما كان فاعله لازما كان فعوله لازما بدليل قاعد وقعود ونائم ونئوم وضارب وضروب.
وقد أجاب الجمهور عن أدلتهم:
1 - أما قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (1)
فيجاب عنه بأن الله تعالى وصف الشراب بأعلى الصفات وهي التطهير.
2 - وقول جرير أجابوا عنه بقولهم: إنه حجة لنا؛ لأنه قصد تفضيلهن على سائر النساء، فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره، ولا يصح حمله
__________
(1) سورة الإنسان الآية 21(64/12)
على ظاهره، فإنه لا مزية لهن في ذلك، فإن كل النساء ريقهن طاهر، بل البقر والغنم وكل حيوان غير الكلب والخنزير.
3 - وأجابوا عما احتجوا به من حجة اللغة، بأنه غير مستقيم؛ لأن العرب فرقت بين الفاعل والفعول، فقالت: قاعد لمن وجد منه القعود وقعود لمن يتكرر ذلك منه.
فينبغي أن يفرق بينهما هاهنا، وليس إلا من حيث التعدي واللزوم.
وقد نقل صاحب الاختيارات عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية تحقيقا جيدا في هذه المسألة يحسن إيراده، قال رحمه الله: وفصل الخطاب في المسألة أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مجمل، يراد به اللزوم والتعدي النحوي اللفظي. ويراد به التعدي الفقهي.
فالأول هو أن يراد باللازم: ما لم ينصب المفعول به، ويراد بالمتعدي: ما نصب المفعول به. فهذا لا تفرق العرب فيه بين فاعل وفعول في اللزوم. فمن قال: إن فعول هذا بمعنى فاعل - من أن كلا منهما مفعول به - كما قال كثير من الحنفية، فقد أصاب. ومن اعتقد أن فعول بمعنى فعل الماضي، فقد أخطأ.
وأما التعدي الفقهي فيراد به: أن الماء الذي يتطهر به في رفع الحدث، بخلاف ما كان كالأدهان والألبان.
وعلى هذا فلفظ " طاهر " في الشرع أعم من لفظ طهور(64/13)
فكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهور.
وقد غلط الفريقان في ظنهم أن طهورا معدول عن طاهر.
وإنما هو اسم لما يتطهر به. فإن العرب تقول: طهور ووجور لما يتطهر به ويوجر به، وبالضم للفعل الذي هو مسمى المصدر، فطهور هو صيغة مبنية لما يفعل به، وليس معدولا عن طاهر. ولهذا قال تعالى في إحدى الآيتين: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) وقال في الآية الأخرى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) إذا عرفت هذا فالطاهر يتناول الماء وغيره. وكذلك الطهور فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التراب طهورا، ولكن لفظ " الطاهر " يقع على جامدات كثيرة، كالثياب والأطعمة. وعلى مائعات كثيرة، كالأدهان والألبان وتلك لا يمكن أن يطهر بها، فهي طاهرة ليست بطهور. اهـ.
أما فائدة هذا الخلاف فمن الناس من قال إنه لا فائدة فيه.
ومنهم من رأى أنه فيه فائدة.
فقال القاضي أبو يعلى: فائدته: أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء لاختصاصه بالتطهير، وعندهم تجوز لمشاركته غير الماء في الطهارة.
قال أبو العباس: وله فائدة أخرى وهي: أن الماء يدفع النجاسة عن نفسه بكونه مطهرا، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء (3) » ، وغيره ليس بطهور، فلا يدفع، وعندهم الجميع سواء. اهـ.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 48
(2) سورة الأنفال الآية 11
(3) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (348) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .(64/14)
وقول القاضي ومن بعده ابن تيمية عندهم يعني الذين سووا بين الطاهر والطهور وهم الحنفية ومن نحا منحاهم.
هذا وإن مما يدخل في الماء الطهور ما يلي:
ماء السماء، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1)
ويدخل فيه ماء الثلج والبرد، ففي الحديث: ". . . «اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد (2) » . ويدخل فيه ماء البحر على الصحيح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته (3) » .
ويدخل فيه ماء الآبار، والأصل فيها حديث بئر بضاعة، وهي بئر كانت تلقى فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء (4) » أخرجه الترمذي وأبو داود.
ويدخل فيه الماء المتغير من طول المكث وهو الماء الآجن.
قال ابن المنذر رحمه الله - بعد أن ساق جملة من الآيات في الماء - قال أبو بكر: قال الشافعي بعد أن ذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (5) الآية. فكان بينا عند
__________
(1) سورة الفرقان الآية 48
(2) صحيح البخاري الأذان (744) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (598) ، سنن النسائي الافتتاح (895) ، سنن أبو داود الصلاة (781) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (805) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) ، سنن الدارمي الصلاة (1244) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (69) ، سنن النسائي المياه (332) ، سنن أبو داود الطهارة (83) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (386) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، موطأ مالك الطهارة (43) ، سنن الدارمي الطهارة (729) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (348) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .
(5) سورة المائدة الآية 6(64/15)
من خوطب بالآية أن غسلهم إنما كان بالماء، ثم أبان الله في الآية أن الغسل بالماء، وكان معقولا عند من خوطب بالآية أن غسلهم إنما كان بالماء، ثم أبان الله في الآية أن الغسل بالماء، وكان معقولا عند من خوطب بالآية أن الماء ما خلق الله مما لا صنعة فيه للآدميين، وذكر الماء عاما، فكان ماء السماء وماء الأنهار، والآبار، والقلات، والبحار، العذب من جميعه والأجاج سواء، في أن من توضأ به أو اغتسل به.
قال أبو بكر: أما حمل المياه التي ذكرها الشافعي، فلا اختلاف بين كل من أحفظ عنه، ولقيته من أهل العلم أن المتطهر به يجزي، إلا ماء البحر فإن فيه اختلافا وأخبارا عن بعض المتقدمين اهـ.
هذا وإنه قد بقي من أنواع المياه غير النجسة التي نحب التنبيه عليها بخصوصها ثلاثة أنواع: الماء المسخن، وماء زمزم، والماء المستعمل.
فأما المسخن فنوعان:
1 - المسخن بالشمس، ويسمى المشمس، وقد ضبط صاحب المنهاج من الشافعية المشمس فقال: " وضابط المشمس أن تؤثر فيه السخونة بحيث تفصل من الإناء أجزاء سمية تؤثر في البدن لا مجرد انتقاله من حالة لأخرى بسببها ".
وهذا قد كرهه بعض الفقهاء كالشافعي رحمه الله، وهو المعتمد عند المالكية، وقول لبعض الحنفية.(64/16)
وقالوا: إن كراهته من جهة أنه يورث البرص وقد روى الشافعي عن عمر رضي الله عنه كراهية الاغتسال به.
وقالوا: إن الشمس بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء فإذا لاقت البدن بسخونتها خيف أن تقبض عليه فيحتبس الدم فيحصل البرص.
وقد اشترط بعضهم للكراهية شروطا منها: أن يكون استعماله ببلاد حارة، وفي آنية منطبعة كحديد ونحاس، بخلاف الخزف والخشب والجلود والحياض وبخلاف المنطبع بالذهب والفضة، واشترطوا أيضا للكراهة أن يستعمل في حال حرارته. هذا ملخص ما قاله الشربيني في مغني المحتاج.
والقول الثاني: وهو مذهب الحنابلة، وجمهور الحنفية، جواز استعماله مطلقا بلا كراهة. والذي يظهر أنه إن ثبت أن فيه ضررا على البدن كره من هذه الجهة، وإلا فلا يكره.
والقسم الثاني من المسخن: هو المسخن بالنار:
عامة أهل العلم على جواز التطهر به، قال ابن المنذر رحمه الله بعد أن ساق طرفا من آية التيمم: (فالماء المسخن داخل في جملة المياه التي أمر الناس أن يتطهروا بها، وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (1) » وممن روينا عنه أنه رأى الوضوء بالماء المسخن: عمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك - وساق بعض
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (124) ، سنن النسائي الطهارة (322) ، سنن أبو داود الطهارة (333) ، مسند أحمد بن حنبل (5/180) .(64/17)
الآثار - ثم قال: " وهو مذهب عطاء، والحسن أبي وائل وكذا قال كل من نحفظ عنه من أهل المدينة، وأهل الكوفة، وكذلك قال الشافعي، وأبو عبيد وذكر أنه قول أهل الحجاز والعراق جميعا ".
قال: وروينا عن مجاهد أنه كره الوضوء بالماء الساخن والذي - روى عنه ذلك ليث، وليس لكراهيته لذلك معنى. اهـ.
لكن إن سخن الماء بنجس فللحنابلة تفصيل فيه وهو عندهم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يتحقق وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء فينجسه إذا كان يسيرا.
الثاني: ألا يتحقق وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء والحائل غير حصين، فالماء على أصل الطهارة، ويكره استعماله، والشافعي لا يكره استعماله.
الثالث: إذا كان الحائل حصينا، فمنهم من كرهه أيضا كالقاضي أبي يعلى، ومنهم من قال: لا يكره، كالشريف أبي جعفر، وابن عقيل. ولعل الصواب عدم الكراهة؛ لعدم الدليل الموجب لها. والله أعلم.
أما ماء زمزم فقد كره بعضهم الوضوء والغسل بها؛ لقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا أحلها لمغتسل، لكن لمحرم حل وبل. ولأنه يزيل به مانعا من الصلاة، أشبه إزالة النجاسة به، وهذا المذهب من مفردات الحنابلة.(64/18)
القول الثاني: عدم كراهة الوضوء والغسل منه. دليلهم ما ثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم وتوضأ فيه (1) » ، كما في زوائد المسند عن علي رضي الله عنه، قالوا: إن قول العباس هذا لم يثبت عنه بل هو ثابت عن أبيه عبد المطلب، ولو ثبت عن العباس فإنه لم يؤخذ بصريحه في التحريم ففي غيره أولى، وأيضا فإن شرف الماء وبركته لا يوجب كراهة استعماله؛ بدليل الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم؛ ولأن ماء زمزم يدخل في مطلق الماء. وهذا مذهب الجمهور كما نقله عنهم النووي وصاحب مواهب الجليل. ولعله الصواب إن شاء الله. لكن بعض العلماء كره استعماله في إزالة النجاسة، وبعضهم قال: هو خلاف الأولى، وآخرون بالغوا فقالوا بالتحريم.
وبكل حال فلا دليل على تخصيص ماء زمزم بشيء مما ذكر فهو ماء كسائر المياه، إلا أن له شرفا لبركته التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يوجب تحريم استعماله في إزالة النجاسة، ولا كراهته وإن كان الأولى عدم إزالة النجاسة به مع وجود غيره.
أما الماء المستعمل: فهو الماء الطهور الذي استعمل في رفع الحدث، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هل الماء المستعمل طاهر أم نجس؟
فيه خلاف:
القول الأول: أنه طاهر، وبه قال عامة الفقهاء سلفا
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/76) .(64/19)
وخلفا، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، ورواية عن أبي حنيفة هي المشهورة عنه، وقول محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية.
الأدلة:
1 - استدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «مرضت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فأتاني وقد أغمي علي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي فأفقت (1) » . . . الحديث أخرجه الشيخان.
2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء (2) » أخرجه الترمذي وغيره، وقد صححه النووي، قالوا: فيبقى على عمومه إلا ما خصه الدليل.
3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، كانوا يتوضئون ويتقاطر على ثيابهم ولا يغسلونها. فدل على طهارة الماء المستعمل.
4 - أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتبادرون إلى فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فيتمسحون به للتبرك به، ولا يمكن أن يقرهم على التمسح بنجس، ومن ذلك ما أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به (3) » . . .
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7309) ، صحيح مسلم الفرائض (1616) ، سنن الترمذي الفرائض (2097) ، سنن النسائي الطهارة (138) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2728) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (348) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .
(3) صحيح البخاري الوضوء (188) ، صحيح مسلم الصلاة (503) ، سنن النسائي الصلاة (470) ، أبو داود الصلاة (الصلاة) ، أحمد (4/307) .(64/20)
الحديث.
5 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساءه كانوا يتوضئون في الأقداح والأتوار ويغتسلون في الجفان، ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل؟ ولهذا قال إبراهيم النخعي: ولا بد من ذلك. فلو كان المستعمل نجسا لنجس الماء الذي يقع فيه.
6 - قالوا: ولأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا فكان طاهرا، كالذي غسل به الثوب الطاهر، والدليل على أن المحدث طاهر ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال: " سبحان الله إن المسلم لا ينجس (1) » متفق عليه.
القول الثاني: أن الماء المستعمل نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة رواها أبو يوسف، والحسن بن زياد، إلا أن أبا يوسف رأى أن نجاسته مخففة، والحسن رأى أنها مغلظة.
الأدلة:
1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة (2) » قالوا: فقرن فيه بين البول فيه والاغتسال منه، والبول ينجسه فكذلك الاغتسال، وقالوا
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (283) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/471) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (239) ، صحيح مسلم الطهارة (282) ، سنن الترمذي الطهارة (68) ، سنن النسائي الطهارة (57) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (344) ، مسند أحمد بن حنبل (2/346) ، سنن الدارمي الطهارة (730) .(64/21)
أيضا: حرم الاغتسال في الماء القليل، ولولا أنه ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى؛ لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام، فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال؛ وذا يقتضي التنجيس به.
2 - قالوا: إن المحدث قد خرج شيء نجس من بدنه به يتنجس بعض البدن حقيقة، فيتنجس الباقي تقديرا، فإذا توضأ انتقلت تلك النجاسة إلى الماء فيصير الماء نجسا تقديرا وحكما.
المناقشة للأدلة:
نوقش استدلالهم بالحديث وأجيب عنه بعدة أجوبة ملخصها ما يلي:
1 - أن دلالة الاقتران ضعيفة - قد قال بها أبو يوسف والمزني - وخالفهما غيرهما من الفقهاء والأصوليين، ومما يرد عليهما قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) فلا يلزم من اقتران الأكل بإيتاء الزكاة وجوب الأكل.
2 - أن رواية الحفاظ من أصحاب أبي هريرة لهذا الحديث هي كما أخرجه الشيخان ولفظهما «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه (2) » وفي رواية لمسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب (3) » فقيل لأبي هريرة كيف يفعل؟ قال:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 141
(2) صحيح البخاري الوضوء (239) ، صحيح مسلم الطهارة (282) ، سنن الترمذي الطهارة (68) ، سنن النسائي الطهارة (57) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (344) ، مسند أحمد بن حنبل (2/346) ، سنن الدارمي الطهارة (730) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (283) ، سنن النسائي الطهارة (220) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (605) .(64/22)
يتناوله تناولا ".
أما الرواية المستدل بها عند أبي يوسف والحسن بن زياد فيما يرويانه عن أبي حنيفة، فإنها مما أخرجه أبو داود ولفظها مخالف لما في الصحيحين. وهذا ما أشار إليه البيهقي في سننه ورجح ما في الصحيحين على رواية أبي داود.
3 - وهو جواب من يرى أن الماء المستعمل طاهر غير طهور كما سيأتي بيانه إن شاء الله، قالوا: إن النهي في الحديث إنما يدل على أنه يؤثر في الماء وهو المنع من التوضؤ به، والاقتران يقتضي التسوية في أصل الحكم، لا في تفصيله.
4 - وقيل: إن وجه النهي في الحديث ليس لأنه ينجسه، وإنما لأجل أنه يقذره ويؤدي إلى تغيره.
وهذه الأجوبة ملخصة من المجموع للنووي والمغني لابن قدامة وطرح التثريب للعراقي وغيرها.
2 - أما ما استدلوا به من أن الحدث نجاسة حكمية على سائر أعضاء البدن فغير مسلم؛ لما سبق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله إن المسلم لا ينجس (1) » . . . "، ولحديث عائشة رضي الله عنها وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: «إن حيضتك ليست في يدك (2) » أخرجه مسلم.
هذا وإن الصواب في هذه المسألة هو: أن الماء المستعمل لا يتنجس بالاستعمال؛ لعدم الدليل الناهض لهذا القول مع توافر
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (283) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/471) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحيض (298) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (134) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (384) ، سنن أبو داود الطهارة (261) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (632) ، مسند أحمد بن حنبل (6/245) ، سنن الدارمي كتاب الطهارة (771) .(64/23)
الأدلة الدالة على عدم النجاسة، مع أن الأصل في المياه هو الطهارة ما لم يطرأ عليها ما ينجسها، وما ذكروه من التعليل بأن الحدث نجاسة حكمية هذا لا يصح؛ لأن المسلم لا ينجس. والله أعلم.(64/24)
المسألة الثانية: هل الماء المستعمل طهور أم أن الاستعمال يسلبه الطهورية فيكون طاهرا غير مطهر؟
وهذه المسألة قد وقع فيها خلاف كبير ومشهور على قولين:
القول الأول: أنه طاهر مطهر: وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وسفيان الثوري، وأبي ثور والزهري، والأوزاعي ومالك في أشهر الروايتين عنهما، وروي عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة رضي الله عنهم.
وهو أيضا إحدى الروايات عن أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد اختارها ابن عقيل وأبو البقاء، وإليه مال صاحب الشرح الكبير وقواه صاحب الإنصاف، وهو مذهب الظاهرية، وقول ابن المنذر واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(64/24)
الأدلة:
1 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) قال ابن المنذر - يرحمه الله - فلا يجوز لأحد أن يتيمم وماء طاهر موجود.
2 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (2) قال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: " وطهور على مثال شكور وصبور، إنما يستعمل فيما يكثر منه الفعل وهذا يقتضي تكرار الطهارة بالماء ".
3 - حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء في يده فبدأ بمؤخر رأسه إلى مقدمه ثم جره إلى مؤخره (3) » .
4 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب (4) » . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وجه الدلالة: أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي ميمونة قد اغتسلت في الجفنة من الجنابة، والنبي صلى الله عليه وسلم توضأ منها وأنكر على زوجه لما قالت: إنها اغتسلت فيها من الجنابة فقال: «إن الماء لا يجنب (5) » فدل على طهوريته.
5 - من جهة القياس: أن رفع الحدث بالماء مرة لا يمنع من رفعه به ثانية كرفعه من آخر العضو بعد تطهير أوله.
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) سورة الفرقان الآية 48
(3) سنن النسائي كتاب الطهارة (95) ، سنن أبو داود الطهارة (117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/122) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (65) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (370) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (65) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (370) .(64/25)
قال ابن حزم: " وأما من الإجماع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن كل متوضئ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه وهكذا كل عضو في الوضوء وفي غسل الجنابة، وبالضرورة والحس يدري كل مشاهد لذلك أن ذلك الماء قد وضئت به الكف وغسلت ثم غسل به أول الذراع ثم آخره، وهذا ماء مستعمل بيقين ".
6 - ما ذكره ابن حزم أيضا حيث يقول: " ثم إنه يرد يده إلى الإناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو، فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر ".
7 - أنه ماء طاهر لاقى بدنا طاهرا فلم يسلبه الطهورية.
قال ابن المنذر رحمه الله: " فأجمع أهل العلم على أن الرجل المحدث الذي لا نجاسة على أعضائه لو صب ماء على وجهه أو ذراعيه فسال ذلك عليه وعلى ثيابه أنه طاهر لاقى بدنا طاهرا، وإذا ثبت أن الماء المتوضأ به طاهر وجب أن يتطهر به من لا يجد السبيل إلى ماء غيره ولا يتيمم وماء طاهر موجود؛ لأن في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك (1) » . فأوجب الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الوضوء بالماء والاغتسال به على كل من كان واجدا له ليس بمريض ". اهـ.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (124) ، سنن النسائي الطهارة (322) ، سنن أبو داود الطهارة (332) ، مسند أحمد بن حنبل (5/180) .(64/26)
8 - أن ما أدي به الفرض مرة لا يمتنع أن يؤدى به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا من موضع واحد، وكما يخرج الطعام في الكفارة ثم يشتريه ويخرجه فيها ثانيا، وكما يصلي في الثوب الواحد مرارا.
وقد نوقشت بعض هذه الأدلة بمناقشات نذكر منها:
1 - الآية الكريمة قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) أجيب عن الاستدلال بها من وجهين:
(أ) عدم التسليم بأن فعول تقتضي التكرار هنا؛ لأنها تأتي في العربية للتكرار ولغيره.
(ب) أن المراد بطهور: المطهر والصالح للتطهير والمعد لذلك.
2 - الاحتجاج بحديث الربيع وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بفضل ماء كان في يده (2) » .
وأجيب عنه بأن هذا لفظ أبي داود في سننه وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد رواه مسلم وأبو داود وغيرهما عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فذكر صفة الوضوء إلى أن قال: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه (3) » .
قال النووي رحمه الله: " وهذا هو الموافق لروايات
__________
(1) سورة الفرقان الآية 48
(2) سنن أبو داود الطهارة (130) .
(3) صحيح البخاري الوضوء (199) ، صحيح مسلم الطهارة (235) ، سنن الترمذي الطهارة (32) ، سنن النسائي الطهارة (97) ، سنن أبو داود الطهارة (120) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (434) ، مسند أحمد بن حنبل (4/38) ، موطأ مالك الطهارة (32) .(64/27)
الأحاديث الصحيحة في أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدا "، قال: " فإذا ثبت هذا فالجواب عن الحديث من أوجه:
(أ) أنه ضعيف فإن راويه عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف عند الأكثرين، وإذا كان ضعيفا لم يحتج بروايته ولو لم يخالفه غيره، ولأن هذا الحديث مضطرب عن عبد الله بن محمد، قال البيهقي: قد روى شريك عن عبد الله في هذا الحديث " فأخذ ماء جديدا فمسح رأسه مقدمه ومؤخره ".
(ب) لو صح لحمل على أنه أخذ ماء جديدا وصب بعضه ومسح رأسه ببقيته.
(ج) يحتمل أن الفاضل في يده من الغسلة الثالثة لليد.
3 - أما الجواب على دليل القياس على الماء المتردد على العضو الواحد فقالوا: إنا لا نحكم بالاستعمال ما دام مترددا على العضو بلا خلاف فلا يؤدي إلى مفسدة ولا حرج.
4 - الجواب عن القياس على التراب الذي تيمم به جماعة والكفارة وكذلك الثوب: أما التراب فجوابه أن المستعمل ما علق بالعضو أو سقط عنه على الأصح، أما الباقي في الأرض فغير مستعمل، فليس كالماء.
أما طعام الكفارة فقالوا: إنما جاز أداء الفرض به مرة أخرى لتجدد عود الملك فيه فتطهيره تجدد الكثرة في الماء ببلوغه قلتين ونحن نقول به على الصحيح.(64/28)
وأما الثوب فقالوا: إنه لم يتغير من صفته شيء فلا يسمى مستعملا بخلاف الماء.
القول الثاني: أن الماء المستعمل طاهر غير مطهر، وهو مذهب الشافعي والمذهب عند الحنابلة ورواية عن مالك وعن أبي حنيفة.
الأدلة:
1 - حديث الحكم بن عمرو رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة (1) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي: حديث حسن.
وجه الاستدلال: أن المراد بفضل طهورها ما سقط من أعضائها؛ لأن الباقي في الإناء مطهر باتفاق.
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب (2) » . أخرجه مسلم.
وجه الاستدلال: أن المراد من نهيه لئلا يصير مستعملا.
3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى فتركه يدل على امتناعه.
4 - القياس على المستعمل في إزالة النجاسة.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (64) ، سنن النسائي المياه (343) ، سنن أبو داود الطهارة (82) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (373) ، مسند أحمد بن حنبل (5/66) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (283) ، سنن النسائي الطهارة (220) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (605) .(64/29)
المناقشة:
1 - أما الحديث الأول الذي فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، فهو ضعيف كما قال البخاري رحمه الله: ليس هو بصحيح.
2 - حديث أبي هريرة وأجابوا عنه: بأن المراد بالنهي عدم تقذير الماء، أو أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ لئلا يتكرر فيتغير الماء؛ لأن الحديث فيه إطلاق الماء الدائم فيشمل القليل والكثير وهذا الحكم الذي ذكرتموه إنما تخصونه بالقليل دون الكثير فبطل استدلالكم بالحديث.
3 - أما ما استدل به من ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لجمع الماء المستعمل مع حاجتهم إلى استعماله مرة أخرى فله أجوبة:
(أ) أنه لا يجتمع منه شيء لو جمع.
(ب) أنهم أيضا تركوا جمعه للشرب والعجن والطبخ والتبرد مع الاتفاق على جوازه فيها.
وأجاب أصحاب الدليل فقالوا: إنا لا نسلم بأنه لا يجتمع شيء منه؛ لأنه لو سلم ذلك في الوضوء لما سلم في الغسل.
أما كونهم لم يجمعوه للشرب والعجن والطبخ والتبرد فلاستقذاره. والنبي صلى الله عليه وسلم ترك أكل الضب مع إباحته له؛ لأنه عافه.
لكن هذا الجواب ضعيف، ويمكن الرد على دليلهم بأن(64/30)
الدين لم يأت بالمشقة، ولو سلمنا بدليلكم لقلنا: بأنه يلزم المسافر أن يحمل معه ماء طهورا يكفيه لوضوئه واغتساله؛ لئلا يحتاج إلى التيمم، وهذا فيه مشقة عظيمة وحرج كبير، ودفع الحرج قد جاءت به الشريعة الإسلامية السمحة.
4 - أما القياس على الماء الذي أزيلت به النجاسة فالفرق بينهما ظاهر فلا يصح القياس.
وبعد التأمل والنظر يترجح القول بأن الماء المستعمل في طهارة الحدث طهور مطهر؛ لسلامة بعض ما استدل به أصحاب هذا القول من المناقشة، كحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب (1) » ، ولما استدلوا به من النظر من أدلة قوية لا تقاومها أدلة القول الثاني التي قد نوقشت جميعها ورد الاستدلال بها، ولهذا قال المرداوي في الإنصاف عن هذا القول: " وهو أقوى في النظر "، مع أن أكثر الأصحاب على أنه طاهر غير مطهر، والحق أحق أن يتبع والله أعلم، هذا وإن لأصحاب القول الأول أدلة من السنة تركنا إيرادها إيثارا للاختصار، واكتفاء بما صح من أدلتهم أثرا ونظرا عما كان ضعيفا في النقل. والله المسئول أن يوفقنا ويرزقنا الفقه في الدين واتباع سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن للبحث بقية يسر الله إيرادها فيما يقبل من أعداد هذه المجلة المباركة وإني في ختام هذه الكلمة لأدعو الله العلي القدير أن يفقهنا جميعا في دينه وأن يرزقنا الالتزام بسنة نبيه صلى
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (65) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (370) .(64/31)
الله عليه وسلم ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويلهمهم رشدهم ويردنا إليه ردا جميلا، ويوفق ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.(64/32)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(64/33)
صفحة فارغة(64/34)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية رحمه الله(64/35)
س: هل الصلاة رياضة؟
ج: هي عبادة شرعية، وفيها رياضة، كما في الحديث: «أيوجعك بطنك؟ عليك بالصلاة» فإن في الصلاة من الحركة ما يسبب حركة البطن.
س: إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا إلى أن خرج وقتها فهل يقضيها، وإذا ضاق وقت الثانية عنها؟
ج: إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمدا تهاونا وكسلا إلى أن خرج وقتها الضروري فإن الواجب عليه قضاؤها عند جمهور العلماء. وفيه قول له حظ من القوة: أنه لا يمكنه تلافي ما مضى من معصيته؛ لأن الأمر أعظم وأكبر من ذلك، ويستدل أهل هذا القول بحديث «من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صوم الدهر وإن صامه (1) » وغير ذلك مما يستدلون به.
أما من تركها إلى أن تضايق وقت الثانية عنها فإن ذلك كفر
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (723) ، سنن أبو داود الصوم (2396) ، سنن ابن ماجه الصيام (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/470) ، سنن الدارمي الصوم (1714) .(64/35)
ناقل عن الملة، وهو قول المحققين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (2) » .
وإذا كان هذا حكم من ترك صلاة واحدة فما الظن بمن ترك الصلاة عدة سنين. وحينئذ فلا يقضي هذا الرجل ما مضى من صلاته، لكن عليه أن يتوب إلى الله ويجدد إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويستقبل دينه بالمواظبة على فرائض الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج وغير ذلك من فرائض الإسلام.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(64/36)
كلام العلماء في حكم تارك
الصلاة تهاونا وكسلا والسكن معهم
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأخ المكرم إ. ع. ع. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلني كتابك الذي تستفتي به عن الرجل الذي وعظ في أحد المساجد وقال: من ترك الصلاة تهاونا وكسلا يقتل. وتسأل عن كلام العلماء في ذلك؟
فالجواب: الحمد لله. ذهب إمامنا أحمد بن حنبل(64/36)
والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين إلى أن تاركها كافر، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا، ذكره عنه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي في شرح الأربعين، وذكره في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) عن جمهور الصحابة. وقال الإمام أبو محمد بن حزم: سائر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقا، ويحكمون عليه بالارتداد، منهم: أبو بكر وعمر وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وابن عباس ومعاذ وجابر وعبد الرحمن بن عوف وأبو الدرداء وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة، ولا نعلم لهم مخالفا من الصحابة، واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » وعن بريدة بن الحصيب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وعن عبادة بن الصامت قال: «أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشرك بالله شيئا ولا تترك الصلاة عمدا فمن تركها عمدا فقد خرج من الملة (3) » رواه ابن أبي حاتم. وعن معاذ مرفوعا: «من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله (4) » وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (4034) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/238) .(64/37)
الترمذي. فهذه الأحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه وابن حزم وعبد الله بن شقيق وهو مذهب جمهور العلماء والتابعين ومن بعدهم.
ثم أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلا، إلا أبا حنيفة ومحمد بن شهاب الزهري وداود فإنهم قالوا: يحبس حتى يموت أو يتوب، وذكر فقهاؤنا الحنابلة: أن من جحد وجوبها كفر ولو فعلها، وإن تركها تهاونا وكسلا مع اعترافه بوجوبها فعلى الإمام أو نائبه أن يدعوه إلى فعلها؛ لاحتمال أن يكون تركه لها لعذر يعتقد سقوطها به، كالمرض ونحوه فيهدده فإن أبى أن يصليها حتى تضايق وقت الصلاة التي بعدها قتله؛ لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (2) فمن ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية فيبقى على إباحة القتل.
وأما السكنى مع زملاء يتساهلون في شأن الصلاة مهما أمكن عدم السكنى معهم فلا يجوز، إلا إذا غلب على ظن الساكن أنه بإرشاده لهم ونصحه لهم يتركون ذلك ويواظبون على الصلاة، ففي هذه الحالة عليه إرشادهم فإن قبلوا وإلا فلينتقل عنهم وليهجرهم. وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية عن غيبة تارك الصلاة، فقال: إذا قيل عنه: إنه تارك للصلاة، وكان
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 5(64/38)
تاركها فهذا جائز، وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويهجر حتى يصلي.
نقله عن شيخ الإسلام الإمام ابن مفلح في الآداب الشرعية. والله ولي التوفيق.(64/39)
الحكمة في شرعية الأذان
وإذا أراد الأذان ثانية لشهادة الجبال
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ر. ع. ش. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا منك بخصوص ذكرك أن جماعة خرجوا لرحلة استجمامية، ثم أذن أحدهم لإحدى الصلوات المكتوبة، ثم أذن مؤذن ثان يقصد من أذانه - حسبما أفاد في استفتائك - أن تشهد له الجبال والأودية. وتسأل هل يجوز له أن يفعل هذا؟
ونفيدك أن مشروعية الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة، ولدعوة المسلمين ممن يبلغهم إلى الاجتماع لأداء الصلاة جماعة. أما أن يراد به غير ذلك مما لم يرد به نص كقول هذا المؤذن الثاني أريد به أن تشهد لي الجبال والأودية فغير جائز، وهو داخل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا مما ليس منه فهو رد (1) » وبالله التوفيق، والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(64/39)
حكم الأذان والإقامة
وهل يجوز لعن قرية تركتهما
س: هل يجوز للقرية ترك الأذان والإقامة، وهل يجوز لعنها وساكنيها؟
ج: الحمد لله. الأذان والإقامة فرض كفاية يقاتل أهل بلد تركوهما؛ لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة، وعن أبي الدرداء مرفوعا: «ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان (1) » رواه أحمد والطبراني. وأما لعن القرية وساكنيها فلا يجوز لعن المعين من العصاة؛ لحديث: «لعن المؤمن كقتله (2) » . أما لعن العاصي غير المعين فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعن والديه، ولعن من آوى محدثا، ولعن من غير منار الأرض، ولعن غير هؤلاء. اهـ.
__________
(1) سنن النسائي كتاب الإمامة (847) ، سنن أبو داود الصلاة (547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6105) ، صحيح مسلم الإيمان (110) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1543) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3770) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3257) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2098) ، مسند أحمد بن حنبل (4/33) .(64/40)
لا يجوز استبدال المؤذن بأسطوانات مسجلة
من محمد بن إبراهيم إلى سعادة رئيس المكتب الخاص بالديوان الملكي سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 3052 - 3 وتاريخ 26 \ 12 \ 86 هـ المرفق به رسالة ابن غولة العربي، من جليجل بالجزائر حول(64/40)
استبدال الأذان الشرعي بأسطوانات مسجلة، وما جاء بخطاب المذكور من استنكار لذلك.
لقد تأملنا ما ذكر، ووجدنا ما قاله هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه؛ وذلك لأن الأذان من أفضل العبادات القولية ومن فروض الكفايات، ومن شعائر الإسلام الظاهرة التي إذا تركها أهل بلد وجب قتالهم، وهو واجب للصلوات الخمس المكتوبة، وكان هو العلامة الفارقة بين بلاد المسلمين وبلاد الكفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الإغارة على قوم انتظر حتى تحضر الصلاة فإن سمع الأذان كف عنهم وإلا أغار عليهم.
وللأذان شروط منها: " النية " ولهذا لا يصح من النائم والسكران والمجنون لعدم وجود النية، والنية: أن ينوي المؤذن عند أدائه الأذان أن هذا أذان لهذه الصلاة الحاضرة التي دخل وقتها. ومن أين للأسطوانات أن تؤدي هذه المعاني السامية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم (1) » متفق عليه. فهل الأسطوانة تعتبر كواحد من المسلمين والحقيقة أننا نستنكر استبدال الأذان بالأسطوانات، وننكر على من أجاز مثل هذا لما تقدم، ولأنه يفتح على الناس باب التلاعب بالدين، ودخول البدع على المسلمين في عباداتهم وشعائرهم، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (631) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، سنن الترمذي الصلاة (205) ، سنن النسائي الأذان (635) ، سنن أبو داود الصلاة (589) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (979) ، مسند أحمد بن حنبل (3/436) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .
(2) سورة الحشر الآية 7(64/41)
أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . والمقام يقتضي أكثر من هذا ولكن آثرنا الاختصار. والله الموفق والهادي إلى الصواب. والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(64/42)
الأذان من الإذاعة لا يكفي للصلاة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم مراقب عام البرامج السعودية بالرياض.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فنشير إلى خطابكم رقم 2 في 15 \ 8 \ 1384 هـ حول طلبكم الموافقة على نقل أذان المغرب من الجامع الكبير في الرياض في الإذاعة.
ونفيدكم بموافقتنا على ذلك وعمل الترتيبات اللازمة له.
غير أنه يجب أن يعلم أنه لا يكتفي بسماع هذا الأذان من الإذاعة للصلاة، لأنه لا بد في الأذان للصلاة من نية مقارنة وهي هنا مفقودة. والسلام عليكم.(64/42)
لا بأس باستعمال مكبر الصوت
" الميكروفون " في الأذان وخطبة الجمعة والعيدين
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ن. م. ب. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:(64/42)
فقد جرى الاطلاع على استفتائك الموجه إلينا عن حكم استعمال المكبر " الميكروفون " في الأذان وخطبة الجمعة والعيدين؟
والجواب: لا بأس باستعماله إذا دعت الحاجة إلى استعماله كتباعد البيوت بحيث لا يبلغهم الأذان، أو ازدحام المسجد بالمصلين بحيث لا يتم سماع خطبة الجمعة لبعضهم إلا باستعماله، إذ الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد ما ينقل ذلك الأصل. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.(64/43)
استعمال الميكروفون
في الصلاة ليس من البدع
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ر. ر. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على خطابك المرفوع إلينا منك بتاريخ 29 \ 2 \ 83 هـ بصدد إنكار بعض الجماعة الميكرفون الموضوع في مسجد الجامع لديكم، واعتبارهم استعماله من البدع المنهي عنها. . إلى آخر ما ذكرت، وتطلب فتوانا في ذلك.
والجواب: الحمد لله - ذكر العلماء أن البدعة: هي الطريقة المحدثة في الدين مضاهاة للشريعة الإسلامية، والهدف منها المبالغة في تعبد الله تعالى، أو يقصد بالسلوك عليها ما يقصد(64/43)
بالطرق الشرعية؛ استنادا إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . ولا يخفى أنه لا يقصد بالميكرفون واستعماله قربة ولا زيادة ثواب عن غيره، وإنما المقصود به كما لا يخفى تكبير الصوت حتى يسمعه من لا يسمع صوت الخطيب، لاتساع المسجد ونحوه، فمثله مثل النظارة في تكبير الحرف وتقريبه، إذ القارئ لا يقصد بقراءته القران وهو يقرؤه بالنظارة زيادة القربة والثواب، وإنما يهدف إلى التمكن من القراءة بوضوح، فكذلك الميكرفون، بل قد يكون استعمال الميكرفون قربة من القرب إذا احتيج إلى ذلك إذ أنه وسيلة إلى تبليغ الخطبة جميع المصلين، وكذا إبلاغ صوت المؤذن. وقد يقال: إنه من العادات التي لا يقصد بفعلها التعبد وإنما هو من الأمور العادية، ولو سمع ما يقال عن العوائد بأنها بدع محدثة لاعتبر جميع ما لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه من المآكل والمشارب والملابس والمراكب وكافة أنواع وسائل الحياة مما استحدث بعد تلك العهود من البدع والمنكرات، والقول بذلك في غاية السقوط والبطلان والجهل التام بأصول الدين ومقاصده.
وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى البدعة واضح جلي. ولا يخفى على أولي البصائر والأفهام أن القصد بالإحداث المردود ما كان في الدين كالزيادة فيه، أو التزام طريقة
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(64/44)
لم يلتزم بها الرسول عليه الصلاة والسلام. نسأل الله أن يوفق المسلمين لاتباع الرسول وأصحابه والاهتداء بهديهم، إنه سميع مجيب. والسلام عليكم.(64/45)
التأكيد على المؤذنين
بأن لا يؤذنوا قبل الوقت
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب المعالي وزير الحج والأوقاف وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد تحققنا أن كثيرا من المؤذنين في الرياض يؤذنون للصلاة قبل الوقت، ولا بد من التأكيد على جميع المؤذنين بالتمشي بموجب التوقيت، وأن لا يؤذنوا حتى يؤذن مؤذنوا الجوامع، ويوزع عليهم تقاويم للتمشي بالتوقيت، ويجعل عليهم رقابة قوية، حيث إن هذه المسألة مهمة وتحتاج إلى عناية تامة.
والسلام عليكم.(64/45)
تحديد ما بين الأذان والإقامة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد:
فلا يخفى أن الصلاة أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأن(64/45)
لها شروطا لا تتم بدونها، ومن أهم شروطها الوقت، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) أي: مفروضا في الأوقات. وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (2) فقد جمعت هذه الآية الصلوات الخمس. والشارع الحكيم شرع الأذان؛ لحكم ومصالح عظيمة منها: إعلام الناس بدخول وقت الصلاة؛ ليتهيئوا ويحضروا لأدائها في المساجد. وفي الحديث: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة أول وقتها (3) » وفي الحديث الآخر: «أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله (4) » وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والمتوضئ من وضوئه (5) » .
ونظرا لما يلاحظ من اختلاف الأئمة والمؤذنين بالنسبة إلى الأذان والإقامة فتجد بعضهم يؤذن قبل بعض ويصلي بعضهم قبل بعض وقد كثر تشكي رجال الحسبة وغيرهم مما يترتب على هذا الاختلاف؛ لأن الكسلان ونحوه يتعلل بتأخير هذا الإمام وتقديم الآخر، وربما زعم أنه قد صلى مع فلان المتقدم أو سيصلي مع المتأخر " ولما في ذلك من تشويش وارتباك ولا سيما بالنسبة لعمل أهل الحسبة. فقد نظرنا فيما يخلص من هذا الأمر ويجمع
__________
(1) سورة النساء الآية 103
(2) سورة الإسراء الآية 78
(3) سنن الترمذي الصلاة (170) ، سنن أبو داود الصلاة (426) .
(4) سنن الترمذي الصلاة (172) .
(5) سنن الترمذي الصلاة (195) .(64/46)
الناس على أمر واحد فيه مصلحة عامة للمسلمين، وقررنا توحيد وقت الأذان، ووقت الإقامة، لما في ذلك من تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فقد تقرر أن يكون بين الأذان والإقامة لصلاة الفجر والظهر والعصر والعشاء مقدار ثلث ساعة - عشرين دقيقة - وأما المغرب فلا يؤخر أكثر من عشر دقائق؛ لما ورد فيها من النصوص الدالة على تعجيلهما، وأمرنا بوضع جداول يبين فيها وقت الأذان ووقت الإقامة يوميا؛ لتوزع على الأئمة والمؤذنين لمراعاة التمشي بموجبها حتى نهاية هذه السنة، ثم يعطون تقاويم تكون مرجعا لهم في ذلك.
ونظرا لما يعرض لبعض الأئمة والمؤذنين مما قد يضطرهم للتأخير عن تلك الأوقات المحددة سواء باختيارهم أو بغير اختيارهم، ولما في تأخير الناس وحبسهم عن أشغالهم واشتغال خواطرهم ما لا يخفى وفيهم المريض والكبير وذو الحاجة، فإن على كل إمام ومؤذن أن يشعر الجماعة إذا أراد أن يتغيب، ويأذن لهم إذا تأخر عن الوقت المقرر أن يصلوا في نفس الوقت المقرر، كما عليه أن يعين له نائبا يؤذن ويصلي بالناس لئلا يحبس الناس دون أشغالهم وحوائجهم.
وقد كتبنا بهذا لسمو أمير منطقة الرياض كما كتبنا لوزارة الحج والأوقاف لملاحظة ذلك من قبلهم. وكذلك بلغنا فضيلة رئيس الهيئات بذلك للأمر على من يلزم بتفقد الأئمة والمؤذنين وملاحظتهم والرفع عمن يصدر منه مخالفة لما ذكر؛ للقيام حوله بما يلزم. ونسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويذل أعداءه(64/47)
إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(64/48)
س: رجل فاتته صلاة العصر ولما قرب وقت المغرب بحيث إنه لا بد أن يفعل بعضها بعد أذان المغرب، فهل يصليها أو يؤخرها حتى تغرب الشمس؟
ج: يصليها ولو وقع بعضها قبل الغروب وبعضها بعده، والأصل في ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما بالسند إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1) » أما إن كان التأخير بسبب نوم ونسيان فلا إثم عليه؛ لما رواه مالك في الموطأ بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (2) » . فإن كان التأخير عمدا فهذا متلاعب وعليه إثم التأخير، وهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، والواجب عليه أن لا يعود إلى مثل ذلك وأن يستغفر ويتوب إلى الله.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (608) ، سنن الترمذي الصلاة (186) ، سنن أبو داود الصلاة (412) ، سنن ابن ماجه الصلاة (699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/462) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (5) ، سنن الدارمي الصلاة (1222) .
(2) موطأ مالك وقوت الصلاة (26) .(64/48)
يصلي المغرب أولا ولو فاتته الجماعة للعشاء
س: مسافر قصد المسجد فوجد رفقته قد صلوا المغرب وشرعوا في صلاة العشاء فهل يصلي معهم العشاء ثم يأتي(64/48)
بالمغرب أو ماذا يفعل؟
ج: إن الترتيب بين الصلوات واجب بالاتفاق، فيجب أن يصلي المغرب أولا، قال الفقهاء رحمهم الله: ويسقط الترتيب بنسيانه وبخشيته خروج وقت اختيار الحاضرة. واختلفوا هل يسقط أيضا بخشية فوات الجماعة كما في مسألتنا هذه، أم لا؟ فالمشهور من المذهب أنه لا يسقط. فلا بد حينئذ أن يصلي المغرب أولا ولو فاتته صلاة العشاء في الجماعة، ثم يأتي بصلاة العشاء بعد ذلك، وقد مر بك أن الاحتياط في مثل هذه المسائل أولى.(64/49)
إن أمكن سرد الفوائت مرتبة وإلا وزعت
من محمد بن إبراهيم إلى ج. ع. ح. سلمها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد اطلعنا على الكتاب الذي يتضمن السؤال عن الصلوات التي مضت وأنت تحت العلاج، وجاء في الكتاب أنها قرابة واحد وعشرين يوما وهذا مع الاحتياط، وذكرتم أن الأوقات تبدأ من الظهر أو العصر؟
ونفيدكم أنه يلزمكم قضاء تلك الفوائت مرتبة حسب الإمكان، فإن أمكن سردها في يوم واحد بلا مشقة تعين ذلك، وإلا تقسمين ذلك على حسب الطاقة مرتبة ذلك على حسب الأيام(64/49)
والأوقات من أول يوم وأول وقت. أما الصيام فحيث تركه لأجل المرض وقد صمت ذلك بعد الشفاء فلا يلزمك من أجله شيء. والسلام.(64/50)
س: هل على من نام ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس إثم، وهل يقضي ركعتي الفجر مع صلاة الفجر أم لا؟
ج: من نام ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر فلا إثم عليه، لما روى الترمذي في (باب النوم عن الصلاة) من جامعه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أنه قال: ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: «إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها (1) » قال الترمذي: حديث أبي قتادة هذا حديث حسن صحيح. قال: وفي الباب عن أبي مسعود وأبي مريم وعمران بن حصين وجبير بن مطعم وأبي جحيفة وأبي سعيد وعمرو بن أمية الضمري وذي مخبر - ويقال: ذي مخمر - وهو ابن أخي النجاشي. اهـ.
وأما قضاء المستيقظ من النوم بعد طلوع الشمس سنة الفجر مع الفجر فيدل عليه ما جاء في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عند مسلم «في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح منصرفه من خيبر فإن فيه " ثم صلى - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الصبح ثم صلى كما كان يصلي (2) » . وعنده من حديث أبي هريرة في هذه القصة أيضا «ثم
__________
(1) صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة (681) ، سنن الترمذي الصلاة (177) ، سنن النسائي المواقيت (615) ، سنن أبو داود كتاب الصلاة (437) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3434) ، مسند أحمد بن حنبل (5/299) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (680) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3163) ، سنن النسائي المواقيت (623) ، سنن أبو داود الصلاة (435) ، سنن ابن ماجه الصلاة (697) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (25) .(64/50)
دعا بماء فتوضأ ثم صلى سجدتين - أي ركعتين - ثم أقيمت الصلاة فصلى صلاة الغداة (1) » وللنسائي من حديث جبير بن مطعم «ثم أذن بلال فصلى ركعتين وصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر (2) » ولابن خزيمة والدارقطني من طريق سعيد بن المسيب عن بلال في هذه القصة «فأمر بلالا فأذن ثم توضأ فصلوا ركعتين ثم صلوا الغداة (3) » ونصه للدارقطني من طريق الحسن عن عمران بن حصين.
وممن استدل بهذه القصة على قضاء سنة الفجر مع الفجر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم قال شيخ الإسلام في الجزء الأول من " فتاواه المصرية ": أما الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في السفر من التطوع فهو ركعتا الفجر، حتى إنه لما نام عنها هو وأصحابه منصرفين من خيبر قضاهما مع الفريضة هو وأصحابه. وذكر في موضع آخر: أن المسارعة إلى قضاء الفوائت الكثيرة أولى من الاشتغال عنها بالنوافل. ثم قال: وأما مع قلة الفوائت فقضاء السنن معها حسن؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام هو وأصحابه عن الصلاة - صلاة الفجر عام خيبر - قضوا السنة والفريضة، ولما فاتته الصلوات يوم الخندق قضى الفوائت بلا سنن. وقال ابن القيم في " زاد المعاد " بعد كلامه على فوائد هذه القصة. فيها أن السنن الرواتب تقضى كما تقضى الفرائض، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفجر معها، وقضى سنة الظهر وحدها، وكان هديه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (680) ، سنن النسائي المواقيت (623) ، سنن أبو داود الصلاة (435) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (25) .
(2) سنن النسائي المواقيت (624) ، مسند أحمد بن حنبل (4/81) .
(3) سنن أبو داود الصلاة (444) ، مسند أحمد بن حنبل (4/91) .(64/51)
صحة صلاة مكشوف الرأس
س: هل صحيح أن الصلاة تعتبر باطلة إذا كان الإمام مكشوف الرأس؟ أرجو التدليل ببعض الأحاديث.
ج: لا يصح القول ببطلان صلاة مكشوف الرأس إماما كان أو غيره. ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن عمر بن أبي سلمة «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقيه (1) » ، ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه في " باب الصلاة بغير رداء " عن محمد بن المنكدر قال: «دخلت على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب ملتحفا به ورداؤه موضوع، فلما انصرف قلنا يا أبا عبد الله: تصلي ورداؤك موضوع. قال: نعم أحببت أن يراني الجهال مثلكم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هكذا (2) » ورواه البخاري أيضا في " باب عقد الإزار على القفا في الصلاة " بلفظ: «صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب، فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك. وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (3) » . وروى أبو داود في سننه في " باب الرجل يصلي في قميص واحد " عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: «أمنا جابر بن عبد الله في قميص ليس عليه رداء فلما
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (355) ، صحيح مسلم الصلاة (517) ، سنن الترمذي كتاب الصلاة (339) ، سنن النسائي القبلة (764) ، سنن أبو داود الصلاة (628) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1049) ، مسند أحمد بن حنبل (4/26) ، موطأ مالك النداء للصلاة (319) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (370) ، صحيح مسلم الصلاة (518) ، سنن أبو داود الصلاة (633) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) ، موطأ مالك النداء للصلاة (321) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (352) ، صحيح مسلم الصلاة (518) ، سنن أبو داود الصلاة (633) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) ، موطأ مالك النداء للصلاة (321) .(64/52)
انصرف، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في قميص (1) » . والأحاديث الثابتة في هذا المعنى كثيرة لا تخفى على أئمة العلم؛ ولذلك يذكرون تخمير المصلي رأسه بالعمامة وما في معناها من المستحبات، وممن نص على استحبابه المجد في شرحه، ثم قال: ونحن لاستحباب الثوبين والعمامة لإمام أشد، نص عليه؛ لأنه المنظور إليه والمقتدى به.
أما " باب الإجزاء " فيذكر الفقهاء أن من صلى في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه، واستدلوا بحديث عمر بن أبي سلمة المتقدم وما في معناه من الأحاديث، بل ذكر الفقهاء أن انكشاف جزء يسير من العورة لم يفحش في النظر إليه لا يبطل صلاة الإمام والمأمومين؛ لما رواه أبو داود في سننه عن عمر بن أبي سلمة قال: «كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا مروا بنا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، وكنت غلاما حافظا فحفظت من ذلك قرانا كثيرا، فانطلق أبي وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلمهم الصلاة. فقال: " يؤمكم أقرؤكم " وكنت أقرأهم لما كنت حفظت فقدموني فكنت أؤمهم وعلي بردة لي صغيرة صفراء فكنت إذا سجدت تكشفت عني، فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصا عمانيا فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع أو ثمان سنين (2) » . وفي رواية أخرى عند أبي داود: «فكنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق فكنت إذا سجدت
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (352) ، صحيح مسلم الصلاة (518) ، سنن أبو داود الصلاة (633) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4302) ، سنن النسائي الأذان (636) ، سنن أبو داود الصلاة (585) ، مسند أحمد بن حنبل (5/30) .(64/53)
خرجت استي (1) » وقد انتشر هذا الخبر في عهد النبوة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ما دام الأمر هكذا فمن باب أولى كشف الرأس للرجل الذي أجمع أهل العلم على أنه ليس بعورة، وأوجب الشرع في الحج والعمرة كشفه في الصلاة وغيرها. هذا ومما يذكر في هذا الباب ما رواه أبو داود في سننه في " باب الخط إذا لم يجد عصا " قال: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة قال: رأيت شريكا صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بين يديه. يعني في فريضة حضرت. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4302) ، سنن النسائي الأذان (636) ، سنن أبو داود الصلاة (585) ، مسند أحمد بن حنبل (5/30) .(64/54)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا رحمه الله
إمامة المسافر بالمقيم والعكس
س. إذا سافر الإنسان وأراد أن يصلي الظهر جماعة ووجد شخصا قد أدى صلاة الظهر وهو مقيم، فهل يصلي المقيم مع المسافر، وهل يقصر معه الصلاة أو يتمها؟
ج: إذا صلى المقيم خلف المسافر طلبا لفضل الجماعة، وقد صلى المقيم فريضته فإنه يصلي مثل صلاة المسافر ركعتين " لأنها في حقه نافلة، أما إذا صلى المقيم خلف المسافر صلاة الفريضة كالظهر والعصر والعشاء فإنه يصلي أربعا، وبذلك يلزمه أن يكمل صلاته بعد أن يسلم المسافر من الركعتين، أما إن صلى المسافر خلف المقيم صلاة الفريضة لهما جميعا، فإنه يلزم المسافر أن يتمها أربعا في أصح قولي العلماء؛ لما روى الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه رحمة الله عليهما أن ابن عباس سئل عن المسافر يصلي خلف الإمام المقيم أربعا ويصلي مع أصحابه ركعتين فقال: هكذا السنة.(64/55)
ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه (1) » متفق على صحته.
__________
(1) رواه البخاري في (باب إقامة الصف من تمام الصلاة) برقم (689) ، ومسلم في (باب ائتمام المأموم بالإمام) برقم (411) واللفظ للبخاري.(64/56)
س. مسافر أدركه الفرض عند مقيمين وهو أولاهم بالإمامة فهل يصلي بهم صلاة مقيم أو مسافر؟
ج. السنة أنه يصلي بهم صلاة المسافر، فإذا سلم قاموا وأتموا لأنفسهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بأهل مكة عام الفتح صلى بهم صلاة مسافر وأمرهم أن يتموا صلاتهم، فإن أتم بهم صح ذلك وترك الأفضل.
وقد ثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يتم بالناس في الحج في السنوات الأخيرة من خلافته، وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتم الصلاة في السفر، وتقول: إنه لا يشق علي، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المشرع المعلم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. والله الموفق.(64/56)
س: ما حكم ائتمام من يقصر بمن يتم صلاته أو العكس وكيف يفعلان؟
ج: إذا أم من يقصر الصلاة من يتمها، فإنه إذا سلم الإمام من صلاته اثنتين، يقوم المقيم ويتم أربعا، إذا كان الإمام هو(64/56)
المسافر فيصلي ثنتين، ثم إذا سلم يقوم من وراءه ويصلون أربعا إذا كانوا مقيمين غير مسافرين والمسافرون يسلمون معه، هذا إذا كان الإمام هو المسافر، أما إذا كان الإمام هو المقيم والمسافرون خلفه فإنهم يتمون معه فليس لهم القصر بل يتمون أربعا؛ لما ثبت في الحديث الصحيح «عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عمن يصلي خلف الإمام قالوا له: يا ابن عباس ما لنا إذا صلينا خلف الإمام صلينا أربعا وإذا صلينا في رحالنا صلينا اثنتين؟ فقال: هكذا السنة» . رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد وأصله في صحيح مسلم، وهذا يدل على أن صلاة المسافر خلف الإمام المقيم يجب أن تكمل أربعا للحديث المذكور. والله ولي التوفيق.(64/57)
س: مسافر ينوي الجمع والقصر في صلاته، صلى مع الجماعة صلاة الظهر فهل يلزمه القيام لأداء صلاة العصر قصرا بعد سلام الإمام مباشرة أم يجوز له تأخيرها، وهل هناك حد محدود لهذا التأخير؟ أفتونا مأجورين.
ج: إذا صلى المسافر خلف المقيم لزمه إتمام الصلاة؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السنة لمن صلى خلف المقيم من المسافرين أن يتموا الصلاة، أما كونه يجمع فلا حرج أن يصلي العصر قصرا بعد سلامه من الظهر مع الإمام، وإن أخرها إلى وقتها فلا بأس، بل ذلك هو الأفضل إذا كان مقيما ذلك اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين(64/57)
الصلاتين في السفر في وقت إحداهما إذا كان على ظهر سير، أما إن كان نازلا فإنه يصلي كل صلاة في وقتها، وهذا هو الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم، كما فعل ذلك في منى في حجة الوداع، فإنه كان يصلي كل صلاة في وقتها قصرا ولم يجمع. وفق الله الجميع لاتباع السنة والاستقامة عليها.(64/58)
س: ما حكم صلاة المقيم خلف المسافر أو العكس؟ وهل يحق للمسافر القصر حينئذ سواء كان إماما أم مأموما؟
ج: صلاة المسافر خلف المقيم، وصلاة المقيم خلف المسافر كلتاهما لا حرج فيها، لكن إن كان المأموم هو المسافر والإمام هو المقيم وجب عليه الإتمام تبعا لإمامه؛ لما ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صلاة المسافر خلف المقيم أربعا، فأجاب بأن ذلك هو السنة.
أما إن صلى المقيم خلف المسافر في الصلاة الرباعية، فإنه يتم صلاته إذا سلم إمامه.(64/58)
س: كنت مسافرا وفي إحدى الاستراحات أدركت صلاة الظهر في مسجد الاستراحة وكانوا متمين، وحين دخلت في الصلاة كان الإمام في التشهد الأول، وعندما سلم الإمام سلمت معه حيث إني مسافر، فهل عملي هذا صواب، وإذا كان الأمر خلاف ذلك فهل أعيد الصلاة؟ أفتونا مأجورين.
ج: عليك أن تعيد الصلاة؛ لأن الواجب على المسافر إذا(64/58)
صلى خلف المقيم أن يصلي أربعا؛ لأن السنة قد صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. والله ولي التوفيق.(64/59)
مقدار المدة والمسافة
التي يجوز فيها الجمع والقصر
س. نرجو توضيح مسألة صلاة القصر (قصر الصلاة في السفر) هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم الصلاة في السفر، وهل تخضع صلاة السفر للمسافة والمدة، نرجو توضيح هذه الأسئلة مع الأدلة من الكتاب والسنة؟ جزاكم الله خيرا.
ج: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، حتى يرجع من سفره، هذا هو المحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصر ويتم، ولكنه ليس بمحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم، المحفوظ عنه في الأحاديث الصحيحة أنه كان في السفر يقصر حتى يرجع، أما المغرب فإنه يصليها على حالها ثلاثا سفرا وحضرا، وهكذا الفجر كان يصليها ثنتين سفرا وحضرا، ويصلي مع الفجر سنتها قبلها في السفر والحضر وهي ركعتان خفيفتان، أما سنة الظهر، وسنة العصر، وسنة المغرب، وسنة العشاء فكان يتركها في السفر عليه الصلاة والسلام.
فينبغي للمؤمن أن يفعل ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام(64/59)
في السفر، والسفر عند أهل العلم هو: ما يبلغ في المسافة يوما وليلة، يعني: مرحلتين - هذا الذي عليه جمهور أهل العلم - ويقدر ذلك بنحو ثمانين كيلو تقريبا بالنسبة لمن يسير في السيارة، وهكذا في الطائرات، وفي السفن، والبواخر، هذه المسافة أو ما يقاربها تسمى سفرا، وتعتبر سفرا في العرف فإنه المعروف بين المسلمين، فإذا سافر الإنسان على الإبل، أو على قدميه، أو على السيارات، أو على الطائرات، أو المراكب البحرية، هذه المسافة أو أكثر منها فهو مسافر، وقال بعض أهل العلم: إنه يحد بالعرف، ولا يحد بالمسافة المقدرة بالكيلوات، فما يعد سفرا في العرف يسمى سفرا ويقصر فيه وما لا فلا، والصواب ما قرره جمهور أهل العلم وهو التحديد بالمسافة التي ذكرت، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم فينبغي الالتزام بذلك، وهو الذي جاء عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم أعلم الناس بدين الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(64/60)
س: ما رأي سماحتكم في السفر المبيح للقصر هل هو محدد بمسافة معينة؟ وما ترون فيمن نوى إقامة في سفره أكثر من أربعة أيام هل يترخص بالقصر؟
ج: جمهور أهل العلم على أنه محدد بمسافة يوم وليلة للإبل والمشاة السير العادي وذلك يقارب 80 كيلو؛ لأن هذه المسافة تعتبر سفرا عرفا بخلاف ما دونها.
ويرى الجمهور أيضا أن من عزم على الإقامة أكثر من أربعة(64/60)
أيام وجب عليه الإتمام والصوم في رمضان.
وإذا كانت المدة أقل من ذلك فله القصر والجمع والفطر؛ لأن الأصل في حق المقيم هو الإتمام وإنما يشرع له القصر إذا باشر السفر.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة ثم ارتحل إلى منى وعرفات، فدل ذلك على جواز القصر لمن عزم على الإقامة أربعة أيام أو أقل، أما إقامته صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما عام الفتح وعشرين يوما في تبوك فهي محمولة على أنه لم يجمع الإقامة، وإنما أقام بسبب لا يدري متى يزول، هكذا حمل الجمهور إقامته في مكة عام الفتح وفي تبوك عام غزوة تبوك، احتياطا للدين وعملا بالأصل، وهو: وجوب الصلاة أربعا في حق المقيمين للظهر والعصر والعشاء.
أما إن لم يجمع إقامة، بل لا يدري متى يرتحل فهذا له القصر والجمع والفطر حتى يجمع على إقامة أكثر من أربعة أيام، أو يرجع إلى وطنه. والله ولي التوفيق.(64/61)
س: أنا رجل أعمل بالقوات البحرية مع بحارة نقلع بالسفينة من الميناء إلى البحر لمدة ثلاثة أيام، أو أربعة، فهل يجوز لنا قصر الصلوات وجمعها؟ علما بأن طلوعنا لا يبتعد عن المدينة كثيرا بل لبعض الأعمال؛ أرجو أن تفيدونا.
ج: راكب السفينة أو راكب الأنواع الأخرى من المراكب(64/61)
البحرية مثل راكب السيارة بالبر والقطار بالبر، إن كانت المسافة مسافة قصر: قصر وجمع وإلا فلا، فإذا كانت السفينة حول الميناء وحول الساحل، ما تذهب بعيدا، كمسافة عشرة كيلو مترات، أو عشرين كيلو مترا أو نحو ذلك، فهذا لا يقصر وليس له حكم السفر، أما إذا كانت تذهب بعيدا مما يسمى سفرا مثل سبعين كيلو مترا، ثمانين كيلو مترا، مائة كيلو مترا، أو أكثر فهذا سفر، لأهلها القصر والجمع بين الصلاتين؛ لأنهم مسافرون كالذي خرج إلى البرية لنزهة أو نحو ذلك ثمانين كيلو مترا، سبعين كيلو مترا، أو تسعين كيلو مترا، أو مائة كيلو مترا أو ما هو أكثر من ذلك.(64/62)
س: إذا ذهبنا إلى البر فهل يجوز لنا أن نقصر الصلاة الرباعية ونجمعها؟
ج: إذا كان المكان الذي ذهبتم إليه من البر بعيدا عن محل إقامتكم ويعتبر الذهاب إليه سفرا فلا مانع من القصر إذا كانت المسافة 80 كيلو تقريبا، والقصر أفضل من الإتمام وهو أن يصلي المسافر الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين ولا مانع من الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وتركه - أي الجمع - أفضل إذا كان المسافر مقيما مستريحا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان مدة إقامته في منى يقصر الصلاة ولا يجمع، وإنما جمع في عرفة ومزدلفة لداعي الحاجة إلى ذلك.
ومتى عزم المسافر على الإقامة من مكان أكثر من أربعة أيام(64/62)
فالواجب عليه ألا يقصر، بل يصلي الرباعية أربعا، وهو قول أكثر أهل العلم، أما إذا كانت الإقامة أربعة أيام فأقل فالقصر أفضل. والله ولي التوفيق.(64/63)
هل الأفضل في الجمع
بين الصلاتين التقديم أو التأخير
س: في الجمع والقصر ما بين الظهر والعصر، ما هو الأفضل: الصلاة بعد أذان الظهر مباشرة، أم تأخيرها إلى منتصف الوقتين؟
ج: إن كان المسافر يريد أن يرتحل من مكانه في السفر قبل الزوال شرع له أن يصلي الظهر والعصر جمع تأخير، أما إن كان ارتحاله بعد الزوال فالأفضل له أن يصلي الظهر والعصر جمع تقديم، وهكذا الحكم في المغرب والعشاء إن ارتحل قبل الغروب أخر المغرب مع العشاء جمع تأخير، وإن ارتحل بعد الغروب قدم العشاء مع المغرب وصلاهما جمع تقديم، هذه سنته عليه الصلاة والسلام فيما ذكرنا، أما إن كان مقيما فهو مخير إن شاء جمع جمع تأخير وإن شاء جمع جمع تقديم، والأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في منى في حجة الوداع فإنه كان يصلي كل صلاة في وقتها؛ لأنه مقيم، فإن دعت الحاجة إلى الجمع فلا حرج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك وهو مقيم، وهكذا المريض يفعل ما هو(64/63)
الأرفق به من الجمع - أعني جمع التقديم أو جمع التأخير - فإن لم يكن عليه مشقة تدعوه إلى الجمع صلى كل صلاة في وقتها هذا هو الأفضل له، وإن جمع فلا بأس.(64/64)
س: ما وقت الجمع بين الصلاتين وما وقت الوتر؟
ج. الجمع بين الصلاتين في أول الوقت أو آخره، الأمر في الجمع واسع، فقد دل الشرع المطهر على جوازه في وقت الأولى أو الثانية أو بينهما، لأن وقتهما صار وقتا واحدا في حق المعذور كالمسافر، والمريض، ويجوز الكلام بين الصلاتين المجموعتين بما تدعو له الحاجة، وأما الوتر فيدخل وقته من حين الفراغ من صلاة العشاء، ولو كانت مجموعة مع المغرب جمع تقديم، وينتهي بطلوع الفجر.
ونسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه وأن يثبتنا وإياكم عليه حتى نلقاه، إنه جواد كريم. والله الموفق.(64/64)
س: كنا مجموعة على سفر وعند وصولنا إلى المكان المقصود في البرية بعد صلاة المغرب بحوالي الساعة، طلبت منهم الاستعجال بالوضوء لنؤدي صلاة المغرب والعشاء قصرا وجمعا، فقال أحد الإخوة: إن الصلاة لا تجوز في هذا الوقت وعليكم التأخر حتى يؤذن العشاء، فقلت له: إن الصلاة جائزة في وقت إحداهما، وأنه إذا خرج وقت المغرب دخل بعده وقت العشاء مباشرة، فقال: إن هناك وقتا بين الوقتين ليس بوقت صلاة.
سماحة الشيخ: نرجو إيضاح حكم الشرع في هذه المسألة،(64/64)
وماذا عن الجمع بين صلاة الظهر والعصر بالنسبة للوقت؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الصواب هو ما ذكرتم فإنه ليس بين وقت المغرب ووقت العشاء وقت تمنع فيه الصلاة، وهكذا الظهر والعصر ليس بينهما وقت تمنع فيه الصلاة، بل متى خرج وقت الأولى دخل وقت الثانية مباشرة من غير فاصل، وللمسافر أن يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما؛ لأن الوقتين صارا بالنسبة إليه وقتا واحدا كالمريض، ولكن الأفضل للمسافر إذا كان على ظهر سير وارتحل من منزله قبل دخول وقت الأولى، أن يؤخرها إلى وقت الثانية حتى يجمع بينهما جمع تأخير، فإن ارتحل من منزله بعد دخول وقت الأولى شرع له أن يقدم الثانية مع الأولى ويجمع جمع تقديم، تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
أما المسافر المقيم فالأفضل له ألا يجمع بل يصلي كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع إذا كانت إقامته أربعة أيام فأقل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في منى في حجة الوداع يوم العيد واليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر من أيام التشريق يصلي كل صلاة في وقتها، ولم يجمع، أما إذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أيام، فإن الأحوط في هذه الحال أن يصلي كل صلاة في وقتها تماما من دون قصر عند أكثر أهل العلم. وفق الله الجميع.(64/65)
س: إذا كنا مسافرين ومررنا بمسجد وقت الظهر " مثلا "، فهل المستحب لنا أن نصلي الظهر مع الجماعة، ثم نصلي العصر قصرا، أم نصلي لوحدنا؟ وهل إذا صلينا مع الجماعة وأردنا صلاة العصر نقوم مباشرة بعد السلام لأجل الموالاة؟ أم نذكر الله ونسبحه ونهلل ثم نصلي العصر؟
ج: الأفضل لكم أن تصلوا وحدكم قصرا؛ لأن السنة للمسافر قصر الصلاة الرباعية، فإن صليتم مع المقيمين وجب عليكم الإتمام، كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أردتم الجمع فالمشروع لكم البدار بذلك عملا بالسنة كما تقدم في جواب السؤال السابق، بعد الاستغفار ثلاثا وقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
لكن إذا كان المسافر واحدا فإنه يجب عليه أن يصلي مع الجماعة المقيمين ويتم الصلاة؛ لأن أداء الصلاة في الجماعة من الواجبات وقصر الصلاة مستحب؟ فالواجب تقديم الواجب على المستحب. وبالله التوفيق.(64/66)
س: إذا وصل الإنسان إلى مطار الرياض بعد صلاة العشاء وهو لم يصل المغرب والعشاء فهل يجمع ويقصر المغرب والعشاء؟
ج: المشروع للمسافر ما دام في السفر هو القصر أما الجمع ففيه تفصيل، فإن كان على ظهر سير فالأفضل الجمع تقديما أو تأخيرا حسب ما تقتضيه الحال؛ لفعل النبي صلى الله(64/66)
عليه وسلم فإنه كان إذا كان على ظهر سير جمع المغرب مع العشاء والظهر مع العصر. . فإن كان ارتحاله من المنزل قبل الزوال أخر الظهر مع العصر جمع تأخير، وإن كان ارتحاله بعد الزوال قدم العصر مع الظهر وهكذا المغرب والعشاء، وإذا كان ارتحاله صلى الله عليه وسلم قبل الغروب أخر المغرب مع العشاء جمع تأخير، وإن كان ارتحاله بعد الغروب قدم العشاء مع المغرب، أما إن كان المسافر نازلا فالأفضل له عدم الجمع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لم يجمع بين الصلاتين حال نزوله في منى.
أما الذي وصل إلى مطار الرياض وهو لم يصل المغرب والعشاء فإنه يسن له الجمع بين المغرب والعشاء ويصلي العشاء قصرا؛ لأن المطار خارج البلد في الوقت الحاضر، وإن أخر العشاء وصلاها مع الناس تماما في البلد فلا بأس. والله ولي التوفيق.(64/67)
س: رجل أراد السفر بعد صلاة الظهر وقبل دخول وقت صلاة العصر فهل يجوز له الجمع بين الظهر والعصر في وقت الأولى؟
ج: ليس له الجمع بين الصلاتين حتى يغادر عامر القرية أو المدينة ويبرز للصحراء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر عام حجة الوداع بالمدينة أربعا، ثم خرج وصلى العصر في ذي الحليفة ركعتين. والله ولي التوفيق.(64/67)
المسافر إذا كان وحده
فإنه يصلي مع الإمام بالإتمام
س. إذا كنت مسافرا ومكثت في البلد الذي سافرت إليه عدة أيام، ثلاثة أو أربعة أو أقل أو أكثر، ودخلت المسجد وقت الظهر وصليت مع الجماعة صلاة الظهر أربع ركعات، ثم قمت لوحدي وصليت العصر قصرا، هل عملي هذا جائز؟ وهل يجوز لي الصلاة جمعا وقصرا لوحدي في المنزل، وأنا في وسط بلد به مساجد كثيرة وأسمع الأذان بحجة أنني مسافر؟
ج: إذا عزم المسافر على الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام وجب عليه الإتمام عند جمهور أهل العلم، أما إن كانت الإقامة أقل من ذلك فالقصر أفضل، وإن أتم فلا حرج عليه، لكن إن كان واحدا فليس له أن يقصر وحده بل يجب أن يصلي مع الجماعة ويتم؛ للأحاديث الدالة على وجوب الجماعة، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وصحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن السنة للمسافر إذا صلى مع الإمام المقيم فإنه يصلي أربعا، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه (1) » متفق عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (722) ، صحيح مسلم الصلاة (414) ، سنن النسائي الافتتاح (921) ، سنن أبو داود الصلاة (603) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (846) ، مسند أحمد بن حنبل (2/314) ، سنن الدارمي الصلاة (1311) .(64/68)
س: هل يجوز للمسافر المعتمر أن يجمع صلاة الظهر مع العصر ويقصرهما ما دام سيقيم في مكة يومين أو ثلاثة، وهو(64/68)
بجوار الحرم؟ جزاكم الله خيرا.
ج: لا يجوز للمسافر الواحد أن يقصر الصلاة بل يجب عليه أن يصلي مع جماعة المسلمين ويتمها؛ لأن القصر مستحب وأداؤها في الجماعة أمر مفترض، لكن إن كان المسافرون أكثر من واحد، فلا بأس أن يصلوا قصرا، إذا كانت الإقامة أربعة أيام فأقل.(64/69)
هل الأفضل للمسافر القصر بلا جمع
أو الجمع والقصر وهل بينهما تلازم
س: يتصور البعض أن الجمع والقصر متلازمان، فلا جمع بلا قصر ولا قصر بلا جمع، فما رأيكم في ذلك؟ وهل الأفضل للمسافر القصر بلا جمع أو الجمع والقصر؟
ج: من شرع الله له القصر وهو المسافر جاز له الجمع، ولكن ليس بينهما تلازم فله أن يقصر ولا يجمع.
وترك الجمع أفضل إذا كان المسافر نازلا غير ظاعن، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في منى في حجة الوداع " فإن قصر ولم يجمع وقد جمع بين القصر والجمع في غزوة تبوك " فدل على التوسعة في ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم يقصر ويجمع إذا كان على ظهر سير غير مستقر في مكان، أما الجمع فأمره أوسع فإنه يجوز(64/69)
للمريض، ويجوز أيضا للمسلمين في مساجدهم عند وجود المطر أو الدحض بين المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر، ولا يجوز لهم القصر؛ لأن القصر مختص بالسفر فقط. والله ولي التوفيق.(64/70)
حكم الجمع والقصر لمن دخل الوقت وهو لم يرتحل بعد
س: إذا دخل الوقت وهو في الحضر ثم سافر قبل أداء الصلاة فهل يحق له القصر والجمع أم لا؟ وكذلك إذا صلى الظهر والعصر " مثلا " قصرا وجمعا ثم وصل إلى بلده في وقت العصر، فهل فعله ذلك صحيح؛ وهو يعلم وقت القصر والجمع أنه سيصل إلى بلده في وقت الثانية.
ج: إذا دخل على المسافر وقت الصلاة وهو في البلد، ثم ارتحل قبل أن يصلي شرع له القصر إذا غادر معمور البلد في أصح قولي العلماء، وهو قول الجمهور. وإذا جمع وقصر في السفر، ثم قدم البلد قبل دخول وقت الثانية، أو في وقت الثانية لم تلزمه الإعادة لكونه قد أدى الصلاة على الوجه الشرعي، فإن صلى الثانية مع الناس صارت له نافلة.(64/70)
حكم الجمع عند المطر
س: ما رأي سماحتكم في الجمع للمطر بين المغرب والعشاء في الوقت الحاضر في المدن، والشوارع معبدة ومرصوفة ومنارة إذ لا مشقة ولا وحل؟
ج: لا حرج في الجمع بين المغرب والعشاء ولا بين الظهر والعصر في أصح قولي العلماء للمطر الذي يشق معه الخروج إلى المساجد، وهكذا الدحض والسيول الجارية في الأسواق؛ لما في ذلك من المشقة.
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء (1) » زاد مسلم في روايته: «من غير خوف ولا مطر ولا سفر (2) » .
فدل ذلك على أنه قد استقر عند الصحابة رضي الله عنهم أن الخوف والمطر عذر في الجمع كالسفر، لكن لا يجوز القصر في هذه الحال وإنما يجوز الجمع فقط؛ لكونهم مقيمين لا مسافرين، والقصر من رخص السفر الخاصة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (مواقيت الصلاة) برقم (510) ومسلم في (صلاة المسافرين) برقم (1151، 1154) .
(2) رواه مسلم في (صلاة المسافرين) برقم (1151) .(64/71)
س: ما ضابط الجمع بين الصلاتين أثناء المطر أو في حال المطر؟
ج: إذا وجد العذر جاز أن يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء لعذر وهو المريض، والمسافر، وهكذا في المطر الشديد في أصح قولي العلماء، يجمع بين الظهر والعصر كالمغرب والعشاء، وبعض أهل العلم يمنع الجمع بين الظهر والعصر في البلد للمطر ونحوه كالدحض الذي تحصل به المشقة، والصواب جواز ذلك كالجمع بين المغرب والعشاء إذا كان المطر أو الدحض شديدا يحصل به المشقة، فإذا جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم فلا بأس، كالمغرب والعشاء، سواء جمع في أول الوقت أو في وسط الوقت، المهم إذا كان هناك ما يشق عليهم بأن كانوا في المسجد وهطل المطر الشديد، والأسواق يشق عليهم المشي فيها؛ لما فيها من الطين والماء جمعوا ولا بأس، وإن لم يجمعوا فلهم العذر يصلون في بيوتهم، بوجود الأمطار في الأسواق ووجود الطين.(64/72)
س: في الأيام الماضية بعض أئمة المساجد جمعوا صلاة المغرب مع العشاء بعد نزول مطر خفيف لم يحصل بنزوله مشقة. فما الحكم يا سماحة الشيخ، هل صلاتهم صحيحة أم لا بد من إعادة الصلاة؟
ج. لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا بعذر شرعي كالسفر والمرض والمطر الذي يبل الثياب ويحصل به بعض المشقة،(64/72)
كالوحل، أما من جمع بين العشاءين أو الظهر والعصر بغير عذر شرعي فإن ذلك لا يجوز، وعليه أن يعيد الصلاة التي قدمها على وقتها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وأصله في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وبذلك يعلم أن الواجب على كل مسلم أن يتحرى في عباداته كلها ما يوافق الشرع المطهر، وأن يحذر ما يخالف ذلك. وفق الله المسلمين جميعا للفقه في الدين والثبات عليه.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(64/73)
هل النية شرط للجمع
س: هل النية شرط لجواز الجمع؟ فكثيرا ما يصلون المغرب بدون نية الجمع، وبعد صلاة المغرب يتشاور الجماعة فيرون الجمع ثم يصلون العشاء؟
ج: اختلف العلماء في ذلك، والراجح: أن النية ليست بشرط عند افتتاح الصلاة الأولى، بل يجوز الجمع بعد الفراغ من الأولى إذا وجد شرطه من خوف أو مطر أو مرض.(64/73)
صفحة فارغة(64/74)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: ما حكم الحجر الذي يقوم به أحد الرجال على إحدى قريباته بحيث لا تتزوج إلا منه؟ جزاكم الله خيرا.
ج: هذا الفعل من أمر الجاهلية، وربما دخل في عموم العضل الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (1) ثم أيضا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد (2) » أخرجه الترمذي. فرد الرجل المرضي في دينه وأمانته وخلقه سبب للفساد سواء الرجل أو المرأة، وأيضا فإن مبنى النكاح على التراضي بين الزوجين، فلا بد من رضا الزوجة بالزوج، وهذا شرط في النكاح، فإذا حجر عليها أحد أقاربها بغير رضاها فهذا أمر محرم، والواجب على الجميع تقوى الله عز وجل
__________
(1) سورة البقرة الآية 232
(2) سنن الترمذي النكاح (1085) .(64/75)
ومراقبته وحسن الرعاية لمن تحت أيديهم من النساء فيتخيرون لهن الأكفاء من الرجال، ويجب عليهم أن يتركوا هذه العادات الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي عادات محرمة جائرة تورث الضغائن والشقاق والنزاع بين الزوجين.(64/76)
س: أرجو أن تدلوا القارئ بالرقية الشرعية الصحيحة؟
ج: الرقية الشرعية دواء للأدواء لمن كتب الله له الشفاء بها يقول الله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما، ورقاه جبريل عليه السلام، وأمر بالاسترقاء لأبناء جعفر رضي الله عنه، كل هذا صحيح ثابت.
وحصول الشفاء بالرقية أمر معروف؛ لما سبق الإشارة إليه، ولما صح من «حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما كان في سفر فمروا بحي، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فلدغ سيد الحي فطلبوا منهم الرقية، فشارطوهم إن شفي فلهم كذا من الغنم فرقاه بالفاتحة، فشفي فأعطوهم قطيعا من الغنم، فجاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " وما يدريك أنها رقية، ثم قال: خذوا منهم واضربوا لي بسهم (2) » .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82
(2) صحيح البخاري الإجارة (2276) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (2/541) .(64/76)
والرقية سبب من أسباب الشفاء، والشفاء بيد الله عز وجل؛ لذلك أجمع العلماء على جواز الرقية عند اجتماع ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
الشرط الثاني: أن تكون باللسان العربي وما يعرف معناه.
الشرط الثالث: أن يعتقد أنها سبب وأنها لا تؤثر بنفسها بل بتقدير الله.
فإذا توفرت هذه الشروط جازت الرقية وإلا لم تجز، ففي صحيح مسلم «عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: " اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(64/77)
س: ما هي السنة لمن حاذى الحجر الأسود، وكذلك لمن صعد الصفا، وماذا يقول على الصفا والمروة؟
ج: السنة لمن حاذى الحجر أن يستلمه ويقبله إن استطاع، فإن لم يستطع استلمه بيده وقبل يده وإلا فيستلمه بشيء معه ويقبل ذلك الشيء وإلا فليشر إليه بيده، ومع هذا يكبر يفعل ذلك كلما حاذى الحجر. فإذا أكمل سبعة أشواط صلى ركعتين خلف المقام إن تيسر له، وإلا ففي أي مكان من المسجد ثم يعود فيستلم الحجر الأسود إن تمكن، وبعد هذا يتجه إلى الصفا فإذا رقي عليه قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 158(64/77)
ثم يقول: أبدأ بما بدأ الله به، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويوحد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو، يكرر هذا ثلاث مرات، ثم ينطلق إلى المروة، فإذا بلغ العلمين سعى سعيا شديدا فيما بينهما، فإذا رقي على المروة اتجه إلى الكعبة ورفع يديه ووحد الله وكبره، ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم يدعو، يكررها ثلاثا. وهكذا حتى يتم سبعة أشواط، رواحه من الصفا إلى المروة شوط، وعوده إليها شوط آخر.(64/78)
س: تقضي المرأة المسلمة غالبا كثيرا من وقتها في المطبخ مشغولة بإعداد الأنواع المختلفة من الأطعمة فيفوت عليها اغتنام أوقات شهر رمضان فهل من توجيه للمرأة المسلمة؟
ج: شهر رمضان شهر مبارك وموسم عظيم نوه الله بذكره في كتابه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين (2) » وهذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) صحيح البخاري الصوم (1899) ، صحيح مسلم الصيام (1079) ، سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن النسائي الصيام (2104) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) ، مسند أحمد بن حنبل (2/281) ، موطأ مالك الصيام (691) ، سنن الدارمي الصوم (1775) .(64/78)
لفظ البخاري ولفظ مسلم فتحت أبواب الجنة. وهي عند البخاري من طريق أخرى، وزاد الترمذي: «وينادي مناد من السماء يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة (1) » .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » وفي رواية: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (3) » أخرجاه في الصحيحين أيضا وكلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، والنصوص في بيان فضل شهر رمضان وأنه زمن فاضل تضاعف فيه الأجور وتكفر فيه السيئات كثيرة جدا، والمقصود أن المسلم والمسلمة حري بهما استغلال هذا الشهر أيما استغلال، وألا تضيع عليهم أوقاته الفاضلة فيما لا ينفعهم من الاشتغال بفضول الكلام، أو الاشتغال بأشياء مفضولة يمكن تأجيلها أو الاستغناء عنها. أما بخصوص انشغال المرأة في المطبخ فهذه إذا كانت تنشغل بإصلاح الطعام الذي تحتاجه ويحتاجه أهل بيتها فهذا عمل صالح، وهي مأجورة عليه إن احتسبت، ومع ذلك فيمكنها مع الطبخ أن تعبد الله بالذكر والدعاء، وأيضا تلاوة القرآن فكلها لا تتعارض مع الطبخ. لكن هنا تنبيه لبعض أخواتنا المسلمات هداهن الله ممن يشغلن أوقاتهن، ويضيع عليهن أكثر النهار في إعداد فضول الأطعمة والتفنن في صنع الأصناف المتعددة، مما يتطلب منها وقتا كثيرا، وهي ليست في حاجته بل يمكن الاكتفاء
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) .
(2) صحيح البخاري صلاة التراويح (2014) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2203) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (37) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .(64/79)
باليسير عنه، فالله الله بالحرص على استغلال هذا الشهر. جعلنا الله وإياكم ووالدينا وسائر المسلمين فيه من المقبولين ومن عتقائه من النار إنه سبحانه جواد كريم بر رءوف رحيم.(64/80)
س: ما حكم إتيان المرأة وهي حائض، وهل في ذلك كفارة؟
ج: إتيان المرأة وهي حائض، إن كان المقصود منه الجماع فهذا محرم بنص كتاب الله، يقول الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) وتحريم جماع الحائض باتفاق الأئمة، ومن فعل هذا فهو آثم، وإن تصدق بدينار أو بنصف دينار فحسن؛ لما أخرجه الخمسة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار (2) » وفيه مقال، ومقدار الدينار الإسلامي يعادل أربعة غرامات وربع الغرام من الذهب تقريبا.
والواجب على المسلم تقوى الله والحرص على الوقوف عند حدوده، والحذر من تعديها فإن ذلك موجب لسخطه سبحانه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود النكاح (2168) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (640) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) ، سنن الدارمي الطهارة (1105) .(64/80)
س: يكثر في المحلات التجارية عروض لبيع المنتجات شرط شراء علبة وفتحها ليجد الجائزة المخصصة له، وقد تكون دراجة أو غيرها، فما حكم الشراء من هذه البضاعة، وما حكم التجارة التي تتخذ مثل هذا الأسلوب بهدف الربح السريع؟
ج: هذا الفعل من الميسر المحرم الذي قال الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) والمشتري لهذه السلعة إن أراد عين السلعة، فإني أرجو ألا حرج عليه، وإن كان مقصوده من شرائها طلب تحصيل ما رتب عليه من جوائز، فهذا محرم ودخول منه في هذه المعاملة المحرمة. نسأل الله العفو والعافية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(64/81)
س: أذن المؤذن وأفطرنا في رمضان، وبعد ذلك- تبين لنا أن المؤذن قد أذن قبل الوقت بدقائق، فماذا علينا وما نصيحتكم للمؤذنين؟ جزاكم الله خيرا.
ج: إذا أذن المؤذن قبل غروب الشمس خطأ، ثم تبين لمن أفطر على آذانه أنه قد تقدم، فإنه يقضي ذلك اليوم؛ لأنه تبين له أن فطره كان قبل وقت الفطر المشروع وهو غروب الشمس؛ بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) ونحن إنما علقنا في إمساكنا وفطرنا بعلامات ظاهرة يشهدها كل أحد، فالإمساك
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(64/81)
بطلوع الفجر والفطر بغروب الشمس، والأذان إنما هو إعلام بطلوع الفجر وقت الفجر، وغروب الشمس وقت المغرب، ولم يعلق إمساكنا ولا فطرنا به، فإذا ما أخطأ المؤذن فإن الواجب علينا التحري لنعرف هل أذانه موافق الموقت أو لا؟ فلما فرطتم في ذلك وجب عليكم القضاء ولا عذر لكم في خطأ المؤذن. وعلى المؤذنين تقوى الله عز وجل والحرص على تحري الوقت وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسم أنه قال: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين (1) » وقد قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: إنه السراج رواه بسند صحيح. والله أعلم.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (207) ، سنن أبو داود الصلاة (517) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .(64/82)
س: ما الحكم إذا خرجت الزوجة للعمل في مجال لا اختلاط فيه واستخدمت مربية مسلمة للإشراف على أولادها أثناء غيابها، بعد موافقة زوجها؟
ج: لا شك أن تربية الأولاد من أهم المهمات ومن أوجب الواجبات على الأم المسلمة والأب المسلم، والأم عليها من الواجب في هذا الأمر أكثر مما على الأب كما أن لها من الحقوق أكثر مما للأب، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) الآية، وهذا لا يكون إلا بحسن تربيتهم وتعاهدهم والعناية بهم والقيام عليهم بما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم، أما إهمالهم والتفريط في تربيتهم
__________
(1) سورة التحريم الآية 6(64/82)
والاعتماد في ذلك على مربية وإن كانت مسلمة فإن هذا لا يكفي؛ لأن الغالب أن هذه الخادمة لا تستطيع السيطرة على الأبناء، وربما لا يهمها أمرهم من جهة إصلاح سلوكهم والاهتمام - بتأديبهم، هذا إذا سلموا من شر قد تقذفه في قلوبهم، إن كانت من طائفة ضالة أو كانت كافرة، وهنا البلاء العظيم والشر المستطير، والواجب على المرأة المسلمة أن تتقي الله في نفسها وفي بيتها وأبنائها وأن تجعل مصلحة تربيتهم وإعدادهم الإعداد الإسلامي الصحيح فوق كل اعتبار. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(64/83)
س: هناك من يحتج بتحليل سماع الأغاني «بالحديث النبوي لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود (1) » وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع عائشة رضي الله عنها لترى صبيان المدينة وهم يغنون ويمرحون، كما يحتجون بأقوال بعض أهل العلم المعاصرين، فما رأي فضيلتكم؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الغناء محرم؛ يقول الله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) أقسم ابن مسعود رضي الله عنه ثلاثا: أن المراد لهو الحديث هنا الغناء، وإذا صاحب الغناء" معازف كان أشد تحريما: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكونن أقوام من
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5048) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (793) ، سنن الترمذي المناقب (3855) .
(2) سورة لقمان الآية 6(64/83)
أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (1) » أخرجه البخاري.
أما الاحتجاج على جوازه بحديث «استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قراءته فقال: " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود (2) » دلالة فيه على مراده، فإن معنى المزمار والمزمور: الصوت الحسن، كما حكى ذلك القرطبي في تفسيره عن العلماء، وأن آلة الزمر سميت به، وقيل العكس أي أن الصوت الحسن سمي باسم الآلة، وعلى كل فالمراد بالحديث حسن الصوت بالقرآن، ولا دلالة فيه على جواز الغناء ولا استعمال آلات الغناء، وتحسين الصوت بالقرآن أمر مشروع.
أما حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامها خلفه يسترها، وهي تنظر إلى الحبشة يلعبون بالحراب والورق، وجاريتان تغنيان بغناء بعاث فهو حديث صحيح، وفيه مشروعية التوسعة على الأهل والعيال وإظهار الفرح يوم العيد، وفيه كريم خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تعامله مع أهله، وليس فيه ما يدل على مشروعية الغناء، إذ ليس المراد بقولها: تغنيان الغناء المعروف، بل المراد رفع الصوت بدليل قول عائشة رضي الله عنها في بعض ألفاظ الحديث: "وليستا بمغنيتين ".
أما الاحتجاج بأقوال العلماء، فأقوال الرجال تقابل بأقوال
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4039) .
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5048) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (793) ، سنن الترمذي المناقب (3855) .(64/84)
الرجال، والحق هو ما وافق الكتاب والسنة فهما الأصل عندنا " ومعلوم أن الغناء خصوصا إذا كان بالمعازف فهو محرم بالكتاب والسنة.(64/85)
س: ما فضل متابعة الإمام في تكبيرة الإحرام؟
ج: لا أعلم في فضل إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام حديثا إلا ما أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا: «من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق (1) » لكنه لم يصح مرفوعا، وقد روي موقوفا على أنس كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وجاء أيضا خبر: "لكل شيء أنفة وإن أنفة الصلاة التكبيرة الأولى " لكنه ضعيف، وأيضا: " لكل شيء صفوة وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى " وهو ضعيف أيضا، وفيه أحاديث لا يصح رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، لكن السلف الصالح كانوا شديدي الحرص عليها، ولهم في ذلك أخبار، فهذا قاضي بغداد ابن سماعة - رحمه الله- يقول الذهبي في الميزان عندما ترجم له: " وقال أحمد بن عمران سمعته يقول: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي، فصليت خمسا وعشرين صلاة أريد التضعيف ".
وفي مسند ابن الجعد قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: قال وكيع: " كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى واختلفت إليه قريبا من سنتين فما رأيته
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (241) .(64/85)
يقضي ركعة ".
وفي حلية الأولياء عن الأوزاعي رحمه الله قال: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة، عشرين منها لم ينظر في أقفية الناس، وفي الحلية أيضا عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال. " ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة " والمعنى: أنه يكون في الصف الأول من شدة حرصه على المبادرة إلى الصلاة.
وفي الحلية عن إبراهيم التيمي رحمه الله قال. " إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه " وآثار السلف الدالة على أهمية تكبيرة الإحرام وفضلها وحرصهم عليها كثيرة، وفي الحرص على إدراك تكبيرة الإحرام فضائل منها: تحصيل أجر الجماعة من مبدئها حتى نهايتها، وبالحرص عليها أيضا يحصل التبكير إلى الصلاة وهو مندوب، وبالحرص عليها وتعاهدها يكون قلب العبد معلقا بالمساجد، وهذه صفة أحد من يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وبالجملة فالحرص عليها فيه تحصيل لمنافع شرعية واتباع لسير السلف الصالح. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(64/86)
س: ما حكم من ينكر وجوب الزكاة؟
ج: الزكاة ركن من أركان الإسلام، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله(64/86)
عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (1) » . " الحديث. ووجوبها دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، بل وجوبها من المعلوم من الدين بالضرورة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) وآيات كثيرة تدل على وجوبها، ومن السنة الحديث المتقدم، وقد أجمع العلماء على " وجوبها، وحكم منكر وجوبها أنه كافر إذا كان مثله لا يجهل حكمها، أما من امتنع من إخراجها مع إقراره بوجوبها، فقد اختلف العلماء، فمنهم من قال بكفره ومنهم من قال: إنه مرتكب لكبيرة من الكبائر. وقد جاءت الأحاديث بالوعيد الشديد لمانع الزكاة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: الآية (4) » .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(2) سورة البينة الآية 5
(3) صحيح البخاري الزكاة (1403) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2448) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1786) ، مسند أحمد بن حنبل (2/355) ، موطأ مالك الزكاة (596) .
(4) سورة آل عمران الآية 180 (3) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}(64/87)
نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي بها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولاجلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (1) » . " الحديث بطوله، وقد أخرج البخاري أصله في صحيحه. والمقصود: أن ترك الزكاة إثمه عظيم، وإذا علم الإمام عن امتناع شخص من أداء الزكاة أخذها منه قهرا؛ لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا يفرق إبل عن حسابها، من أعطاها فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء (2) » أخرجه النسائي وأبو داود وأحمد والدارمي، ولفظ أبي داود: " وشطر ماله ".
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2371) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) ، مسند أحمد بن حنبل (2/276) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .(64/88)
فالواجب على المسلم الحرص على إحصاء أمواله والمبادرة بأداء زكاتها طاعة لله وشكرا له فإنه هو المتفضل والمنعم بهذا المال على عباده سبحانه.(64/89)
س: من النساء من تتناول دواء لإيقاف العادة الشهرية في شهر رمضان لتتمكن من أداء الصلاة والصيام مع الناس فما حكم عملها هذا؟
ج: هذه الأدوية التي تمنع نزول الحيض وتمنع الحمل إذا كانت المرأة تريد استعمالها فلا بد من أمور تنظر إليها، أولا: لا بد أن تنظر في أصل استعمال هذه الأدوية وأنه يجب أن يكون بعد استشارة أهل الاختصاص في الطب، هل من المناسب لها أن تستعمل هذه الأدوية أم هي مضرة لها؟ فإن كانت مضرة لها فلا يجوز لها استعمالها، وإن كانت غير مضرة فهل استعمالها لهذه الأدوية لأجل غرض شرعي أم لا؟ فإن كانت تستعملها من غير حاجة أو لأغراض غير مشروعة كقطع النسل ونحوه، فلا يجوز لها أن تستعملها، وإن كانت لأغراض مشروعة كمساعدتها في تنظيم النسل، أو الاستعانة بها على أداء فريضة الحج مثلا أو غيرها من الأغراض المشروعة، فهنا يبقى النظر الثالث وهو: إذن زوجها، فإن أذن لها استعملتها، وإن لم يأذن لها لم تستعملها.
لكن مع هذا فإنه لا ينبغي للنساء التمادي والاسترسال في استعمال هذه الأدوية؛ لأنه ومن الواقع ثبت لنا أن مثل هذه الأدوية تسبب للمرأة اضطرابات في عادتها حتى تكون المرأة غير(64/89)
ضابطة لها، فتختل عليها بسبب ذلك كثير من الأمور، وخاصة العبادات من صلاة وصيام وحج ونحو ذلك. لذا فإني أنصح المرأة أن تترك الأمر على طبيعته كما خلقه الله؛ فإنه سبحانه أحكم الأحكمين وهو العليم الخبير اللطيف، يعلم ما يصلح عباده، فلا ينبغي لها أن تتعرض لمثل هذه الأمور التي تؤدي بها إلى الإخلال والاضطراب في عادتها فتختل تبعا لذلك عباداتها. وقد كان نساء الصحابة رضي الله عنهن جميعا، يأتيهن الحيض في رمضان فيفطرن ثم يقضينه، والحمد لله الأمر يسير، تفطر المرأة إذا نزل دم الحيض ثم تقضي ما أفطرته بعد رمضان، ولها فيمن سلف من نساء الصحابة رضي الله عنهن خير قدوة حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أخبرت أنه كان يكون عليها الصوم في رمضان فما تقضيه إلا في شعبان؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقصود أن الأمر يسير ولا تضجر المرأة وتذهب لهذه الأدوية التي تسبب لها الاضطرابات. والله أعلم.(64/90)
س: بعض الناس يتسبب في إفطار نفسه في رمضان كبعض الشباب الذين يلعبون الكرة بعد صلاة الفجر فيعطشون ويفطرون بحجة الاضطرار فما كلمتكم لهؤلاء؟
ج: ننصح هؤلاء الإخوة ومن هو على شاكلتهم بتقوى الله- عز وجل- واستشعار عظمته وتعظيم شعائره. ومن ذلك شعيرة الصيام وليحذروا مما يسبب لهم إفساد هذه الشعيرة العظيمة، فإن إجهاد النفس وإتعابها باللعب وما لا طائل تحته(64/90)
يؤدي إلى إضعافها، وهذا يؤدي إلى أن يضطر الإنسان إلى الفطر، وهذا ذنب عظيم، وإن لم يفطر فإنه سيبقى بقية نهاره كسولا، وهذا خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من النشاط والاسترواح بالعبادة والأنس بها، وقد يرتكب البعض ما هو أعظم من هذا، فتجده ينام النهار كله ويترك الصلوات، صلاة الظهر والعصر، وهذا خطر كبير على دين المرء، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله (1) » فالأمر جد خطير، والواجب الحرص والعناية وتعظيم حرمات الله، والله تعالى يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (2) وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وجنبنا جميعا أسباب سخطه وما يأباه.
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (553) ، سنن النسائي الصلاة (474) ، سنن ابن ماجه الصلاة (694) ، مسند أحمد بن حنبل (5/357) .
(2) سورة الحج الآية 30(64/91)
س: ما علامة الطهر بعد الحيض والنفاس؟
ج: طهر المرأة من الحيض والنفاس معلق بانقطاع الدم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) قال ابن عباس رضي الله عنهما: " حتى يطهرن " أي من الدم، فإذا انقطع الدم عنها ورأت النقاء فقد انقطع حيضها ونفاسها، وغالب النساء تعرف انقطاع حيضها بخروج القصة البيضاء، فإذا خرجت فإنها علامة على النقاء.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222(64/91)
س: جاء في الكتب الفقهية السدل واشتمال الصماء، والتلثم في الصلاة، ما حكمها في حق المصلي مع الدليل؟
ج: قول الفقهاء: " ويكره في الصلاة السدل واشتمال الصماء " السدل هو: أن يطرح ثوبا على كتفيه ولا يرد طرفه الآخر، وقيل: هو أن يلتحف بثوب ويدخل يديه من داخل القميص فيركع ويسجد وهو كذلك، والحجة في الكراهة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه (1) » أخرجه أبو داود. لكن إذا أدى السدل إلى انكشاف العورة فإنه يحرم حينئذ. وأما اشتمال الصماء فهو: أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره، وهذا الفعل قد يؤدي إلى انكشاف العورة.
ودليل الكراهة: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، ليس على فرجه منه شيء، وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه (2) » يعني منه شيء. وهكذا أيضا اللثام بأن يغطي فاه، فإنه مكروه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق الذي أخرجه أبو داود، إلا إذا كان هناك حاجة كشدة برد أو حر ونحو ذلك، وتغطية الأنف كرهها أيضا بعض الصحابة رضي الله عنهم. وحري بالمسلم أن يقف في صلاته وهو في أكمل هيئة، وليعلم أنه يناجي ربه. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (378) ، سنن أبو داود الصلاة (643) ، مسند أحمد بن حنبل (2/295) ، سنن الدارمي الصلاة (1379) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5821) ، سنن ابن ماجه اللباس (3560) ، موطأ مالك الجامع (1704) .(64/92)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 9847
السؤال الثالث: هل على المرأة غسل إذا أنزلت بشهوة بدون جماع؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا خرج المني من المرأة بلذة وجب عليها الغسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/93)
من الفتوى رقم 3377
السؤال الأول: ماذا يجب أن تفعل المرأة إذا حلمت باختلائها برجل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا رأى رجل في نومه أنه يجامع امرأة، أو رأت امرأة في منامها أن رجلا يجامعها فلا إثم عليهما في ذلك؛ لرفع التكليف عنهما حال النوم، لعدم إمكان التحرز عن ذلك؛ ولأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يبرأ وعن الصبي حتى يحتلم (1) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وقال: على شرطهما، ويجب الغسل على من رأى ذلك إذا أنزل منيا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 6 \ 101، وأبو داود 4 \ 139، والترمذي 4 \ 685، والحاكم 2 \ 59.(64/94)
من الفتوى رقم 3309
السؤال الرابع: هل يجوز النوم للإنسان وهو جنب؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجوز أن ينام الإنسان وهو جنب، إلا أن الأولى والأفضل ألا ينام الجنب إلا بعد أن يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة؛ لما روى الجماعة رحمهم الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة (1) » وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسلم 1 \ 170.(64/95)
من الفتوى رقم 4503
السؤال الثالث: هل يجوز للرجل أن يغتسل مع زوجته من الجنابة وغيرها؟(64/95)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجوز للرجل أن يغتسل مع زوجته من الجنابة من إناء واحد، والأصل في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة (1) » رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن ميمونة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة (2) » رواه أحمد وابن ماجه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال: إن الماء لا يجنب (3) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وروى أبو داود والنسائي من حديث رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل والرجل بفضل المرأة ويغترفا جميعا (4) » . قال الحافظ في الفتح: رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح.
وما رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها.
__________
(1) أحمد 1 \ 366، ومسلم 1 \ 257.
(2) أحمد 6 \ 0 33، وابن ماجه 1 \ 132.
(3) أحمد 1 \ 337، وأبو داود 1 \ 18، والترمذي 1 \ 200.
(4) أبو داود 1 \ 21، والنسائي 1 \ 130.(64/96)
قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة (1) » وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة (2) » متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: «من إناء واحد نغترف منه جميعا (3) » ولمسلم: «من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني فيه حتى أقول دع لي دع لي (4) » . وفي لفظ النسائي: «من إناء واحد يبادرني وأبادره حتى يقول دعي لي وأنا أقول دع لي (5) » ومن هذه الأحاديث يتبين أن غسل المرأة والرجل من إناء واحد جميعا جائز، أما غسل أحدهما أو وضوءه بفضل الآخر فلا حرج فيه والأفضل تركه عند وجود غيره جمعا بين الأحاديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسلم 4 \ 7.
(2) البخاري 1 \ 70 ط استانبول، ومسلم 4 \ 6 (شرح النووي) والنسائي 1 \ 201.
(3) البخاري 1 \ 72 ط استانبول.
(4) مسلم 4 \ 6.
(5) النسائي 1 \ 202.(64/97)
من الفتوى رقم 9881
السؤال الخامس: إذا أدخلت المرأة أصبعها للاستنجاء في الفرج، أو لإدخال مرهم أو قرص للعلاج أو بعد كشف أمراض النساء حيث تدخل الطبيبة يدها أو جهاز الكشف، هل يجب على المرأة الغسل؟ وإن كان هذا في نهار رمضان هل تفطر ويجب عليها القضاء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا حصل ما ذكر فلا يجب غسل جنابة ولا يفسد به الصوم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/98)
من الفتوى رقم 11029
السؤال الأول: هل الجنابة تغسل بالصابون. ولماذا؟(64/98)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجب الغسل من الجنابة بالماء ولا يجب فيه استعمال المنظفات كالصابون ونحوه وهذا هو الذي دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن استعمل الصابون أو نحوه، فلا بأس.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/99)
من الفتوى رقم 6471
السؤال السادس: رجل جامع زوجته وبعد مجامعته تغوط فبأي استنجائين يقدمه في التطهير؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يكفيه استنجاء واحد عن جماعه وتغوطه، ويغتسل.(64/99)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/100)
من الفتوى رقم 4481
السؤال الثالث: هل تغتسل القابلة أو يكفيها الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا يجب عليها غسل ولا وضوء من أجل قيامها نحو الحامل من إجراءات وضع حملها، وإنما يجب عليها غسل ما أصاب بدنها أو ثيابها من نجاسة دم أو نحوه إذا أرادت الصلاة، لكن ينتقض وضوءها من مس فرج المرأة الحامل إن مسته عند الولادة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/100)
من الفتوى رقم 6149
السؤال الأول: هل يلزم الغسل بعد التوبة الصادقة وهل هناك أدعية أو مأثورات تقال عند ذلك؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا يلزم الغسل بعد التوبة الصادقة من المعاصي؛ لأن الأصل عدم مشروعية ذلك، ولا نعلم دليلا يخالف هذا الأصل إلا إذا كانت التوبة من كفر وإنه يشرع لمن أسلم أن يغتسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك قيس بن عاصم لما أسلم (1) . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن السكن.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أبو داود 4 \ 355، والنسائي 1 \ 109، والترمذي 2 \ 509.(64/101)
من الفتوى رقم 1822
س: هل يجب الغسل على من غسل ميتا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
روى الإمام أحمد وأهل السنن من عدة طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من غسل ميتا فليغتسل (1) » إلا أن طرق هذا الحديث جميعها لا تخلو من مقال، لكنه يستأنس بها في القول باستحباب الغسل لمن غسل ميتا، لكنه لا يجب الغسل على من غسل ميتا لضعف الحديث المذكور، ويدل على استحباب الغسل أيضا من تغسيل الميت ما خرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 280 و 433 و 472 و 454، وأبو داود 4 \ 316، والترمذي 2 \ 309، وابن ماجه 1 \ 470.
(2) أبو داود 1 \ 96(64/102)
من الفتوى رقم 4679
السؤال السابع: إذا وقع الجماع بين المرأة والرجل بعد ذلك هل يجوز قبل غسلهما لمس أي شيء وإذا حصل اللمس لأي شيء هل يتنجس بذلك؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
نعم يجوز للجنب قبل أن يغتسل لمس الأشياء من أثواب وأطباق وقدور ونحوها، سواء كان رجلا أم امرأة؛ لأنه ليس بنجس ولا يتنجس ما لمسه منها بلمسه إياه؛ لما ثبت في الحديث الصحيح «عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام فانخنس منه ثم رجع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين كنت يا أبا هريرة، فقال: إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله إن المسلم لا ينجس (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري 1 \ 333، ومسلم 1 \ 282.(64/103)
فتوى رقم 13540
س: هل المني الذي خلق منه الإنسان نجس أم لا؟
وإذا كان ليس نجسا فما الحكمة من الاغتسال؟ وهل تأخير الاغتسال إلى الصباح في الشتاء خوفا من البرد يعتبر محرما؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الصحيح أن المني طاهر. وإذا خرج من الإنسان دفقا بلذة بجماع أو احتلام ونحو ذلك وجب عليه الاغتسال، ويجوز تأخيره إلى الصبح، وعليه أن يغتسل لصلاة الفجر بوقتها، ولا يجوز تأخيره إلى أن يخرج وقت الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/104)
فتوى رقم 1191
س: هل هناك فرق بين غسل الرجل والمرأة من(64/104)
ثلاث حثيات من الماء للحديث، وما الفرق بين غسل الجنابة والحيض؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا فرق بين الرجل والمرأة في صفة الغسل من الجنابة، ولا ينقض كل منهما شعره للغسل، بل يكفي أن يحثي على رأسه "ثلاث حثيات من الماء ثم يفيض الماء على سائر جسده؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك فتطهرين (1) » رواه مسلم. فإن كان على رأس الرجل أو المرأة من السدر أو الخضاب أو نحوهما ما يمنع وصول الماء إلى البشرة وجب إزالته، وإن كان خفيفا لا يمنع وصوله إليها فلا تجب إزالته.
أما اغتسال المرأة من الحيض فقد اختلف في وجوب نقضها شعرها للغسل منه، والصحيح أنها لا يجب عليها نقض لذلك، لما ورد في بعض روايات حديث أم سلمة عند مسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيضة وللجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على
__________
(1) مسلم 1 \ 259.(64/105)
رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (1) » فهذه الرواية نص في عدم وجوب نقض الشعر للغسل من الحيض ومن الجنابة، لكن الأفضل أن تنقض شعرها في الغسل من الحيض احتياطا وخروجا من الخلاف وجمعا بين الأدلة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسلم 1 \ 260.(64/106)
من الفتوى رقم 264
السؤال الرابع: إذا كان إنسان عليه جنابة ووجد له قليبا أو غديرا أو بحرا فنزل فيه واغتسل بنية الغسل من الجنابة هل يجزيه ذلك؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
نعم يجزيه ذلك إذا كان الماء كثيرا بأن بلغ قلتين فأكثر؛ لما روي عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء(64/106)
يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) » رواه الخمسة وفي لفظ ابن ماجه ورواية لأحمد: «لم ينجسه شيء (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 1 \ 311 و 2 \ 12 و 38، وأبو داود 1 \ 17، والنسائي 1 \ 40 و 1 \ 175، والترمذي 1 \ 97، وابن ماجه 1 \ 172.
(2) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .(64/107)
من الفتوى رقم 5512
السؤال الثاني عشر: أخ مصاب بحالة مرضية بحيث إنه ينزل منه المني في اليوم الواحد مرات متعددة بشهوة وبدون شهوة وربما حدث ذلك في المسجد ما الحكم في هذه الحالة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا نزل منه المني بشهوة وجب عليه الخروج من المسجد إذا حصل ذلك فيه والغسل للجنابة، وإذا نزل بغير شهوة لم يجب(64/107)
عليه الخروج من المسجد ولا الغسل من الجنابة، وعليه الوضوء من ذلك عند كل صلاة بعد الاستنجاء، وصيانة المسجد من التلوث بما ينزل منه وهو بالمسجد.
السؤال الخامس عشر: هل تقاس ذات الشعر الطويل الغير مضفرة على ذات الضفيرة من غسل الجنابة، أم لا بد أن تغسل شعرها كاملا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجب على من كانت جنبا ومن انقطع حيضها أن تعم جسدها وشعرها بالماء بنية الطهارة، سواء كان شعرها طويلا أم قصيرا، وسواء كان مضفورا أم غير مضفور.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/108)
من الفتوى رقم 3225
السؤال الرابع: إذا اغتسل الإنسان غسل النجاسة- أي الجنابة- فهل يجزئ أن يعم بدنه بالماء دون دلك؟(64/108)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
الصحيح من قولي العلماء أن دلك البدن والأعضاء ليس بفرض في الوضوء ولا في غسل الجنابة، فيجزئ أن يفيض الجنب الماء على بدنه حتى يعمه، وأن يصب الماء على أعضاء الوضوء حتى يعمها الماء، لكنه ينبغي في غسل الجنابة أن يغسل أولا ما على فرجه من النجاسة ثم يتوضأ مثل وضوئه للصلاة، ثم يفيض الماء على سائر جسده حتى يعمه.
ولا يقال للجنب نجس، ولا للجنابة نجاسة؛ لما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الجنب: «إن المسلم لا ينجس (1) » وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري 1 \ 333، ومسلم 1 \ 282.(64/109)
من الفتوى رقم 13420
السؤال الأول: زوج يقوم بواجباته الدينية ويخشى الله وهو مبتلى بزوجة قد تكون لا تحسن الطهارة من الجنابة.(64/109)
الذي أعرفه أنها تجعل الدش يصب على بدنها دون وصول الماء إلى رأسها هل عليه ذنب كلما جامعها بعد غسلها على الطريقة التي ذكرتها؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجب على الزوج المذكور أن ينصح لزوجته ويبين لها صفة الغسل من الجنابة وأنه لا بد من حثي الماء على رأسها وإن كان مشدودا؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: «يا رسول الله إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (1) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (330) ، سنن الترمذي الطهارة (105) ، سنن النسائي الطهارة (241) ، سنن أبو داود الطهارة (251) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (603) ، مسند أحمد بن حنبل (6/315) ، سنن الدارمي الطهارة (1157) .(64/110)
من الفتوى رقم 5211
السؤال الثاني: هل يكفي لإزالة الجنابة الغسل أم هناك وضوء قبل أو بعد، وهل لازم من الصابون أي غسل البدن أم(64/110)
لا يجب أو إذا لم يتوفر ما الحكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يكفي لإزالة الجنابة الغسل بالماء، والغسل المجزئ هو أن ينوي رفع الحدث ويسمي ويعم بدنه بالماء مرة واحدة وأفضل منه الغسل الكامل وهو: أن ينوي ثم يسمي ويغسل يديه ثلاثا وما تلوث من فرجه وغيره ويتوضأ وضوء الصلاة ثم يحثي الماء على رأسه ثلاثا يرويه ثم يعم بدنه بالماء ويدلكه ويبدأ في الشق الأيمن ويغسل قدميه في مكان آخر بأن يتنحى ثم يغسلهما تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا يجب استعمال الصابون ولا غيره بل يكفي الماء وحده.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/111)
من الفتوى رقم 8801
السؤال الثالث: بعد الغسل من الجنابة بفترة قصيرة ولم يجف الماء على جسمي وجدت جزءا لم يصبه الماء هل(64/111)
يجزئ الغسل بإصابة الماء لهذا الجزء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا وجدت موضعا من الجسم لم يصبه الماء ثم غسلته قبل أن يجف الماء من البدن فالغسل صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/112)
من الفتوى رقم 4213
السؤال الثاني: هل يكفي الغسل من الجنابة عن الوضوء للصلاة؟ علما أنه ناوي الصلاة بعد الغسل أو يجب أن يتوضأ وضوءا كاملا غير الغسل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
نعم يكفي الغسل من الجنابة عن الغسل والوضوء للصلاة جميعا إن نواهما ويصلي به ما لم ينتقض الوضوء بأي ناقض من نواقضه. وإن نوى الغسل فقط لم يجزئه عن الوضوء على(64/112)
الصحيح من أقوال العلماء؛ لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » . لكن الأفضل أن يبدأ الجنب بغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يغتسل للجنابة فيفيض الماء على سائر جسده تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(64/113)
من الفتوى رقم 5613
السؤال العاشر: أي نوع من المياه يستحب للإنسان أن يستعمل عند الغسل من الجنابة الماء البارد أم الساخن وما بال الذي لا يقدر على الماء البارد؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
للمسلم أن يستعمل الماء الساخن أو البارد حسب مصلحته، والأمر في ذلك واسع ودين الله يسر، كما قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(64/113)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/114)
من الفتوى رقم 6522
السؤال الخامس: هل يجزئ الغسل من الجنابة عن غسل الجمعة وعن غسل الحيض والنفاس؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
من وجب عليه غسل فأكثر كفاه غسل واحد عن الجميع إذا نوى به رفع موجبات الغسل ونوى استباحة الصلاة ونحوها كالطواف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » . متفق عليه؛ ولأن المقصود بغسل يوم الجمعة يحصل بالغسل عن الجنابة إذا وقع في يومها. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(64/114)
من الفتوى رقم 7559
السؤال الثالث: ما حكم التيمم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
واجب على من فقد الماء أو وجده وعجز عن استعماله أو كان استعماله يضره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/115)
فتوى رقم 1180
س: إننا بدو بالبر، والماء يبعد عنا خمسين كيلو وإننا نجلب الماء لأهلنا على السيارات ونحن نسقي الإبل والغنم هل يحل علينا الوضوء والاستحمام من الجنابة وبعض البيوت فيه عشرة أفراد والبعض أكثر من ذلك فهل يجوز لنا التيمم أرجو إفادتنا؟(64/115)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فرض الله الوضوء والغسل في حالة وجود الماء وأوجب التيمم عند فقد الماء أو تعذر استعماله لمرض أو نحوه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) وحيث إن السائل ذكر أنهم يأتون بالماء لسقي الإبل والغنم فهم واجدون للماء فيلزمهم الوضوء والغسل وكونكم بدوا في البر وأن الماء يبعد عنكم خمسين كيلو مترا هذا لا يكون عذرا مبيحا للتيمم ما دمتم تأتون بالماء على السيارات للإبل والغنم. والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(64/116)
س: إني أسكن البادية والماء يبعد عنا أحيانا حوالي ثمانين كيلو مترا وأحيانا أقل أو أكثر علما بأنا نسقي الماشية من الماء سواء بعد عنا أم قرب فهل يجوز لنا التيمم عند بعد الماء أو قربة؟ ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
" إذا كان الواقع كما ذكرت من أنكم تأتون بالماء إلى مكان عندكم ولا بد من أجل الماشية لم يجز لكم التيمم لوجود الماء عندكم بالفعل وإن كنتم أحضرتموه لمواشيكم من مكان بعيد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/117)
فتوى رقم 3196
س: يوجد عندنا بدو رحل ويقومون بجلب الماء على بعد أكثر من 80 كم وهذا باستمرار: فما الحكم الشرعي(64/117)
بالنسبة لهم: هل يباح لهم قصر الصلاة وهل يباح لهم أيضا الإفطار في رمضان حيث إنهم يجدون صعوبة في ذلك وخصوصا عند ذهابهم لجلب الماء فمثلا يأتون بالماء في خلال أربع وعشرين ساعة ثم يستريحون ثلاثة أيام أو يومين ثم يذهبون ويأتون به وأخيرا هل يباح لهم التيمم وهذه حالتهم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
للذين يذهبون لجلب الماء القصر والفطر في المسافة المذكورة ويتوضئون جميعا من الماء الذي جلبوه لأنفسهم ومواشيهم إلا إذا كان في بعض الأوقات قليلا يخشون إذا توضئوا منه أن يصيبهم أو يصيب مواشيهم ضرر فلهم التيمم في هذه الحالة خاصة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(64/118)
معتقد أهل السنة والجماعة في الشفاعة
للدكتور: عبد الله بن سليمان الغفيلي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) أما بعد:
__________
(1) الأستاذ المشارك بقسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(64/119)
فإن موضوع الشفاعة أحد الموضوعات المهمة التي يجب على المسلم معرفتها والإيمان بها وبما ورد فيها من أخبار صحيحة ثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن معرفتها تزيد المؤمن إيمانا وحبا لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويتبين له من خلالها فضل الله عز وجل وفضل رسولنا صلى الله عليه وسلم وفضل ديننا دين الإسلام.
وقد اهتم علماء " السلف رحمهم الله تعالى بموضوع الشفاعة فلا يكاد يخلو كتاب من كتب أهل العلم من ذكرها، وخاصة كتب الحديث والعقيدة إلا وموضوع الشفاعة أحد موضوعاتها، وهذا يدل على أهمية هذا الموضوع. وقد رأيت أن أكتب عن هذا الموضوع المهم حسب معتقد أهل السنة والجماعة، سائلا الله عز وجل أن ينفع به العباد، وأن يثيبني على ذلك إنه جواد كريم، وقد رتبت مباحث هذا الموضوع حسب الآتي:
المبحث الأول: تعريف الشفاعة.
المبحث الثاني: الأدلة على ثبوت الشفاعة من الكتاب والسنة.
المبحث الثالث: شروط الشفاعة.
المبحث الرابع: أقسام الشفاعة.
المبحث الخامس: أنواع الشفاعة.
المبحث السادس: الأسباب التي تحصل بها الشفاعة.
المبحث السابع: الأسباب التي تمنع الشفاعة.
المبحث الثامن: آراء الفرق المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في الشفاعة والرد عليها.(64/120)
المبحث التاسع: الشفاعة في أمور الدنيا.
هذا، وقد قمت بخدمة هذا البحث بعزو الآيات القرآنية وتخريج الأحاديث والحكم عليها من خلال كلام أهل العلم إذا كانت في غير الصحيحين أو أحدهما، كما ترجمت للأعلام غير المشهورين، وشرحت بعض الألفاظ، وعزوت الأقوال المنقولة إلى أهلها.
وفي الختام أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذا البحث، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/121)
المبحث الأول: تعريف الشفاعة:
المطلب الأول: تعريف الشفاعة لغة:
الشفاعة في اللغة: مشتقة من الشفع الذي هو غير الوتر يقال: شفع الشيء؛ ضم مثله إليه فجعل الوتر شفعا" (1) ، يقول ابن فارس رحمه الله: " الشين والفاء والعين أصل صحيح يدل
__________
(1) انظر: القاموس المحيط باب العين، فصل الشين ص (947) والمعجم الوسيط (1 \ 487) .(64/121)
على مقارنة الشيئين، والشفع خلاف الوتر " (1) ويقول الراغب الأصفهاني: " الشفعة: الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة يوم القيامة " (2) ويقول القرطبي: " الأصل: الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد، ومن الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع إذا اجتمع حمل وولد يتبعها، والشفع ضم واحد إلى واحد، والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له " (3) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (3 \ 201) .
(2) المفردات في غريب القرآن ص (263) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (5 \ 295) .(64/122)
المطلب الثاني: تعريف الشفاعة اصطلاحا:
الشفاعة في الشرع: هي التوسط للغير بجلب خير له أو دفع شر عنه. يقول ابن الأثير في تعريف الشفاعة: " هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم " (1) .
ويقول الجرجاني: " هي السؤال في التجاوز عن ذنوب
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (5 \ 485) .(64/122)
من الذي وقع الجناية في حقه " (1) .
ويعرفها بعض العلماء بقوله: " الشفاعة هي سؤال الخير للغير.
__________
(1) التعريفات ص (127) .(64/123)
المبحث الثاني: الأدلة على ثبوت الشفاعة من الكتاب والسنة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم:
ثبت لفظ الشفاعة وما تصرف منه في نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
من ذلك قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (1) .
وقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (2) .
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (3) .
وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الأنبياء الآية 28
(3) سورة طه الآية 109
(4) سورة النجم الآية 26(64/123)
وهذه الآيات وغيرها مما لم أذكرها تدل على ثبوت الشفاعة لمن حقق الشروط التي سيأتي ذكرها في المبحث الثالث.(64/124)
المطلب الثاني: الأدلة على ثبوت الشفاعة من السنة:
وردت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على ثبوت الشفاعة، منها: حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك. فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال: فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك. اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله. قال: فيأتون نوحا صلى الله عليه وسلم فيقول: لست هناكم. فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي اتخذه الله خليلا، فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فيقول: لست هناكم. ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها. ولكن ائتوا موسى صلى الله عليه وسلم الذي
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب التوحيد) باب كلام الرب عز وجل مع الأنبياء وغيرهم (8 \ 200، 201) ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب أدنى آهل الجنة منزلة (1 \ 180) .
(2) وفي رواية الإمام مسلم. '' فيلهمون لذلك ''. (1)(64/124)
كلمه الله وأعطاه التوراة. قال: فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم، فيقول: لست هناكم. ويذكر خطيئته فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله وكلمته، فيقول: لست هناكم. ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني فأستأذن على ربي فيؤذن لي. فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله. فيقول: يا محمد، ارفع رأسك سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي. ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار. وأدخلهم الجنة. ثم أعود فأقع ساجدا ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه. ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار وأدخلهم فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة- قال: فأقول: يا رب في النار ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود (1) » .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: «يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؛ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم
__________
(1) معناها: أنا لست أهلا لذلك. (2)(64/125)
القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه (1) » .
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: " تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقد سأله: «من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ " قال: " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه (2) » كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة هو تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع " (3) .
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا، وعادوا حمما (6) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم تروا أنها
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب صفة الجنة والنار (7 \ 207) .
(2) صحيح البخاري العلم (99) ، مسند أحمد بن حنبل (2/373) .
(3) مدارج السالكين (1 \ 341) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب صفة الجنة والنار (7 \ 204) .
(5) امتحشوا: احترقوا بالنار. لسان العرب (6 \ 344) . (4)
(6) (5) ، فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل أو قال: حمية السيل حميل السيل: الغثاء الذي يحمله السيل من طين وغيره. النهاية في غريب الحديث (1 \ 442) .(64/126)
شبت صفراء ملتوية» .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أول ما يدعى يوم القيامة آدم فتراءى ذريته فيقال: هذا أبوكم آدم فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين. فقالوا: يا رسول الله: إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود (1) » .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا (2) » .
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها أم دماغه (3) » وعقيدة أهل السنة والجماعة في الشفاعة أنهم يؤمنون بكل
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب الحشر (7 \ 196) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لشفاعة أمته (1 \ 189) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب صفة الجنة والنار (7 \ 203) .(64/127)
ما جاءهم عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، ويثبتون جميع الشفاعات التي جاءت نصوص الكتاب والسنة بإثباتها؛ كشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، وشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، وغير ذلك من أنواع الشفاعات الواردة له ولغيره صلى الله عليه وسلم. وينفون الشفاعة التي نفتها الأدلة من الكتاب والسنة. يقول العلامة حافظ الحكمي رحمه الله تعالى: " فهذه الشفاعة حق يؤمن بها أهل السنة والجماعة، كما آمن بها الصحابة رضوان الله عليهم، ودرج على الإيمان بذلك التابعون لهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه " (1) .
__________
(1) معارج القبول (2 \ 256) .(64/128)
المبحث الثالث: شروط الشفاعة:
إن للشفاعة شرطين لا بد وأن يتحققا، لأن الشفاعة عند الله عز وجل تختلف عن الشفاعة عند غيره، فهو يقبل الشفاعة ممن يريد وممن يأذن له، ولا يتقبلها في كل من يشفع لهم، بل يقبلها سبحانه وتعالى فيمن يريد من عباده.
وهذان الشرطان هما:
أولا: إذن الله سبحانه وتعالى للشافع بأن يشفع، ومما يدل على هذا الشرط قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (1) ، وقوله عز وجل: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة سبأ الآية 23(64/128)
ومن الأدلة من السنة حديث الشفاعة الطويل وقد ورد فيها، «فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها (1) » .
ثانيا: رضا الله سبحانه وتعالى عن المشفوع له بأن يكون من أهل التوحيد المتبعين لأوامر الله عز وجل المجتنبين لنواهيه.
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (2) وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (3) .
يقول العلامة ابن سعدي - رحمه الله تعالى-: " ومن تمام ملكه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد، مماليك لا يقدمون على الشفاعة لأحد حتى يأذن لهم {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (4) ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، ولا يرضى إلا عمن قام بتوحيده واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب، أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: " لا إله إلا الله خالصا من قلبه " (5) .
فالشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا لمن أذن له الله عز وجل
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) سورة طه الآية 109
(3) سورة الأنبياء الآية 28
(4) سورة الزمر الآية 44
(5) الخلاصة في التفسير ص13.(64/129)
وارتضاه شفيعا، فيلهمه الله بأن يشفع، فيشفعه الله في من يشاء من عباده.(64/130)
المبحث الرابع: أقسام الشفاعة:
تنقسم الشفاعة إلى قسمين:
1 - الشفاعة المثبتة: ذكر الله سبحانه وتعالى كثيرا من الآيات في إثبات الشفاعة، وتحقق وقوعها في يوم القيامة بعد إذنه سبحانه وتعالى للشافع ورضاه عن المشفوع.
ومن الأدلة على هذا القسم من الشفاعة قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (1) ومن الأدلة من السنة على إثبات هذه الشفاعة حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرا، وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعة، وإني اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا (2) » .
__________
(1) سورة النجم الآية 26
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4 \ 416) وقال الهيثمي في المجمع (8 \ 258) . رواه أحمد متصلا ومرسلا، والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.(64/130)
2 - الشفاعة المنفية: وهي الشفاعة التي نفاها الله عز وجل ونفاها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها شفاعة باطلة، وهي الشفاعة الشركية التي يفعلها الناس مع بعضهم البعض.
قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (1) ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) ، وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (3) يقول الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: " فالشفاعة التي أبطلها الله شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها كشفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه " (4) .
__________
(1) سورة غافر الآية 18
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة المدثر الآية 48
(4) إغاثة اللهفان ج1 ص 220 طبعة دار المعرفه بيروت لبنان.(64/131)
المبحث الخامس: أنواع الشفاعة:
المطلب الأول: شفاعات الرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات(64/131)
يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين " (1) ".
1 - الشفاعة العظمى:
هي الشفاعة الأولى الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وذلك حين يتوسل الناس يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام من أجل الشفاعة عند الله لإراحة الخلائق من هول وشدة ذلك اليوم العصيب بتعجيل حسابه وفصل القضاء بينهم بين يدي الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين بقسطه وعدله حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع عند ربه عز وجل لأهل الموقف.
وهذه الشفاعة أعظم الشفاعات كلها، ولهذا تسمى الشفاعة العظمى، فهي شفاعة عامة لجميع أهل الموقف، على اختلاف أديانهم.
وهذه الشفاعة أجمع عليها أهل الإسلام. وعلى هذه الشفاعة يدل قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (1 \ 313) .
(2) سورة الإسراء الآية 79(64/132)
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: " فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم " (1) .
ومن الأدلة على هذه الشفاعة حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " إلى أن قال: " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم. فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم (2) » .
وحديثه الآخر أيضا- رضي الله عنهما- أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع لنا، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود (4) » .
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (15 \ 143، 144) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة) باب من سأل الناس تكثرا (2 \ 130) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير) سورة بني إسرائيل باب قوله: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) (5 \ 228) .
(4) أي جماعات، والجثا جمع جثوة وهو الشيء المجموع. النهاية في غريب الحديث (1 \ 239) . (3)(64/133)
ومن أدلتها أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس (1) منها نهسة، فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب
__________
(1) النهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5 \ 136) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير) سورة بني إسرائيل، باب (ذرية من حملنا مع نوح) (5 \ 225) .(64/134)
قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام. فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته (1) ، نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى عليه السلام. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله - لم يذكر ذنبا - نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فيقولون: - يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من
__________
(1) أي المؤمنون منهم، كما جاء ذلك صريحا في مسند أبي عوانة (1 \ 178) باب في صفة الشفاعة. (2)(64/135)
ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين (1) من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى» .
يقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى مستدلا بهذا الحديث على ثبوت الشفاعة العظمى: " هذه الشفاعة التي وصفها أنها أول الشفاعات هي التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الله بين الخلق، فعندها يأمر الله عز وجل أن يدخل من لا حساب عليه من أمته الجنة من الباب الأيمن " (2) .
واستدل بهذا أيضا أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى حيث قال مبينا وجه الاستدلال به على هذه الشفاعة: " وقوله " فيقال:
__________
(1) المصراعان: بابان منصوبان ينضمان جميعا مدخلهما في الوسط منهما، لسان العرب (8 \ 199) .
(2) التوحيد لابن خزيمة (1 \ 593) .(64/136)
«يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه (1) » يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم " (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يراجع الأنبياء آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه " (3) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4712) ، صحيح مسلم الإيمان (194) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2434) ، مسند أحمد بن حنبل (2/436) .
(2) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص (245) .
(3) شرح العقيدة الواسطية ص (215) .(64/137)
2 - الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة بعد الفراغ من حسابهم:
من الأدلة على هذه الشفاعة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد (1) » .
وحديثه الآخر أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' أنا أول شفيع يشفع في الجنة '' (1 \ 188) .(64/137)
قبلك (1) » .
ومنها: حديث أبي هريرة وأبي حذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم يقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء (4) » .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' أنا أول شفيع يشفع في الجنة '' (1 \ 188) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1 \ 186) .
(3) أي تقرب، قال تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت. (2)
(4) (3) ، اعمدوا إلى موسى عليه السلام الذي كلمه الله تكليما، فيأتون موسى عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى عليه السلام: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له(64/138)
أول الشفعاء لأهل الجنة في دخولها.(64/139)
3 - الشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب:
من الأدلة على هذه الشفاعة: حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: " نعم، هو في ضحضاح (2) » .
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ، كعبيه، يغلي منه دماغه (3) » .
فهذه الأحاديث تبين أن سبب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه هو دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته له، وإلا هو مات كافرا، والله سبحانه وتعالى أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين ولكن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه شفاعة خاصة
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب مناقب الأنصار) باب قصة أبي طالب (4 \ 247) ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب (1 \ 195) .
(2) (1) من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار
(3) تقدم تخريجه.(64/139)
حتى ورد أنه أهون أهل النار عذابا يوم القيامة (1) .
وهذه الأنواع الثلاثة من الشفاعة خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (4 \ 115) .(64/140)
4 - الشفاعة في رفع درجات بعض أهل الجنة:
من الأدلة على هذه الشفاعة حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر رضي الله عنه على جيش إلى أوطاس، فرمي أبو عامر بسهم في ركبته فقال لأبي موسى: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك أبو عامر: استغفر لي، قال: واستعملني أبو عامر على الناس، ومكث يسيرا ثم إنه مات، فلما رجعت إلى النبي دخلت عليه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقلت له: قال: قل له يستغفر لي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه، ثم رفع يديه، ثم قال: " اللهم اغفر لعبيد أبي عامر " حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: " اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، أو من الناس " فقلت: ولي يا رسول الله فاستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب المغازي) باب غزوة أوطاس (5 \ 101) ومسلم في صحيحه (كتاب فضائل الصحابة) باب فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين (1943) .(64/140)
ومنها: حديث أم سلمة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة لما توفي فقال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الجنائز) باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر (2 \ 634) .
(2) أي في الباقين من ذريته. (1)(64/141)
5 - الشفاعة في دخول بعض المؤمنين الجنة بغير حساب ولا عذاب:
من الأدلة على هذه الشفاعة: حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثيات ربي (1) » .
ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5 \ 250) والترمذي في سننه (كتاب صفة القيامة) (4 \ 626) وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1 \ 394) : وهذا إسناده جيد.(64/141)
فإذا سواد كثير قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون " فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: " اللهم اجعله منهم " ثم قام إليه رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " سبقك به عكاشة (1) » .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل الجنة زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر فقام عكاشة (3) » . الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب (7 \ 199) ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب الدليل- على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1 \ 399)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب (7 \ 199) ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1 \ 197) .
(3) الزمرة. الجماعة من الناس. الصحاح للجوهري (2 \ 671) . (2)(64/142)
6 - الشفاعة في أهل الكبائر من أمته ممن دخلوا النار بذنوبهم أن يخرجوا منها:
أهل الكبائر: هم العصاة من أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره لإخراجهم من النار بعد دخولها.
ومن الأدلة على هذه الشفاعة: حديث معبد بن هلال(64/142)
العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا - وهو قاعد على فراشه - فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وآخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان (1) ، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم آخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل
__________
(1) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد) باب شفاعة الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (8 \ 202) ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1 \ 183) .(64/143)
يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل» فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا الحسن - وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدثنا بما حدثنا أنس بن مالك، فأتيناه وسلمنا عليه فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك، أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه، فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه. فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني- وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا، فقلنا: يا أبا سعيد فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولا، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قال: «ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك،(64/144)
وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله (1) » .
ومنها: حديث أنس بن مالك أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة، يقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم " إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: " فيأتونني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع فيحد لي حدا، ثم أخرجه من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا مثله (في الثالثة والرابعة) حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود (2) » .
ومنها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد) باب شفاعة الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (8 \ 202) ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1 \ 183) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب صفة الجنة والنار (7 \ 203) .(64/145)
ومنها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي (1) » .
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرت بين الشفاعة، أو يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى، أترونها للمتقين؛ لا ولكنها للمتلوثين الخطائين (2) » .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على ثبوت هذه الشفاعة، وقد اتفق أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على قبول ما جاء فيها، ولم ينكرها إلا أهل البدع والأهواء من الخوارج والمعتزلة وغيرهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " أجمع
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (5 \ 106) (كتاب السنة) باب في الشفاعة، والترمذي في سننه (4 \ 625) (كتاب صفة القيامة) (باب 11 منه) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والإمام أحمد في مسنده (3 \ 213) والحاكم في المستدرك (1 \ 69) وقال. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وصححه الحافظ ابن كثير في تفسيره (1 \ 487)
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 \ 75) والبيهقي في كتاب الاعتقاد ص (202) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (6 \ 1104) . قال المنذري. رواه أحمد والطبراني، وإسناده جيد. الترغيب والترهيب (4 \ 448) وقال الهيثمي. رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير النعمان بن قراد، وهو ثقة، مجمع الزوائد (10 \ 378) .(64/146)
المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة، ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضا لعموم الخلق ".(64/147)
7 - شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها:
من الأدلة على هذه الشفاعة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمر بقوم من أمتي أمر بهم إلى النار، قال: فيقولون: يا محمد ننشدك الشفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق وأستأذن على الرب عز وجل فيأذن لي فأسجد وأقول يا رب، قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، قال فيقول لي: انطلق فأخرج منهم، قال: فأنطلق وأخرج منهم من شاء الله أن أخرج، ثم ينادي الباقون: يا محمد ننشدك الشفاعة، فأرجع إلى الرب فأستأذن فيؤذن لي فأسجد، فيقال: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأثني على الله بثناء لم يثن عليه به أحد، وأقول: ثم قوم من أمتي قد(64/147)
أمر بهم إلى النار، فيقول: انطلق فأخرج منهم، قال: فأقول: يا رب أخرج من قال: لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، قال: فيقول: يا محمد ليست تلك لك، تلك لي، قال: فأنطلق وأخرج من شاء الله أن أخرج، قال: ويبقى قوم فيدخلون النار، فيعيرهم أهل النار، فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به أدخلكم النار، قال: فيحزنون لذلك، قال فيبعث الله ملكا بكف من ماء فينضح بها في النار، ويغبطهم أهل النار، ثم يخرجون، ويدخلون الجنة، فيقال: انطلقوا فتضيفوا الناس، فلو أنهم جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة، ويسمون المحررين (1) » .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذا الحديث: " وهذا يقتضي تعدد الشفاعة فيمن أمر بهم إلى النار ثلاث مرات ألا يدخلوها، ويكون معنى قوله: «فأخرج» أي: أنقذ بدليل قوله: «ويبقى قوم فيدخلون النار» والله أعلم " (2) .
__________
(1) أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الأهوال. ذكره ابن كثير في الفتن والملاحم (2 \ 205) .
(2) النهاية في الفتن والملاحم (2 \ 206) .(64/148)
8 - الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم بأن يدخلوا الجنة:
ذكر هذا النوع من الشفاعة الحافظ ابن كثير حيث قال: "شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم(64/148)
وسيئاتهم ليدخلوا الجنة " (1) .
وذكره أيضا الحافظ ابن حجر واستدل له بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم " (2) .
وقد ذكر جمع من أهل التفسير أن أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم (3) .
__________
(1) النهاية في الفتن والملاحم (2 \ 204) وانظر: تفسير ابن كثير (2 \ 201، 202) .
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر (11 \ 428) .
(3) انظر: تفسير ابن جرير الطبري (8 \ 192) ، وتفسير ابن كثير (2 \ 201) ، وفتح القدير (2 \ 208) .(64/149)
المطلب الثاني: الشفعاء غير الرسول صلى الله عليه وسلم:
تقدم في المبحث السابق الكلام عن أنواع شفاعات الرسول صلى الله عليه وسلم التي يشترك فيها مع غيره، والخاصة به صلى الله عليه وسلم، وحيث إن الله سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة يوم القيامة أيضا لغيره صلى الله عليه وسلم، فسأتكلم في هذا عن أنواع الشفعاء الذين يشفعون يوم القيامة في ضوء الأدلة الشرعية.
يقول السفاريني: " يجب أن يعتقد أن غير النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الرسل والأنبياء والملائكة والصحابة والشهداء والصديقين والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم(64/149)
عند ربهم يشفعون وبقدر جاههم ووجاهتهم يشفعون؛ لثبوت الأخبار بذلك وترادف الآثار على ذلك، وهو أمر جائز غير مستحيل، فيجب تصديقه والقول بموجبه لثبوت الدليل (1) .
__________
(1) لوامع الأنوار (2 \ 209)(64/150)
أولا: شفاعة الملائكة عليهم السلام:
والدليل على هذه الشفاعات قول الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (1) ونحوها من الآيات.
والدليل من السنة ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري الطويل مرفوعا وفيه: «فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة. . . ولم يبق إلا أرحم الراحمين. . . . فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط (2) » . .
__________
(1) سورة النجم الآية 26
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب معرفة طريق الرؤية (1 \ 167- 171) .(64/150)
ثانيا: شفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
ودليل هذه الشفاعة: ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه السابق أيضا، وفيه: «فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون (1) » . .
ومنها: ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب معرفة طريق الرؤية (1 \ 167) .(64/150)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ميز أهل الجنة وأهل النار فدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قامت الرسل فشفعوا فيقول: انطلقوا أو اذهبوا فمن عرفتم فأخرجوه، فيخرجونهم قد امتحشوا ثم يشفعون، فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط من إيمان فأخرجوه، قال: فيخرجون بشرا. ثم يشفعون، فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلة من إيمان فأخرجوه، ثم يقول الله: أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي، قال: فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه، فيكتب في رقابهم: عتقاء الله، ثم يدخلون الجنة، فيسمون فيها الجهنميين (2) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3 \ 326) وابن حبان في صحيحه (1 \ 351) وقال محقق مسند الإمام أحمد: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2) (1) ، فيلقونهم في نهر -أو على نهر- يقال له نهر الحياة، قال: فتسقط محاشهم على حافة النهر، ويخرجون بيضا مثل الثعارير(64/151)
ثالثا: شفاعة المؤمنين: من الأدلة على هذه الشفاعة:
ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري السابق، وفيه: «حتى إذا خلص المؤمنون من النار،(64/151)
فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم. أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا. وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لا تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم فيقول الله عز وجل: " شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. . . (2) » .
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أمتي من يشفع للفئام،
__________
(1) تقدم تخريج الحديث واللفظ لمسلم.
(2) سورة النساء الآية 40 (1) {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}
(3) أخرجه الترمذي في سننه (4 \ 627) كتاب (صفة القيامة) وقال: حديث حسن، وأخرجه أيضا الإمام أحمد في مسنده (3 \ 20، 63) وابن خزيمة في (كتاب التوحيد) (2 \ 636) .(64/152)
ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة (2) » .
ومنها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومضر، أو مثل أحد الحيين ربيعة ومضر (3) » .
ومنها: حديث عبد الله بن أبي الجدعاء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم. قالوا: يا رسول الله سواك؟ قال: سواي (4) » ومنها: حديث ابن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة،
__________
(1) الفئام. الجماعة الكثيرة؛ النهاية في غريب الحديث (3 \ 406) . (3)
(2) العصبة: بضم العين: ما بين العشرة إلى الأربعين، انظر: ترتيب القاموس المحيط (3 \ 236) . (1)
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5 \ 257، 261، 267) وقال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد. الترغيب والترهيب (4 \ 445) .
(4) أخرجه الترمذي في سننه (4 \ 626) كتاب (صفة القيامة) وقال: حديث حسن صحيح غريب، وقال الألباني: وسنده صحيح، مشكاة المصابيح (3 \ 1558) وأخرجه ابن ماجه في سننه (2 \ 1442) كتاب (الزهد) باب ذكر الشفاعة، والإمام أحمد في مسنده (3 \ 471) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1 \ 70، 71) وقال: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي.(64/153)
والرجل للرجل (1) » .
فالمؤمنون يشفعون يوم القيامة، وكلما كان المؤمن أكثر إيمانا وتقى كان أحرى بالشفاعة لإخوانه المؤمنين، والعكس بالعكس.
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة (2) »
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (2 \ 745) وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (10 \ 382) .
(2) أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب) باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (6 \ 2006) .(64/154)
رابعا: شفاعة الشهداء: من الأدلة على هذه الشفاعة:
حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للشهيد عند الله ست خصال. وجاء في آخر الحديث: ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه (1) » .
ومنها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفع الشهيد في سبعين من
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4 \ 131) والترمذي في سننه (4 \ 188) (كتاب فضائل الجهاد) باب ثواب الشهيد، وقال. هذا حديث حسن صحيح غريب، وأخرجه ابن ماجه في سننه (2 \ 936) (كتاب الجهاد) باب فضل الشهادة في سبيل الله.(64/154)
أهل بيته (1) » .
وفي سنن ابن ماجه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء (2) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، (كتاب الجهاد) باب في الشهيد يشفع (3 \ 34) .
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه (كتاب الزهد) باب ذكر الشفاعة (2 \ 1443) . وقال البوصيري: '' هذا إسناد ضعيف لضعف علاق بن أبي مسلم '' انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (3 \ 321) .(64/155)
خامسا: شفاعة أولاد المؤمنين لآبائهم يوم القيامة:
من الأدلة على هذه الشفاعة: ما جاء عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا، عن موتانا؟ قال: نعم «صغارهم دعاميص (2) ثوبك هذا، فلا يتناهى - أو قال: أو قال: فلا ينتهي - حتى يدخله الله وأباه الجنة» .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب البر والصلة والآداب) باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (3 \ 2029) .
(2) (1) الجنة، يتلقى أحدهم أباه - أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال: بيده - كما آخذ أنا بصنفة (صنفة ثوبك) أي طرفه. المرجع السابق (16 \ 182) .(64/155)
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، وقال: يقال: لهم ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا، قال: ثلاث مرات: فيقولون: مثل ذلك، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم (1) »
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 \ 510) والنسائي في سننه (كتاب الجنائز) باب من يتوفى له ثلاثة (4 \ 25) .(64/156)
المطلب الثالث: الأعمال الصالحة التي تشفع لأصحابها يوم القيامة:
1 - شفاعة القرآن:
مما يدل على شفاعة القرآن يوم القيامة حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة (2) » أي السحرة.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب صلاة المسافرين) باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (1 \ 553) .
(2) الغياية. كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها؛ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3 \ 403) . (1)(64/156)
وجاء في بعض السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى يغفر له: تبارك الذي بيده الملك (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2 \ 119) (كتاب الصلاة) باب في عدد الآي، والترمذي في سننه (5 \ 164) (كتاب فضائل القرآن) باب ما جاء في فضل سورة الملك، وقال الترمذي: حديث حسن، وابن ماجه في سننه (2 \ 1244) (كتاب الأدب) باب ثواب القرآن.(64/157)
2 - شفاعة الصيام:
ومما يدل على شفاعة الصيام يوم القيامة حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان (1) » .
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: " الصيام يشفع منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها بالصيام كشهوة الطعام والشراب، والنكاح ومقدماتها، أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم والسماع المحرم والنظر المحرم والكسب المحرم، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 \ 174) والحاكم في المستدرك (1 \ 544) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال المنذري: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجالهم محتج بهم في الصحيح. الترغيب والترهيب (2 \ 84) .(64/157)
كلها، فإنه يشفع عند الله يوم القيامة، ويقول: يا رب منعته شهواته فشفعني فيه، فهذا لمن حفظ صيامه، ومنعه شهواته، فأما من ضيع صيامه، ولم يمنعه عما حرمه الله عليه، فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه، ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني،. . . وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل، فإن من قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له " (1) .
__________
(1) لطائف المعارف لابن رجب ص (182) .(64/158)
المبحث السادس: الأسباب التي تحصل بها الشفاعة:
إن الشفاعة وإن كانت هي من رحمة الله عز وجل على عباده المؤمنين وبعد إذنه ورضاه، فإن فضله ورحمته واسعة وعظيمة ومن رحمته وفضله سبحانه وتعالى على عباده أن يوفقهم لعمل الأسباب التي توصلهم إلى الشفاعة بل وتجعلهم شفعاء عند الله عز وجل بإذنه لبقية عباده، ومن هذه الأسباب المكتسبة:(64/158)
أولا: القرآن الكريم:
وذلك بقراءته وحفظه وتدبر معانيه والعمل بما فيه من أوامر ونواه، ومن الأدلة على ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: [تبارك الذي بيده الملك] (1) » .
ومنها: حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن،
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4 \ 238) وأبو داود في سننه (2 \ 119) .(64/158)
فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. . . (1) » .
وغير ذلك من الأدلة الثابتة.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1 \ 553) .(64/159)
ثانيا: الصيام:
وذلك بصوم الفرض كما شرعه الله سبحانه وتعالى، وصوم النفل رغبة وطمعا في فضل الله عز وجل ورحمته.
ومن الأدلة على ذلك حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار. فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان (1) » وغير ذلك من الأدلة الثابتة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 \ 174) والحاكم في المستدرك (1 \ 544) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال المنذري: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجالهم محتج بهم في الصحيح. الترغيب والترهيب (2 \ 84) .(64/159)
ثالثا: الأولاد الصالحون:
ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليرفع درجة العبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول باستغفار ولدك لك (1) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5092) . قال الهيثمي في المجمع (10 \ 210) : رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة وقد وثق.(64/159)
ومنها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة "، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: " أو اثنين (1) » .
ومنها: ما جاء عن معاوية بن قرة عن أبيه «أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أتحبه؟ " فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما فعل ابن فلان؟ " قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: " أما تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ " فقال رجل: يا رسول الله أله خالصة أم لكلنا؟ ، فقال: بل لكلكم (2) » .
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (كتاب البر والصلة والآداب) باب فضل من يموت له ولد فيحتبسه (4 \ 2028) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3 \ 436) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 384) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.(64/160)
رابعا: سكنى المدينة والموت بها:
يدل على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صبر على لأوائها وشدتها، كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة (2) » (يعني المدينة) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الحج) باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (2 \ 1004) .
(2) اللأواء. الشدة وضيق المعيشة. النهاية في غريب الحديث (4 \ 221) (1)(64/160)
ومنها: ما جاء عن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري أنه مر بزيد بن ثابت وأبي بن كعب وهما قاعدان عند مسجد الجنائز، فقال أحدهما لصاحبه: تذكر حديثا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المجلس الذي نحن فيه، قال نعم، عن المدينة، سمعت يزعم أنه «سيأتي على الناس زمان تفتح فيه فتحات الأرض فيخرج إليها رجال يصيبون رخاء وعيشا وطعاما، فيمرون على إخوان لهم حجاجا أو عمارا فيقولون: ما يقيمكم في لأواء العيش وشدة الجوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاهب وقاعد -حتى قالها مرارا- والمدينة خير لهم، لا يثبت أحد فيصبر على لأوائها وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا أو شفيعا (1) » .
ومنها: ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعا، أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما (2) »
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4 \ 183) وقال المنذري في الترغيب والترهيب (2 \ 223) . رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد، ورواته ثقات. وقال الهيثمي في المجمع (3 \ 300) : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الحج) باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (2 \ 1002) .(64/161)
خامسا: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الوسيلة له:
يدل على هذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (1) » .
ومنها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا أدركته شفاعتي (2) » .
__________
(1) المصدر السابق (1 \ 288) .
(2) قال الهيثمي في المجمع (15 \ 125) : رواه الطبراني بإسنادين وإسناد أحدهما جيد، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير (2 \ 175) بالحسن، وحسنه الشيخ الألباني أيضا، صحيح الجامع الصغير حديث رقم (6357) .(64/162)
سادسا: المصلون على الميت الموحد لله عز وجل:
يدل على هذا حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ميت صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم (كتاب الجنائز) باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه (2 \ 654) .(64/162)
ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم فيه (1) » .
__________
(1) المصدر نفسه (2 \ 655) .(64/163)
المبحث السابع: الأسباب التي تمنع الشفاعة: أولا: الشرك بالله عز وجل والكفر به: الشرك أعظم ذنب عصي الله به، ولا يغفر الله سبحانه لصاحبه إلا بالتوبة، وقد دل على أن الشرك يمنع الشفاعة قوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} (1) {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) .
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه (3) »
وجاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرسه أصحابه، فقمت ذات ليلة، فلم أره، فأخذني ما قدم وما حدث، فذهبت أنظر، فإذا أنا بمعاذ لقي الذي لقيت، فسمعنا صوتا مثل هزيز الرحا، فوقفا
__________
(1) سورة يس الآية 23
(2) سورة يس الآية 24
(3) رواه البخاري (13 \ 391) .(64/163)
على مكانهما، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الصوت، فقال: «هل تدرون أين كنت؟ وفيم كنت؟ أتاني آت من ربي عز وجل، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة. فقالا: يا رسول الله، ادع الله عز وجل أن يجعلنا في شفاعتك، فقال: أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئا في شفاعتي (1) »
وغير ذلك من الأدلة التي تمنع الشفاعة عن كل مشرك وكافر بالله
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4 \ 404) ، والطبراني في الصغير (2 \ 8) ، وقال الهيثمي في المجمع (10 \ 368) ، في رواية أحمد بعد أن عزاه لأحمد والطبراني، قال: رجالها رجال الصحيح غير عاصم بن أبي النجود، وقد وثق، وفيه ضعف.(64/164)
ثانيا: اللعن واللعانين بغير حق: ويدل على هذا حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة (1) »
__________
(1) تقدم تخريجه(64/164)
ثالثا: الغلو في الدين والتشدد بما ليس فيه: عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق (1) » .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8 \ 28) والأوسط (1 \ 200) قال المنذري في الترغيب والترهيب (3 \ 185) : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. وقال الهيثمي في المجمع (5 \ 235) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الكبير ثقات.(64/164)
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رجلان ما تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وآخر غال في الدين مارق منه (1) »
__________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1 \ 2) والطبراني في الكبير (20 \ 214) وقال الهيثمي في المجمع (5 \ 236) . رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما منيع، وقال ابن عدي: له أفراد وأرجو أنه لا بأس به، وبقية رجاله ثقات، والحديث صححه الألباني. انظر. السنة لابن أبي عاصم حديث رقم (41)(64/165)
المبحث الثامن: الفرق المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في الشفاعة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الخوارج والمعتزلة:
أولا: مذهبهم في الشفاعة: تقدم ذكر أنواع الشفاعة عند أهل السنة والجماعة التي وردت بها الأدلة من الكتاب والسنة، وكان من بينها الشفاعة لأهل الكبائر.
وقد أنكرت الخوارج والمعتزلة الشفاعة لأهل الكبائر، فمنعوا الشفاعة لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من(64/165)
يدخلها (1) ، فعندهم: " أن من دخل النار فليس بخارج منها " (2) .
ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب في زيادة الدرجات (3) ، كما لم ينكروا الشفاعة العظمى (4) .
يقول ابن المنير في تعليقه على الزمخشري مبينا مذهبه الاعتزالي في ذلك: " ما أنكرها -أي الشفاعة- القدرية إلا لإيجابهم مجازاة الله تعالى للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية إيجابا عقليا على زعمهم، فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة " (5) .
وقد أنكر الخوارج الشفاعة في أهل الكبائر في آخر عصر الصحابة، وأنكرها المعتزلة في عصر التابعين، وقالوا بخلود من دخل النار من عصاة الموحدين، الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويشهدون أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت الحرام، ويسألون الله الجنة، ويستعيذون به من النار في كل صلاة ودعاء، غير أنهم ماتوا مصرين على
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (1 \ 116) .
(2) كتاب الشريعة للآجري ص (331) وانظر. مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1 \ 168، 334) .
(3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (1 \ 116) وانظر: شرح النووي لصحيح مسلم (3 \ 35) .
(4) الكشاف للزمخشري (3 \ 366) .
(5) الإنصاف على هامش الكشاف (1 \ 152) .(64/166)
معصية عملية، عالمين بتحريمها، معتقدينه، مؤمنين بما جاء فيه من الوعيد الشديد، فقضوا بتخليدهم في جهنم مع فرعون وهامان وقارون (1) .
وقد اشتهر عندهم أن أهل الكبائر لا يغفر الله تعالى لهم، ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوا، لا بشفاعة ولا غيرها (2) ، فمن دخل جهنم يخلد فيها؟ لأنه إما كافر، وإما صاحب كبيرة ومات بلا توبة (3) .
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: " مذهب أهل السنة جواز الساعة عقلا وتحققها سمعا بصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (4) وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (5) ، وأمثالهما، وبخبر الصادق صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحتها في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج والمعتزلة منها، وتأولت الأحاديث الواردة فيها، واعتصموا بمذاهبهم في تخليد المؤمنين في النار محتجين بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (6) ،
__________
(1) انظر: معارج القبول للحكمي (2 \ 256) .
(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (1 \ 318) .
(3) لوامع الأنوار (2 \ 217) ، وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (1 \ 45، 114، 115) .
(4) سورة طه الآية 109
(5) سورة الأنبياء الآية 28
(6) سورة المدثر الآية 48(64/167)
وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (1) وهذه الآيات في الكفار، أما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات وإجزال الثواب فباطل، وألفاظ الأحاديث صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار " (2) .
وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم ذلك عليهم، وحدثوهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ومما يدل على إنكار الصحابة رضي الله عنهم ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي عاصم، قال: حدثني يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم -جالس إلى سارية- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (3) و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (4) ، فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال:
__________
(1) سورة غافر الآية 18
(2) إكمال المعلم (3 \ 862) ، وانظر. شرح صحيح مسلم (3 \ 35) .
(3) سورة آل عمران الآية 192
(4) سورة السجدة الآية 20(64/168)
أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم؟ (يعني الذي يبعثه الله فيه) قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج، قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس فرجعنا، قلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد (1) .
يقول القاضي عبد الجبار -وهو أحد كبار المعتزلة - مقررا، مذهب المعتزلة في الشفاعة: " لا خلاف بين الأئمة في أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة للأمة، إنما الخلاف في أنها تثبت لمن؟ فعندنا أن الشفاعة للتائبين من المؤمنين، وعند
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1 \ 179، 180) .(64/169)
المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة " (1) .
وقد استدل الخوارج والمعتزلة على قولهم بآيات الوعيد في القرآن الكريم الدالة على عموم تعذيب أصحاب الذنوب والمعاصي في النار، وعدم إخراجهم منها، وأن هذا يدل على ثبوت الشفاعة يوم القيامة لأهل العذاب.
وقد انبنى هذا على مذهبهم المشهور في تخليد أصحاب الكبائر في النار إذا ماتوا من دون توبة؟ وذلك لأن الخوارج يكفرونهم، وأما المعتزلة فيخرجونهم من الإيمان ولا يدخلونهم في الكفر، فهم في منزلة بين المنزلتين (2) ولكنهم يخلدونهم في النار في الآخرة.
قال القاضي عبد الجبار: " دلت الدلالة على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام، فكيف نخرج الفاسق من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} (3) (4) .
__________
(1) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار بن أحمد ص (688) .
(2) انظر: مثلا كتاب شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص (695) فما بعدها.
(3) سورة الزمر الآية 19
(4) شرح الأصول الخمسة ص (689) .(64/170)
وذكر في موضع آخر -مبينا وجه استدلالهم بهذه الآية- أن هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع للفجار والفساق لأنه لو شفع لهم لوجب أن يكون منقذا من النار، وقد نفى الله تعالى عنه ذلك (1) .
ومن الآيات التي استدلوا بها أيضا قول الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) تقدم استدلال الخوارج بهذه الآية في الحديث المتقدم قريبا.
وقال القاضي عبد الجبار: تدل الآية على أن الظالم لا تلحقه شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتخلص من النار إذا مات على ظلمه وإصراره (3) .
وقول الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (4) وقد تقدم استدلال الخوارج بهذه الآية في الحديث السابق.
قال القاضي عبد الجبار: " لو كان الفاسق يخرج من النار إما بانقطاع ما يستحقه من النار، أو بالشفاعة لما صح ما ذكره الله تعالى من أنه كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " (5) .
__________
(1) متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار ص (592) .
(2) سورة آل عمران الآية 192
(3) متشابه القرآن ص (177) .
(4) سورة السجدة الآية 20
(5) متشابه القرآن ص (561) .(64/171)
وقول الله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} (1) .
قال القاضي عبد الجبار: " تدل الآية على نزول العذاب بكل مجرم، وعلى أنه لا مخلص له ذلك اليوم من العذاب، لأنه لو خلص منه بشفاعة أو غيرها لما جاز أن يوصف بهذه الصفة التي تقتضي القياس من التخلص من العقاب " (2) .
وقول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (3) .
قال القاضي عبد الجبار مبينا وجه الاستدلال بهذه الآية على مذهبهم: "إن من جاءه العذاب لا يكون له ناصر، وفي هذا إبطال القول بالشفاعة " (4) .
ونرد على شبههم بأن نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان وسائر الأئمة يقرون بما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تبين أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار قوما من عصاة المؤمنين بعد أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرج آخرين
__________
(1) سورة المعارج الآية 11
(2) متشابه القرآن ص (665) .
(3) سورة الزمر الآية 54
(4) متشابه القرآن ص (597) .(64/172)
بشفاعة غيره، ويخرج قوما بلا شفاعة (1) .
كما هو معتقد أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر إذا ماتوا على الإيمان أنهم لا يخلدون في النار.
وذلك لأن أهل السنة لا يكفرون مرتكب الكبيرة كالخوارج، ولا يخرجونه من الإيمان كالمعتزلة، بل إن مرتكب الكبيرة عندهم مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم (2) وأنه في الآخرة إن مات من دون توبة فهو تحت مشيئة الله تعالى.
قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى مقررا ذلك: " ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة، صغائر وكبائر؛ فإنه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة، سالما غانما، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحب إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة: بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه منها إلى نعيم
__________
(1) تقدم ذكر الأحاديث ضمن الفصل الثاني.
(2) انظر: العقيدة الواسطية لابن تيمية (16، 17) .(64/173)
دار القرار " (1) .
وأما الآيات التي احتج بها المنكرون للشفاعة فقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أنها خاصة بالكفار.
قال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله تعالى: " إن المكذب بالشفاعة أخطأ في تأويله خطأ فاحشا، خرج به عن الكتاب والسنة، وذلك أنه عمد إلى آيات من القرآن نزلت في أهل الكفر، أخبر الله عز وجل أنهم إذا دخلوا النار فهم غير خارجين منها، فجعلها المكذب بالشفاعة في الموحدين، ولم يلتفت إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الشفاعة: أنها إنما هي لأهل الكبائر، والقرآن يدل على هذا " (2) .
ومن شبه الخوارج والمعتزلة العقلية: ما أورد القاضي عبد الجبار حيث قال: " ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " شفاعتي لأهل الكبائر لأمتي. . . " وهذا الخبر لم تثبت صحته، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألتنا طريقها العلم، فلا يصح الاحتجاج به " (3) .
ويرد على هذه الشبهة بأن نقول: تقدم إيراد هذا الحديث عند الاحتجاج على إثبات الشفاعة
__________
(1) عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ص (276) ، وانظر: كتاب البعث والنشور للبيهقي ص (36) فما بعدها.
(2) الشريعة للآجري ص (334، 335) .
(3) شرح الأصول الخمسة ص (690) .(64/174)
في أهل الكبائر، وذكرنا هناك أنه قد أخرجه جمع من أصحاب السنن والمسانيد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وأن بعض أئمة الحديث قد نصوا على صحته.
وأما دعوى المعتزلة عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد، وأنها لا تفيد العلم ولا سيما في أمور العقائد؟ فهذه من المسائل التي خالف فيها المعتزلة وغيرهم أهل السنة والجماعة.
فإن أهل السنة والجماعة يرون الاحتجاج بأخبار الآحاد في أمور العقائد والأحكام، وأنها تفيد العلم، ولا يفرقون بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد إذا كان صحيحا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: " وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شيء من صفات الله -زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين- باطل، لا يعول عليه، ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل " (1) .
وقد بحث عدد من علماء أهل السنة والجماعة هذه المسألة فبسطوا الأدلة فيها، وردوا على المخالفين.
__________
(1) مذكرة أصول الفقه ص (105) .(64/175)
وأما حملهم لحديث شفاعة الرسول صلى الله عليه لأهل الكبائر إذا تابوا، كما قال القاضي عبد الجبار: المراد بالحديث السابق " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " أي إذا تابوا (1) فليس هناك دليل ولا تقييد بذلك لا في هذا الحديث ولا في غيره.
وهو مع أنه تأويل مخالف للنصوص الثابتة، فهو أيضا معنى فاسد؛ لأن الذي يتوب من الذنب لا يوصف به بعد ذلك، بل يبدل الله سيئاته حسنات فضلا منه وكرما.
وما دام أن التائب ذنبه مغفور له فلا يحتاج إلى شفاعة أحد، وإنما يحتاج إلى المغفرة أو الشفاعة من الذنب الذي مات ولم يتب منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحا ثبوت مغفرة الله تعالى للتائبين: " قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب، كما يقوله بعض من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما
__________
(1) شرح الأصول (690) .
(2) سورة النساء الآية 48(64/176)
دون الشرك يغفره الله أيضا للتائبين، فلا تعلق بالمشيئة؛ ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) . فمنها عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففي آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة " (2) .
وبالجملة، فمعتقد أهل السنة والجماعة في إثبات الشفاعة الذي تؤيده الأدلة في الكتاب والسنة، وعلى ذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، بل والإجماع منعقد عليه قبل ظهور المبتدعة، والعقل الصريح لا يحيل إثباتها
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) مجموع الفتاوى (11 \ 184، 185) .(64/177)
المطلب الثاني: القبوريون ومن وافقهم في المعتقد:
أولا: مذهبهم في الشفاعة: إذا كانت الخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم قد أنكر الشفاعة الثابتة في الكتاب والسنة وخصوصا الشفاعة في أهل الكبائر، كما تقدم في المطلب السابق؟ فإنه قد وجد من أثبت(64/177)
الشفاعة ولكن على غير الوجه الشرعي.
وغالب من يسلك هذا المنهج من يعرفون بالقبوريين، وهم الذين يتعلقون بالقبور وبأصحابها الأموات ويعظمونهم، ومن نحا نحوهم، موافقين في ذلك المشركين والنصارى، الذين نفى الله تعالى شفاعتهم في القرآن الكريم وأبطلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند بيان افتراق الناس في مسألة الشفاعة: " وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان ووسط، فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب، كالنصارى، ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن. . " (1) .
وقد أخبرنا الله تعالى عن المشركين الذين زعموا أن أصنامهم وتماثيلهم تشفع عند الله بقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) وقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3) .
ولقد تقدم لنا أن الشفاعة الثابتة في الآخرة لا بد لها من شروط، وهي إذن الله تعالى للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له، وأن الله لا يرضى إلا عن المؤمنين الموحدين،
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم المخالفة لأصحاب الجحيم (2 \ 821) وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص (235) .
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة يونس الآية 18(64/178)
فالأمر كله لله تبارك وتعالى، ولكن القبوريين وأشباههم خالفوا ذلك، فأثبتوا الشفاعة لأوليائهم الأموات، وطلبوها منهم في الحياة الدنيا، كما طلبها المشركون من أصنامهم، والنصارى من رهبانهم.
ومن الشبه التي استدل بها القبوريون اعتقادهم أن أولياءهم أو أصنامهم ونحوها ستشفع لهم عند الله حتما إذا استشفعوا بها، وقاسوا هذه على الشفاعات الدنيوية المعروفة بين الناس، وذلك من حيث لزوم الشفاعة وتحقق وقوعها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا ذلك: " المشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم، فيستشفعون بها ويقولون: هؤلاء خواص الله فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل الملوك بخواصهم، لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره، فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة ".
وقال العلامة ابن القيم مصورا كيفية حصول الشفاعة في نظر هؤلاء بعد عرضه زيارة الموحدين للقبور، ثم زيارة المشركين لها.(64/179)
قال رحمه الله تعالى: " وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد، وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه. فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكأنه صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله تعالى، قالوا: " فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه؟ صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه من نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان، من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه، وذمهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم " (1) .
ونرد على هذه الشبهة بأن نقول: إن الشفاعة عند الله ليست
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم (1 \ 219) .(64/180)
كالشفاعة عند البشر، فالشفاعة عند البشر قد تحصل بدون إذن المشفوع إليه، أو بدون رضاه عن المشفوع له لسبب من الأسباب، بخلاف الشفاعة عند الله تعالى: فلا تحصل إلا بعد إذنه عز وجل للشافع ورضاه عن المشفوع له، فليس حصول الشفاعة عند الله تعالى: أمر مطلق لازم، وإنما هو مقيد بشروط لا تتحقق عند هؤلاء، وأن الله سبحانه وتعالى: قد نفى الشفاعة الشركية التي يتعلق بها أولئك المشركون ومن وافقهم، وأبطل هذه الشفاعة في مواضع كثيرة من كتابه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1) . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (2) وقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ساق الآيات وأمثالها: " فهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين، حتى صوروا تماثيلهم وقالوا: استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا: نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله
__________
(1) سورة الأنعام الآية 51
(2) سورة الأنعام الآية 94
(3) سورة البقرة الآية 255(64/181)
ورسوله، وذم المشركين عليها وكفرهم بها " (1) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى موضحا وجه كون الشفاعة المنفية في القرآن الكريم هي الشفاعة الشركية: " الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه هو الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله: فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه " (2) .
أما ظنهم وزعمهم أن من يعظمون تحصل لهم الشفاعة عند الله تعالى فهو لا دليل عليه، بل هو مخالف للشرع والعقل. وعلى أي حال فإن شفعاءهم المزعومين إما أن تكون أصناما أو تماثيل لا نفع فيها ولا ضر، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (1 \ 151) .
(2) إغاثة اللهفان (1 \ 222) .
(3) سورة الفرقان الآية 55(64/182)
وقد يكون هؤلاء الشفعاء من الأموات، ولا ريب أن دعاء الأموات لم يشرع بل المشروع الزيارة الشرعية التي تتضمن الدعاء للأموات، لا دعاؤهم.
وقد يكون هؤلاء الشفعاء من الأحياء الذين لا يقبل الله شفاعتهم ولا يأذن لهم فيها ولا يرضى عنهم.
وإن كانوا ممن قد تقبل شفاعتهم فلا بد من إذن الله تعالى لهم في الشفاعة، كما لا بد من رضاه تعالى عن المشفوع لهم أيضا، كما سبق بيان ذلك في شروط الشفاعة، وأن الشفاعة لا تتحقق إلا بتحقق شروطها.(64/183)
المبحث التاسع: الشفاعة في أمور الدنيا: والمقصود بها: شفاعة إنسان لآخر عند السلطان أو صاحب الجاه أو المنصب؛ ليقضي له حاجته، وهي نوع من أنواع التعاون بين المسلمين ووسيلة من وسائل الألفة والمحبة إذا كان المشفوع إليه يملك التصرف فيما طلب منه على مقتضى الأسباب العادية، ومن يشفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر والثواب، كما أن من شفع بالباطل كان له نصيب من الوزر، قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} (1) . قال مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى: " نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض " (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 85
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور (2 \ 653) لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(64/183)
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: " قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع شفاعة لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله الكفل، والكفل الوزر والإثم، وقيل: الشفاعة الحسنة في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم " (1) .
ويقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) أي: يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) أي: يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته (4) .
ويؤجر الشافع على شفاعته، ولو لم تقض حاجة المشفوع له؛ لأن الشافع بذل ما يستطيعه، وسعى في طلب النفع لأخيه.
يدل على هذا حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء (5) » .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (5 \ 295) .
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة آل عمران الآية 85
(4) تفسير ابن كثير (1 \ 472) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة) باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (2 \ 18) ومسلم في صحيحه (كتاب البر والصلة والآداب) باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام (4 \ 2026) .(64/184)
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: " من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها وإن لم يشفع؛ ولأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1) ولم يقل: يشفع " (2) .
ومما سبق يتبين لنا أن الشفاعة في الدنيا على قسمين: قسم محمود ومشروع، هو الشفاعة في الأمور المباحة التي يترتب عليها جلب النفع للمسلم دون التعدي فيها على حق من الله عز وجل أو حقوق الناس.
وأما القسم الثاني: فهي الشفاعة التي يترتب عليها إسقاط حد من حدود الله عز وجل، أو ظلم لأحد من الناس، أو إبطال حق.
يقول النووي رحمه الله تعالى: " استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى أحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير، أو في تخليص عطاء لمحتاج، أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام " (3) .
يقول الشيخ أبو بكر الجزائري: " وجواز الاستشفاع مشروط
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2 \ 603) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (16 \ 177، 178) .(64/185)
بأن يكون في حق ضاع أو حق يخشى ضياعه، أو في شيء مباح ينتفع به، أما أن يكون في إثم بإسقاط حق من الحقوق أو تعطيل حد من الحدود فلا، وذلك لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع (2) » (3) .
وقد وردت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها «أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتشفع في حد من حدود الله!؟ " ثم قام
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ موقوفا (2 \ 835) عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فقال: فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به السلطان. فقال الزبير: إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع '' وأخرجه الدارقطني في مسنده (3 \ 205) بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال. '' شفع الزبير في سارق، فقيل: حتى يبلغه الإمام فقال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ''.
(3) عقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري ص (154) .(64/186)
فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1) » .
ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت " رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد في الله أمره. . . (2) » الحديث.
وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن الشفاعة لا تقبل في الحدود إذا بلغت الحاكم، يقول الإمام النووي رحمه الله عند ذكر الإمام مسلم لحديث عائشة السابق وغيره يقول: " ذكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل، وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام للأحاديث وعلى أنه يحرم التشفع فيه " (3) .
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " اختلف
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الحدود) باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (7 \ 16) والإمام مسلم في صحيحه (كتاب الحدود) باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود (3 \ 1315) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 \ 70) والحاكم في المستدرك (2 \ 27) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (11 \ 186) .(64/187)
العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته، وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف، فقال: لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام " (1) .
هذه الشفاعة في أمور الدنيا.
وأما الفرق بين الشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة فقد بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: (فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه، وإما لخوفه منه، فيحتاج إلى أن يقبل شفاعته، والله تعالى غني عن العالمين وهو وحده سبحانه يدبر العالمين، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي أذن للشفيع في الشفاعة وهو يقبل شفاعته كما يلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءه، فالأمر كله له، فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة ولا يقبل شفاعته " (2) .
كما بين الفرق بينهما الحافظ ابن القيم رحمه الله بقوله:
__________
(1) فتح الباري لابن حجر (12 \ 95) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2 \ 823) .(64/188)
" وسر الفرق بين الشفاعتين أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقا ولا إذنا، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله هي سعي في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان وإما بما يرغبه فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع به، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته، وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لديه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال لأمره وطاعة له. فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا(64/189)
بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر، ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله " (1) .
وأختم هذا المبحث بمسألة مهمة لها علاقة به وهي حكم الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فأقول مستعينا بالله عز وجل: إن طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا حال حياته من الأمور الجائزة بل هو من الأمور التي حث عليها هو صلى الله عليه وسلم؟ لأن فيها نفعا للمسلمين، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله عز وجل بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (2) وغيره من علماء السلف.
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1 \ 241، 242) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (1 \ 143- 147) .(64/190)
وأما طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته فهو من الأمور المحدثة المبنية على الهوى والابتداع، ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع أنهم أحرص الناس على فعل الخير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعا عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا من الأئمة الأربعة " (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا: " فليس لأحد أن يدعو شيخا ميتا أو غائبا، بل ولا يدعو ميتا ولا غائبا لا من الأنبياء ولا غيرهم، فلا يقول لأحدهم: يا سيدي فلان أنا في حسبك أو في جوارك، ولا يقول: بك أستغيث، أستجير، ولا يقول إذا عثر: يا فلان، ولا يقول: محمد، وعلي ولا الست نفيسة، ولا سيدي الشيخ أحمد، ولا الشيخ عدي، ولا الشيخ عبد القادر، ولا غير ذلك، ولا نحو ذلك مما فيه دعاء الميت والغائب ومسألته، والاستغاثة به، والاستنصار به، بل ذلك من أفعال المشركين وعبادات الضالين.
ومن المعلوم أن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ثبت في صحيح البخاري " أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس. وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا،
__________
(1) المصدر نفسه (1 \ 241) .(64/191)
فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا، فيسقون " (1) فكانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتوسلون بدعائه، وشفاعته لهم، كما يتوسل به الناس يوم القيامة، ويستشفعون به إلى ربهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يدعونه، ولا يستغيثون به، ولا يطلبون منه شيئا لا عند قبره ولا بعيدا من قبره، بل ولا يصلون عند قبره ولا قبر غيره، لكن يصلون ويسلمون عليه ويطيعون أمره ويتبعون شريعته، ويقومون بما أحبه الله تعالى من حق نفسه وحق رسوله وحق عباده المؤمنين (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الاستسقاء) باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا أقحطوا (1 \ 16) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11 \ 499) .(64/192)
عقيدة الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي
للدكتور: محمد بن عبد الرحمن الخميس
المبحث الأول: عقيدته في التوحيد: تكلم الشافعي رحمه الله تعالى كما تكلم غيره من الأئمة في إثبات توحيد الله تعالى بأنواعه وكذلك في توحيد الأسماء والصفات على ما ثبتت به النصوص الصحيحة الثابتة، وكذلك في إثبات العلو والكلام والاستواء وغيرها من الصفات الإلهية، كما في النصوص الآتية، فمنها: الحلف: (1) أخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان قال: " قال الشافعي: من حلف بالله أو باسم من أسمائه فحنث فعليه الكفارة، ومن حلف بشيء غير الله مثل أن يقول الرجل: والكعبة وأبي وكذا وكذا ما كان، فحنث فلا كفارة عليه، ومثل ذلك قوله: لعمري، لا كفارة عليه، ويمين بغير الله فهي مكروهة منهي عنها من قبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله(64/193)
أو ليسكت (1) » (2) .
أسماء الله غير مخلوقة: وعلل الشافعي لذلك بأن أسماء الله غير مخلوقة، فمن حلف باسم الله فحنث فعليه الكفارة.
التعليق على هذا النص: قلت: يدل هذا النص المبارك من هذا الإمام العظيم على مسائل مهمة في العقيدة: الأولى: أن الله تعالى له أسماء يجب الإيمان بها بلا تمثيل، وهذا رد على الجهمية الأولى.
الثانية: أن أسماء الله تعالى حسنى؛ لأنها تدل على صفات كمال، فلا يجوز تعطيلها، كما فعلت المعتزلة حيث آمنوا بها مجردة عن المعاني الحسنة التي هي صفات الله تعالى، أو كما فعل الماتريدية والأشعرية حيث عطلوا معاني بعض تلك الأسماء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الأيمان والنذور) ، باب لا تحلفوا بآبائكم 11 \ 530، ومسلم في كتاب (الأيمان) باب النهي عن الحلف بغير الله 3 \ 1266 ح1646.
(2) مناقب الشافعي 1 \ 405.(64/194)
لأجل تعطيلهم لبعض الصفات، كالعلي والرحيم والودود، لتعطيلهم العلو والرحمة، والمحبة.
الثالثة: أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة؛ لأنها من كلامه تعالى: وكلامه غير مخلوق، وهذا رد على الجهمية من المعتزلة والماتريدية والأشعرية جميعا؛ حيث قالوا ببدعة القول بخلق القرآن وبدعة القول بخلق أسماء الله تعالى، وكل هذا كفر عند سلف هذه الأمة وأئمة السنة.
الرابعة: جواز الحلف بالله تعالى وأسمائه وصفاته؛ لأن الله تعالى بأسمائه وصفاته غير مخلوق.
الخامسة: عدم جواز الحلف بغير الله تعالى؛ لأنه شرك وكفر كما في الحديث الصحيح.
هذا وقد بلي كثير من الناس في هذا الزمان في الحلف بغير تعالى، مع ورود النهي الشديد عنه، ومع أن جميع الأئمة قد حذروا من ذلك، ونهوا عنه إثباتا للنصوص الواردة في ذلك والتي تحذر من الحلف بغير الله.(64/195)
الإقرار بالشهادتين وصفات العلو والنزول والقرب: (2) وأورد ابن القيم في اجتماع الجيوش عن الشافعي أنه قال: " القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف(64/195)
شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء ".
التعليق على هذا النص المبارك: قلت: هذا النص المبارك من هذا الإمام العظيم يدل دلالة قاطعة على أمور ومسائل مهمة هي: الأولى: أن أول الواجب على المكلف الشهادتان: شهادة التوحيد وشهادة الرسالة، لا الشك ولا النظر العقلي والقصد إلى النظر كما يقوله أرباب الكلام من المعتزلة والماتريدية والأشعرية.
الثانية: إثبات علو الله تعالى على عرشه وفوقيته على عباده كما يدل عليه أنواع من البراهين القاطعة والحجج الساطعة من النقل والعقل والإجماع والفطرة. وهذا رد على الجهمية المعطلة من المعتزلة والماتريدية والأشعرية، المعطلين لعلو الله تعالى والمحرفين لنصوصه، والقائلين: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا قدامه، فهم أهل الجحود، وهذا كفر عند السلف.
الثالثة: نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا كيف يشاء، وهذا رد أيضا على هؤلاء المعطلة من المعتزلة والماتريدية والأشعرية فهم معطلون لصفة النزول ومحرفون لنصوصها.(64/196)
الرابعة: أن الله تعالى مع كونه فوق خلقه عاليا على عرشه قريبا من خلقه، فلا منافاة بين علوه على عرشه وقربه من خلقه.
الخامسة: أنه يستفاد من تلك العبارة للشافعي، أن كلمة " السنة " كانت تطلق عند السلف كثيرا ويراد منها مسائل العقيدة، التي هي مسائل أصول الدين.
السادسة: أنه يستفاد منها كذلك أن مصطلح "أهل الحديث" كان معروفا كذلك عندهم وأنه مرادف لقولنا الآن: "أهل السنة والجماعة". ولهذا يجب على الناس الحرص على إحياء هذا الاسم، وخصوصا طلبة العلم والباحثين ونحوهم.(64/197)
عدم التكلف والتعمق في البحث في أمور التوحيد التي لا يبلغها العقل: (3) وأورد الذهبي عن المزني قال: قلت: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي؛ فصرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فعلمت أن أحدا لا يعلم علمك فما الذي عندك؟ فغضب، ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت. لا، قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجما في السماء؟ قلت: لا، قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خلق؟ قلت: لا، قال:(64/197)
فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه؟ ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منه فقال. شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات. تدع علمه، وتتكلف علم الخالق إذا هجس في ضميرك ذلك؟ فارجع إلى قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) الآية. فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك (3) .
في هذه القصة فوائد مستنبطة منها: 1- أن كلمة التوحيد كانت معروفة ومستعملة عند السلف، وقد تقدم في الأثر السابق أن كلمة السنة كانت معروفة كذلك.
2 - أن الشافعي رحمه الله أرشد صاحبه المزني بالاستدلال بالمخلوق على الخالق، وهذه طريقة الشرع، كما قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (4) الآية.
3 - عدم التكلف والتعمق والبحث في الأمور التي لا يبلغها العقل، وهذه نصيحة عظيمة من الإمام الشافعي، لو أن المتكلمين قد عملوا بها ولم يتكلفوا علم الغيوب التي لم
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سير أعلام النبلاء 10 \ 31.
(4) سورة الأعراف الآية 185(64/198)
تبلغها عقولهم لكان خيرا لهم، ولما حصل منهم ذلك الضلال والاضطراب والحيرة والشك.
4 - على الإنسان طالب العلم أن يشتغل بما يفيده ويترتب عليه العمل، ولا ينشغل بالبحث عما لا طائل وراءه ولا فائدة ترجى منه.
5 - أنه يجب على المسلم الإيمان بجميع أسمائه تعالى وصفاته العلم بمعانيها بلا تمثيل ولا تعطيل، كما يجب عليه تفويض علم الكيفية إلى الله تعالى؛ لأنه من دائرة علم الغيب.(64/199)
بدعة القول بخلق أسماء الله الحسنى: (4) وأخرج ابن عبد البر عن يونس بن عبد الأعلى قال: " سمعت الشافعي يقول: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، أو الشيء غير الشيء فاشهد عليه بالزندقة " (1) .
التعليق على هذا النص المبارك: لقد رد الإمام الشافعي بنصه هذا على أصناف من المعطلة ومن يسير سيرهم من المعتزلة والماتريدية والأشعرية
__________
(1) الانتقاء ص 79، ومجموع الفتاوى 6 \ 187.(64/199)
وغيرهم من القائلين ببدعة القول بخلق القرآن وببدعة القول بخلق أسماء الله تعالى. وذلك أن من الجهمية من كانوا صرحاء في بدعتهم فكانوا يقولون ببدعة القول بخلق الأسماء الحسنى تبعا للقول ببدعة القول بخلق القرآن، ولكن من هؤلاء المعطلة من كانوا غير صرحاء في إظهار هذه البدعة؛ فكانوا يموهون على الناس بقولهم: " الاسم غير المسمى " وقصدهم بذلك التمهيد إلى بدعة القول بخلق أسماء الله تعالى، بحجة أن الاسم إذا كان غير مسمى فأسماء الله تعالى غير الله، وكل ما كان غير الله فهو مخلوق فأسماء الله تعالى مخلوقة؛ لأنها غير الله.
وقال آخرون من هؤلاء المعطلة أن الاسم عين المسمى، وقصدهم بهذا القول أن الاسم الأول وهو الله ذاته غير مخلوق أما هذه الألفاظ كالله والرحمن والرحيم فهي تسميات وهي مخلوقة، وهذا القول لا يقل ضلالا من القول الأول الصريح للجهمية؛ لأن في طيه قولا ببدعة خلق أسماء الله تعالى تبعا للقول بخلق القرآن.
ومن أئمة السنة من قال أيضا: "الاسم عين المسمى" وليس قصدهم أن أسماء الله مخلوقة ولكن قصدهم أنك إذا قلت: " يا الله " فليس المراد " لفظ الله " بل المراد " المسمى هو الله ذاته " ولكن لما كان قولهم هذا في الظاهر موافقا للجهمية أنكره سائر أئمة السنة، وقالوا: البحث في " أن الاسم غير المسمى " أو " أن الاسم هو المسمى " كل ذلك من حماقات المتكلمين وضلال الجهميين، وكفروا القائلين بخلق أسماء الله(64/200)
تعالى كما كفروا القائلين بخلق الله القرآن، وقالوا: الجواب الواضح أن يقال: " الاسم للمسمى " وحذروا عن القول بأن الاسم عين المسمى أو غير المسمى؛ لئلا يتطرق أحد إلى القول ببدعة خلق أسماء الله تعالى، فإن أسماء الله تعالى غير مخلوقة كما أن كلامه غير مخلوق؛ لأن أسماءه تعالى من كلامه سبحانه وتعالى.(64/201)
إثبات الصفات التي جاءت في القرآن: (5) وقال الشافعي في كتابه الرسالة: " والحمد لله. . . الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه " (1) .
(6) وأورد الذهبي في السير عن الشافعي أنه قال: نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن ووردت بها السنة وننفي التشبيه عنه كما نفي عن نفسه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) الآية.
والشافعي رحمه الله بذلك يسير على خطى من سبقوه من السلف الذين كان منهجهم في توحيد الأسماء والصفات إثبات ما ورد في الكتاب والسنة منها، مع تنزيه الله تعالى عن المشابهة كما
__________
(1) الرسالة ص7، 8.
(2) سورة الشورى الآية 11(64/201)
هو مقتضى نصوص الكتاب والسنة، وهذا كقول مالك إمام دار الهجرة: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب) (1) ، فتبين أن الحق في هذا الباب هو الإثبات بلا تمثيل، والتنزيه بلا تعطيل.
__________
(1) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 17، 18.(64/202)
إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة: (7) وأخرج ابن عبد البر عن الربيع بن سليمان قال. " سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1) أعلمنا بذلك أن ثم قوما غير محجوبين ينظرون إليه لا يضامون في رؤيته " (2) .
يرحم الله الإمام الشافعي، فما أدق هذا الاستنباط منه بهذه الآية على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، خلافا لمن أنكرها من المعتزلة والجهمية وغيرهم، واستنباطه هذا من أدلة أهل السنة على إثبات الرؤية يوم القيامة.
(8) وأخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان قال: " حضرت محمد بن إدريس الشافعي جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى. {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (3) قال الشافعي: فلما حجبوا هؤلاء في السخط، كان هذا دليلا على أنهم
__________
(1) سورة المطففين الآية 15
(2) الانتقاء ص 79.
(3) سورة المطففين الآية 15(64/202)
يرونه في الرضا، قال الربيع: قلت: يا أبا عبد الله، وبه تقول؟ قال: نعم، إثبات أن الله متكلم بكلام حقيقي وكلام الله غير مخلوق به أدين الله " (1) .
التعليق على هذا النص المهم:
لقد بين الإمام الشافعي في كلامه هذا عقيدة السلف في الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم بعيون رءوسهم في المحشر والجنة وهذا من أعظم نعم الله عليهم. ويرد الإمام الشافعي بقوله هذا على أصناف من الجهمية المعطلة كالمعتزلة حيث ينكرون رؤية المؤمنين ربهم بأبصارهم، كما يرد على الماتريدية والأشعرية حيث يزعمون أن المؤمنين يرون ربهم، ولكن لا فوق ولا تحت ولا خارج ولا داخل ولا في جهة، وإلى آخر هذيانهم الذي جعلوا به الرؤية من المستحيلات الممتنعات، فصار قولهم هذا من أبطل الباطل لوجهين: الأول: الإنكار للرؤية وإن اعترفوا بها ظاهرا.
الثاني: إنكار العلو لله تعالى وهذا من أعظم الكفر وأقبح الإلحاد في صفات الله تعالى.
(9) وأخرج ابن عبد البر عن الجارودي قال: ذكر عند
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2 \ 506.(64/203)
الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن علية، فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول لا إله إلا الله لست أقول كما يقول، أنا أقول. لا إله إلا الله الذي كلم موسى عليه السلام تكليما من وراء حجاب، وذلك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب (1) .
التعليق على هذا النص المبارك:
رحمة الله على هذا الإمام فقد أثلج قلوب أهل السنة وأرغم أنوف أهل البدع بهذا الكلام المتين العريق وهو يتضمن مسألتين من أهم مسائل الاعتقاد:
الأولى: أن الله تكلم بكلام حقيقي مسموع فقد كلم موسى عليه الصلاة والسلام تكليما حقيقيا بحيث سمعه موسى عليه السلام؛ وأن كلام الله تعالى غير مخلوق وهذا رد على أصناف من المعطلة الجهمية كالمعتزلة والماتريدية والأشعرية الذين يقولون: إن الله تعالى لم يكلم موسى بكلام حقيقي مسموع وإنما خلق صوتا في الشجرة فسمعه عليه السلام، وهذا من أعظم الكفر وأشنع الإلحاد في صفات الله تعالى.
__________
(1) الانتقاء ص79، والقصة ذكرها الحافظ عن مناقب الشافعي للبيهقي، واللسان 1 \ 35.(64/204)
الثانية: مسألة الولاء لأهل السنة، والبراء من أهل البدع فقد صرح الإمام بأنه مخالف لابن علية المبتدع الجهمي في كل شيء حتى في قوله: " لا إله إلا الله " لأنه يقول: لا إله إلا الذي خلق كلاما فسمعه موسى، ولم يسمع كلام الله الحقيقي، وأما أهل السنة فيقولون: لا إله إلا الله الذي كلم موسى تكليما.(64/205)
حكم من قال بخلق القرآن:
(10) وأخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان، قال الشافعي: " من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر " (1) .
التعليق:
يستفاد من كلامه رحمه الله، القول بتكفير من يقول بخلق القرآن وهو مذهب السلف، غير أن التكفير بالعين ينبغي أن يسبقه إقامة الحجة على القائل بهذا الكلام؛ لكي يكون التكفير بعد البينة، ولكي لا يكون لأحد عذر أو حجة.
(11) وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبيري قال: " قال رجل للشافعي: أخبرني عن القرآن خالق هو؟ قال الشافعي: اللهم لا. أقول فمخلوق؟ قال الشافعي: اللهم لا. قال: فغير مخلوق؟ قال الشافعي: اللهم نعم. قال: فما الدليل على أنه غير مخلوق؟ فرفع الشافعي رأسه وقال: تقر بأن القرآن كلام
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1 \ 252.(64/205)
الله؟ قال: نعم. قال الشافعي: سبقت في هذه الكلمة، قال الله تعالى ذكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) الآية، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) ، وقال: قال الشافعي: فتقر بأن الله كان وكان كلامه؟ أو كان الله ولم يكن كلامه؟ فقال الرجل بل كان الله وكان كلامه. قال: فتبسم الشافعي، وقال: يا كوفيون إنكم لتأتوني بعظيم من القول. إذا كنتم تقرون بأن الله كان قبل القبل وكان كلامه فمن أين لكم الكلام؟ إن الكلام الله، أو سوى الله، أو غير الله، أو دون الله؟ قال: فسكت الرجل وخرج " (3) .
التعليق:
يتضح من كلام الشافعي رحمه الله تعالى، استدلاله بالقرآن على أن هذا القرآن كلام الله تعالى، وهو أصرح دليل على ذلك إضافة إلى غيره، وكذلك يذهب رحمه الله إلى أن كلام الله تعالى صفة أزلية قديمة، كذلك ينتقد رحمه الله تخبط أهل البدع من الجهمية ومن تبعهم كالمعتزلة والماتريدية والأشعرية وإبطال قولهم بخلق القرآن وابتداعهم لبدعة الكلام النفسي وزعمهم أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأن كلام الله ليس بمسموع، وغيرها من العقائد البدعية.
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) سورة النساء الآية 164
(3) مناقب الشافعي 1 \ 407، 408.(64/206)
إثبات أسماء الله وصفاته: (12) وفي جزء الاعتقاد المنسوب للشافعي من رواية أبي طالب العشاري - ما نصه قال: وقد سئل عن صفات الله عز وجل وما ينبغي أن يؤمن به، فقال: " لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع (1) أحدا من خلق الله عز وجل قامت لديه (2) الحجة إن القرآن نزل به وصح عنده (3) قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عنه العدل خلافه (4) فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه، فهو كافر بالله (5) عز وجل، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر، فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا
__________
(1) في الطبقات (لا يسمع) .
(2) في الطبقات: (عليه) .
(3) في الطبقات: (عنه بقوله) .
(4) في الطبقات. (سقطت كلمة خلافه) .
(5) في الطبقات. (فهو بالله كافر) .(64/207)
بالدراية (1) والفكر ونحو ذلك. أخبر الله عز وجل أنه سميع وأن له يدين بقوله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) الآية. وأن له يمينا بقوله عز وجل: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) الآية. وأن له وجها بقوله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (4) الآية. وقوله. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (5) . وأن له قدما بقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى يضع الرب عز وجل فيهما قدمه (6) » يعني جهنم. وأنه يضحك؛ لقوله صلى الله عليه وسم للذي قتل في سبيل الله عز وجل أنه: «لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه (7) » وأنه يهبط كل ليلة إلى السماء الدنيا، بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه ليس بأعور؛ لقول
__________
(1) في الطبقات: (ولا بالرواية) .
(2) سورة المائدة الآية 64
(3) سورة الزمر الآية 67
(4) سورة القصص الآية 88
(5) سورة الرحمن الآية 27
(6) أخرجه البخاري (كتاب التفسير) باب: '' وتقول هل من مزيد '' 8 \ 594 ح 4848، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها) باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4 \ 2187 ح2848 كلاهما من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
(7) أخرجه البخاري (كتاب الجهاد) باب الكافر يقتل المسلم (6 \ 39) ح (2826) ، ومسلم (كتاب الإمارة) باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة (3 \ 1504) ح (1890) كلاهما من طريق الأعرج عن أبي هريرة.(64/208)
النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الدجال فقال: «إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور (1) » . وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيامة بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وأن له أصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من قلب إلا هو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل (2) » .
وإن (3) هذه المعاني التي وصف الله عز وجل بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يدرك (4) حقه (5) ذلك بالفكر والدراية (6) ولا يفكر بجهلها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه، وإن (7) كان الوارد بذلك خبرا يقوم في الفهم مقام المشاهدة في
__________
(1) أخرجه البخاري (كتاب الفتن) باب ذكر الدجال (13 \ 91) ح (7131) ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة) باب ذكر الدجال وصفته (4 \ 2248) ح (2933) كلاهما من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
(2) أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد في المسند (4 \ 182) ، وابن ماجه في المقدمة باب: فيما أنكرت الجهمية (1 \ 72) ح (199) والحاكم في المستدرك (1 \ 525) ، والآجري فتن الشريعة ص 317 وابن منده في الرد على الجهمية ص 87، جميعهم من حديث النواس بن سمعان قال الحاكم. ''صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه''، وأقره الذهبي في التلخيص، وقال عنه ابن منده: ''حديث النواس بن سمعان حديث ثابت رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم''.
(3) في الطبقات. (فإن) .
(4) في الطبقات: (مما لا يدرك) .
(5) في الطبقات. (حقيقته) ولعل الصواب (خلفه) .
(6) في الطبقات. (والروية) .
(7) في الطبقات: (فإن كان) .(64/209)
السماع [وجبت الدينونة] (1) على سامعه بحقيقته والشهادة عليه كما عاين وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن نثبت (2) هذه الصفات وننفي (3) التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) (5) آخر الاعتقاد.
التعليق: يستفاد من هذا الاعتقاد مسائل، منها: 1- أن الشافعي يرى عدم التكفير، إلا بعد قيام الحجة على الشخص وتبليغ الجاهل.
2 - أنه رحمه الله، يثبت الأسماء والصفات على ما ثبتت في الكتاب والسنة، دون تشبيه أو تكييف.
3 - أنه رحمه الله يثبت لله تعالى صفة الوجه واليدين والضحك والقدم والإصبع وغير ذلك مما ورد به النص الصحيح.
الخلاصة: 1- يثبت الشافعي -رحمه الله- جميع ما ثبت من الصفات
__________
(1) ما بين القوسين مثبت من الطبقات.
(2) في الطبقات: (يثبت) .
(3) في الطبقات: (وينفي) .
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) نقلت هذا الاعتقاد من نسخة مصورة من أصل خطي محفوظ في المكتبة المركزية بجامعة ليدن بهولندا.(64/210)
الإلهية من غير تشبيه.
2 - يثبت رحمه الله أن القرآن غير مخلوق وأنه كلام الله على الحقيقة ومن قال غير ذلك فقد كفر.
3 - يثبت -رحمه الله تعالى- اسم السنة لمسائل أصول الدين، كما يثبت اسم أهل الحديث لأصحاب السنة.
4 - يثبت -رحمه الله- مسألة الرؤية بمقتضى أدلة الكتاب والسنة.
5 - كان -رحمه الله- يرى عدم جواز تكلف علم ما لم يبلغه العقل.(64/211)
عقيدته في القدر: لم يفت الشافعي -رحمه الله- أن يبين عقيدته في القدر الإلهي شأنه شأن غيره من أئمة السلف، فتكلم في إثبات قدر الله تعالى بجميع مراتبه التي وردت بها النصوص وذلك كفعل باقي الأئمة، فأثبت علم الله تعالى السابق ومشيئته وإرادته وخلقه، وتكلم عن أفعال العباد كما سترى.
(1) أخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان، قال. " سئل الشافعي عن القدر فقال:
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن(64/211)
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
(1) (2) أورد البيهقي في مناقب الشافعي أن الشافعي قال: إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى ولا يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلق من خلق الله تعالى، وأفعال للعباد. وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل، وإن عذاب القبر حق، ومساءلة أهل القبور حق، والبعث حق، والحساب حق، والجنة والنار حق، وغير ذلك مما جاءت به السنن " (2) .
من هو القدري؟ (3) وأخرج اللالكائي عن المزني قال: " قال الشافعي: تدري من القدري؟ الذي يقول: إن الله لم يخلق الشيء حتى عمل به ".
قال المزني والشافعي بكفره (3) .
(4) وأورد البيهقي عن الشافعي حيث قال. " القدرية الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم مجوس هذه
__________
(1) مناقب الشافعي 1 \ 412و 413، شرح اعتقاد أهل السنة 2 \ 702.
(2) مناقب الشافعي 1 \ 415.
(3) اعتقاد أهل السنة والجماعة 2 \ 701.(64/212)
الأمة (1) » . الذين يقولون: "إن الله لا يعلم المعاصي حتى "تكون " (2) .
حكم الصلاة خلف القدري: (5) وأخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي أنه يكره الصلاة خلف القدري (3) .
التعليق: وكل هذه النصوص السابقة من الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه يقول بما قال به السلف رحمهم الله تعالى من إثبات مراتب القدر، وإثبات المشيئة والخلق لله تعالى، وإثبات العلم السابق وأن أفعال العباد كلها مخلوقة، فهو رحمه الله على مذهب السلف في ذلك، وكذلك بيانه رحمه الله للقدرية المقصودين في الحديث، بأنهم الذين ينكرون العلم الإلهي السابق، ويظهر لك أنه رحمه الله تعالى لم يكن يحب الصلاة خلف القدرية.
الخلاصة: إن الشافعي -رحمه الله - مثل باقي علماء السلف في إثبات
__________
(1) أخرجه أبو داود (كتاب السنة) باب في القدر 5 \ 66 ح 4601، والحاكم في المستدرك 1 \ 85، وكلاهما من طريق أبي حازم عن ابن عمر، قال الحاكم: '' هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع ابن أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه '' وأقره الذهبي.
(2) مناقب الشافعي 1 \ 413.
(3) مناقب الشافعي 1 \ 413.(64/213)
قدر الله تعالى بجميع مراتبه، وإثبات العلم السابق والكتابة والمشيئة الشاملة والخلق لجميع الكائنات، وأفعال العباد كلها مخلوقة وهو لا يرى الصلاة خلف القدرية.(64/214)
عقيدته في الإيمان: جرى الإمام الشافعي -رحمه الله - على ما سبقه عليه غيره من علماء السلف وأئمتهم في إثبات أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وجعلوا ذلك من أصولهم التي يذكرونها ويجيبون بها أهل البدع، فمن ذلك: الإيمان قول وعمل واعتقاد القلب:
(1) ما أخرج ابن عبد البر عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: " الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب، ألا ترى قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس فسمى الصلاة إيمانا وهي قول وعمل وعقد " (2) .
الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص:
(2) وأخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان قال: " سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص " (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) الانتقاء ص 81.
(3) مناقب الشافعي 1 \ 387.(64/214)
(3) وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبيري قال: " قال رجل للشافعي: أي الأعمال عند الله أفضل؟ قال الشافعي: ما لا يقبل عملا إلا به قال: وما ذاك؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة وأسناها حظا. قال الرجل: ألا تخبرني عن الإيمان: قول وعمل، أو قول بلا عمل؟ قال الشافعي. الإيمان عمل لله والقول بعض ذلك. قال الرجل: صف لي ذلك حتى أفهمه. قال الشافعي: للإيمان حالات ودرجات وطبقات فمنها التام المنتهي تمامه، والناقص البين نقصانه، والراجح الزائد رجحانه. قال الرجل: وإن الإيمان لا يتم وينقص ويزيد؟ قال الشافعي: نعم. قال: وما الدليل على ذلك؟ قال الشافعي: إن الله جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسمه فيها، وفرقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى ".
فمنها: قلبه الذي يعقل به، ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره.
ومنها: عيناه اللتان ينظر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه.
فرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.(64/215)
فأما فرض الله على القلب من الإيمان، فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله، نبي أو كتاب فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على القلب وهو عمله: قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (1) الآية. وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) وقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) الآية. وقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (4) الآية. فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو رأس الإيمان.
وفرض (الله) على اللسان: القول والتعبير عن القلب بما عقد وأقر به، فقال في ذلك: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (5) الآية. وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (6) الآية. فذلك ما فرض الله على اللسان من القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
وفرض الله على (السمع) : أن يتنزه عن الاستماع إلى ما
__________
(1) سورة النحل الآية 106
(2) سورة الرعد الآية 28
(3) سورة المائدة الآية 41
(4) سورة البقرة الآية 284
(5) سورة البقرة الآية 136
(6) سورة البقرة الآية 83(64/216)
حرم الله، وأن يغض عما نهى الله عنه، فقال في ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) ، ثم استثنى موضع النسيان، فقال جل وعز: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} (2) أي: فقعدت معهم: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3) ، وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} (4) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (6) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (7) إلى قوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (8) . وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (9) الآية. وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (10) فذلك ما فرض الله جل ذكره، على السمع من التنزيه عما لا يحل له، وهو عمله، وهو من الإيمان.
وفرض على العينين: ألا ينظر بهما إلى ما حرم الله، وأن يغضهما عما نهاه عنه، فقال تبارك وتعالى في ذلك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (11) الآية: أن ينظر أحدهم إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه.
__________
(1) سورة النساء الآية 140
(2) سورة الأنعام الآية 68
(3) سورة الأنعام الآية 68
(4) سورة الزمر الآية 17
(5) سورة الزمر الآية 18
(6) سورة المؤمنون الآية 1
(7) سورة المؤمنون الآية 2
(8) سورة المؤمنون الآية 4
(9) سورة القصص الآية 55
(10) سورة الفرقان الآية 72
(11) سورة النور الآية 30(64/217)
وقال: كل شيء من حفظ الفرج، في كتاب الله، فهو من الزنا إلا هذه الآية، فإنها من النظر.
فذلك ما فرض الله على العينين من غض البصر، وهو عملها، وهو من الإيمان.
ثم أخبر عما فرض على القلب والسمع والبصر، في آية واحدة، فقال سبحانه وتعالى، في ذلك: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) ، قال: يعني وفرض على الفرج: أن لا يهتكه بما حرم الله عليه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) وقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (3) الآية. يعني بالجلود: الفروج والأفخاذ، فذلك ما فرض الله على الفروج من حفظها عما لا يحل له، وهو عملها.
وفرض على اليدين: ألا يبطش بهما إلى ما حرم الله تعالى، وأن يبطش بهما إلى أمر الله من الصدقة وصلة الرحم، والجهاد في سبيل الله، والطهور للصلوات، فقال في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (4) إلى آخره الآية. وقال: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (5)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة المؤمنون الآية 5
(3) سورة فصلت الآية 22
(4) سورة المائدة الآية 6
(5) سورة محمد الآية 4(64/218)
لأن الضرب، والحرب، وصلة الرحم، والصدقة من علاجها.
وفرض على الرجلين: ألا يمشي بهما إلى ما حرم الله جل ذكره، فقال في ذلك: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (1) .
وفرض على الوجه: السجود لله بالليل والنهار، ومواقيت الصلاة، فقال في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ، وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) ، يعني بالمساجد: ما يسجد عليه ابن آدم في صلاته، من الجبهة وغيرها.
قال: فذلك ما فرض الله على هذه الجوارح.
وسمى الطهور والصلوات إيمانا في كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه صلى الله عليه وسلم، من الصلاة إلى المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة، وكان المسلمون قد صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت صلاتنا التي كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وحالنا؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 37
(2) سورة الحج الآية 77
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة البقرة الآية 143(64/219)
فسمى الصلاة إيمانا، فمن لقي الله حافظا لصلواته، حافظا لجوارحه، مؤديا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها لقي الله مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء منها تاركا متعمدا مما أمر الله به، لقي الله ناقص الإيمان. قال: وقد عرفت نقصانه وإتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟ قال الشافعي: قال الله جل ذكره: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (1) {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (2) وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (3) . قال الشافعي: ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة لم يكن لأحد فيه فضل، واستوى الناس، وبطل التفضيل. ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله في " الجنة " وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار.
قال الشافعي: إن الله جل وعز، سابق بين عباده، كما سوبق بين الخيل يوم الرهان. ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه، فجعل كل امرئ على درجة سبقه، لا ينقصه فيها حقه،
__________
(1) سورة التوبة الآية 124
(2) سورة التوبة الآية 125
(3) سورة الكهف الآية 13(64/220)
ولا يقدم مسبوق على سابق، ولا مفضول على فاضل. وبذلك فضل أول هذه الأمة على آخرها. ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه للحق آخر هذه الأمة بأولها (1) .
التعليق:
رحم الله الشافعي على هذا الكلام النفيس، الذي يفصل فيه القول لإثبات دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وكذلك إثباته أن الإيمان قول وعمل، واستدلاله بدلالات الكتاب والسنة، وكذلك بإثباته لزيادة الإيمان ونقصانه، كما هو اعتقاد السلف رحمهم الله تعالى، وكذلك تفاضل المؤمنين في الدرجات، فهو بهذا على اعتقاد السلف رحمهم الله تعالى، بل هو من كبار أئمة السلف وشيوخهم فرضي الله عنه وأرضاه.
الخلاصة:
1- الإيمان عند الشافعي رحمه الله تعالى قول وعمل، ويزيد وينقص كما هو مقتضى النصوص في الباب.
2 - المؤمنون يتفاضلون في الثواب والمنزلة على حسب استكمالهم لأمور الإيمان.
__________
(1) مناقب الشافعي، 1 \ 387 - 393.(64/221)
عقيدته في الصحابة: إن حرص أهل العلم على إدراج مسألة الصحابة في أصولهم إنما ظهرت بعد أن أظهر أهل البدع الباطلة القول بعدم إمامة أبي(64/221)
بكر وعمر، والطعن في الصحابة، وانتقاصهم، والقدح فيهم فمن هنا حرص الأئمة على بيان عقيدتهم في شأن الصحابة، ومن هؤلاء الشافعي رحمه الله تعالى.
الصحابة لهم من الفضل ما ليس لأحد من بعدهم: (1) أورد البيهقي عن الشافعي أنه قال: " أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، فهم أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا، وعزما وإرشادا وعرفوا سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم " (1) .
التعليق على هذا النص المبارك: لقد بين لنا الإمام الشافعي رفيع منزلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دينا وعلما وعملا واجتهادا وفهما للنصوص وأنهم يقدمون ويفضلون على جميع الأمة على الإطلاق ومن أهم ما يتضمنه هذا النص:
__________
(1) مناقب الشافعي 1 \ 442.(64/222)
هو أن فهم الصحابة للنصوص واجتهادهم أولى من فهمنا واجتهادنا؛ ويستنبط من هذه القاعدة أنه لا بد لأهل السنة أن يعملوا بالسنة ولكن بفهم سلف أهل السنة وهم الصحابة، وهذه قاعدة عظيمة النفع في باب الاعتقاد وباب الفقه وأصوله، فإن كثيرا من أهل البدع انحرفوا عن السنة؛ لأنهم فهموا السنة بفهمهم هم لا بفهم الصحابة وسلف الأمة رضي الله عنهم، وبسبب الفهم الخاطئ وعدم الأخذ بفهم السلف وقعت الجهمية والمعتزلة والماتريدية والخوارج والمرجئة والصوفية والقبورية وغيرهم من الفرق المبتدعة في أنواع من العقائد الفاسدة التي تناقض التوحيد.
التفاضل بين الصحابة: (2) وأخرج البيهقي للربيع قال: " سمعت الشافعي يقول في التفضيل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي " (1) .
(3) وأخرج البيهقي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: " سمعت الشافعي يقول: أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، رضي
__________
(1) مناقب الشافعي 1 \ 432.(64/223)
الله عنهم " (1) حكم الصلاة خلف الرافضي والقدري والمرجئ:
(4) وأخرج الهروي عن يوسف بن يحيى البويطي قال: " سألت الشافعي أأصلي خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ، قلت: صفهم لنا، قال: من قال: الإيمان قول فهو مرجئ، ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري " (2) .
التعليق: يرحم الله الشافعي على هذه النصوص القيمة، والتي يظهر فيها فضل الصحابة رضي الله عنهم، وسابقتهم في الإسلام، ومبلغ ورعهم وعمق علمهم وكذلك إثباته لإمامة الشيخين الجليلين، أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكذلك تفضيله لأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعا، على ما هو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في هذا الباب، وكذلك يبدو من النص الأخير نهيه رحمه الله عن الصلاة خلف الرافضة الذين ينتقصون الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فرضي الله عنه وأرضاه.
__________
(1) مناقب الشافعي 1 \ 433.
(2) ذم الكلام (ق- 213) وأورده الذهبي في السير 10 \ 31.(64/224)
الخلاصة: 1- يعتقد الشافعي أن الصحابة هم أفضل الأمة وأن انتقاصهم طعن في الدين.
2 - يفاضل الشافعي بين الصحابة فيفضل الأربعة الخلفاء على حسب ترتيبهم في الخلافة.
3 - نهى رحمه الله عن الصلاة خلف من ينتقص الصحابة، وغيره من أهل البدع.(64/225)
نهيه عن الابتداع والخصومات في الدين: إن الشافعي رحمه الله، كغيره من علماء السلف الذين كرهوا علم الكلام وذموه وذموا المشتغلين به، بل إنه رحمه الله كان يرى وجوب معاقبة المتكلمين والتشهير بهم والتحذير منهم، رأى أن كتبهم لا تعد من كتب العلم، وأن ما اشتغلوا به ليس علما على الإطلاق؛ من هنا كان يعتبر أن الكلام خطيئة، وأنه من الكبائر، وذلك ثابت عنه كما سيأتي.(64/225)
التحذير من كتب أهل الكلام:
(1) أخرج الهروي عن الربيع بن سليمان قال: " سمعت الشافعي يقول: " لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر، وكان فيها كتب الكلام، لم تدخل في الوصية؛ لأنه ليس من العلم " (1) .
__________
(1) ذم الكلام (ق- 213) وأورده الذهبي في السير 10 \ 30.(64/225)
التعليق:
يدل هذا النص العظيم على الحمية القوية من الإمام الشافعي على العقيدة السلفية والتبري من أهل البدع على أصنافهم وأن أهل الكلام ليسوا من أهل العلم؛ ويستنبط من هذا النص: أنه لو أوصى أحد من أهل العلم بكتبه من العلم لآخر لم تدخل فيه كتب الكلام -إن كانت- لأنها ليست بكتب علم.(64/226)
مناظرة أهل الكلام وتأليف الكتب في الرد عليهم:
(2) وأخرج الهروي عن الحسن الزعفراني قال: " سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحدا في الكلام إلا مرة وأنا أستغفر الله من ذلك " (1) .
التعليق:
يدل هذا النص على الإعراض في محادثة أهل الكلام لئلا يتعلق بالمرء شبهة من شبهاتهم، ولكن إذا كان لا بد من مناظرتهم لأجل ضرورة شرعية يجوز مناظرتهم لأجل ضرورة شرعية يجوز مناظرتهم وإسكاتهم وقمعهم وإزالة شبهاتهم بنصوص الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة.
(3) وأخرج الهروي عن الربيع بن سليمان قال: " قال الشافعي: لو أردت أن أضع على كل مخالف كتابا كبيرا لفعلت، ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء " (2) .
__________
(1) ذم الكلام (ق 213) وأورده الذهبي في السير 10 \ 30.
(2) ذم الكلام (ق - 215) .(64/226)
التعليق:
كانت طريقة السلف أن لا يهتموا كثيرا بتأليف الكتب في الرد على أهل البدع خوفا من انتشار بدعهم، ولكن لما كثرت البدع وانتشرت وأحسوا ضرورة الرد عليهم فكثرت مؤلفات السلف في الرد على أصناف من الجهمية والقدرية والمرجئة والرافضة والخوارج وغيرهم من أهل البدع، ورأوا أن الرد على أهل البدع من أعظم الجهاد في سبيل الله ومن أجل العبادة لله تعالى.
ومن شك في هذه الحقيقة فليتدبر عقائد المعتزلة وأفراخهم والماتريدية وغيرهم وما فيها من تعطيل وإرجاء وتحريف لنصوص الصفات وإنكار لعلو الله تعالى، وقول بخلق القرآن وابتداع للكلام النفسي، واستخفاف بنصوص الوحي وتقديم عقولهم السخيفة عليها، إلى غيرها من الضلال.
الخلاصة:
1 - كان الشافعي رحمه الله تعالى، ينهى عن الاشتغال بعلم الكلام وكان يذم أهله وينهى عن كلامهم.
2 - كان الشافعي حريصا على ألا ينسب إلى الكلام بأي شكل من الأشكال.
3 - يرى رحمه الله أن كتب أهل الكلام ليست من كتب العلم في شيء.(64/227)
نهيه عن الشرك ووسائله:
أولا: وسائل الشرك:
إن الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، كان من أكثر الناس حرصا على حماية جناب التوحيد، والتحذير من وسائل الشرك، وأشدهم نهيا عنها، وكذلك أتباعه، وقد وردت عنهم في ذلك نصوص كثيرة منها:
جاء عن الإمام الشافعي وأتباعه: النهي عن ما هو من وسائل الشرك كتجصيص القبور وتعليتها (1) والبناء عليها والكتابة عليها، وإسراجها، واتخاذها
__________
(1) ولمعرفة موقف الشافعية انظر: روضة الطالبين 1 \ 652، والزواجر 1 \ 195.(64/228)
مساجد والصلاة إليها، واستقبالها للدعاء (1) والطواف بها والقعود عليها، وتقبيلها ومسحها باليد، وأن يضرب
__________
(1) تقدم ذكر الدليل في الفقرة السابقة لمعرفة موقف الشافعية، راجع المجموع 8 \ 257.(64/229)
عليها مظلة (1) أو أن يقول: والله وحياتك (2) أو يقول: ما شاء الله وشئت.
كراهية الشافعي البناء على القبر وتجصيصه وأن يكتب عليه:
قال الشافعي: " وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه ".
واستعماله رحمه الله للفظ الكراهة إنما يقصد به التحريم كما هو مقتضى النصوص الشرعية، وليس المقصود بكلامه الكراهة باصطلاح الفقهاء المتأخرين.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: " يكره أن يجصص القبر وأن يكتب عليه اسم صاحبه، أو غير ذلك، وأن يبنى عليه " (3) .
__________
(1) تقدم ذكر الدليل في الفقرات السابقة. ولمعرفة موقف الشافعية، انظر: المجموع 5 \ 266.
(2) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ''من حلف بغير الله فقد أشرك ''. انظر. تفسير ابن كثير 1 \ 101.
(3) المجموع 5 \ 266.(64/230)
وقال أيضا: " ورأيت من الولاة من يهدم ما بني فيها، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك ولأن في ذلك تضييقا على الناس " (1) .
كراهية الشافعي أن يجعل القبر مسجدا:
قال الشافعي: " وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس " (2) .
وقال النووي: " ويكره تجصيص القبر والبناء والكتابة، ولو بنى في مقبرة مسبلة هدم " (3) .
وقال ابن حجر المكي الهيثمي: " الكبيرة (4) الثالثة والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها. . . ثم قال: تنبيه: هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية. كأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث ووجه أخذ القبر مسجدا منها واضح؛ لأنه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- لعن من فعل ذلك، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: «يحذر ما صنعوا (5) » أي
__________
(1) المجموع 5 \ 266.
(2) المهذب 1 \ 456.
(3) السراج الوهاج 1 \ 114.
(4) الأولى أن يقال: '' الكبائر ''.
(5) البخاري 7 \ 747 ح 4443 في المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم 1 \ 377، ح 531 في المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور من حديث عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس مرفوعا.(64/231)
يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا، واتخاذ القبر مسجدا، معناه الصلاة عليه أو إليه، وحينئذ فقوله: والصلاة إليه مكرر إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر معظما من نبي أو ولي كما أشارت إليه الرواية: «إن كان فيهم الرجل الصالح (1) » . . . ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء. . . ومثلها مثل: الصلاة عليه، والتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة، ظاهر من الأحاديث المذكورة، وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم للقبر: كإيقاد السرج عليه تعظيما له، وتبركا به، والطواف به كذلك، وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في الحديث المذكور آنفا بلعن من اتخذ على القبر سرجا، وأما اتخاذها أوثانا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري وثنا يعبد بعدي (2) » أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم، بالسجود له أو بنحوه، إلى أن
__________
(1) مسلم 1 \ 375، 376 ح 528 في المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
(2) أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد 2 \ 226 من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، ومالك مرسلا 1 \ 172 ح 85، وعبد الرزاق في المصنف مرسلا 8 \ 464 من طريق صفوان بن سليم عن سعيد بن أبي سعيد المهري.(64/232)
قال: فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناءها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل وسراج على القبر ولا يصح وقفه ونذره " (1) .
حكم الطواف بالقبر وتقبيله ومسحه باليد:
قال النووي: " ولا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويكره لصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله أبو عبد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد منه، كما يبعد منه من حضره في حياته صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثير من العوام وفعلهم، كذلك فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محادثات العوام وجهالاتهم وغيره. . . ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وكيف يبتغى الفضل في مخالفة
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 \ 195.(64/233)
الصواب " (1) .
وكلام النووي رحمه الله تعالى، فيه دليل على أن أكثر ما يفعله الجهال من العوام في زماننا هو من المحدثات المخالفة للشرع الحنيف، والتي لا ينبغي ولا يجوز التعويل عليها أو الاحتجاج بها، ولا بركة فيها لمخالفتها لشرع الله تعالى.
حكم وضع مظلة على القبر
قال البغوي: " يكره أن يضرب على القبر مظلة؛ لأن عمر رضي الله عنه رأى مظلة على قبر فأمر برفعها وقال: دعوه يظله عمله " (2) .
وجاء في المنهاج وشرحه لابن حجر ما ملخصه:
" ويكره تجصيص القبر والبناء عليه. . . والكتابة عليه، للنهي الصحيح عن الثلاثة، سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره، نعم بحث الأذرعي حرمة كتابة القرآن للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرار الدفن، ووقع المطر. وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين، لا سيما بقبور الأنبياء والصالحين. . . قال: ليس العمل عليه الآن، فإن أئمة المسلمين من المشرق للمغرب مكتوب على قبورهم، فهو عمل قد أخذ به الخلف عن السلف، ويرد بمنعه هذه الكلية، وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها
__________
(1) المجموع 8 \ 257، 258.
(2) المجموع 5 \ 266.(64/234)
في المقابر المسبلة كما هو مشاهد، لا سيما بالحرمين ومصر ونحوهما، وقد علموا بالنهي عنه، فكذا هي، فإن قلت: هو إجماع فعل، وهو حجة كما صرحوا به قلت: ممنوع بل هو أكثري إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه، وبفرض كونه إجماعا فعليا فعمل حجيته- كما هو ظاهر- عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطل ذلك منذ أزمنة، ولو بني نفس القبر لغير حاجة مما مر- كما هو ظاهر- إلى أن قال: وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة (1) مصر من البناء حتى قبة إمامنا الشافعي رضي الله عنه، التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك، ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام " (2) .
ولتنظر أيها القارئ إلى مبلغ احتياط هؤلاء العلماء في حماية جانب التوحيد، حتى أفتى جمع منهم بهدم القبة التي على قبر الشافعي رحمه الله وهو من كبار أئمة أهل السنة، فكيف بمن دونه في العلم والفضل، حتى لقد بنيت قباب على قبور أناس غير معروفي الأصل، وليسوا من أهل العلم والفضل، كما حدث عند السيد البدوي، وغيره ممن لهم قباب معروفة مشهورة.
وقال البيضاوي - كما في حاشية السيوطي على سنن النسائي: " لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم،
__________
(1) هي المكان الذي يقبر فيه.
(2) كما في العقد الثمين ص 186.(64/335)
ويتوجهون إليها تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة والدعاء نحوها، واتخذوها أوثانا، لعنهم الله، ومنع المسلمين من مثل ذلك. وأصل الشرك إنما حدث من تعظيم القبر والتوجه إليه " (1) .
وقال السويدي الشافعي: " فتراهم يرفعونها فوق كل رفيع، ويكتبون عليها الآيات القرآنية ويعملون لها التوابيت من خشب الصندل والعاج، ويضعون فوقها ستور الحرير المحلاة بالذهب العقيان والفضة الخالصة، ولم يرضهم ذلك حتى أداروا عليها شبابيك من الفضة وغيره، وعلقوا عليها قناديل الذهب، وبنوا عليها قبابا من الذهب، أو الزجاج المنقوش، وزخرفوا أبوابها، وجعلوا لها الأقفال من الفضة وغيرها خوفا عليها من اللصوص، كل ذلك مخالف لدين الرسل، وعين المحادة لله ورسوله، فإن كانوا متبعين فلينظروا إليه، صلى الله عليه وسلم، كيف كان يفعل بأصحابه الذين هم أفضل الأصحاب، وينظروا إلى قبره الشريف وما عملت الصحابة فيه " (2) .
وقال النووي: " إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا، خوفا من المبالغة في تعظيمهم والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
__________
(1) حاشية سنن النسائي 2 \ 42.
(2) العقد الثمين ص185.(64/236)
والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهر في المسجد ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يمكن أحد من استقبال القبر " (1) .
وجاء في الباعث في إنكار البدع والحوادث: ص 103: " فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البراء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها ".
شبهة وجوابها:
لقد استدل القبورية على جواز بناء المساجد على القبور، بقصة أصحاب الكهف، حيث اتخذ قومهم لهم مسجدا. وأجاب عن هذه الشبهة الحافظ ابن كثير بجوابين:
الأول: أن هذا عمل الكفار والمشركين فليس بحجة.
والثاني: على فرض أن هذا عمل المسلمين ولكنهم غير محمودين في هذا العمل (2) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم 5 \ 13، 14.
(2) انظر: تفسير ابن كثير 3 \ 78.(64/237)
ومن كل ما سبق يتبين مدى حرص أئمة الشافعية كغيرهم من باقي علماء المذاهب الأخرى، على حماية التوحيد مما يخدش، وكذلك حرصهم على إبعاد كل مظاهر الشرك وإغلاق أبوابها، فحرموا كل ما يؤدي إليه من تعظيم القبور بأي شكل كان، والحلف بغير الله ونحو ذلك، فالعجب ممن ينتسب إلى الشافعي من أدعياء العلم أو غيرهم، ثم يفعل مثل هذه المنكرات ويدعو إليها ويزينها للناس يبيحها، فما أجرأ هؤلاء على مخالفة النصوص، وعلى مخالفة الأئمة الكبار رحمهم الله تعالى.
الخلاصة:
1 - كان الشافعي رحمه الله، هو وأتباعه من أشد الناس نهيا عن الوسائل المؤدية إلى الشرك.
2 - ثبت فهم النصوص الكثيرة في التحذير من الغلو في المقبورين بأي صورة من الصور.
3 - ثبت كذلك نهيهم الشديد عن الحلف بغير الله تعالى.(64/238)
ثانيا: نماذج من الشرك التي حذر منها الإمام الشافعي وبعض أتباعه:
لقد اهتم الإمام الشافعي رحمه الله، وأتباعه ببيان صور الشرك في الربوبية والألوهية، وغيرها، وحذروا منها أشد التحذير، كما ثبت في المبحث السابق، وكما سيتبين كذلك في هذا المبحث إن شاء الله تعالى، مما يوضح تحذيرهم من الشرك(64/238)
الأكبر والأصغر فأقول:
جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وبعض أتباعه النهي عن أنواع من الشرك الأكبر والأصغر: كالدعاء والاستغاثة بغير الله، والسجود(64/239)
لغير الله، والركوع لغير الله، والنذر لغير الله، والذبح لغير الله، أو اعتقاد أن أحدا يعلم(64/240)
الغيب، والحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، واعتقاد أن السحر له تأثير بذاته.(64/241)
الحلف بغير الله:
قال الشافعي: " ومن حلف بشيء غير الله جل وعز، مثل(64/241)
أن يقول الرجل: والكعبة، وأبي، وكذا وكذا ما كان، فحنث فلا كفارة عليه، ومثل ذلك قوله: لعمري لا كفارة عليه، وكل يمين بغير الله فهي مكروهة منهي عنها من قبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت (1) » .
أخبرنا ابن عيينة، قال: حدثنا الزهري قال: حدثنا سالم عن أبيه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يحلف بأبيه فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم (2) » . قال عمر رضي الله عنه: والله ما حلفت بها بعد ذلك.
حكم الحلف بغير الله:
قال الشافعي رحمه الله: فكل من حلف بغير الله كرهت له، وخشيت أن تكون يمينه معصية (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري 11 \ 530 ح6646 في الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم في الأيمان 3 \ 1266 باب النهي عن الحلف بغير الله، والنسائي 4 \ 7 في الأيمان باب الحلف بالآباء، وأبو داود 3 \ 569 / 3249، في الأيمان باب في كراهية الحلف.
(2) أخرجه أبو داود 3 \ 570 ح 3250، في الأيمان باب في كراهية الحلف بالآباء، والنسائي في كتاب الأيمان باب الحلف بالآباء 7 \ 4 ح 2766، وابن ماجه في الكفارات 1 \ 667 ح 2094 من رواية سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه.
(3) كتاب الأم 7 \ 61.(64/242)
الذبح لغير الله
قال ابن حجر الهيثمي المكي: " الكبيرة السابعة والستون بعد المائة: الذبح باسم غير الله على وجه لا يكفر به، بأن لا يقصد تعظيم المذبوح له، كنحو التعظيم بالعبادة والسجود إلى أن قال: وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول: باسم الله واسم محمد، أو محمد رسول الله، بجر اسم الثاني، أو محمد إن عرف النحو فيما يظهر، أو يذبح كتابي لكنيسة أو لصليب، أو لموسى أو لعيسى، ومسلم لكعبة أو لمحمد صلى الله عليه وسلم أو تقرب للسلطان أو غيره أو للجن فهذا كله يحرم المذبوح وهي كبيرة (1) .
أقول: في كلامه هذا نظر، فكيف يكون الذبح على غير اسم الله، ولا يكون معه تعظيم للمذبوح له، وهذا الكلام قريب من كلام المتكلمين، فالشرك عند أهل الكلام لا بد أن يكون مقصودا به تعظيم هذا المعبود من دون الله، وأما صرف العبادة له دون تعظيم فهذا لا يسمى شركا عندهم، وهذا الكلام فيه نوع تناقض.
__________
(1) الزواجر 10 \ 284، 285.(64/243)
النذر للمشاهد التي على القبور:
قال الرافعي في شرح المنهاج: " وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد(64/243)
في تلك البقعة من الأولياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك وهو الغالب أو الواقع قصود العامة- تعظيم البقعة أو المشهد أو الزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بني على اسم، فهذا النذر باطل. غير منعقد؛ فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات ويرون أنها مما يدفع بها البلاء، ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليه عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض أو قدوم غائب، أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازات، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا، ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركا وتعظيما؛ ظانا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم سواء انتفع به هناك منتفع أم لا " (1) .
وقال النووي: " إذا نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، وهي: المسجد الحرام، والمدينة، والأقصى؛ لم يلزمه ولا ينعقد نذره عندنا " (2) .
__________
(1) فتح المجيد ص 213.
(2) المجموع 8 \ 471.(64/244)
وقال ابن حجر المكي في شرح المنهاج:
" لا يقول باسم الله واسم محمد " قال ابن حجر: يحرم ذلك للتشريك؛ لأن من حق الله تعالى أن يجعل الذبح باسمه فقط كما في اليمين باسمه.
وقال أحمد بن حجر آل بوطامي الشافعي:
" أي لا ينذروا لغير الله، ولا يطوفوا بغير البيت العتيق، فلا يجوز النذر للأولياء ولا للصالحين ولا الطواف بقبورهم، كما يفعله الجاهلون بقبر الجيلاني، والحسين، والبدوي، والدسوقي، وغيرهم، فإن هذا شرك لا مراء فيه، وكثير من المبتدعين الجاهلين ينذر للصالحين، وبعضهم يرسل أموالا. . . للسدنة ولتعمير القباب، كما يفعل ذلك الكثير من الهنود والباكستانيين لعبد القادر الجيلاني أموالا طائلة، وإرسالهم إلى ضريحه أموالا وافرة، هذا ممن زعم أنه من أهل السنة، وأما شيعة الهنود والباكستانيين والإيرانيين فإنهم ينذرون أموالا لقبور أهل البيت في النجف وكربلاء وخراسان وقم، ويشدون الرحال من مختلف الأقطار إلى تلك القبور للطواف بها، والاستغاثة بساكنيها وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات، مما لا يقدر عليه إلا خالق الأرض والسماوات، وكذلك لا يجوز النذر لقبور الأولياء والصالحين، فكذا لا يجوز الوقف من بيوت وعقار على قبورهم، فمن نذر لغير الله فلا يجب عليه الوفاء، بل يستغفر الله، ويتوب إليه، ويأتي بالشهادتين؛ لأنه مرتد إن علم أن النذر لغير الله(64/245)
شرك، ومن وقف عقارا أو حيوانا على قبور الأولياء فوقفه باطل، أو وصى لها فوصيته باطلة، وذلك العقار أو الحيوان لا زال ملك صاحبه، نسأل الله لنا ولهم التوفيق. وقول بعضهم: إن النذر لله والثواب للولي كلام باطل وضلال عاطل فأي شيء أدخل الولي هنا؟! إن كان قصده الصدقة فليتصدق على الفقراء عن نفسه، وعن أبويه، وأقاربه، وما يدريه بأن صاحب هذا القبر ولي والأمور بخواتيمها فقد يكون ظاهره صديقا، وباطنه زنديقا، ويظهر كذبهم وضلالهم أنهم يأخذون الأغنام ويذبحونها عند القبر، فإذا أنكرت عليهم قالوا: الذبح لله والثواب للولي، وليس القصد من هذا إلا تلبيس وقلب الحقائق، وهم لا يقصدون إلا الولي، على أن العلماء قد صرحوا أن لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله؟ للحديث عن ثابت بن الضحاك قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء للنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم. . . (1) » . (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود كتاب الأيمان والنذور باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر 7 \ 603 ح 3313، والبيهقي في السنن 10 \ 83، والطبراني في الكبير ح 1341 من حديث ثابت بن الضحاك، وصححه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 4 \ 180.
(2) تطهير الجنان ص 31، 32.(64/246)
الجواب عن شبهات القبورية:
وقد أجاب أحمد بن حجر آل بوطامي الشافعي عن شبهات القبورية، وهي:
الأولى: قول بعض الجاهلين: إن هؤلاء يعني القبوريين - يقرون بالخالق، ويعتقدون بشرائع الإسلام وبيوم الجزاء، وغاية ما هنالك أنهم يتوسلون بهؤلاء الصالحين، ولا يرضون بلقب الشرك، بل ينفرون منه، فكيف يمكن أن يقال: بأنهم مشركون؟
الثانية: أن المشركين كان كفرهم من أجل إنكارهم للربوبية، لا من حيث صرف العبادة لغير الله، مستدلين بقوله تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (1) الآية. وبقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (2) الآية.
أجاب بما يأتي:
الجواب عن الشبهة الأولى: قال: فالجواب عن تسميتهم مشركين، أن الكفر والشرك شعب وأنواع كما أن الإيمان له شعب، فإذا ما أتى بكثير من شعب الإيمان وأتى معه بشيء من شعب الشرك، فيقال له: مثلا لو صلى وصام واعتقد بالرسالة والقيامة واتصف بالزهد ومكارم الأخلاق، لكنه اعتقد في
__________
(1) سورة الفرقان الآية 60
(2) سورة الرعد الآية 30(64/247)
كوكب بأن له تأثيرا، أو أن بيده نفعا أو ضرا أو اعتقد في ملك أو رسول ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله فنسميه مشركا، وإن أتى بتلك الأعمال الصالحة، وإلا فما معنى كتاب الردة، ولا يلزم أن يحكم على أحد بكفر أو شرك، إلا إذا أتى بجميع خصاله وأنواعه، وتوسلهم لاعتقادهم بأنهم مذنبون وهؤلاء أقرب عند الله؛ فيوسطونهم بينهم وبين الإله، هذا هو شرك العرب بعينه. . وأما تشهدهم بالشهادتين، فهو منتقض بأعمالهم المنافية لهما. كالحدث بعد الوضوء، وإقرارهم بالخالق لا يفيد؛ لأن المشركين كانوا مقرين بالربوبية ولم يدخلهم في الإسلام.
وأما قول من يقول: بأن مشركي العرب كانوا منكرين للبعث.
فالجواب: أن هذا الاعتقاد من جملة المكفرات، والرسول صلى الله عليه وسلم كفرهم وأباح دماءهم لأمور كثيرة، أعظمها عبادتهم للأوثان، ومنها إنكارهم للبعث، ولا يقبل من الإنسان أن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، بل واجب عليه أن يذعن معتقدا بكل ما أتى به القرآن، وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويعمل بهما، فمن آمن ببعض ولم يؤمن بالبعض الآخر فهو كافر، كما قال الله تعالى مخبرا عنهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) ولا ينفعهم مجرد النطق بكلمة الشهادتين حتى يعمل بمقتضاها من البراءة مما يعبد
__________
(1) سورة النساء الآية 150(64/248)
من دون الله، وصرف جميع العبادات كائنة ما كانت إلى الله
ولكن هل يحكم على الشخص المعين أو الطائفة المخصوصة المتلوثة بتلك الخصال المنافية للتوحيد بالشرك والكفر؟ مع أنها مؤمنة بالله والرسول، وآتية بسائر الشرائع؟
الجواب: يقال هذا العمل شرك وكفر، مثلا كالسجود للولي، والطواف بقبره أو النذر له، ولكن الشخص المعين أو الطائفة المخصوصة لا نبادرها بالتكفير، بل الواجب تبليغها بآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المبينة للشرك والمحذرة عنه، وأن ليس لصاحبه نصيب من الجنة، وأن هذه الأعمال هي شرك فإذا أصر الشخص المعين أو الطائفة المخصوصة وعاندت ولم تقبل، فعند ذلك يحل عليها إطلاق الشرك، أو عليه إن كان فردا معينا، وليكن الشخص ذا تفرقة بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر، كالرياء فإنه شرك أصغر، والسجود والنذر لغير الله شرك أكبر.
فإن قيل: يلزم من كلامهم تكفير الأكثرية من الأمة المحمدية حيث إنهم يعملون ما تقولون بأنه شرك مثل النذر للأولياء والنحر لهم:
فالجواب:
أولا: إن القول بالعموم مغاير للقول بالخصوص.
ثانيا: غلبة الجهل، وقلة العلم بالتوحيد والسنة المطهرة، ومعرفة الشرك وأقسامه ذرائع في كثير من الأماكن والبلدان هو(64/249)
المانع من الحكم بالشرك على المعين، إلا من بلغته النصوص وقامت عليه الحجة، ثم أصر معاندا فذاك يحكم عليه بالشرك (1) .
الجواب عن الشبهة الثانية:
أن الآية الأولى: فيها استفهام عن الرحمن والاستفهام عن الشيء لا يكون جحدا له، على أننا إذا قلنا استفهام إنكاري فإنه إنكار للتسمية بالرحمن لا غير، كما يوضحه كتابه صلح الحديبية.
والآية الثانية: فيها الكفر بالرحمن والكفر بالشيء لا يكون إنكارا له، تقول لمن فعل فعلا كفريا: كفر فلان، وهذا لا يدل على أنه منكر للرب، على أنه معارض بالآيات المنبئة عن اعترافهم بالربوبية (2) .
ومن هنا يتبين لنا مدى تحذير علماء الشافعية من الشرك وعاقبته الوخيمة في الدنيا والآخرة. وبيان ما يوقعه في المسلمين من الخسارة والخذلان، ويتضح لنا أنهم من أكثر الناس كلاما في هذا الباب، وأنهم رحمهم الله تعالى، ساروا على ما سار عليه السلف من الحرص على حماية التوحيد، والقضاء على كل مظاهر الشرك، فرضي الله عنهم جميعا.
الخلاصة:
1 - النصوص المنقولة عن الشافعي، رحمه الله، هو وأتباعه فيها
__________
(1) العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية ص 37 - 40.
(2) العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية ص 44.(64/250)
بيان صور الشرك الأكبر والأصغر والتحذير منها.
2 - وردت عنهم نصوص تحذر من دعاء غير الله واستعانته والحلف به، وتعظيمه والاعتقاد في السحر وغير ذلك.
3 - يرى الشافعي وأتباعه أن النذر في معصية باطل لا يجب الوفاء به، وأن ما ذبح على اسم غير الله لا يجوز أكله، سواء ذكر الله معه أم لا.(64/251)
صفحة فارغة(64/252)
الرأي السديد فيما إذا وافق يوم الجمعة العيد
للشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
- مقدمة:
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. أما بعد:
ففي عام 1420 هـ وافق يوم عيد الفطر يوم جمعة، وقد تكرر مثل ذلك في أعوام سابقة، فكثر الكلام حول أداء الجمعة على من شهد العيد، حتى تجرأ بعض الخطباء فأسقط صلاة الجمعة أو الظهر عن المصلين، واستثنى بعضهم الإمام فقط، وحملهم على ذلك ما قرءوه في كتب العلماء الحنابلة المتداولة. فكان ذلك مما حملني على أن أبحث المسألة في المذاهب الأخرى لأتحقق من أسباب الإسقاط والخلاف، واقتضى الحال أن أذكر ما يترجح لي وما أختاره من الأدلة والتعليلات، وذلك أن الكثير من الخطباء والأئمة في ذلك العام تجرءوا فرخصوا في ترك صلاة الجمعة للقريب والبعيد وبدون عذر، واستثنى بعضهم إمام الجامع وحده، فتقبل العامة هذه الرخصة، وتركوا صلاة الجمعة رغم قربهم من المساجد، وسماعهم للأذانين وللخطبة، ولقراءة الإمام وتكبيراته وصلاته التي تقع بجوار منازلهم، بحيث خليت الجوامع إلا من عدد قليل، وترك كثير من الناس صلاة الجمعة،(64/253)
بل وصلاة الظهر، أو أخروها عن وقتها، وأبدلها الكثير باللهو واللعب، والغناء والطرب، وضرب الطبول وآلات الملاهي، والعكوف على سماع أشرطة الأغاني، وتقليب الأحداق نظرا إلى الصور الفاتنة، والأفلام الخليعة، فصدق عليهم قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (1) ، أي صفير وتصفيقا، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله العفو والغفران.
مخطط هذا البحث الوجيز:
أبتدئ أولا: بالنقل عن الأئمة وأهل المذاهب ما كتبوه حول هذه المسألة، وأذكر ثانيا: ما حضرني من الأدلة في ذلك ووجه دلالتها، ثم أذكر ثالثا: ما ترجح لي مع بيان وجه الترجيح، والجواب عن أدلة الآخرين، وأشير إلى الفرق الكبير بين حالة الأولين وحالة أهل هذا الزمان.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 35(64/254)
مذهب الحنفية في ذلك:
يظهر من مذهبهم عدم سقوط الجمعة، ويرون لزومها لكل مكلف حر ذكر مقيم، قال في الدر المختار وحاشيته: فلو اجتمعا - أي الجمعة والعيد لم يلزم إلا صلاة أحدهما، وقيل: الأولى صلاة الجمعة، وقيل: صلاة العيد. . . . . قلت: قد راجعت التمرتاشي فرأيته حكاه عن مذهب الغير، وبصورة التمريض فتنبه. أهـ. قال ابن عابدين في الحاشية: قوله: عن مذاهب الغير، أي مذهب غيرنا، أما مذهبنا فلزوم كل منهما. قال في الهداية ناقلا عن(64/254)
الجامع الصغير: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فالأول سنة، والثاني فريضة، ولا يترك واحد منهما اهـ. قال في المعراج: احترز به عن قول عطاء: تجزئ صلاة العيد عن الجمعة، ومثله علي وابن الزبير. قال ابن عبد البر: سقوط الجمعة بالعيد مهجور وعن علي أن ذلك في أهل البادية، ومن لا تجب عليهم الجمعة (1) اهـ.
ونقل الكاساني في البدائع عن صاحب الجامع الصغير أنه قال في العيدين اجتمعا في يوم واحد فالأول سنة (2) اهـ. يقرر أن العيد سنة، وصلاة الجمعة فرض، فلا تسقط، وقد روى الطحاوي في المشكل حديث زيد بن أرقم في الترخيص في الجمعة، ثم حمله على الرخصة لمن هم في خارج المصر كأهل العوالي، فإنهم لا جمعة عليهم، واستدل بما أسنده عن علي رضي الله عنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر من الأمصار. وذكر أن هذا لا مجال للرأي فيه، فلا بد أن يكون توقيفا، وقاس رجوعهم على إباحة السفر يوم الجمعة (3) .
وقد ظهر من كلام الحنفية أن الجمعة لا تسقط يوم عيد الفطر أو عيد الأضحى؛ لأن العيد سنة، والجمعة فرض واجب الإتيان لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (4)
__________
(1) رد المحتار 2 \ 166.
(2) بدائع الصنائع 1 \ 275.
(3) انظر. مشكل الآثار للطحاوي 2 \ 52.
(4) سورة الجمعة الآية 9(64/255)
فالأمر بالسعي إليها لكل من سمع النداء واجب، فلا يسقط في الظاهر يوم العيد كغيره.
وهكذا يرى ابن حزم عدم سقوط الجمعة حيث قال:
مسألة: وإذا اجتمع عيد في يوم جمعة صلى للعيد ثم للجمعة، ولا بد، ولا يصح أثر بخلاف ذلك؛ لأن في رواته إسرائيل وعبد الحميد بن جعفر، وليسا بالقويين، ولا مؤنة على خصومنا من الاحتجاج بهما إذا وافق ما روياه تقليدهما، وهنا خالفا روايتهما. فأما رواية إسرائيل فإنه روى عن عثمان بن المغيرة، عن إياس بن أبي رملة: سمعت معاوية سأل زيد بن أرقم: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين؟ قال: نعم، صلى العيد أول النهار، ثم رخص في الجمعة.
وروى عبد الحميد بن جعفر: حدثني وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال، ثم نزل فصلى ركعتين ولم يصل للناس يومئذ الجمعة، فقال ابن عباس: أصاب السنة. قال أبو محمد: الجمعة فرض والعيد تطوع، والتطوع لا يسقط الفرض (1) . اهـ.
__________
(1) المحلى رقم المسألة 547.(64/256)
مذهب المالكية في ذلك:
قال الخرشي على قول خليل: لا عرس، ولا عمى، ولا(64/256)
شهود عيد: أي لا حق للزوجة في إقامة زوجها عندها، بحيث يبيح ذلك تخلفه عن الجمعة والجماعة. . . أو عمى: يريد أن العمى لا يكون عذرا يبيح التخلف عن حضور الجمعة، وهذا إذا كان ممن يهتدي إلى الجامع. . . أو شهود عيد: يعني أنه إذا وافق العيد يوم جمعة فلا يباح لمن شهد العيد داخل البلد أو خارجه التخلف عن الجمعة والجماعة، وإن أذن له الإمام في التخلف على المشهور، إذ ليس حقا له (1) اهـ.
قال العدوي في الحاشية: بل مراده: كان بيته داخل البلد أو خارجه. قوله: وإن أذن الإمام في التخلف. أي فلم ينفعهم، إذنه لهم في التخلف، ومقابله ما رواه ابن حبيب من أن له أن يأذن، وأنهم ينتفعون، وظاهر الشارح أن الخلاف جار سواء كان في البلد أو خارجه، ثم ذكر أن عبارة مصطفى الجزائري المغربي: أو شهود عيد فطر أو أضحى إذا وافق يومها لا يباح التخلف عنها، ولو أذن الإمام في التخلف، وسواء كان مسكن من شهد العيد داخل المصر أو خارجه، خلافا لأحمد وعطاء في الأول. ولمطرف وابن الماجشون، وابن وهب في الثاني، أي لما في رجوع أهل القرى الخارجة عن المدينة من المشقة، على ما بهم من شغل العيد، وبه يعلم أن الخلاف عندنا إنما هو في الخارج عن المصر أي وكان على ثلاثة أميال أو داخلها كما أفاده بعض الشيوخ، فإذا قول الشارح: على المشهور. يفيد أن
__________
(1) شرح الخرشي على مختصر خليل 2 \ 92.(64/257)
الخلاف داخل البلد، وقد علمت أنه في داخله وخارجه (1) .
وفي المدونة قلت: ما قول مالك إذا اجتمع الأضحى والجمعة، أو الفطر والجمعة، فصلى رجل من أهل الحضر العيد مع الإمام، ثم أراد أن لا يشهد الجمعة هل يضع عنه شهوده صلاة العيد ما وجب عليه من إتيان الجمعة؛ قال: لا. وكان مالك يقول: لا يضيع ذلك عنه ما وجب عليه من إتيان الجمعة. قال مالك: ولم يبلغني أن أحدا أذن لأهل العوالي إلا عثمان. ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان، وكان يرى أن من وجبت عليه الجمعة لا يضعها عنه إذن الإمام، وإن شهد مع الإمام قبل ذلك من يومه ذلك عيدا، وبلغني ذلك عن مالك (2) . اهـ.
وقد توسع في المسألة ابن عبد البر في التمهيد لما ذكر مالك عن الزهري، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما، يوم فطركم من صيامكم، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم. قال أبو عبيد: ثم شهدت العيد مع عثمان بن عفان فجاء فصلى، ثم انصرف فخطب فقال: إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له. . إلخ (3) .
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الخرشي 2 \ 92.
(2) انظر. المدونة لمالك 1 \ 142.
(3) رواه مالك في الموطأ 1 \ 178.(64/258)
وقد أطال ابن عبد البر في شرحه إلى أن قال: وأما إذن عثمان لأهل العوالي، وقوله: قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان. يعني الجمعة والعيد. . . إلخ فقد اختلف العلماء في تأويل قول عثمان هذا، واختلفت الآثار في ذلك أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في تأويلها والأخذ بها.
فذهب عطاء بن أبي رباح إلى أن شهود العيد يوم الجمعة يجزئ عن الجمعة إذا صلى بعدها ركعتين على طريق الجمع، وروي عنه أيضا أنه يجزيه وإن لم يصل غير صلاة العيد ولا صلاة بعد صلاة العيد حتى العصر، وحكى ذلك عن ابن الزبير، وهذا القول مهجور؛ لأن الله عز وجل افترض صلاة العيد في يوم الجمعة على كل من في الأمصار من البالغين الذكور الأحرار، فمن لم يكن بهذه الصفات ففرضه الظهر في وقتها فرضا مطلقا، لم يختص به يوم عيد من غيره.
وقول عطاء هذا ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال عطاء بن أبي رباح: إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما وليصلهما ركعتين فقط، حين يصلي صلاة الفطر، ثم هي هي حتى العصر، ثم أخبرنا عند ذلك قال: اجتمعا يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد في زمن ابن الزبير، فقال ابن الزبير: عيدان اجتمعا في يوم واحد. فجمعهما جميعا، جعلهما واحدا، فصلى يوم الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، لم يزد عليهما حتى صلى العصر. قال: فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه، قال: ولقد(64/259)
أنكرت أنا ذلك عليه، وصليت الظهر يومئذ، حتى بلغنا بعد أن العيدين كانا إذا اجتمعا صليا كذلك واحدا. وذكر عن محمد بن علي بن الحسين أنه أخبرهم أنهما كانا يجمعان إذا اجتمعا، ورأى أنه وجده في كتاب لعلي زعم؛ قال: وأخبرني ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير في جمع ابن الزبير بينهما يوم جمع بينهما، قال: سمعنا في ذلك أن ابن عباس قال: أصاب، عيدان اجتمعا في يوم واحد (1) .
ثم قال ابن عبد البر: ليس في حديث ابن الزبير أنه صلى مع صلاة العيد ركعتين للجمعة، وأي الأمرين كان فإن ذلك أمر متروك مهجور، وإن كان لم يصل مع صلاة العيد غيرها حتى العصر فإن الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول؛ لأن الفرضين إذا اجتمعا في فرض واحد لم يسقط أحدهما بالآخر، فكيف أن يسقط فرض لسنة حضرت في يومه؟! هذا ما لا يشك في فساده ذو فهم، وإن كان صلى مع صلاة الفطر ركعتين للجمعة فقد صلى الجمعة في غير وقتها عند أكثر الناس.
وذهب الجمهور إلى أن وقت الجمعة وقت الظهر، وعلى هذا فقهاء الأمصار.
وأما القول الأول أن الجمعة تسقط بالعيد، ولا تصلى ظهرا ولا جمعة، فقول بين الفساد، وظاهر الخطأ متروك مهجور لا يعرج عليه؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (2)
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف 3 \ 303 برقم 5725.
(2) سورة الجمعة الآية 9(64/260)
ولم يخص يوم عيد من غيره.
وأما الآثار المرفوعة في ذلك فليس فيها بيان سقوط الجمعة والظهر، ولكن فيها الرخصة في التخلف عن شهود الجمعة، وهذا محمول عند أهل العلم على وجهين: (أحدهما) أن تسقط الجمعة عن أهل المصر وغيرهم ويصلون ظهرا (والآخر) أن الرخصة إنما وردت في ذلك لأهل البادية، ومن لا تجب عليه الجمعة.
وسنذكر اختلاف الناس في ذلك، وفيمن تجب عليه الجمعة في هذا الباب إن شاء الله تعالى، ثم ساق بإسناده إلى بقية: حدثنا شعبة، حدثني المغيرة البصري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأته الجمعة، وإنا مجمعون إن شاء الله (1) » .
قال أبو عمر: احتج من ذهب مذهب عطاء بهذا الحديث؛ لما فيه من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتم أجزأكم، فمن شاء أجزأته» وهذا الحديث لم يروه فيما علمت عن شعبة أحد من ثقات أصحابه، وإنما رواه عنه بقية بن الوليد، وليس بشيء في شعبة أصلا، وروايته عن أهل بلده أهل الشام فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعفون بقية عن الشاميين وغيرهم، وله مناكير،
__________
(1) رواه أبو داود برقم 1073 من طريق بقية به.(64/261)
وهو ضعيف، ليس ممن يحتج به.
وقد رواه الثوري عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح مرسلا، قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنا مجمعون، فمن شاء منكم أن يجمع فليجمع، ومن شاء أن يرجع فليرجع (1) » فاقتصر في هذا الحديث على ذكر إباحة الرجوع، ولم يذكر الإجزاء.
ثم ذكره بإسناده إلى زياد بن عبد الله البكائي، قال: حدثنا عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، ويوم جمعة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في العيد: «هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، عيدكم هذا والجمعة، وإني مجمع إذا رجعت، فمن أحب منكم أن يشهد الجمعة فليشهدها. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بالناس (2) » .
قال: فقد بان من هذه الرواية ورواية الثوري لهذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ذلك اليوم بالناس، وفي ذلك دليل على أن فرض الجمعة والظهر لازم، وأنها غير ساقطة، وأن الرخصة إنما أريد بها من لم تجب عليه الجمعة ممن شهد العيد من أهل البوادي، والله أعلم.
__________
(1) رواه عبد الرزاق مرسلا برقم 5728.
(2) أسنده ابن عبد البر، ورواه الطحاوي في المشكل 2 \ 54 من طريق البكائي.(64/262)
وهذا تأويل تعضده الأصول، وتقوم عليه الدلائل، ومن خالفه فلا دليل معه ولا حجة له.
فإن احتج محتج بما حدثناه ثم ساق الإسناد إلى عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فصلى العيد ولم يخرج إلى الجمعة، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أماط عن سنة نبيه. فذكرت ذلك لابن الزبير فقال: هكذا صنع بنا عمر (1) . قيل له: هذا حديث اضطرب في إسناده، فرواه يحيى القطان، قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني وهب بن كيسان، قال: اجتمع على عهد ابن الزبير عيدان، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصلى ركعتين، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة، فذكر ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة.
ذكره أحمد بن شعيب النسوي، عن سوار، عن القطان، عن عبد الحميد بن جعفر، لم يقل عن أبيه عن وهب بن كيسان، وذكر أن ذلك حين تعالى النهار، وأنه أطال الخطبة، وقد يحتمل أن يكون صلى تلك الصلاة في أول الزوال، وسقطت صلاة العيد، واستجزى بما صلى في ذلك الوقت.
وفي رواية الأعمش عن عطاء، عن ابن الزبير، أن الناس جمعوا في ذلك اليوم، ولم يخرج إليهم ابن الزبير، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك فقال: أصاب السنة.
__________
(1) رواه أبو داود 1071، والنسائي 1593 وغيرهما.(64/263)
وهذا يحتمل أن يكون صلى الظهر ابن الزبير في بيته، وأن الرخصة وردت في ترك الاجتماعين؛ لما في ذلك من المشقة، لا أن الظهر تسقط.
وأما حديث إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن إياس بن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان يسأل زيد بن أرقم: «هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم. قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يصلي فليصل (1) » .
وهذا الحديث لم يذكره البخاري، وذكره أبو داود عن محمد بن كثير، عن إسرائيل، وذكره النسائي عن عمر بن علي عن ابن مهدي، عن إسرائيل، وليس فيه دليل على سقوط الجمعة، وإنما فيه دليل أنه رخص في شهودها، وأحسن ما يتأول في ذلك أن الإذن خص به من لم تجب الجمعة عليه ممن شهد ذلك العيد، والله أعلم.
ثم قال ابن عبد البر: وإذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه، لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2) ولم يخص الله ورسوله
__________
(1) رواه أحمد 4 \ 372، وأبو داود 1070 وغيرهما.
(2) سورة الجمعة الآية 9(64/264)
يوم عيد من غيره من وجه تجب حجته، فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع، بأحاديث ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث، ولم يخرج البخاري ولا مسلم منها حديثا واحدا، وحسبك بذلك ضعفا لها. . إلى أن قال: وأما اختلاف العلماء فيمن تجب عليه الجمعة من الأحرار البالغين الذكور غير المسافرين، فقال ابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، والحسن البصري، ونافع مولى ابن عمر: تجب الجمعة على كل من كان بالمصر وخارجا عنه، ممن إذا شهد الجمعة أمكنه الانصراف إلى أهله، فآواه الليل إلى أهله (1) وبهذا قال الحكم بن عتيبة، وعطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، وأبو ثور.
وقال ربيعة، ومحمد بن المنكدر: إنما تجب على من كان على أربعة أميال.
وذكر عبد الرزاق عن محمد بن راشد، قال: أخبرني عبدة بن أبي لبابة أن معاذ بن جبل كان يقول على منبره: يا أهل فردا، ويا أهل دامرة - قريتين من قرى دمشق، إحداهما على أربعة فراسخ، والأخرى على خمسة-: إن الجمعة لزمتكم، وإنه لا جمعة إلا معنا (2) .
وقد روي عن معاوية أنه كان يأمر من بينه وبين دمشق أربعة
__________
(1) خرج ذلك عبد الرزاق 5151 - 5164، 5164، وابن شيبة 2 \ 102.
(2) رواه عبد الرزاق 5162.(64/265)
وعشرون ميلا بشهود الجمعة، وذكر معمر عن هشام بن عروة، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: كان أبي من المدينة على ستة أميال أو ثمانية، فكان ربما شهد الجمعة، وربما لم يشهدها.
وقال الزهري: ينزل إليها من ستة أميال (1) ، وروي عن ربيعة أنه قال: تجب الجمعة على من إذا سمع النداء وخرج من بيته أدرك الصلاة.
وقال مالك والليث: تجب الجمعة على كل من كان على ثلاثة أميال، وقال الشافعي: تجب على كل من كان بالمصر، وكذلك كل من سمع النداء ممن يسكن خارج المصر. وهو قول داود.
وقال أبو حنيفة: الجمعة على كل من كان بالمصر، وليس على من كان خارج المصر جمعة، سمع النداء أو لم يسمع.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء، كان بالمصر أو خارجا عنه، يريدان الموضع الذي يسمع منه ومن مثله النداء، روي مثل ذلك عن عبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب.
وقد كان الشافعي يقول: لا يتبين عندي أن يحرج بترك الجمعة إلا من يسمع النداء، قال: ويشبه أن يحرج أهل المصر وإن عظم بترك الجمعة.
قال أبو عمر: يشبه أن يكون مذهب مالك وأصحابه والليث في مراعاة الثلاثة أميال لأن الصوت الندي في الليل عند
__________
(1) انظر: تخريج هذه الآثار في شرح الزركشي 2 \ 201.(64/266)
هدوء الأصوات يمكن أن يسمع من ثلاثة أميال، والله أعلم.
فلا يكون مذهب مالك في هذا التأويل مخالفا لمن قال: لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء، وهو قول أكثر فقهاء الأمصار، وقد ذكر ابن عبدوس في المجموعة عن علي بن زياد، عن مالك قال: عزيمة الجمعة على من كان بموضع يسمع منه النداء، وذلك من ثلاثة أميال، ومن كان أبعد فهو في سعة، إلا أن يرغب في شهودها فهو أحسن، فهذه رواية مفسرة.
وعلى هذا قال مالك فيما روى عنه ابن القاسم وغيره، أن ليس العمل على ما صنع عثمان في إذنه لأهل العوالي؛ لأن الجمعة كانت عنده واجبة على أهل العوالي، لأن العوالي من المدينة على ثلاثة أميال ونحوها، وذهب غير مالك إلى أن إذن عثمان لأهل العوالي إنما كان أن الجمعة لم تكن واجبة على أهل العوالي عنده؛ لأن الجمعة إنما تجب على أهل المصر عنده، هذا قول الكوفيين سفيان وأبي حنيفة.
ومن حجة مالك في مراعاة الثلاثة أميال. . . ثم ساق بسنده إلى ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عل أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم، فينزل بها على رأس ميلين أو ثلاثة من المدينة، فتأتي الجمعة فلا يجمع فيطبع على قلبه (1) » .
ومن حجة من شرط سماع النداء. . . ثم ساق بسنده إلى
__________
(1) رواه ابن ماجه 1127، وابن خزيمة 1859، والحاكم 1 \ 292 وسنده ضعيف وسكت عنه الحاكم والذهبي.(64/267)
عبد الله بن هارون، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: الجمعة على من سمع النداء. وذكر عبد الرزاق عن داود بن قيس، قال: سئل عمرو بن شعيب: من أين تؤتى الجمعة؛ فقال: من مدى الصوت (1) .
قال أبو عمر: ما يحضرني على من ذهب مذهب عطاء وابن الزبير على ما تقدم ذكرنا له إجماع المسلمين قديما وحديثا أن من لا تجب عليه الجمعة، ولا النزول إليها لبعد موضعه عن موضع إقامتها. . مجمع أن الظهر واجبة لازمة على من كان هذه حاله، وعطاء وابن الزبير موافقان للجماعة في غير يوم عيد، فكذلك يوم العيد في القياس والنظر الصحيح، هذا لو كان قولهما اختلافا يوجب النظر، فكيف وهو قول شاذ، وتأويله بعيد، والله المستعان وبه التوفيق (2) انتهى كلام ابن عبد البر.
وقد ظهر أن مذهب مالك رحمه الله تعالى عدم سقوط الجمعة عن أهل الحضر والمصر إذا شهدوا العيد، ولو أذن لهم الإمام، حيث لم يوافق على فعل عثمان في إذنه لأهل العوالي، وهكذا ما ذكره شارح مختصر خليل من أن شهود العيد لا يبيح التخلف عن الجمعة، سواء كان في داخل البلد أو خارجه، وأن إذن الإمام لا يبرر التخلف عن الجمعة، وخص بعضهم الخلاف أنه فيمن هو خارج البلد، وقد حمل ابن عبد البر الرخصة في الأحاديث على اختصاصها بالبوادي، ومن لا تجب عليه ممن هو
__________
(1) في مصنف عبد الرزاق برقم 5155.
(2) في التمهيد 10 \ 239 وفتح البر 5 \ 315.(64/268)
خارج البلد، ورأى أن عموم كلام مالك ومذهبه فيمن تجب عليهم الجمعة عدم سقوطها عن أهل العوالي؛ لأنهم من المدينة على ثلاثة أميال أو نحوها، ويمكن أن سقوطها عنهم لكونهم خارج البلد.(64/269)
مذهب الشافعية في اجتماع العيدين:
قال الشافعي في الأم: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن عقبة، عن عمر بن عبد العزيز قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج (1) » .
ثم روى من طريق مالك حديث أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان. . . إلخ (2) .
قال الشافعي: وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلى الإمام العيد حين تحل الصلاة، ثم أذن لمن حضره من غير أهل المصر أن ينصرفوا إن شاءوا إلى أهليهم، ولا يعودون إلى الجمعة، والاختيار لهم أن يقيموا حتى يجمعوا، أو يعودوا بعد انصرافهم إن قدروا حتى يجمعوا، وإن لم يفعلوا فلا حرج إن شاء الله تعالى.
قال الشافعي: ولا يجوز هذا لأحد من أهل المصر أن يدعوا أن يجمعوا إلا من عذر يجوز لهم به ترك الجمعة، وإن كان يوم عيد. قال الشافعي. وهكذا إن كان يوم أضحى، لا يختلف إذا كان ببلد يجمع فيه الجمعة ويصلي العيد (3) اهـ.
__________
(1) سنن النسائي صلاة العيدين (1571) ، سنن أبو داود الصلاة (1155) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1290) .
(2) الأم 1 \ 212، وفي المسند رقم 464، 465.
(3) كتاب الأم للشافعي 1 \ 212.(64/269)
وقال النووي (فرع) : إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة، وحضر أهل القرى الذين يبلغهم النداء لصلاة العيد، وعلموا أنهم لو انصرفوا لفاتتهم الجمعة، فلهم أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة في هذا اليوم على الصحيح المنصوص في القديم والجديد، وعلى الشاذ: عليهم الصبر للجمعة (1) اهـ.
وقال صاحب المهذب كما في المجموع: " وإن اتفق يوم عيد ويوم جمعة، فحضر أهل السواد فصلوا العيد، جاز أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة، لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في خطبته: أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل، ومن أراد أن ينصرف فلينصرف، ولم ينكر عليه أحد، ولأنهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيئوا بالعيد، فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة، والجمعة تسقط بالمشقة، ومن أصحابنا من قال: تجب عليهم الجمعة؛ لأن من لزمته الجمعة في غير يوم العيد وجبت عليه في يوم العيد كأهل البلد؟ والمنصوص في الأم هو الأول (2) اهـ.
قال النووي في شرحه: قال الشافعي والأصحاب: إذا اتفق يوم جمعة يوم عيد، وحضر أهل القرى الذين تلزمهم الجمعة لبلوغ نداء البلد، فصلوا العيد لم تسقط الجمعة بلا خلاف عن
__________
(1) في الروضة 2 \ 79.
(2) انظر: المجموع شرح المهذب 4 \ 491.(64/270)
أهل البلد، وفي أهل القرى وجهان، الصحيح المنصوص للشافعي في الأم والقديم أنها: تسقط، والثاني: لا تسقط، ودليلها في " الكتاب وأجاب هذا الثاني عن قول عثمان، ونص الشافعي فحملهما على من لا يبلغه النداء (فإن قيل) : هذا التأويل باطل، لأن من لا يبلغه النداء لا جمعة عليه في غير يوم العيد، ففيه أولى، فلا فائدة في هذا القول (فالجواب) أن هؤلاء إذا حضروا البلد يوم الجمعة غير يوم العيد يكره لهم الخروج قبل أن يصلوا الجمعة، صرح بهذا كله المحاملي، والشيخ أبو حامد في التجريد، وغيرهما من الأصحاب، قالوا: فإذا كان يوم عيد زالت تلك الكراهة، فبين عثمان والشافعي زوالها، والمذهب ما سبق، وهو سقوطها عن أهل القرى الذين يبلغهم النداء (1) اهـ.
وقد ظهر من مذهب الشافعية أن الجمعة لا تسقط عن أهل البلد، بل يلزمهم أن يصلوا الجمعة مع الإمام، وإنما تسقط عن أهل القرى النائية، مع أن الأولى لهم حضورها، وإنما سقطت للمشقة، أو لأن الجمعة لا تلزمهم لخروجهم عن المصر، أو لبعدهم عن محل إقامة الجمعة.
__________
(1) المجموع 4 \ 491.(64/271)
مذهب الحنابلة في اجتماع الجمعة والعيد:
قال عبد الله بن أحمد في مسائله. سألت أبي عن عيدين اجتمعا في يوم يترك أحدهما؟ قال: لا بأس به أرجو أن يجزئه (1) .
__________
(1) مسائل عبد الله رقم المسألة 482.(64/271)
وقال أبو الخطاب الكلوذاني: وإذا وقع العيد في يوم الجمعة استحب له حضورهما، فإن اجتزئ بحضور العيد عن الجمعة وصلى ظهرا جاز (1) .
وقال المجد ابن تيمية: وإذا اجتمع عيد وجمعة سقطت الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام (وعنه) تسقط عنه أيضا، وحضورها أولى، وكذلك يسقط العيد بالجمعة إذا قدمت عليه (2) اهـ.
وقال ابن الجوزي: وإذا اتفق العيد يوم الجمعة أجزأت إحداهما عن الأخرى إلا الإمام (3) اهـ.
وقال ابن هبيرة: واختلفوا إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا تسقط الجمعة بحضور العيد، ولا العيد بحضور الجمعة. وقال أحمد: إن جمع بينهما فهو الفضيلة، وإن حضر العيد سقطت عنه الجمعة (4) . اهـ
وقال البعلي في الاختيارات: وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزئ بالعيد، وصلوا ظهرا جاز إلا للإمام، وهو مذهب أحمد (5) اهـ.
__________
(1) في الهداية 1 \ 53.
(2) انظر: المحرر 1 \ 159.
(3) كما في المذهب الأحمد 35.
(4) الإفصاح 1 \ 174.
(5) الاختيارات الفقهية 81.(64/272)
وقال الموفق بن قدامة: وإذا وقع العيد يوم الجمعة، فاجتزئ بالعيد وصلى ظهرا جاز إلا للإمام (1) . اهـ.
وقال أيضا في الكافي: وإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهرا، ثم ذكر حديث زيد وأبي هريرة، ثم ذكر وجوبها على الإمام ودليله، والرواية بسقوطها عنه (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحمد لله إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
(أحدها) أنه تجب الجمعة على من شهد العيد كما تجب سائر الجمع للعمومات الدالة على وجوب الجمعة.
(والثاني) تسقط عن أهل البر، مثل أهل العوالي والسواد؛ لأن عثمان بن عفان أرخص لهم في ترك الجمعة لما صلى بهم العيد.
(والقول الثالث) وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كعمر وعثمان، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير وغيرهم، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف.
__________
(1) المقنع مع حاشيته 1 \ 251.
(2) قاله في الكافي 1 \ 510.(64/273)
وأصحاب القولين المتقدمين لم يبلغهم ما في ذلك من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمع في يومه عيدان صلى العيد ثم رخص في الجمعة، وفي لفظ أنه قال: «أيها الناس إنكم قد أصبتم خيرا، فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد فإنا مجمعون (1) » . وأيضا فإنه إذا شهد العيد حصل مقصود الاجتماع، ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها، والعيد يحصل مقصود الجمعة، وفي إيجابها على الناس تضييق عليهم، وتكدير لمقصود عيدهم، وما سن لهم من السرور فيه والانبساط، فإذا حبسوا عن ذلك عاد العيد على مقصوده بالإبطال، ولأن يوم الجمعة عيد، ويوم الفطر والنحر عيد، ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد أدخل إحداهما في الأخرى، كما يدخل الوضوء في الغسل، وأحد الغسلين في الآخر والله أعلم (2) اهـ. وله رسالة بعدها بمعناها.
وذكر ابن القيم رخصة النبي صلى الله عليه وسلم لهم إذا وقع العيد يوم الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة (3) . وقد تتابع على ذلك الفقهاء في مؤلفاتهم فذكره ابن رجب في القاعدة الثامنة عشر.
وقال الشويكي: وإن وقع عيد يوم جمعة سقطت عمن
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1073) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24 \ 210.
(3) زاد المعاد 1 \ 448.(64/274)
حضر العيد مع الإمام سقوط حضور لا وجوب، كمريض إلا الإمام، فإذا اجتمع معه القدر المعتبر أقامها، وإلا صلوا ظهرا.
(وعنه) لا تسقط عن العدد المعتبر، فتكون فرض كفاية (1) . اهـ. ونحو ذلك في الروض المربع، ومنهم من ذكر روايتين أو ثلاثا.
قال ابن مفلح: تسقط الجمعة- إسقاط حضور لا وجوب فيكون حكمه كمريض ونحوه لا كمسافر ونحوه - عمن حضر العيد مع الإمام عند الاجتماع، وذكر في الخلاف أنه الظاهر من قول الشافعية فيمن كان خارج البلد، ويصلي الظهر كصلاة أهل الأعذار (وعنه) لا تسقط كالإمام (وعنه) تسقط عنه أيضا. (وعنه) لا تسقط عن العدد المعتبر. . . إلخ (2) .
وقال المرداوي في الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير:
قوله: وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزئ بالعيد وصلي ظهرا جاز. هذا المذهب بلا ريب، وعليه الأصحاب، وهو من المفردات- (وعنه) لا يجوز، ولا بد من صلاة الجمعة، فعلى المذهب إنما تسقط الجمعة عنهم إسقاط حضور لا وجوب، فيكون بمنزلة المريض لا المسافر والعبد، فلو حضر الجامع لزمته كالمريض، وتصح إمامته فيها، وتنعقد به، حتى لو صلى العيد أهل بلد كافة كان له التجميع بلا خلاف.
__________
(1) التوضيح 1 \ 61.
(2) كما في الفروع 1 \ 134.(64/275)
وأما من لم يصل العيد فيلزمه السعي إلى الجمعة بكل حال، سواء بلغوا العدد المعتبر أم لم يبلغوا، ثم إن بلغوا بأنفسهم أو حضر معهم تمام العدد لزمتهم الجمعة، وإن لم يحضر معهم تمامه فقد تحقق عددهم.
وقال بعض أصحابنا: إن تتميم العدد وإقامة الجمعة إن قلنا تجب على الإمام؟ يكون فرض كفاية. وليس ببعيد.
قوله: " إلا الإمام " يعني أنه لا يجوز له تركها، ولا تسقط عنه الجمعة، وهذا المذهب، وهو ظاهر ما جزم به في الخلاصة، وقدمه في الفروع، واختاره المصنف وغيره. قال في التلخيص: وليس للإمام ذلك في أصح الروايتين، هذا الأظهر، وصححه ناظم المفردات (وعنه) تسقط عنه لعظم المشقة عليه، فهو أولى بالرخصة، واختاره جماعة (وعنه) لا تسقط عن العدد المعتبر، قال في التلخيص: وعندي أن الجمعة لا تسقط عن أحد من أهل المصر بحضور العيد ما لم يحضر العدد المعتبر وتقام اهـ. قال ابن رجب في القواعد: على رواية عدم السقوط عن الإمام يجب أن يحضر معه من تنعقد به تلك الصلاة، فتصير الجمعة فرض كفاية تسقط بحضور أربعين. . . إلخ (1) اهـ.
وقد ظهر من قول الحنابلة أن المذهب المشهور سقوط الجمعة عن كل من حضر العيد، وفي سقوطها عن الإمام روايتان، والمشهور منهما عدم سقوطها عنه، وهناك رواية بعدم
__________
(1) الإنصاف مع الشرح الكبير 5 \ 260.(64/276)
السقوط كقول الحنفية والمالكية (وعنه) رواية: أنها تكون فرض كفاية بأن يحضر مع الإمام العدد المعتبر لإقامتها وهو الأربعون. ورواية: إن حضر العدد المعتبر وإلا صلوها مع الإمام ظهرا كغيرهم. وكأنهم اعتمدوا العمل بظاهر الأحاديث ما فيها من المقال نظرا لشهرتها، ومنه يعلم أن إسقاطها عمن حضر العيد من مفردات المذهب قال ناظم المفردات:
والعيد والجمعة إن قد جمعا ... فتسقط الجمعة نصا سمعا
عمن أتى بالعيد لا يستثنى ... سوى الإمام في أصح المعنى
قال الشارح: يعني إذا وافق العيد يوم الجمعة سقطت عمن حضر مع الإمام، وممن قال بالسقوط الشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وقد قيل: إنه مذهب عمر، وعثمان، وعلي، وسعيد، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وقال أكثر الفقهاء: لا تسقط الجمعة؛ لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها، ولنا حديث معاوية، ثم ذكر حديث زيد بن أرقم، وحديث أبي هريرة (1) وقد سبق ذكرهما في كلام ابن عبد البر، وهكذا قال: أبو محمد بن قدامة: وزاد في تعليل الفقهاء لعدم السقوط لأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد وأجاب بأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة، وقد حصل سماعها في
__________
(1) منح الشفاء الشافيات للبهوتي ص157.(64/277)
العيد، فأجزأ عن سماعها ثانيا، ولأن وقتهما واحد بما بيناه فسقطت إحداهما بالأخرى كالجمعة مع الظهر، وما احتجوا به مخصوص بما رويناه وقياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة.
فأما الإمام فلم تسقط عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنا مجمعون (1) » ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها ممن سقطت عنه، بخلاف غيره من الناس (2) اهـ. وهكذا ذكر ابن أبي عمر (3) .
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1073) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311) .
(2) المغني مع الشرح الكبير2 \ 212.
(3) كما في الشرح الكبير 2 \ 193.(64/278)
تلخيص المذاهب السابقة:
وقد لخص النووي المذاهب بقوله: (فرع) في مذاهب العلماء في ذلك، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الجمعة على أهل البلد، وسقوطها عن أهل القرى، وبه قال عثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز، وجمهور العلماء، وقال عطاء بن أبي رباح: إذا صلوا العيد لم تجب بعده في هذا اليوم صلاة الجمعة ولا الظهر ولا غيرهما إلى العصر، لا على أهل القرى ولا أهل البلد. قال ابن المنذر: وروينا نحوه عن علي بن أبي طالب وابن الزبير رضي الله عنهم، وقال أحمد: تسقط الجمعة عن أهل القرى وأهل البلد، ولكن يجب الظهر. وقال أبو حنيفة: لا تسقط الجمعة عن أهل البلد ولا أهل القرى.
واحتج الذين أسقطوا الجمعة عن الجميع بحديث زيد بن(64/278)
أرقم. ثم ذكره وذكر حديث أبي هريرة، وصحح الأول، وضعف سند الثاني، واحتج لأبي حنيفة بأن الأصل الوجوب، واحتج عطاء ثم ذكر فعل ابن الزبير، وقول ابن عباس: أصاب السنة وأنه على شرط مسلم.
واحتج أصحابنا بحديث عثمان، وتأولوا الباقي على أهل القرى، لكن قول ابن عباس: من السنة. مرفوع وتأويله أضعف (1) . اهـ.
وقد تكلم على المذاهب وأدلتها الساعاتي البنا، وتوسع في ذكر المذاهب وأدلتها ناقلا عن النووي وغيره (2) .
وذكر الشوكاني حديث زيد، وأبي هريرة، وقصة ابن الزبير، وصحح حديث ابن الزبير، ومال إلى ترجيح العمل به (3) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 4 \ 492.
(2) انظر: الفتح الرباني 6 \ 34.
(3) كما في نيل الأوطار 3 \ 320.(64/279)
تخريج الأحاديث والآثار في الباب:
وحيث إن العمدة في ذلك هذه الأحاديث والآثار فإنا ننقلها من كتب الحديث ونذكر الكلام حولها.
فأما حديث زيد بن أرقم؛ فرواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم من طرق عن إسرائيل،(64/279)
عن عثمان بن المغيرة، عن إياس بن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية سأل زيد بن أرقم. . . إلخ، قال محقق المسند: وهذا إسناد ضعيف لجهالة إياس بن أبي رملة الشامي، ذكره الذهبي في الميزان، وأشار إلى هذا الحديث، وقال: قال ابن المنذر: لا يثبت هذا، فإن إياسا مجهول، قلنا: وبقية رجاله ثقات اهـ. وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن المديني قاله الحافظ ابن حجر (1) ولعله صححه لشواهده التي يتقوى بها.
وقد تقدم أن ابن حزم رده؛ لأن في رواته إسرائيل وليس بالقوي، وهذا غير صحيح، فهو من رجال الشيخين، وحمله ابن عبد البر على أن الإذن خص به من لم تجب الجمعة عليه ممن شهد ذلك العيد.
وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما كما رواه ابن عبد البر من طريق بقية بن الوليد، عن شعبة عن المغيرة الضبي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وصححه الحاكم مع قوله: هذا حديث غريب من حديث شعبة. وقال الخطابي: في إسناده مقال (2) وقد سبق
__________
(1) كما في التلخيص الحبير 2 \ 88 وقد أطال في تخريجه.
(2) كما في معالم السنن شرحه لأبي داود 2 \ 11، ونقله المنذري في تهذيب السنن وأقره.(64/280)
قول ابن عبد البر: هذا الحديث لم يروه عن شعبة فيما علمت أحد من الثقات، وإنما رواه بقية بن الوليد، وليس بشيء في شعبة أصلا، وروايته عن أهل بلده فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعفون بقية عن الشاميين وغيرهم، وله مناكير، وهو ضعيف ليس ممن يحتج به (1) اهـ.
وقد سمعت من بعض مشايخنا ما قيل فيه عبارة: أحاديث بقية، غير نقية، فكن منها على تقية. وذلك لأنه اشتهر بتدليس التسوية وهو شر أنواع التدليس (2) ، ووقع في رواية عند ابن ماجه، عن أبي صالح عن ابن عباس، وتقدم أن ابن عبد البر رواه من طريق الثوري عن ابن رفيع، عن أبي صالح مرسلا، ثم رواه من طريق زياد البكائي عن ابن رفيع وأسنده، وقد صحح الدارقطني إرساله وكذا نقل عن الإمام أحمد تصحيح المرسل، وقد رواه عبد الرزاق من طريق الثوري مرسلا (3) ، وقال الحافظ: إن ذكر ابن عباس عند ابن ماجه وهم، ورواية زياد البكائي مسندة، لكن زياد بن عبد الله البكائي قد ضعفه ابن معين، وذكره ابن حبان في المجروحين مع تساهله، والنسائي في الضعفاء له.
__________
(1) كما في التمهيد 10 \ 239، وانظر. فتح البر 5 \ 315.
(2) وهو أن يصرح بالتحديث ويسقط شيخ شيخه الضعيف كما ذكر ذلك في كتب المصطلح.
(3) كما في مصنفه 5728.(64/281)
وقد روى له مسلم لكنه يختار من رواية المجروحين ما حفت به القرائن ولهذا لم يخرج هذا الحديث، وروى له البخاري حديثا واحدا مقرونا بغيره وقد صحح هذا الحديث جمع من العلماء لشواهده، ومنها: حديث عن ابن عمر عند ابن ماجه عن جبارة بن المغلس عن مندل بن علي عن عبد العزيز بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ثم قال: من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها ومن شاء أن يتخلف فليتخلف (1) » . تفرد به ابن ماجه وضعفه البوصيري في الزوائد؛ لضعف جبارة ومندل (2) .
وأصح ما في الباب حديث ابن الزبير، وقد ساقه ابن عبد البر كما سبق، وهو عند النسائي عن ابن بشار، عن يحيى القطان، كما ساقه ابن عبد البر، لكن ذكر أنه عن سوار، والصواب محمد بن بشار، وقد رواه أبو داود من طريق الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، قال: صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدنا، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال: أصاب السنة (3) .
__________
(1) سنن ابن ماجه رقم 1312.
(2) كما في مصباح الزجاجة 1 \ 155.
(3) كما في سنن أبي داود 1071، والنسائي 1593.(64/282)
ثم رواه من طريق ابن جريج، قال: قال عطاء: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعا، فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر (1) .
وقد ذكر ابن عبد البر أنه حديث اضطرب في إسناده، ولعل ذلك أنه روي عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن وهب، وعند النسائي عن عبد الحميد، عن وهب، لكن قد رواه ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، قال: اجتمع عيدان في يوم، فخرج عبد الله بن الزبير فصلى العيد بعد ما ارتفع النهار، ثم دخل فلم يخرج حتى صلى العصر، فذكر ذلك لابن عمر فلم ينكره (2) .
ولعل من الاضطراب الاختلاف في المتن، حيث ذكر في رواية النسائي أنه أخر الخروج حتى تعالى النهار، وأنه أطال الخطبة، فاحتمل أنه دخل عليه وقت الجمعة وهو في خطبة العيد، فصلى بعد الخطبة، ونواها صلاة الجمعة، لأنه نزل من الخطبة فصلى بعدها كما يفعل في الجمعة، بخلاف خطبة العيد فإنها بعد الصلاة، لكن رواية ابن جريج عن عطاء عند أبي داود، قال: فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين بكرة. ورواية الأعمش فيها أنه صلى أول النهار، قال: ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج
__________
(1) انظر. سنن أبي داود 1072، ومختصر السنن للمنذري 1030.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 187.(64/283)
إلينا، فصلينا وحدانا، فقد حصل الاختلاف في فعله، ولعل الأقرب لفظ النسائي أنه أخر الصلاة حتى قرب وقت الجمعة؟ فنوى الجمعة التي هي فرض عين اتفاقا، واكتفى بها عن العيد الذي هو فرض كفاية، أو سنة عند بعض العلماء.
وقد سبق قول ابن عبد البر: يحتمل أن ابن الزبير صلى الظهر في بيته، وأن الرخصة وردت في ترك الاجتماعين؛ لما في ذلك من المشقة.
وأما الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين فقد ذكر الموفق في المغني أنه مذهب عمر، وعثمان، وعلي، وسعيد، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وأن ممن قال بالسقوط الشعبي، والنخعي، والأوزاعي.
فأما عمر فوقع في حديث وهب بن كيسان عند ابن أبي شيبة: فبلغ ذلك ابن الزبير فقال: شهدت العيد مع عمر فصنع كما صنعت (1) .
وفي هذه الرواية أن ابن الزبير أخر الخروج، وأطال الخطبة، ثم صلى بعد الخطبة، ولم يخرج إلى الجمعة، فاحتمل أن عمر - رضي الله عنه- أخر صلاة العيد، وجمع العيدين في صلاة، حيث قدم الخطبة على الصلاة، وتبعه ابن الزبير في ذلك.
وأما عثمان فتقدم حديثه عند مالك والبخاري وغيرهما" ولكنه خص الرخصة بأهل العالية بقوله: فمن أحب من أهل
__________
(1) كما في المصنف 2 \ 186.(64/284)
العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له. وهو صريح في تخصيص الإذن بأهل العالية، ولفظ ابن أبي شيبة: فمن كان هاهنا من أهل العوالي فقد أذنا له أن ينصرف، ومن أحب أن يمكث فليمكث.
وأما علي فقد وقع في حديث عطاء عند عبد الرزاق بعد فعل ابن الزبير، قال: وذكر ذلك عن محمد بن علي بن الحسين (1) ، أخبر أنهما كانا يجمعان إذا اجتمعا، قال: إنه وجده في كتاب لعلي زعم (2) .
ثم روى عن جعفر بن محمد (3) أنهما اجتمعا وعلي بالكوفة، فصلى ثم صلى الجمعة، وقال حين صلى الفطر: من كان هاهنا فقد أذنا له كأنه لمن حوله يريد الجمعة (4) ، ثم روى بعده عنه قال: من أراد أن يجمع فليجمع، ومن أراد أن يجلس فليجلس. ثم روى عن معمر، عن صاحب له، أن عليا كان إذا اجتمعا صلى في أول النهار العيد، وصلى في آخر النهار الجمعة.
ورواه ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن قال: اجتمع عيدان على عهد علي، فصلى بالناس، ثم خطب على راحلته فقال: يا أيها الناس من شهد منكم العيد فقد قضى جمعته إن شاء الله.
ثم روى عن جعفر، عن أبيه، وهو محمد بن علي قال: اجتمع
__________
(1) وهو الباقر بن زين العابدين.
(2) هو في المصنف برقم 5725، وقد سبق بتمامه في كلام ابن عبد البر.
(3) وهو جعفر الصادق.
(4) مصنف عبد الرزاق 5730.(64/285)
عيدان على عهد علي، فشهد بهم العيد، ثم قال: إنا مجمعون، فمن أراد أن يشهد فليشهد (1) ففي هذه الآثار أنه أقام الجمعة، وأنه أذن لمن شهد العيد بالانصراف، ويظهر أن الإذن لأجل المشقة.
وأما سعيد فقد وقع هكذا في المغني ومن نقل عنه، ولم أجده عن سعيد بن زيد، ولا من اسمه سعيد من الصحابة والتابعين (2) .
وأما ابن عمر فذكرنا قريبا ما رواه ابن أبي شيبة كما في حديث ابن الزبير عن هشام، وقوله: فذكرت ذلك لنافع، فقال: ذكر ذلك لابن عمر فلم ينكره ولم أجد عنه غير هذه الرواية.
وأما ابن عباس وابن الزبير فقد سبق فعل ابن الزبير، من رواية وهب ابن كيسان وعطاء، وأن ابن عباس قال: أصاب السنة. وهو تصريح منه بتصويب فعل ابن الزبير، وقد استدل به على إسقاط الجمعة عن الإمام، ولم يذكر في أكثر الروايات أن ابن الزبير صلى الظهر، وقال بعضهم: لعله صلاها في بيته، لكن وقع عند ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء قال: اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير، فصلى بهم العيد، ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعا (3) .
وأما الشعبي فرواه عنه ابن أبي شيبة، قال: إذا كان يوم
__________
(1) كما في مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 187.
(2) ووقع في كلام شيخ الإسلام السابق ابن مسعود.
(3) مصنف أبن أبي شيبة 2 \ 187، ولعل المراد صلاة غيره ممن اجتمعوا لصلاة الجمعة فقد ذكر أنهم صلوها ظهرا.(64/286)
جمعة وعيد أجزأ أحدهما من الآخر.
وأما النخعي فروى ابن أبي شيبة، عن الحكم، عن إبراهيم وهو النخعي، قال: يجزئه الأولى منهما. وفي لفظ: يجزئ أحدهما. ورواه عبد الرزاق بلفظ: يجزئ واحد منهما عن صاحبه (1) .
ولم أجده في هذه المراجع عن الأوزاعي.
فهذا ما وقفت عليه من هذه الآثار وفيها دلالة واضحة على أنهم فهموا من إطلاق الأحاديث المرفوعة التخيير العام في ترك الجمعة، وقد ذكرنا جواب ابن عبد البر عن الأحاديث، وما حملها عليه، ولا شك في دلالتها صراحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمن حضره، وأنهم عدد كثير كما ذكر ذلك في حديث أبي هريرة بقوله في رواية شعبة: «وإنا مجمعون إن شاء الله (2) » وفي رواية الثوري المرسلة قال: «إنا مجمعون، فمن شاء منكم أن يجمع فليجمع، ومن شاء أن يرجع فليرجع» وفي رواية البكائي قال: «وإني مجمع إذا رجعت، فمن أحب منكم أن يشهد الجمعة فليشهدها " فلما رجع رسول الله صلى الله عليه سلم جمع بالناس» .
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يقيم الجمعة يوم العيد حديث النعمان بن بشير عند مسلم وغيره «أن رسول الله صلى عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 187، وعبد الرزاق 5727.
(2) سنن أبو داود الصلاة (1073) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311) .
(3) هو في صحيح مسلم 1 \ 598 برقم 878، ورواه أحمد 4 \ 271، وأبو داود 1122، والترمذي 2 \ 413 برقم 533، والنسائي 2 \ 112، وابن ماجه 1281، وغيرهم.(64/287)
وقال: وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما (2) » وقد رواه ابن أبي شيبة في باب اجتماع العيد والجمعة.
والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رفق بالمصلين الذين يأتون من مكان بعيد كالعوالي، كما روى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال. أخبرني بعض أهل المدينة عن غير واحد منهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع في زمانه يوم جمعة ويوم فطر، أو يوم جمعة وأضحى، فصلى بالناس العيد الأول، ثم خطب فأذن للأنصار في الرجوع إلى العوالي وترك الجمعة،» فلم يزل الأمر على ذلك بعد، قال ابن جريج: وحدثت عن عمر بن عبد العزيز، وعن أبي صالح الزيات: أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع في زمانه يوم جمعة ويوم فطر، فقال: «إن هذا يوم قد اجتمع فيه عيدان، فمن أحب فلينقلب، ومن أحب فلينتظر (3) » اهـ. فإن هذا الحديث صريح أن الرخصة كانت لأهل العوالي، ويدل عليه قوله: " فلينقلب " أي يرجع إلى منزله البعيد، ويدل على ذلك كلام عثمان الذي رواه مالك والبخاري وغيرهما، فإن إذنه إنما هو لأهل العوالي، وقد سبق قول ابن عبد البر بعد حديث زيد بن أرقم: أن الإذن خص به من لم تجب الجمعة عليه ممن شهد ذلك العيد. وإذا احتملت هذه الآثار ما
__________
(1) سورة الأعلى الآية 1 (3) {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
(2) سورة الغاشية الآية 1 (1) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}
(3) كما في مصنف عبد الرزاق برقم 5729.(64/288)
ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) الآية
تلخيص مذاهب العلماء:
وقد تلخص أن قول الحنفية لزوم الجمعة على من تجب عليه في غير العيد، وعللوا بأن الجمعة فرض، والعيد سنة، ولا يسقط الفرض بأداء السنة.
وأن مذهب الظاهرية وجوب العيد ووجوب الجمعة، وعدم سقوط إحداهما بأداء الأخرى، وقد توسع ابن حزم في الاستدلال لما يقول.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة العيد فرض عين، وذكروا أدلة على ذلك ليس هذا موضع ذكرها.
وأما الجمعة فلا خلاف في وجوبها على من سمع النداء أو قرب من موضع إقامة الجمعة، وقد ذكرنا ما أورده ابن عبد البر فيمن تجب عليه الجمعة، حتى قال بعضهم: تجب على من آواه الليل إذا رجع إلى أهله، أي وصلهم قبل الليل، وحدده أكثرهم بثلاثة أميال أو بفرسخ، وهو ما يبلغه النداء غالبا.
وعرفنا أيضا أن قول مالك وأتباعه عدم سقوط الجمعة عمن شهد العيد، ولم يعتبر مالك إذن الإمام، وذكر أنه لم يبلغه أن أحدا من الأئمة أو الخلفاء رخص في ترك الجمعة غير عثمان،
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9(64/289)
فاختار لزوم الجمعة لأهل العوالي كغيرهم من أهل الأمصار، وكأنها لم تبلغه الأحاديث في الرخصة، أو حملها على من لا تلزمه الجمعة؛ لبعده، أو كونه خارج البلد، كالبوادي.
وأما الشافعي فقد عمل بحديث عثمان، وما رواه عن عمر بن عبد العزيز مرسلا، وهو سقوط الجمعة عن أهل العوالي، أو من كان من غير أهل المصر إذا أذن لهم الإمام، مع اختياره لهم الانتظار أو الرجوع إلى الجمعة بعد انصرافهم، فإن لم يرجعوا فلا حرج.
وأما الحنابلة فقد أخذوا بظاهر الأحاديث، لما فيها من الإطلاق، والرخصة لكل من شهد العيد من قريب أو بعيد في ترك الجمعة، وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة وغيرهم كما سبق، وقد ذكرنا ما تحتمله الأحاديث والآثار، وما يقال حولها، ولم نتكلم على طرق وأسانيد تلك الآثار؛ اكتفاء بالإحالة إلى مواضعها من كتب الأسانيد المطبوعة.(64/290)
القول المختار:
وبعد هذه الجولة والمراجعة لكتب الأئمة، والتعرف على مذاهب العلماء وأقوالهم، يترجح لي قول الشافعية، ولعله رواية عن الإمام أحمد، وإن كانت غير المشهورة، فتكون الرخصة خاصة بمن يأتي إلى العيد من مكان بعيد، كأهل العوالي ونحوهم، وذلك من باب التخفيف عليهم، فإنهم يأتون من مسيرة ساعتين أو نحوها، فقد يسير بعضهم قبل الفجر بساعة أو أكثر، ويضطرون إلى الرجوع إلى أهليهم على أرجلهم، أو على رواحل عادية كالحمر والإبل، وذلك قد يستغرق ساعتين أو نحوها، فلو لزمهم الرجوع إلى(64/290)
الجمعة لساروا راجعين نحو ساعتين، ثم رجعوا مثلها، فينقضي عيدهم ذلك كله في ذهاب ورجوع، وفي هذا من المشقة والصعوبة ما يخالف تعاليم الإسلام، وما جاء فيه من السهولة والتيسير، ونفي الحرج والضرر عن المسلمين، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) وقال تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة المائدة الآية 6(64/291)
حال الناس في الزمان الأول:
وهذا هو الواقع ممن عرفناه قبل خمسين عاما في القرى والمدن، حيث يأتون إلى صلاة العيد أو صلاة الجمعة من مسيرة ساعتين أو ثلاث، والكثير منهم يسيرون على أقدامهم حفاة ومنتعلين، ويتحملون ما في ذلك من المشقة والصعوبة، رغبة في الخير، وكثرة الأجر الذي يترتب على شهود الجمعة، مما هو مذكور في كتب الفضائل والأحكام، ولا شك أن تكليفهم بالرجوع لصلاة الجمعة يشق عليهم.
وحيث إن يوم العيد يوم فرح وسرور وابتهاج، فإن المعتاد تزاور الأقارب فيه، وتبادلهم التهاني والدعاء من بعضهم لبعض بالقول والبركة، وهذا مما يحتاج معه إلى لزوم منازلهم؛ ليقصدهم إخوتهم وأصدقاؤهم للتهنئة والتبريك، فإذا انشغلوا يوم العيد، وقطعوا فيه نحو ثمان ساعات ذهابا وإيابا، فات عليهم ما فيه غيرهم من الفرح والابتهاج(64/291)
فأما أهل المصر ومن حول المساجد الجوامع فلا مشقة عليهم في الإتيان إلى الجمعة، وأداء فريضتها؛ لوجوبها على الأعيان الذين يسمعون النداء، أو يقربون من محل إقامة الجمعة، فقد ورد الأمر بالإتيان إليها عند النداء بقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) فهذا الخطاب عام لكل من سمع النداء أو كان قريبا من محل الصلاة، ولا مخصص له.
ولما ورد من الوعيد الشديد في ترك الجمعة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الجمعة ثلاث مرار من غير عذر طبع الله على قلبه (2) » ، رواه أحمد وغيره عن جابر " وإسناده حسن.
ومثله حديث أبي الجعد الضمري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه (3) » ، رواه أحمد وغيره، وحسنه الترمذي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (4) » رواه مسلم عن ابن عمر وأبي هريرة.
وروى النسائي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) هو في مسند أحمد برقم 4559، وسنن النسائي الكبرى برقم 1657، وابن ماجه 1126، وصحيح ابن خزيمة 1856.
(3) كما في المسند برقم 15476، وسنن أبي داود 1052، والنسائي 1370، والترمذي 500.
(4) هو في صحيح مسلم برقم 865.(64/292)
قال: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم (1) » ، وغير ذلك من الأدلة على وجوب حضور الجمعة، وإثم من تركها، وقد ورد ثواب الخطوات إلى الجمعة، وفضل التقدم إليها، وكتابة الملائكة للأول فالأول، وكفارتها لما بينها وبين الجمعة الثانية، وغير ذلك من الفضائل التي تفوت من تركها، ولم يرد مثل ذلك في صلاة العيد، وإن كانت من القربات، ومما يحصل بها أجر الذهاب والانتظار، والصلاة والتكبير، واستماع الخطبة ونحو ذلك.
وأما ما ذكره بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام في أن الجمعة إنما اختصت بالخطبتين، وقد حصلت لمن حضر العيد، أو أن شهود العيد يحصل مقصود الاجتماع، فهذا قد يكون صحيحا إذا قيل: إن الحكمة في صلاة الجمعة هي الاستفادة من سماع الخطبة، أو الاجتماع والتلاقي، وتبادل السلام، والتعارف، ولكن قد ذهب الجمهور إلى أن صلاة العيد سنة أو فرض كفاية؛ ولذلك تفوت الكثيرين من المواطنين، ومع ذلك فإن الجمعة فيها حكم وفضائل غير سماع الخطبة، وحصول الاجتماع، كالتقدم، والنوافل، والانتظار، ونحو ذلك مما لم يرد مثله في صلاة العيد، وحيث إن أهل العوالي والمساكن النائية يشق عليهم الرجوع للجمعة، رخص لهم في تركها، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إنكم قد أصبتم خيرا، فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد فإنا مجمعون (2) » وقد سبق الحديث، فعلى هذا
__________
(1) كما في سنن النسائي برقم 1372.
(2) سنن أبو داود الصلاة (1073) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311) .(64/293)
تكون الرخصة في ترك الجمعة خاصة بمن منزله بعيد، كمن بينه وبين الجمعة مسيرة ساعة أو أكثر.(64/294)
حال الناس في هذه الأزمنة:
أما في هذه الأزمنة فقد خفت أو عدمت المشقة التي يلاقيها الأولون، فأولا: بوجود وسائل النقل، وهي السيارات المريحة، والتي تقرب البعيد، بحيث تقطع الفرسخ في بضع دقائق، بدل ما كان يستغرق السير فيه أكثر من ساعة ونصف، فمع توفر هذه الوسائل، وتيسر الحصول عليها لا عذر في ترك الجمعة، ولو شهد العيد، فمن لم يملك السيارة وجدها عند جاره أو قريبه، أو دفع أجرة لركوبه لا تضر باقتصاده غالبا، فمن لم يجد الأجرة، ولم يستطع السير إلى الجامع على قدميه؟ لاستغراقه زمنا كثيرا كساعة ونصف أو أكثر فهو معذور في تركها، ولو في غير يوم العيد كما هو الواقع من الكثير.
وثانيا: ما حصل من تسهيل العلماء في الإذن بتعدد الجوامع، والإكثار منها، فالمدينة النبوية في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين ليس فيها مسجد تقام فيه الجمعة سوى المسجد النبوي، أما الآن فقد توسع الناس وأكثروا من الجوامع، حتى بلغت العشرات هناك، ويقال كذلك في مكة المكرمة، والطائف، وجدة، والرياض، وغيرها، فقد كثرت الجوامع بل وتقاربت، بحيث يسمع بعضهم خطبة الآخر وتكبيراته، فضلا عن الأذان بل تكررت في القرى الصغيرة وملحقات المدن، وإن كان هذا التوسع خلاف المشهور من أقوال العلماء، وخلاف ما شرعت له(64/294)
الجمعة من اجتماع أهل البلد، وتعارفهم، وتقاربهم، ولكن حصل هذا التساهل بسبب كثرة الزحام، وصغر المساجد، أو التعلل بالمشقة والضعف ونحو ذلك، وبكل حال فإن تقارب الجوامع وكثرتها تزول معه المشقة في شهود الجمعة لمن حضر صلاة العيد وغيره، فلا يجوز التسهيل في أمرها، والترخيص في حضورها أو تركه، وإن كان ذلك القول المشهور في المذهب الحنبلي؛ نظرا لزوال العذر أو تخفيفه كما ذكرنا، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(64/295)
صفحة فارغة(64/296)
الحكمة في تذييل آيات الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر
للدكتور حسين بن محمد شريف هاشم (1) .
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن القرآن حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم، هو حجة الله وعهده، ووعده ووعيده، به يعلم الله الجاهل ويعمل العاقل، وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، بشير الثواب نذير العقاب فطوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه ومفتاح لبه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (2) .
فإن الله اصطفى لهذه الأمة محمدا صلى الله عليه وسلم من
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بجازان.
(2) سورة طه الآية 113(64/297)
بين سائر الأنبياء وفضله عليهم؛ لما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (1) » .
وأنزل عليه القرآن الكريم وتكفل عز وجل بحفظه وصيانته فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) وجعله هداية للمؤمنين فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) .
وقد وقع اختياري على بحث أحسب أن له أهمية كبيرة في المجال العلمي، والتربوي الإيماني، ألا وهو (الحكمة في تذييل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
ويرجع سبب اختياري للموضوع إلى أن البحث فيه مفيد فائدة جليلة لطلاب العلم والمعرفة، وتتجلى فائدته من خلال صلة هذا البحث بعلوم الدراسات القرآنية واللغة العربية والعلوم الإسلامية والثقافية. بل وتعد الكتابة في هذا البحث من جملة الكتابة حول التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
ولقد تناولت الكتابة في هذا البحث على وفق المطالب الآتية:
__________
(1) الحديث من صحيح مسلم كتاب المساجد (523) 1 \ 371.
(2) سورة الحجر الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 9(64/298)
المطلب الأول: تعريفات (التذييل، الأمر، المعروف، النهي، المنكر) .
المطلب الثاني: مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المطلب الثالث: مكانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
المطلب الرابع: الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة.
المطلب الخامس: أجر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
المطلب السادس: صفات الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
المطلب السابع: نموذج من حياة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وأخيرا فقد بذلت هذا الجهد وحرصت فيه أن أستدل بالحديث الصحيح فإن كان وروده في الصحيحين اكتفيت بتخريجه منهما، وإن كان غير موجود فيهما فأسنده إلى مرجعه بذكر الكتاب والباب ورقم الحديث إن وجد، وأن أوثق الأقوال من مصادرها وأسير في صياغة البحث على طريقة علمية بلغت في ذلك جهدي أن تكون صوابا، فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل، وما كان فيها من خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله منه.
وأسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، ونسأله(64/299)
أن يجزل لنا المثوبة والأجر يوم أن نلقاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(64/300)
المطلب الأول: تعريفات (التذييل، الأمر، المعروف، النهي، المنكر)
1 - تعريف (التذييل) في اللغة والاصطلاح:
لغة: مصدر ذيل للمبالغة، وهو لغة جعل الشيء ذيلا للآخر.
واصطلاحا: أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول، تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه، ليكون معه كالدليل ليظهر المعنى عند من لا يفهم ويكمل عند من فهمه، كقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} (1) ثم قال عز من قائل: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (2) أي: هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور، فإن جعلنا الجزاء عاما كان الثاني مفيدا فائدة زائدة (3)
__________
(1) سورة سبأ الآية 17
(2) سورة سبأ الآية 17
(3) البرهان في علوم القرآن 3 \ 68.(64/300)
2 - تعريف (الأمر) :
الأمر معروف، نقيض النهي، يأمره أمرا وإمارا فائتمر، أي قبل أمره، قال تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) ، أي: أمرنا للإسلام، وقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (2) ، أمر
__________
(1) سورة الأنعام الآية 71
(2) سورة النحل الآية 1(64/300)
الله ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب (1)
__________
(1) اللسان مادة (أمر) 1 \ 26.(64/301)
3 - تعريف (المعروف) :
المعروف ضد المنكر، وهو اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه (1) .
والمعروف اصطلاحا: كل ما كان معروفا ففعله مستحسن غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله معروفا؛ لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله (2) ، وقيل: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات (3)
__________
(1) تاج العروس مادة (عرف) 6 \ 192.
(2) تفسير الطبري 4 \ 30.
(3) اللسان مادة (عرف) 9 \ 240.(64/301)
4 - تعريف (النهي) : خلاف الأمر، نهاه ينهاه نهيا فانتهى وتناهى كف، ونفس نهاة منتهية عن الشيء، وتناهوا عن الأمر وعن المنكر نهى بعضهم بعضا، يقال: كفي الشيب والإسلام للمرء نهيا وردعا (1)
__________
(1) اللسان مادة (نهى) 15 \ 344.(64/301)
تعريف (المنكر) :
الإنكار ضد العرفان، وأصله: أن يرد على القلب ما لا(64/301)
يتصوره، كقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} (1) ، {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (2) وقد يستعمل فيما ينكر باللسان، وسبب الإنكار باللسان هو الإنكار بالقلب لكن ربما ينكر اللسان الشيء وصورته في القلب حاصلة، ويكون في ذلك كاذبا كقوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (3) وقوله: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} (4) .
وفي الاصطلاح: المنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم الشريعة بقبحه، وإلى ذلك قصد بقوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) ، {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (6) (7)
__________
(1) سورة هود الآية 70
(2) سورة يوسف الآية 58
(3) سورة النحل الآية 83
(4) سورة غافر الآية 81
(5) سورة التوبة الآية 112
(6) سورة المائدة الآية 79
(7) المفردات ص 505(64/302)
المطلب الثاني: مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يرد في القرآن الكريم أحيانا وعد من الله للآمرين بالمعروف(64/302)
والناهين عن المنكر بالفوز والنجاة كما في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
ومادة الفلاح في اللغة بمعنى: البقاء والظفر وإدراك المنية، وذلك ضربان: ديني ودنيوي؛ فالدنيوي الظفر بالسعادة التي تطيب بها حياة الأمة. والديني الظفر بعمل الطاعات. ومنها قول المؤذن: (حي على الفلاح) أي: الظفر الذي جعله الله لنا بالصلاة (2) .
فالذي يقوم بتنفيذ أمر الله بالقيام بالواجب الذي كلف الله به أولياءه ابتغاء مرضاة الله فإنه يدرك مناه، ويظفر بموعود مولاه بالفوز الذي لا نظير له، وهو الجنة التي وعدها الله المتقين الأبرار؛ ذلك لأنهم اشتغلوا بدلالة الناس إلى الخير والمعروف، يقومون برسالات الله متأسين في ذلك بخير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه سبيله كما في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) فختم الله الآية التي فيها الدعوة إلى الخير بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4)
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك؛ لأن هذه الجملة حال من (أمة) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) بصائر ذوي التمييز 4 \ 213.
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) سورة آل عمران الآية 104(64/303)
فأمة الإسلام حالها يهتم بالدعوة إلى الخير وأفرادها كذلك، فكل عضو في هذه الأمة همه الدعوة إلى الخير، والقيام به آناء الليل وأطراف النهار؛ فلذا كتب الله لهم الفلاح وبشرهم به، فتجد في حياتهم الراحة والأنس مع أنهم يجهدون أنفسهم ويبذلون أوقاتهم وأموالهم ويسخرون كل ما آتاهم الله من فضله في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك بسبب ما حباهم الله به من هذه البشارة.
وأما في الآخرة فهم وفد الرحمن؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (1) تتقدمهم الملائكة وتبشرهم، ويؤمنهم الله من الفزع الأكبر؛ لقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} (2) فالرحمن سبحانه وعدهم بأنه سيجعل لهم ودا؛ لقوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (3) .
ومما يدل على مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (4)
__________
(1) سورة مريم الآية 85
(2) سورة النمل الآية 89
(3) سورة مريم الآية 96
(4) سورة آل عمران الآية 110(64/304)
قال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام.
وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية.
وقال عمر: من فعل فعلهم كان مثلهم (1) .
نالت هذه الأمة الخيرية والتفضيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذا فقد بشر الله بهذه الأمة في الكتب السابقة وبين بأنها خير أمة؛ لأن المنقادين إلى الله منهم أكثر؛ ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، ومتى ما قل فيهم الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: بمعنى يتركون الأمر ويرون المنكر ولا يغيرونه فإن ما ميزهم الله به من التفضيل يزول ويحل محله ما يكون سببا في دمارهم وهلاكهم.
وختم الله الآية بقوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) لأن ذلك التفضيل قد كان لأهل الكتاب؛ لقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3) ، يذكرهم نعمه التي أنعم بها على آبائهم: اصطفاؤه منهم الرسل وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض وتفجير عيون الماء من الحجر وإطعام
__________
(1) تفسير القرطبي 4 \ 170.
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة البقرة الآية 47(64/305)
المن والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكونوا على ذكر من هذا التفضيل والتكريم، وألا ينسوا نعم الله إلى آبائهم فيحل بهم من النقم ما حل بمن نسي نعمه وكفرها.
على العالمين أي. عالمي زمانهم وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى وبعده قبل أن يغيروا. وتفضيل الآباء شرف الأبناء، فقد غمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى هذا التفضيل، فنبههم الله بقوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (1) وفي هذا إشارة إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل والشرف مع ما فيه من التعريف بهم؛ لأنهم مترددون في اتباع الإسلام، وعلى سبيل المثال: وفد نجران ترددوا في أمر الإسلام، فقد ذكر المفسرون أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة، قال لهم العاقب: لا نلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقبنا من بعدنا، فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة.
وفائدة التذييل في هذه الآية: كون الحق عز وجل نوه في أول الآية باليهود والنصارى؛ لأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، والإيمان خير لهم، فقال: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (2) من أجل أن يعلمهم بما يبعث في نفوسهم الخير (3) .
خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ثم بين الله فقال: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) تفسير القاسمي 2 \ 114، 120.
(4) سورة آل عمران الآية 110(64/306)
وهذا ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان فهو خير لهم في هذه الدنيا يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية والاجتماعية، وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير، ثم هو بيان كذلك لحالهم لا يبخس الصالحون منهم حقهم فقال: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وقد آمن من أهل الكتاب جماعة، وحسن إسلامهم منهم عبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية، وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال وفي آية تالية بالتفصيل، أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين وفسقوا عن دين الله (2) .
ومما يدل على مكانة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إسلامنا أن جعله الله أشرف صفة يتصف بها هذا المؤمن فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (3) .
المؤمنون الباذلون أنفسهم لله بثمن ألا وهو جنة عرضها السماوات والأرض وصفهم الله بأوصاف جليلة، أول هذه الأوصاف إخلاصهم في جهادهم وإكثارهم لذكر الله والأوب والإنابة إليه وحده، مع خضوعهم لله وحمدهم له على كل حال
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) التحرير والتنوير 3 \ 264، الآية 52 من سورة آل عمران.
(3) سورة التوبة الآية 112(64/307)
من أحوالهم، في حال صيامهم وقيامهم وجهادهم ودعوتهم وحفاظهم على الدين.
فالحكمة من تذييل هذه الآية بقوله: وبشر المؤمنين من وجوه:
1 - أي: زف إليهم يا محمد الخبر السار الذي يشرح صدورهم ويظهر البشر على وجوههم بأن الله وليهم وسوف يعطيهم عطاء غير مقطوع.
2 - وبشرهم بأن الله حافظهم ومؤيدهم وموفقهم إلى سواء السبيل؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (1) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) 3 - بشارة المجاهدين في سبيل الله بالرضا عنهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (3) {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (4) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (5) أهل الفضل جازاهم الله بالفضل، فالمؤمن الذي هاجر في سبيل الله وبذل نفسه ووقته وحياته من أجل إعلاء كلمة الله.
وختم الله هذه الآية بمنحهم الفوز وبيانه بأنهم هم
__________
(1) سورة يونس الآية 63
(2) سورة يونس الآية 64
(3) سورة التوبة الآية 20
(4) سورة التوبة الآية 21
(5) سورة التوبة الآية 22(64/308)
الفائزون، وهذه البشارة رحمة من الله وكرم لأوليائه؛ بل ومحبة لهم ثم كتب الله لهم الرحمة والرضوان، الذي هو أكبر لذة يجدها المؤمن الصادق في جنات عدن التي فيها النعيم المقيم من كل ما تتخيره نفسه وتستلذه عينه مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا الله، ولذلك ورد في الحديث زف هذه البشارة لهؤلاء المؤمنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «. . . إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض. . . (1) » .
4 - وبشر المؤمنين أي: الراجعين إلى الله بقلوب ملؤها محبة الله والإيمان به والرغبة فيما عنده؛ ولذلك فإنهم يسارعون في الخيرات، ويتضرعون إلى الله رغبة فيما عنده، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (2) وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه (3) ، ولذلك بشرهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (4) استحقوا البشارة من الله؛ لأنهم اجتنبوا الطاغوت من عبادة الأوثان والأصنام وغير ذلك من الأهواء والشهوات، وأقبلوا
__________
(1) الحديث من صحيح البخاري، كتاب الجهاد والبر، باب درجات المجاهدين 3 \ 202.
(2) سورة المطففين الآية 26
(3) تفسير المراغي 10 \ 82
(4) سورة الزمر الآية 17(64/309)
بقلوبهم وأبدانهم إلى ربهم إقبال المنيبين الراجين فيما عند الله من الثواب العظيم فاستحقوا البشارة؛ لأنهم أنابوا إلى ربهم فاستغفروا الله من ذنوبهم، فبشر عبادي يا محمد بالجنة والمغفرة والرضوان.(64/310)
المطلب الثالث: مكانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
مما يرفع مكانة العاملين والمبلغين لرسالات الله علمهم بالله وخشيته؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (1) ومعنى الآية، أي الذين يبلغون أحكام الله وأوامره ونواهيه ويصدعون بها ولا يخافون قالة الناس ولائمتهم ولا يبالون بها في تشريعه، ولا ريب أن سيد الناس في هذا المقام؛ بل وفي كل مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الحسن البصري في وصف المؤمنين الذين يخشون الله، عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم: إن المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا. وفي حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (2) ، هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 39
(2) سورة المؤمنون الآية 60(64/310)
ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات (1) » .
وختم الله الآية بقوله: وكفى بالله حسيبا وفي ذلك فوائد منها:
1 - أن الله يبشر أولياءه الذين يقومون بالنصيحة على الوجه المطلوب يريدون الأجر والثواب منه تعالى فأعلمهم بأنه كافيهم ناصرهم وحافظ لأعمالهم محاسب لهم ومجازيهم عليها بالثواب العظيم.
2 - سنة الله في نصرة أنبيائه وأتباعهم جارية وقد ضرب الله عز وجل أمثلة لذلك؛ فهذا إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام لما كاد له الكفار، وأرادوا أن يحرقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فكفاه الله أذى قومه وأمر الله النار أن تكون بردا وسلاما، وهذا نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم لما قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (2) يريدون بذلك أن يوهنوا قلوبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبنا الله ونعم الوكيل " فكفاه الله عز وجل.
3 - يؤخذ من الآية أن الدعاة إلى الله الذين يبلغون الدعوة إلى الناس فاهمون عالمون بأن الله وليهم، فيخشونه في تبليغ دعوتهم ولا يبالون بالمثبطين والمرجفين، فهم على ثقة بأنهم
__________
(1) الحديث من سنن الترمذي، كتاب التفسير (3175) 5 \ 327.
(2) سورة آل عمران الآية 173(64/311)
على حق، وأن دينهم حق، ويسلكون في سبيل ذلك الأساليب التي فيها الرفق متأسين في ذلك بمنهج الأنبياء والمرسلين، قال تعالى آمرا موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) "هذه الآية فيها عبرة وعظة، وذلك أن فرعون كان في غاية العتو والاستكبار ومع هذا أمر ألا يخاطب إلا بالملاطفة واللين، والمعنى: أي أعذرا إليه وقولا له إن لك ربا ولك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا، ومفاد هذه الآية أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل قريب ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع " (2) .
ومما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من الأسباب الموجبة لرحمة الله قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) ، فالمؤمنون قلوبهم نظيفة، ملؤها الإيمان واليقين والأخوة الصادقة، بعضهم لبعض، يسود بينهم الإيثار والتواد والتعاطف، وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم هذا المجتمع المتماسك فيما رواه النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) تفسير ابن كثير 5 \ 288
(3) سورة التوبة الآية 71(64/312)
بالسهر والحمى (1) »
يأمرون الناس أن يعبدوا الله ويوحدوه، فهو المستحق للعبادة وحده دون سواه، ويأمرونهم بكل ما استحسنه الشرع، وينهونهم عن الشرك وعبادة الأصنام والأوثان وكل ما استقبحه الشرع فإنهم يحذرون الناس منه مع قيامهم الدائم ومحافظتهم على الصلاة بسننها وشروطها وواجباتها، فإن من يحافظ على السنن الرواتب بعد الصلوات من شأنه أن يحافظ على رأس المال وهو الفرض الواجب عليه من الصلوات الخمس مع امتثالهم لله في أدائهم لهذه الفرائض على الوجه الكامل متأسين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتفين أثره ومستنين بسنته، من أجل حصولهم على رحمة الله التي وعدهم بها في قوله: {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (2)
وختم الله عز وجل هذه الآية بقوله: إن الله عزيز حكيم وفي ذلك فوائد جليلة، منها:
الله جل جلاله هو العزيز الذي يعز أولياءه، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3) فإنهم لما آمنوا بالله كتب لهم العزة فقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (4) ، ونصره لأوليائه في الدنيا بإيتائهم الآيات البينات كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (5)
__________
(1) الحديث من صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين (2586) 3 \ 1999.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة المنافقون الآية 8
(4) سورة غافر الآية 51
(5) سورة الأنعام الآية 83(64/313)
وإيتائهم الحجج الظاهرة التي من شأن من تفكر فيها آمن بالله وصدق بما أنزله الله على رسوله، ينصرهم على أعدائهم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (1) ، وفي الآخر ة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويفصل بينهم وبين أعدائهم فيثبتهم ويثيبهم ويجزيهم الجزاء الحسن كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2)
قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) بينا آنفا بعض الدلالات من قوله: (العزيز) وأما قوله: (الحكيم) فمن دلالات هذا الاسم:
الله الحكيم أمر عباده أن يدعو إلى سبيله بالحكمة كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (4) ، فالدعوة دعوة إلى سبيل الله لا لشخص الداعي ولا لقومه فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لا فضل له يتحدث به لا على الدعوة ولا على من يهتدون به وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، وهي النظر في أحوال المخاطبين
__________
(1) سورة الحشر الآية 2
(2) سورة يونس الآية 26
(3) سورة الصف الآية 1
(4) سورة النحل الآية 125(64/314)
وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع بهذه الطريقة حسب مقتضياتها فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه (1) .
وليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الأمر والنهي مع الكبير والصغير والرجل والمرأة والمثقف والجاهل والأمير والحقير والغضوب والهادي، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة بما يناسب السن والثقافة والمركز الاجتماعي لكل فرد، ولا شك أن من يؤتى الحكمة في الإنكار على هذا النحو {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (2) (3) ، والحكمة إتقان العلم والعمل به فإن من عرف الحق وآمن به وعمل بما أمره الله به فإنه قد أوتي خيرا كثيرا إذ بالحكمة سعادة الدنيا والآخرة، أما سعادة الدنيا فإليها تشير الآية: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (4) ، فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها، بل لا تسمى أعمالا صالحة إلا بالإيمان، والإيمان مقتض لها، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح فلنحيينه حياة طيبة، وذلك بطمأنينة قلبه وسكون نفسه وعدم
__________
(1) في ظلال القرآن 4 \ 2202
(2) سورة البقرة الآية 269
(3) فقه الدعوة للبلالي ص34.
(4) سورة النحل الآية 97(64/315)
التفاته بما يشوش عليه قلبه " (1) وأما السعادة للمؤمن في الآخر ة فتكملة الآية تشير إليه بقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) أي: ولنجزينهم في الآخر ة بما أعد لهم من أصناف النعيم الذي يشير إليه الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم (4) » .
ومما يدل على مكانة العاملين قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (5) قال الحسن البصري: هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته، فهذا حبيب الله هذا ولي الله، فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد (6) .
فختم الله هذه الآية بقوله: {وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (7)
__________
(1) تفسير السعدي 4 \ 239.
(2) سورة النحل الآية 97
(3) الحديث من صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها (2824) 3 \ 2174
(4) سورة السجدة الآية 17 (3) {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(5) سورة فصلت الآية 33
(6) مفتاح دار السعادة 1 \ 153
(7) سورة فصلت الآية 33(64/316)
وفي ذلك من الأسرار والحكم الشيء الكثير، فمنه على سبيل المثال:
أولا: في قوله: وعمل صالحا:
1 - زاد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قيام الليل:
إن حياة الآمرين والمبلغين كلها عبادة لله، فوقتهم في الليل يعمرونه بالصلاة تنفيذا لأمر الله في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم والأمر له ولأمته: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) يقول سيد قطب رحمه الله في هذه الآية: " بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد، وبهذه الصلة الدائمة بالله، فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به وهو المصطفى المختار، فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاته، فهذا هو الطريق، وهذا هو الزاد " (2) ، فإذا آووا إلى مضاجعهم ليناموا تتجافي جنوبهم عن الفرش وعن شهواتهم رغبة فيما عند الله وخوفا منه، وقد مدحهم الله بذلك فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 79
(2) في ظلال القرآن 4 \ 2247
(3) سورة السجدة الآية 16(64/317)
يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش (1) ، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا عز وجل من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاة، فيقول ربنا: أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه، من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله عز وجل فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه (2) »
وقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (3) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (4) إنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به (5) .
يقوم المسلم بقيام الليل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى
__________
(1) تفسير ابن كثير 6 \ 364
(2) الحديث من مسند أحمد 1 \ 416.
(3) سورة الذاريات الآية 17
(4) سورة الذاريات الآية 18
(5) تفسير الرازي 27 \ 203(64/318)
الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا (1) » ، وعن المغيرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا (2) »
2 - تلاوة القرآن الكريم:
المسلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يحافظ على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار من أجل أن يحظى بثواب الله العاجل والآجل، ومن أجل أن يكون القرآن شافعا له يوم القيامة؛ لما جاء في حديث أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. . . (3) » . الحديث، وقد وصف الله الذين آتاهم الكتاب بأنهم يتلونه حق تلاوته كما قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (4) .
وقراءة القرآن تشهدها الملائكة كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (5) ؛ لما جاء في حديث أبي
__________
(1) الحديثان من صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي 2 \ 44.
(2) الحديثان من صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي 2 \ 44.
(3) الحديث من صحيح مسلم، كتاب المسافرين باب فضل قراءة القرآن (804) 1 \ 553
(4) سورة البقرة الآية 121
(5) سورة الإسراء الآية 78(64/319)
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح (1) » .
وقد ورد في قصة أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من القرآن سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت. . . فانصرف إلى ابنه يحيى وكان قريبا منها فأشفق أن يصيبه، فلما آخره رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري ما ذاك؟. قال: لا يا رسول الله، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم (2) »
3 - التزود بالعلم والعمل:
لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (3) ، العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، وهذا العلم الذي أمر الله به هو
__________
(1) الحديث من صحيح البخاري، كتاب التفسير باب قوله: إن قرآن الفجر 5 \ 227.
(2) الحديث من صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزول السكينة 6 \ 106.
(3) سورة محمد الآية 19(64/320)
العلم بتوحيد الله وهو فرض عين على كل إنسان لا يسقط عن أحد كائنا من كان بل كل مضطر إلى ذلك (1) .
فالعلم من الأمور الأساسية التي لا يستغني عنها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقد رفع الله تعالى مكانة العلم، وجعل للعلماء العاملين منزلة من أرفع المنازل فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (2) وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} (3) .
ثانيا: قوله: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4)
فالمسلم الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وتذوق حلاوة الإيمان والعمل الصالح، يسعد بأن يقول للناس جميعا بأني من المسلمين الذين أسلموا نفوسهم لله وطهروا قلوبهم من الأدران والمعاصي وتحابوا في الله وتآخوا في الله، فهو وإياهم بمثابة البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا كما جاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (5) »
__________
(1) تفسير السعدي 7 \ 73.
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة الزمر الآية 9
(4) سورة فصلت الآية 33
(5) الحديث من صحيح البخاري كتاب المظالم، باب نصر المظلوم 3 \ 98.(64/321)
ولقد جاء في القرآن الكريم موقف المؤمنين بعضهم من بعض في توادهم ومحبة بعضهم، حتى بلغوا في محبتهم مبلغا عظيما مدحهم الله عليه وأثنى عليهم ورضي عنهم وكتب لهم الفلاح، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) وهم يحرصون على العمل للخير في ضمن المجتمع المسلم الذي يسوسه أهل العلم الذين يخشون الله عز وجل ويبلغون رسالات الله وشعارهم المحبة في الله.
ولذا يسود بينهم التعاطف والتراحم؛ لأنهم في مجتمع إيماني يدين لله بالوحدانية ويحرص أفراده على أن يكون رأيهم واحدا وإن اختلفت أساليب دعوتهم فلا يؤثر ذلك على اختلاف قلوبهم؛ لأن أمرهم مجتمع آخذين بذلك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنه حيث قال: خطبنا عمر رضي الله عنه بالجابية فقال: " يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهم الشيطان، عليكم بالجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد
__________
(1) سورة الحشر الآية 9(64/322)
بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" (1) ، والجماعة هم المؤمنون بالله وبرسوله المتحابون في الله ومن أجل الله والمؤتلفون على دين الله القائمون بأداء ما أوجبه الله عليهم على وفق مراد الله فيسود بينهم التعاون والتكافل والتراحم.
__________
(1) الحديث من سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (2165) 4 \ 465.(64/323)
المطلب الرابع: الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - دين وعبادة:
يلتزم المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل أن يحصل على النور والبصيرة، فالله يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
هذا مثل من هداه الله للإسلام بعد الضلالة وبصره بنور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء فيميز بين الحق والباطل، والمهتدي والضال بمن كان ميتا فأعطاه الحياة، وما يتبعها من القوى المدركة والمحركة، ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص، فهو متحير على الدوام، منها أي: مثل ذلك التزيين البليغ {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) من فنون الكفر والمعاصي (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2) سورة الأنعام الآية 122
(3) تفسير القاسمي 6 \ 780.(64/323)
فالداعي إلى الله من جملة الذين اكتسبوا نور الله واستجابوا لداعي الله، قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (1) ، فالداعي إلى الله يمشي بهذا النور، وهو ملتزم بمنهج الله داع إلى الله على بصيرة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) ، فمن اتقى الله وأذعن لأمر الله اكتسب جزاءه الذي يمنحه الله المؤمنين والمؤمنات، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (3) والفرقان أصله الفرق والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضار والنافع.
والمعنى: إن تتقوا الله فتتبعوا أوامر دينه وتسيروا بمقتضى سنته، في نظام خلقه، يجعل لكم في نفوسكم ملكة من العلم، تفرقون بها بين الحق والباطل، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى.
وبهذا النور وهذه البصيرة سار سلف الأمة من الخلفاء الراشدين، والصحابة الفاتحين والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فنصرهم الله على أعدائهم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 193
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة الأنفال الآية 29(64/324)
نلتزم بالدعوة إلى الخير لنبرهن عن قوة إيماننا لله ربنا: قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (1) " أي: ولنختبركم بالأمر بالجهاد والدعوة إلى الله وسائر التكاليف حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة في دينه من ذي الشك والحيرة فيه، والمؤمن من المنافق {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (2) ونعرف الصادق منكم في إيمانه من الكاذب " (3) ، وقيام المسلم بشعيرة الدعوة إلى الله فيه دليل على تقواه وإيمانه به؛ لما جاء في حديث أبي بكر وأبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (4) »
والشاهد من إيراد الحديث أن الاشتغال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه دلالة على قوة الإيمان واليقين بالله.
وأما في حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا
__________
(1) سورة محمد الآية 31
(2) سورة محمد الآية 31
(3) تفسير المراغي 9 \ 72 سورة محمد.
(4) الحديث من صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) 1 \ 69.(64/325)
يؤمرون، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) »
فنفي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان -الذي يرى المنكر فلم يجاهد نفسه في تغييره- الإيمان فقال: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وشهد بالإيمان لمن غير المنكر بيده أو بلسانه أو بقلبه، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو صاحب رسالة أيقن بها ودعا إليها الناس الضالين عن الهدى والحائرين في أودية الضلالة، الذين استجابوا لنزغات الشياطين ودعوات المفسدين، فصاحب الخير حريص على بني جنسه أن يسحبهم من الغواية إلى الهداية، قال تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
وتذييل هذه الآية له أسرار بديعة، منها:
أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للعالمين أن هدى الله هو الهدى وأننا من ثم أمرنا أن نسلم وننقاد لله رب العالمين، فهو وحده الذي يستسلم له العاملون، فالعوالم كلها مستسلمة له، فما الذي يجعل الإنسان وحده -من بين العالمين-
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .
(2) سورة الأنعام الآية 71(64/326)
يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرض.
وفي إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان (1) .
ويقوم الآمر بالدعوة إلى الله من أجل أن يحفظ الله له شأنه وعمله وأهله وذريته؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) ، يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولا سديدا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وعدهم إن فعلوا ذلك أن يصلح لهم أعمالهم، أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها، وختم الله هذه الآية بقوله: {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) عطف على جملة {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (6) أي: وتفوزوا فوزا عظيما إذا أطعتم الله بامتثال أمره، وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات،
__________
(1) في ظلال القرآن 2 \ 1132.
(2) سورة الأحزاب الآية 70
(3) سورة الأحزاب الآية 71
(4) سورة الأحزاب الآية 71
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة الأحزاب الآية 71(64/327)
فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل، وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجمله واحدة " (1) .
فقد فاز أكد ذلك بقوله: فوزا عظيما أي: ظفروا بجميع مراد الله في الدنيا والآخرة.
الفوز في اللغة: النجاة والظفر بالأمنية والخير، والفوز هو الظفر بالخير والنجاة من الشر، يقال: فاز بالخير وفاز من العذاب (2) .
وقد بين الله جزاء المتقين في القرآن فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} (3) ، المتقين الذين عملوا بأمر الله، ووقفوا عند حدود الله، ولم يتعدوها فأثابهم الله بالفوز العظيم، وهو النجاة من نار جهنم، كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (4) ، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (5) .
نلتزم بالقيام بالدعوة إلى الله؛ لأن عاقبة الأمور لله عز وجل، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6) ، قال ابن عباس: المراد المهاجرون والأنصار والتابعون لهم
__________
(1) التحرير والتنوير 11 \ 123 سورة الأحزاب.
(2) اللسان مادة (فوز) 5 \ 392.
(3) سورة النبأ الآية 31
(4) سورة آل عمران الآية 185
(5) سورة النور الآية 52
(6) سورة الحج الآية 41(64/328)
بإحسان، قال الحسن: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة، وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك (1) .
ختم الله الآية بقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) وفي ذلك من الحكم الشيء الكثير، منها:
إعلام الله لعباده المؤمنين المقيمين للصلاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأن عاقبة الأمور له سبحانه وتعالى لا لغيره، فعليهم أن يؤمنوا بذلك ويعملوا صالحا، ويبلغوا دعوة ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ابتغاء الأجر من الله، ويبذلوا أنفسهم وأوقاتهم وأموالهم في سبيل الله، فإذا فعلوا ذلك جاءهم نصر الله وتحقق وعد الله بأن العاقبة للمؤمنين. هذا قضاء الله وأمره نافذ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) ، فالصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم مكنهم الله في جزيرة العرب بقيادة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، فلما قضى نحبه عليه الصلاة والسلام جعل الله عاقبة الأمور لأوليائه وأخزى أعداءه وأذلهم وأركسهم، فنصرهم الله على الدولة العظمى الفارسية التي كانت تصول وتجول في عصر كسرى وأبنائه، ونصرهم الله على الدولة الرومانية التي أخزاها الله وجعل عاقبة الأمور للقائمين بشرعه العاملين بسنة نبيه من الصحابة
__________
(1) تفسير القرطبي 12 \ 73.
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة يس الآية 82(64/329)
والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين.
نلتزم بالدعوة إلى الله تحقيقا لوعد الله عز وجل:
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
فإنه سبحانه وتعالى وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة أن يستخلفهم في الأرض، فيكونون هم الخلفاء المتصرفين في تدبيرها، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، فهو دين الإسلام الذي فاق الأديان كلها، وأنه يبدلهم أمنا من بعد خوفهم. . . فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض. . . فقام صدر هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوق على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها وحصل الأمن التام والتمكين، فهذه من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله به (2) .
يقوم الآمرون بتبليغ رسالات ربهم وهم يعلمون أن الله مؤيدهم وناصرهم، ويدافع عنهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (3)
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) تفسير السعدي 5 \ 439.
(3) سورة الحج الآية 38(64/330)
وقد ضمن الله للمؤمنين أنه هو يدافع عنهم، ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه، وظاهر حتما على عدوه.
وختم الله الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (1) فعلم بأنه تعالى يحب أولياءه المؤمنين به المتبعين لسنة نبيه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، ومن أحبه الله تولاه، ومن تولاه نصره وخذل عدوه، ولكن بشرط أن يعمل؛ لأن الله جعل هذه الدنيا دار ابتلاء، فمن آمن بالله واعتصم بحبل الله عاملا بكتاب الله متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل على الخير في الدنيا والآخرة {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} (3)
__________
(1) سورة الحج الآية 38
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النمل الآية 89(64/331)
المطلب الخامس: أجر العاملين من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
أمر الله المؤمنين أن يتأسوا بالأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم وسلوكهم، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (1) يقول تعالى ذكره: لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 6(64/331)
الذين ذكرهم إبراهيم والذين معه من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم لمن كان يرجو الله واليوم الآخر أي: لمن كان منكم يرجو ثواب الله والنجاة في اليوم الآخر (1) .
ثم ختم الله هذه الآية بقوله: ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ومعنى هذا التذييل أي: ومن يتول عما أمره الله به وندبه إليه منكم ومن غيركم، فأعرض عنه وأدبر مستكبرا، ووالى أعداء الله وألقى إليهم بالمودة، فإن الله هو الغني عن إيمانه وطاعته إياه وعن جميع خلقه، الحميد بآلائه ونعمائه التي أسبغها عليهم.
فهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول الله عنه: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} (2) ، هكذا إعلان صريح واضح حتى يعلموا أن الذي يبلغهم الرسالة آناء الليل وأطراف النهار ويجدد في أساليب دعوته، كما قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} (3) ولكن الجحود والاستكبار جعلهم مستنكفين بنبي الله نوح ويفرون منه وهو يلاحقهم بالدعوة في منتدياتهم وخلواتهم: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} (4) ، يقوم بهذا الجهد كله من أجل أن يؤمن هؤلاء القوم بالله رب العالمين.
وهذا نبي الله هود عليه الصلاة والسلام يعلن لقومه فيقول:
__________
(1) تفسير الطبري 28 \ 42.
(2) سورة هود الآية 29
(3) سورة نوح الآية 5
(4) سورة نوح الآية 8(64/332)
{قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} (1) {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) .
ختم الله الآية الأولى بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} (3) الافتراء: الكذب واختلاقه، فهؤلاء القوم مفترون بكذبهم على الله وباتخاذهم الأصنام والأنداد من دون الله.
وختم الله الآية الثانية بقوله: أفلا تعقلون أفلا تعقلون أن عبادة غير الله من الأصنام والأوثان وهي لا تملك جلب نفع ولا دفع ضر، والحال أنكم تصرفون العبادة لها من دون الله، وأنا أدعوكم إلى الله الواحد الأحد الذي له ملك السماوات والأرض وهو ربكم ورازقكم، وهو الذي يحييكم ويميتكم ثم إليه ترجعون.
فأجر العاملين المحسنين من الأنبياء والمرسلين على الله كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) والجنة درجات، كما قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (5) .
وقد ورد في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأل موسى عليه الصلاة
__________
(1) سورة هود الآية 50
(2) سورة هود الآية 51
(3) سورة هود الآية 50
(4) سورة يونس الآية 26
(5) سورة الأنعام الآية 132(64/333)
والسلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر (1) »
وقد وردت مضاعفة الأجر على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الحسنة بعشر أمثالها {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (2) فهنيئا للعاملين المخلصين الذين يغرسون الخير ويضاعف لهم أضعافا مضاعفة.
المرتبة الثانية: الحسنة بسبعمائة ضعف، فبكل درهم أو دينار سبعمائة ضعف {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ، فيزيده زيادة لا حصر لها.
__________
(1) الحديث من صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (189) 1 \ 176.
(2) سورة الأنعام الآية 160
(3) سورة البقرة الآية 261(64/334)
المرتبة الثالثة: مضاعفة الأجر بغير حساب {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، فلهم أجر عظيم لا يقدر قدره إلا الله؛ ذلك لأنهم احتسبوا أجرهم على ربهم وصبروا وصابروا ورابطوا، فحصل لهم الفلاح والفوز برضوان الله في جنة عرضها السماوات والأرض.
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما تتراءون الكوكب في السماء (2) » وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمؤمن لخيمة في الجنة من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا (3) » فإيمان العاملين بالله واليوم الآخر يجعلهم يجتهدون ويجاهدون أنفسهم في ذات الله، كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (4)
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) الحديث من صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف (2830) 2 \ 2177.
(3) الحديث من صحيح مسلم، كتاب صفة الجنة، باب في صفة خيام الجنة (2838) 3 \ 2182.
(4) سورة العنكبوت الآية 69(64/335)
{جَاهَدُوا فِينَا} (1) أي: جاهدوا في الله حق جهاده؛ فتراهم في ليلهم ونهارهم وهم مجتهدون في عبادة ربهم، مخلصين لله راجين فيما عند الله.
خامسا: نلتزم بالدعوة مخافة عقاب الله في الدنيا والآخرة:
فالدعوة إلى سبيل الله نجاة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة؛ نجاتهم من غضب الله عز وجل وفوزهم برضا الله عز وجل، وقد ضرب الله لنا مثلا قرية من قرى بني إسرائيل، قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (2) الآيات، يخبر الله عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق، فرقة ارتكبت المحظور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (3) أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم، قالت لهم المنكرة: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} (4) أي: نفعل ذلك معذرة إلى ربكم فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (5) أي: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} (6) أي: فلما أبي الفاعلون المنكر قبول النصيحة {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} (7)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة الأعراف الآية 163
(3) سورة الأعراف الآية 164
(4) سورة الأعراف الآية 164
(5) سورة الأعراف الآية 164
(6) سورة الأعراف الآية 165
(7) سورة الأعراف الآية 165(64/336)
أي: ارتكبوا المعصية {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (1) فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أم كانوا من الناجين؟ (2) فيقوم المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا من اللعنة التي تحق على من رأى المنكر ولم يغيره، كما بين الله لنا عن قوم من بني إسرائيل أنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، فلذا حق عليهم غضب الله.
قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (5) .
فختم الله الآية الأولى في هذا السياق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون عصوا الله عز وجل وعصوا رسله، وكذبوا بما أنزله الله عليهم وكانوا يعتدون الاعتداء: هو مجاوزة الحد والظلم، فقد جاوزوا حدود الله وتعدوها فضلوا وأضلوا إضافة إلى اعتدائهم وظلمهم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 165
(2) تفسير ابن كثير 3 \ 394. \ 8
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79
(5) سورة المائدة الآية 80(64/337)
وختم الله الآية الثانية {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1) بئس: نقيض نعم، فبئس تشمل جميع المذام، كما أن نعم تقتضي جميع المحامد، والمعنى في الآية جميع المذام لاصقة بهؤلاء الذين تولوا قوما غضب الله عليهم، مع أنهم يعلمون كتاب الله وسنة رسول الله ويخالفون ذلك، فلبئس الفعل فعلهم " (2) .
نلتزم بالقيام بالدعوة إلى الخير لاستبقاء الناس:
قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (3) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (4) .
هذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله في صورة من صوره، فيوجد من ينهض لدفعه، هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون ويفسد فيها المفسدون فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال وإما بهلاك الانحلال والاختلال.
فأصحاب الدعوة إلى عبودية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم
__________
(1) سورة المائدة الآية 79
(2) عمدة الحفاظ ص37.
(3) سورة هود الآية 116
(4) سورة هود الآية 117(64/338)
والشعوب، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار العبودية لله وحده، الواقفين للفساد والظلم بكل صوره. . . إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع (1) .
وختم الله هذا السياق بقوله: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (2) وهذا فيه دلالة على أن الصلاح والإصلاح في أي مدينة أو قرية أو فئة من الناس يكون سبب خير على البشرية جمعاء بل وعلى الطير في الهواء والهوام والحيوانات وجميع الدواب التي تدب على وجه الأرض {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (3) أي: صالحون في أنفسهم مصلحون لغيرهم، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (4) »
وفي حديث زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها. . . إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي (5) »
والغرباء هم العلماء العاملون، وطلبة العلم المخلصون،
__________
(1) في ظلال القرآن 4 \ 1933.
(2) سورة هود الآية 117
(3) سورة هود الآية 117
(4) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(5) الحديث من سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا (2630) 5 \ 18.(64/339)
ويشمل أيضا كل من أصلح نفسه وسعى في إصلاح غيره من أولي الألباب.(64/340)
المطلب السادس: صفات الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
1 - استجابتهم لله في أخذ أساليب الدعوة على وفق ما أمر الله به:
أمر الله المسلمين بالدعوة إلى سبيله فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) فأمرهم أولا بالدعوة إلى سبيله، ثم بين لهم الصفات اللازم توفرها فيمن أهل نفسه لدعوة الغير، فالداعية يجب أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة أولا، ثم بالموعظة الحسنة التي من شأن من يتقنها ويجيدها يؤثر فيمن يدعو، ثم المناظرة والمجادلة بالحسنى التي هي الأخلاق الفاضلة. وختم الله الآية: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2) ليبين للدعاة بأن الله هو العليم بالمنحرف الضال، وبالصالح المهتد، وفي هذا فائدة جليلة وهي أن يبذل الداعية إلى الله السبب والوسيلة التي استحسنها الشرع، فإن أدت إلى فائدة مرجوة فتلك بغتيه، فإن لم تؤد إلى أي فائدة تذكر فيكون قد أدى واجبه على صورة مرضية والنتائج على الله، إن شاء الله عجلها وإن شاء بقدرته أخرها، فهو الحكيم العليم سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة النحل الآية 125(64/340)
2 - الشفقة على المؤمنين والرحمة بهم:
قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (1) ، أي: وقولوا لهم القول الطيب وجادلوهم بأحسن ما يحبون (2) .
والداعي إلى الله مطالب بالرفق واللين بمن يدعوه، وأن يقول له قولا طيبا رفيقا رقيقا، ولو كان هذا المدعو فاجرا أو طاغية، فالله سبحانه أمر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام أن يخاطبا فرعون الذي طغى وادعى الربوبية فقال الله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (3) {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (4) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) ، أي: سهلا لطيفا، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال، لعله بسبب القول اللين يتذكر ما ينفعه فيأتيه، أو يخشى ما يضره فيتركه، فإن القول اللين داع لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه (6) .
وختم الله هذا السياق بقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (7) فإن الآمر المبلغ لدين الله يجب أن يستجيب لمن يدعوه إلى الله، بل ويحرص على ذلك ويدعو الله قبل مباشرته في دعوته وفي أثناء دعوته وبعد ذلك، في كل حال وهو يتضرع إلى الله أن يستجيب هذا الإنسان لربه ويؤمن به.
__________
(1) سورة البقرة الآية 83
(2) روح المعاني 1 \ 308
(3) سورة طه الآية 42
(4) سورة طه الآية 43
(5) سورة طه الآية 44
(6) تفسير السعدي 5 \ 159.
(7) سورة طه الآية 44(64/341)
وهذا يدل على أهمية الأخلاق الفاضلة من الرفق والرحمة واللين وطيب الكلام مع من يدعوه، لعله يتذكر ويتعظ، ويفر إلى الله عز وجل، ويقبل إليه منيبا تائبا، أو يخشى الله عز وجل، فيبادر بالإذعان لأمر الله وبطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أهمية الرفق والرحمة في الدعوة إلى الله ما حباه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) "فهي رحمة الله نالته ونالتهم، فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيما بهم لينا معهم، ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر، فالناس في حاجة إلى كنف، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم. . . فهم في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا. . . هكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس " (2) .
وقد حثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) في ظلال القرآن 1 \ 500.(64/342)
يوم القيامة؟ فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثا، قال القوم: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقا (1) »
__________
(1) الحديث من مسند أحمد 2 \ 185.(64/343)
3 - محبة بعضهم بعضا:
المبلغون لأمر الله إلى عباد الله لا بد أن يسود بينهم الإخاء الصادق الذي يكون في الله ومن أجل الله، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف به في النار (1) »
وأول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم بعد بنائه المسجد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبلغوا فيها أعلى درجات الإخاء، ومدحهم الله لذلك في محكم التنزيل فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) .
وختم الله الآية بقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
__________
(1) الحديث من صحيح البخاري، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل على الكفر 8 \ 56.
(2) سورة الحشر الآية 9
(3) سورة الحشر الآية 9(64/343)
هم المفلحون لأنهم انتصروا على أنفسهم وآمنوا بربهم وصدقوا بنبيهم وآثروا إخوانهم على أنفسهم بأموالهم وديارهم، بل وطابت أنفسهم بما حظي به إخوانهم من المهاجرين من مال الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، فكانت النتيجة السعادة والفوز بالحياة الطيبة الآمنة في الدنيا، وبالفوز برضوان الله في جنات النعيم.
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
فذكرت هذه الآية جملة من صفات المؤمنين:
1 - ولاء بعضهم لبعض ومناصرة بعضهم بعضا في السراء والضراء.
2 - أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
3 - محافظتهم بإقامة الصلاة في وقتها في بيوت الله.
4 - يؤتون الزكاة.
5 - طاعتهم لله ولرسوله.
وذيل الله الآية بقوله: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) فمن اتصف بهذه الصفات فإنه سيحظى بإذن الله برحمة الله التي قال عنها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (3)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة الأعراف الآية 156(64/344)
وهو العزيز الذي كتب العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، وهو الحكيم الذي يمن على عباده ويهديهم لحكمته ويؤتيهم إياها كما قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 269(64/345)
المطلب السابع: نموذج من حياة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
النموذج الأول:
من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو خليل الله إبراهيم الذي قال فيه ربه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} (1) . فذكر الله ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئا أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر! (2) لقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (3) فختم الله الآية بقوله: إنه كان صديقا نبيا فجمع له
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 51
(2) قصص الأنبياء، ص 124.
(3) سورة مريم الآية 41(64/345)
بين الصديقية والنبوة.
فالصديق كثير الصدق فهو الصادق في أقواله، وأفعاله، وأحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، وإبراهيم عليه السلام أفضل الأنبياء كلهم، بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (1) وقد أمرنا الله عز وجل بالمجاهدة في الالتزام بدينه حق الالتزام فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (2) ، فأمرنا الله بأن نتبع ملة أبينا إبراهيم فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (3) أي: اتبعوا ملة أبيكم، أو نصب على الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم وسماه أبا وإن لم يكن أبا للأمة كلها؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبا لأمته؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده (4) .
وورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد (5) » ، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبونا كما قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (6) ورسولنا صلى الله عليه وسلم من سلالته.
وفي حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: سمعت
__________
(1) تفسير السعدي 5 \ 110.
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة الحج الآية 78
(4) تفسير النسفي 3 \ 112.
(5) الحديث من سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب كراهة استقبال القبلة (8) 1 \ 18.
(6) سورة الحج الآية 78(64/346)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (1) »
فحكى الله لنا في محكم التنزيل إنكار إبراهيم على أبيه وقومه عبادة الأوثان والأصنام؛ لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} (2) {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (3) {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) .
ثم بين الله لنا الأسلوب الأمثل الذي استخدمه إبراهيم عليه السلام مع أبيه فقال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (5) .
ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل لئلا يركب متن المكابرة والعناد، ولا ينكب بالكلية عن محجة الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل (6) .
فالوقفة الأولى: التي بدأ بها إبراهيم أن قال لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (7)
__________
(1) الحديث من صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (2276) 2 \ 1782.
(2) سورة الصافات الآية 85
(3) سورة الصافات الآية 86
(4) سورة الصافات الآية 87
(5) سورة مريم الآية 42
(6) تفسير أبي السعود 5 \ 267
(7) سورة مريم الآية 42(64/347)
علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير، كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، وتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطئ، منبها على خطئه عندما يتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا، ففطن لخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيا مميزا لكانت له شبهة ما، وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحس، إذ قال له: ولا يغنى عنك شيئا ثم انتقل إلى ما يخالج عقل أبيه عن تلقي الإرشاد من أبيه؛ لقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (1) وهذه هي الوقفة الثانية مع أبيه: يقول له فيها: يا أبت وإني من صلبك وترى أني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعده (2) فاتبعني أهدك طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب، وهو رضوان الله والظفر بما أعده في جناته جنات النعيم لمن اهتدى، والنجاة مما أعده الله وتوعد به كل كافر اتبع هواه وعبد شيطانه.
الوقفة الثالثة: بين له السبب الذي أدى به إلى عبادة الأوثان والأصنام والتعلق بها {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} (3) أي: لا تطع
__________
(1) سورة مريم الآية 43
(2) تفسير ابن كثير 5 \ 229.
(3) سورة مريم الآية 44(64/348)
الشيطان في عبادة هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها، وقد بين الله ما عهده إلى بني آدم من أن السبب في الكفر هو طاعتهم للشيطان، فقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (1) ، أي: لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية الله فقد عبده.
وقد حرص إبراهيم عليه السلام في ملاطفة أبيه ومناصحته في بيان سبب كفره وعبادته، وأنه الشيطان الرجيم هو الذي سول للإنسان ودعاه إلى عبادة هذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، فالذي يعبد الأصنام والأوثان فكأنما عبد الشيطان؛ لأنه أطاعه وانقاد له، ولذا فإن إبراهيم وعظ أباه موعظة بليغة وبين له أن الشيطان سول لهم وأملى لهم، وكان للرحمن عصيا.
ثم حذره عاقبة عصيانه، وعبادة الأوثان والأصنام، فقال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (2) وأنت على شركك وعصيانك لما أمر به {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (3) فلا يكون مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)
__________
(1) سورة يس الآية 60
(2) سورة مريم الآية 45
(3) سورة مريم الآية 45
(4) سورة النحل الآية 63(64/349)
يقول الله تعالى مبينا لنا جواب أبي إبراهيم: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (1) فقال إبراهيم مجيبا على أبيه: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (2) {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (3)
__________
(1) سورة مريم الآية 46
(2) سورة مريم الآية 47
(3) سورة مريم الآية 48(64/350)
النموذج الثاني:
لرجل صالح ذكره الله في القرآن فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} (1) الآيات، قال ابن عباس: هو حبيب النجار، سمع بهؤلاء المرسلين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكيا، فجاءهم فأسلم وقال لهم: تسألون أجرا فقالوا: لا، فقال لقومه داعيا لهم: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (2) {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3) . لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا عما يشهد العقل الصحيح بقبحه، وكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له على اتباع الرسل وإخلاص الدين لله وحده، فقال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (4) أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة؟ لأنه هو الذي خلقني وفطرني ورزقني، فإليه مال جميع الخلق فيجازيهم بأعمالهم.
__________
(1) سورة يس الآية 20
(2) سورة يس الآية 20
(3) سورة يس الآية 21
(4) سورة يس الآية 22(64/350)
فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجد، دون من لا يملك نفعا، ولا ضرا، ولا عطاء ولا منعا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا؛ ولهذا قال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} (1) لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا {وَلَا يُنْقِذُونِ} (2) من الضر الذي أراده الله بي إني إذا أي: إن عبدت آلهة هذا وصفها لفي ضلال مبين فجمع في هذا الكلام بين نصحهم، والشهادة للرسل بالرسالة، بالاهتداء والإخبار بتعين عبادة الله وحده.
وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، وذكر البراهين عليها والإخبار بضلال من عبدها، والإعلان بإيمانه جهرا، مع خوفه الشديد من قتلهم فقال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (3) فقتله قومه لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به قيل له في الحال: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ} (4) مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده وإخلاصه، وناصحا لقومه بعد وفاته، كما نصح لهم في حياته {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} (5) {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} (6) أي: بأي شيء غفر لي فأزال عني أنواع العقوبات {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (7) بأنواع المثوبات والمسرات، أي: لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم، لم يقيموا على شركهم (8) .
ومن خلال استعراضنا السريع لتجربة نبي الله إبراهيم عليه
__________
(1) سورة يس الآية 23
(2) سورة يس الآية 23
(3) سورة يس الآية 25
(4) سورة يس الآية 26
(5) سورة يس الآية 26
(6) سورة يس الآية 27
(7) سورة يس الآية 27
(8) . تفسير السعدي 6 \ 341(64/351)
السلام في محاورته لأبيه أستخلص هذه الثمرات:
1 - معاملة أبيه بالحسنى، مع اعترافه له بحق الأبوة وحرصه على استسلامه لأمر الله عز وجل.
2 - استسلامه لأمر الله عز وجل.
3 - سلوكه في دعوته المنهج الأمثل المعتمد على الدليل والبرهان.
4 - الإخلاص في نصحه وتحذيره من عاقبة الشرك، فإن عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة.
5 - موقفه العجيب عندما هدده بالرجم والهجران فقال له: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} (1) فينبغي للداعية أن يعلم بأن هذا الموقف سنة؛ ذكره الله عن نبيه لأجل أن نتمسك به، ووصف الله المؤمنين إذا خاطبهم أو اعترضهم الجاهلون بموقف من مواقفهم الساخرة قالوا: سلاما، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (2) .
ومن خلال استعراضنا لذلكم الرجل الصالح نستفيد هذه الفوائد:
1 - الإخلاص في نصيحة القوم والعشيرة: سلوك الرجال الصادقين المؤمنين بالله.
2 - صبره واحتسابه حينما لاموه وكذبوه في تصديقه
__________
(1) سورة مريم الآية 47
(2) سورة الفرقان الآية 63(64/352)
وإيمانه بهؤلاء المرسلين.
3 - شجاعته ووعيه؛ لقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) فمن رضي بالله ربا وخالقا ورازقا، وآمن بأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ثبت على الحق ونطق بالحق، لا يخاف إلا الله عز وجل.
4 - بيان الداعية لقومه بأن معبوداتهم هذه التي يعبدونها لا تغني شفاعتهم عنهم شيئا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) .
5 - الجهر بإيمانه كما قال الله تعالى عنه: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (3) أعلنها صريحة، وهو يعلم أنهم سيقتلونه ولكنه بذل نفسه لله ومن أجل الله، وفعلا قتلوه، ولذلك أكرمه الله بالجنة التي هي دار الأبرار.
__________
(1) سورة يس الآية 22
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة يس الآية 25(64/353)
صفحة فارغة(64/354)
الإدغام الصرفي
للدكتورة فائزة بنت عمر بن علي المؤيد (1)
الإدغام الصرفي:.
الإدغام في اللغة: إدخال الشيء في الشيء؛ يقال: أدغمت اللجام في فم الدابة؛ أي: أدخلته فيه، قال ساعدة بن
__________
(1) أستاذ النحو والصرف المشارك بكلية الآداب للبنات بالدمام.(64/355)
جؤية:
بمقربات بأيديهم أعنتها ... خوص إذا فزعوا أدغمن باللجم (1)
ومنه إدغام الحروف بعضها في بعض (2) ، وإن لم يكن إدخالها في بعض على الحقيقة (3) ؛ وإنما يكون بوصل حرف ساكن بحرف مثله متحرك من غير فاصل بينهما بحركة ولا وقف؛ فيصيران لشدة اتصالهما كحرف واحد يرتفع اللسان بهما دفعة واحدة شديدة وذلك نحو: قطع وسكر. .، والغرض منه التخفيف (4) ، وكأنهم قد لجئوا إليه فرارا من التضعيف الذي
__________
(1) استشهد به الأزهري في التهذيب 8 \ 78، وابن منظور في اللسان 12 \ 203.
(2) انظر جميع المصادر الواردة في الهامش رقم (4) ص 355.
(3) انظر: أساس البلاغة 1 \ 274. شرح المفصل 10 \ 121. شرح الشافية 3 \ 235.
(4) انظر: علل النحو 555. الإدغام الكبير 40. التبصرة 2 \ 933. الممتع 2 \ 631.(64/356)
يثقل على ألسنتهم؛ ويوضح ذلك سيبويه بقوله: " اعلم أن التضعيف يثقل على ألسنتهم، وأن اختلاف الحروف أخف عليهم من أن يكون من موضع واحد، ألا ترى أنهم لم يجيئوا بشيء من الثلاثة على مثال الخمسة، نحو: ضربب ولم يجئ (فعلل) ولا (فعلل) ولا (فعلل) إلا قليلا ولم يبنوهن على (فعالل) كراهية التضعيف، وذلك لأنه يثقل عليهم أن يستعملوا ألسنتهم من موضع واحد ثم يعودوا له، فلما صار ذلك تعبا عليهم أن يداركوا في موضع واحد، ولا تكون مهلة كرهوه وأدغموا؛ لتكون رفعة واحدة، وكان أخف على ألسنتهم مما ذكرت لك " (1) ، ولذا كان ابن عصفور يشبه عودة اللسان للنطق بالحرف الثاني إلى
__________
(1) الكتاب 2 \ 397، 398. وانظر: المفصل 545. اللباب 2 \ 469. شرح الشافية 3 \ 238، 239.(64/357)
موضعه الأول في الحروف المضاعفة بمشي المقيد؛ الذي يرفع قدمه ويضعها في موضعها أو قريب منها لأن القيد يمنعه عن الانبعاث وامتداد الخطوة(64/358)
وهذا الإدغام يدخل كل الحروف إلا الألف والهمزة (1) ، أما الألف " فلأنها ساكنة أبدا فلا يمكن إدغام ما قبلها فيها، ولا يمكن إدغامها لأن الحرف إنما يدغم في مثله وليس للألف مثل متحرك فيصح الإدغام فيها " ولذا امتنع إدغام الألفين مطلقا، وأما الهمزة " فثقيلة جدا، ولذلك يخففها أهل التخفيف منفردة، فإذا انضم إليها غيرها ازداد الثقل، فألزمت إحداهما البدل. . . فيزول اجتماع المثلين فلا يدغم إلا أن تكونا عينين نحو: سأل ورأس، [فإنها] تدغم ولا تبدل؛ [لأنه] لو أبدلت إحداهما لاختلفت العينان، والعينان أبدا في كلام العرب لا يكونان إلا
__________
(1) انظر: الكتاب 2 \ 411. المقتضب 1 \ 161- 198. التبصرة 2 \ 933. الممتع 2 \ 633، المبدع 245.(64/359)
مثلين "، وأما باقي الحروف إذا اجتمع منها مثلان لزم إدغام الأول في الثاني -على شرطه- ولا يجوز الإظهار إلا في ضرورة الشعر؛ ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
ولا يجوز في الكلام إلا (ضنوا) .
ولما كان الإدغام يحصل بدفن المثل الأول في الثاني، ولما(64/360)
كان هذا لا يتأتى إلا إذا كان الأول ساكنا والثاني متحركا والمثلان المتجاوران ليس بالضرورة أن يلتقيا على هذه الصورة، فكما أنهما قد يأتيان ساكنا ومتحركا، فقد يأتيان متحركا ومتحركا، وقد يأتيان متحركا وساكنا، ولذا انقسم الإدغام إلى ثلاثة أقسام. . . بانقسام صور المثلين:(64/361)
القسم الأول: وهو الذي يكون فيه المثل الأول ساكنا والثاني متحركا، فالإدغام هنا واجب، سواء كانا في كلمة من فعل نحو: قدر وقطع، أو اسم نحو: المد والشد، أم كان في كلمتين نحو: اسمع علما، ولم يذهب بكر، قال الله عز وجل: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} (1) .
يقول ابن يعيش: " يحصل الإدغام ضرورة سواء أريد أو لم يرد؛ إذ لا حاجز بينهما من حركة ولا غيرها، نحو لم يرح
__________
(1) سورة المائدة الآية 61(64/361)
حاتم، ولم أقل لك، فالإدغام حصل فيهما ضرورة؛ لأن الأول اتصل بالثاني من غير إرادة لذلك، ألا ترى أن إسكان الأول لم يكن للإدغام فوجد شرط الإدغام بحكم الاتفاق من غير قصد، وذلك بأن اعتمد اللسان عليهما اعتمادة واحدة؛ لأن المخرج واحد ولا فصل " (1) .
وشروط هذا القسم أربعة: (2) .
أحدها: أن لا يكون أول المثلين هاء سكت، فإن كان هاء سكت لم يدغم، لأن الوقف على الهاء منوي الثبوت (3) ، أما القراءة بالإدغام (4) في قول الله عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} (5) {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (6) فهي ضعيفة من جهة القياس.
الثاني: أن لا يكون الأول همزة منفصلة عن الفاء -كما ذكرت سابقا- وذلك نحو: لم يقرأ أحد، فإن الإدغام في ذلك رديء.
الثالث: أن لا يكون الأول مدة في الآخر، فإن كان مدة في الآخر لم يدغم، وذلك كما في نحو قولهم ظلموا واقدا، واضربي ياسرا، ونحو قوله عز وجل: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (7)
__________
(1) شرح المفصل 10 \ 121.
(2) انظر: مجموعة الشافية 1 \ 327- 329. حاشية الصبان 4 \ 345.
(3) انظر: القطع والائتناف 311. المكتفي في الوقف والابتدا 254.
(4) انظر: إتحاف فضلاء البشر 2 \ 558، 559.
(5) سورة الحاقة الآية 28
(6) سورة الحاقة الآية 29
(7) سورة البقرة الآية 246(64/362)
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (1) وإنما لم يدغم مثل ذلك لئلا يذهب المد بسبب الإدغام (2) .
أما إن كان الأول حرف لين أدغم " وذلك كما في نحو اخشي ياسرا، واخشوا واقدا، قال الله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} (3) .
الرابع: أن لا يكون المثلان واوين أو ياءين، والواو الأولى أو الياء الأولى منهما مبدلة عن همزة؛ نحو: تووي [من: تؤوي] ورييا [من: رئيا] ، إذا خففت همزتهما فلا يلزم الإدغام؛ لأن المثل الأول فيهما عارض، والقراءة بالإدغام في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} (4) مأخوذة من الري؛ وهو: امتلاء الشباب.
وهذا القسم من الإدغام لم يشر إليه ابن مالك في ألفيته،
__________
(1) سورة البلد الآية 14
(2) انظر: الكتاب 2 \ 409- 411.
(3) سورة التغابن الآية 6
(4) سورة مريم الآية 74(64/363)
مع أنه نص عليه في الكافية الشافية، وذكر شروطه فقال:
أول مثلين أدغم إن سكنا ... وليس همزة نأت عن فا البنا
وليس ها سكت ولا مدا ختم ... أو مبدلا إبداله لم يلتزم (1)
__________
(1) شرح الكافية الشافية 4 \ 2175.(64/364)
القسم الثاني: وهو الذي يكون فيه المثلان متحركين، ونظرا لثقل التضعيف -كما بينت ذلك سابقا- لجئوا هنا أيضا إلى الإدغام، ولكن لما كان الإدغام لا يحصل إلا بحرفين ساكن ومتحرك؛ لكي لا تفصل حركة الأول بينهما؛ لأن الحركة أبدا محلها بعد الحرف (1) ، سكنوا الحرف الأول (2) وذلك " بحذف الحركة منه إن كان ما قبله متحركا أو ساكنا هو حرف مد ولين، أو بنقلها إلى ما قبله إن كان ساكنا غير حرف مد ولين " (3) .
__________
(1) انظر: سر صناعة الإعراب 1 \ 28، 29.
(2) انظر: المقتضب 1 \ 206.
(3) الممتع 2 \ 634، وانظر: شرح التصريف 472. المبدع 246. مجموعة الشافية 1 \ 331.(64/364)
فالأول نحو: رد، فإن أصله: ردد، فحذفت حركة الأول لتحرك ما قبله، والثاني نحو: فار وضار، فإن أصلهما: فارر وضارر، فحذفت أيضا حركة الأول ولم تنقل إلى الساكن قبله؛ لأنه حرف مد ولين، والثالث نحو: مكر ومستقر، فإن أصله: مكرر ومستقرر، فنقلت حركة الأول إلى الساكن قبله، لأنه غير حرف مد ولين، ثم أدغم في الثاني.
وهذا القسم من الإدغام له حكمان:
أ- واجب، وذلك عندما يكون المثلان في كلمة واحدة.
ب- جائز، وذلك عندما يكون المثلان في كلمتين، أو ما في حكمهما.
وفيما يلي توضيح لمواضع الحكمين وشروطهما:
أ- إدغام المثلين المتحركين الواجب، وذلك كما في نحو: (رد) من: ردد، و (ضن) من: ضنن، و (لب) من: لبب، وكما في الفعل (صد) من قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} (1) فإدغام الدال في الدال
__________
(1) سورة النساء الآية 55(64/365)
واجب لأنهما قد وقعا في كلمة واحدة، وهذا هو حكم كل مثلين متحركين التقيا في كلمة واحدة ما دامت قد تحققت الشروط التالية:(64/366)
الشرط الأول: أن لا يكون أول المثلين هو (فاء) الكلمة؛ لأنه لا بد من تسكينه، وعندها يتعذر الابتداء به، ولذا وجب الإظهار (1) في نحو: ددن، وببر (2) .
الشرط الثاني: أن لا يتصل أول المثلين بمدغم؛ نحو: قرر وعدد وردد من الأفعال وجسس جمع " جاس " (3) من الأسماء، ففيها جميعا ثلاثة أمثال؛ الأول منها ساكن، والثاني والثالث متحركان، وقد أدغم الأول في الثاني، ويمتنع إدغام الثاني في الثالث؛ لأنه لو أدغم المدغم فيه لالتقى ساكنان ولبطل الإدغام السابق، ولذا امتنع -أيضا- إدغام ما قبله ساكن إلا أن
__________
(1) انظر: المبدع 246، أوضح المسالك 4 \ 409.
(2) الددن: هو اللهو واللعب. تهذيب اللغة 14 \ 69، والببر: هو ضرب من السباع. اللسان 4 \ 37.
(3) الجس: اللمس باليد. تهذيب اللغة 10 \ 448.(64/366)
يكون ذلك الساكن حرف مد ولين، نحو: راد وتمود الثوب وتميد؛ وذلك " لأن الألف والواو والياء قد صار ما فيها من المد بمنزلة الحركة، ألا ترى أن زمان الحرف الممدود أطول من زمان غيره. . . فصار ما فيها من المد يقوم مقام الحركة " (1) .
الشرط الثالث: أن لا يكون المثلان في كلمة على وزن أريد به الإلحاق سواء كان الحرف الملحق هو أحد المثلين كما في نحو قولهم: قردد ومهدد من الأسماء الملحقة بـ (جعفر) وكقولهم شملل وجلبب من الأفعال الملحقة بـ (دحرج) أو كان الحرف الملحق غير المثلين كما في نحو قولهم: هيلل، لمن أكثر من قول: " لا إله إلا الله " فإن (الياء) المزيدة لإلحاق الفعل بـ (دحرج) غير المثلين، أو كان أحد الحرفين الملحقين هو أحد المثلين والآخر غيرهما؛ وذلك في الخماسي من الأفعال المزيدة للإلحاق بـ (احرنجم) نحو اقعنسس، وفي الخماسي من الأسماء المزيدة للإلحاق بـ (سفرجل) نحو: ألندد وعفنجج فإن (النون) في الثلاثة زيدت للإلحاق وهي غير المثلين، والحرف التالي لها في الأمثلة
__________
(1) التبصرة 2 \ 936، وانظر: الكتاب 2 \ 398. المقتضب 1 \ 203. اللباب 2 \ 471.(64/367)
الثلاثة زيد أيضا للإلحاق وهو أحد المثلين.
ففي جميع هذه الصور وأشباهها يمتنع الإدغام؛ وذلك لكي لا يزول بالإدغام موازنة الملحق بالملحق به؛ لأنه لو أدغم (جلبب) -مثلا- للزم تسكين الأول بنقل حركته إلى الساكن قبله، ولأدى ذلك فوات موازنته لـ (دحرج) " فيبطل غرض الإلحاق، والأحكام الموضوعة للتخفيف إذا أدت إلى نقض أغراض مقصودة تركت " (1) .
الشرط الرابع: أن لا يكون المثلان في (اسم) ثلاثي على وزن مخالف لأوزان (الفعل) فلا يدغم مثل: ذلل وجدد وسرر من (فعل) ولا مثل: لمم وكلل وقدد من (فعل) ولا مثل: درر وجدد وغرر من (فعل) ولا مثل: ردد من (رد) لو بني على (فعل) ، وما ذاك إلا لأنها جاءت على أوزان قد استقل
__________
(1) شرح المفصل 10 \ 122، وانظر: التكملة 273، المصنف 2 \ 303.(64/368)
بها الاسم، وبما أن الاسم أصل للفعل (1) والإظهار أصل للإدغام أعطي الأصل للأصل، والفرع للفرع. يقول ابن مالك: " الإدغام فرع على الإظهار، فخص بالفعل لفرعيته، وتبع الفعل فيه ما وازنه من الأسماء دون ما لا يوازن ".
إذن فسبب منع تلك الأسماء من الإدغام هو مجيئها على أوزان من غير أوزان الفعل، ولذا أدغم العرب الأسماء التي هي مثل: صب وطب وضف؛ لأنها من: صبب وطبب وضفف
__________
(1) انظر: أسرار العربية 17.(64/369)
أي: من (فعل) الذي هو مماثل لأحد أوزان الفعل، وكذلك عندما بنوا اسما من (رد) على وزن (فعل) قالوا: رد بالإدغام، لأنه جاء -أيضا- على وزن مماثل لوزن من أوزان الفعل " وكان القياس أن يدغم ما هو على (فعل) كشرر وقصص وعدد لموازنة الفعل، لكنه لما كان الإدغام لمشابهة الفعل الثقيل، وكان مثل هذا الاسم في غاية الخفة؛ لكونه مفتوح الفاء والعين. . . تركوا الإدغام " (1) .
ب- إدغام المثلين المتحركين الجائز: وإنما كان حكم الإدغام هنا جائزا لأن اتصال المثلين ببعضهما ليس بلازم لأن كل واحد منهما في كلمة مستقلة، فلا يلزم أن يلاقي أول الكلمة الثانية آخر الكلمة الأولى، فكان اجتماع المثلين هنا عارضا، إضافة إلى أنهما متحركان، ولكن ومع أن هذا هو الحكم العام في كل مثلين متحركين التقيا وهما منفصلان إلا أن هنالك مراتب يتدرج فيها إدغام هذين المثلين من الأحسن إلى الحسن إلى الممتنع، وملاك الأمر في ذلك هو ما يحيط المثلين من حركة أو سكون، وتوضيح ذلك فيما يلي:
المرتبة الحسنى: وهي التي يقع فيها المثلان بين حروف
__________
(1) شرح الشافية 3 \ 242. وانظر: الكتاب 2 \ 399. المقتضب 1 \ 200. الأصول 3 \ 406.(64/370)
متحركة بحيث يصبح مجموع الحروف المتحركة بهما خمسة فصاعدا، يقول سيبويه: " أحسن ما يكون الإدغام في الحرفين المتحركين اللذين هما سواء إذا كانا منفصلين أن تتوالى خمسة أحرف متحركة بهما فصاعدا " وذلك كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} (1) على قراءة من أدغم (2) اللام في اللام، وكقوله عز وجل: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} (3) على قراءة (4) من أدغم العين في العين، وكقولهم: فعل لبيد، ونزع عمر، وذهب بمالك. ويكون الإدغام في هذه المرتبة بحذف حركة أول المثلين، ولذا كان الإدغام أحسن من الإظهار لما فيه من التخفيف، والإظهار لغة أهل الحجاز (5) .
المرتبة الحسنة: وهي التي يقع فيها المثل الأول بعد حرف مد؛ نحو: المال لك، وعود داود، وقيل لهم. أو يقع بعد حرف لين؛ نحو: ثوب بكر، وجيب بشر. . . . فيجوز الإدغام والإظهار، وذلك كما في قراءة قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (6) {مَالِكِ} (7)
__________
(1) سورة البقرة الآية 22
(2) ذكرها النحاس في إعراب القرآن 1 \ 147، ولم ينسبها إلى أحد. وانظر: الإدغام الكبير 93.
(3) سورة الحج الآية 65
(4) انظر: الإدغام الكبير 106.
(5) الممتع 2 \ 650.
(6) سورة الفاتحة الآية 3
(7) سورة الفاتحة الآية 4(64/371)
لكن الإظهار أحسن؛ وذلك لأن حروف المد واللين ساكنة، وعليه لم تتوال الحركات التي تثقل على ألسنتهم فتجعلهم يدغمون لغرض التخفيف، ولولا المدة التي هي في حروف المد وحروف اللين، والتي تجعلها تقترب من الحروف المتحركة لامتنع الإدغام أصلا كما سيتضح في المرتبة التالية، يقول الرضي: " المد يقوم مقام الحركة، وإنما جاز الإدغام في نحو: ثوب بكر وجيب بكر. . .؛ لأن الواو والياء الساكنين فيهما مد على الجملة وإن لم تكن حركة ما قبلهما من جنسهما، إلا أن مدهما أقل من مدهما إذا كان حركة ما قبلهما من جنسهما " (1) .
وهذا هو الذي جعل التقاء الساكنين هنا مغتفرا؛ وذلك لما في الساكن الأول من المد ولما في الحرف المشدد من التشبث
__________
(1) شرح الشافية 3 \ 248.(64/372)
بالحركة، وكذلك لأن التقاء الساكنين غير لازم إذ قد يزول بالإظهار (1) ، المقدم على الإدغام في هذه المرتبة.
المرتبة الممتنعة: وهي التي يقع فيها المثل الأول بعد حرف (صحيح) ساكن؛ فهنا يمتنع الإدغام (2) سواء كان المثلان حرفين صحيحين؛ نحو: اسم موسى، وابن نوح، أو كانا حرفي علة، نحو: ضبي ياسر، وغزو واقد " وإنما لم يجز الإدغام فيه؛ لأن الإدغام في الكلمتين أضعف منه في الكلمة الواحدة. . . فلما كان أضعف لم يقو على أن يغير له الحرف الساكن بالتحريك، إذ لو أدغمت لم يكن بد من تحريك سين " اسم " وباء " ابن " " (3) .
وإدغام المثلين المتحركين (الجائز) لا يقف عند هذه الصور، بل يتعداها إلى صور أخرى؛ وذلك حين يلتقي المثلان متحركين في كلمة، غير أن حركة أحدهما ليست بلازمة، أو حين يلتقي المثلان في كلمة هي في حكم كلمتين. . . . وفيما يلي تفصيل لهذه الصور: الصورة الأولى: وهي صورة الفعل الماضي الثلاثي الذي عينه ولامه ياءان، وهو ما يسمى بـ (اللفيف المقرون) إذا كان على وزن (فعل) ؛ نحو: حيي وعيي، فإن المثلين في مثل
__________
(1) انظر: المقتضب 1 \ 183 التبصرة 2 \ 935. الممتع 2 \ 651.
(2) انظر: الكتاب 2 \ 407. التكملة 274. التبصرة 2 \ 935. شرح المقدمة الجزولية 3 \ 1153.
(3) الممتع 2 \ 652، وانظر: مجموعة الشافية 1 \ 333.(64/373)
هذا الفعل يجوز فيهما الإدغام وتركه " أما الإدغام فلكونهما قد التقيا في كلمة واحدة، وليس ما يمنع الإدغام، وأما ترك الإدغام فلأن حركة " الياء " الثانية لا تظهر في صورة المضارع؛ نحو: يحيي، ولأن " الياء " الثانية تسقط في صورة الأمر إذا قيل: أحي، وكذلك في صورة الفعل المضارع المجزوم إذا قيل: لم يحي، ولذا عد اجتماعهما في صورة الماضي وكذلك تحركهما كالعارض " والعارض لا اعتداد به " فكذلك ما هو كالعارض. وقد قرئ بالإدغام والفك في قوله عز وجل: {وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (1) .
وقال الشاعر بالإدغام:
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 42(64/374)
وقال الآخر بالفك:
وكنا حسبناهم فوارس كهمس ... حيوا بعدما ماتوا من الدهر أعصرا
والإدغام أكثر (1) .
الصورة الثانية: وهي التي يكون فيها المثلان هما " التاءان " اللذان في أول الفعل الماضي الذي هو على وزن (تفاعل) و (تفعل) نحو: تتابع وتترس، والمضارع منه نحو: تتثاقل وتتنزل، فإنه يجوز فيهما الإدغام والفك.
فأما الإدغام فلأنهما قد التقيا في كلمة واحدة، ويكون بتسكين التاء الأولى وإدغامها في الثانية، مع ضرورة اجتلاب همزة وصل في الفعل الماضي، وضرورة مراعاة أن لا يدغم الفعل المضارع إلا في وسط الكلام ليكتفي بحركة ما قبله
__________
(1) نص على هذا سيبويه 2 \ 387.(64/375)
فيقال في الأول: اتابع واترس، وفي الثاني: قال تثاقل وقال تنزل.
وأما الفك فلأن " التاء " الأولى ليست بلازمة؛ لأنها مزيدة على وزن (فاعل) و (فعل) " فلما لم يلزم صار اجتماع المثلين غير لازم، وما لا يلزم -وإن كان ثقيلا- قد يحتمل لعدم لزومه ".
الصورة الثالثة: وهي التي يكون فيها أحد المثلين هو " تاء " (افتعل) في نحو: اقتتل وافتتح، فيجوز فيه الوجهان: الإظهار والإدغام.
فالإظهار لأن " التاءين " في حكم المنفصلين من جهة أن "تاء" الافتعال لا يلزم أن يقع بعدها مثلها، بل قد يقع بعدها غير " التاء " نحو: اكتسب واقتصر واقترب وابتدع. . . ولا يقع بعدها " تاء " إلا إذا بني (افتعل) من كلمة عينها " تاء " نحو: استتر واكتتب، من: ستر وكتب، ولذا صار المثلان هنا كالمنفصلين وشبها باجتماع المثلين من كلمتين، وكما أنه لا يدغم المثلان(64/376)
المنفصلان إذا كان ما قبل الأول منهما ساكنا صحيحا فكذلك لا يدغم المثلان في (افتعل) .
وأما الإدغام فلأن المثلين قد التقيا في كلمة واحدة، وعند الإدغام يجوز اتباع أحد الطرق الثلاث:
- نقل فتحة " تاء " افتعل إلى " الفاء " وعندها تسقط همزة الوصل لتحرك ما له اجتلبت، ثم تدغم " التاء " في " التاء " فيقال: (فعل) كـ (قتل) .
- حذف فتحة "تاء" افتعل، فتلتقي ساكنة مع "فاء" الكلمة، فتحرك " الفاء " بالكسر على أصل التقاء الساكنين " فتسقط همزة الوصل - أيضا- لتحرك الساكن بعدها، ثم تدغم " التاء " في " التاء " فيقال: (فعل) كـ (قتل) .
- اتباع الخطوات نفسها في الطريقة السابقة إلا أن " التاء " بعد إدغامها تكسر إتباعا لكسرة " فاء " الكلمة، فيقال: (فعل) كـ (قتل) .
أما طريقة الفعل المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول، والمصدر منه فإنها تتغير بتغير طرقه؛ وذلك على النحو التالي:
فمن قال في الماضي (قتل) -بفتح التاء والقاف- قال في المضارع (يقتل) -بفتح القاف وكسر التاء- وفي اسم الفاعل (مقتل) -بفتح القاف وكسر التاء- وفي اسم المفعول (مقتل) بفتحهما.
ومن قال (قتل) -بكسر القاف وفتح التاء- قال في(64/377)
المضارع (يقتل) -بكسر القاف والتاء- وفي اسم الفاعل (مقتل) -بكسر القاف والتاء- وفي اسم المفعول (مقتل) بكسر القاف وفتح التاء.
ومن قال (قتل) -بكسر القاف والتاء- قال في المضارع (يقتل) -بكسر القاف والتاء- وفي اسم الفاعل (مقتل) بكسرهما، وفي اسم المفعول (مقتل) -بكسرهما أيضا- أما المصدر ففي اللغات الثلاث (قتال) بكسر القاف وفتح التاء.(64/378)
القسم الثالث: وهو الذي يكون فيه المثل الأول متحركا والثاني ساكنا وهما في كلمة واحدة، فهذا على ضربين:.
أحدهما: أن يكون سكون الثاني لموجب، ثم قد تعرض ضرورة فيتحرك الحرف لأجلها، مع وجود ذلك الموجب، وذلك كما في الفعل المضارع المجزوم بالسكون، وفعل الأمر المبني(64/378)
على السكون، نحو: لم يردد واردد، فإن المثل الثاني قد سكن لموجب الجزم أو الوقف، إلا أنه إذا التقى بساكن آخر فقد يتحرك، نحو: لم يردد القوم واردد ابنك.
الآخر: أن يكون سكون الثاني لموجب، ولا يجوز أن يحرك بحركة أخرى ما دام ذلك الموجب باقيا، وذلك كما في الفعل إذا اتصل به تاء الضمير أو نونه نحو: رددت ورددنا ورددن ويرددن وارددن.
فالضرب الأول: قد جاء كلام العرب فيه بالإظهار والإدغام؛ أما الإظهار فلغة أهل الحجاز، الذين نظروا إلى سكون الثاني ورأوا أنه لو سكن الأول لأدى إلى التقاء الساكنين فتركوا الإدغام، وبلغتهم جاء القرآن الكريم غالبا، (1) قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (2) ، {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} (3) ، {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} (4) .
أما بنو تميم وغيرهم من العرب فيدغمون في مثل هذه المواضع " ويشبهونه بالمعرب، من حيث إنه قد تتعاقب عليه الحركات لالتقاء الساكنين، كما تتعاقب حركات الإعراب على
__________
(1) فقد جاء قوله عز وجل في سورة الحشر: ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب وغيرها بالإدغام.
(2) سورة البقرة الآية 217
(3) سورة آل عمران الآية 120
(4) سورة لقمان الآية 19(64/379)
المعرب. . . وكأنهم نزلوا الحركة العارضة منزلة اللازمة في " يشد " و" يمد " فأدغم كإدغامه " (1) ، وعلى لغتهم قراءة: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} (2) .
وبلغتهم أيضا أنشد الشاعر:.
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
أما الضرب الثاني: فالمسموع عن العرب -عدا بكر بن وائل - يمنع إدغامه، وعلى هذا نص النحاة المتأخرون وإن اختلفت عباراتهم، كما أن المتأمل في
__________
(1) شرح الملوكي 454.
(2) سورة المائدة الآية 54(64/380)
كلام (1) سيبويه يجده يكاد ينص على ذلك أيضا؛ وما ذلك إلا لأن العرب قد قالت: ظللت، ووددت، وشددت، ورددت. . . وقال الله تعالى: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (2) وقال عز من قائل: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} (3) .
وإنما امتنع الإدغام هنا " لأمرين: أحدهما: تحرك الأول، والحرف الأول متى تحرك امتنع الإدغام؛ لأن حركة الحرف الأول قد فصلت بين المتجانسين فتعذر الاتصال. والأمر الثاني: سكون الثاني، والإدغام لا يحصل في ساكن؛ لأن الأول لا يكون إلا ساكنا فلو أسكن الثاني لاجتمع ساكنان على غير شرطه وذلك لا يجوز " (4) ، وكما امتنع إدغام المتحرك في الساكن هنا، امتنع أيضا في (أفعل) للتعجب نحو: أشدد ببياض وجوه المتقين، وقال الشاعر:.
__________
(1) الكتاب 2 \ 160.
(2) سورة الأنعام الآية 56
(3) سورة الإنسان الآية 28
(4) شرح المفصل 10 \ 121، 122.(64/381)
وقال نبي المسلمين تقدموا ... وأحبب إلينا أن يكون المقدما
وبهذا ينتهي الحديث عن (الإدغام الصرفي) ولم يبق إلا أن أشير إلى ما جاء مخالفا لتلك الأقيسة، خارجا عن تلك القيود، فقد سمع عن العرب: لححت عينه، وألل السقاء، وقطط شعره، ودببت المرأة، وضبب البلد. . . . بفك الإدغام، وقال الشاعر:.
الحمد لله العلي الأجلل ... الواسع الفضل الوهوب المجزل
والله أعلم(64/382)
حديث شريف
عن أبي سعيد الخدري أنه «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ -وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الماء طهور لا ينجسه شيء (1) »
(مسند أحمد حديث رقم (11527)) (وسنن أبي داود -الطهارة- باب (34))
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن أبو داود الطهارة (66) .(64/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1)
(سورة المجادلة، الآية 11)
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11(65/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(65/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(65/3)
المحتويات
الافتتاحية
من وصفات طالب العلم 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 19
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 51
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 89
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 109(65/4)
البحوث
الموت والنوم والعلاقة بينهما للدكتور / مسفر بن سعيد الغامدي 141
الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة لمعالي الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 217
حكم توريث المتسبب في موت مورثه لفضيلة الشيخ / عبد الله بن سليمان بن منيع 261
الدعاء بعد المكتوبة على ضوء السنة المطهرة للدكتور / عبد الله بن سعاف اللحياني 283(65/5)
صفحة فارغة(65/6)
من صفات طالب العلم
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المؤمن في هذه الدنيا في جهاد وفي ابتلاء وامتحان، يقول الله جل وعلا {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (1) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (2) المؤمن في هذه الدنيا في جهاد، جهاد مع نفسه، هذه النفس التي بين جنبيه هو في جهاد معها ليكونها نفسا بتوفيق الله تلومه على ترك الخير وفعل الشر، ثم يرتقي بها إلى أن تكون نفسا مطمئنة، تطمئن للخير وترتاح له، إنه في جهاد مع عدو سلط عليه من القدم، عدو متربص به الدوائر، عدو قعد له في كل طريق يثبطه عن الخير ويصده عنه، عدو أنظره الله إلى يوم الدين فهو في جهاد ليتخلص من وساوسه ومن أباطيله ومن ضلالاته، إنه جهاد منع الأهواء التي إن ابتلي بها صرفته عن طريق الله المستقيم. قال
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 2
(2) سورة العنكبوت الآية 3(65/7)
تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (1) .
والمخرج من الفتن بعد توفيق الله لا يكون إلا بالعلم الشرعي والحرص على طلبه والعمل به، وطالب العلم يتميز بأمور:
فهو حريص على الخير أينما كان، طالب العلم متميز بحبه للخير وسعيه في الخير ودعوته الناس إلى الخير.
طالب العلم هو ذلك الرجل الذي يعرف عند المواقف بحكمته وبصيرته وأناته وتفهمه لكل قضية لكي يعالجها على ضوء الكتاب والسنة.
طالب العلم متميز؛ لأنه عند كل قضية تحل به، فلا تراه مندفعا بلا روية، ولا تراه متسرعا، تراه بعيدا عن حلم وأناة، إن في قلبه غيرة، وفي قلبه حمية لدين الله، وفي قلبه نصرة لدين الله، لكنه يتعقل في أموره كلها، فينطق بالحق من غير شطط وجور، وهو بعيد عن قيل وقال وبئس مطية القوم زعموا.
طالب العلم ينظر في أقواله التي يقولها، وألفاظه التي يتلفظ بها، فيزنها بالميزان الشرعي العادل.
طالب العلم إذا أراد أن يعالج خطأ أو ينبه على خطأ، فإن الاتزان يصحبه في أموره كلها، لا ترى طالب العلم يكيل للناس الأقوال من غير روية، ولا يحكم على الناس بحكم عام من غير
__________
(1) سورة الجاثية الآية 23(65/8)
بصيرة، فالأحكام على الناس تحتاج إلى دليل يعتمد عليه القائل إلى دليل مادي واقعي يعتمد عليه فيما يقول وفيما يتصرف، ومن وزن أقواله قبل أن يقول، ووزن ألفاظه قبل أن ينطق بها، استطاع بتوفيق من الله أن يحقق مراده.
طالب العلم دائما يقرأ قول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1) وطالب العلم يحكم بالحق والعدل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} (2) .
ولا يسيء الظن بالناس مطلقا، ولا يكيل لهم التهم مطلقا، ولكن يتبصر في الأمر ويحاول الدعوة إلى الخير وإصلاح الخطأ بالطريق الشرعي لا بطريق عاطفة تحمله على تصرفات خاطئة، فيتزن في أموره كلها ويحكم على الأشياء من منظار سليم ومن منظار صحيح، لا يكون ممن يتحكم الناس في قوله فينشر كل ما يقولون، ولكن يزن الأمور والأقوال على الميزان العادل حتى يقول كلمة الحق الواضحة التي لا إفراط فيها ولا تفريط.
لا شك في وجود عدو لنا وعدو لديننا وهذا أمر لا أحد
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) سورة المائدة الآية 8(65/9)
ينازع فيه، ولكن الأمة مطالبة قبل كل شيء بإصلاح نفسها، بإصلاح وضعها، أن نصلح أخطاء أنفسنا، وكل منا خطاء وكل منا واقع في خطأ، فنسأل الله أن يوفقنا لإصلاح أنفسنا قبل كل شيء، الله تعالى قال لنبيه وأصحابه {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (1) فبين تعالى أن مصابهم كان من تلقاء أنفسهم لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قد فروا عن الثغر الذي ألزمهم النبي صلى الله عليه وسلم البقاء فيه، فبين الله لهم أن هذا من أنفسهم، قال بعض الصحابة ما كنا نظن ذلك حتى سمعنا هذه الآية فتبصرنا في أنفسنا فعلمنا من أين أتينا.
إن المملكة العربية السعودية بلد التوحيد والإسلام، بلد وفقه الله للخير وأنعم الله عليه نعمة الإسلام، بأن حكم شريعة الله ومحاكمه تحكم بشرع الله وتقيم حدود الله، وبلد حوى الحرمين الشريفين، وبلد يمثل قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، وبلد من الله عليه بالأمن والاستقرار والهدوء والانضواء تحت قيادة نسأل الله لها التوفيق والعون والرشاد.
نحن لا نؤيد الأخطاء، لكن لسنا نجزم بأن هناك عدوا في داخلنا، نحن أمة واحدة، وجماعة واحدة، وإن وجد أخطاء عند
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165(65/10)
بعضنا فعياذا بالله أن نقول هؤلاء أعداء، لا شك أن الأخطاء لا يقرها أحد ولكن هل نقول عند كل خطأ بتقسيم أنفسنا إلى صراع بيننا، لا يا إخوة، نحن أمة واحدة، ونحن ولله الحمد في هذا البلد المبارك أمة واحدة، لكن كون أحد منا يخطئ، الخطأ واقع من الناس ولا بد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم (2) » . فالله تعالى بين لنا أنه خلق أبانا آدم بيده وأسجد له ملائكته ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته، وقال: كل الجنة لك سوى هذه الشجرة، فآدم علم ولكن طبيعة ابن آدم الخطأ والنسيان {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} (3) {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (4) {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (5) .
فانظر إلى أبينا آدم أبي البشر من له تلك المميزات ومع هذا وقع في الخطأ، فوقوع الأخطاء في أي زمان وفي أي مجتمع ليس أمرا غريبا، إنما الغريب أن يستمر الناس على الخطأ، والغريب أن لا يعالج الخطأ، ولكن كيف يعالج الخطأ؟ إنه لا يعالج إلا بالأسلوب الحكيم والبصيرة في الأمور كلها.
والمنتسبون إلي العلم يعالجون كل قضية بحكمة وبصيرة
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2499) ، سنن ابن ماجه الزهد (4251) ، مسند أحمد بن حنبل (3/198) ، سنن الدارمي الرقاق (2727) .
(2) صحيح مسلم التوبة (2749) ، مسند أحمد بن حنبل (2/305) .
(3) سورة البقرة الآية 36
(4) سورة طه الآية 121
(5) سورة طه الآية 122(65/11)
وروية، يدرسونها، وينظرونها من كل الجوانب فإذا تصوروا الأمر التصور الصحيح ووضح عندهم وضوحا بينا وأدركوا القضية، وما يترتب عليها في الحاضر وما عسى أن سيكون- لأن علم الغيب عند الله- ودرسوها دراسة جيدة وتوصلوا إلى حلول مناسبة تعالج أي قضية، تقدموا إلى المسئولين بطريقة حكيمة، والمسئولون ولله الحمد لم يغلقوا أبوابهم أمامنا، ولم يوصدوها أمامنا بل هم يقبلون النصيحة، لكن الأمور تحتاج منا إلى حكمة، وتحتاج منا إلى روية، ويحتاج طالب العلم أن ينطلق من تصوره المنطلق الصحيح، لا شك أن هناك غيورين ومتحمسين يحملهم دين وتقى لا شك، لكن قد يفقدون الحكمة أحيانا، وقد يوسعون الهوة أحيانا، وقد يتسببون في حدوث تصادم أحيانا، وهذا أمر لا يليق، إنما طلاب العلم يتميزون برويتهم في الأمور وتبصرهم في المواقف وعلاجهم للقضايا على مستوى من العقل والعلم والإدراك، وأما أن نشيع أن هناك عدوا داخليا، وأن هناك وأن هناك حتى لو قدر أني أعلم شيئا من هذا فليست مهمتي أن أضخم هذه الأمور وأن أخيف الناس بكذا، لأني لا أريد أن أشيع الفاحشة بين المؤمنين، ولا أريد أن أفتح هوة، أقول إن مجتمعنا منفصل، لا، مجتمعنا مجتمع إسلامي إن شاء الله، ومجتمعنا مجتمع متوحد إن شاء الله، والزلات والهفوات هذه أمور لا يمكن أن يخلو أي زمن منها.
إن العالم الإسلامي واجه مثل هذه الأمور في القرن الثاني بعد(65/12)
التابعين وتابعيهم عندما قال قوم بخلق القرآن، وماذا نتج عن ذلك، وكيف كان الإمام أحمد وأمثاله يعالجون هذه القضية بحكمة وبصيرة إلى أن وفقهم الله فصبروا وكان صبرهم عن علم حتى اتضح الحق وانجلى وافتضح الباطل واندمر.
إن علماء الأمة قديما لا يعالجون القضايا بتعظيمها وتضخيمها، نحن نعلم أن الدنيا لا تخلو من خطأ والله تعالى أخبرنا أن أولادنا قد يكونون أعداء لنا وأنهم فتنة لنا، هل نقول الأولاد أعداء فنهجرهم، هذا لا يصح؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم نعمة، ولكن منهم من قد يكون عدوا لأبيه، وما نوع تلك العداوة، إنه لا ينبغي لطلاب العلم إذا حلت مشكلة أن يصوروها بشيء ربما يستثير عواطف من لا يحسن ولا يتبصر، وإنما تعالج القضايا بين أروقة العلماء، وفي مجتمعاتهم الخاصة دراسة وتبصرا وإدراكا للعواقب وتصورا للنتائج، ثم رفع ذلك إلى ولاة الأمر بطريقة أدبية يقصد من خلالها تحقيق المصلحة العامة، أما العواطف والحماس الذي قد يخرج عن طوره وقد لا ينضبط وقد يترك أثرا غير سليم فلا أوصي به إخواني ولا أنصحهم بذلك، وإنما نصيحتي لكم أيها الإخوة، أن نكون على اتصال دائم فيما بيننا، وصلة فيما بيننا، وتدارس للمشاكل فيما بيننا، وأما أخطاء الصحافة، أو كتاب الصحافة، وتجاهل بعضهم، وسوء عبارة بعضهم، فهذا خطأ منهم لا يمكن أن ننسبه لغيرهم، هؤلاء(65/13)
أخطئوا والواجب نصحهم وتحذيرهم، وإن شاء الله لن يتكرر ذلك، لكن أن أجعل هذه القضية دليلا على أن هناك عدوا منتصبا، هذا لا ينبغي، المجتمع مجتمع خير إن شاء الله، وقيادته حريصة على الخير أينما كان، إنها قيادة إسلامية وحريصة على ما ينفع هذا المجتمع، ولكن الأمور يجب أن تأخذ مسارها من الطرق السليمة والقنوات الصادقة والمخلصة، وأن يكون بيد أهل العلم يدرسون كل قضية دراسة متأنية، والدارسون حريصون على أن يجدوا حلولا مناسبة ثم يتقدمون بها، وسوف يحققون إن شاء الله الخير.
إنه لا ينبغي أن نفتح للمغرضين والفارغين وقاصري الفكر أبوابا يدخلون من خلالها، فيصعبون الأمور، ويتوقعون ما لا يكون، ونحن ولله الحمد مسلمون، وأما أن نقارن عدونا اليهودي بعدو بيننا فهذا أمر خطير لا ينبغي المجازفة فيه، أخوك المسلم يخطئ، فنعم، والمسلم يكون فيه خطأ وصواب، وإيمان وفسق كما قرر العلماء، وأما أن نقول هذا عدو يهودي خارجي، وهذا عدو مثله داخلي ونحو ذلك، فأنا لا أحب لطلبة العلم أن يجازفوا بالأقوال من غير روية ولا بصيرة، ولو سئل بعضهم، حدد العدو الداخلي، وما هي أهدافه، وأين يكون، لم تر جوابا، وإنما هي مجرد أقوال تتلقف. . قال تعالى {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 15(65/14)
فأوصي طلبة العلم بتقوى الله والتمسك بدين الله وأن يكونوا دعاة إلى دين الله على علم وبصيرة، وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/15)
صفحة فارغة(65/16)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(65/17)
صفحة فارغة(65/18)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
لبس المرأة الكرتة، وحمالات الثديين، والثياب الرقيقة
والقصيرة ونحو ذلك.
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الشيخ المكرم ع. م. ق. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تسأل فيه عن حكم لباس المرأة ما يبدي تقاطيع بدنها من عضدين وثديين وخصر وعجيزة، وعن حكم استعمال حمالات الثديين، وعن لباس الثياب الرقيقة التي تصف البشرة، وكذلك الثياب القصيرة التي لا تستر الساقين ولا العضدين ونحو ذلك، وقد جرى تأمل ما أشرت إليه، وحررنا فيها رسالة مستقلة ترون صورة منها برفقه. والسلام.
" نص الرسالة "
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله(65/19)
وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من محمد بن إبراهيم إلى من يراه من إخواننا المسلمين وفقني الله وإياهم لما يرضيه، وجنبنا جميعا أسباب سخطه ومعاصيه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد:
فقد تغيرت الأحوال في هذه الأزمان، وابتلي الكثير من النساء بخلع جلباب الحياء والتهتك وعدم المبالاة، وتتابعت في ذلك وانهمكت فيه إلى حد يخشى منه الانحدار في هوة سحيقة من السفور والانحلال، وحلول المثلات والعقوبات من ذي العزة والجلال، ذلك مثل لبسهن ما يبدي تقاطيع أبدانهن من عضدين وثديين وخصر وعجيزة ونحو ذلك، ومثل لباس الثياب الرقيقة التي تصف البشرة، وكذلك الثياب القصيرة التي لا تستر العضدين ولا الساقين ونحو ذلك. ولا شك أن هذه الأشياء تسربت عليهن من بلدان الإفرنج ومن يتشبه بهم؛ لأنها لم تكن معروفة فيما سبق ولا مستعملة، ولا شك أن هذا من أعظم المنكرات، وفيه من المفاسد المغلظة، والمداهنة في حدود الله لمن سكت عنها، وطاعة للسفهاء في معاصي الله، وكونه يجر إلى ما هو أطم وأعظم، ويؤدي إلى ما هو أدهى وأمر من فتح أبواب الشرور والفساد، وتسهيل أمر التبرج والسفور. ولهذا لزم التنبيه على مفاسدها، والتدليل على تحريمها والمنع منها، ونكتفي بذكر أمهات المسائل ومجملاتها طلبا للاختصار.(65/20)
أولا: أنها من التشبه بالإفرنج والأعاجم ونحوهم، وقد ثبت في الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية النهي عن التشبه بهم في عدة مواضع معروفة. وبهذا يعرف أن النهي عن التشبه بهم أمر مقصود للشارع في الجملة. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم " مضار التشبه بهم، وأن الشرع ورد بالنهي عن التشبه بالكفار والتشبه بالأعاجم والتشبه بالأعراب، وأنه يدخل في ذلك ما عليه الأعاجم والكفار قديما كما يدخل ما هم عليه حديثا، وكما يدخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما أنه يدخل في مسمى الجاهلية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها.
ثانيا: أن المرأة عورة، ومأمورة بالاحتجاب والستر، ومنهية عن التبرج وإظهار زينتها ومحاسنها ومفاتنها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} (1) الآية، وقال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (2) وقال تعالى، {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (3) ، وهذا اللباس مع ما فيه من التشبه ليس بساتر المرأة، بل هو مبرز لمفاتنها ومغر بها
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 33(65/21)
من رآها وشاهدها، وهي بذلك داخلة في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها الناس (1) » . وقد فسر الحديث: بأن تكتسي المرأة بما لا يسترها فهي كاسية ولكنها عارية في الحقيقة، مثل أن تكتسي بالثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي مقاطع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك؛ لأن كسوة المرأة في الحقيقة هو ما سترها سترا كاملا بحيث يكون كثيفا فلا يبدي جسمها، ولا يصف لون بشرتها لرقته وصفائه، ويكون واسعا فلا يبدي حجم أعضائها ولا تقاطيع بدنها الضيقة. فهي مأمورة بالاستتار والاحتجاب لأنها عورة.
ولهذا أمرت أن تغطي رأسها في الصلاة ولو كانت في جوف بيتها بحيث لا يراها أحد من الأجانب، لحديث: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار (2) » فدل على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر خاص لم يؤمر به الرجل حقا لله تعالى وإن لم يرها بشر. وستر العورة واجب لحق الله حتى في غير الصلاة ولو كان في ظلمة أو في
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(2) أخرجه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة.(65/22)
حال خلوة بحيث لا يراه أحد وحتى عن نفسه، ويجب سترها بلباس ساتر لا يصف لون البشرة، لحديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، قال «قلت يا رسول الله: "عوراتنا ما نأتي منها وما نذر. قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قلت: فإن كان القوم بعضهم مع بعض. قال: فإن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا. قال: فالله تعالى أحق أن يستحيا منه (1) » . رواه أبو داود.
وقد صرح الفقهاء رحمهم الله بالمنع من لبس الرقيق من الثياب، وهو ما يصف البشرة أي منع ستر العورة بالسترة الكافية في حق كل من الرجل والمرأة ولو في بيتها، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، كما صرحوا بالمنع من لبس ما يصف - اللين والخشونة والحجم - لما روى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: «كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدى له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تلبس القبطية، قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي. قال: مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها (2) » .
وكما صرحوا بمنع المرأة من شد وسطها مطلقا. أي سواء كان بما يشبه الزنار أو غيره، وسواء كانت في الصلاة أو خارجها؛ لأنه يبين حجم عجيزتها وتبين به مقاطع بدنها. قالوا: ولا تضم المرأة ثيابها حال قيامها، لأنه يبين به تقاطيع بدنها فتشبه الحزام. وهذا
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2794) ، سنن ابن ماجه النكاح (1920) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/205) .(65/23)
اللباس المذكور: أبلغ من الحزام وضم الثياب حال القيام وأحق بالمنع منه.
ثالثا: إن في بعض ما وقعن فيه شيئا من تشبه النساء بالرجال وهذا من كبائر الذنوب، ففي الحديث: «لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال ولعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء (1) » وفي لفظ «لعن الله المتخنثين من الرجال والمترجلات من النساء (2) » .
فالمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من الظهور والتبرج والبروز ومشاركة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجال أو أكثر لضعف عقلها، وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع في حق النساء.
كما أن الرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه حتى يفضي به الأمر إلى التخنث والميوعة والتمكين من نفسه كأنه امرأة والعياذ بالله، وهذا مشاهد من الواقع. فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين: بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح أمته.
قلت: وقد أفضى الحال بكثير ممن يقلدون المتفرنجين إلى أن
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه.
(2) أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد.(65/24)
شارك كثير من النساء الرجال في البروز والخروج والوظائف والتجارة والأسفار بدون محرم وغير ذلك، كما شارك كثير من الرجال النساء في المبالغة في التزين، والتخنث في الكلام، وحلق اللحى، والتثني عند المشي، والتحلي بخواتيم الذهب، والأزارير وغيرها، وساعات اليد التي فيها شيء من الذهب، ونحو ذلك وأمثاله مما هو معروف، حتى صارت العادة عندهم تطويل ثياب الرجل، وتقصير ثياب المرأة إلى ركبتها، أو فوق الركبة بحيث يبدو فخذها.
نعوذ بالله من قلة الحياء والتجري على محارم الله.
رابعا: أن هذه الأشياء وإن كان يعدها بعض من لا خلاق له من الزينة فإن حسبانهم باطل، وما الزينة الحقيقية إلا التستر والتجمل باللباس الذي امتن الله به على عباده بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (1) ، وليست الزينة بالتعري والتشبه بالإفرنج ونحوهم ممن لا خلاق له.
وأيضا: فلو سلم أنه من الزينة فليس لكل امرأة أن تخترع لها من الزينة ما تختاره ويخطر ببالها، لأن هناك أشياء من الزينة وهي ممنوعة بل ملعون فاعلها، كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة، وعن عبد الله بن مسعود قال: «لعن رسول الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 26(65/25)
صلى الله وسلم الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله فجاءته امرأة فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله. فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله: قالت: بلى، قال فإنه قد نهى عنه (2) » .
خامسا: أن النساء ناقصات عقل ودين وضعيفات تصور وإدراك، وفي طاعتهن بهذا وأمثاله من المفاسد المنتشرة ما لا يعلمه إلا الله، وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد مرفوعا: «ما تركت بعدي على أمتي من فتنة أضر على الرجال من النساء» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (3) » وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة مرفوعا: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (4) » وروي أيضا:
__________
(1) أخرجه السبعة إلا مالكا '' لعن الله الواشمات. . ''.
(2) سورة الحشر الآية 7 (1) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(3) أخرجه ابن ماجه.
(4) صحيح البخاري المغازي (4425) ، سنن الترمذي الفتن (2262) ، سنن النسائي آداب القضاة (5388) ، مسند أحمد بن حنبل (5/45) .(65/26)
«هلك الرجال حين أطاعوا النساء (1) » وفي الحديث الآخر: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن (2) » . ولما أنشده أعشى باهلة أبياته التي يقول فيها:
وهن شر غالب لمن غلب
جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرددها ويقول: «هن شر غالب لمن غلب (3) » .
فيتعين على الرجال القيام على النساء والأخذ على أيديهن ومنعهن من هذه الملابس والأزياء المنكرة، وأن لا يداهنوا في حدود الله، كما هو الواجب عليهم شرعا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (4) .
وقد صرح العلماء: أن ولي المرأة يجب عليه أن يجنبها الأشياء المحرمة من لباس وغيره ويمنعها منه، فإن لم يفعل تعين عليه التعزير بالضرب وغيره. وفي الحديث: «كلكم راع ومسئول عن رعيته (5) » .
والمقصود: أن معالجة هذه الأضرار الاجتماعية المنتشرة من أهم المهمات، وهي متعلقة بولاة الأمر أولا، ثم بقيم المرأة ووليها ثانيا، ثم المرأة نفسها مسئولة عما يتعلق بها وبناتها وفي بيتها، كما على طلبة العلم بيان أحكام هذه المسائل والتحذير منها، وعلى
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني.
(2) صحيح البخاري كتاب الزكاة (1462) ، الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) ، سنن أبو داود السنة (4679) ، سنن ابن ماجه الفتن (4003) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/202) .
(4) سورة التحريم الآية 6
(5) متفق عليه(65/27)
رجال الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ينكروا هذه الأشياء ويجتهدوا في إزالتها.
نسأل الله أن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(65/28)
فتوى في الموضوع
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم س. ع. ب. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بالإشارة إلى خطابكم الذي تسأل فيه عن مسألة وهي: هدم المرأة الذي تخيطه خياطة هل هو حرام أو حلال؟
والجواب: يظهر من سؤالك أنك تريد به معرفة حكم لبس المرأة للباس المعروف في هذا العصر "بالكرتة " وإذا كان هذا هو المقصود فلا يجوز؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله (1) » وقد فسر قوله: "كاسيات عاريات " بأن تكتسي ما لا يسترها فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، والثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك، وإنما كسوة المرأة ما يسترها فلا يبدي جسمها ولا حجم أعضائها؛
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .(65/28)
لكونه كثيفا واسعا.
هذا من وجه. ومن وجه آخر فيه تشبه بنساء الإفرنج، وقد قال صلى الله عليه سلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تشبه بغيرنا (2) » وبمعنى هذين الحديثين عدة أحاديث.
فما كان من زي الكفار فإن المسلمين منهيون عنه، يدل على ذلك ما يثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: إياكم والتنعم وزي أهل الشرك. ورواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح ولفظه: ذروا التنعم وزي العجم. ورواه أيضا في " كتاب الزهد" بإسناد صحيح ولفظه: إياكم وزي الأعاجم ونعيمها.
قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: " النهي عن التشبه بالعجم للتحريم ". وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى " التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع ". والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود
(2) أخرجه الترمذي عن ابن عمر(65/29)
الصلاة في المزبلة لا تصح
من محمد بن إبراهيم إلي فضيلة قاضي محكمة المذنب المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(65/29)
إليكم ما وردنا من مقبل ابن الشيخ محمد الصالح المقبل بخصوص صلاة بعض الجماعة لديكم في تلك الأرض التي يذكر أنها موضع أسمدة بعد ما أزالوا عنها الأشياء التي عليها وذلك أثناء عمارة مسجدهم الجامع.
للاطلاع على ما ذكره، فإن كان صحيحا، وكانوا إذا انتهى عمار مسجدهم سيتركون تلك البقعة لتعود مزبلة وملقى للقمائم كحالتها الأولى. فالظاهر أن الصلاة لا تصح في تلك البقعة؛ لما ورد من النهي عن الصلاة في المزبلة. قال الفقهاء: ولا فرق بين الطاهر منها والنجس، لما روى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله (1) » وهذا الحديث وإن كان فيه مقال إلا أن أكثر الأصحاب عملوا به، وعللوا ذلك بعلل مذكورة في مواضعها.
أما لو غيرت تلك البقعة فزال عنها اسم المزبلة كليا فقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أن الصلاة تصح فيها، كما تصح في موضع
__________
(1) أخرجه الترمذي بسند ضعيف عن ابن عمر.(65/30)
الحمام إذا هدم وجعل دارا، وفي المقبرة إذا نبشت وحولت إلى بيوت ونحوها. ومسألتكم هذه إن كانت قد غيرت تلك البقعة وأزيل عنها اسم المزبلة بحيث يتيقن بأنها لا تعود إلى حالتها السابقة فلا بأس بالصلاة فيها، وإلا فينبغي منعهم من الصلاة فيها. والله الموفق.(65/31)
مسجد يقع فوق طريق نافذ
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم قاضي محكمة بني مالك المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك رقم 230 وتاريخ 17 \ 5 \ 1382 هـ، المتضمن ما لاحظتموه على مسجد قرية حداد في منطقة بني مالك المسقف بعريش يقع فوق طريق نافذ، وأن الصف الأول مع المحراب يقع على سطح العريش على نفس قارعة الطريق. وتسأل عن حكم الصلاة فيه، وهل الهواء تابع للقرار. . إلخ؟
والجواب: الحمد لله. الخلاف في هذه المسألة معروف في مذهب الإمام أحمد. والصواب القول بالجواز إن شاء الله، وهو مذهب الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الموفق والشارح وجملة من الأصحاب. والسلام.(65/31)
حكم الصلاة في مسجد تحيط به المقبرة
س: ما حكم الصلاة في المسجد أو في البيت الذي تحيط به المقبرة من جهتين أو ثلاث؟(65/31)
الجواب: أن ذلك لا يمنع صحة الصلاة إذا لم تكن المقبرة إلى القبلة، فإن كانت المقبرة إلى قبلة المصلين وكانت قريبة عرفا وليس بينهم وبينها حائل"، أو كان هناك اعتقاد خاص في الصلاة حول هذه القبور فإن هذا مما ينهى عنه ولا تصح الصلاة في مثل هذه الحالة، كما لا تصح الصلاة في المقبرة، ولا يكفي جدار المقبرة، ولا جدار المسجد، بل لا بد من حائل ساتر منفصل.
س: حكم نقل المسجد أو نبش المقبرة؟
ج: إذا أمكن وضع حائل ساتر بين المسجد والقبور فهذا هو المتعين، وإلا فيزال المتأخر منهما. والسلام.(65/32)
حكم الصلاة في مسجد في قبلته مقبرة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ع. ص. ع. م. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن المسجد الذي عمرته في الخرمة، وذكرت أنه يوجد في قبلة المسجد مقبرة تبعد عنه مقدار مترين، وتسأل عن حكم الصلاة فيه؟
الجواب: روى البخاري ومسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عيه وسلم قال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» فعلى هذا لا بد من وجود حائل يفصل بين المسجد والمقبرة، ولا تكفي جدران المسجد ولا جدران المقبرة، بل يبنى جدار يفصل بينهما زائدا عن جدرانهما. والله أعلم.(65/32)
الصلاة في الطائرة
س: هل تصح الصلاة على ظهر الطائرة وهي تطير في الجو، وهل يجوز القصر والفطر لمن يسافر على الطائرة؟
الجواب: الحمد لله. نعم، تصح الصلاة على الطائرة وهي تطير في الجو، كما تصح الصلاة على الباخرة والسفينة ونحوها، وهذا أشبه بحال الضرورة؛ لأنه لا يستطيع إيقافها ولا النزول لأداء الصلاة، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بحال، وكما تصح الصلاة على السيارة إذا جد به السير ولم يتمكن الراكب من إلزام السائق بإيقاف السيارة وخشي خروج الوقت، فإنه يصلي قبل خروج الوقت ويفعل ما يستطيع عليه.
ثم إذا صلى الإنسان في الطائرة ونحوها فإن استطاع أن يصلي قائما ويركع ويسجد لزمه ذلك في الفريضة، وإلا صلى على حسب حاله وأتى بما يقدر عليه من ذلك، كما يلزمه استقبال القبلة حسب استطاعته، وكلما دارت انحرف إلى القبلة إذا كانت الصلاة فرضا، وأما القصر والفطر فهذه من رخص السفر، فإذا سافر الإنسان مسافة قصر فأكثر جاز له أن يستبيح رخص السفر، سواء قطعها في مدة قليلة أو طويلة، لكن إذا أراد أن يرجع إلى وطنه وعلم أنه يقدم اليوم أو غدا لزمه الصوم ولم يجز له الفطر، نص عليه الإمام أحمد.(65/33)
استقبال القبلة في الفريضة في الطائرة
س: ما حكم الصلاة في الطيارة من جهة استقبال القبلة؟
الجواب: راكب الطيارة لا يخلو من أن يكون قادرا على شروط الصلاة وأركانها وواجباتها أو لا، فإن كان قادرا على ذلك صحت صلاته إذا أتى بها كذلك مطلقا، وإن لم يقدر على الإتيان بها على هذا الوجه فلا يخلو من أن يمكنه النزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر أو لا، فإن أمكنه النزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر لزمته الصلاة في الأرض ولم تصح صلاته في الطيارة. فإن لم يمكنه ذلك أو كان في ذلك ضرر ووجد شيئا من الأعذار التي تصح معها الصلاة على الراحلة فإنه يصلي حينئذ في الطيارة على حسب حاله، ويفعل ما يقدر عليه ويسقط ما لا يقدر عليه. فإن أمكنه استقبال القبلة لزمه ذلك ويستدير إلى القبلة إذا استدارت.
وهذا التفصيل في الصلاة المكتوبة. وأما النافلة فحكمها معلوم والتفصيل فيها غير هذا التفصيل. والله أعلم.(65/34)
حكم التلفظ بالنية
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ز. ح. س. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابك لنا المؤرخ في 13 \ 6 \ 1387 هـ وصل، وتسأل فيه عن حكم التلفظ بالنية قبل الصلاة، فمثلا عن صلاة العصر يقول: نويت أصلي أربع ركعات فرض العصر.(65/34)
والجواب: محل النية القلب دون اللسان في جميع العبادات، والتلفظ بها ليس بواجب ولا مستحب، لما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين (1) » .
وهو صلى الله عليه وسلم كما أنه لم يفعله فهو أيضا لم يأمر به ولم يعلمه أحدا من الناس، ولو كان ذلك واقعا لنقل واشتهر كغيره من الأمور التي تدعو الحاجة إليها.
ومن جهر بها فهو مبتدع مخالف للشريعة إذا فعل ذلك معتقدا أنه من الشرع فهو جاهل ضال يستحق التعزير، وإلا العقوبة على ذلك إذا أصر على ذلك بعد التعريف والبيان له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني (3) » .
والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (498) ، سنن أبو داود الصلاة (783) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (893) ، مسند أحمد بن حنبل (6/31) ، سنن الدارمي الصلاة (1236) .
(2) رواه مسلم
(3) متفق عليه، في قصة الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته.(65/35)
نية إمامته في أثناء الصلاة
س: رجل جاء إلى المسجد ووجد الصلاة قد فاتته ولم يجد أحدا في المسجد فأقام الصلاة لنفسه وكبر، وبعد أن أتم ركعتين من الصلاة جاء رجل آخر إلي المسجد لم يصل هل يدخل معه في(65/35)
الصلاة. . إلخ؟
ج: الحمد لله. هذه المسألة خلافية، وفيها ثلاثة أقوال في المذهب. فظاهر المذهب الذي مشى عليه في المنتهى أنها لا تصح مطلقا سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا.
القول الثاني: أنها تصح مطلقا سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة.
القول الثالث: أنها تصح في النافلة دون الفريضة. وهذا الذي مشى عليه في " مختصر المقنع " لحديث ابن عباس الآتي. والقول بصحتها مطلقا هو الراجح دليلا. واختاره الموفق والشيخ تقي الدين وفاقا للأئمة الثلاثة، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعا من الليل، فقام إلى قربة فتوضأ، فقام فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن (1) » متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قال الموفق في الكلام على تأييد هذا القول: وقد روي عن الإمام أحمد ما يدل عليه، وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح إن شاء الله، لأنه قد ثبت في النفل، والأصل مساواة الفرض للنفل، ولحديث جابر وجبار «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام وحده فجاء جابر وجبار فصلى بهما» رواه مسلم وأبو داود. والظاهر أنها مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين، ولأن الحاجة تدعو إليه. وبيانها: أن
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (138) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (763) ، سنن الترمذي الصلاة (232) ، سنن النسائي التطبيق (1121) ، سنن أبو داود الصلاة (1356) ، مسند أحمد بن حنبل (1/343) ، موطأ مالك النداء للصلاة (267) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .(65/36)
المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا معه، فإن قطع الصلاة وأخبرهم بحاله قبح لما فيه من إبطال العمل، وإن أتم الصلاة ثم أخبرهم بفساد صلاتهم فهو أقبح وأشق. وقياسهم- يعني من قال لا تصح- ينتقض بحالة الاستخلاف. والله أعلم.(65/37)
اقتداء المأموم بالمأموم
س: ما حكم اقتداء المأموم بالمأموم فيما بقي من الصلاة بعد سلام الإمام؟
ج: نص الفقهاء رحمهم الله بأنه يصح أن يؤم مسبوق في بعض الصلاة مسبوقا مثله في قضاء ما فاتهما من الصلاة بعد سلام الإمام، مثله لو صلى بعض المقيمين خلف إمام مسافر يقصر الصلاة فيجوز للمقيمين أن يأتموا بواحد منهم بعد سلام الإمام في قضاء باقي الصلاة. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(65/37)
الجهر بتكبيرة الإحرام
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ع. ح. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابك وصل، وقد سألت فيه عن مسألة، وهي: ما حكم التلفظ بتكبيرة الإحرام جهرا.
الجواب: إن كان المصلي إماما فإنه يجهر بقدر ما يسمعه من خلفه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا(65/37)
كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر (1) » الحديث.
وإن كان مأموما أو منفردا فإنه يجهر بقدر ما يسمع نفسه.
والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (378) ، صحيح مسلم الصلاة (411) ، سنن الترمذي الصلاة (361) ، سنن النسائي الإمامة (832) ، سنن أبو داود الصلاة (601) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) ، مسند أحمد بن حنبل (3/200) ، موطأ مالك النداء للصلاة (306) ، سنن الدارمي الصلاة (1256) .(65/38)
الوسوسة في الصلاة هل تبطلها، وهل كان الوسواس
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
س: الوسوسة في الصلاة هل كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وهل تبطل الصلاة، وهل يعتبر ما يوحيه الشيطان إلى المبتلى بها من أن الذهاب إلى المساجد رياء هل يعتبر مبررا للتخلف عن الجماعة، وكيف التوصل إلى الخلاص من الوسوسة في الصلاة؟
ج: من ناحية وجود الوسوسة في الصلاة وعدم وجودها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنها بالوصف الذي ذكرته في خطابك لم توجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه رضي الله عنهم، كما صرح به الإمامان موفق الدين ابن قدامة في كتابه " ذم الموسوسين " وشيخ الإسلام ابن تيمية فيما روى عنه تلميذه ابن القيم.
قال ابن قدامة: ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوةسة فضيلة لما ادخرها الله تعالى عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم. ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه الموسوسين لقتلهم، ولو أدركهم عمر لضربهم وعزرهم، ولو أدركهم(65/38)
أحد من الصحابة لبدعهم وكرههم. وذكر ابن قدامة: أن الموسوس في الصلاة إنما يظن أن الشيطان ناصح له ليطيعه. ثم قال في معاتبة له على قبوله من الشيطان ما يوحيه إليه: أما علم أنه- أي الشيطان الموسوس له- لا يهدي إلى خير ولا يدعو إلى هدى. قال: وكيف يقول هذا الموسوس في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعله. فإن قال هي: باطلة. فقد مرق من الإسلام وما بقي معه كلام. وإن قال: هي صحيحة بدون هذا الذي يفعله. فما الذي دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم، وكيف لم يبينه عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، الداعي إلي سبيل ربه بالحكمة. فأين يعدل عن سنته! أين يطلب النجاة في غير طريقته؟ أيدع مسلم اتباع من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأنه رسول رب العالمين، أرسله بالهدى ودين الحق، ويتبع الشيطان الذي أخبره الله عنه بقوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) قال: فإن قال الموسوس: هذا مرض ابتليت به. قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان ولم يعذر الله أحدا بذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر عدة بدع من بدع الوسوسة في الصلاة: فلو مكث أحدهم- أي الموسوسين - عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب
__________
(1) سورة فاطر الآية 6(65/39)
البحت، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ولدلونا عليه. فإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال. اهـ. نقله عنه ابن القيم في " إغاثة اللهفان ".
والحقيقة أن من نظر في حالة الموسوس تبين له مقاربته الجنون وإنكاره الحقائق، فإنه يكبر ويقول ما كبرت، ويقرأ بلسانه ويقول ما قرأت، وينوي بالصلاة ويريدها ويقول ما نويتها ولا أردتها. ولا شك أن هذا مكابرة للعيان وجحد ليقين النفس؛ ولهذا أفتى الإمام ابن عقيل رجلا قال له: أني أكبر وأقول ما كبرت، أفتاه ابن عقيل بما روى ابن الجوزي عن بعض مشايخه عنه أنه قال لذلك الرجل: دع الصلاة. فقيل لابن عقيل: كيف تقول هذا. فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق (1) » . ومن يكبر فيقول ما كبرت ليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة. اهـ.
وأما السؤال عن الوسوسة هل تبطل الصلاة.
فالجواب عنه: أن منها ما يفسد الصلاة. قال ابن قدامة في ذم " الموسوسين ": من أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: أت أت التحي التحي. وفي السلام: أس أس السلام. وفي التكبير: أكككبر. وفي إياك: إياككك. فهذا تكرير الكلمات غير معاني القراءة، وأخرج اللفظ عن وضعه من غير ضرورة، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به. وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3432) ، سنن أبو داود الحدود (4398) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (6/101) ، سنن الدارمي الحدود (2296) .(65/40)
أعظم إبعادا له عن الله من الكبائر. وما كان من ذلك لا يبطل الصلاة فهو مكروه وإخراج القراءة عن كونها على الوجه المشروع عدول عن السنة، ورغبة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته. وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، وجمع على نفسه طاعة إبليس، ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، وآذى نفسه، وآذى المصلين، وهتك عرضه. انتهى المراد منه.
وأما السؤال عن اعتبار ما يوحيه الشيطان إلى بعض المبتلين بالوسوسة من أن الصلاة في الجماعة رياء.
فالجواب عنه: أن ذلك لا يجوز اعتباره، ولا يبيح التخلف عن الجماعة، بل إنما هو من دعوة الشيطان إلى الإعراض عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما كيفية الخلاص من الوسوسة في الصلاة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ما رواه مسلم في "كتاب الطب " من صحيحه عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له خنزب. فإذا أحسست به فتعوذ
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/216) .(65/41)
بالله واتفل على يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (1) » اهـ.
هذا وينبغي لك أن تتحصل على نسخة من رسالة الإمام الموفق ابن قدامة في " ذم الموسوسين " فإن فيها من التنفير عن الوسوسة ما يكفي ويشفي، وقد اعتمد عليها العلامة ابن القيم في كتابه " كتاب إغاثة اللهفان " وعلق عليها تعليقات لا يستغنى عنها.
__________
(1) قال أبو عمرو: هو لقب له. والخنزب قطعة لحم نتنة ويروى بالكسر والضم. (1)(65/42)
رفع اليدين في الصلاة في المواطن الأربعة
س: هل يجوز رفع اليدين في الصلاة قبل الركوع حيث إن كثيرا من الناس لديكم ينكرون ذلك؟
ج: الحمد لله. هذه المسألة من مسائل الخلاف بين العلماء. فجمهور علماء المسلمين يرون استحباب رفع اليدين، عند افتتاح الصلاة بالتكبير وعند الركوع والرفع منه للأحاديث الصحيحة والآثار المروية في ذلك. ومنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد. وكان لا يفعل ذلك في السجود (1) » وما أخرجه البخاري عن نافع (أن ابن عمر «كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه " ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2) » ، وأخرج نحوه عنه مالك في الموطأ. وما أخرج النسائي أيضا
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (735) ، صحيح مسلم الصلاة (390) ، سنن الترمذي الصلاة (255) ، سنن النسائي الافتتاح (877) ، سنن أبو داود الصلاة (722) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (858) ، مسند أحمد بن حنبل (2/132) ، موطأ مالك النداء للصلاة (165) ، سنن الدارمي الصلاة (1308) .
(2) صحيح البخاري الأذان (739) ، صحيح مسلم الصلاة (390) ، سنن الترمذي الصلاة (255) ، سنن النسائي الافتتاح (877) ، سنن أبو داود الصلاة (722) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (858) ، مسند أحمد بن حنبل (2/134) ، موطأ مالك النداء للصلاة (165) ، سنن الدارمي الصلاة (1308) .(65/42)
عن علقمة بن وائل، حدثني أبي قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده. هكذا وأشار قيس إلى نحو الأذنين (1) » . وما أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه وغيره والنسائي عن سالم عن عبد الله بن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع (2) » . وما أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي نحوه عن أبي قلابة، «أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع هكذا (3) » . وما أخرج مسلم عن ابن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وقبل أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفعهما بين السجدتين (4) » وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمرو بن عطاء قال: "سمعت أبا حميد الساعدي وهو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة بن ربعي، وذكر ابن ماجه في موضع آخر أن منهم سهل بن سعد ومحمد بن مسلمة قال: «أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم قال الله أكبر، وإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه،
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (401) ، سنن النسائي التطبيق (1055) ، سنن أبو داود الصلاة (726) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (867) ، مسند أحمد بن حنبل (4/318) .
(2) صحيح البخاري الأذان (736) ، صحيح مسلم الصلاة (390) ، سنن الترمذي الصلاة (255) ، سنن النسائي الافتتاح (877) ، سنن أبو داود الصلاة (722) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (858) ، مسند أحمد بن حنبل (2/134) ، موطأ مالك النداء للصلاة (165) ، سنن الدارمي الصلاة (1308) .
(3) صحيح البخاري الأذان (737) ، صحيح مسلم الصلاة (391) ، سنن النسائي التطبيق (1059) ، سنن أبو داود الصلاة (745) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (859) ، مسند أحمد بن حنبل (3/436) ، سنن الدارمي الصلاة (1251) .
(4) صحيح البخاري الأذان (735) ، صحيح مسلم الصلاة (390) ، سنن الترمذي الصلاة (255) ، سنن النسائي التطبيق (1059) ، سنن أبو داود الصلاة (722) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (858) ، مسند أحمد بن حنبل (2/8) ، موطأ مالك النداء للصلاة (165) ، سنن الدارمي الصلاة (1308) .(65/43)
فإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه فاعتدل، فإذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة (1) » .
وهناك طائفة من أهل العلم في الكوفة لم تأخذ بالسنة الواردة في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، بحجة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم يكن يرفع يديه فيهما، وهم كما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره معذورون قبل أن تبلغهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو أحد فقهاء الصحابة وهو الذي بعثه عمر بن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة لم يثبت عنه رضي الله عنه خبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه إلا أول مرة. قال عبد الله بن المبارك: لم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يده إلا في أول مرة، لكنهم رأوا عبد الله بن مسعود يصلي ولا يرفع إلا أول مرة، والإنسان قد يذهل، ويحتمل أن السنة في ذلك لم تبلغه، كما لم يبلغه نسخ التطبيق في الصلاة، فكان رضي الله عنه إذا ركع في صلاته طبق بين يديه كما كانوا يفعلونه في أول الإسلام ثم نسخ التطبيق لم يبلغه نسخه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في إحدى فتاواه: وأما رفعهما عند الركوع والاعتدال من الركوع فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة والثوري وغيرهم. وأما أكثر فقهاء
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (828) ، سنن الترمذي الصلاة (304) ، سنن أبو داود الصلاة (730) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1061) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، سنن الدارمي الصلاة (1307) .(65/44)
الأمصار وعلماء الآثار فإنهم عرفوا ذلك- كما أنه استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه سلم- كالأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وهي إحدى الروايتين عن مالك. أهـ.
وبالله التوفيق.(65/45)
هل يترك رفعهما لمصلحة راجحة أحيانا مع بيان السنة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ع. م. ب. المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي ذكرت فيه أنكم ببلاد لا يستعملون رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، لأن مذهبهم حنفي وجاء رجل منهم إلى هذه المملكة وتعلم العلم وعرف هذه السنة وغيرها ثم أراد أن يرجع إلى بلاده ليدعو إلى الله وينشر السنة بين قومه ولكنه يخشى منهم لو يرونه يرفع يديه عند الركوع أن لا يقبلوا منه بل يبدعوه ويفسقوه، وهو يحب أن يدعو إلى توحيد الله وطرح الخرافات والبدع.
فهل الأولى له أن يترك سنة رفع اليدين لكي يقبلوا منه ما يدعو إليه من أمور التوحيد، أو أن يحيي تلك السنة ويدعوهم إليها بقوله وفعله مع دعوته إلى تحقيق التوحيد سواء قبلوا أو لم يقبلوا؟
الجواب: لا يخفى أن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل(65/45)
المصالح أو تكثيرها، وتعطيل المفاسد أو تقليلها، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وتفويت أدق المصلحتين لتحصيل أعلاهما وارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما.
إذا عرف هذا فالدعوة إلى تحقيق التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه أهم وأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث عشر سنين يدعو إلى توحيد الله قبل فرضية الصلاة وغيرها من شرائع الإسلام. ومع هذا فعلى هذا الرجل أن لا يألو جهدا في تقرير السنة ونشرها بين الناس بأقواله عند كل مناسبة وبكل وسيلة، وأن يتقي الله ما استطاع، ولو لم يفعلها فيما بينهم تأليفا لهم. فوالله لأن يهدي الله به رجلا واحدا خير له من حمر النعم.
والله الموفق. . والسلام.(65/46)
حكم الجهر بالقراءة للإمام والمنفرد
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ م. ع. م. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن حكم الجهر بالقراءة للإمام والمنفرد في صلاة الفجر وفي الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء إلى آخره.
الجواب: الحمد لله. أما الإمام فلا يخفى أنه يجهر بالقراءة في صلاة الفجر وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، وأما المنفرد فقد صرح الفقهاء أنه مخير بين الجهر كالإمام وبين الإخفات؛ لأنه لا(65/46)
يقصد إسماع غيره، وترك الجهر أفضل، وإنما يلزمه أن يقرأ قراءة يسمع فيها نفسه. ومثله المسبوق إذا قام لقضاء ما فاته من الصلاة.
وأما المأموم فيشرع له الإنصات لقراءة إمامه، والإخفات إذا قرأ في سكتات إمامه. والله أعلم.(65/47)
الإسرار في الصلوات الجهرية خلاف السنة النبوية
س: هل يجوز للإمام أن يصلي صلاة المغرب سرية دون الجهر بالفاتحة وما تيسر من الآيات الكريمة، وهل تصح الصلاة خلفه، وما دليل الجواز من عدمه؟
ج: ليس للإمام أن يتعمد الإسرار في الركعتين الأوليين من المغرب وغيرها من الجهريات، لما في ذلك من مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفويت المأمومين سماع قراءة القرآن منهما، وأما الصلاة خلفه فتجزئ، ولكن لا يقر على ذلك. والدليل على منعه تعمد الإسرار في الركعتين الأوليين من المغرب وغيرها من الجهريات قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - الجهر فيهن، وبوب البخاري لذلك في صحيحه بابا أخرج فيه عن جبير بن مطعم أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور (2) » وممن نص على هذا الذي بيناه في هذه المسألة الإمام ابن قدامة في " المغني " شرح مختصر الخرقي: ويسر- أي الإمام- القراءة في الظهر والعصر، ويجهر في الأوليين من المغرب والعشاء وفي الصبح كلها. قال: الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (631) .
(2) صحيح البخاري الأذان (765) ، صحيح مسلم الصلاة (463) ، سنن النسائي الافتتاح (987) ، سنن أبو داود الصلاة (811) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (832) ، مسند أحمد بن حنبل (4/84) ، موطأ مالك النداء للصلاة (172) ، سنن الدارمي الصلاة (1295) .(65/47)
والاختلاف في استحبابه، والأصل فيه: فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف، فإن جهر في موضع الإسرار وأسر في موضع الجهر ترك السنة وصحت صلاته، إلا أنه إن نسي فجهر في موضع الإسرار ثم ذكر في القراءة بنى على قراءته، وإن أسر في موضع الجهر ثم ذكر في أثناء القراءة ففيه وجهان أحدهما يمضي في قراءته على طريق الاختيار لا على طريق الوجوب.
الخلاصة: الإسرار في موضع الجهر غير لائق لمخالفته السنة النبوية، وصلاته وصلاة من خلفه صحيحة. والله أعلم.(65/48)
الجمع بين الجهر في الصلوات الجهرية وبين
قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} (1)
س: يسأل م. م. من مقاطعة غيانا البريطانية عن الجمع بين الجهر فيما يجهر فيه من الصلوات وبين الآية الكريمة: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (2) ؟
ج: الحمد لله. لا تعارض بين الجهر والقراءة في الركعتين الأوليين من صلاة المغرب وصلاة العشاء، وكذلك الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر وبين قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (3) ، فإن النهي عن ذلك الجهر كان بسبب إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وسبهم القرآن آنذاك حينما يسمعونه يجهر بالقراءة في ذلك الوقت. وقد كان صلى
__________
(1) سورة الإسراء الآية 110
(2) سورة الإسراء الآية 110
(3) سورة الإسراء الآية 110(65/48)
الله عليه وسلم ومعه أصحابه متوارين عن أنظارهم وقت ما كان الإسلام ضعيفا.
يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «في قوله تعالى: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة متوار، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك. يقول بين الجهر والمخافتة (5) » . وفي رواية ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك حينما هاجر إلى المدينة لزوال المحذور.
وقيل: إن معنى قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (6) أي بدعائك. يحتج أصحاب هذا القول له بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (7) نزلت في الدعاء. كانوا يجهرون بالدعاء: " اللهم ارحمني " فلما نزلت أمروا أن لا يخافتوا ولا يجهروا. وقيل غير ذلك. والأول أولى
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7525) ، صحيح مسلم الصلاة (446) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3146) ، سنن النسائي الافتتاح (1011) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) سورة الإسراء الآية 110 (1) {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}
(3) سورة الإسراء الآية 110 (2) {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}
(4) سورة الإسراء الآية 110 (3) {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}
(5) سورة الإسراء الآية 110 (4) {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}
(6) سورة الإسراء الآية 110
(7) سورة الإسراء الآية 110(65/49)
وأقرب.
وعلى أي جمع بينهما فلا تنافي بين الجهر في الصلوات التي يجهر فيها وبين قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (1) إذ السنة هي المبينة لمعاني القرآن ومقاصده. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مفتي الديار السعودية
__________
(1) سورة الإسراء الآية 110
(2) سورة النحل الآية 44(65/50)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتى عام المملكة العربية السعودية سابقا- رحمه الله-
حكم صلاة العيد
س: هل يجوز للمسلم أن يتخلف عن صلاة العيد بدون عذر، وهل يجوز منع المرأة من أدائها مع الناس؟ (1) .
ج: صلاة العيد فرض كفاية عند كثير من أهل العلم، ويجوز التخلف من بعض الأفراد عنها، لكن حضوره لها ومشاركته لإخوانه المسلمين سنة مؤكدة لا ينبغي تركها إلا لعذر شرعي. وذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة العيد فرض عين كصلاة الجمعة، فلا يجوز لأي مكلف من الرجال الأحرار المستوطنين أن يتخلف عنها، وهذا القول أظهر في الأدلة وأقرب إلى الصواب. ويسن للنساء حضورها مع العناية بالحجاب والتستر وعدم التطيب، لما ثبت في الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين وتعتزل الحيض المصلى (2) » وفي بعض ألفاظه: فقالت إحداهن: يا رسول الله لا
__________
(1) نشرت في (جريدة البلاد) العدد (10834) في 24 \ 9 \ 1414هـ.
(2) رواه البخاري في (الحيض) باب شهود الحائض العيدين برقم (324) ومسلم في (العيدين) باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين برقم (890) .(65/51)
تجد إحدانا جلبابا تخرج فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لتلبسها أختها من جلبابها (1) » .
ولا شك أن هذا يدل على تأكيد خروج النساء لصلاة العيدين ليشهدن الخير ودعوة المسلمين.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند البصريين) حديث أم عطية برقم (20269) وابن ماجه في (إقامة الصلاة) باب ما جاء في خروج النساء في العيدين برقم (1307) .(65/52)
صلاة العيد لا تقام في البوادي والسفر
س: الأخ م. ع. أ. - من تونس، يقول: ذهبت إلى الريف مرة في بلدي بأفريقيا وصادف أن أتى يوم عيد الأضحى فرأيت الناس نساء ورجالا قد سارعوا إلى مقبرة لزيارة القبور، وراعني في صباح يوم العيد أن أقام كل من حضر الصلاة في المقبرة، وكان قد تقدمهم كهل فصلى بهم جميعا إلا أنا بقيت في حيرة وذهول مما رأيت، ولم أصل معهم تلك الصلاة التي أسموها بصلاة العيد.
ما حكم الإسلام في هذه الصلاة؟ علما بأن أهل الريف- الذين أقصدهم- ليس لديهم لا مسجد ولا جامع، إذ يسكنون الخيام متفرقين عن بعضهم البعض.
ملاحظة: عندما أقول: إنهم صلوا في المقبرة، يعني بجوارها بعيدين عن القبور كل البعد (1) .
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) الجزء الأول، ص 67.(65/52)
ج: الحمد لله رب العالمين، صلاة العيد إنما تقام في المدن والقرى، ولا تشرع إقامتها في البوادي والسفر، هكذا جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم صلوا صلاة العيد في السفر ولا في البادية.
وقد حج حجة الوداع عليه الصلاة والسلام فلم يصل الجمعة في عرفة وكان ذلك اليوم هو يوم الجمعة، ولم يصل صلاة العيد في منى.
وفي اتباعه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كل الخير والسعادة، والله ولي التوفيق.(65/53)
إقامة صلاة العيد في الإستاد الرياضي (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم لواء ركن ع. ع. د.، قائد كلية الملك عبد العزيز الحربية سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى كتابكم رقم 3 \ 9 \ 2619، وتاريخ 29 \ 6 \ 1408هـ الذي جاء فيه:
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم (2157 \ 2) وتاريخ 2 \ 8 \ 1408هـ.(65/53)
س: نحن منسوبي كلية الملك عبد العزيز الحربية والقاطنين فيها لا يوجد عندنا مصلى للعيدين والاستسقاء، ومنذ أربع سنوات ونحن نصلي هذه الصلوات في الإستاد الرياضي بالكلية. وهو مكشوف ومفروش بالنايلون.
آمل من سماحتكم بيان حكم الصلوات المذكورة في المكان المبين أعلاه؟
ج: وأفيدكم بأنه لا حرج في صلاتكم في المكان المذكور، وما يجري فيه من الأمور التي ذكرتم لا يمنع من إقامة صلاة العيد والاستسقاء فيه ما دام طاهرا ليس فيه شيء من النجاسة، وإن تيسر مكان مستقل أحسن منه فهو أولى وأفضل.
وفقكم الله، وبارك في جهودكم، وأعانكم على كل خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(65/54)
العدد المشترط لصلاة العيد
ولو صادف العيد يوم الجمعة فما الحكم
س: هل يشترط لصلاة العيد عدد معين كصلاة الجمعة مثلا، وما الحكم لو صادف العيد يوم الجمعة، بالنسبة لصلاة الجمعة فقد سمعت أن صلاة الجمعة لا تجب على المأمومين بعكس الإمام، فكيف تجب على الإمام لوحده، وكيف يقيمها بمفرده؟ (1) .
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم 69.(65/54)
ج: صلاة العيد وصلاة الجمعة من الشعائر العظيمة للمسلمين، وكلتاهما واجبة، الجمعة فرض عين، والعيد فرض كفاية عند الأكثر، وفرض عين عند بعضهم، واختلف العلماء في العدد المشترط لهما، وأصح الأقوال أن أقل عدد تقام به الجمعة والعيد ثلاثة فأكثر، أما اشتراط الأربعين فليس له دليل صحيح يعتمد عليه. ومن شرطهما الاستيطان، أما أهل البادية والمسافرون فليس عليهم جمعة ولا صلاة عيد، ولهذا لما حج الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الوداع صادف الجمعة يوم عرفة ولم يصل جمعة ولم يصل عيد يوم النحر؛ فدل ذلك على أن المسافرين ليس عليهم عيد ولا جمعة، وهكذا سكان البادية. وإذا وافق العيد يوم الجمعة جاز لمن حضر العيد أن يصلي جمعة وأن يصلي ظهرا؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في هذا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخص في الجمعة لمن حضر العيد وقال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شهد العيد فلا جمعة عليه (1) » ولكن لا يدع صلاة الظهر، والأفضل أن يصلي مع الناس جمعة، فإن لم يصل الجمعة صلى ظهرا. أما الإمام فيصلي بمن حضر الجمعة إذا كانوا ثلاثة فأكثر منهم الإمام، فإن لم يحضر معه إلا واحد صليا ظهرا.
__________
(1) رواه ابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها) باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم برقم 1311.(65/55)
ما يشرع لمن أتى مصلى العيد
س: الأخ الذي رمز لاسمه بـ ع. ع. ع. من الرياض يقول في سؤاله: لاحظت أن بعض الناس عندما يأتي لصلاة العيد يصلي ركعتين، وبعضهم لا يصلي، وبعضهم يقرأ القرآن قبل الصلاة، وبعضهم يشتغل بالتكبر (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد) .
أرجو من سماحتكم توضيح حكم الشرع في هذه الأمور، وهل هناك فرق بين كون الصلاة في المسجد أو في مصلى العيد؟ (1) .
ج: السنة لمن أتي مصلى العيد لصلاة العيد، أو الاستسقاء أن يجلس ولا يصلي تحية المسجد، لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم إلا إذا كان الصلاة في المسجد فإنه يصلي تحية المسجد؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (2) » متفق على صحته.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة من (المجلة العربية) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث أبي قتادة الأنصاري برقم (22146) والبخاري في (الصلاة) باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى برقم (1167) ومسلم في (صلاة المسافرين) باب استحباب تحية المسجد برقم 714.(65/56)
والمشروع لمن جلس ينتظر صلاة العيد أن يكثر من التهليل والتكبير، لأن ذلك هو شعار ذلك اليوم، وهو السنة للجميع في المسجد وخارجه حتى تنتهي الخطبة. ومن اشتغل بقراءة فلا بأس. والله ولي التوفيق.(65/57)
حكم تحية المسجد قبل صلاة العيد (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم ع. غ. ع. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2984 وتاريخ 29 \ 7 \ 1407 هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة.
وأفيدك بأن صلاة العيدين إذا صليت في المسجد، فإن المشروع لمن أتى إليها أن يصلي تحية المسجد ولو في وقت النهي؛ لكونها من ذوات الأسباب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (2) » .
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 91 \ 2 في 9 \ 1 \ 1408هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث أبي قتادة الأنصاري برقم (22146) والبخاري في (الصلاة) باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى برقم (1167) ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب تحية المسجد برقم 714.(65/57)
أما إذا صليت في المصلى المعد لصلاة العيدين فإن المشروع عدم الصلاة قبل صلاة العيد، لأنه ليس له حكم المساجد من كل الوجوه، ولأنه لا سنة لصلاة العيد قبلها ولا بعدها.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(65/58)
التكبير المطلق والمقيد
إلى حضرة فضيلة الشيخ المكرم عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم حفظه الله تعالى بعد التحية والاحترام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام، أدام الباري علينا وعليكم نعمة الإسلام، مع السؤال عن صحتكم، أحوالنا من فضل الله على ما تحب وبعد: أدام الله بقاءك على طاعته أفتنا في التكبير المطلق في عيد الأضحى، هل التكبير دبر كل صلاة داخل في المطلق أم لا؟ وهل هو سنة أم مستحب أم بدعة؟ لأجل أنه حصل فيها جدال هذا والباري يحفظك والسلام.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. ع. م. وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(65/58)
يا محب كتابكم المكرم المؤرخ في 24 \ 2 \ 1387 هـ وصل، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما.
والجواب: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما التكبير في الأضحى فمشروع من أول الشهر إلى نهاية اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة لقول الله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (1) الآية، وهي أيام العشر، وقوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (2) الآية، وهي أيام التشريق؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل (3) » رواه مسلم في صحيحه، وذكر البخاري في صحيحه تعليقا عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما: " أنهما كانا يخرجان إلي السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما " (4) وكان عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما يكبران في أيام منى في المسجد وفي الخيمة ويرفعان أصواتهما بذلك حتى ترتج منى تكبيرا، «وروي عن النبي
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند البصريين) حديث نبيشة الهذلي برقم (20198) ومسلم في (الصيام) باب تحريم صوم أيام التشريق، برقم (1141) .
(4) رواه البخاري تعليقا في (الجمعة) باب فضل العمل في أيام التشريق.(65/59)
صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم التكبير في أدبار الصلوات الخمس من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم الثالث عشر من ذي الحجة» وهذا في حق غير الحاج، أما الحاج فيشتغل في حال إحرامه بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، وبعد ذلك يشتغل بالتكبير، ويبدأ التكبير عند أول حصاة من رمي الجمرة المذكورة، وإن كبر مع التلبية فلا بأس، لقول أنس رضي الله عنه: «كان يلبي الملبي يوم عرفة فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه (1) » ولكن الأفضل في حق المحرم هو التلبية، وفي حق الحلال هو التكبير في الأيام المذكورة.
وبهذا تعلم أن التكبير المطلق والمقيد يجتمعان في أصح أقوال العلماء في خمسة أيام، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق الثلاثة. وأما اليوم الثامن وما قبله إلى أول الشهر فالتكبير فيه مطلق لا مقيد؛ لما تقدم من الآية والآثار، وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد (2) » أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) رواه البخاري في (الجمعة) باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة برقم 970.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند عبد الله بن عمر) برقم 5423 و 6119.(65/60)
التهنئة بالعيد
س: الأخ: ص. م. م. من واشنطن، يقول في سؤاله: يقول الناس في تهنئة بعضهم البعض يوم العيد (تقبل الله منا ومنكم الأعمال الصالحة) أليس من الأفضل يا سماحة الوالد أن يدعو الإنسان بتقبل جميع الأعمال، وهل هناك دعاء مشروع في مثل هذه المناسبة؟ (1)
ج: لا حرج أن يقول المسلم لأخيه في يوم العيد أو غيره تقبل الله منا ومنك أعمالنا الصالحة، ولا أعلم في هذا شيئا منصوصا، وإنما يدعو المؤمن لأخيه بالدعوات الطيبة؛ لأدلة كثيرة وردت في ذلك. والله الموفق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة من (المجلة العربية) .(65/61)
أقل عدد يشترط لإقامة صلاة الجمعة
س: ما هو أقل عدد في شرط إقامة صلاة الجمعة وإقامة الخطبة؟ (1)
ج: في هذه المسألة خلاف كثير بين أهل العلم، وأصح ما قيل في ذلك: ثلاثة الإمام واثنان معه، فإذا وجد في قرية ثلاثة رجال فأكثر مكلفون أحرار مستوطنون أقاموا الجمعة ولم يصلوا ظهرا؛ لأن الأدلة الدالة على شرعية صلاة الجمعة وفرضيتها تعمهم.
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) الجزء الأول، ص66.(65/61)
س: قرأت في بعض الكتب أن من شروط إقامة الجمعة وجود أربعين ممن تجب عليهم الصلاة. وسبق أن نشر في الدعوة فتوى لسماحتكم أنها تقام في اثنين مع الإمام فكيف نجمع بين هذين الأمرين (1) ؟
ج: اشتراط الأربعين لإقامة صلاة الجمعة قال به جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والقول الأرجح جواز إقامتها بأقل من أربعين وأقل الواجب ثلاثة كما تقدم في الفتوى في جواب السؤال الذي قبل هذا، لعدم الدليل على اشتراط الأربعين.
والحديث الوارد في اشتراط الأربعين ضعيف كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.
س: نحن نعمل بمنطقة جبلية وليس فيها مساجد، والمساجد القريبة يصعب الوصول إليها لظروف عملنا، ونحن جماعة قليلون، فكم عدد المصلين الذين تصح بهم صلاة الجمعة؟ (2)
ج: الواجب عليكم السعي إلى الجمعة؛ لأنكم تسمعون النداء وتستطيعون الإجابة على الأقدام أو بالسيارة لأن الجمعة جامعة
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) الجزء الأول ص66.
(2) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم 16.(65/62)
تجمع أهل القرية، وتجمع أهل المحل، فالواجب عليكم السعي إليها والصلاة مع المسلمين في القرية التي أنتم فيها، وليس لكم الترخص وأن تقيموا جمعة وحدكم إلا إذا كانت المسافة بعيدة، فعليكم أن تستفتوا وتقدموا إلى دار الإفتاء إذا كنتم في المملكة، ودار الإفتاء تنظر في الأمر وتكتب إلى المحكمة في طرفكم حتى تعرف الحقيقة ثم تصدر الفتوى في ذلك، لكن مهما أمكن المؤمن أن يسعى إلى الجمعة ويشارك إخوانه في الجمعة فهذا هو الخير العظيم، وله في خطواته أجر كبير وحط سيئات، فينبغي له أن يشارك في الخير وأن يحرص على الجمعة ولو بعدت لكثرة الأجر ولاجتماعه مع إخوانه وتكثير سوادهم واطلاعه على أحوالهم والتعرف عليهم حتى يتعاون الجميع على البر والتقوى ويتساعد الجميع على ما فيه الخير، فإذا كان هناك مشقة بينة فلا مانع من الإرسال للاستفتاء من دار الإفتاء لتنظر في الأمر إن شاء الله.(65/63)
الجمعة تدرك بركعة
س: سائل يقول: إذا جاء شخص إلى المسجد يوم الجمعة ووجد الصلاة قد قضيت ووجد رجلا بقيت عليه ركعة فهل يكمل هذه الركعة ظهرا أم جمعة، ولو انضم إليه شخص آخر بعد أن قضى ركعة، فهل أيضا يكملها ظهرا أم يكملها جمعة؟ (1)
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .(65/63)
ج: الواجب أن يكملها ظهرا لأن الجمعة فاتت، وإنما تدرك بركعة واحدة إذا أدرك الركعة الثانية مع الإمام صلاها جمعة. أما إذا لم يأت إلا بعد السلام أو جاء بعد الركعة الثانية في التشهد أو في حال السجود في الركعة الثانية فإنه لا يصليها جمعة ولكن يصليها ظهرا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته (1) » فمفهومه أنه إذا ما أدرك إلا أقل من ركعة فإنه لا يكون مدركا للجمعة ولكنه يصلي ظهرا، هذا هو المشروع؛ وإذا أدرك إنسانا يقضي فصلى معه فليصلها ظهرا ولا يصلي جمعة، ويلاحظ في هذا أيضا أن يكون بعد الزوال، أما إذا كانت الجمعة قد صليت قبل الزوال فإنه لا يصلي الظهر إلا بعد الزوال؛ لأن الجمعة يجوز أن تصلى قبل الزوال في الساعة السادسة على الصحيح من قولي العلماء، ولكن الأفضل والأحوط أن تصلى بعد الزوال كما هو قول جمهور العلماء، أما الظهر فلا يجوز أن تصلى إلا بعد الزوال بإجماع المسلمين. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الترمذي في (الجمعة) برقم (482) في باب ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة، والنسائي في (المواقيت) برقم (554) ، وفي (الجمعة) برقم (1408) وابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها) برقم (1113) .(65/64)
س: إذا دخلت المسجد والإمام يصلي الجمعة وهو جالس(65/64)
للتشهد هل أصليها جمعة أم ظهرا؟ (1)
ج: إذا لم يدرك المسبوق من صلاة الجمعة إلا السجود أو التشهد، فإنه يصلي ظهرا ولا يصلي جمعة، لأن الصلاة إنما تدرك بركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته (3) » .
فعلم بهذين الحديثين أن من لم يدرك ركعة من الجمعة فاتته الجمعة وعليه أن يصلي ظهرا. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) ، الجزء الثاني، ص (134) .
(2) رواه البخاري في (مواقيت الصلاة) برقم (546) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (954) واللفظ متفق عليه.
(3) سنن الترمذي الجمعة (524) .(65/65)
من لم يتمكن من إكمال متابعة الإمام في الجمعة بسبب انقطاع الكهرباء
س: صلى جماعة في قبو مسجد (الطابق الأرضي) صلاة الجمعة، وأثناء الصلاة انقطع التيار الكهربائي، وأصبح المأمومون لا يسمعون الإمام، فتقدم أحد المأمومين وأكمل بهم الصلاة فما حكم صلاة هؤلاء علما أنه أكمل بهم الصلاة على إنها جمعة؟
وما الحكم فيما لو لم يتقدم أحد، هل يكمل كل فرد منهم صلاته وحده؟ وإذا كان يجوز ذلك هل يكملها على أنها ظهر أو(65/65)
على أنها جمعة، حيث إنه استمع إلى الخطيب وافتتح الصلاة مع الإمام وصلى معه ركعة؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل، فصلاة الجميع صحيحة؛ لأن «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة (2) » كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو لم يتقدم لهم أحد فصلى كل واحد بنفسه الركعة الأخيرة أجزأه ذلك، كالمسبوق بركعة يصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقضي الركعة الثانية لنفسه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (3) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) ، الجزء الثاني، ص (135) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (524) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) .
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (607) ، سنن أبو داود الصلاة (1121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/271) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (15) .(65/66)
من فاتته صلاة الجمعة صلاها ظهرا
س: إذا لم أصل الجمعة مع الجماعة في المسجد هل أصليها في البيت ركعتين بنية الجمعة أم أصلي أربع ركعات بنية الظهر؟ (1)
ج: من لم يحضر صلاة الجمعة مع المسلمين لعذر شرعي من مرض أو غيره أو لأسباب أخرى صلى ظهرا، وهكذا المرأة تصلي ظهرا، وهكذا المسافر وسكان البادية يصلون ظهرا كما دلت على ذلك السنة وهو قول عامة أهل العلم ولا عبرة بمن شذ عنهم، وهكذا من تركها عمدا يتوب إلى الله سبحانه ويصليها ظهرا.
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) ، الجزء الأول، ص (67) .(65/66)
الجمعة ليست واجبة على المرأة
س: وردت بعض الأمور بودي لو نستفسر عنها لو تكرمتم حتى لا يكون هناك إشكال متوقع بالنسبة للجمعة والمرأة إذا صلتها في بيتها؟ (1)
ج: الجمعة ليست واجبة على المرأة بل هي على الرجال، وهكذا الجماعة ليست واجبة على المرأة بل هي على الرجال، والسنة أن تصلي المرأة في بيتها في الجمعة وغير الجمعة في بيتها أفضل لها، لكن إن صلتها مع الناس أجزأتها الجمعة عن الظهر إذا كانت متسترة متحفظة متحجبة، وتخرج من غير طيب فلا بأس عليها لسماع الفائدة ولسماع الخطبة وسماع المواعظ، لكن عليها أن تكون حريصة على الحجاب والستر والبعد عن الفتنة وتكون في طريقها غير متطيبة ولا متبرجة، بل متحجبة متسترة وتصلي مع الناس، كما كان بعض النساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يصلين مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه قال: «وليخرجن تفلات (2) » ، أي بدون رائحة طيبة لئلا يفتتن الرجال بهن وليكن غير متبرجات في الخروج، قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .
(2) رواه أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9270) ، وأبو داود في (الصلاة) برقم (478) .(65/67)
«وبيوتهن خير لهن (1) » لكن لو صلت مع الجماعة مع الستر والحجاب والعناية والبعد عن أسباب الشر والفتنة وعن الرائحة الطيبة فلا بأس بذلك.
ومن هذا نفهم أن المرأة ليس عليها جمعة بل تصلي في بيتها ظهرا، ولكن إذا صلتها مع الناس جمعة أجزأتها وكفتها عن الظهر، كالمريض ليس عليه صلاة جمعة وإنما يصلي ظهرا ومع هذا لو صلى مع الناس أجزأته الجمعة عن الظهر، وكالعبد المملوك ليس عليه جمعة وإنما عليه الظهر وإذا صلى مع الناس الجمعة أجزأته، وهكذا المسافر ليس عليه جمعة لكن لو صلى مع الناس الجمعة أجزأته عن الظهر. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه أبو داود في (الصلاة) برقم (480) ، وأحمد في (مسند المكثرين) برقم (5211) .(65/68)
حكم وصل الصلاة بصلاة أخرى
س: أريد شرح هذا الحديث: عن السائب بن يزيد أن معاوية قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج (1) » ؟ (2)
ج: الحديث أخرجه مسلم في صحيحه وهو يدل على أن المسلم إذا صلى الجمعة أو غيرها من الفرائض فإنه ليس له أن يصلها
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (883) ، سنن أبو داود الصلاة (1129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/99) .
(2) من برنامج (نور على الدرب) .(65/68)
بصلاة حتى يتكلم أو يخرج من المسجد، والتكلم يكون بما شرع الله من الأذكار كقوله: أستغفر الله. أستغفر الله. أستغفر الله. اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، حين يسلم، وما شرع الله بعد ذلك من أنواع الذكر، وبهذا يتضح انفصاله عن الصلاة بالكلية حتى لا يظن أن هذه الصلاة جزء من هذه الصلاة.
والمقصود من ذلك تمييز الصلاة التي فرغ منها من الصلاة الأخرى، فإذا سلم من الجمعة فلا يصلها بالنافلة لئلا يعتقد هو أو غيره أنها مرتبطة بها أو أنها لازمة لها.
وهكذا الصلوات الأخرى كالظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر لا بد من الفصل بالكلام كالذكر أو غير ذلك من الكلام أو الخروج من المسجد حتى يعلم أنها غير مربوطة بما قبلها.(65/69)
الإنصات أثناء الخطبة
الأخ ع. أ. ص. من رياض الخبراء يسأل ويقول: متى يمتنع الإنسان في صلاة الجمعة عن مس الحصى والتسوك هل هو من صعود الإمام على المنبر أم من بداية الخطبة، لأني أشاهد كثيرا من الناس لا يتوقفون عن التسوك إلا بعد أن يبدأ الإمام في الخطبة، وبعضهم يستاك أثناء الخطبة؟
نرجو من سماحة الشيخ إرشادنا إلى الصواب جزاكم الله(65/69)
خيرا (1)
ج: السنة الإنصات إلى الخطبة وترك التسوك وسائر العبث من حين الشروع فيها إلى أن يفرغ منها، عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
لكن من دخل المسجد والإمام يخطب فإنه يصلي تحية المسجد قبل أن يجلس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما (2) »
س: الأخ م. ا. ح. - من القاهرة يقول في سؤاله: هل يجوز الكلام أثناء سكوت الإمام بين الخطبتين في صلاة الجمعة، وهل يجوز الإشارة بالسبابة على الفم بدون كلام من أجل تنبيه شخص ما أن لا يتكلم أثناء الخطبة؟ (3)
ج: يجوز الكلام أثناء سكوت الإمام بين الخطبتين إذا دعت إليه الحاجة، كما تجوز الإشارة لمن يتكلم والإمام يخطب ليسكت، كما تجوز الإشارة في الصلاة إذا دعت الحاجة إليها. وفق الله الجميع.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة من (المجلة العربية) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) برقم (1100) ، ومسلم في (الجمعة) برقم (1449) واللفظ له، وأحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (13655) .
(3) من ضمن الأسئلة الموجهة من (المجلة العربية) .(65/70)
مشروعية الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم إذا مر ذكره أثناء الخطبة (1)
س: الأخ أ. م. ص- من ولاية أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية يقول في سؤاله: إذا مر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والإمام يخطب يوم الجمعة فهل يجوز أن نصلي ونسلم عليه صلى الله عليه وسلم؟
ج: تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر ذكره عليه الصلاة والسلام في خطب الجمعة والعيد ومجالس الذكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي (2) » صلى الله عليه وسلم.
س: ما حكم من يرفع يديه والخطيب يدعو للمسلمين في الخطبة الثانية مع الدليل، أثابكم الله؟ (3)
ج: رفع اليدين غير مشروع في خطبة الجمعة ولا في خطبة العيد لا للإمام ولا للمأمومين، وإنما المشروع الإنصات للخطيب
__________
(1) نشرت في (المجلة العربية) بتاريخ صفر 1412هـ.
(2) رواه الترمذي في (الدعوات) برقم (3468) ، وأحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7139) .
(3) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (1) .(65/71)
والتأمين على دعائه بينه وبين نفسه من دون رفع صوت، وأما رفع اليدين فلا يشرع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه في خطبة الجمعة ولا في خطبة الأعياد، ولما رأى بعض الصحابة بعض الأمراء يرفع يديه في خطبة الجمعة أنكر عليه ذلك، وقال: ما كان النبي يرفعهما عليه الصلاة والسلام، نعم إذا كان يستغيث في خطبة الجمعة للاستسقاء، فإنه يرفع يديه في حال الاستغاثة- أي طلب نزول المطر- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في هذه الحالة، فإذا استسقى في خطبة الجمعة أو في خطبة العيد فإنه يشرع له أن يرفع يديه تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام.(65/72)
تشميت العاطس أثناء الخطبة
س: ما حكم تشميت العاطس والإمام يخطب يوم الجمعة؟ (1)
ج: لا يشرع تشميته لوجوب الإنصات، فكما لا يشمت العاطس في الصلاة كذلك لا يشمت العاطس في حال الخطبة.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في كتاب الدعوة الجزء الثاني، ص134.(65/72)
من حدثه دائم يتوضأ بعد دخول الوقت
س: الأخ ع. ص- الرياض يقول في سؤاله إني أعاني من خروج ريح دائم- أكرمكم الله- وأتوضأ لكل صلاة عند(65/72)
الأذان، وفي يوم الجمعة أتوضأ قبل الأذان الأول وأتوضأ ثانية بعد الأذان الأول فما حكم عملي هذا؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1)
ج: من كان حدثه دائما بالريح أو البول أو غيرهما فإنه يتوضأ لكل صلاة بعد دخول الوقت، ولا يضره ما خرج من الحدث في نفس الوقت أو في نفس الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «توضئي لكل صلاة (2) » خرجه البخاري في صحيحه. والمستحاضة هي: التي يستمر معها الدم غير دم الحيض.
وبهذا يعلم السائل أنه لا بد أن يكون الوضوء بعد دخول الوقت في حق من حدثه دائم، وإذا توضأ لصلاة الجمعة في الساعة السادسة وهي الساعة التي قبل الزوال صح ذلك؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على صحة إقامة صلاة الجمعة في الساعة السادسة وهو قول جمع من أهل العلم. ولكن الأفضل إقامتها بعد الزوال عملا بالأحاديث كلها وخروجا من الخلاف؛ لأن جمهور أهل العلم يرون أن صلاة الجمعة لا تصح قبل الزوال كصلاة الظهر عملا بالأحاديث التي فيها النص أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة إذا زالت الشمس. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .
(2) رواه البخاري في (الوضوء) برقم (221) ، والترمذي في (الطهارة) برقم (116) ، وأحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (23016) .(65/73)
حكم صلاة الجمعة إذا صادفت يوم العيد
س: ما حكم صلاة الجمعة إذا صادفت يوم العيد هل تجب إقامتها على جميع المسلمين أم على فئة معينة، ذلك أن بعض الناس يعتقد أنه إذا صادفت العيد الجمعة فلا جمعة إذا! ؟ (1)
ج: الواجب على إمام الجمعة وخطيبها أن يقيم الجمعة وأن يحضر في المسجد ويصلي بمن حضر، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقيمها في يوم العيد يصلي العيد والجمعة عليه الصلاة السلام وربما قرأ في العيد وفي الجمعة جميعا بسبح والغاشية فيها جميعا (2) » ، كما قاله النعمان بن بشير رضي الله عنهما فيما ثبت عنه في الصحيح، لكن من حضر صلاة العيد ساغ له ترك الجمعة ويصلي ظهرا في بيته أو مع بعض إخوانه إذا كانوا قد حضروا صلاة العيد، وإن صلى الجمعة مع الناس كان أفضل وأكمل، وإن ترك صلاة الجمعة لأنه حضر العيد وصلى العيد فلا حرج عليه، لكن عليه أن يصلي ظهرا فردا أو جماعة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (878) ، سنن الترمذي الجمعة (533) ، سنن النسائي الجمعة (1424) ، سنن أبو داود الصلاة (1123) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1119) ، مسند أحمد بن حنبل (4/273) ، موطأ مالك النداء للصلاة (247) ، سنن الدارمي الصلاة (1566) .(65/74)
ليس من شرط إقامة صلاة الجمعة أن يكون الإمام عدلا ولا معصوما
س: ما الحكم في قوم لا يصلون الجمعة بحجة أنها لا تصلح إلا خلف إمام عادل؟ (1)
__________
(1) نشرت في (كتاب الدعوة) ، الجزء الثاني، ص (129) .(65/74)
ج: قد أوجب الله سبحانه على المسلمين أداء صلاة الجمعة إذا كانوا مستوطنين، سواء كانوا في مدن كبيرة أو قرى، واختلف أهل العلم في العدد الذي يشترط لإقامة صلاة الجمعة على أقوال كثيرة أرجحها: أنها تقام بثلاثة فأكثر لعدم الدليل على اشتراط ما فوق ذلك، وأجمعوا أنه ليس من شرطها أن يكون الإمام عدلا ولا معصوما بل يجب أن تقام مع البر والفاجر ما دام مسلما لم يخرجه فجوره عن دائرة الإسلام. وبهذا يعلم أن الطائفة التي لا تقيم صلاة الجمعة إلا بشرط أن يكون الإمام عدلا أو معصوما قد ابتدعت في الدين ما لم يأذن به الله، واشترطت شرطا لا أصل له في الشرع المطهر، وكان بعض أهل العلم يرى أن الجمعة لا تقام في القرى الصغيرة، إنما تقام في الأمصار الجامعة، ولكن هذا القول ضعيف ولا وجه له في الشرع المطهر وهو مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن لم يصح ذلك عنه، وقد أقيمت صلاة الجمعة في المدينة المنورة بعد ما هاجر إليها أول المسلمين وهي ليست مصرا جامعا وإنما تعتبر من القرى، ثم أقامها النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ولم يزل يقيمها حتى توفي عليه الصلاة والسلام وأقيمت صلاة الجمعة في البحرين في قرية يقال لها جواثا في عهده صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليه الصلاة والسلام.
والخلاصة: أن الواجب هو إقامة صلاة الجمعة في القرى والأمصار، عملا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وتحصيلا لما في إقامتها من المصالح العظيمة التي من جملتها جمع الناس على الخير(65/75)
ووعظهم وتذكيرهم وتعليمهم ما ينفعهم وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.(65/76)
مشروعية الأذان الأول يوم الجمعة
س: الأخ م. ع. ج، من مصر يقول: لاحظت في بلدكم المملكة العربية السعودية أنه يوجد أذانان للجمعة وهذا غير صحيح إذ أنه كان إذا صعد الإمام المنبر أذن بين يديه أذان واحد وجميع كتب السنة تؤيد ذلك.
فأرجو أن تحولوا هذا إلى الجهات المختصة كدار الإفتاء التي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ليحق الله الحق ويبطل الباطل. (1)
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فالأمر كما قال السائل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أذان واحد مع الإقامة، «كان إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة والصلاة أذن المؤذن ثم خطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبتين ثم يقام للصلاة (2) » .
هذا هو الأمر المعلوم والذي جاءت به السنة كما قال السائل
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) ، الشريط رقم (523) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (920) ، صحيح مسلم الجمعة (861) ، سنن الترمذي الجمعة (506) ، سنن النسائي الجمعة (1416) ، سنن أبو داود الصلاة (1092) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1103) ، سنن الدارمي الصلاة (1558) .(65/76)
وهو أمر معروف عند أهل العلم والإيمان، ثم إن الناس كثروا في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في المدينة فرأى أن يزاد الثالث، ويقال له: الأذان الأول لأجل تنبيه الناس على أن اليوم يوم جمعة حتى يستعدوا ويبادروا إلى الصلاة قبل الأذان المعتاد المعروف بعد الزوال وتابعه بهذا الصحابة الموجودون في عهده، وكان في عهده علي رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم وغيرهم من أعيان الصحابة وكبارهم، وهكذا سار المسلمون على هذا في غالب الأمصار والبلدان تبعا لما فعله الخليفة الراشد رضي الله عنه وتابعه عليه الخليفة الراشد الرابع علي رضي الله عنه وهكذا بقية الصحابة.
فالمقصود أن هذا حدث في خلافة عثمان وبعده استمر عليه غالب المسلمين في الأمصار والأعصار إلى يومنا هذا وذلك أخذا بهذه السنة التي فعلها عثمان رضي الله عنه لاجتهاد وقع له ونصيحة للمسلمين ولا حرج في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (1) » وهو من الخلفاء الراشدين رضي الله عنه والمصلحة ظاهرة في ذلك، فلهذا أخذ بها أهل السنة والجماعة ولم يروا بهذا بأسا لكونه من سنة الخلفاء الراشدين عثمان وعلي ومن حضر من الصحابة ذلك الوقت رضي الله عنهم جميعا.
__________
(1) رواه أبو داود في (السنة) باب في لزوم السنة برقم (4607) .(65/77)
س: متى شرع الأذان للجمعة مرتين وبأي سبب، وهل صحيح أن عليا رضي الله عنه رد الأذان إلى واحد، سمعت في مكة أن السعودية يؤذنون أذانين كيف ذلك لأن السعودية دولة سنية كيف تعمل على البدعة؟ (1)
ج: بدأ الأذان للجمعة مرتين في عهد عثمان رضي الله عنه والسبب كثرة الناس، وقد صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى في ذلك هذا نصها:
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ... (2) » . الحديث.
والنداء يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كانت خلافة عثمان كثر الناس، أمر عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة بالأذان الأول، وليس ببدعة لما سبق من الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، والأصل في ذلك ما رواه البخاري والنسائي والترمذي وابن ماجه وأبو داود واللفظ له: (عن ابن شهاب أخبرني السائب بن يزيد «أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم (899) في 6 \ 11 \ 1398هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (16695) .(65/78)
يوم الجمعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافة عثمان وكثر الناس أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك (1) » .
وقد علق القسطلاني في شرحه للبخاري على هذا الحديث بأن النداء الذي زاده هو عند دخول الوقت سماه ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الأذان بين يدي الإمام والإقامة للصلاة وأطلق على الإقامة أذان تغليبا بجامع الإعلام فيهما، وكان هذا الأذان لما كثر المسلمون فزاده عثمان رضي الله عنه اجتهادا منه ووافقه سائر الصحابة بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعا سكوتيا. وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في (الجمعة) برقم (1392) ، وأبو داود (الصلاة) برقم (1087) واللفظ له.(65/79)
حكم صلاة الكسوف
س: ما حكم صلاة الكسوف، وهل يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «فافزعوا إلى الصلاة (2) » على الوجوب؟ (3)
ج: صلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لما ورد فيها من الأحاديث الصحيحة، وليست واجبة عند أهل العلم؛ «لقول النبي صلى الله عليه
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1061) ، صحيح مسلم الكسوف (915) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) .
(2) صحيح البخاري كتاب الجمعة (1046) ، صحيح مسلم الكسوف (901) ، سنن أبو داود الصلاة (1177) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1263) ، مسند أحمد بن حنبل (6/76) .
(3) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من أحد طلبة العلم في مجلسه.(65/79)
وسلم لما سأله بعض الوفود عن الصلاة، وأخبره بأن عليه الصلوات الخمس، فقال السائل: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع (1) » .
س: هل يقع الكسوف في اليوم العاشر أو الرابع من الشهر، وما صحة قول من قال: إن الكسوف الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم كان في اليوم الرابع؟ (2)
ج: لا أعلم دليلا يدل على تخصيص الكسوف بوقت معين، والأرجح أنه يمكن كسوف الشمس والقمر في كل وقت، وليس مع من خصص ذلك بوقت معين دليل فيما نعلم، والله الموفق.
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب الزكاة من الإسلام برقم (46) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان الصلوات برقم (11) .
(2) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من أحد طلبة العلم في مجلسه.(65/80)
صفة صلاة الكسوف
س: ما صفة صلاة الكسوف والخسوف، وهل هناك فرق بينهما، وما رأي سماحتكم حول ما ينشر في الصحف عن بدء وانتهاء الخسوف والكسوف؟ (1)
ج: قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة صفة صلاة الكسوف، وأمر أن ينادى لها بجملة: الصلاة جامعة.
__________
(1) سؤال موجه من ع. س. من الرياض في مجلس سماحته.(65/80)
وأصح ما ورد في ذلك في صفتها أن يصلي الإمام بالناس ركعتين في كل ركعة قراءتان وركوعان وسجدتان ويطيل فيهما القراءة والركوع والسجود، وتكون القراءة الأولى أطول من الثانية، والركوع الأول أطول من الركوع الثاني، وهكذا القراءة في الركعة الثانية أقل من القراءة الثانية في الركعة الأولى، وهكذا الركوع في الركعة الثانية أخف من الركوعين في الأولى. وهكذا القراءة في الثانية من الركعة الثانية أخف من القراءة الأولى فيها، وهكذا الركوع الثاني فيها أخف من الركوع الأول فيها.
أما السجدتان في الركعتين فيسن تطويلهما تطويلا لا يشق على الناس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك، ثم بعد الصلاة يشرع للإمام إذا كان لديه علم أن يعظ الناس ويذكرهم ويخبرهم أن كسوف الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وأن المشروع للمسلمين عند ذلك الصلاة وكثرة الذكر والدعاء والتكبير والعتق والصدقة حتى ينكشف ما بهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلهما يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم (1) » . وفي رواية أخرى: «فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1048) ، سنن النسائي الكسوف (1491) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1059) ، صحيح مسلم الكسوف (912) ، سنن النسائي الكسوف (1503) .(65/81)
وجاء في بعض الأحاديث: الأمر بالصدقة والعتق.
أما أخبار الحسابين عن أوقات الكسوف فلا يعول عليها، وقد صرح بذلك جماعة من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمة الله عليهما؛ لأنهم يخطئون في بعض الأحيان في حسابهم، فلا يجوز التعويل عليهم، ولا يشرع لأحد أن يصلي صلاة الكسوف بناء على قولهم، وإنما تشرع صلاة الكسوف عند وقوعه ومشاهدته.
فينبغي لوزارات الإعلام منع نشر أخبار أصحاب الحساب عن أوقات الكسوف حتى لا يغتر بأخبارهم بعض الناس، ولأن نشر أخبارهم قد يخفف وقع أمر الكسوف في قلوب الناس، والله سبحانه وتعالى إنما قدره لتخويف الناس وتذكيرهم، ليذكروه ويتقوه ويدعوه ويحسنوا إلى عباده. والله ولي التوفيق.
س: جاء في حديث ابن عباس «أنه صلى ثماني ركعات في أربع سجدات (1) » ، وعن علي رضي الله عنه مثله، وعن جابر رضي الله عنه «صلى ست ركعات بأربع سجدات (2) » وهذه الأحاديث صححها الإمام مسلم وخرجها في صحيحه، وصححها إسحاق بن راهويه، وابن خزيمة، والصبغي، والخطابي وغيرهم وأعلها آخرون واحتجوا بأن الكسوف لم يقع على عهد النبي صلى الله
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الجمعة (1046) ، صحيح مسلم الكسوف (901) ، سنن النسائي الكسوف (1472) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1263) .
(2) صحيح مسلم الكسوف (904) ، سنن النسائي الكسوف (1478) ، سنن أبو داود الصلاة (1178) ، مسند أحمد بن حنبل (3/318) .(65/82)
عليه وسلم إلا مرة- كما تعلمون- فما رأي سماحتكم، وهل ثبت ما يدل على أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة؟ (1)
ج: الأصح في صلاة الكسوف، هو ما اتفق عليه الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، من كون «النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ركعتين حين كسفت الشمس يوم مات ابنه إبراهيم، في كل ركعة قراءتان وركوعان وسجدتان» . هذا هو الأصح عند المحققين من أهل العلم، وما زاد على ذلك فهو وهم من بعض الرواة أو شاذ، لأن المحفوظ «عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إنما صلى الكسوف مرة واحدة، في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم. فظن بعض الناس أنها كسفت لموته فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يرسلهما الله لتخويف عباده وتذكيرهم وتحذيرهم (2) » . والله الموفق.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من أحد طلبة العلم في مجلسه.
(2) صحيح مسلم الكسوف (904) ، سنن النسائي الكسوف (1478) ، سنن أبو داود الصلاة (1178) ، مسند أحمد بن حنبل (3/318) .(65/83)
ينادى لصلاة الكسوف
بقول: (الصلاة جامعة)
س: الأخ م. ج. من الإمارات العربية المتحدة يقول في(65/83)
سؤاله: ورد أنه ينادى لصلاة الكسوف ب (الصلاة جامعة) فهل يقولها مرة واحدة، أو يشرع تكرارها، وما مقدار التكرار؟ أفتونا مأجورين (1)
ج: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن ينادى لصلاة الكسوف بقول: «الصلاة جامعة (2) » والسنة للمنادي أن يكرر ذلك حتى يظن أنه أسمع الناس، وليس لذلك حد محدود فيما نعلم. والله ولي التوفيق.
س: قد يحدث كسوف الشمس بعد العصر، فهل تصلى صلاة الكسوف في وقت النهي؟ وكذا تحية المسجد؟ (3)
ج: في المسألتين خلاف بين أهل العلم، والصواب جواز ذلك، بل شرعيته؛ لأن صلاة الكسوف وتحية المسجد من ذوات الأسباب.
والصواب: شرعيتها في وقت النهي بعد العصر وبعد الصبح، كبقية الأوقات؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا
__________
(1) نشرت في (المجلة العربية) ، شوال 1414هـ.
(2) رواه البخاري في (الجمعة) باب النداء بالصلاة جامعة في الكسوف، برقم (1045) ، ومسلم في (الكسوف) باب صلاة الكسوف برقم (901) واللفظ له.
(3) من ضمن أسئلة موجهة إلى سماحته، طبعها الأخ \ محمد الشايع في كتاب.(65/84)
رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم (1) » متفق على صحته. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (2) » متفق على صحته.
وهكذا ركعتا الطواف إذا طاف المسلم بعد الصبح أو العصر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار (3) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد صحيح عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
__________
(1) رواه البخاري في (الجمعة) باب الصلاة في كسوف القمر برقم (1063) ، والنسائي في (الكسوف) باب الأمر بالدعاء في الكسوف برقم (1502) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى برقم (1167) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب تحية المسجد برقم (714) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المدنيين) حديث جبير بن مطعم برقم (16333) ، والترمذي في (الحج) باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح برقم (868) ، وابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها) باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت برقم (1254) .(65/85)
صلاة الكسوف لا تكرر
ولو لم ينجل الكسوف
س: هل الغاية في قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا(65/85)
رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم (1) » لمجموع الأمرين بحيث إنه لو سلم من الصلاة ولم ينجل أطال الدعاء حتى ينجلي، أم أن الغاية للصلاة فقط بحيث لو سلم ولم ينجل كرر الصلاة؟ (2)
ج: الصلاة لا تكرر، ولكن يشرع للمسلمين الإكثار من الاستغفار والذكر والتكبير والصدقة والعتق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأمة بذلك عند وجود الكسوف.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1040) ، سنن النسائي الكسوف (1491) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(2) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من أحد طلبة العلم في مجلسه.(65/86)
الخطبة بعد صلاة الكسوف سنة
س: هل تسن الخطبة بعد صلاة الكسوف؟ (1)
ج: تسن الخطبة بعد صلاة الكسوف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وقد قال الله عز وجل": {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني (3) » ، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، وتفقيههم في الدين، وتحذيرهم من أسباب غضب الله وعقابه. ويكفي أن يفعل ذلك وهو في المصلى بعد الفراغ من الصلاة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من أحد طلبة العلم في مجلسه.
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) رواه البخاري في (النكاح) باب الترغيب في النكاح برقم (5063) ، ومسلم في (النكاح) استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم (1401) .(65/86)
حكم صلاة الكسوف عند الزلازل ونحوها
س: هل تشرع صلاة الكسوف عند رؤية الآيات، كالزلازل، والصواعق، والعواصف الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والبراكين ونحوها؟ (1)
ج: لا أعلم دليلا يعتمد عليه في شرعية الصلاة للزلازل ونحوها، وإنما جاءت السنة الصحيحة بالصلاة والذكر والدعاء والصدقة حين الكسوف. وذهب بعض أهل العلم إلى شرعية صلاة الكسوف للزلزلة، ولا أعلم نصا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإنما ذلك مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد علم بالأدلة الشرعية أن العبادات توقيفية لا يشرع منها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه مسلم في صحيحه عنها رضي الله عنها بلفظ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) »
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من أحد طلبة العلم في مجلسه.
(2) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2697) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .
(3) رواه مسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .(65/87)
والمعنى فهو مردود على من أحدثه، لا يجوز العمل به، ولا نسبته إلى الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
والله الموفق.(65/88)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: متى يبدأ وقت التكبير المقيد أدبار الصلوات، وما دليل مشروعيتها؟
ج: المشروع للحاج أن يلبي من حين إحرامه إلى أن يرمي جمرة العقبة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر (1) » والتكبير المقيد للحج يبدأ من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق، وأما غير الحاج فيبدأ من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، ودليل مشروعية التكبير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (2) وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (3) ولفعل الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1284) ، سنن النسائي مناسك الحج (2998) ، سنن أبو داود المناسك (1816) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، سنن الدارمي المناسك (1876) .
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) سورة البقرة الآية 185(65/89)
س: هل يجوز الرمي في اليوم الثاني والثالث قبل الزوال تيسيرا على المسلمين، كما أنني أنوي ذلك، وقد قال به بعض(65/89)
العلماء. نرجو إفادتنا جزاكم الله خيرا.؟
ج: المسلم في عباداته يتحرى الاقتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم العيد ضحى، وأما يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، فما كان يرمي إلا بعد زوال الشمس، ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا " أخرجه البخاري. فكانوا يتحرون زوالها، فالواجب على المسلم أن يكون رميه بعد زوال الشمس لتكون عبادته وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فيرجى القبول بإذن الله، وحتى يخرج من خلاف من يبطل ذلك، وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس (2) » أخرجه مسلم، ثم الرمي ابتدأ النبي وقته بعد الزوال، ولم يأتنا ما يدل على اختصاصه بالنهار، ولهذا أفتي بجواز الرمي ليلا، فما دام الليل موجودا، والإنسان يمكنه أن يرمي بالليل، فالحمد لله، والأمر ميسر، ولا ينبغي للمسلم أن يخالف السنة، والله جل وعلا معطيه صحة وسلامة وعافية، والعبادة ينبغي لمن ابتدأ بها أن يكملها ويتمها، ويحذر من أسباب
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .(65/90)
نقصها، والمسلم يكون ديدنه دائما متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والحرص على التمسك بهديه وسنته. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(65/91)
س: لقد قدمت للحج، ولم أحرم حتى الآن، فهل لي حق قصر صلاتي معكم، وإذا لم يكن ذلك وقد قصرت معكم الظهر، فهل أعيد الصلاة؟ .
ج: أن كنت قادما للحج من خارج الميقات، فالواجب أن ترجع إلى الميقات، وتحرم منه، وأما صلاة الظهر التي قد صليتها قصرا فنقول لا تعيدها؛ لأنك مسافر فلك أن تقصر، لكن ينبغي المبادرة بالإحرام فإنه عبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المحلين أن يحرموا بالحج فأحرموا من مكانهم بالأبطح، ضحى يوم الخميس، وهو يوم التروية في حج النبي صلى الله عليه وسلم، لأن حجته كانت يوم الجمعة، فأحرم المحلون يوم الخميس ضحى فهذه السنة، المبادرة بالإحرام.(65/91)
س: ما حكم الطواف داخل المسعى في السطح؟ جزاكم الله خيرا.
ج: من العلماء من يقول إن من شروط صحة الطواف كونه في المسجد، ويقولون إن المسعى خارج المسجد، والله أمرنا أن نطوف بالبيت الذي في المسجد، فإذا طفنا في داخل المسعى ما كنا أدينا الطواف في المسجد، فبعضهم يقول من طاف في المسعى، فإن طوافه غير صحيح؛ لأنه خرج عن المسجد إلى المسعى، ونقول ينبغي(65/91)
لنا إذا اضطررنا إلى الطواف في الدور الثالث، أن نتقي المسعى مهما أمكننا، أما إذا اضطر الإنسان، هذا شيء له حكمه، لكن ما دام يمكن أن يتوقى النزول بالمسعى فليفعل.(65/92)
س: إذا دخل الحاج في نسك من أحد الأنساك الثلاثة، وأراد أن يتحول عنه إلى نسك آخر، قبل الوقوف بعرفة، فهل يجوز له ذلك؟
ج: إن كان سيتحول إلى أكبر فنعم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي ممن حج معه أن يحلوا، كما في الصحيحين، فحلوا فكانوا متمتعين، أما إن كان يتحول من التمتع إلى الإفراد فهذا لا يصلح.(65/92)
س: ما حكم من أدى طواف الإفاضة والسعي قبل الوقوف بعرفة؟
ج: إن كان قارنا أو مفردا، وطاف للقدوم وسعى بين الصفا والمروة، سقط عنه السعي يوم النحر، ولا يجب عليه إلا طواف الإفاضة، أما إن كان متمتعا فالطواف والسعي لحجه، أما من قدم طواف الإفاضة على يوم عرفة، فالصحيح أنه لا يعتد به، وعليه طواف للإفاضة بعد المبيت بمزدلفة.(65/92)
س: أنا مقيم في جدة، وقدمت زوجتي من خارج المملكة، ووقع جماع بيننا في نهار رمضان، فما الحكم، مع العلم أنني لا أستطيع صيام شهرين متتابعين.؟(65/92)
ج: لا شك أن الجماع في نهار رمضان من كبائر الذنوب واستحلاله كفر والعياذ بالله، لكن إذا وقع لغلبة الشهوات وقلة الإيمان الرادع، فنقول عليك أن تتوب إلى الله، قل: أستغفر الله، ثم عليك أن تقضي هذا اليوم، ثم عليك الكفارة المغلظة، وهي: عتق رقبة، فإن عجزت عنها، إما عن ثمنها، أو عينها، فعليك أن تصوم شهرين كاملين متتابعين، ولا يسقط عنك الصوم إلا لعجز كبر أو مرض، وأما إذا كنت قويا سليما فإنها لا تبرأ ذمتك إلا بصيام، فإن كنت عاجزا عن الصيام لكبر أو مرض، فعليك إطعام ستين مسكينا.(65/93)
س: هل يجوز تأجيل طواف الإفاضة من يوم النحر إلى آخر يوم مع طواف الوداع، وإذا كان كذلك، متى يكون السعي، جزاكم الله.؟
ج: لا مانع من هذا، أن يجعل طواف الإفاضة عند خروجه، لكي يكون طواف الإفاضة يدخل في ضمنه طواف الوداع، وهذا لا مانع منه؛ لأن هذا طواف أكبر وطواف أصغر فيجتمع الطوافان؛ ولأن المراد من طواف الوداع أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، والسعي بعده لا يضر، فالسعي لا يجعلك مقيما، وتعتقد أنه لا بد من وداع، اسع بعد الطواف، فهذا من جزء الحج، ولا يضرك ذلك.(65/93)
س: إذا كان الحاج قارنا، وسعى مع القدوم فما حكمه؟
ج: إن كان قارنا وسعى بعد القدوم، فليس عليه سعي بعد طواف الإفاضة، إذا كان سعى مع طواف القدوم قبل الحج.(65/93)
س: بعد أن ودعت، ذهبت إلى أهلي في مكة، وأخذت عفشي، وتأخرت قليلا بعد الوداع؟
ج: إذا ما حصل نوم أو اتجار، وإنما لتجميع الأشغال، وانتظار الرفقة، ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر على الوداع.(65/94)
س: ماذا عن توكيل المؤسسات بالذبح عن الحاج للهدي؟
ج: نعلم أن الدولة السعودية وفقها الله، فوضت البنك الإسلامي لشراء الهدي وذبحه وتوزيعه داخل البلاد وخارجها، وهذا حصل فيه فتوى من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وتقرر هذا الأمر وانتظم في وقت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وغفر لنا وله ولجميع أموات المسلمين، ومضى هذا الأمر والحمد لله، فالبنك عنده لجنة علمية، أكثر من مائة طالب علم يشرفون على الذبح، ويتأكدون من سلامة الذبح، وسلامة المواشي من العيوب، وسنها المعتبر، وهذا أمر مرضي وفيه خير، أراح الناس من كثير من صعوبات الذبح السابقة، أما المؤسسات التجارية فإني لا أنصح بالتعامل معهم، لمن أراد براءة ذمته، في أيام شيخنا غفر الله له جاءت مسألة من مؤسسة أخذوا أكثر من أربعة آلاف شخص، ولما انتهي الموسم لم يفعلوا شيئا، وثبت أنهم كذبة، وصدر فتوى من سماحة الشيخ غفر الله له، على أن هؤلاء يعاقبون، وأن الأموال تسلم، ويذبح بها هدي ويوزع، المهم أن هذه المؤسسات لا يغتر بها، أما البنك الإسلامي معترف به ومقر، وجميع ما يمر به من مشاكل إنما(65/94)
تدرس بهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، فهو مبني على أسس وقواعد ثابتة، ويشرف عليه نخبة، نحسبهم والله حسيبهم من أهل العلم والخير، وهذا بإذن الله يجعل المتعامل معهم مطمئنا من براءة ذمته من الهدي أو الفدية أو الأضحية، وأنها بإذن الله ستسلك المسلك الشرعي من حين اختيار الذبيحة إلى إيصالها إلى مستحقيها.(65/95)
س: بعد الإحرام نزل من رجلي دم بسيط، وكان هذا قبل الإحرام، فهل علي شيء؟
ج: نزول الدم منك لا يؤثر في صحة إحرامك، فاغسل ما أصابه الدم من جسدك وإحرامك، ولا شيء عليك، والحمد لله.(65/95)
س: إذا نزع المحرم رداءه للوضوء، أو أثناء النوم، أو للاغتسال، فهل عليه شيء؟
ج: لا شيء عليه.(65/95)
س: حاج قد أدى العمرة، ثم تحلل وهو متمتع، وبقي على إحرامه بعد التحلل من العمرة، وأخذ يغطي رأسه، ويستخدم البودرة ونحوها، ثم يوم التروية في حوالي الساعة العاشرة أو حين الظهر قال: لبيك حجا، فهل عمله صحيح؟
ج: نقول لا شيء عليه؛ لأن التحلل ليس بخلع اللباس، وإنما يكون بفراغ المتمتع من الطواف والسعي والتقصير، فليس المهم خلع الإزار والرداء، المهم الفعل، فمن طاف وسعى وقصر، فقد حل من(65/95)
إحرامه إن كان متمتعا.(65/96)
س: إذا أردت السفر، وأذن أذان الظهر، فهل أصلي الظهر جمعا أم قصرا، وهل أجمع معها العصر أم لا، وجزاكم الله خيرا؟
ج: إذا نويت السفر، فلا قصر ولا جمع إلا بعد مفارقة عامر البلد، ما دمت مقيما في البلد، فلا تجمع ولا تقصر؛ لأنك لا تعطى أحكام السفر، إنما يصدق عليك السفر إذا فارقت البلاد التي كنت مقيما فيها، وفارقت بنيانها، قاصدا سفرا يبلغ ثمانين كيلو فأكثر.(65/96)
س: مرت من أمامي امرأة، وأنا في المسجد الحرام، أصلي الفريضة مع الإمام، ما حكم صلاتي؟
ج: المسجد الحرام لا يشترط فيه السترة؛ لأن السترة إنما تكون في غير المسجد الحرام للضرورة، لأننا لو اشترطنا السترة في الحرم، لشق ذلك على الناس، لا سيما أيام الموسم، وإلا فالمرأة إذا مرت بين يدي المصلي في غير الحرم تقطع صلاته، لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قلت: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: الكلب(65/96)
الأسود شيطان (1) » أخرجه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (510) ، سنن الترمذي الصلاة (338) ، سنن النسائي القبلة (750) ، سنن أبو داود الصلاة (702) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/151) ، سنن الدارمي الصلاة (1414) .(65/97)
س: وإذا كان وراء الإمام؟
ج: إذا كان وراء الإمام فسترة الإمام سترة لمن خلفه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أقبلت راكبا على حمار أتأن وأنا يومئذ قد ناهزت الحلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي (1) » قالوا إن الأتان مر بين يدي الصف، لكن لما كانوا مأمومين، فسترة الإمام سترة لمن خلفه.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (76) ، صحيح مسلم الصلاة (504) ، سنن الترمذي الصلاة (337) ، سنن النسائي القبلة (754) ، سنن أبو داود الصلاة (716) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (947) ، مسند أحمد بن حنبل (1/365) ، موطأ مالك النداء للصلاة (369) ، سنن الدارمي الصلاة (1415) .(65/97)
س: رجل أحرم بالحج مفردا، ونام قبل طواف القدوم، ثم استيقظ ولم يتوضأ، فطاف ثم سعى سعي الحج، فما حكم طوافه؟
ج: يعيد طوافه وسعيه، لأن من شروط صحة الطواف الطهارة، والسعي من شروطه أن يكون عقب الطواف.(65/97)
س: هل يسعى يوم العيد بعد الرمي والحلق، ويؤجل طواف الإفاضة إلى بعد انتهاء الحج، ليكون كافيا عن طواف الوداع؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم في عمره وفي حجه ما كان يسعى إلا بعد أن يطوف، فالأولى للإنسان أن يجعل السعي بعد الطواف، وأما تقديمه على الطواف لا شك أن بعض العلماء قالوا بجوازه، ونص عليه الشيخ ابن باز رحمه الله في منسكه، ولكن ما دام الإنسان يمكنه أن يعمل عملا، العلماء متفقون على مشروعيته، أولى من أن يأتي بعمل قسم من العلماء يرونه غير صحيح.(65/97)
س: أيهما أفضل للمحرم، التكبير أم التلبية، وهل من كلمة حول رفع الصوت، تلك السنة التي كادت تندثر؟
ج: السنة جاءت بهذا وهذا، فالصحابة كما قال أنس: «خرجنا مع رسول الله ومنا المكبر ومنا الملبي (1) » ، لكن محمد صلى الله عليه وسلم كان يلبي، ولا شك أن رفع الصوت بالتلبية والتكبير من السنن القولية المهمة، وكان عمر بمنى يكبر، فيكبر الناس بتكبيره، حتى تضج منى تكبيرا، لا شك أنها عبادة وطاعة لله، كنا نسمعها في المساجد والأسواق، ولكن للأسف قلت هذه السنة، وبدأت تنحسر من الناس، فينبغي لنا إحياء هذه السنة، بالحث عليها، وبفعلها في مجامع الناس، امتثالا لأمر الله {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (970) ، صحيح مسلم الحج (1285) ، سنن النسائي مناسك الحج (3000) ، سنن ابن ماجه المناسك (3008) ، موطأ مالك الحج (753) .
(2) سورة الحج الآية 28(65/98)
س: سماحة الشيخ نحبك في الله، ووالدي يرحمه الله كتب وصيته قبل الممات، وهي حج كل سنة من التركة التي خلف من أمواله بر. السؤال هو كتب عند قاضي المحكمة التي في بلدنا حج كل سنة، وله عدة أولاد، وحجه يخرج من التركة، فهل كل سنة نحج عنه في وصيته أم لا، إذا كان أحد الأخوان يصعب عليه الحج، هل من الممكن إعطاء المبلغ أي شخص يحج عنه، أفيدونا أثابكم الله؟
ج: ما دام الوصية بالثلث فأقل فإنها تنفذ، ويدفع حجة لمن(65/98)
يحج كل عام كما أوصى والدكم، وسواء كان الذي يحج عنه أحد أبنائه أو غيرهم، ممن توكلون بالحج عن والدكم وتعطونه نفقة الحج.(65/99)
س: هل الدخان يبطل الحج؟
ج: الدخان خبيث محرم، وتعاطيه معصية، لأن الله تعالى أخبرنا أنه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وذكر لنا مما يأمر به وينهى عنه، فقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) ، وهو خبيث ضار فيكون محرما، ومتعاطيه آثم ينقص ثواب حجه، لكنه لا يبطل، لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة البقرة الآية 197(65/99)
س: رجل أحرم يوم أمس ناويا القران من العمرة، لكن قصر من شعره بعد الطواف والسعي، فماذا عليه، جزاكم الله خيرا؟
ج: الأولى في حقه أن يجعلها عمرة، ما دام قصر يجعلها عمرة، فيكون متمتعا، والتمتع والقران كلاهما يجب معه الهدي، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(65/99)
س: هل يجوز للنساء عند الإحرام الطيب، وما صحة حديث عائشة أنها قالت: " كنت ألطخ ثياب وجبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسك ويسيل على ثيابي؟(65/99)
ج: الطيب في حق الرجال قبل الشروع في الإحرام، مشروع لحديث عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت (1) » متفق عليه.
أما المرأة فإن الطيب في حقها قد يكون سببا للإثارة، وهي منهية عند الخروج عن الطيب، فلا تتطيب صيانة لها، وبعدا عن مواطن الفتن.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1539) ، صحيح مسلم الحج (1189) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .(65/100)
س: لقد شاهد الكثير يوم أمس في المسجد الحرام بعض الحجاج يرفعون أصواتهم ببعض الأدعية التي هي في طقوسهم تعتبر شركية، فما رأي سماحتكم في هذه الأمور، وما توجيه سماحتكم؟
ج: نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، لا شك يا إخواني أن من اعتنق بدعة وألفها يرى أنها صحيحة، رغم أنها خطأ، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (1) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (2) ويقول عز وجل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (3) فالدعاء حق لله جل وعلا، لا يشركه أحد فيه، كما كان يقول سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (5)
__________
(1) سورة الكهف الآية 103
(2) سورة الكهف الآية 104
(3) سورة البقرة الآية 93
(4) سورة الأعراف الآية 55
(5) سورة الأعراف الآية 56(65/100)
فالاعتداء في الدعاء برفع الصوت به، أو الإتيان بأدعية غير مشروعة، هذا كله منهي عنه بنص الآية، أما الإتيان بأدعية فيها تعلق بمخلوق، ودعاء له، وعبادة له من دون الله، كل هذا من الشرك بالله؟ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) . . ويقول سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2) ويقول عز وجل {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (3) {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (4) فلا شيء يستحق العبادة والتعظيم إلا الله سبحانه، ولهذا فإن الله تعالى يقول {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (5) فالعبادة لرب البيت، لا لذات البيت، فتعظيم الأشخاص وتقديمهم إلي أن يبلغ بهم مرتبة الألوهية، أو نحو ذلك، هذا كله من الكفر والضلال، نسأل الله العفو والعافية.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة سبأ الآية 22
(4) سورة سبأ الآية 23
(5) سورة قريش الآية 3(65/101)
س: هل يجوز لي أن أحج عن والدتي تطوعا، علما أنها حجت الفريضة، وأنا كذلك حججت الفريضة، وهل يعد هذا من البر لها، علما بأنها لا زالت على قيد الحياة؟
ج: من كان حيا فإن الأعمال الصالحة لا تنقطع عنه إن عجز عن الحج اعتاض بالصيام، اعتاض بالصلاة، اعتاض بالذكر، فالحي القادر على الحج ببدنه، لم يرد في السنة ما يدل على جواز الحج عنه، فإنا إذا تأملنا السنة وجدناها دالة على مشروعية الحج عمن لم يؤد فرضه، أو من عليه نذر وهو غير قادر على الحج ببدنه، وكذلك جاءت السنة بمشروعية الحج عن الميت، لكن عن أحياء يحج عنهم نافلة، هي قد تكون صحيحة، لكن في النفس منها شيء، حيث لم ترد السنة بذلك.(65/102)
س: حضرنا عن طريق حملة من القصيم لأداء مناسك الحج، وعندما وصلنا الخيام وجدناها في مزدلفة، قال لنا المسئولون عن الحملة هذا المكان نقوم في المبيت فيه بدلا من منى، وعندما سألناهم عن ذلك قالوا بأنه قد صدرت فتوى من فضيلتكم بذلك، فقلنا هذا إذا ذهبنا إلى منى ولم نجد مكانا، فتركنا الحملة هذا اليوم وجئنا إلى منى، فما رأي سماحتكم؟
ج: ما فعلتموه هو الصواب، لأنه لا يبات بمزدلفة إلا إذا تعذر المبيت بمنى، إذا أمكن الإنسان أن يكون إلى نصف الليل بمنى فهو الواجب في حقه.(65/102)
س: إذا قدم الحاج إلى منى قبل يوم الثامن، هل له أن يقصر الصلاة، وما حكم من أخر الإحرام إلى ليلة يوم عرفة؟
ج: إذا قدم المسافر من خارج الميقات، ونزل بمنى، فإنه له أن يقصر؛ لأنه مسافر قدم إلى منى، فله أن يقصر، وأما الإحرام فالمهم منه يوم عرفة، ولكن السنة الإحرام في اليوم الثامن، وإن تركه إلى التاسع فلا شيء عليه، المهم أن لا يقف بعرفة إلا وهو محرم.(65/103)
س: لدي مشكلة سلس البول، أعزكم الله، حيث إنني أعاني من هذا كثيرا، وإني أضع شطرطون على فتحة القضيب حيث طفت ولا زلت حتى الآن، أرجو الإفادة عن ذلك، وما صحة صلاتي وطوافي؟
ج: المصاب بسلس البول يحفظ ملابسه وبدنه من أن يصاب بشيء من ذلك، وصلاته وطوافه صحيح، ويتوضأ لوقت كل صلاة.(65/103)
س: شخص يرغب في الحج، ولكن عنده أعمال وزيارة بعض الإخوان، وقد مر على الميقات، ميقات السيل ولم يحرم منه، فهل يصدق عليه حديث «ومن كان دون ذلك فمهله من حيث أنشأ (1) » أم يلزمه فدية؟
ج: يلزمه العود إلى الميقات إن كان لم يحرم بعد، وإن كان أحرم فعليه دم.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1524) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/252) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .(65/103)
س: أنا رجل نويت العمل بمكة، وفي نفس الوقت أتيت بنية حج، إلا أن عدم توفر التصريح بالحج لي جعلني أدخل مكة دون(65/103)
إحرام، وبعد ذلك في يوم التروية أفردت بالحج، فماذا علي، حيث لم أحرم من الميقات؟
ج: أنت مخطئ وآثم، لأنك أولا أحرمت بالحج من مكة، والواجب عليك الخروج إلى الميقات، والإحرام بالحج أو العمرة متمتعا بها إلى الحج من هناك. ثانيا: أنت خالفت ما وضعه ولي الأمر من أنظمة وتعليمات، رأى أن المصلحة العامة في اتباعها، وطاعة ولي الأمر واجبة، ومعصيته محرمة، والحمد لله أمر التصريح لمن تنطبق عليه الشروط ميسر، وأنت الآن جنيت على نفسك، وعصيت ربك، وعلى كل، فعليك دم لأنك أحرمت من مكة ولم تخرج إلى الميقات، وعليك التوبة، والندم، وكثرة الاستغفار، لعل الله أن يغفر لك ما فعلت.(65/104)
س: أتيت إلى الميقات، ونويت وقلت لبيك اللهم عمرة متمتعا بها إلى الحج، فهل التلبية صحيحة، أم علي شيء؟ علما بأنني طفت وسعيت وأحللت إحرامي، واليوم يوم الثامن وهو يوم التروية نويت الحج، وأحرمت، هل النية صحيحة التي قلتها في أول الميقات أم لا؟
ج: ما فعلته صحيح، وأنت الآن متمتع، فأكمل مناسك الحج، وعليك دم التمتع.(65/104)
س: أرجو توضيح البرنامج اليومي، لازدياد بعض الخير، بداية من فجر اليوم الثامن، حتى صلاة الصبح من اليوم التاسع؟
ج: يسن في هذا اليوم الاشتغال بذكر الله، والتلبية، والتكبير(65/104)
والمبيت بمنى وغدا يكون الانتقال إلى عرفة والوقوف بها إلى الغروب.(65/105)
س: سعيت يا سماحة الشيخ، وبدأت بالمروة وانتهيت بالمروة، فهل سعيي صحيح، أم أعيد السعي؟
ج: الأصل بأن السعي يبدأ بالصفا، وينتهي بالمروة، فيكون الذهاب سعية، والرجوع سعية، أما إذا بدأ بالمروة، فيعتبر هذا الشوط لاغيا، فإن كان ما سعى إلا ستة أشواط، فيعيد السعي، لأن السعي سبع مرات، وإن كان سعى ثمانية أشواط، فإنه لا يعتد بالأول منها، الذي بدأه من المروة، فيكون قد سعى سبعا، ويجزئه ذلك إن شاء الله.(65/105)
س: بالنسبة لوضع اليدين في الصلاة على الصدر، هل تكون على الصدر، أو أسفل من الصدر على البطن؟
ج: الحديث الذي ورد فيه وضعها على الصدر أرجح من الوارد في وضعها على السرة، فوضعهما على الصدر أولى.(65/105)
س: أنا حاج ومتمتع، ولدي بعض الأعمال أقوم بها في جدة بعد الحج، فهل أذهب لقضاء أعمالي في جدة، ثم أعود بعدها لطواف الوداع؟
ج: لا تذهب إلى جدة إلا بعد أداء طواف الوداع.(65/105)
س: صليت العصر ركعتين، علما بأنني بعدما كبرت نويت أربعا، ولكن بعد علمي بعدم دخول الوقت بعد التكبر صليت ركعتين وأنا مسافر، فما الحكم فيه؟
ج: من شرط صحة الصلاة، دخول الوقت، فما دام الصلاة(65/105)
التي صليتها، كانت قبل دخول الوقت، فإنها لا تصح، وعليك أن تصلي الفريضة إذا دخل وقتها، والمسافر له أن يقصر الصلاة، إن صلاها وحدة أو مع جماعة مسافرين، أما إذا صلى خلف إمام مقيم، فإنه يتم.(65/106)
س: ما حكم الحفائظ لطفل صغير، هل تعتبر مخيطا أم لا، وهو محرم به والده؟
ج: الحفائظ للأطفال لا تعتبر في حكم المخيط.(65/106)
س: هل يجوز صيام ثلاثة الأيام لمن كان لا يستطيع أن يهدي في بلده؟
ج: الأصل كما قال الله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (1) تصوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر في الحج، والسبعة الباقية يصومها في بلده إن شاء الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(65/106)
س: عجز عن صيام ثلاثة أيام التشريق هل يصوم العشر في بلده؟
ج: إذا عجز عن صيام ثلاثة أيام في الحج، فليصم العشرة أيام كلها إذا رجع، متتابعة أو متفرقة.(65/106)
س: من طاف طواف الإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة، هل يكون قد تحلل التحلل الأول أم الثاني؟
ج: إن طاف طواف الإفاضة مع الحلق أو التقصير، فهذا تحلل(65/106)
التحلل الأول؛ لأن التحلل الأول يكون باثنين من ثلاثة، فعندنا الرمي والحلق والطواف، فإن فعل اثنين منها صار متحللا التحلل الأول، يباح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، وإن فعل الأشياء الثلاثة حل كل شيء حرم عليه بالإحرام.(65/107)
س: بالنسبة للمفرد، متى يحل الإحرام؟
ج: إذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر، أو رمى وطاف بالبيت، أو حلق وطاف بالبيت.(65/107)
س: هل هناك قولان للعلماء لمن لم يستطع أن يهدي ولا يقدر يصوم أن يطعم ستة مساكين؟
ج: إذا عجز عن الهدي فإن الله تعالى يقول: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (1) فالله جل وعلا ذكر الصيام، فإذا عجز عن الصيام إذا لم يجد الهدي وعجز عن الصيام، فإنه يبقى في ذمته، فإن مات ولم يهد، ولم يصم، أطعم عنه أولياؤه، عن كل يوم مسكينا والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(65/107)
س: عندي حجة لميت، وأحرمت من الميقات متمتعا، ومعي سيارة من الدولة وقفتها في عرفات، وأستخدمها حتى أستكمل حجي، والوداع يوم الثاني عشر بعد الظهر، هل علي حرج إذا رجعت بعد المغرب؟(65/107)
ج: من كان متعجلا، فإنه يجب عليه أن يرمي الجمرة، ويخرج من منى قبل الغروب، وإلا وجب عليه المبيت بمنى تلك الليلة، وطواف الوداع لا يكون إلا بعد الانتهاء من الرمي، ومن فعل فليعد طواف الوداع بعد الرمي إن لم يخرج من مكة، فإن خرج فعليه دم عن تركه طواف الوداع.(65/108)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
فتوى رقم 3943
س: نحن من سكان البادية وكل زماننا نرتحل من جهة إلى أخرى ويوجد لدينا ثلاثة وايتات لجلب الماء عليها لنا وللأغنام والإبل ونحن اثنا عشر بيتا والوايتات تخص ثلاثة بيوت والباقون يشربون معهم فهل يجوز لنا التيمم بدلا من الوضوء؟ علما بأن المسافة عن موارد المياه تختلف من مكان إلى آخر؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا توفر الماء لديكم فالواجب أن تتطهروا منه، الطهارة الكبرى والصغرى، وإذا لم يتوفر جاز التيمم عند بعد الماء ومشقة إحضاره وقت الصلاة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/109)
فتوى رقم 4373
س: هل التيمم في السفر مطلق حتى مع وجود الماء؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
المسافر لا يتيمم إلا إذا كان مريضا مرضا يضره معه استعمال الماء أو لا يقدر على استعماله أو لم يجد الماء؛ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) سورة المائدة الآية 6(65/110)
فاشترط سبحانه في العدول عن الطهارة المائية إلي الطهارة الترابية- التيمم- ألا يجدوا ماء، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء (1) » . رواه مسلم. لكن المريض الذي لا يستطيع استعمال الماء بنفسه أو بمن يساعده أو يتضرر باستعماله من أجل المرض يجوز له التيمم مع وجود الماء؛ لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) رواه البخاري 1 \ 369 و 370، ومسلم 1 \ 370.
(2) سورة التغابن الآية 16(65/111)
فتوى رقم 4887
س: إني من سكان البادية وعندي ماشية غنم وإبل ونسقيها على السيارات التي نملكها وعندنا أنواع السيارات أكبرها السيارات التي تحمل خزانات الماء وبعضها السيارات مثل(65/111)
جمس وشفر وأشباه ذلك، والبعض منا لم يتوضأ ولم يغتسل، فما الحكم في ذلك؟ وإذا كنا ثلاثة وتوضأ اثنان والثالث لم يتوضأ فهل الثالث مكمل للجماعة أم لا؟ ما مقدار الماء الذي لا يصلح التيمم وهو موجود، أفيدونا جزاكم الله خيرا والله يحفظكم؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أفتت اللجنة بوجوب الوضوء بالماء إذا وجد؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) فالأصل في الطهارة الماء فإذا عدم الماء أو وجد ولكنه قليل لا يكفي إلا لطعامه وبهائمه، يتيمم للصلاة رحمة من الله بعباده وتيسيرا عليهم. أما إذا كانت خزانات المياه موجودة بقرب المصلين والسيارات التي ينقل عليها الماء موجودة أو باستطاعته إحضار الماء قبل خروج الوقت فلا يصح التيمم، ويجب عليه إعادة الصلاة إذا صلى بالتيمم. والجماعة يكفي فيها اثنان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: «إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليأمكما أكبركما (2) » متفق عليه واللفظ لمسلم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) رواه البخاري 1 \ 167، ومسلم 2 \ 134.(65/112)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/113)
فتوى رقم 5091
س: إذا وجد الماء في الصحراء ولكنه لا يكفي لأخذ الوضوء منه فهل يجوز استعمال العفور في التيمم أم لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يستعمل الماء الموجود فيما يكفي من الأعضاء ويتيمم لما بقي؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » ، متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) رواه البخاري 13 \ 251، (فتح الباري) ، ومسلم 4 \ 1830.(65/113)
فتوى رقم 8290
س: إذا أصبح الإنسان مجنبا ولديه ماء لكن الماء لا يكفي للغسل بل يكفي للوضوء فقط والوقت حاضر فماذا يفعل؟
ج: لحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا لم يجد من أصابته جنابة ماء يكفي للغسل فإنه يتوضأ بما وجده من الماء القليل ويتيمم للجنابة إذا ضاق الوقت ولا يؤخر الصلاة عن وقتها. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/114)
فتوى رقم 5921
س: هل التيمم لازم على النساء كالرجال أم أنه خاص بالرجال دون النساء في حالة عدم وجود الماء للصلاة؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله(65/114)
وصحبه. . وبعد:
الأصل في الأحكام العموم للرجال والنساء جميعا إلا ما جاء فيه استثناء لأحدهما؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) فالأمر بالتيمم في الآية عام للرجال والنساء وهم في حكمه سواء فيشرع التيمم للنساء مثل الرجال بإجماع أهل العلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(65/115)
من الفتوى رقم 8482
السؤال الخامس: إذا جاء إنسان وقد أقيمت الصلاة وهو غير متوضئ فهل يجوز له أن يتيمم ليدرك الصلاة جماعة؟(65/115)
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يجوز له أن يتيمم ليدرك الجماعة، بل يجب عليه أن يتطهر الطهارة المائية ولو فاتته الجماعة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/116)
فتوى رقم 12354
س: إن أمي قاصرة وطاعنة في السن ومنطقتنا باردة فلا تستطيع الوضوء خاصة في صلاة الفجر فهل يجوز لها التيمم وهي عندما تتيمم تعتقد أن صلاتها ناقصة فلذلك تعيدها بعد طلوع الشمس؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يجب استعمال الماء عند الطهارة في الشتاء إذا كان عنده ما يسخن به الماء ولا يصح التيمم في هذه الحالة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/116)
فتوى رقم 11504
س: نعيش في البادية ونحب قراءة القرآن ولكن أحيانا نأخذ القرآن كي نحفظ منه ولكن نكره أننا لم نجد الماء فنضع المصحف على الأرض ونتيمم ونأخذ المصحف هل يجوز للمتيمم أن يمس القرآن أم لا أفيدونا أفادكم الله وجزاك الله خيرا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا عجز المسلم عن استعمال الماء أو لم يجده جاز له التيمم ومس المصحف.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/117)
فتوى رقم 12797
س: أثناء اليوم الدراسي وقبل صلاة الظهر انقطعت المياه من المسجد، وعلمنا يقينا وجود المياه في المدرسة ولكن خلف أحد الأبواب الموصدة التي لا تفتح إلا عند انتهاء اليوم الدراسي، وعلمنا كذلك وجود المياه خارج المدرسة في مكان قريب. فما(65/117)
حكم التيمم في هذه الحالة؟ مع العلم بأن موعد انتهاء اليوم الدراسي قبل صلاة العصر بقرابة الساعة والنصف؟ . أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يصح التيمم مع وجود الماء القريب ولكم أن تؤخروا الصلاة عن أول وقتها وتنتظروا الماء ما دام الوقت باقيا لم يخرج.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/118)
من الفتوى رقم 11176
السؤال الأول: هل يجوز للجنب مع وجود عذر لا يمكن معه استعمال الماء للاغتسال كمرض أو جرح أن يحضر الصلاة جماعة في المسجد؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا وجد العذر المانع من استعمال الماء في الطهارة الصغرى أو(65/118)
الكبرى فإنه يتيمم ويصلي جماعة في المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/119)
من الفتوى رقم 11291
السؤال الثاني: إذا كنت مسافرا ودخل وقت الظهر ولا معي ماء أتوضأ به وبيني وبين البلد الذي أمامي حوالي ساعتين أو ثلاث ساعات، بحيث إنني أصل هذا البلد قبل خروج وقت الظهر هل أتيمم وأصلي أم أنتظر حتى أصل البلد؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا دخل وقت الصلاة وجب على المكلف طلب الماء فإن لم يجد فإنه يتيمم ويصلي ولا ينتظر وصول البلد القادم عليه، إلا إذا كان جادا في السير فإن له أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/119)
من الفتوى رقم 6420
السؤال التاسع: إذا كان المسافر يقصر ويتيمم فهل يجوز له تيمم واحد في جميع الفروض أو لا بد من تيمم في كل صلاة؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يكفيه تيمم واحد لصلاة أكثر من فرض أو فرض ونافلة ما دام على الطهارة ولم يجد الماء على الصحيح من قولي العلماء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/120)
من الفتوى رقم 7756
السؤال الثاني: رجل تورمت يده وقد نام واحتلم في هذه النومة وهو عاجز عن الغسل كيف يفعل؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا مرض الشخص مرضا لا يستطيع معه استعمال الماء أو(65/120)
يتضرر باستعماله، جاز له أن يتيمم للحدثين الأصغر والأكبر، كما إذا احتلم في نومه وعجز عن الاغتسال، أو يتضرر باستعماله، وإذا أمكن أن يغسل بعض بدنه ويتيمم للبعض الآخر وجب ذلك، لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) . ولحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(65/121)
فتوى رقم 10951
س: ما هو حد المرض المبيح للتيمم مع وجود الماء؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إن المرض الذي يشرع عند حصوله التيمم هو المرض الذي يخشى منه مع استعمال الماء زيادة المرض أو تأخر برء الجرح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/121)
من الفتوى رقم 9397
السؤال الأول: إذا كان البرد شديدا جدا جدا والماء في الإناء كالروب وفي الإبريق يتثلج، ومثلا إنسان وقع عليه حدث والماء يؤثر عليه ويعمل له مرض الحمى كيف العمل؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كأن الأمر كما ذكر فإنه يتيمم قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) . لكن إذا أمكنه تسخينه بالنار وجب ذلك ووجب عليه الغسل، لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة التغابن الآية 16(65/122)
فتوى رقم 12095
س: إني طريح الفراش ولا أقوى على الحركة فكيف أقوم بعملية الطهارة لأداء الصلاة وكيف أصلي؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: بالنسبة للطهارة يجب على المسلم أن يتطهر بالماء فإن عجز عن استعماله لمرض أو غيره تيمم بتراب طاهر، فإن عجز عن ذلك سقطت الطهارة وصلى حسب حاله؛ قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) . وقال جل ذكره: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ،. " أما ما يتعلق بالخارج من البول والغائط فيكفي فيه الاستجمار بحجر أو مدر أو مناديل طاهرة يمسح بها محل الخارج ثلاث مرات أو أكثر حتى ينقي المحل.
ثانيا: بالنسبة للصلاة فإن الواجب على المريض الصلاة قائما، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب؛ لما ثبت عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (3) » وقوله جل وعلا:
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة الحج الآية 78
(3) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .(65/123)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(65/124)
من الفتوى رقم 11359
السؤال الثاني: نحن نعيش هنا مع أهلنا البدو (أصحاب الإبل) ونراهم يتركون الماء ويصلون بالتيمم بدون أسباب تدعو للتيمم؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لا يجوز التيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله ولا يجزئهم عن الوضوء والغسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/124)
من الفتوى رقم 8593
السؤال الثالث: لقد عشت منذ الصبا بذبحة صدرية ونزيف داخلي:
(أ) هل لي أجر عند الله في ذلك؛ لأني حرمت من شباب وصحتي؟
(ب) معظم الأيام أصلي بتيمم، لأني لا أستطيع الاستحمام هل يجوز لي ذلك؟
(ج) هل أستطيع تعليم التلاميذ القرآن وأنا غير طاهر؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: إن صبرت على ما أصابك فلك الأجر عند الله وإن جزعت ولم تصبر حرمت الأجر.
ثانيا: إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك لا تستطيع الاستحمام شرع لك التيمم عن الجنابة.
ثالثا: إذا كنت لا تستطيع استعمال الماء في الطهارة من الحدث كفاك التيمم للطهارة من الحدث لمس المصحف، ولك تعليم القرآن وإن كنت على غير طهارة من الحدث الأصغر، أما الجنب فلا(65/125)
يمس المصحف ولا يقرأ القرآن ولا يعلمه الطلاب حتى يغتسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/126)
من الفتوى رقم 6522
السؤال السادس: هل يجزئ التيمم الواحد عن الغسل والوضوء أو لا بد من التيممين؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يجزئ التيمم الواحد عن جميع الأحداث الكبرى والصغرى إذا نواها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/126)
فتوى رقم 2852
س: هل المسافر الذي يقيم في البلاد مدة ثلاثة أو ستة أيام أو عام(65/126)
فهل يقصر أم لا؟ وكذلك التيمم بالحجر هل يجوز أم لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: المسافر الذي نوى الإقامة ببلد أكثر من أربعة أيام لا يقصر الصلاة، وإذا كانت الإقامة دون هذه المدة فإنه يقصر الصلاة.
ثانيا: إذا أراد أن يتيمم فإنه يتيمم من الصعيد الطيب؛ لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (1) وهو تراب الأرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء (2) » . رواه مسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) مسلم 1 \ 371.(65/127)
فتوى رقم 3524
س: هل يصح التيمم لمن يأخذ حجرة قدر البيضة ويمر بها على اليدين ثم يمسح بهما؟(65/127)
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الأصل أن من أراد أن يتيمم أنه يتيمم بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد، والذي يدل على هذا الأصل قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) . ولا يحصل المسح بشيء منه إلا أن يكون ذا غبار يعلق باليد. وروى الشافعي في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله جعل لي التراب طهورا. . . (2) » الحديث. رواه أحمد. ولو كان غير التراب طهورا لذكره فيما من الله تعالى به عليه، لكن إذا كان في أرض ليس فيها تراب كفاه أن يتيمم مما فيها من رمل ونحوه. وأما الحجر الذي ذكرته فلا يكفي استعماله في التيمم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أحمد 1 \ 98.(65/128)
من الفتوى رقم 5081
السؤال الأول: إنني في بيت وليس عندي تراب وفي بعض الأوقات ليس عندي أحد يحضر لي ترابا هل يجوز لي أن أتيمم على الفراش (السجاد) أم لا؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله، وصحبه. . وبعد:
يجب عليك أن تتيمم بتراب طاهر إذا لم يوجد الماء، أو تعذر استعماله؟ لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) ، فإن عجزت عن التراب أجزأك التيمم بضرب الأرض الطاهرة كيف ما كانت وإن لم يكن فيها غبار؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة التغابن الآية 16(65/129)
فتوى رقم 11502
س: يوجد لدي والد يبلغ من العمر حوالي سبعين أو الثمانين وهو مصاب بعدة أمراض وهي: (1) ربو شعبي في الرئة. (2) سكر في الدم. (3) التهاب في الأعصاب ومفاصل العمود الفقري. (4) مقعد في الفراش ولا يستطيع القيام من الفراش منذ ثلاث سنوات وأسألكم عن الآتي:
1 - أنه إذا صام وجاء نصف النهار لم يستطع مواصلة الصيام فيفطر ولم يستطع فماذا يعمل في صيام رمضان؟
2 - لا يقدر أن يؤدي الوضوء على الوجه المطلوب حيث لا يقدر أن يجلس أو يقوم واقفا فماذا يفعل إذا أراد الصلاة؟
3 - قد لا تخلو ملابسه من بعض النجاسة مثل قطرات البول أو بقايا براز حيث إنه في بعض الأحيان يخرج منه بول أو براز بدون أن يشعر بذلك. آمل الرد على أسئلتي؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: إذا كان والدك لا يستطيع الصيام لكبره أو لمرض لا يرجى برؤه فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من(65/130)
بر أو تمر أو أرز ونحوها من قوت البلد.
ثانيا: إذا كان والدك لا يقدر على الوضوء بنفسه أو بمن يعينه فإنه يتيمم بتراب طاهر.
ثالثا: إذا كان البول لا يستمسك مع والدك أو كان لا يستطيع أن يغير ملابسه النجسة فإنه يصلي حسب الاستطاعة ويعفى عما أصابه من النجاسة، ويتيمم لكل صلاة. أما إن استطاع غسل النجاسة بنفسه أو بغيره من ثوبه أو إبداله بثوب طاهر وقت الصلاة فإنه يلزمه ذلك، لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) .
بالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(65/131)
من الفتوى رقم 9223
السؤال الرابع: هل المتيمم إذا مسح على يده إلى أين يصل المسح إلى الكوعين أم إلى المرفقين، وكم عدد الأوقات يصلي بالتيمم الواحد، وكم عدد الضربات في التيمم؟(65/131)
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
يمسح كفيه كل واحدة بالأخرى من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف من الذراع، والمفصل الذي يلي الكف داخل في المسح لا إلى المرفقين. ويصلي بتيممه ما لم يجد الماء أو يحصل منه ناقض للوضوء. والأفضل في التيمم أن يضرب الأرض ضربة واحدة بيديه ثم يمسح بهما وجهه وكفيه؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث عمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ضربة واحدة ثم تمسح بهما وجهك وكفيك (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) البخاري 1 \ 455 (فتح) ، مسلم 1 \ 280 و281.(65/132)
من الفتوى رقم 4548
السؤال الأول: إذا وجبت علي صلاة الظهر وأنا في مكان لا يوجد به ماء وصليت صلاة الظهر متعفرا، وبعد الصلاة تأكدت(65/132)
بأنه لم ينتقض وضوئي ودخل وقت صلاة العصر وصليت بدون أن أتعفر. فهل لي صلاة أم لا، أو يجب أن أتعفر بعد دخول الوقت؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الصحيح من أقوال العلماء أن التيمم لا ينتقض بخروج الوقت الذي فعل فيه وإنما ينتقض بوجود الماء أو بناقض من نواقض الوضوء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/133)
من الفتوى رقم 13045
السؤال الثاني: إذا أحدثت حدثا أكبر أو أصغر وليس عندي ماء وتيممت وحضر الماء وأنا على طهارتي من التيمم هل يبطل التيمم؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الأصل في الطهارة أن تكون بالماء فإذا فقد أو عجز عن(65/133)
استعماله قام التيمم بالتراب بدلا عنه، فإذا وجد الماء بطلت الطهارة بالتيمم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/134)
من الفتوى رقم 13036
السؤال الأول: امرأة كبيرة في السن في عشر التسعين ويشق عليها الوضوء والغسل؛ لأنها مقعدة لا سيما وقت البرد وبعد مكان الوضوء عنها فهل لها رخصة في التيمم لكل صلاة أو الجمع بين الأوقات بالوضوء الواحد؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان الأمر كما ذكر فإن المرأة المذكورة تتوضأ بقدر الاستطاعة ولو بتقريب الماء إليها في محلها، فإن لم تستطع ذلك بنفسها ولا بغيرها جاز لها التيمم؛ لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وأما الخارج من الدبر والقبل من الغائط والبول فيكفيها عنه الاستجمار بما يزيل الأذى وينقي المحل من حجر أو مدر أو مناديل طاهرة. ويجب أن لا تنقص المسحات لكل واحد من
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(65/134)
الدبر والقبل عن ثلاث مرات، فإن لم تكف وجب الزيادة حتى ينقى المحل من الأذى. ولها الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما وكذا بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما؛ لأنها في حكم المريض.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/135)
من الفتوى رقم 296
السؤال الأول: لو توضأ إنسان وبيده جرح لا يصله الماء وإنما يتيمم عنه فنسي وصلى بدون تيمم فذكر وهو في صلاته فتيمم دون أن يقطع الصلاة واستمر بصلاته فما حكم هذه الصلاة هل هي باطلة أو صحيحة؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان في موضع من مواضع الوضوء جرح ولا يمكن غسله ولا مسحه؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن هذا الجرح يزداد أو يتأخر برؤه فالواجب على هذا الشخص هو التيمم. فمن توضأ تاركا موضع الجرح ودخل في الصلاة وذكر في أثنائها أنه لم يتيمم فإنه يتيمم(65/135)
ويستأنف الصلاة من أولها، لأن ما مضى من صلاته قبل التيمم غير صحيح ومنه تكبيرة الإحرام فلم يصح دخوله في الصلاة أصلا، لأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة، وترك موضع من مواضع الوضوء أو ترك جزء منه لا يكون الوضوء معه صحيحا، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء أمره بإعادة الوضوء، وهذا الشخص المسئول عنه لما تعذر الغسل والمسح في حقه وجب الانتقال إلى البدل الذي هو التيمم؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) ولقصة صاحب الشجة عند أبي داود عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب- شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده (2) » الحديث. فإذا كان هذا الشخص الذي سئل عنه لم يعد تلك الصلاة فإنه يعيدها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سنن أبو داود الطهارة (336) .(65/136)
فتوى رقم 13028
س: الوالدة حصل لها نزيف حاد في الأنف بسبب ضربة في أحد الأيام حوالي الساعة الثانية ظهرا، واستمر معها حتى حوالي الساعة الرابعة والنصف عصرا حيث نقلت إلى المستشفى ووضع عليها المغذي ولم ينته المغذي إلا حوالي الساعة الخامسة وعشر دقائق تقريبا وهي تريد أن تصلي العصر، فبعد إبعاد المغذي لم تستطع الوضوء؛ لأنه حصل معها مضاعفات شديدة جدا لدرجة أنها لا تستطيع أن تحرك رأسها أو حتى تتكلم، ولم يكن في المستشفى تراب للتيمم وممنوع النزول لإحضار التراب، فأشارت إحدى المريضات علينا أن تغير ملابسها من الدم ونضع السجادة بعد طيها وتضرب عليها للتيمم ففعلت وصلت العصر. هل تكون صلاتها صحيحة أم لا، ثم في صلاة المغرب استطاعت أن تذهب إلى دورة المياه فتوضأت للصلاة وعند الوصول لغسل الوجه مسحت ثلاث مرات بالماء، لأن منطقة الأنف وما حولها كان به لزقة طبية واستمرت حوالي أيام في باقي الصلوات أيضا تصلي وهي جالسة، مع العلم بأني كنت أقوم بعملية الوضوء لها، لأنها لا تستطيع أن تحرك رأسها من جميع الجهات. أفيدونا أفادكم الله؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(65/137)
أولا: ضرب والدتك السجادة للتيمم صحيح؛ لعدم تمكنها من الصعيد الطيب.
ثانيا: مسحها على اللزقة التي في الوجه صحيح.
ثالثا: مساعدتك لوالدتك في الوضوء لا بأس بها.
رابعا: صلاتها وهي جالسة إذا لم تستطع القيام صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/138)
من الفتوى رقم 4373
السؤال الرابع: هل التيمم يصلى به الفرض الآخر مع عدم وجود الناقض؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
من كان له عذر رخص له في التيمم من أجله فتيمم وصلى فريضة فله أن يصلي به فريضة أخرى ما دام العذر قائما ولم ينتقض تيممه بناقض من نواقض الطهارة المائية، وذلك لأن التيمم طهارة قائمة مقام الطهارة المائية؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (1) ،
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(65/138)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .(65/139)
فتوى رقم 11683
س: التيمم هل يجوز به الصلاة أكثر من مرة، لم أجد الماء ولما جاء وقت الصلاة تيممت وصليت الفرض ثم أقيمت جماعة فصليت معهم مرة ثانية بعد التيمم فهل صلاتي الأخيرة صحيحة؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
صلاتك صحيحة؛ لأن التيمم رافع للحدث كالماء في أصح أقوال العلماء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(65/139)
صفحة فارغة(65/140)
الموت والنوم والعلاقة بينهما
للدكتور \ مسفر بن سعيد الغامدي
توطئة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) . أما بعد
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(65/141)
فيقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت (3) » إن تذكر الموت والبحث فيه يرقق القلب القاسي، ولأهمية الموت وما بعده؛ ولأن الله وعظنا بالنوم؛ لأنه موت، وكأن الله يقول لنا: يا من يموت كل يوم الموت الأصغر، لا تنس الموت الأكبر وما بعده؛ لهذا وغيره أحببت أن أذكر نفسي ومن يقرأ هذا البحث والله المستعان عليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة الملك الآية 1
(2) سورة الملك الآية 2
(3) صححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1221، عزاه إلى الترمذي، والنسائي وابن ماجة.(65/142)
القسم الأول:
1 - تعريف الموت:
أسماء الموت: الموت، والحتف، والمنون، وشعوب، والسام، والحمام، والردى، والحين، والثكل، والوفاة، والهلاك. ألفاظ مؤتلفة، ومترادفة (1) .
والموت هو: خلق من خلق الله، وهو ضد الحياة، والموات ما لا
__________
(1) الألفاظ المؤتلفة للجياني، جـ2، ص233.(65/142)
روح فيه، وهو أيضا: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين، والموتة: جنس من الجنون والصرع، والمستميت: الشجاع الطالب للموت، ومات: سكن ونام وبلي. . . (1)
والموت: صفة وجودية خلقت ضدا للحياة، وباصطلاح أهل الحق قمع هوى النفس فمن مات عن هواه فقد حيي بهداه.
والموت الأبيض: الجوع؛ لأنه ينور الباطن ويبيض وجه القلب فمن ماتت بطنته حييت فطنته.
والموت الأحمر: مخالفة النفس، والموت الأخضر: لبس المرقع من الخرق الملقاة التي لا قيمة لها لاخضرار عيشه بالقناعة. والموت الأسود: هو احتمال أذى الخلق. . . (2)
وأنواع الموت بحسب أنواع الحياة:
الأول: ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الإنسان والحيوان والنبات نحو قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (3) .
الثاني: زوال القوة الحساسة. ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ} (4) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور جـ2، ص90- 94، القاموس للفيروز آبادي، جـ1، ص158.
(2) لسان العرب لابن منظور جـ2، ص90- 94، القاموس للفيروز آبادي، جـ1، ص158.
(3) سورة ق الآية 11
(4) سورة مريم الآية 66(65/143)
الثالث: زوال القوة العاقلة وهي الجهالة نحو قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (1) .
الرابع: الحزن المكدر للحياة ومنه قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (2) .
الخامس: المنام فقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل وعليه سماه الله توفيا (3) .
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (5) .
قال ابن كثير: واستدل بهذه الآية من قال: أن الموت أمر وجودي؛ لأنه مخلوق. . . (6)
وقال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} (7) .
قال ابن كثير: أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه.
قال ميمون بن مهران: من كل عظم، وعرق، وعصب.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2) سورة إبراهيم الآية 17
(3) التعريفات للمناوي، جـ2، ص683، 684.
(4) سورة الملك الآية 1
(5) سورة الملك الآية 2
(6) تفسير ابن كثير، جـ8، ص203.
(7) سورة إبراهيم الآية 17(65/144)
وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره.
وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة، أي: من جسده، حتى من أطراف شعره.
وقال ابن جرير: أي من أمامه، وورائه، وعن يمينه، وشماله، ومن فوقه، ومن تحت أرجله، ومن سائر أعضاء جسده. . . (1)
__________
(1) تفسير ابن كثير، جـ4، ص405.(65/145)
2 - الله حي لا يموت، بل هو المحيي والمميت:
الله هو الحي القيوم، ومن أسمائه: الحي، والحي في صفة الله عز وجل هو الذي لم يزل موجودا، وبالحياة موصوفا، فالحياة له صفة قائمة بذاته. . . (1)
ثم قال البيهقي: قال الله جل ثناؤه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) وقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (3) وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (4) فهو حي، وله حياة يباين بها صفة من ليس بحي. . . " (5) .
قال ابن أبي العز الحنفي: إنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه فإنهم يموتون. . .
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي، ص18، ط. فيصل آباد.
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة طه الآية 111
(4) سورة الفرقان الآية 58
(5) الاعتقاد ص26.(65/145)
واعلم أن هذين الاسمين أعني {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) مذكوران في القرآن معا في ثلاث سور وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه. . . واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال ويدل على دوامها وبقائها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا وأبدا؛ ولهذا كان قوله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها وإليهما ترجع معانيها، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. . . " (3) .
وقال سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (4) .
وقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (5) .
قال ابن كثير: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (6) أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا، المقيم لغيره، وكان عمر يقرأ: " القيام " فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره " (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص124، 125.
(4) سورة الفرقان الآية 58
(5) سورة البقرة الآية 255
(6) سورة البقرة الآية 255
(7) تفسير ابن كثير، جـ1، ص455.(65/146)
وقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} (1) قدير.
وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) .
وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (4) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كذبني ابن آدم، ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم، ولم يكن له أن يؤذيني؛ أما تكذيبه إياه فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من آخره. . . (5) » .
يقول تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (6) {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (7) .
يقول سيد قطب: وهو الذي يحي ويميت. . . " والحياة
__________
(1) سورة الروم الآية 50
(2) سورة غافر الآية 65
(3) سورة غافر الآية 68
(4) سورة الروم الآية 27
(5) أخرجه البخاري في الصحيح في تفسير سورة البقرة، انظر تفسير ابن كثير، جـ5، ص246.
(6) سورة مريم الآية 66
(7) سورة مريم الآية 67(65/147)
والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله يملك الموت والحياة؛ فالبشر- أرقى الخلائق- أعجز من بث الحياة في خلية واحدة، وأعجز كذلك من سلب الحياة سلبا حقيقيا عن حي من الأحياء، فالذي يهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها، والبشر قد يكونون سببا وأداة لإزهاق الحياة، ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة، إنما الله هو الذي يحيي ويميت، وحده دون سواه. . . " (1) .
__________
(1) في الظلال، لسيد قطب، جـ4، ص2477.(65/148)
3 - الحكمة من الموت:
كل ما قضاه وقدره الحكيم سبحانه، فلا بد وأن يكون له حكمة، والحياة والموت من أعظم المخلوقات، فلا بد وأن تكون الحكمة منهما عظيمة وكبيرة. . .
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) .
قال ابن كثير: ومعنى الآية أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا؟ . . " (3) .
وقال القرطبي: وقيل معنى ليبلوكم ليعاملكم معاملة المختبر؛
__________
(1) سورة الملك الآية 1
(2) سورة الملك الآية 2
(3) تفسير ابن كثير، جـ8، ص203.(65/148)
أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره، وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء.
وقال السدي: أي أكثركم للموت ذكرا، وأحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. . " (1) .
والموت هو نهاية دار وبداية دار أخرى. . .
قال ابن أبي العز: الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا. . . " (2) .
وحكمة الموت تظهر جلية واضحة في هذه الآيات، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (3) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (4) {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (5) {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (6) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (7) .
قال ابن كثير: وقوله {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (8) يعني بعد
__________
(1) تفسير القرطبي الجامع، جـ18، ص207.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص452.
(3) سورة المؤمنون الآية 12
(4) سورة المؤمنون الآية 13
(5) سورة المؤمنون الآية 14
(6) سورة المؤمنون الآية 15
(7) سورة المؤمنون الآية 16
(8) سورة المؤمنون الآية 15(65/149)
هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (1) يعني النشأة الآخرة، {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} (2) يعني يوم المعاد، وقيام الأرواح والأجساد، فيحاسب الخلائق، ويوفي كل عامل عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر " (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 16
(2) سورة العنكبوت الآية 20
(3) تفسير ابن كثير، جـ5، ص463.(65/150)
4- هل الموت مخلوق أم لا؟
الموت تقدم تعريفه وهو: انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار، وهو مخلوق كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) .
قال القرطبي: قال مقاتل: " خلق الموت؛ يعني النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة؛ يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا.
وهذا قول حسن، يدل عليه قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (3) وقال السدي:. . أي أكثركم للموت ذكرا وأحسنكم استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. . .
وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء.
__________
(1) سورة الملك الآية 1
(2) سورة الملك الآية 2
(3) سورة الملك الآية 2(65/150)
وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل: " أن الموت والحياة جسمان، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات " (1) .
قال ابن تيمية: " والأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تعدم، ولا تفنى ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلي الأبدان " (2) .
قال ابن أبي العز: " والصواب أن يقال: موت النفس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب. . . وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (3) وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد " (4) .
ثم قال ابن أبي العز: " فالتحقيق: أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما يسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها " (5) .
__________
(1) تفسير القرطبي، جـ18، ص206- 207.
(2) مجموع الفتاوى، جـ4، ص279.
(3) سورة الدخان الآية 56
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص446.
(5) شرح العقيدة الطحاوية، ص444.(65/151)
وذكر ابن حجر أقوالا كثيرة ومنها قوله: (وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح: متولي الموت، وكلهم يعرفه، لأنه الذي تولى قبض أرواحهم) . قلت: وارتضى هذا بعض المتأخرين وحمل قوله " هو الموت الذي وكل بنا " على أن المراد به ملك الموت؛ لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا كما قال تعالى في سورة ألم السجدة {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (1) (2) .
أما حديث الكبش فقد أخرجه البخاري بسنده من حديث أبي سعيد الخدري قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم: هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: وهؤلاء في غفلة الدنيا- (5) » .
وعلى أية حال فالموت مخلوق سواء كان هو انفصال الروح أو
__________
(1) سورة السجدة الآية 11
(2) فتح الباري، جـ 11، ص421.
(3) صحيح البخاري، (فتح الباري، جـ8، ص428، رقم 4730) .
(4) سورة مريم الآية 39 (3) {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}
(5) سورة مريم الآية 39 (4) {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(65/152)
النفس عن الجسد، أو هو ملك الموت الذي مثله الله في صورة كبش أملح أو غير ذلك والله أعلم.(65/153)
5 - كل نفس ذائقة الموت:
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) .
وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) .
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3) .
وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (4) .
وقال ابن كثير: (أي: أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب) (5) .
ثم قال: " أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة العنكبوت الآية 57
(3) سورة آل عمران الآية 185
(4) سورة النساء الآية 78
(5) تفسير ابن كثير، جـ6، ص299.(65/153)
منكم كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (1) . الآية، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (2) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (3) ، والمقصود: أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه منه شيء، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما، وأمدا مقسوما. . . " (4) .
كل نفس مخلوقة كتب الله عليها الموت حتى أصفياءه وعلى رأسهم خليله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (5) {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (6) .
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (7) وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (8) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (9) .
__________
(1) سورة الرحمن الآية 26
(2) سورة آل عمران الآية 185
(3) سورة الأنبياء الآية 34
(4) تفسير ابن كثير، جـ2، ص316.
(5) سورة آل عمران الآية 144
(6) سورة آل عمران الآية 145
(7) سورة غافر الآية 77
(8) سورة الزمر الآية 30
(9) سورة الزمر الآية 31(65/154)
قال ابن كثير: " هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول- صلى الله عليه وسلم- حتى تحقق الناس موته مع قوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (2) .
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول وهو صحيح: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير. فلما نزل به، ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى. قلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: اللهم الرفيق الأعلى (3) » .
وقال سبحانه عن سليمان:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 144
(2) سورة الأنبياء الآية 34
(3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق الحديث رقم 6028، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، الحديث رقم 4476.(65/155)
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (1) .
قال صاحب الظلال: " إن لكل نفس كتابا مؤجلا مرسوما، ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم؛ فالخوف، والهلع، والحرص، والتخلف، لا يطيل أجلا، والشجاعة، والثبات، والإقدام، والوفاء، لا يقصر عمرا، فلا كان الجبن، ولا نامت أعين الجبناء، والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد؛ بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية، وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع، وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده. . " (2) .
ثم يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (3) إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتما. . . يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة، ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن. . يموت ذووا الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين
__________
(1) سورة سبأ الآية 14
(2) في الظلال، جـ1، ص487.
(3) سورة آل عمران الآية 185(65/156)
يعيشون فقط للمتاع الرخيص. .
الكل يموت. . {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (1) كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة. . لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع، إنما الفارق في شيء آخر، الفارق في قيمة أخرى، الفارق في المصير الأخير. . " (2) .
وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (4) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت والجن والأنس يموتون (6) » وقال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (7)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 185
(2) في ظلال القرآن، جـ1، ص538.
(3) سورة القصص الآية 88
(4) سورة الرحمن الآية 26
(5) سورة الرحمن الآية 27
(6) صحيح البخاري، من حديث ابن عباس (فتح الباري، جـ13، ص368، رقم 7383، ومسلم ذكر 68) .
(7) سورة الواقعة الآية 60(65/157)
6 - سكرات الموت:
الموت له كربات، وغمرات، وألم، وجمع ذلك في كلمة واحدة وهي " سكرة " وتأتي حين الاحتضار.
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (1) .
__________
(1) سورة ق الآية 19(65/157)
وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت: «ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات. . . (2) »
ثم قال ابن حجر: " وقع في رواية القاسم عن عائشة عند أصحاب السنن سوى أبي داود بسند حسن بلفظ: ثم يقول: «اللهم أعني على سكرات الموت (3) » . وفي رواية: «هون علي» .
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (4) .
قال ابن كثير: أي: في سكراته وغمراته وكرباته. . .، {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} (5) أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (6) وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلال
__________
(1) صحيح البخاري، (فتح الباري، جـ10، ص110، رقم 5646) .
(2) صحيح البخاري، (فتح الباري، جـ11، ص361، رقم 6510 من حديث عائشة رضي الله عنها) .
(3) فتح الباري، جـ11، ص362.
(4) سورة الأنعام الآية 93
(5) سورة الأنعام الآية 93
(6) سورة الأنعام الآية 93(65/158)
والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} (1) الآية، أي: اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله " (2) .
وهذا فيه دلالة على أن شدة سكرات الموت على الكافرين والمشركين أعظم منها على المؤمنين الطائعين، بل إنها على الشهيد مثل القرصة وهذا فيه دلالة على فضل الشهيد. .
يقول أبو حامد الغزالى: ". . . فلا تسأل عن كربه وألمه، حتى قالوا: إن الموت لأشد من ضرب بالسيف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، ولذا ينقطع صوت الميت وصياحه من شدة ألمه، فالألم قد هدم كل قوة وأضعف كل جارحة، فلم يترك له قوة الاستعانة لا بعقله ولا بلسانه " (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 93
(2) تفسير ابن كثير، جـ3، ص295.
(3) الموت هادم اللذات، ص29، ط الأولى، 1415هـ.(65/159)
7 - كيف يموت الإنسان؟
قال ابن القيم: (موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا(65/159)
الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب) (1) .
وقال: (الروح ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل. . . وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفي والرجوع، وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها، فقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (2) ، وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (3) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (4) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (5) {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (6) . وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد. وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (7) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (8) . فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (9) ، فهو سبحانه سوى نفس الإنسان كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له، ومن هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها
__________
(1) الروح لابن القيم، ص46، ط المدني.
(2) سورة الأنعام الآية 93
(3) سورة الفجر الآية 27
(4) سورة الفجر الآية 28
(5) سورة الفجر الآية 29
(6) سورة الفجر الآية 30
(7) سورة الشمس الآية 7
(8) سورة الشمس الآية 8
(9) سورة الانفطار الآية 7(65/160)
صورة لتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا، وتأثرا من أحدهما بالآخر، الروح والبدن، ولهذا يقال لها عند المفارقة: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، فتأخذها الملائكة من يده فيوجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض) (1) .
والأعراض لا ريح لها ولا تمسك، ولا تؤخذ من يد إلى يد. . . وإذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا، وأما الأرواح فقل ما تشتبه. . . وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة، متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى) (2) .
والروح أو النفس إذا فارقت البدن بعد الممات، فإن لها به تعلقا في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4 \ 287 بطوله.
(2) الروح لابن القيم، ص53، 54.(65/161)
بحيث لا يبقى لها التفات إليه، وقد وردت الأحاديث والآثار بما يدل على ردها إليه، وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة. . .) (1) .
وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الروح إلى البدن وقت السؤال، ففي حديث البراء بن عازب: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وهو يلحد له فقال: " أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات. . . فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ . . . (2) » الحديث.
ثم قال ابن القيم: (وذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث من سائر الطوائف. .) (3) .
أما كيفية الموت فإن حكمة الله اقتضت أن تقبض ملائكته أرواح عباده، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (4) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5) .
__________
(1) الروح لابن القيم، ص58.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 4 \ 287، وأبو داود والنسائي.
(3) الروح لابن القيم، ص54، 56.
(4) سورة السجدة الآية 11
(5) سورة النحل الآية 28(65/162)
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (1) .
قال ابن كثير: (الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور، قاله قتادة وغير واحد، وله أعوان، وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر جسده حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت) (2) .
والموت: (انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار) (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 61
(2) تفسير ابن كثير، جـ6، ص362.
(3) التذكرة للقرطبي، ص4.(65/163)
8 - متى يموت الإنسان؟
يموت الإنسان إذا انتهى أجله، ولا تموت أية نفس إلا بإذن الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (1) .
قال ابن كثير: (أي: لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (2) كقوله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 145
(2) سورة آل عمران الآية 145(65/163)
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (1) وكقوله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (2) (3) .
وقال تعالى {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) .
وقال ابن كثير: (أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم، بل تسقطه أمه سقطا، ومنهم من يتوفى صغيرا، وشابا، وكهلا قبل الشيخوخة. . .) (5) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 11
(2) سورة الأنعام الآية 2
(3) تفسير ابن كثير، جـ2، ص110.
(4) سورة غافر الآية 67
(5) تفسير ابن كثير، جـ2، ص110.(65/164)
9 - أين يموت الإنسان؟
قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) .
وأخرج البخاري بسنده من حديث ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر (2) » .
__________
(1) سورة لقمان الآية 34
(2) صحيح البخاري، (فتح الباري، جـ2، ص524، رقم 1039) .(65/164)
وأخرج الإمام أحمد بسنده من حديث أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله قبض عبد بأرض، جعل له فيها حاجة (1) » .
وأخرج ابن ماجه بسنده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أجل أحدكم بأرض أتى له حاجة إليها، فإذا بلغ أقصى أثره قبضه الله إليه، فتقول الأرض يوم القيامة رب هذا ما استودعتني (2) » .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3 \ 429، وذكره الألباني في صحيح الجامع برقم 308 وقال صحيح.
(2) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له رقم 2463، 2 \ 1424- 1425، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 758.(65/165)
10 - وهل يتعدد الموت؟
قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .
قال ابن كثير: أي: " كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود كما قال ابن كثير: أي: " كنتم عدما فأخرجكم إلي الوجود كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (2) {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} (3) وقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 28
(2) سورة الطور الآية 35
(3) سورة الطور الآية 36
(4) سورة الإنسان الآية 1(65/165)
وعن ابن مسعود {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (1) .
قال: هي التي في البقرة {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (2)
وعن ابن عباس: (أمواتا في أصلاب إبائكم، لم تكونوا شيئا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم قال: وهي مثل قوله {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (3)
وعن ابن عباس أيضا: قال: (كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى، فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (4)
وعن السدي عن أبي صالح: قال: " يحييكم في القبر، ثم يميتكم ".
وعن زيد بن أسلم: (خلقهم في ظهر آدم، ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة) ثم قال ابن كثير: (وهذا غريب والذي قبله، والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس. . .) (5) .
__________
(1) سورة غافر الآية 11
(2) سورة البقرة الآية 28
(3) سورة غافر الآية 11
(4) سورة البقرة الآية 28
(5) تفسير ابن كثير، جـ1، ص96، 97.(65/166)
11 - الملائكة هي التي تقبض الأرواح بإذن الله:
اقتضت حكمة الله أن يرسل رسله لقبض أرواح عباده حينما تأتي لحظة الأجل. قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (1) .
قال ابن كثير: (توفته رسلنا أي ملائكة موكلون بذلك) .
قال ابن عباس وغير واحد: (لملك الموت إذا انتهت إلي الحلقوم. . وقوله {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (2) أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها وينزلوها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، عياذا بالله من ذلك. .) (3) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} (4) .
وقال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (5) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (6) .
وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (7) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 61
(2) سورة الأنعام الآية 61
(3) تفسير ابن كثير، جـ3، ص262.
(4) سورة النحل الآية 32
(5) سورة السجدة الآية 11
(6) سورة النحل الآية 28
(7) سورة الأنفال الآية 50(65/167)
وقال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (1) .
وروى مسلم في حديث فيه طول قال أبو زميل: (فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ، يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه لضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثانية» فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وذكر الحديث (2) .
وبعد أن أورد القرطبي نصوص القرآن والسنة في هذا الباب قال: فصل: (إن قال قائل: كيف الجمع بين هذه الآي، وكيف يقبض ملك الموت في زمن واحد أرواح من يموت بالمشرق والمغرب؟ قيل له: اعلم أن التوفي مأخوذ من توفيت الدين واستوفيته، إذا قبضته ولم تدع منه شيئا، فتارة يضاف إلى ملك الموت لمباشرته ذلك، وتارة إلى أعوانه من الملائكة؛ لأنهم قد يتولون ذلك أيضا، وتارة إلى الله تعالى، وهو المتوفي على الحقيقة كما قال عز وجل {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (3)
__________
(1) سورة محمد الآية 27
(2) صحيح مسلم في (كتاب الجهاد) ، باب 142، سنن النسائي، 3 \ 72، 6 \ 31.
(3) سورة الزمر الآية 42(65/168)
وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافرا، وهذا المعنى منصوص عليه في حديث البراء. . . " (1) .
وملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صورة مخيفة، ورد ذلك في حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء ببض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد بصره، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (- وفي رواية-: المطمئنة) اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، وإن العبد الكافر (- وفي رواية- الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة (غلاظ شداد) سود الوجوه، معهم مسوح من النار فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتفرق
__________
(1) التذكرة للقرطبي، ص60، ط الأولى، تحقيق محمد عطا.(65/169)
في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود (الكثير الشعب) من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب. . . (1) »
__________
(1) جمع د. عمر الأشقر، روايات هذا الحديث نقلا عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وتصحيحه لمجموع رواياته تبعا لابن القيم والذهبي والحاكم انظر القيامة الصغرى للأشقر ص20، ط. الثانية، 1408هـ، وذكره ابن كثير بطوله ورواياته في التفسير 3 \ 408، 4 \ 414.(65/170)
12 - الإنسان يحيد عن الموت:
مهما تحصن الإنسان من الموت، ومهما هرب منه أو حاد عنه فإنه سيأتيه، أو سيلحقه، أو سيقابله: -
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) .
قال القرطبي: أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال طرفة:
كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر
فاذكر الموت وحاذر ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر
كل شيء سوف يلقى حتفه ... في مقام أو على ظهر سفر
والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجيه من الموت حذر (2)
__________
(1) سورة الجمعة الآية 8
(2) تفسير القرطبي، جـ18، ص96، 97.(65/170)
وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (1) .
قال ابن كثير: أي: " لا يغني حذر وتحصن من الموت، والمشيدة: المنيعة " (2) .
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (3) .
وقال القرطبي: (. . . أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. . وقال عمرو بن دينار في هذه الآية: وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال: فجنا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلي بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن: خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا) (4) .
__________
(1) سورة النساء الآية 78
(2) تفسير ابن كثير، جـ2، ص317.
(3) سورة البقرة الآية 243
(4) تفسير القرطبي، جـ3، ص232.(65/171)
وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) .
قال ابن كثير: (ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) أي بعد هربكم وفراركم. . " (3) .
وقال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (4) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 16
(2) سورة الأحزاب الآية 16
(3) تفسير ابن كثير، جـ6، ص391.
(4) سورة ق الآية 19(65/172)
13 - المؤمن يفرح عند الموت بلقاء الله:
أعظم من فرح عند موته بلقاء ربه هو محمد بن عبد الله حبيب الله وخليله، فقد ثبت أنه خير فاختار الرفيق الأعلى.
وأخرج البخاري بسنده من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه(65/172)
مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه (1) » .
قال الأشقر: " ولذلك فإن العبد الصالح يطالب حامليه بالإسراع به إلى القبر شوقا منه إلى النعيم، بينما العبد الطالح ينادي بالويل من المصير الذاهب إليه، ففي صحيح البخاري وسنن النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق (2) » (3) .
وقالت عائشة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: وأخذته بحة يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قالت: فظننت أنه خير يومئذ (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، (فتح الباري، جـ11، ص357) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، قول الميت وهو على الجنازة: قدموني. (فتح الباري، ج3 ص184) النسائي، 4 \ 14.
(3) القيامة الصغرى للأشقر، ص28.
(4) صحيح البخاري، (فتح الباري، ج11، ص357) .(65/173)
14 - الكافر والمفرط يتمنى الرجوع عند الاحتضار:
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (1) {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (2) .
وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (3) {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (4) .
وقال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} (5) .
وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (6) .
وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (7) {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (8) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 99
(2) سورة المؤمنون الآية 100
(3) سورة المنافقون الآية 10
(4) سورة المنافقون الآية 11
(5) سورة إبراهيم الآية 44
(6) سورة الأعراف الآية 53
(7) سورة الأنعام الآية 27
(8) سورة الأنعام الآية 28(65/174)
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (1) .
وقال سبحانه: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} (2) .
وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (3) {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (4) .
وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (5) .
قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته. . . فذكر
__________
(1) سورة السجدة الآية 12
(2) سورة الشورى الآية 44
(3) سورة غافر الآية 11
(4) سورة غافر الآية 12
(5) سورة فاطر الآية 37(65/175)
تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار، ويوم النشور، ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم، قال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولكن تمني أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا قوة إلا بالله، وعن محمد بن كعب القرظي نحوه. .) (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير، جـ5، ص486، 487.(65/176)
15 - الفرق بين موتى المؤمنين وموتى الكافرين:
أولا: موتى المؤمنين:
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (1) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (3) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (4) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (5) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (6) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7) .
قال ابن كثير: " وقوله {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (8) هذا الاستثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع، ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا، كما ثبت في الصحيحين أن
__________
(1) سورة الدخان الآية 51
(2) سورة الدخان الآية 52
(3) سورة الدخان الآية 53
(4) سورة الدخان الآية 54
(5) سورة الدخان الآية 55
(6) سورة الدخان الآية 56
(7) سورة الدخان الآية 57
(8) سورة الدخان الآية 56(65/176)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت (1) » ، وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا (2) » (3) .
ثانيا: موتى الكافرين والمنافقين:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (4) {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (5) .
قال ابن كثير: (ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (6) {خَالِدِينَ فِيهَا} (7) أي: في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة، ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} (8) فيها: أي لا ينقص عما
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4730) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2849) ، سنن الترمذي صفة الجنة (2558) ، مسند أحمد بن حنبل (3/9) .
(2) صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، 8 \ 148، رقم 5069.
(3) تفسير ابن كثير، جـ7، ص247.
(4) سورة البقرة الآية 161
(5) سورة البقرة الآية 162
(6) سورة البقرة الآية 161
(7) سورة البقرة الآية 162
(8) سورة البقرة الآية 162(65/177)
هم فيه {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (1) أي: لا يغير عنهم ساعة واحدة، ولا يفتر، بل متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك، وقال أبو العالية وقتادة: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون) (2) .
وقال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (3) {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (4) .
وسبب نزول هذه الآية صلاته صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي ابن سلول فنهاه الله (5) .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (6) .
قال ابن كثير: أي: (من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة، كما «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان - وكان يقري
__________
(1) سورة البقرة الآية 162
(2) تفسير ابن كثير، جـ1، ص289، الدر المنثور، جـ1، ص393.
(3) سورة التوبة الآية 84
(4) سورة التوبة الآية 85
(5) الدر المنثور، جـ4، ص258، 259.
(6) سورة آل عمران الآية 91(65/178)
الضيف، ويفك العاني، ويطعم الطعام-: هل ينفعه ذلك؟ فقال: لا، إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين (1) » (2) .
وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (3) {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} (4) {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (5) .
قال ابن كثير: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} (6) أي: (يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه، قال ميمون بن مهران: من كل عظم، وعرق، وعصب، وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره، وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة، أي من جسده، حتى من أطراف شعره، وقال ابن جرير: أي من أمامه وورائه، وعن يمينه وشماله، ومن فوقه، ومن تحت أرجله، ومن سائر أعضاء جسده.
وقال ابن عباس: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكن لا يموت؛ لأن الله تعالى قال: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} (7) ومعني كلام ابن عباس: أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال؛ ولهذا
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، جـ1، ص136.
(2) تفسير ابن كثير، جـ2، ص59.
(3) سورة إبراهيم الآية 15
(4) سورة إبراهيم الآية 16
(5) سورة إبراهيم الآية 17
(6) سورة إبراهيم الآية 17
(7) سورة فاطر الآية 36(65/179)
قال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (1) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 17(65/180)
16 - الحياة الدنيا دار الزوال والفناء وليست دار بقاء:
قال الله سبحانه وتعالى حكاية عن المؤمنين الذين استنصر بهم فرعون أمام وبحضرة الناس كلهم وقد هددهم وتوعدهم فقالوا: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (1) .
قال ابن كثير: أي: (لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين، {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (2) أي، فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (3) أي: إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار. . .) (4) .
وقال تعالى في ذم الدنيا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (5) .
وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} (6) .
وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (7) {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (8) .
__________
(1) سورة طه الآية 72
(2) سورة طه الآية 72
(3) سورة طه الآية 72
(4) تفسير ابن كثير، جـ5، ص298.
(5) سورة آل عمران الآية 185
(6) سورة الحديد الآية 20
(7) سورة النجم الآية 29
(8) سورة النجم الآية 30(65/180)
وأخرج مسلم بسنده من حديث المسور بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع (1) » .
والحياة الدنيا فيها الوفاة الكبرى والوفاة الصغرى، فالنوم وفاة والقيام من النوم بعث ونشور، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} (2) . وفي النوم تقبض أرواح العباد، ومن شاء الحق أن يمسك روحه في حال نومه أمسكها، ومن شاء بقاءها ردها إلى الأجل الذي حدده الله، وكفى بالقيامة الصغرى وهو الموت منغصا في هذه الدار، دار الحياة الدنيا التي ليست بدار قرار.
قال ابن القيم: (. . . ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها، ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواقا، فهذا أحد النظرين.
__________
(1) صحيح مسلم، جـ4، ص2193، كتاب الجنة وصفة نعيمها.
(2) سورة الأنعام الآية 60(65/181)
النظر الثاني: في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال سبحانه {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (1) ، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. . . إنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وإنها دار عبور لا دار سرور، وإنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل. . .) (2) .
__________
(1) سورة الأعلى الآية 17
(2) الفوائد لابن القيم، ص177، 178.(65/182)
17 - الشهيد في سبيل الله لا يموت:
الشهيد في اللغة: يأتي بمعان عدة منها: الحاضر، والعالم، وبلاغ، وحافظ، الشهيد الذي يشهد بالحق، شركاء.
وفي الاصطلاح: الشهيد هو المستشهد في سبيل الله، قال تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) .
ويأتي المعنى على أقوال عدة منها: -
__________
(1) سورة النساء الآية 69(65/182)
1) لأنه حي.
2) لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة.
3) لأن الملائكة تشهده.
4) لقيامه بشهادة الحق حتى قتل.
5) لأنه يشهد بما أعده الله له من الكرامة بالقتل.
6) لأنه شهد لله بالوجود والوحدانية والإلهية.
7) لسقوطه بالأرض وهي الشاهد له.
8) لأنه شهد له بوجوب الجنة.
9) من أجل شاهده وهو دمه.
10) لأنه شهد له بالإيمان وحسن الخاتمة (1) .
قال ابن الفارس: " والشهيد: القتيل في سبيل الله والجمع شهداء.
وقال ابن النحاس: اعلم أن الشهادة رتبة عظيمة، ومنزلة جسيمة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، ولا ينالها إلا من سبق له القدر بالفوز المقيم، وهي المرتبة الثالثة من مقام النبوة. .) (2) .
والشهادة أنواع لكن ليسوا في المرتبة سواء، أعلاها
__________
(1) تسلية أهل المصائب للمنجي الحنبلي، ص229.
(2) مشارع الأشواق، جـ2، ص693-694، ط. الأولى، 1410هـ.(65/183)
1 - الشهيد في سبيل الله، وهو من أهريق دمه، وعقر جواده.
2 - المطعون. 3- المبطون. 4- الغريق. 5- صاحب الهدم.
6 - صاحب ذات الجنب. 7- الحريق. 8- المرأة تموت وهي حامل. 9- من قتل دون ماله. 10- من قتل دون دمه. 11- من قتل دون أهله. 12- النفساء. 13- من أصيب بالسل. 14- من صرع عن دابته. 15- من قتل دون مظلمته.
للشهادة في سبيل الله ثمرات عظيمة وكثيرة، لكن أعظمها:
الحياة بعد الاستشهاد، وبمعنى آخر الشهداء لا يموتون، بل هم أحياء لهم خصائص الأحياء:
1 - فهم يرزقون عند الله.
2 - وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله.
3 - وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين.
فهذه خصائص الأحياء من متاع، واستبشار، واهتمام، وتأثير، وتأثر. . . (1)
قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) . وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (3) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (5) .
__________
(1) انظر كلاما لسيد قطب في طريق الدعوة، جـ1، ص343، ط. السادسة.
(2) سورة البقرة الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 169
(4) سورة آل عمران الآية 170
(5) سورة آل عمران الآية 171(65/184)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا (1) » . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (3)
__________
(1) ذكره ابن النحاس في مشارع الأشواق، جـ2، ص694، 695 وذكر المحقق أنه عند أحمد في المسند 1 \ 266، وابن أبي شيبة في الجهاد 5 \ 290، والطبراني في تفسيره 7 \ 388، وموارد الظمآن ص288، والمستدرك 2 \ 74، ومجمع الزوائد 5 \ 294، وقال: رجاله ثقات، وحسنه الألباني في الصحيح رقم 3636.
(2) سورة الحج الآية 58
(3) سورة الحج الآية 59(65/185)
القسم الثاني: النوم
1 - تعريف النوم هو: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، وقيل: هو أن يتوفى الله النفس من غير موت، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (1) الآية، وقيل النوم: موت خفيف، والموت نوم ثقيل، ورجل نؤوم، ونومة: كثير النوم، والمنام: النوم. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ} (2) ،
__________
(1) سورة الزمر الآية 42
(2) سورة الروم الآية 23(65/185)
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (1) ، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (2) (3) .
وقال الرازي: (النوم معروف وقد نام ينام فهو نائم، وجمعه نيام وجمع النائم: نوم على الأصل، ونيم على اللفظ، ويقال يا نومان للكثير النوم. . وتناوم أرى أنه نائم وليس به. . . ونامت السوق أي كسدت. . .) (4) .
والسبات: ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا، فشبه النوم به وقيل السبات الراحة، جعل النوم سباتا أي سبب راحة (5) .
والنوم هو: النعاس، نام ينام نوما ونياما، والاسم: النيمة، وهو نائم إذا رقد، ورجل نائم، ونؤوم، ونومة. .
وفي التنزيل العزيز {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} (6) جاء في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في النوم قليلا، وقص الرؤيا على أصحابه فقالوا: (صدقت رؤياك يا رسول الله. . .) (7) .
قال سيد قطب على الآية {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} (8)
__________
(1) سورة النبأ الآية 9
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) المفردات للراغب، ص 510، ط. دار المعرفة.
(4) مختار الصحاح للرازي ص686، ط. 1398هـ.
(5) البحر المحيط لأبي حيان، جـ6، ص504، ج8، ص 410.
(6) سورة الأنفال الآية 43
(7) لسان العرب، جـ 12، ص 595- 599.
(8) سورة الأنعام الآية 60(65/186)
فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس؛ هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحواس من غفلة، وما يعتري الحس من غفلة، وما يعتري العقل من سكون، وما يعتري الوعي من سبات- أي انقطاع- وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث، وإن عرفوا ظواهره وآثاره، وهو " الغيب " في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان. . وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول- حتى من الوعي- ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة، ها هم أولاء في قبضة الله- كما هم دائما في الحقيقة- لا يردهم إلى الصحوة والحياة الكاملة إلا إرادة الله. . .) (1) .
ثم يقول: والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور، فهو سبات. . . (2)
وقال ابن كثير على الآية {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (3) السنة هي الوسن والنعاس ولذلك قال: {وَلَا نَوْمٌ} (4) لأنه أقوى من السنة. . . (5)
وهو حالة طبيعية تتعطل معها القوى بسبب ترقي البخارات إلى الدماغ. وفي المصباح: النوم غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، ولذلك قيل: أنه آفة، لأن النوم أخو الموت (6) . وهو
__________
(1) في ظلال القرآن، جـ2، ص 1121.
(2) في ظلال القرآن، جـ5، ص 2569.
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة البقرة الآية 255
(5) تفسير ابن كثير، جـ1، ص 455.
(6) التعاريف للمناوي، جـ 2، ص 713، التعاريف للجرجاني، جـ2، ص 317.(65/187)
آية من آيات الله، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (1) .
والنوم وفاة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} (2) .
وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) .
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها، بما تحفظ به عبادك الصالحين» . قال ابن كثير: (قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما شاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام. .) .
__________
(1) سورة الروم الآية 23
(2) سورة الأنعام الآية 60
(3) سورة الزمر الآية 42(65/188)
2 - الله لا ينام:
قال تعالى عن نفسه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) .
قال ابن كثير: (أي لا يعتريه نقص ولا غفلة، ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، فقوله {لَا تَأْخُذُهُ} (2) أي: لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال: {وَلَا نَوْمٌ} (3) ؛ لأنه أقوى من السنة، وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام (4) » (5) .
يقول صاحب الظلال: (وهذا توكيد لقيامه- سبحانه- على كل شيء به، ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله سبحانه لكل شيء. . {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (6) وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق، وتنزهه- سبحانه- عنهما إطلاقا. . .) (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) صحيح مسلم الإيمان (179) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(5) تفسير ابن كثير، جـ1، ص 455.
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) في ظلال القرآن جـ1، ص 287.(65/189)
يقول ابن أبي العز الحنفي: (. . وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة. . .) (1) .
ثم قال: (إنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه فإنهم ينامون. . .) (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص 208.
(2) شرح العقيد الطحاوية، ص 124.(65/190)
3 - النوم موت أصغر:
ورد في التعريفات: أن النوم حالة طبيعية تتعطل معها القوى وهو آية من آيات الله، وهو وفاة، وأن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، وأن النوم درجات، فمنه السنة ومنه النوم، وقد مدح سبحانه نفسه بنفي السنة والنوم عنه، المتضمن كمال قيومته، كما نفى عن نفسه الموت المتضمن كمال حياته.
فالسنة: هو النعاس، والنعاس هو الوسن، ويقال للنعاس أنه السنة، وهو ليس بنوم بل مقاربته، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (1) . وقال سبحانه: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} (2) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 11
(2) سورة آل عمران الآية 154(65/190)
أما النوم فهو غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء؛ ولذلك قيل: إنه آفة؛ لأن النوم أخو الموت.
وقد قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
قال ابن كثير: (قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام) .
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) .
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر. .) (3) .
قال ابن القيم: قال ابن تيمية: ". . . لأنه سبحانه أخبر بوفاتين، وفاة كبرى، وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى، وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين: قسما قضى عليها الموت فأمسكها عنده،
__________
(1) سورة الزمر الآية 42
(2) سورة الأنعام الآية 60
(3) تفسير ابن كثير، جـ3، ص 261.(65/191)
وهي التي توفاها وفاة موت، وقسما لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها. .) (1) .
وقال المناوي: (الخامس المنام، فقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل وعليه سماه الله توفيا. .) (2) .
قال صاحب الظلال: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} (3) فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس، هي الوفاة في صورة من صورها، بما يعتري الحواس من غفلة، وما يعتري الحس من سهوة، وما يعتري العقل من سكون، وما يعتري الوعي من سبات- أي انقطاع- وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث، وإن عرفوا ظواهره وآثاره) (4) .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك (5) » . والإمساك هنا هو الموت والوفاة الكبرى.
__________
(1) الروح لابن القيم، ص 27.
(2) التعاريف للمناوي، جـ2، ص684.
(3) سورة الأنعام الآية 60
(4) في ظلال القرآن، جـ2، ص1121.
(5) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، رقم 5845، وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء رقم 4889. (انظر الدر المنثور للسيوطي، جـ7، ص 232)(65/192)
4 - النوم آية من آيات الله:
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (1) .
قال ابن كثير: أي: (ومن الآيات ما جعل لكم من صفة النوم في الليل والنهار فيه تحصيل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم. . .) (2) .
وفي حالة النوم فإن القلم مرفوع عن المكلف؛ لكونه فاقد الأهلية ومعنى: رفع القلم عنه أي عدم كتابة الشر عليه دون الخير؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل (3) » .
وما ذاك إلا لأنه آية من آيات الله فهو حالة قد فقد المكلف وعيه فيها وإدراكه ومناط تكليفه، والروح قد فارقت البدن من وجه، ولها به تعلق من وجه آخر، وكنهه على الحقيقة لا يعلمها الإنسان لكنه آية عظيمة من آيات الله.
__________
(1) سورة الروم الآية 23
(2) تفسير ابن كثير، جـ6، ص 316.
(3) رواه أحمد وأبو داود، والحاكم والترمذي وابن ماجه، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 3506، 3507، 3508، ثم قال: صحيح.(65/193)
ولكونه آية عظيمة فمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقد رآه حقيقة. أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي. . . (1) » .
وفي رواية ثانية من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (2) » .
وأخرج البخاري بسنده من حديث أبي قتادة قال: قال النبي في صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئا يكرهه، فلينفث عن شماله ثلاثا، وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره، وإن الشيطان لا يتراءى بي (3) » .
وهذه النصوص تدل على أن النائم يمر بأحوال مختلفة، منها ما هو بتدبير الله وتوفيقه مثل الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، والرؤيا الصالحة والتي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ومنها ما هو من فعل الشيطان عدو الإنسان اللدود.
ولذلك شرع قراءة آية الكرسي قبل المنام حتى لا يكون
__________
(1) صحيح البخاري (فتح الباري، جـ12، رقم الصفحة 383، رقم الحديث 6993) .
(2) صحيح مسلم، (فتح الباري، جـ 12، ص 383، رقم 6994، 6995) .
(3) صحيح مسلم، (فتح الباري، جـ 12، ص 383، رقم 6994، 6995) .(65/194)
للشيطان طريق على المؤمن، ثبت ذلك في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة في الحديث الطويل مع الشيطان، وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب (1) » عندما قال له الشيطان: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري، جـ4، ص 487، رقم 3311 كتاب الوكالة.
(2) سورة البقرة الآية 255(65/195)
5 - تعلق الروح بالبدن حال النوم:
أولا: ما هي الروح؟
قال ابن تيمية: (والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت) (1) .
وقال شارح الطحاوية: (وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح: هل هما متغايران أو مسماهما واحد؟ فالتحقيق: أن النفس تطلق على أمور وكذلك الروح، فيتحد مدلولها تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالبا ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها. . .) (2) .
وقال الأشقر: (لما كانت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات، فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها، فقد عرفنا الله
__________
(1) رسالة العقل والروح، مجموعة الرسائل المنيرية 2 \ 36 (انظر القيامة الصغرى للأشقر ص 85) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص 444، 445.(65/195)
أنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى، ثم تعاد إلى القبر، ساعة من الزمن، وقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذب في القبر، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه. . .) (1) .
وقال شارح الطحاوية في تعريف الروح: (والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل: أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي، خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف ساريا في هذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار، من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح. . .) (2) .
__________
(1) القيامة الصغرى، ص 87.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص 443.(65/196)
ومسكن الروح جميع أجزاء البدن، وهي مخلوقة، وهو أمر مجمع عليه عند سلف الأمة، كما قال ابن تيمية، والروح هي النسمة، ذكر ذلك وغيره والأدلة على ذلك صاحب القيامة الصغرى د. عمر الأشقر (1) .
وهي تموت باعتبار مفارقتها للبدن، لكنها لا تفنى فتصبح عدما ذكر ذلك ابن تيمية وابن القيم وعلماء الأمة (2) .
ثانيا: الروح لها بالبدن تعلق من وجه ومفارقة من وجه والنوم شقيق الموت:
قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (3) .
والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء، فكذبتها فما رأت من ذلك فهو الباطل (4) . . .
قال ابن تيمية: (فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي يتوفاها وفاة نوم، وأما التي توفاها حين
__________
(1) القيامة الصغرى، ص 92 - 96.
(2) انظر مبحث '' هل تموت النفوس لعمر الأشقر في القيامة الصغرى '' ص 101.
(3) سورة الزمر الآية 42
(4) الروح لابن القيم، ص 41.(65/197)
موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا بإرسال، بل هي قسم ثالث. . .؛ لأنه سبحانه أخبر بوفاتين: وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين: قسم قضى عليها الموت فأمسكها عنده، وهي التي توفاها وفاة موت، وقسم لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها. . .) .
وقال ابن القيم: (والتحقيق: أن الآية تتناول النوعين فإنه سبحانه ذكر وفاتين، وفاة نوم، ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفس ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت فقوله {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (1) يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام. . .) (2) .
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} (3) .
قال ابن القيم: وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: الإخبار بتوفي الأنفس بالليل.
الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.
الثالث: توفي الملائكة له عند الموت (4) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 42
(2) الروح لابن القيم، ص 27.
(3) سورة الأنعام الآية 60
(4) الروح، ص 240.(65/198)
وقال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1) ، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (2) ، فذكر في هذه الآية الوفاتين: الكبرى والصغرى، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى والكبرى. . .) (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55
(2) سورة الزمر الآية 42
(3) تفسير ابن كثير، جـ 3، ص 261.(65/199)
6 - هل النائم يتصرف؟ وما هي علاقة النائم باليقظة؟
قال ابن تيمية: (والنائم يحصل له في منامه لذة وألم، وذلك يحصل للروح والبدن، حتى إنه يحصل له في منامه من يضربه، فيصبح والوجع في بدنه، ويرى في منامه أنه أطعم شيئا طيبا فيصبح وطعمه في فمه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يحصل لروحه، وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به - والذي إلى جنبه لا يحس به - حتى قد يصبح النائم من شدة الألم؛ أو الفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه، وقد يتكلم إما بقرآن، وإما بذكر، وإما بجواب.
واليقظان يسمع ذلك وهو نائم، عينه مغمضة، ولو خوطب لم(65/199)
يسمع، فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسمع قرع نعالهم؟ وقال: «ما أنتم أسمع لما أقول منهم (1) » (2) .
أما الرؤية في المنام فهي أقرب ما يكون في تصرف النائم وهي أنواع:
قال ابن تيمية: (الرؤيا على ثلاثة أنواع؛ منها الرؤيا الصحيحة ولها أقسام:
1 - رؤيا من الله. 2- رؤيا من الشيطان. 3- رؤيا من حديث النفس) .
والرؤيا الصحيحة أقسام:
منها: (إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد، وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام، كما قال عبادة بن الصامت وغيره. ومنها: مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها. ومنها: التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه. ومنها: عروج روحه إلى الله سبحانه وخطابها له. ومنها: دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك. . .) (3) .
__________
(1) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2875) ، سنن النسائي الجنائز (2074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/220) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ4، ص 275، 276.
(3) الروح لابن القيم، ص 39.(65/200)
ثم قال: قال بعض السلف: إن الأرواح تتلاقى في الهواء فتتعارف أو تتذاكر فيأتيها ملك الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر، قال: وقد وكل الله بالرؤيا الصادقة ملكا علمه وألهمه معرفة كل نفس بعينها واسمها ومنقلبها في دينها ودنياها وطبعها ومعارفها، لا يشتبه عليه منها شيء، ولا يغلط فيها فتأتيه نسخة من علم غيب الله من أم الكتاب بما هو مصيب لهذا الإنسان من خير وشر في دينه ودنياه قدمه أو يقدمه، وينذره من معصية ارتكبها أو هم بها، ويحذره من مكروه انعقدت أسبابه ليعارض تلك الأسباب بأسباب تدفعها، ولغير ذلك من الحكم والمصالح التي جعلها الله في الرؤيا نعمة، ورحمة، وأحيانا تذكيرا وتعريفا، وجعل أحد طرق ذلك؛ تلاقي الأرواح وتذاكرها وتعارفها وكم من كانت توبته وصلاحه وزهده وإقباله على الآخرة عن منام رآه أو رؤي له، وكم ممن استغنى وأصاب كنزا دفينا عن منام. .) (1) .
أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف (2) » .
__________
(1) الروح، ص 42، 43.
(2) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة، (فتح الباري، جـ 6، ص 369، رقم 3336) ، صحيح مسلم، كتاب البر، باب الأرواح جنود مجندة، (شرح مسلم للنووي، جـ16، ص 185) .(65/201)
قال ابن حجر: قال الخطابي: (يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحن إلى شكله والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت. . .) (1) .
قال البخاري: (باب رؤيا الصالحين) .
وقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (2) .
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (3) » .
وعند مسلم من حديث أبي هريرة بمثله، ومن حديث ابن عمر: «جزء من سبعين جزءا (4) » .
__________
(1) فتح الباري، جـ 6، ص 369.
(2) سورة الفتح الآية 27
(3) صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين (فتح الباري، جـ12، ص 361 رقم 698) .
(4) صحيح مسلم، كتاب الرؤيا (شرح النووي، جـ 15، ص 22، 23) .(65/202)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره (1) » .
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة 1- فرؤيا الصالحة بشرى من الله، 2- ورؤيا تحزين من الشيطان، 3- ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس (2) » . . . .
قال النووي: قال الإمام المازري: (مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله (فتح الباري، جـ 12، ص 368) ، وهو عند مسلم في كتاب الرؤيا بمثله وزيادة (شرح النووي، جـ15، ص20) .
(2) صحيح مسلم، كتاب الرؤيا (شرح النووي، جـ15، ص 20- 21) .(65/203)
النائم الطيران، وليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو، فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره، كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم علما على المطر، والجميع خلق الله تعالى، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علما على ما يسر بغير حضرة الشيطان، ويخلق ما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان، فينسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها، وإن كان لا فعل له حقيقة) (1) .
وأخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، جـ15، ص17.
(2) صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب المبشرات (فتح الباري، جـ12، ص 375 رقم 6990) .(65/204)
7 - رؤيا الأنبياء والصحابة:
1 - رؤيا إبراهيم عليه السلام: قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (1) {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (2) {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (3) {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (4) .
قال ابن كثير: قال عبيد بن عمير: " رؤيا الأنبياء وحي. . . " (5) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 102
(2) سورة الصافات الآية 103
(3) سورة الصافات الآية 104
(4) سورة الصافات الآية 105
(5) تفسير ابن كثير، جـ 7، ص 23.(65/204)
وهو حديث أخرجه البخاري بسنده من حديث عبيد بن عمير قال: إن رؤيا الأنبياء وحي ثم قرأ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (1) .
2 - رؤيا يوسف عليه السلام. قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (2) {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} (3) .
وقوله تعالى: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (4) .
3 - رؤيا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (5) {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (6) .
وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} (7) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 102
(2) سورة يوسف الآية 4
(3) سورة يوسف الآية 5
(4) سورة يوسف الآية 100
(5) سورة الأنفال الآية 43
(6) سورة الأنفال الآية 44
(7) سورة الإسراء الآية 60(65/205)
وقال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (1) .
وأخرج البخاري بسنده من حديث عائشة أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فإنه لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح. . . (2) » .
4 - رؤيا الصحابة:
أخرج البخاري في صحيحه في باب التواطؤ على الرؤيا حديثا بسنده من حديث ابن عمر أن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وأن أناسا أروها في العشر الأواخر فقال النبي صلى الله عليه سلم: «التمسوها في السبع الأواخر (3) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (4) » .
__________
(1) سورة الفتح الآية 27
(2) صحيح البخاري، كتاب التعبير، الباب الأول (فتح الباري، جـ12، ص351، رقم 6982) .
(3) صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا (فتح الباري، جـ12، ص 379) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس في كتاب التعبير، باب من رأى النبي في المنام (فتح الباري، جـ12، ص 383) .(65/206)
وأخرج البخاري بسنده من حديث سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ قال: فيقص عليه ما شاء الله أن يقص. . . (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (فتح الباري، جـ12، ص 438 رقم 7047) .(65/207)
القسم الثالث:
1 - العلاقة بين النوم والموت:
قبل أن نوضح العلاقة بين النوم والموت، يحسن بنا أن نوضح العلاقة بين الروح والبدن في أنواع التعلق الخمسة، والموت- بشقيه الأكبر والأصغر- والحياة من مخلوقات الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) .
والإنسان مخلوق في أصل خلقته من صلصال كالفخار قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (2) .
ثم اقتضت حكمة الحكيم أن يخلقه من نطفة قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} (3) .
وقال تعالى:
__________
(1) سورة الملك الآية 2
(2) سورة الرحمن الآية 14
(3) سورة فاطر الآية 11(65/207)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (2) {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) .
ثم نفخ فيه من روحه قال تعالى: {فإذا سويته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (4) . وقال عن النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (5) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (6) .
فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل بدنه كالقالب لنفسه، فتسوية البدن، تابع لتسوية النفس والبدن موضوع لها كالقالب لما هو موضوع له، ومن هنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة لتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا، وتناسبا، وتفاعلا، وتأثرا من أحدهما بالآخر: الروح والبدن.
ولهذا يقال لها عند المفارقة: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12
(2) سورة المؤمنون الآية 13
(3) سورة المؤمنون الآية 14
(4) سورة الحجر الآية 29
(5) سورة الشمس الآية 7
(6) سورة الشمس الآية 8(65/208)
الخبيث (1) .
(والروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق) (2) :
__________
(1) الروح لابن القيم ص 51، 52.
(2) انظر كتاب الروح لابن القيم، ص58.(65/209)
أولها: تعلق الروح بالبدن في بطن الأم جنينا:
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (2) {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) .
قال ابن كثير: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (4) أي: ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك، وحركة واضطراب.
وقال ابن عباس: يعني به الروح، وقال ذلك علي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والحسن) (5) .
وبعد أن ينفخ الملك الروح في الجنين وهو في بطن أمه ليصبح خلقا آخر، يتحرك، ويسمع، ويحس، ويتأثر بما تتأثر منه أمه، لأنه أصبح إنسانا مكونا من جسم وروح ولذلك تتنزل عليه أحكام
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12
(2) سورة المؤمنون الآية 13
(3) سورة المؤمنون الآية 14
(4) سورة المؤمنون الآية 14
(5) تفسير ابن كثير، جـ5، ص 461.(65/209)
الأحياء من جنايات وغيرها. .
يقول ابن القيم: (للنفس أربع دور، كل دار منها أعظم من التي قبلها.
الدار الأولى: في بطن الأم، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث) (1) .
__________
(1) الروح، ص 155.(65/210)
ثانيها: تعلق الروح بالبدن بعد خروجه إلى الأرض:
يقول ابن القيم: (والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة) (1) .
وقال ابن أبي العز: (الدور الثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار؛ وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها. . .) (2) .
والروح في الحياة الدنيا مدبرة للبدن وهي التي تفارقه بالموت (3) .
والروح ملازمة للبدن في دار الحياة الدنيا ملازمة تامة إلا في
__________
(1) الروح، لابن القيم، ص 156.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص 452.
(3) انظر رسالة العقل والروح، مجموعة الرسائل المنيرية 2 \ 36 (القيامة الصغرى للأشقر، ص 85) .(65/210)
حالتين: حال النوم، وحال الموت.(65/211)
ثالثا: تعلق الروح بالبدن في الحياة الدنيا حال النوم:
قال ابن القيم: (والروح لها بالبدن تعلق من وجه ومفارقة من وجه، والنوم شقيق الموت. .) (1) .
قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (2) .
قال ابن القيم: (وإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي، وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت) (3) .
وقال ابن القيم أيضا: (. . . ذكر سبحانه وفاتين؛ وفاة نوم، ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة، وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفس ميت سواء مات في النوم، أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت، فقوله: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (4) يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام) (5) .
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر. . .) (6) .
__________
(1) الروح لابن القيم، ص58.
(2) سورة الزمر الآية 42
(3) الروح لابن القيم، ص58.
(4) سورة الزمر الآية 42
(5) الروح لابن القيم، ص27.
(6) تفسير سورة الأنعام، الآيتان 60، 61، تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج2، ص138.(65/211)
وقال ابن القيم: وفيها ثلاثة أدلة:
1 - الإخبار بتوفي الأنفس بالليل.
2 - بعثها إلى أجسادها بالنهار.
3 - توفي الملائكة له عند الموت (1) .
وقال ابن تيمية: (والنائم يحصل له في منامه لذة وألم، وذلك يحصل للروح والبدن. . .) (2) .
والرؤيا في المنام على ثلاثة أنواع:
1 - رؤيا من الله. . وهي الصحيحة.
2 - رؤيا من الشيطان.
3 - رؤيا من حديث النفس. . . (3)
__________
(1) الروح، ص240.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ4، ص275، 276.
(3) الروح لابن القيم، ص39.(65/212)
رابعا: تعلق الروح بالبدن بعد الحياة الدنيا حال الموت (البرزخ) :
والموت هو مفارقة الروح للبدن حال انتهاء الأجل بقضاء وقدر من الله فيرسل ملك الموت فيقبضها، فتأخذها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب- على التفصيل الذي مر في مبحث (كيف يموت الإنسان؟) .
وبعد مفارقة النفس للبدن لها به تعلق في البرزخ، لأنها وإن(65/212)
فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه، وقد وردت الأحاديث والآثار بما يدل على ردها إليه في أحوال وأوقات، لكن هذا الرد رد خاص لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة. . . (1)
قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (2) .
قال ابن القيم: (الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده، كانت له حال متوسطة بين الحي وبين الميت) (3) وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الروح إلى البدن وقت السؤال كما ورد في حديث البراء بن عازب الذي تقدم.
قال ابن أبي العز: (. . . وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها. . .) (4) .
وقال القرطبي: انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار " (5) .
__________
(1) الروح لابن القيم، ص58.
(2) سورة السجدة الآية 11
(3) الروح لابن القيم، ص58.
(4) شرح العقيدة الطحاوية، ص452.
(5) التذكرة، ص4.(65/213)
خامسا: تعلق الروح بالبدن يوم البعث:
يقول ابن القيم: (وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة(65/213)
لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا) (1) .
وقال ابن أبي العز: (فإذا جاء يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجسام جميعا. . . والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع. . . والأجساد تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل ترابا، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاما ولحما، ثم أنشأه خلقا سويا، كذلك الإعادة؛ يعيده الله بعد أن يبلى. . .) (2) .
قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (3) .
ولا شك أن النعيم والعذاب يوم القيامة يقع على البدن والروح معا؛ لأن تعلقهما ببعض أكمل تعلق فيكون النعيم أكمل نعيم، والعذاب أشده وآلمه.
__________
(1) الروح لابن القيم، ص58.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ص452، 263.
(3) سورة آل عمران الآية 185(65/214)
2 - العلاقة بين الموت والنوم:
ومما سبق يتضح أن العلاقة بين الموت والنوم وثيقة، فمفارقة الروح للبدن العامل المشترك بينهما، وكلاهما سماه الله وفاة وموتا،(65/214)
فهو سبحانه يتوفى الأنفس حين النوم؛ وهو الموت الأصغر، ويتوفى الأنفس حين الموت الأكبر.
وكما أن الله يرد روح النائم إليه إذا لم ينته الأجل، فإن الله يرد على الميت روحه في أحوال وأوقات معينة مثل سؤال الملكين له في القبر- كما ورد في حديث البراء بن عازب - وكما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ترد روحه عليه ليرد السلام على من يسلم عليه. وأيضا إذا فارقت الروح بدن النائم، فإن لها به تعلقا من وجه آخر، فيكون النائم في حال متوسطة بين اليقظان وبين الميت الذي ردت روحه إلى بدنه.
وروح الميت إذا فارقته، فإن لها به تعلقا من وجه آخر، لكن لا يمكن أن تعود الحياة إلى البدن إلى يوم القيامة.
أما البدن حال النوم فهو ينعم ويعذب كما ورد في الآثار التي مضت، وفي حال الموت ينعم ويعذب كما صحت الأخبار بأن القبر إما روضة من روضات الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
والروح أيضا حال النوم، وحال الموت تنعم وتعذب؛ لأنها حال النوم تبع للبدن، وحال الموت البدن تبع لها، وقد صحت الآثار بذلك كما تقدم.
والروح حال النوم وحال الموت تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر، وتتكلم إلى غير ذلك، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة.(65/215)
ولذلك يرى النائم في منامه ثلاثة أنواع من الرؤيا: إما صالحة وهي من الله، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس، وهذا وغيره مما تختص به الروح حال النوم.
وأيضا الروح حال الموت يصعد بها ثم يرجع بها، وتكون في حواصل طير خضر في الجنة لمن استشهد في سبيل الله، أو في أسفل سافلين في العذاب المهين للعاصين.
والأرواح حال النوم، وحال الموت تبعث، فالأولى: تبعث حال الاستيقاظ من النوم في الليل أو في النهار، والثانية: تبعث يوم القيامة للحساب والجزاء.
وفي الختام نحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى كما نحمده الذي بنعمته تتم الصالحات، ونصلي ونسلم على الهادي البشير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه وسلم تسليما كثيرا.(65/216)
الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة
للدكتور محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: -
فيقول جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1) ويقول صلى الله عليه وسلم «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (2) » حديث صحيح، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (3) » (4) .
وإن من دأب أعداء الله، وأعداء الحق، أن يدخلوا الشبهات على المسلمين في أوامر دينهم، حتى يكونوا مثلهم في المخالفة لأمر الله، وتبديل ما جاءهم من الحق، بما تهوى الأنفس، ويلذ للألسن.
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) صحيح البخاري 2: 54، ومسلم 8: 89، وانظر مختصر المقاصد ص175.
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(4) ينظر مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز 1: 427، 6: 277.(65/217)
واهتمام أهل الكتاب، بأن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ملتهم عندما كان يبلغ أمر الله، وينشر رسالة ربه، ثم أمته من بعده، يبدأ من نقض الإسلام عروة عروة، والتشكيك في شرع الله، ومسايرته للعصر الذي يريدونه حسب رغباتهم الشخصية، والحق لا يتبع الهوى.
والمرأة وحجابها، وعملها وحقوقها، هي من أوليات الأمور التي يعقدون لها المؤتمرات، ويصدرون عنها النشرات المتتالية، ليباعدوا المرأة المسلمة عن أوامر دينها، حتى تساير المرأة في بيئاتهم التي اقتيدت لأمور تخالف فطرتها، وما وجهتها إليه الأوامر الربانية، على ألسنة رسل الله، من أولهم إلى آخرهم ولجهلها انساقت مع دعاتهم، فكانت أول فتنة لبني إسرائيل، وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من فتنة النساء.
وما أكثر ما تتعرض وسائل الإعلام بين حين وآخر إلى المرأة وحجابها، بدون كلل ولا ملل وخاصة في صحائف البلدان الإسلامية، محاولين أن يحققوا باطلا، ويباعدوا المرأة من حق أمرتها شريعة الله به، في مصدريها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأنه لم يكن عند المسلمين من القضايا والأمور الواجب الاهتمام بها، غير حجاب المرأة المسلمة، والدعوة إلى مشاركتها الرجل في الأعمال، وذلك بنبذ الاحتشام الذي تقتضيه الفطرة،(65/218)
ونزع الحجاب الذي هو أمر من الله.
والمرأة في التاريخ الطويل لم تحظ بمكانة بمثل ما حظيت به في الإسلام: حقوقا وواجبات واحتراما وتقديرا، ومعاملة مع ما يتلاءم مع فطرتها، حتى إن المرأة الغربية والشرقية في أصقاع الأرض، والمفكرين المنصفين من رجال الغرب يشيدون بما حصل للمرأة من مكانة في الإسلام، وتتمنى المرأة في الغرب أن تحظى بمثل مكانتها.
وتصديقا للآية الكريمة السابقة: نراهم يصرون في مؤتمرات الاستشراق على وضع خطط يكيدون بها للإسلام وأهله، ويسعى كبراءهم في هذا السبيل تصريحا وتضليلا {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) .
ففي مؤتمر الاستشراق، المقام في القدس عام 1909م يقول القس زويمر البريطاني الذي قيل إن أصله يهودي، حيث أوصى بأن يدفن على طريقة اليهود: لن يهدأ لنا بال حتى نمزق القرآن من قلوب المسلمين، ونجعل بجوار الكعبة كنيسة. هذا عن العقيدة والعبادة.
ويقول غلاستون رئيس مجلس وزراء إيطاليا يوما ما: لن تستقيم حالة الشرق، ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويغطى به القرآن (2) ، وهذا عن حجاب المرأة المسلمة، وإن قراءة واعية لمثل هذه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 30
(2) صحيفة النور تصدر بالجزائر العدد 14 يوم الخميس 16 صفر 1422هـ.(65/219)
التصريحات، وهي كثيرة تظهر بين حين وآخر، كافية بإيقاظ حماسة المسلمين، ودفعهم للدفاع عن دينهم الحق، وتفنيد الأمور بدليلها الشرعي، حتى يتعلم الجاهل، وينتبه الغافل.
ولكن المصيبة، عندما يأتي بعض طلاب العلم- وفقهم الله للصواب والنية الصادقة- ليفتحوا بابا من أبواب الفتنة، بدعوتهم في الصحف، إلى الإصرار على أن وجه المرأة ليس بعورة، وأن الوجه والكفين موطن خلاف، محتجين بحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها غير هذا وهذا (1) » وأشار إلى الوجه والكفين.
ومعلوم أن علة الحكم ومداره- كما قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله على خوف الفتنة بالمرأة، والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن، وموضع الفتنة، فيكون ستره واجبا، لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال.
وحديث أسماء بنت أبي بكر، قد تتبعه كثير من العلماء قديما وحديثا: منهم ابن تيمية والشافعي والشيخ الشنقيطي والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ عبد القادر بن حبيب الله
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4104) .(65/220)
السندي في رسالة خصصها لمناقشة هذا الحديث وطرقه رحمهم الله وبان لهم ضعفه، وأنه لا يحتج به، كما سوف نوضح ذلك فيما بعد.
وفي نيل الأوطار شرح المنتقى: ذكر المؤلف اتفاق العلماء المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق وفي هذا الزمان ما أكثر الفساق، وما أجرأهم على انتهاك الحرمات. حسب ما تطفح به الصحف من أخبار لا تمثل كل ما يحصل مما يجب معه سد الذرائع، وعدم فتح باب شر يصعب إغلاقه، حيث إن فتحه يوقظ الفتنة النائمة في المجتمع الإسلامي (1) ، خاصة وأن الأدلة العقلية والنقلية بحمد الله واضحة.
__________
(1) تراجع الفتن في النهاية عند ابن كثير، وبابها عند المحدثين.(65/221)
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- في رسالة في الحجاب: ولا أعلم لمن أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية دليلا من الكتاب والسنة سوى ما يأتي:
الأول: قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي وجهها وكفاها والخاتم. قال الأعمش عن سعيد بن جبير عنه، وتفسير الصحابة حجة: برد هذا في مواضع منها: حديث الخطبة ينظر للمرأة وإن كانت لا تعلم، الذي رواه الإمام أحمد، قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال
__________
(1) سورة النور الآية 31(65/221)
الصحيح. وجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة، إذا نظر من مخطوبته، بشرط أن يكون نظره للخطبة، فدل على أن غير الخاطب آثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال، وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة، مثل أن يكون غرضه بالنظر التلذذ والتمتع.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد، قلن يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتلبسها أختها من جلبابها (1) » رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة، أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب، وأنها عند عدمه لا يمكن أن تخرج، ولذلك ذكرن رضي الله عنهن هذا المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أمرهن بالخروج إلى مصلى العيد، فبين لهن الإشكال، ولم يأذن لهن بالخروج إلى مصلى العيد بغير جلباب، وهو مشروع مأمور به للرجال والنساء.
ومنها: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس (2) » ، وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما رأينا، لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها،
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (324) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (372) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (645) ، سنن الترمذي الصلاة (153) ، سنن النسائي كتاب المواقيت (546) ، سنن أبو داود الصلاة (423) ، سنن ابن ماجه الصلاة (669) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (4) ، سنن الدارمي الصلاة (1216) .(65/222)
وقد روي نحو هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وفي هذا دلالة على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة، الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقا وآدابا، وأكملها إيمانا، وأصلحها عملا، فهم القدوة، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
الثاني: ما رواه أبو داود في سننه، عن عائشة رضي الله عنها: «أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت سن المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه (1) » .
الثالث: ما رواه البخاري وغيره «عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخاه الفضل، كان رديفا للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه- أي الفضل - إلى الشق الآخر (2) » ، ففي هذا دليل على أن المرأة هذه، كانت كاشفة وجهها.
الرابع: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، صلاة العيد، ثم وعظهم وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن وقال: «يا معشر النساء تصدقن، فإنكن أكثر حطب جهنم (3) » فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين. . الحديث.
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4104) .
(2) صحيح البخاري الحج (1513) ، صحيح مسلم الحج (1334) ، سنن الترمذي الحج (928) ، سنن النسائي مناسك الحج (2642) ، سنن أبو داود المناسك (1809) ، سنن ابن ماجه المناسك (2907) ، مسند أحمد بن حنبل (1/251) ، موطأ مالك الحج (806) ، سنن الدارمي المناسك (1833) .
(3) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1576) .(65/223)
ولولا أن وجهها مكشوف ما عرف أنها سفعاء الخدين.
هذا ما أعرفه من الأدلة، التي يمكن أن يستدل بها على جواز كشف الوجه للأجانب من المرأة، ولكن هذه الأدلة لا تعارض أدلة وجوب ستره (1) .
__________
(1) أنظر مجموعة: رسائل في الحجاب والسفور: لمجموعة من العلماء ص 102 - 104 وص 94-96.(65/224)
الرد على ذلك:
وأن في تأصيل الرد على القائلين بجواز كشف الوجه للأجانب يأتي من وجوه:
الأول: ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، في قصة الإفك الذي جاء فيه عن صفوان بن المعطل قالت: (فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة. . . . " إلى نهاية الحديث، الذي أورده ابن كثير - رحمه الله- في سورة النور (1) .
فهذا دليل صريح على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الصحابة، كن يكشفن وجوههن وأيديهن، قبل نزول آية الحجاب، وبعد ما نزلت استجبن لأمر الله بالحجاب في تغطية الوجه وغيره مما
__________
(1) يراجع تفسير ابن كثير 3 \ 268 - 270.(65/224)
كان يظهر قبل الحجاب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإنما ضرب الحجاب على النساء لئلا ترى وجوههن وأيديهن، والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه: أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز.
وأما قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} (1) فقد رخص فيها للعجوز التي لا تطمع في النكاح، أن تضع ثيابها، فلا تلقي عليها جلباها ولا تحتجب. وإن كانت مستثناة من المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم، في عدم الشهوة التي تتولد من الفتنة.
وكذلك الأمة، إذا كان يخاف بها الفتنة، كان عليها أن ترخي من جلباها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها.
فالإماء والصبيان، إذا كن حسانا، تخشى الفتنة بالنظر إليهم، كان حكمهم كذلك، كما ذكر العلماء ذلك، ثم أورد أقوالا للعلماء في هذا. منها قول المروذي: (قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل الرجل ينظر إلى المملوك؟ قال: إذا خاف الفتنة لم ينظر إليه، كم نظرة ألقت في القلب البلاء) . قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: " الرجل تاب، وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في
__________
(1) سورة النور الآية 60(65/225)
معصية، إلا أنه لا يدع النظر، فقال: أي توبة هذه؟ !) .
قال جرير: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فقال: «اصرف بصرك (1) » . (2)
الثاني: آيات الحجاب، فهي أمر صريح بالتزام الحجاب لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، ونساء المؤمنين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) .
قال ابن عطية الأندلسي في تفسيره: " لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجل إليهن، وتشعب الفكر فيهن، أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام، بأمرهن بإدناء الجلابيب ليقع سترهن، ويبين الفرق بين الحرائر والإماء، فيعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن، من كان غزلا أو شابا.
وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات، لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت الآية بسبب ذلك، والجلباب ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، واختلف الناس في صورة إدنائه، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني: (ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة، تبصر بها)
__________
(1) صحيح مسلم الآداب (2159) ، سنن الترمذي الأدب (2776) ، سنن أبو داود النكاح (2148) ، مسند أحمد بن حنبل (4/361) ، سنن الدارمي الاستئذان (2643) .
(2) مجموع: رسائل في الحجاب والسفور: حجاب المرأة ولباسها في الصلاة لابن تيمية ص 26-29.
(3) سورة الأحزاب الآية 59(65/226)
وقال ابن عباس أيضا وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين، وتشده ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه) .
وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} (1) أي على الجملة بالفرق، حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة، مراقبة لرتبة الحرية، وليس المعنى: أن تعرف المرأة، حتى يعلم من هي. وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر (2) .
والآية الثانية في الأمر بالحجاب قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3) .
يقول الشيخ الشنقيطي في تفسيره: (إن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة القول، وفي هذه قلنا: إن قول كثير من الناس: إن آية الحجاب هذه، خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم، الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة، في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (4) قرينة واضحة على إرادة تعميم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) تفسير ابن عطية: المسمى: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج13 ص 99-100.
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) سورة الأحزاب الآية 53(65/227)
الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين، إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن، وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول: أن العلة قد تعمم معلولها.
وبما ذكرنا تعلم، أن في هذه الآية الكريمة، الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه.
وإذا علمت أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (2) وعلمت أن حكم العلة عام، فاعلم أن العلة قد تعم معلولها، وقد تخصه كما ذكرنا، في بيت مراقي السعود وهو يقول:
وقد تخصص وقد تعمم ... لأصلها لكنها لا تخرم
وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عاما، بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب، بدلالة القرآن على جميع النساء) (3) .
وقد توسع رحمه الله في هذا الموضوع، إذ بسطه في أكثر من عشرين صفحة: ذكر الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب على العموم، ثم الأدلة من السنة، ثم مناقشة أدلة الطرفين، وذكر الجواب عن أدلة من قالوا بعدم وجوب الحجاب على غير أزواج النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6: 585، 584.(65/228)
وسلم، وقد يورد شبهات القائلين بعدم ستر الوجه، ويرد عليه (1) .
ومن ذلك قوله رحمه الله: ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (2) فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى يدنين عليهن من جلابيبهن أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به ابن مسعود وابن عباس، وعبيدة السلماني وغيرهم، فإن قيل: لفظ الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه، معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (4) يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (5) ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين، فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجه بإدناء الجلابيب كما ترى. ثم قال الشيخ
__________
(1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6: 586- 603.
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة الأحزاب الآية 59(65/229)
الشنقيطي: ومن الأدلة على ذلك أيضا: ما قدمنا في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) من أن استقراء القرآن، يدل على أن معنى إلا ما ظهر منها: الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير إلا ما ظهر منها: بالوجه والكفين، كما تم إيضاحه في سورة النور. واعلم أن قول من قال: إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (2) لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة القرآنية المذكورة هي قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} (3) قال: وقد دل عليه قوله: {أَنْ يُعْرَفْنَ} (4) على أنهن سافرات، كاشفات وجوههن؟ لأن التي تستر وجهها لا تعرف باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منعا باتا؛ لأن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (5) صريح في منع ذلك. وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} (6) راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب، مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه كما لا يخفي.
وقوله في الآية الكريمة: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (7) دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بكشف الوجوه؛ لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين، والحاصل أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة:
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة الأحزاب الآية 59
(6) سورة الأحزاب الآية 59
(7) سورة الأحزاب الآية 59(65/230)
الأول: سياق الآية، كما أوضحناه آنفا.
ثانيا: قوله: لأزواجك، كما تقدم أيضا.
الثالث: أن عامة المفسرين من الصحابة ومن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها: بأن نساء المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجاتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء ولا يتعرضون للحرائر، ولا تمييز بين لباسهن، فأمر الله رسوله بأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن فإذا فعلن ذلك، ورآهن الفساق علموا أنهن حرائر، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء، هو معنى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} (1) فهي معرفة بالصفة، لا بالشخص، وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن كما ترى.
وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية وهو واضح، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز، بل هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (2) في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} (3) وجاء في لسان العرب تعريف الجلباب بأنه: ثوب أوسع من الخمار، دون الرداء، تغطي به
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة الأحزاب الآية 60
(3) سورة الأحزاب الآية 60(65/231)
المرأة رأسها وصدرها، وقيل: هو ثوب واسع، دون الملحفة، تلبسه المرأة، وقيل: هو ما تغطي به المرأة الثياب من فوق كالملحفة، وقيل: هو الخمار، وفي حديث أم عطية: «تلبسها صاحبتها من جلباها (1) » أي إزارها، وفي التنزيل العزيز: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (2) قال ابن السكيت: قالت العامرية: الجلباب الخمار، وقيل: جلباب المرأة ملاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب، والجماعة جلابيب (3) . ومعلوم أن الإدناء من الرأس لهذا الجلباب، يعني تغطية الوجه.
الرابع: الفهم العملي لمعنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (4) إن من يتتبع أقوال وعمل أمهات المؤمنين، والصحابة وزوجاتهم، يدرك أنهم رضي الله عنهم جميعا، قد أبانوا ما يجب أن تعمله المرأة في تغطية وجهها بهذا الجلباب، مسارعة منذ نزلت الآية، ويستبعد أن عملهن ذلك عن عدم فهم للدلالة المطلوبة من نص الآية الكريمة، كيف وهم أمام سمع وبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يعلمهم ما خفي عليهم بالفهم أو العمل.
تقول عائشة رضي الله عنها في تزكيتها لنساء الأنصار: (رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (5) الآية، شققن مروطهن، فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله - وفي رواية الفجر- كأن على رءوسهن الغربان)
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (6) خرج نساء الأنصار، كأن على رءوسهن
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (324) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) لسان العرب لابن منظور 2: 317.
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة الأحزاب الآية 59
(6) سورة الأحزاب الآية 59(65/232)
الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها (1) . وما ذلك إلا أن الرجال كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغون نساءهم بما نزل من تشريع، فيسارعن في التطبيق، وحسن الامتثال.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة) (2) .
وعائشة رضي الله عنها، تتحدث عن نفسها وعن نساء الصحابة ذلك الوقت، عندما قالت وهي حاجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فكنا- و" نا " هنا للجمع لها ولنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنساء الصحابة في ذلك الحج - نكشف عن وجوهنا، فإذا حاذينا الرجال، سدلنا الحجاب على وجوهنا، فإذا جاوزونا كشفناه) وهذا الحج هو حج الوداع.
وفي رواية: قالت (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه) (3) . وهذا تطبيق عملي من نساء الصدر الأول، ومسارعة في الفهم، وهن القدوة، وبحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مع أن
__________
(1) فتح البيان في مقاصد القرآن، لصديق القنوجي 11: 145.
(2) فتح البيان في مقاصد القرآن، لصديق القنوجي 11: 145.
(3) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.(65/233)
إحرام المرأة في وجهها، فكان تغطيته عند محاذاة الركبان، ولم يعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة من محظورات الإحرام التي تستوجب الكفارة، مما يدل على وجوب ستر الوجه، مع أن المشروع في إحرام المرأة كشفه، وما ذلك إلا لوجود مانع قوي لتغطيته امتثالا لأمر الله في الحجاب.
ولما كان كثير من أهل العلم يرون كشف الوجه من واجبات الإحرام، فإن عمل عائشة رضي الله عنها ونساء الصحابة وأمهات المؤمنين بالاحتجاب وتغطية الوجه عند محاذاة الركبان لا يعتبر مخالفة لمقتضيات الإحرام، وإنما عارضه ما هو أقوى منه دليلا، وأوجب في حق المرأة، وهن إذا لم يؤمرن صراحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أقرهن، ومعلوم أن السنة النبوية في قوله وإقراره وعمله صلى الله عليه وسلم وستر الوجه جاء فيه القول والإقرار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاواه: (وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين، كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجههن وأيديهن) (1) .
الخامس: إذا علم أن الأدلة التي يستدل بها المجيزون على جواز كشف الوجه للأجانب من المرأة، هي أربعة كما مر بنا في إحصاء
__________
(1) مجموع الفتاوى 22: 110 - 111.(65/234)
الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، فإن وجوه الاستدلال بعدم الجواز التي أوردها فضيلته عشرة: أربعة من كتاب الله، وستة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زادها بالحادي عشر وهو: الاعتبار الصحيح والقياس المطرد، الذي جاءت به الشريعة الكاملة، وهو إنكار المفاسد ووسائلها والزجر عنها، وإقرار المصالح ووسائلها والحث عليها.
وقال في ذلك: (فكل ما كانت مصلحته خالصة أو راجحة على مفسدته، فهو مأمور به أمر إيجاب أو أمر استحباب، وكل ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة على مصلحته، فهو منهي عنه نهي تحريم، أو نهي تنزيه، وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب، وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة، وإن قدر فيه مصلحة فهي يسيرة منغمرة في جانب المفاسد) (1) .
ثم ذكر من هذه المفاسد أربعة وهي:
1 - الفتنة، فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يجمل وجهها ويبهيه، ويظهر بالمظهر الفاتن، وهذا من أكبر دواعي الشر والفساد.
2 - زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان، ومن مقتضيات فطرتها، فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء يقال: أحيا من العذراء في خدرها، وزوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها، وخروج
__________
(1) مجموع رسائل في الحجاب والسفور: رسالة الحجاب للشيخ ابن عثيمين ص94-100.(65/235)
عن الفطرة التي خلقت عليها.
3 - افتتان الرجال بها، لا سيما إذا كانت جميلة، وحصل منها تملق وضحك ومداعبة كما في كثير من السافرات.
4 - اختلاط النساء بالرجال، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه، أو التجول سافرة، لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمته، وفي ذلك فتنة كبيرة، وفساد عريض (1) .
السادس: إذا كان العلماء رحمهم الله يرون من العلل في الحجاب خوف الفتنة، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «ما تركت على أمتي فتنة أشد من النساء (2) » وأخبر صلى الله عليه وسلم: «أن فتنة بني إسرائيل في النساء (3) » (4) فقد جاءت محاذير عن إبداء الزينة الباطنة، كالنحر والصدر، وجاء الأمر من الله جلت قدرته بحفظ النساء لفروجهن، وهذا يقتضي الأمر بالوسيلة المقربة إليه.
ولاشك أن زينة المرأة وجمالها الباطن في وجهها، الذي هو مجمع المحاسن فيها، ولم يرخص الله ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير المحارم برؤيته إلا الخاطب (لعله يؤدم بينهما) ، مما يدعو إلى إدراك الحكمة في التشريع في اعتبار الوجه هو المقصود بالحجاب
__________
(1) مجموع رسائل في الحجاب والسفور: رسالة الحجاب للشيخ ابن عثيمين ص99، 98.
(2) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(4) ينظر مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1: 427، 6: 277 حيث أورد هذين الحديثين الصحيحين.(65/236)
وإدنائه من أعلا الرأس إلى النحر والصدر، ليشمل الوجه، وعلة أخرى في هذا السبيل في دلالة الآية الكريمة: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) والمراد من ذلك صوت الخلخال وغره مما تتحلى به المرأة للرجل، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذا: (فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بها، لما يسمع من صوت خلخالها ونحوه، فكيف بكشف الوجه، ومعلوم أن الوجه وهو مجمع المحاسن. فأيهما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم امرأة، لا يدري ما هي وما جمالها، ولا يدري أشابة هي أم عجوز، ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء، أيهما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل، ممتلئ شبابا ونظارة، وحسنا وجمالا، وجميلا بما يجلب الفتنة، ويدعو إلى النظر إليها، إن كل إنسان له إربة في النساء، ليعلم أي الفتنتين أعظم، وأحق بالستر والإخفاء) (2) . فإذا كان قد اختلف في فهم الزينة الظاهرة، فإن الحجة في فهم الصحابة ونسائهم، حيث طبقن ذلك عملا بتغطية الوجه والصدر والنحر والشعر، لما روي عن عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: " وكان يعرفني قبل نزول الحجاب " وقولها في الإحرام كنا - بالجمع تعني نفسها ونساء الرسول ونساء المؤمنين - نكشف وجوهنا، فإذا حاذينا الرجال
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) مجموع رسائل في الحجاب والسفور، رسالة الشيخ ابن عثيمين، ص 87-88.(65/237)
سدلت إحدانا خمارها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا، فهذا العمل حجة لا يصح تأويله؛ لأنه تطبيق عملي لمفهوم النص الشرعي في آية الحجاب، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولو عملوا شيئا خطأ لنبههم إليه، كما في صلاة المسيء.(65/238)
رد حديث أسماء:
جاء عند أبي داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير، عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها: «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه (1) » . فقد قال فيه أبو داود بعد إيراده: " إنه مرسل، خالد لم يدرك عائشة ".
ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل بعائشة إلا بعد الهجرة إلى المدينة، وأن أسماء لما هاجرت كان ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في بطنها، وهو أول مولود في دار الهجرة؟ ، فمتى كان دخولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . وآية الحجاب لم تنزل إلا بعد الهجرة في المدينة.
لما كانت أسماء رضي الله عنها من أكثر نساء الصحابة تمسكا بالحجاب وستر الوجه خاصة، فقد ذكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: (أن أسماء كانت تستر وجهها مطلقا في الإحرام وغيره) ،
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4104) .(65/238)
وأورد قول ابن قدامة في المغني، وابن رشد في البداية: (بأن المرأة إحرامها في وجهها إجماعا، ولها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، ولها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا، تستر به عن نظر الرجال، إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة) (1) .، فلو صح ذلك الحديث لكانت أسماء أول من يبادر إلى تطبيقه، وهي المخاطبة به.
ولذا نرى الشيخ عبد العزيز بن باز يضعفه بثلاث علل: -
الأولى: لأنه من رواية خالد بن دريك عن عائشة، وخالد لم يسمع منها فهو منقطع. وقد حكم عليه راويه أبو داود بهذه العلة وقال بعد ذلك: هو مرسل، كما مر بنا.
الثانية: في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يحتج بروايته.
الثالثة: عنعنة قتادة عن خالد بن دريك وهو مدلس (2) .
ثم تتبعت طرق حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، الذي هو حديث أسماء مثار البحث، فقد رواه أبو داود في سننه (3) . والبيهقي في الكبرى (4) ، وابن عدي في الكامل (5) ، والبيهقي في
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات لسماحته، 5: 232.
(2) تراجع رسالة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في السفور والحجاب ص 59- 60.
(3) عون المعبود 11: 161.
(4) 2: 182، و 7: 86
(5) 3: 373.(65/239)
المعرفة (1) .
كلهم رووا من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة «أن أسماء بنت أبي بكر، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه (2) » ، وقد ظهر لي من ذلك أن هذا الحديث مسلسل بالعلل، التي اهتم بها علماء الجرح والتعديل:
الأولى: أن خالدا لم يسمع من عائشة، قال أبو داود في سننه: (هذا مرسل خالد بن دريك لم يسمع عائشة، وقال في سؤالات الآجري: " لم يدرك عائشة " (3) .
وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (لم يدرك عائشة) (4) .
وقد تبعهما في هذا من بعدهما، ممن كتب في الجرح والتعديل، وفي تتبع رجال السند.
الثانية: أن خالدا تفرد به دون باقي الرواة عن عائشة رضي الله عنها، وفي هذا بعد.
__________
(1) 3: 144.
(2) سنن أبو داود اللباس (4104) .
(3) 4: ت 2.
(4) 3: 101.(65/240)
الثالثة: أن قتادة بن دعامة السدوسي، مدلس مشهور بذلك، عند أهل الحديث، ولم أر له تصريحا بالسماع.
الرابعة: أن الراوي عن قتادة هو سعيد بن بشير، وقد تفرد به دون باقي أصحاب قتادة بهذا الإسناد وهو بعيد.
قال أبو أحمد بن عدي: (ولا أعلم رواه عن قتادة بهذا الإسناد غير سعيد بن بشير) (1) . فتفرد سعيد بن بشير بهذا الأثر دون جميع أصحاب قتادة، وفيهم الأئمة يدل على غرابة هذا الإسناد.
الخامسة: أن سعيد بن بشير هذا ضعيف على الصحيح من أقوال أهل العلم.
السادسة: أنه اختلف على سعيد بن بشير فيه، فقال مرة فيه: (عن خالد بن دريك، عن أم سلمة بدل عائشة) (2) .
السابعة: أنه رواه عن سعيد بن بشير، الوليد بن مسلم، وهو مشهور بالتدليس عند علماء الحديث، ولم أر له تصريحا بالسماع.
الثامنة: أن قتادة قد اختلف عليه فيه، فرواه عنه سعيد بن بشير كما سبق، ورواه عنه هشام الدستوائي مقطوعا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وذكره. وإسناده منقطع، ومراسيل قتادة ضعيفة جدا.
التاسعة: أنه قد اختلف في متنها، ففي رواية سعيد بن بشير:
__________
(1) الكامل 3: 373.
(2) الكامل 3: 373.(65/241)
وكفيها، وفي رواية هشام قال: «ويداها إلى المفصل» .
العاشرة: أن فيه نكارة أشد مما سبق، وهي مخالفة للقرآن الكريم، والله عز وجل يقول: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (1) الآية وقد توسع في هذا الألباني في حديثه عن جلباب المرأة المسلمة (2) . والرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأسماء رضي الله عنها، ليس من أولئك الأسماء التي جاءت في الآية الكريمة، فكيف تدخل عليه أسماء بثياب رقاق؟
الحادية عشرة: أنه مخالف لما روته عائشة رضي الله عنها في أحاديث منها:
1 - في قصة الإفك وأنها غطت وجهها.
2 - في حديث عمر حينما قال: " عرفناك يا سودة " فقالت عائشة: " فنزلت آية الحجاب ". وغير ذلك، وبهذا يصبح حديث أسماء منكرا جدا.
الثانية عشرة: أنه مخالف لما عرف عن حياء أسماء رضي الله عنها، وغيرة زوجها الزبير بن العوام ولا أدل على ذلك مما رواه البخاري.
الثالثة عشرة: أن خالدا هذا ابن دريك قال فيه ابن القطان: " مجهول الحال "، كما جاء في نصب الراية (3) .
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) الأحاديث الضعيفة 1: 299.
(3) 1: 299.(65/242)
فإن قيل: فإن له طريقا آخر يشهد، وهو ما جاء في الطبراني في الأوسط، وفي الكبير، (1) . وعند البيهقي في السنن الكبرى (2) . من طريق محمد بن رمح، عن ابن لهيعة عن عياض بن عبد الله، أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري، يخبر عن أبيه، أظنه عن أسماء بنت عميس، أنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر، وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر، وعليها ثياب شامية، واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام فخرج، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا كرهه. فتنحت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة رضي الله عنها: لم قام؟ قال: أولم تري إلى هيئتها، أنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا وأخذ بكفيه فغطى بهما ظهر كفيه، حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صدغيه، حتى لم يبد إلا وجهه» قال البيهقي: " إسناده ضعيف " (3) . قلت وهذا الحديث فيه ابن لهيعة، وهو عبد الله أبو عبد الرحمن المصري، وهو ضعيف، وخصوصا إذا انفرد كما هنا، فقد انفرد بهذا الإسناد بل وشيخه
__________
(1) المعجم الكبير 24: 142، 143، والمعجم الأوسط 2 ق 401.
(2) 7: 86.
(3) المصدر السابق.(65/243)
عياض بن عبد الله القرشي الفهري المدني ثم المصري، قال عنه البخاري: " منكر الحديث "، وقال أبو حاتم: " ليس بالقوي "، وقال العقيلي: " حديثه غير محفوظ "، وذكره ابن حبان في الثقات. كما يلاحظ عليه الشك في الحديث، هل هو عن أسماء بنت عميس أم لا؟ بقوله: (أظن) .
- وقد ألف الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي كتابين في هذا الموضوع:
الأول هو: رفع الجنة على وجوب ستر الوجه والكفين وجميع محاسن المرأة عند الخروج من بيتها، ويقع في حوالي ثلاث مائة صفحة.
والثاني هو: تكحيل العينين، في رد طرق حديث أسماء في كشف الوجه والكفين.
- فقد كان الكتاب الثاني الذي يبلغ مائة صفحة مع الفهرس ردا وملاحظات على الشيخ علي حسن علي عبد الحميد الأثري الحلبي، في كتابه: تنوير العينين في طرق حديث أسماء بنت أبي بكر في كشف الوجه واليدين. حيث قال في الخاتمة: وقد لاحظت خطرا شديدا في كتابته هذه في هذا الوقت بالذات، الذي يجب وينبغي لمثله أن يتعمق في النتائج الوخيمة، التي تترتب على ما كتب وجمع من الدعوة الصريحة الواضحة إلى السفور، والتكشف بالنسبة للمرأة المسلمة، ومع قوله الذي نقض به عنوان الرسالة، ومن هنا كانت(65/244)
هذه الكتابة من هذا المعدم الفقير إلى الله تعالى، استدراكا على الأخ العزيز رعاه الله تعالى، ومع توضيح كلامه وبيانه فيما زعم من وجود ثلاث طرق لحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها في جواز كشف الوجه والكفين، والأمر بالعكس تماما في ضوء كلام النقاد، الذي قد فرغوا من هذا الأمر وغيره منذ أمد بعيد، وقد أغلقوا الباب، وسدوا الطريق عن طريق تلك القواعد الجيدة، والأصول التي وضعوها، بممارسة علمية فذة نادرة، وقد أجمعوا عليها سلفا وخلفا، فلا مجال للعواطف والمشاعر والأحاسيس المخالفة لأصولهم، ولو كانت عن طريق الاجتهاد، والفكر والنظر، وملاحقة الضرر للمرأة المسلمة حسب زعمهم، وميلهم إلى أن يسهلوا عليها في الخروج والدخول والأمر لم يكن كذلك أبدا (1) .
- ولا يصح حديث أسماء هذا، لأنه يتعارض مع حديث آخر صححه العلماء وهو: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: " كنا نغطي وجوهنا عن الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام " ولئن تعارض هذا مع الحديث الذي نحن بصدده، الذي يحاول من يريد للمرأة الكشف الاستدلال به، فإنه يتعارض مع تطبيق نساء الصحابة لمفهوم آية الحجاب بعد ما نزلت كما مر بنا.
وقد خرج الشيخ عبد القادر، في كتابه الذي رد فيه على الشيخ علي الأثري الحلبي، بتوسع، ومناقشة، بخمس علل في رد طرق
__________
(1) تكحيل العينين في رد طرق حديث أسماء في كشف الوجه واليدين ص 73.(65/245)
حديث أسماء في كشف الوجه واليدين هي حسب ملخصها وتؤيد ما قلناه من قبل:
1 - قال أبو داود: "هذا مرسل "، لأن خالد بن دريك قال في التقريب: " لم يدرك عائشة رضي الله عنها ".
2 - في إسناده الوليد بن مسلم القرشي، قال في التقريب: (كثير التدليس) .
3 - الحديث يخالف حال أسماء رضي الله عنها، لأنه ورد فيه أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، تصف الجسم، والمعروف أن أسماء شديدة الحياء، وقوية الإيمان، وفقيرة الحال، فيستبعد أن تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب تظهر بشرتها، فالحديث مضطرب مع ضعف إسناده.
4 - وكذا جاء في إسناد أبي داود وغيره: سعيد بن بشير، وهو منكر الحديث يروي عن قتادة المنكرات.
5 - وحديث عبد الله بن لهيعة، عن عياض بن عبد الله، أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر عن أبيه- أظنه عن أسماء بنت عميس أنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر وعندها أختها أسماء، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام فخرج، فقالت لها عائشة: تنحي فقد رأى رسول الله أمرا كرهه، فدخل(65/246)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عائشة رضي الله عنها» . .) الحديث، فاختلف اللفظان ويصعب الجمع بينهما، فالحديث إذا مضطرب بلفظيه، مع أن اثنين من رواة الحديث ضعيفان جدا، هما:
الأول: عبد الله بن لهيعة، بفتح اللام وكسر الهاء، ابن عقبة الحضرمي ضعيف بعد احتراق كتبه.
الثاني: شيخه عياض بن عبد الله الفهري المدني، نزيل مصر، قال الحافظ في التقريب: " فيه لين "، وقال ابن أبي حاتم: " ليس بقوي "، وترجم له الإمام أبو جعفر محمد بن عمر والعقيلي في الضعفاء، وقال " منكر الحديث " نقلا عن البخاري رحمه الله (1) .
__________
(1) تكحيل العيين في رد طرق حديث أسماء في كشف الوجه واليدين ص أمقدمة الشيخ: عبد الله بن زاحم.(65/247)
رد ما يستندون عليه: وللداعين إلى التساهل في حجاب المرأة بعض الطرق التي يتلمسون بها ما يقوي رغبتهم في تأصيل ما يدعون إليه، ومن ذلك:
1 - قصة المرأة الخثعمية، التي كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، ووصفت بأنها وضيئة أعجبت الفضل، مما يدل على أنها كانت كاشفة وجهها.
2 - حكاية المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد فيها النظر، ولم يأمرها(65/247)
بالتستر، مما يدل على أنها كانت كاشفة وجهها.
3 - ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه، الذي أخبر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العيد، مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: «تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم (1) » فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: ولم يا رسول الله؟ فلو لم تكن كاشفة لم توصف بذلك.
- وقد ناقش العلماء هذا الأمر قديما وحديثا، وممن بحثه حديثا: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، في تفسيره أضواء البيان في الجزء السادس، عند مروره بسورة النور، وسورة الأحزاب، والشيخ عبد العزيز بن باز، واعتبر العلماء الفيصل في هذا آيات الحجاب التي أنزلها الله في كتابه الكريم، فهو سبحانه له الحكمة البالغة، ويعلم طبائع خلقه، وما يعتمل في النفوس البشرية، منذ خلق آدم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما يطرأ على النفوس من تغييرات، وما تصلح به المجتمعات وتستقيم به أحوال أهلها، وما يفسدها بحسب ما أودع الله سبحانه في طبائع البشر من شهوات ورغبات، خاصة عندما يضعف الحارس الإيماني، والحاجز اليقيني،. بمراقبة الله في السر والعلن، وقد اهتم بهذا الشيخ عبد العزيز بن باز في إجاباته على السائلين، خاصة وأن الدعوة إلى عدم حجاب المرأة المسلمة، بما يمكن الحياء، ويحجب محاسنها عن الأجانب، يدعوها ترك الحجاب،
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (961) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (885) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1575) ، سنن أبو داود الصلاة (1141) ، مسند أحمد بن حنبل (3/318) ، سنن الدارمي الصلاة (1610) .(65/248)
الذي فهمته نساء الصحابة، وطبقته ساعة نزول آية الحجاب، وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره من ليس لها جلباب، أن تلبسها أختها من جلبابها، يدعوها ذلك لمخالفة أمر الله وما تفسير الصحابة رضوان الله عليهم لآية الحجاب، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي، إلا دليل بأن المراد: بإدناء الحجاب، وبضرب الخمر على الجيوب: إنما يدخل فيه ستر الوجه، وتغطيته مع الشعر عن الرجال، وأن ستر المرأة وجهها عمل بالنص القرآني الكريم، كما قالته وعملته عائشة رضي الله عنها، ونساء الرعيل الأول من هذه الأمة، وعنهم أخذ بذلك التابعون، ومن جاء بعدهم، وليس ما يقوله بعض الناس في حججهم، بأن هذا الحجاب لم يعرف إلا في العصور المتأخرة، عندما فرضه العثمانيون وهو من موروثات العادات القديمة عندهم.
- ذلك أن احتجاب النساء عن الرجال، وسترهن، التي هي موضع الفتنة، ومجامع الحسن، ما هو إلا تصديق بكتاب الله سبحانه، وإيمان بأنه منزل من عند الله، وواجبهن الامتثال، وحسن الاتباع: سمعا وطاعة، وعملا، خاصة وأنهن عرفن مثل هذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أن المرأة عورة إذا خرجت استشرفها الشيطان،(65/249)
وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها (1) » رواه الترمذي عن بندار. والإجابة على الحالات الثلاث:
الأولى: قصة المرأة الخثعمية التي كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستدلون به ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم، وضيئة، تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخا كبيرا. . .) الحديث، فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة وجهها.
وأجاب عن ذلك الشيخ الشنقيطي رحمه الله من وجهين:
الأول: ليس في شيء من روايات الحديث، التصريح بأنها كانت كاشفة وجهها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه، وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء، لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها
__________
(1) سنن الترمذي الرضاع (1173) .(65/250)
بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها.
- ويحتمل أن يكون عرف حسنها قبل ذلك الوقت، لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها، ومما يوضح ذلك أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي روى الحديث هذا، لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة، ونظرها إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور، من طريق أخيه الفضل، وهو لم يقل له إنها كانت كاشفة عن وجهها. واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء، لا يستلزم السفور قصدا، لاحتمال أن يكون رأى وجهها، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها.
فإن قيل: قوله إنها وضيئة، وترتيبه على ذلك بالفاء، في قوله: فطفق الفضل ينظر إليها، وقوله: وأعجبه حسنها، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها، وينظر إليه لإعجابه بحسنها، فالجواب أن تلك القرائن، لا تستلزم استلزاما لا ينفك، أنها كانت كاشفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك، وأقرها لما مر من أنواع الاحتمال، مع أن جمال المرأة قد يعرف، وينظر إليها لجما لها وهي مختمرة، وذلك لحسن قدها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها، من رؤية بناها فقط، كما هو معلوم، ولذلك فسر ابن مسعود:(65/251)
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) بالملاءة فوق الثوب. والعرب في أشعارهم يبالغون في حسن قوام المرأة، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة، وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها كشف وجهها، ما لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها، وعليها ستره من الرجال في الإحرام، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية، نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس، والفضل منعه النبي من النظر إليها، وبذلك يعلم أنها محرمة، لم ينظر إليها أحد، فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور.
فإن قيل: كونها مع الحجاج، مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة؛ لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها، فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الورع وعدم النظر إلى النساء، فلا مانع عقلا ولا شرعا، ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ولو نظر إليها لحكي، كما حكي نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف النبي بصر الفضل عنها، أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة، كما ترى، وقد دلت الأدلة العديدة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم.
__________
(1) سورة النور الآية 31(65/252)
وبالجملة: فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية، وداع إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي (1) .
الثانية: حكاية المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد فيها النظر، ولم يأمرها بالتستر عن الحاضرين.
فهذا يدل أولا على جواز نظر الخاطب للمرأة التي يرغب في الزواج منها، وأهم ما ينبغي النظر إليه الوجه، وما يظهر عادة كاليدين والقدمين؛ لأن الوجه هو مجمع المحاسن للمرأة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. قال جابر بن عبد الله راوي الحديث: فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها (2) » وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «اذهب فانظر إليها، لعله يؤدم بينكما (3) » فصار النظر في حالة الخطبة، كالإدام مع الطعام، الذي يشهي الطعام، وعلله
__________
(1) أضواء البيان للشيخ الشنقيطي 6: 600 - 602.
(2) رواه أبو داود في باب النظر إلى المرأة، من كتاب النكاح 1: 480، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند 3: 360، وفي هذا الحديث أن نساء الصحابة متحجبات بوجوههن ولسن سافرات.
(3) سنن الترمذي النكاح (1087) ، سنن النسائي النكاح (3235) ، سنن ابن ماجه النكاح (1866) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي النكاح (2172) .(65/253)
المصطفي عليه الصلاة والسلام: بما عند الأنصار من أثر النظرة، التي بها ينجذب القلب للإقدام، أو ينصرف فيحصل الإحجام.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فلعل ذلك الوقت، الذي جاءت فيه المرأة لتهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، كان قبل فرض الحجاب مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بالتستر عن الحاضرين، وهذا ما يراه كثير من العلماء، منهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، في دروسه على بلوغ المرام، حيث قال: (كان هذا - والله أعلم- قبل الأمر بالحجاب، ويجب حمله على هذا) (1) .
الثالثة: ما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، الذي جاء فيه بعد أن وعظ عليه الصلاة والسلام النساء، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: (ولم يا رسول الله) ؟ ، فلو لم تكن كاشفة لم توصف بذلك.
ونص الحديث الثابت في الصحيح، الذي استدلوا به على كشف وجه المرأة: «قال جابر: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير آذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، فقال: " تصدقن فأن أكثركن حطب جهنم " فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت: ولم يا رسول الله؟ قال: (لأنكن
__________
(1) شريط رقم 21 من بلوغ المرام: الشرح.(65/254)
تكثرن الشكاة وتكفرن العشير) . قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال، من أقراطهن وخواتمهن (1) » هذا لفظ مسلم في صحيحه.
قالوا: وقول جابر في هذا الحديث: سفعاء الخدين، يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها، ولما علم أنها سفعاء الخدين.
وقد أجاب الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان عن حديث جابر هذا: بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها، وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رضي الله عنه رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس، في تلك الحال كما قال نابغة ذبيان:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة، وأقرها على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك،
- وقد روى القصة المذكورة غير جابر، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها، وقد ذكر مسلم في صحيحه ممن رواها غير جابر، أبا سعيد الخدري، وابن عباس وابن عمر، وذكره غيره عن غيرهم، ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين، وبذلك يعلم أنه لا دليل على السفور في
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (961) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (885) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1575) ، سنن أبو داود الصلاة (1141) ، مسند أحمد بن حنبل (3/318) ، سنن الدارمي الصلاة (1610) .(65/255)
حديث جابر المذكور، ويعضده ما جاء في إحدى الروايات: سفعاء الخدين هذا كلام القاضي (1) .
- وقد يستدلون أيضا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) بالوجه والكفين، فإن هذا محمول على حالة النساء قبل نزول الحجاب، أما بعد ذلك، فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع، كما هو النص الكريم من الآيات الكريمات في الحجاب: في سورة الأحزاب، وسورة النور حسبما مر بنا.
ويدل على أن ابن عباس رضي الله عنهما أراد ذلك، ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيتوهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة.
وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعليقا على قول ابن عباس هذا: (وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق وهو الحق الذي لا ريب فيه، ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة) .
ثم قال: (والآية المذكورة {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (3)
__________
(1) أضواء البيان، 6: 598.
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31(65/256)
حجة ظاهرة، وبرهان قاطع، على تحريم سفور النساء، وتبرجهن بالزينة) (1) .
وفي الختام نقول: إنه في الوقت الذي يرغب، بل يدعو كثير من المسلمين للمرأة المسلمة أن تنزع حجاب الحشمة والوقار، الذي هو أمر من الله جل وعلا بنص صريح في القرآن الكريم، لتتشبه بالمرأة الغربية والشرقية، التي لم تستمد منهجها من تعاليم الإسلام، مثل ما قاد هذه الحملة قاسم أمين وغيره، بكتبهم ومقالاتهم، نرى المرأة الغربية، تتوق لهذا الحجاب، وترى فيه حماية ووقارا للمرأة (2) . ويدعو إليه بعض عقلائهم أيضا، لما رأوا من أثر السفور والتبرج في مجتمعاتهم من نتائج سيئة ومصائب سببها ذلك التبرج والسفور، ومخالطة المرأة للرجل في ميدان العمل، والاختلاط على مقاعد الدراسة، وخاصة في المرحلة الجامعية.
- ومن المناسب في هذا المقام الاستئناس بشيء مما قاله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله في دلالة قول الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) في إجابة لمن سأله عن أهمية الغطاء في
__________
(1) رسالة السفور والحجاب للشيخ عبد العزيز بن باز، الطبعة الرابعة عام 1401 هـ ص 11.
(2) أبنت نماذج من أقوالهم وأقوالهن في كتابي: المرأة بين نور الإسلام وظلام الجاهلية.
(3) سورة النور الآية 60(65/257)
وجه المرأة، وحكم عمل المرأة. إذ قال: (وجه الدلالة من هذه الآية، على وجوب تحجب النساء، وهو ستر الوجه وجميع البدن عن الرجال غير المحارم، أن الله رفع الجناح عن القواعد، اللاتي لا يرجون نكاحا، وهن العجائز، إذا كن غير متبرجات بزينة، فعلم أن الشابات، يجب عليهن الحجاب، وعليهن جناح في تركه، وهكذا العجائز المتبرجات بالزينة، عليهن أن يحتجبن، لأنهن فتنة، ثم إنه سبحانه أخبر في آخر الآية: أن استعفاف النساء القواعد، غير المتبرجات خير لهن وما ذاك إلا لكونه أبعد لهن من الفتنة.
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها- كما في الصحيحن-: ما يدل على أن كشف الوجه للمرأة، كان في أول الإسلام، ثم نسخ بآية الحجاب، وبذلك يعلم أن حجاب المرأة أمر قديم، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قد فرضه الله سبحانه، وليس من عمل الأتراك) (1) . وإنما هو أمر من الله، وتشريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما جاءت الأدلة - وحسن امتثال وتطبيق من نساء الصحابة، في القرن الأول الذي هو خير القرون بعد رسول الله، آخذه من جاء بعدهم علما وعملا في القرون المفضلة وما بعدهم، فيسعنا ما يسعهم.
كما أن ما جاء من شبهة عند المتأخرين، من اعتبار الوجه واليدين يجوز كشفهما للأجانب مطلقا، لم يكن من آراء العلماء المعتبرين كالأئمة الأربعة وغيرهم- رحمهم الله- لأنهم لم يبحثوا هذا، وإنما كان بحثهم
__________
(1) يراجع مجموع فتاوى ومقالات لسماحته ج4: 310، 309، ج3: 356.(65/258)
في هذا الكشف: في الصلاة والحج فقط. يؤيد ذلك ما ظهر للعلماء، قال الإمام الصنعاني رحمه الله في كتاب الأدلة الجلية في تحريم نظر الأجنبية: قال العلامة الموزعي - في شرح الآيات -: والمختار عند المتأخرين: التحريم أي النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها مطلقا- إلا لحاجة كخاطب وعلاج- وهو الصواب، وما سواه خطأ. . ثم قال: والأئمة مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلا على عورة المرأة في الصلاة، فقال الشافعي ومالك: ما عدا الوجه والكفين. . وزاد أبو حنيفة: القدمين وما أظن أحدا يبيح للشابة أن تكشف وجهها لغير حاجة، ولا يبيح للشاب أن ينظر إليها لغير حاجة.
والصنعاني والموزعي: أعرف بمذهب الشافعية، لأنه السائد في اليمن، ومثل هذا ما جاء في منهاج النووي الذي هو عمدة الشافعية في جميع أقطارهم (1) .
ومن يتتبع كلام العلماء بدقة وتمعن، يجدهم في التحقيق مع هذا القول: لأن الوجه واليدين مجمع محاسن المرأة وموضع الفتنة. . وقد اهتم الشيخ أحمد الدويش بتحقيق المسألة في هذا الموضوع في كتابه التحقيق والإيضاح لحكم حجاب المرأة المسلمة الذي طبع بالرياض عام 1422هـ. نسأل الله أن يبصر المسلمين بفهم نصوص الله الذي شرع، وحسن الاتباع لسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يعين الجميع على إحياء السنة، والبعد عن مضلات الفتن، وأن يجمع كلمة
__________
(1) الأدلة الجليلة ص33 - 35.(65/259)
المسلمين على الحق، ويصلح شبابهم ونساءهم، وقيادتهم وأن يرزقهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(65/260)
بحث في حكم توريث المتسبب في موت مورثه
لفضيلة الشيخ: عبد الله بن سليمان المنيع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:
فاستجابة لرغبة مجلس هيئة كبار العلماء مني- أحد أعضائه- في إعداد بحث يتعلق بحكم توريث القاتل ممن قتله إذا كان القاتل أحد ورثته، فقد كان مني السمع والطاعة، والتوجه إلى الله تعالى في إمدادي بالعون والتوفيق والسداد.
ومن المعلوم لدى أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى حكيم في قضائه وقدره، عادل في أحكامه وتشريعاته، يعطي المستحق للعطاء، ويمنع المستحق للمنع، وأن الله تعالى تولى تقسيم المواريث في كتابه العزيز، وما جاء في السنة في ذلك فهو تفصيل إجمال، أو تخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تفسير وبيان.
ولا شك أن من موانع الإرث: قتل الوارث مورثه تعجلا للإرث منه.
والقاعدة الشرعية في ذلك: أن من تعجل شيئا قبل أوانه(65/261)
عوقب بحرمانه.
والقاعدة الآخرى: المعاملة بنقيض القصد.(65/262)
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة أحاديث تنص على حرمان القاتل من إرثه ممن يقتله، ومنها:
1 - حديث عمر رضي الله عنه، فقد أخرج مالك في الموطأ (برقم 2536) عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب «أن رجلا من بني مدلج يقال له: قتادة، حذف ابنه بالسيف، فأصاب ساقه، فنزي في جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنا ذا قال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس لقاتل شيء (1) » .
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القاتل لا يرث (2) » أخرجه الترمذي برقم 2109 (3 \ 612) والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف برقم 12286 (9 \ 333) وابن ماجه برقم 2645 (4 \ 233) والدارقطني (4 \ 96) ، والبيهقي (6 \ 220) كلهم من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به.
قال الترمذي: " هذا حديث لا يصح، ولا يعرف إلا من هذا
__________
(1) سنن ابن ماجه الديات (2646) ، مسند أحمد بن حنبل (1/49) ، موطأ مالك العقول (1620) .
(2) سنن الترمذي الفرائض (2109) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2735) .(65/262)
الوجه، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قد تركه بعض أهل العلم منهم: أحمد بن حنبل ".
وقال البخاري: " إسحاق تركوه ".
3 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف برقم 17787 (9 \ 404) عن معمر عمت رجل (قال البيهقي: قال عبد الرزاق: هو عمرو بن برق) عن عكرمة عن ابن عباس قال: «من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإذ كان والده أو ولده، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ليس لقاتل ميراث» .
4 - حديث علي الجذامي رضي الله عنه، فقد أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم 17802 (9 \ 407) عن محمد بن يحيى عن عبد الرحمن بن حرملة «أنه سمع رجلا من جذام يحدث عن رجل منهم يقال له: عدي، أنه رمى امرأة له بحجر فماتت، فتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فقص عليه أمره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعقلها ولا ترثها» .
5 - حديث شيبة بن أبي كثير الأشجعي رضي الله عنه، فقد أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم 7204 (7 \ 303) قال: حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا جعفر بن محمد الوراق الوسطي حدثنا خالد بن مخلد القطواني حدثنا يحيى بن عمير المدني قال: «حدثني عمر بن شيبة بن أبي كثير عن أبيه قال: كنت أداعب امرأتي فأثري في(65/263)
يدي - هكذا في المطبوع - فماتت وذلك في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فأتيته فأخبرته عن امرأتي التي أصبتها خطأ، فقال: (لا ترثها) » .
قوله: " فأثري في يدي " كذا في المطبوع، وفي المجمع للهيثمي: الجملة غير واضحة (4 \ 233) .
وفي أسد الغابة لابن الأثير (2 \ 536) : (فأنزت في يدي) قال أخوه في النهاية (5 \ 43) : " يقال: نزف دمه، ونزي: إذا جرى ولم ينقطع "، وفي نصب الراية (4 \ 330) : (فأصابت يدي بطنها) .(65/264)
ونظرا إلى أن التعليل الشرعي في منع القاتل من ميراثه في تركة من قتله هو: غلبة الظن في تعجله الاستحقاق الإرثي.
وحيث إن مسألة منع القاتل من الميراث تحتاج في نظرها إلى تحرير محل النزاع فيها، فقد كان مني ذلك.
القاتل لا يخلو حاله من إحدى الحالات الآتية:
1 - أن يكون القتل عمدا عدوانا.
هذه الحال لا أعلم خلافا بين أهل العلم في حرمان القاتل من ميراث من قتله.
2 - أن يكون موت المورث مع الوارث بحادث ليس له سبب في حدوثه مطلقا، كأن يكون الوارث يسوق سيارة فيها مورثه فيقع(65/264)
عليه حادث مروري ليس له سبب في حدوثه مطلقا، ثم ينتج من هذا الحادث وفاة المورث.
فهذا الوارث لا يعد قاتلا لمورثه في هذه الحال، فلا يحرم من إرثه منه.
3 - أن يكون قاتل المورث قتله بحق، كقصاص، أو أن يكون مسئولا عن تنفيذ قصاص أو حد أو تعزير بالقتل.
فهذا القاتل لا يعد قاتلا لمورثه على سبيل الظلم والتعدي، فلا يحرم من إرثه منه.
4 - أن يكون القتل وقع من الوارث على سبيل الخطأ أو شبه العمد.
فهذه المسألة هي موضوع البحث: هل يعد هذا القتل قتلا موجبا للحرمان من الإرث مطلقا دون النظر إلى تحقق غلبة الظن في قصد القتل لتعجل الإرث؟ أم أن الأمر يحتاج إلى اجتهاد ونظر في تحقيق غلبة الظن؟
لا شك أن علة منع القاتل من إرثه فيمن قتله هو: تعجل موت مورثه لاستحقاق إرثه، ومن تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، والمعاملة بنقيض القصد، قاعدة شرعية تفرع عنها الكثير من الأحكام الشرعية في العبادات كحيل التهرب من الزكاة، وفي المواريث، وفي الوصايا والعطايا، وفي المعاملات والجنايات.(65/265)
وحيث إن قصد القتل أمر خفي لا يعلمه إلا الله تعالى ثم القاصد نفسه إلا أنه قد يغلب على الظن إدراكه عن طريق الأحوال والظروف والملابسات، ولهذا فرق أهل العلم في الحكم بين الكنايات الخفية والكنايات الظاهرة في كتاب الطلاق.
ولا يخفى أن كثيرا من وسائل الإثبات كالشهادات ليس قطعية، وإنما هي ظنية الثبوت، ومع ذلك تبنى عليها الأحكام، بل قد تبنى الأحكام على غلبة الظن كالقسامة ونحوها.
ومن هذا المنطلق وجد الخلاف بين أهل العلم في منع القاتل من ميراثه فيمن يقتله.
فمن نظر إلى عموم النصوص الواردة في حرمان القاتل من الميراث أخذ بها من غير نظر إلى غلبة الظن في القصد.
ومن نظر إلى تخصيص عموم النصوص بالعلة، وأن الأحكام الشرعية تدور معها وجودا وعدما، كان له رأي في أن قاتل مورثه قتل خطأ أو شبه عمد إذا غلب على الظن انتفاء قصده في تعجل موت مورثه وتسببه في ذلك، قال بأن هذا التسبب في القتل لا يمنع الإرث.(65/266)
ومن صور تخصيص عموم النصوص بالعلة ما يلي:
1 - جاء النص الصريح في كتاب الله تعالى أن من أهل الزكاة المؤلفة قلوبهم، وقد منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاء من(65/266)
يدعي أنه مؤلف.
جاء في السنن الكبرى للبيهقي في باب سقوط سهم المؤلفة قلوبهم وترك إعطائهم عند ظهور الإسلام والاستغناء عن التألف عليه: " أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان ثنا هارون بن إسحاق الهمداني ثنا المحاربي عن حجاج بن دينار الواسطي عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها، فذكر الحديث في الإقطاع، وإشهاد عمر رضي الله عنه عليه، ومحوه إياه، قال: فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.
2 - جاء الترهيب في جر الإزار خيلاء وأن ما نزل عن الكعب فهو في النار، فذكر أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن إزاره يرتخي، فأخرجه صلى الله عليه وسلم من صنف المسبلين؛ لانتفاء أن يكون ذلك منه غطرسة وكبرا وخيلاء.
فعن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى(65/267)
الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست ممن يضعه خيلاء (1) » أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، وفي كتاب اللباس.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5784) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .(65/268)
3 - جاء النص صريحا وعاما في قطع يد السارق أو السارقة، وفي عام الرمادة سرق غلمان لحاطب بن بلتعة جملا لأعرابي، فدرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد عنهم بحجة أن حاطبا كان يجيعهم، وضاعف قيمة الجمل على حاطب لصاحبه، فهذا تخصيص لعموم النص، لتخلف علة الحكم بالقطع ففي موطأ مالك ما نصه: (حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم، ثم قال عمر: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربع مائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم) .
فعموم هذه النصوص مخصص بتخلف العلة للحكم حيث إن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.
قال الزركشي في البحر المحيط: " المسلك الثامن: الدوران،(65/268)
ويعبر عنه الأقدمون بـ (الجريان) وبـ (الطرد والعكس) ، وهو: أن يوجد الحكم عند وجود وصف ويرتفع عند ارتفاعه في صورة واحدة، كالتحريم مع المسكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما، فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة، ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم، فدل على أن العلة (السكر) " أهـ.
وقال التلمساني في كتابه مفتاح الوصول: " المسلك الرابع: الدوران، وهو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، ويعدم عند عدمه، فيعلم أن ذلك الوصف علة ذلك الحكم.
ومثاله: أن عصير العنب قبل أن يدخله الإسكار ليس بحرام إجماعا، فإذا دخله الإسكار كان حراما إجماعا، فإذا ذهب عنه الإسكار ذهب عنه التحريم، فلما دار التحريم مع الإسكار وجودا وعدما، علمنا أن الإسكار علة التحريم، ومن ذلك: احتجاج أصحابنا على طهارة عين الكلب والخنزير؛ بقياسها على الشاة بجامع الحياة، وبيان أن الحياة علة الطهارة وهو: أن الشاة إذا ماتت وفي بطنها جنين حي حكمنا على جميع أجزائها بالنجاسة، وعلى ذلك الجنين بالطهارة، فلما دارت الطهارة مع الحياة وجودا وعدما، علمنا أن الحياة علة الطهارة " أهـ.
وقال القرافي في تنقيح الفصول: " الخامس: الدوران، وهو عبارة عن: اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع عدمه،(65/269)
وفيه خلاف، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقول بحجيته.
ومثاله: العنب حين كونه عصيرا ليس بمسكر ولا حرام، فقد اقترن العدم بالعدم، وإذا صار مسكرا صار حراما، فقد اقترن الثبوت بالثبوت، فإذا تخلل لم يكن مسكرا ولا حراما، فقد اقترن العدم بالعدم، فهذا هو الدوران في صورة واحدة وهي الخمر.
وقد يقع في صورتين وهو دون الأول، مثاله: أن يدعي وجوب الزكاة في الحلي المتخذ لاستعمال مباح، فنقول الموجب لوجوب الزكاة في النقدين كونهما أحد الحجرين؛ لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين وجودا وعدما، أما وجودا ففي المسكوك هو أحد الحجرين والزكاة واجبة فيه، وأما عدما فالعقار ليس أحد الحجرين ولا تجب الزكاة فيه، وإنما رجحت الصورة الأولى على هذه؛ لأن انتفاء الحكم بعد ثبوته في الصورة المعينة يقتضي أنه لم يبق معه ما يقتضيه في تلك الصورة وإلا لثبت فيها، أما إذا انتفى من صورة أخرى غير صورة الثبوت أمكن أن يقال: إن موجب الحكم غير الوصف المدعى علة، وأما ما ذكرتموه من الوصف لو فرض انتفاءه لثبت الحكم بذلك الوصف الآخر، فما تعين عدم اعتبار غيره، بخلاف الصورة الواحدة " أهـ.
وحيث إن علة منع القاتل من الإرث هي: غلبة الظن أنه قتل مورثه استعجالا لإرثه منه، فإذا تخلف غلبة الظن باستعجاله الإرث(65/270)
وحل محله غلبة الظن بانتفاء ذلك صارت هذه المسألة من تطبيقات دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما، وأمكن أن يكون تخلف العلة مسوغا للقول بميراث المتسبب في وفاة مورثه على سبيل الخطأ أو شبه العمد.
وحيث إن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، ولمزيد من التصور والاطلاع على أقوال أهل العلم أذكر ما يتيسر من ذلك في المسألة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن القتل الذي يتعلق به القصاص يمنع القاتل البالغ العاقل من الميراث إذا كان القتل مباشرا، بل قد وقع إجماع أهل العلم على ذلك إلا ما حكي عن بعضهم بحجة عموم آية الميراث، ولا تعويل على هذا القول الشاذ؛ لقيام الدليل على خلافه، فإن عمر رضي الله عنه أعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه، وكان حذفه بسيفه فقتله، واشتهرت هذه القصة بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم تنكر، فكانت إجماعا. (المغني 9 \ 150) .
وقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ليس للقاتل شيء (1) » . (أخرجه الإمام مالك في باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، من كتاب العقول، الموطأ 2 \ 867، والإمام أحمد في المسند 1 \ 49) .
وروى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4564) .(65/271)
صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس لقاتل ميراث» . (أخرجه البيهقي في: باب لا يرث القاتل، من كتاب الفرائض، السنن الكبرى 6 \ 220، وانظر: إرواء الغليل 6 \ 118- 119) .
ويضاف إلى ذلك من تعليل الحكم: أن توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل؛ لأن الوارث ربما استعجل موت مورثه، ليأخذ ماله. (انظر: المغني 9 \ 150- 151) .
واختلفوا فيما إذا كان القاتل صبيا أو مجنونا أو غير مباشر للقتل أو كان القتل خطأ. وهاك بيان آراء المذاهب الأربعة في هذا الموضوع:
أ - قال الحنفية: إن القتل شبه العمد أو الخطأ يمنع من الميراث.
والقتل شبه العمد: كأن يتعمد القاتل ضرب المقتول بما لا يقتل به غالبا، وموجبه: الدية على العاقلة والإثم والكفارة.
والخطأ كأن رمى صيدا فأصاب إنسانا، أو انقلب عليه في النوم فقتله، أو وطئته دابة وهو راكبها، أو سقط من سطح عليه وموجبه: الكفارة والدية على العاقلة ولا إثم فيه.
وهذه الصور كلها تتحقق فيها علة المباشرة، ولذا يحرم القاتل من الميراث عند الحنفية إذا لم يكن القتل بحق.(65/272)
أما إذا كان القتل بسبب - وهو ما يكون بفعل غير مباشر - كحفر البئر أو وضع الحجر في غير ملكه، أو كان القاتل صبيا أو مجنونا فلا حرمان عندهم من الميراث في الحالات الثلاث المذكورة. (انظر: السراجية ص 18) .
واستدل الحنفية على ما ذهبوا إليه من عدم الحرمان بالقتل بالتسبب ومن عدم حرمان الصبي والمجنون بأن القاتل بالتسبب ليس بقاتل حقيقة؛ لأنه لو حفر بئرا في ملكه ووقع فيها مورثه فمات فلا يؤخذ على ذلك بشيء. والقاتل يؤخذ بفعله سواء أكان في ملكه أم في غير ملكه كالرامي، وأيضا فإن القتل لا يتم إلا بمقتول وقد انعدم حال التسبب. فإن حفره مثلا قد اتصل بالأرض دون الحي، ولا يمكن أن يجعل قاتلا حال الوقوع في البئر، إذ ربما كان الحافر حينئذ ميتا. وإذا لم يكن قاتلا حقيقة لم يتعلق به جزاء القتل وهو الحرمان من الميراث والكفارة.
والصبي والمجنون لا يحرمان من الميراث بالقتل؛ لأن الحرمان جزاء للقتل المحظور، وفعلهما مما لا يصلح أن يوصف بالحظر شرعا، إذ لا يتصور توجه خطاب الشارع إليهما. وأيضا فإن الحرمان باعتبار التقصير بالتحرز، ولا يتصور نسبة التقصير إليهما. (الموسوعة 3 \ 24، نقلا عن السراجية ص 19 وما بعدها، والبحر الرائق لابن نجيم 8 \ 488- 500) .(65/273)
ب- وذهب الحنابلة والمالكية في الأرجح إلى أن القاتل عمدا مباشرا أو متسببا يمنع من الميراث من المال والدية ولو كان صبيا أو مجنونا وإن أتى بشبهة تدفع القصاص كرمي الوالد ولده بحجر فمات. (الموسوعة 3 \ 23) .
وذكر الحنابلة أن القتل المضمون بقصاص أو دية أو كفارة لا إرث فيه، سواء كان عمدا أو شبه عمد أو خطأ، وسواء كان مباشرة أو تسببا، وسواء كان من صغير أو مجنون. أما إن كان غير مضمون: كمن قصد موليه مما له فعله من سقي دواء أو ربط جراحة فمات فيرثه؛ لأنه ترتب عن فعل مأذون فيه، وهذا ما ذهب إليه الموفق ابن قدامة. وقال البهوتي: ولعله أصوب لموافقته للقواعد. (انظر: كشاف القناع 4 \ 492- 493، والموسوعة 32 \ 329- 330، والتشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 2 \ 187) .
ج- وعند المالكية رأي آخر هو أن عمد الصبي والمجنون كالخطأ، فيرث من المال دون الدية، وهذا هو الظاهر عندهم. (حاشية الدسوقي 4 \ 486) .
ولا خلاف عند الحنفية والمالكية والحنابلة فيما لو قتل مورثه قصاصا أو حدا أو دفعا عن نفسه أنه لا يحرم من الميراث.
د- وذهب الشافعية إلى أن كل من له مدخل في القتل يمنع من الميراث،(65/274)
ولو كان القتل بحق كمقتص وإمام وقاض، وجلاد بأمر الإمام والقاضي وشاهد ومزك. ويحرم القاتل ولو قتل بغير قصد كنائم ومجنون وطفل ولو قصد به مصلحة كضرب الأب ابنه للتأدب وفتحه الجرح للمعالجة، وقالوا: لو قال المقتول: ورثوه فهو وصية.
ولو سقط متوارثان من علو إلى سفل وأحدهما فوق الآخر فمات الأسفل: لم يرثه الأعلى؛ لأنه قاتل. وإن مات الأعلى ورثه الأسفل، لأنه غير قاتل له. (التحفة الخيرية ص56، والموسوعة 3 \ 23 - 24) .
وقد استند الشافعية في تقرير هذا الرأي إلى أن الحديث المروي: «ليس للقاتل من الميراث شيء (1) » يشمل كل من له مدخل في القتل. والعلة في ذلك خوف استعجال الوارث للإرث بقتل مورثه في بعض الصور، وهو ما إذا قتله عمدا فاقتضت المصلحة حرمانه من الإرث، عملا بقاعدة " من استعجل بشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ". والاستعجال إنما هو بحسب ظنه، وبالنظر للظاهر وسد باب القتل في باقي الصور، وهو ما إذا كان القتل بغير قصد كما في النائم والمجنون والطفل. (التحفة الخيرية ص 56، والمهذب للشيرازي 2 \ 26، والتشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 2 \ 187) .
يستفاد مما سبق أن أكثر الفقهاء يتجهون إلى أن القتل بالخطأ أيضا سبب من أسباب الحرمان من الميراث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «القاتل لا يرث (2) » . (أخرجه البيهقي 6 \ 220 من حديث
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4564) .
(2) سنن الترمذي الفرائض (2109) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2735) .(65/275)
أبي هريرة وأعله بضعف أحد رواته. ثم قال: شواهده تقويه) .
ولأن القتل قطع الموالاة وهي سبب الإرث. (تكملة فتح القدير 9 \ 148، ومغني المحتاج 3 \ 25، والموسوعة 32 \ 329) .
إذا تأملنا وجهات نظر الفقهاء في هذه المسألة تبين لنا أن الفقه الشافعي قد ترجح لديه سد جميع المنافذ التي يمكن أن يخطر منها التسلل إلى القتل ولو بأدنى حيلة في القتل الخطأ، ومما لا شك فيه أن هذا الاتجاه نابع من شدة الورع والاحتياط، ولكنه محل نظر بحيث إنه يفضي في بعض الأحيان إلى حرمان الوارث من الميراث بدون شبهة أو تهمة قوية يقام لها وزن في ميزان القضاء، كما اتضح ذلك من الأمثلة التي سبق إيرادها.
ويبدو لدى إمعان النظر في الآراء المنقولة حول حكم الإرث في القتل الخطأ، أن قول الإمام مالك وهو: أن القاتل في هذه الصورة لا يحرم من الميراث أكثر انسجاما مع العدل، وذلك لانتفاء علة الحكم ولكنه لا يستحق حصته من الدية التي يأخذها ورثة المقتول من عاقلة ذلك القاتل.
جاء في شرح الزرقاني ما نصه كالآتي:
" وإن قتل صاحبه خطأ ورث من ماله ولا يرث من ديته. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف، لكنه اعتضد باتفاق أهل المدينة عليه. وقد اختلف في أن يرث من ماله، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه(65/276)
وليأخذ ماله الذي هو علة منع إرثه في قتله عمدا، فإذا انتفت العلة بكون القتل خطأ، ورث من المال، أو لا يرث عملا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل شيء (1) » (فأحب) القولين (إلي - أي عند مالك - أن يرث من ماله ولا يرث من ديته، لأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما. " شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4 \ 243 - 244، ط: بيروت، دار الكتب العلمية) .
فالمالكية يرون جواز توريث القاتل خطأ من المال دون الدية وروي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعمرو بن شعيب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، والزهري، ومكحول، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وأبي ثور، وابن المنذر، وداود. وروي نحوه عن علي رضي الله عنه، لأن ميراثه ثابت بالكتاب والسنة، تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه (المغني 9 \ 151 - 152) .
وهذا مع ملاحظة أن المالكية من أشد الناس في حسم ذرائع الفساد كما أنه من المعلوم أن المحاكم لا تدخر وسعا في دراسة كافة الجوانب المتعلقة بقضايا القتل وإجراء التحقيق في ملابساتها فإذا ثبت لديها بأن القتل لا يتجاوز القتل بالخطأ حينئذ ينبغي أن تختار رأي الإمام مالك فيما يخص بالميراث؛ لأنه من الواضح جدا أن العلة المانعة هي تحقق القصد إلى القتل بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما لا يرد في حالة الخطأ والظاهر أن حوادث السيارات في الغالب
__________
(1) سنن ابن ماجه الديات (2646) ، مسند أحمد بن حنبل (1/49) ، موطأ مالك العقول (1620) .(65/277)
تعد من هذا النوع، إلا إذا دلت قرائن تثبت خلاف ذلك.
ويرجح القول برأي المالكية أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما كما ورد ذلك في كلام الزرقاني، وإذا أجلنا النظر في الفقه الإسلامي وجدنا كثيرا من الأحكام معللة بهذه القاعدة الأصولية الفقهية الكبرى ومن نظائرها القول بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم - وهم المشركون المتألفون على الإسلام - في الظروف التي قويت فيها شوكة الإسلام، بالنظر إلى زوال العلة، مع عدم انقطاع هذا السهم بصورة مؤبدة، إذ لم يثبت نسخه شرعا، فيمكن أن يعطى منه عند تحقق العلة، كما هو رأي بعض الفقهاء. (انظر: المغني 9 \ 316 - 317، باب قسمة الفيء والغنيمة والصدقة) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب: كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. . ولكن عمر استغنى في زمنه من إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه ". (مجموع الفتاوى 33 \ 94) .
وعلى هذا المنوال إذا تدبرنا الحديث الوارد في خصوص المنع من ميراث القاتل تبين لنا أن الحكم فيه منوط بسبب وهو القصد إلى القتل على أي وجه كان، فإذا ثبت ذلك قضائيا طبق الحكم، أما إذا انتفى السبب المذكور كما في حالة الخطأ فلم يحكم بالحرمان من(65/278)
الميراث، وفق رأي المالكية، على النحو الذي سبق إيراده؛ لأنه أقرب ما يكون إلى قاعدة العدل في التشريع الإسلامي. والله أعلم.
وقد أعد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله بحثا في حكم توريث المتسبب في موت مورثه، انتهى فيه إلى أنه يرى: أن من تسبب في وفاة مورثه على سبيل الخطأ كما يقع ذلك في حوادث السيارات، أن الراجح في ذلك أن تسببه لا يمنعه من الميراث.
وقد أجاب رحمه الله عن قول من قال: كيف يرجح هذا القول مع حديث: «القاتل لا يرث شيئا (1) » وهو عام؟ .
فأجاب عن ذلك بثلاثة أوجه:
الأول: أن في ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا يطمئن إليه القلب في تخصيص عموم آيات المواريث المؤكد التزامها بما سبق، ويكون للعبد حجة عند الله تعالى في منع ما جعله الله تعالى له ودفع الظلم عنه.
الثاني: إذا تقرر ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على ما إذا كان القاتل متهما بقصد قتل مورثه ليرثه، فيكون من باب العام المراد به الخصوص بناء على ما تقتضيه قواعد الشريعة، وهذا له نظائر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في مكة: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما (2) » أي: دما معصوما.
__________
(1) سنن الترمذي الفرائض (2109) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2735) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4295) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي كتاب الحج (809) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) .(65/279)
الثالث: أن حديث منع القاتل من الإرث ليس على عمومه عند أكثر المحتجين به، حيث أخرجوا من عمومه ما إذا كان الوارث قتل مورثه بحق القصاص، ودفع الصائل، ورجم الزاني المحصن، ونحو ذلك.
ويظهر لك جليا أن القاتل خطأ لا يمنع الميراث فيما لو كان هنا ابن بار بأبيه مطيع له خادم له ليلا وفارا فسافر به إلى الحج وكان الابن قائد السيارة فتصادم مع سيارة وكان على الابن خمسون بالمائة، فهلك أبوه بذلك، وكان له ابن عم بعيد فيحرم الابن من ميراث أبيه وهو أعظم الناس مصيبة به، ويعطى ابن العم الذي ما كان يعرفه ولا يهتم بحياته أو موته.
وكذلك لو كان ابنان أحدهما بار بأبيهما والثاني عاق له فحمل الابن البار أباهما إلى العمرة فحصل الحادث على يده وهلك الأب فيحرم الابن البار من الميراث ويعطى العاق مع أن الأول بفقد أبيهما أعظم مصيبة من العاق.
فمثل هاتين الصورتين لا تطيب النفس بحرمان هذا القاتل من الميراث وهو أبعد الناس عن التهمة بقتل أبيه ليرث منه، والشريعة العادلة المبنية على الحكمة يبعد جدا أن تأتي بذلك.(65/280)
وأما حكم القتل بالسبب فله أحوال:
الأولى: أن يقوم بسبب يفضي إلى قتل مورثه عامدا قتله ليرثه، فهذا يمنع من الميراث مثل أن يحفر في طريق مورثه الذي(65/280)
يسلكه حفرة تقضي بهلاك من سقط بها، فلا يرثه في هذا الحال لكن عليه الضمان والكفارة.
الثانية: أن يقوم بسبب يفضي إلى قتل مورثه عامدا قتله لا ليرثه ولكن حمية وغضبا، فهذا محل نظر واجتهاد كما سبق في القتل بالمباشرة.
الثالثة: أن يكون القتل بسبب آخر غير ما ذكر في الحالتين السابقتين فلا يمنع الميراث سواء كان السبب مباحا مثل أن يحفر بئرا في ملكه من غير طريق المارة يمر به المورث فيسقط فيموت فلا يمنع الحافر من الميراث ولا ضمان عليه ولا كفارة، أم كان السبب محرما مثل أن يحفر لنفسه بئرا في طريق عام فيمر بها المورث فيسقط فيموت فلا يمنع الحافر من الميراث لكن عليه الضمان والكفارة لتعديه بحفرها في موضع غير مأذون فيه.
وهل تكون الدية على الحافر أو على عاقلته؟ صرح الحنفية رحمهم الله تعالى أنها تكون على العاقلة، كما صرحوا أن القتل بالسبب لا يمنع الميراث. (أنظر: ص 618 \ 2 من مجمع الأنهرفي فقه الحنفية) .
واعلم أنه إذا حصل الشك في المانع لأي سبب من الأسباب فإنه يجب اطراحه وعدم الالتفات إليه؛ لأنه لا يعارض اليقين وهو ثبوت سبب الإرث بالشك وهو المنع المشكوك فيه، ودليل ذلك أن(65/281)
النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يشك في انتقاض طهارته: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » وقال في الرجل يشك في عدد ركعات الصلاة: «فليطرح الشك وليبن على ما استيقن (2) » . ومن قواعد الفقهاء: أن اليقين لا يزول بالشك.
وعلى هذا فلا يحل منع من قام به سبب الإرث من ميراثه إلا بمانع متيقن، فإن قيل: الأصل منع القاتل من الميراث؛ لعموم الحديث. فالجواب من ثلاثة وجوه:
الأول: أن في ثبوت الحديث ما فيه، كما سبق.
الثاني: أنه محمول - على تقدير ثبوته - على قتل يكون فيه اتهام القاتل باستعجال ميراثه كما تقتضيه الحكمة الشرعية والقواعد العامة فيكون من باب العام المراد به الخاص.
الثالث: أن أكثر المحتجين به لا يقولون بعمومه كما سبق، ومن المقرر أن العام إذا خصص ضعفت دلالته على شمول جميع أفراده بل قال بعض الأصوليين: تبطل دلالته على الشمول؛ لأن تخصيصه بصورة ما يدل على عدم إرادة الشمول، والراجح أنه يبقى على عمومه فيما عدا صورة التخصيص.
هذا ما تيسر ذكره، والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (137) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن النسائي الطهارة (160) ، سنن أبو داود الطهارة (176) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (513) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (571) ، سنن النسائي السهو (1238) ، سنن أبو داود الصلاة (1024) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1210) ، مسند أحمد بن حنبل (3/83) ، موطأ مالك النداء للصلاة (214) ، سنن الدارمي الصلاة (1495) .(65/282)
الدعاء بعد المكتوبة على
ضوء السنة المطهرة
للدكتور: عبد الله بن سعاف اللحياني
مقدمة:
لله الحمد في السماوات حمدا يليق بجلال الله وعظمته، وجبروته وسلطانه، ولله الحمد في الأرض. . حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده.
ولله الحمد يملأ ما بين السماوات والأرض، وما شاء الله من شيء بعد.
نحمدك اللهم حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأنت أهل الحمد لا إله إلا أنت.
نحمدك حمد الشاكرين، ونستغفرك استغفار المسرفين، ونلجأ إليك لجوء المضطرين، مددنا أيدينا برحمتك إلى رحمتك، وبفضلك تطلعت القلوب إلى فضلك، وسعت رحمتك كل شيء، أنت رحمن الدنيا والآخرة، فهب لنا رحمة من عندك تهدي قلوبنا، وتصلح شأننا، وتحسن لنا بها العاقبة.
اللهم نشكو إليك ضعف الحال، وقلة الحيلة، وكثرة الذنوب وضعف الوسيلة. ولا رجاء لنا إلا في رحمتك، ولا طمع إلا في عفوك. نسألك أن تصلي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، صلاة دائمة باقية، ترضيك وترضيه، ونسألك أن تجزيه عنا خير الجزاء، وأن(65/283)
تسعدنا بشفاعته يوم الفزع الأكبر بمنك وجودك.
نشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك. وأن الجنة حق، والنار حق، وأنك تبعث من في القبور.
أما بعد:
فهذا بحث في الدعاء بعد الصلاة المكتوبة، كتبته لبيان مشروعيته وأنه سنة من السنن، وليس بدعة من البدع، وأن المتصف به متبع ليس بمبتدع، ومأجور غير موزور إن شاء الله.
ونعني بالدعاء بعد المكتوبة: دعاء الإنسان بعد الصلاة إماما، أو مأموما، أو منفردا وحده دون المشاركة لغيره في ذلك.
وقد اشتملت هذه الدراسة على مدخل لبيان أهمية الموضوع، وسبب الكتابة فيه، وقسمته مباحث:
المبحث الأول: اعتناء علماء الحديث بموضوع الدعاء.
المبحث الثاني: تعريف الدعاء في اللغة، والشرع.
المبحث الثالث: العلاقة بين الذكر والدعاء.
المبحث الرابع: في بيان شأن الدعاء وفضله، وأنه ليس له وقت محدد
المبحث الخامس: في ذكر من تجاب دعوتهم، وأرجى أوقات الإجابة.
المبحث السادس: في بيان المراد بالدعاء في أدبار الصلوات.
المبحث السابع: في ذكر حجة من منع من الدعاء بعد المكتوبة والجواب عن ذلك.(65/284)
المبحث الثامن: في بيان الأدلة المثبتة للدعاء بعد المكتوبة.
المبحث التاسع: في ذكر ما ورد عن الصحابة من الدعاء بعد المكتوبة.
وبعد ذلك الخاتمة.
وأسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجنبنا الزلل، ويصرف عنا الزيغ، ويلهمنا السداد، وأن يتقبل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،(65/285)
مدخل في أهمية الموضوع، وسبب الكتابة فيه
موضوع الدعاء من الموضوعات التي عني بها المحدثون وغيرهم، وسنذكر إن شاء الله طرفا من جهود المحدثين في هذا السبيل، في المبحث الأول بحول الله وقوته.
وموضوع البحث، يتعلق بجزئية من جزئيات هذا الموضوع الكبير الواسع المتشعب، وهي:
الدعاء بعد الصلاة المكتوبة ومدى مشروعية ذلك:
وكنا نقرأ الأحاديث الواردة في فضل الدعاء دبر الصلاة، ونسمعها من أهل التذكرة، فنفهم منها أن الدعاء بعد الصلاة سنة، وأنه من فضائل الأعمال، وأشرف الطاعات التي يثاب عليها العبد، ويؤجر عليها الداعي.
وكان أن رأيت كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى يذهب فيه إلى أن الدعاء قبل السلام لا بعده، وأن دبر الصلاة معناه(65/285)
آخرها قبل السلام لا بعده؛ لأن دبر كل شيء منه، كدبر الحيوان، وبناء على ذلك فإن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت كلاما للإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد يذهب فيه مذهب شيخه، أو يقاربه، ويقول فيه: إن الدعاء بعد السلام ليس فيه حديث صحيح ولا حسن، وأن عامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما هي داخل الصلاة لا خارجها.
ولما كان الدعاء بعد الصلاة مما يفعله المصلون في كل مكان وزمان، ولا يرى الناس إلا أنه سنة نبوية، وشريعة مرضية، رأيت أن أبحث هذه المسألة بحثا يكشف عن حقيقتها، ويذهب بما تعلق بها من ظنون.
ومما ضاعف الاهتمام بهذا الموضوع، ما سمعته من بعض الفتاوى لبعض أجلاء أهل العلم، يذهب فيه مذهب ابن تيمية وابن القيم يرحمهما الله تعالى.
وهذه الدراسة هي - فيما أحسب - أول دراسة تتفرغ لهذا الموضوع، وتتخصص فيه، وتقصر عنايتها عليه، وأرجو أن تكون وافية بالغرض، قائمة بالمقصود، محققة للمرجو منها، والله المسئول أن يهدينا للحق ويعيننا عليه. ويصرف عنا الخطأ والضلال، ونسأله أن ينفع بهذا البحث، ويثيب عليه بما هو أهله.(65/286)
المبحث الأول اعتناء علماء الحديث بموضوع الدعاء:
عني المحدثون أيما عناية بجمع ما ورد في الدعاء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجلوا ذلك بعناية فائقة في دواوينهم، وأفردوا لذلك أبوابا خاصة في مصنفاتهم التي بنوا ترتيبها على الأبواب، فها هو الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ت 256 هـ، إمام الصنعة، وسيد المحدثين، يضمن جامعه الصحيح كتاب الدعوات، ويذكر فيه من الأحاديث المرفوعة خمسة وأربعين حديثا ومائة، كما أحصى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح.
ومثله الإمام مسلم بن الحجاج ت 261 هـ في صحيحه، نراه يفرد كتابا في جامعه الصحيح للذكر والدعاء، ويذكر فيه قريبا من مائة حديث.
ونجد الإمام النسائي ت 303 هـ يذكر في سننه كتاب الاستعاذة، وهو في الدعاء، ويذكر في سننه الكبرى كتاب الاستعاذة أيضا وهو مشتمل على سبعة وثلاثين ومائة حديث.
وفي جامع الترمذي ت 297 هـ كتاب الدعوات الذي سجل فيه مؤلفه من الحديث أربعة وثلاثين ومائة، وفي سنن ابن ماجه ت 275 هـ، نجد كتاب الدعاء الذي يحوي من الحديث خمسة وستين(65/287)
حديثا.
أما الإمام أبو داود السجستاني ت 275 هـ فلم يفرد في سننه كتابا للدعاء (1) ، إلا أنه ذكر أحاديث كثيرة في الدعاء في أبواب متفرقة، ينظر لها على سبيل المثال: كتاب الصلاة، وكتاب الأدب، وغيرهما.
بينما نجد الإمام الحاكم النيسابوري ت 405 هـ يذكر في مستدركه كتاب الدعاء، ويستغرق ستين صحيفة.
ويستغرق كتاب الدعاء في مصنف ابن أبي شيبة ت 235 هـ مائتين وسبعين صحيفة تحوي بين طياتها تسعين حديثا وسبعمائة حديث.
ومن المحدثين من ألف كتبا خاصة في الدعاء، وذلك يدل على تلك العناية الخاصة التي أولاها المحدثون موضوع الدعاء، ومن هؤلاء المحدثين:
1 - محمد بن الفضيل بن غزوان الضبي، أبو عبد الرحمن الكوفي ت 195 هـ، ذكر له ابن النديم (2) والذهبي (3) كتاب الدعاء. منه نسخة في الظاهرية مجموع (34) (47-67) .
__________
(1) ذلك أنه ألف كتابا خاصا في الدعاء، كما سيأتي قريبا.
(2) الفهرست (316) .
(3) تذكرة الحفاظ 1 \ 315.(65/288)
2 - الإمام أبو داود صاحب السنن سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 هـ، له كتاب الدعاء، ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب 1 \ 6.
3 - أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي، المعروف بابن أبي الدنيا، ت 281 هـ، له كتاب الدعاء، ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 13 \ 402.
4 - أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك، المعروف بابن أبي عاصم ت 287 هـ، له كتاب الدعاء (1) .
5 - الحسن بن شبيب المعمري ت 295 هـ، له كتاب عمل اليوم والليلة، استفاد منه الطبراني في كتاب الدعاء له.
6 - يوسف بن يعقوب القاضي ت 297 هـ له كتاب الذكر، واقتبس منه ابن حجر في فتح الباري 11 \ 123، واستفاد منه الطبراني.
7 - أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي ت 301 هـ، له كتاب الذكر، نقل منه ابن حجر في نتائج الأفكار، وروى عنه الطبراني في كتاب الدعاء.
8 - الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 303 هـ له كتاب عمل اليوم والليلة، وهو مطبوع بتحقيق الدكتور فاروق حماده.
__________
(1) تهذيب التهذيب 8 \ 247.(65/289)
9 - أبو عبد الله محمد بن فطيس الأندلسي ت 319 هـ، له كتاب الدعاء (1) .
10 - أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبي ت 330 هـ، له كتاب الدعاء، نقل منه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار، يوجد منه قطعة في المكتبة الظاهرية رقم (438) .
11 - أبو الحسين ابن المنادي أحمد بن جعفر بن محمد ت 336 هـ، له كتاب أنواع الاستعاذات من سائر الآفات (2) .
12 - أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار النحوي ت 341 هـ، له جزء في الدعاء (3) .
هذه نماذج مما كتب المحدثون في الدعاء، وقد أحصاها زميلنا وأخونا فضيلة الدكتور سعيد بن حسن البخاري في دراسته القيمة لكتاب الدعاء للطبراني (4) .، ت 360 هـ، فجزاه الله خيرا.
ويمكن أن يضاف إلى هذه القائمة ما يأتي:
1 - كتاب الدعاء، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ت 360 هـ.
وقد حقق هذا الكتاب زميلنا الأخ الدكتور \ محمد سعيد بن
__________
(1) تذكرة الحفاظ 3 \ 802.
(2) الفهرست، لابن النديم ص 64.
(3) فهرست ابن خير الإشبيلي ص 163.
(4) انظر: مقدمة كتاب الدعاء للطبراني 1 \ 55 - 57.(65/290)
محمد حسن البخاري، ونال به درجة الدكتوراة في الحديث وعلومه، وأجيز بدرجة ممتاز، وطبعته دار البشائر الإسلامية، وهو من أهم كتب الدعاء وأكثرها، بلغت أحاديثه المرفوعة (2026) رواية، والموقوفة (103) رواية، والمقطوعة (125) رواية.
ومع ذلك فإنه يستوعب الروايات المتعلقة بالدعاء (1) .
2 - عمل اليوم والليلة لابن السني، أحمد بن محمد الدينوري ت 364 هـ، وهو مطبوع.
3 - الأدعية لأبي بكر بن مردويه ت 410 هـ.
4 - عمل اليوم والليلة، لأبي نعيم الأصبهاني ت 430 هـ.
5 - الدعاء، لأبي العباس جعفر المستغفري ت 432 هـ.
6 - الدعاء، لأبي ذر الهروي ت 434 هـ.
7 - الدعوات، لأبي بكر البيهقي ت 458 هـ.
8 - الدعوات المروية، لأبي سعد السمعاني ت 565 هـ.
9 - دعوات الأيام والليالي، لأبي العباس أحمد البوني ت 622 هـ.
10 - عمل اليوم والليلة، للحافظ عبد العظيم المنذري ت 656 هـ.
11 - عمل اليوم والليلة، لابن حجر العسقلاني ت 852 هـ.
12 - عمل اليوم والليلة، للسيوطي ت 911 هـ.
__________
(1) انظر مقدمة المحقق 1 \ 114، 121.(65/291)
13 - سهام الإصابة في الدعوات المستجابة، للسيوطي (1) .
__________
(1) انظر لهذه الكتب ولطائفة أخرى مقدمة: حلية الأبرار وشعار الأخيار (الأذكار النووية) ص 11.(65/292)
المبحث الثاني: معنى الدعاء في اللغة والشرع:
قالي الخطابي: أصل هذه الكلمة مصدر من قولك دعوت الشيء أدعوه دعاء، أقاموا المصدر مقام الاسم. تقول: سمعت دعاء كما تقول: سمعت صوتا، وكما تقول: اللهم اسمع دعائي، وقد يوضع المصدر موضع الاسم، كقولهم: رجل عدل، وهذا درهم ضرب الأمير، وهذا ثوب نسج اليمن (1) .
قال الزمخشري: " دعوت فلانا وبفلان: ناديته وصحت به، وما بالدار داع ولا مجيب، والنادبة تدعو الميت: تندبه، تقول: وازيداه. ودعاه إلى الوليمة، ودعاه إلى القتال، ودعا الله له وعليه، ودعا الله بالعافية والمغفرة والنبي داعي الله (2) .
__________
(1) شأن الدعاء ص3.
(2) أساس البلاغة مادة دعو، ص189.(65/292)
وفي قاموس (1) . الفيروزآبادي. " الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى، دعاه دعا ودعوى ".
ثم قال: دعيت لغة في دعوت (2) .
وفي لسان العرب (3) ، لابن منظور:
" الدعاء: الرغبة إلى الله عز وجل، دعاه دعاء ودعوى، حكاه سيبويه، في المصادر التي آخرها ألف التأنيث، وأنشد لبشير بن النكت:
__________
(1) مادة د ع و.
(2) القاموس مادة: دع و.
(3) مادة د ع و.(65/293)
ولت ودعواها شديد صخبه ... ذكر على معنى الدعاء
وفي اللسان أيضا: والدعاء: واحد الأدعية، وأصله دعاو؛ لأنه من دعوت، إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت.
وتقول للمرأة: أنت تدعين، وفيه: لغة ثانية: أنت تدعوين، وفيه لغة ثالثة: أنت تدعين بإشمام العين الضمة، والجماعة: أنتن تدعون مثل الرجال سواء.
قال ابن بري: قوله في اللغة الثانية: أنت تدعوين لغة غير معروفة (1) .
وفي باب الدال والعين وما يثلثهما يقول الفيومي: ودعوت الله أدعوه دعاء: ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيدا: ناديته وطلبت إقباله، ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة، فهو داعي الله، والجمع دعاة وداعون، مثل قاضي وقضاة وقاضون
__________
(1) مادة د ع و.(65/294)
والنبي داعي الخلق إلى التوحيد (1) .
ومما سبق يتبين لنا دلالة لفظ الدعاء في العربية وأنه:
سؤال العبد ربه.
- النداء.
- طلب الإقبال.
وقد لاحظ الشيخ محمد رشيد رضا (2) .، أن الدعاء في أصل اللغة النداء والطلب، وهما قسمان: عادي وعبادي.
وجعل العادي ما كان موجها من الداعي إلى مثله من الطلب، وكان المدعو قادرا على تلبية طلبه بمقتضى الأسباب العادية.
أما العبادي فهو ما توجه به الداعي إلى من يعتقد أن له سلطانا وقدرة فوق الأسباب المألوفة.
معنى الدعاء في الشرع:
المراد بالدعاء في اصطلاح الشرع: سؤال العبد ربه حاجته.
وهذا التعريف هو محصلة ما وقفت عليه من تعاريف العلماء للدعاء.
قال الخطابي: ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية، واستمداده إياه المعونة (3) .
__________
(1) المصباح المنبر في غريب الشرح الكبير ص 183.
(2) في تعليقه على صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، ص343.
(3) شأن الدعاء، ص 3.(65/295)
قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: حقيقة الدعاء: مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة، أو دفع مضرة من المضار والبلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى، كما أن الترس لرد السهم والماء لخروج النبات من الأرض (1) .
قال الفخر الرازي في تفسيره: حقيقة الدعاء: " استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده المعونة (2) " وهو تعريف الخطابي بحروفه.
وحده الشيخ علي القاري الهروي بقوله: " هو طلب الأدنى بالقول من الأعلى على جهة الاستكانة " (3) .
__________
(1) انظر: مقدمة الترغيب في الدعاء والحث عليه. ص 54، لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي.
(2) مفاتيح الغيب 5 \ 106.
(3) مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح 5 \ 33.(65/296)
وهذا التعريف ليس بالجامع ولا بالمانع، فقوله: الأدنى، جنس يصدق على العاقل وغير العاقل، وكذلك الأعلى.
والدعاء في الشرع لا يراد به إلا سؤال العبد ربه.
ولعل مراد الشيخ القاري بالأدنى العبد، وبالأعلى الله سبحانه وتعالى، ذكره بصفته كما قال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وحقيقة الدعاء: إظهار العبد الافتقار إلى ربه والتذلل إلى مولاه سبحانه وتعالى، والتبرؤ من الحول والقوة، فإن ذلك سمة العبودية الحقة واستشعار الخوف والوجل والذلة من الله سبحانه، وفيه أيضا معنى الثناء على الله سبحانه بكل المحامد، ونسبة الجود والكرم المطلق إليه سبحانه، فإنه واسع كريم جواد (2) .
__________
(1) سورة الأعلى الآية 1
(2) انظر: شأن الدعاء للخطابي ص 3.(65/297)
المبحث الثالث في العلاقة بين الذكر والدعاء:
درج بعض المحدثين الذين أفردوا أبوابا للدعاء في مصنفاتهم على قرن الذكر بالدعاء في تسمية هذه الأبواب، فيسمونها باسم الذكر والدعاء، فهل هذا العطف للتغاير، أو هو من باب عطف المترادف على حد قول القائل:
فقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا(65/297)
والقائل: عدي بن زيد (1) .
ومثله:
وفينا للقرى نار يرى عن ... دها للضيف رحب وسعة
والبيت للأفوه الأودي (2) .
وكقول لبيد:
فأصبح طاويا حرصا خمصيا (3)
أو هو من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (4) وقوله سبحانه وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (5) .
وللإجابة على هذا التساؤل، يجدر بنا أن نستعرض دلالة الذكر في بيان العربية، لنرى إن كان مرادفا للفظ الدعاء أو مغايرا له، أو أن بين اللفظين قدرا من الاشتراك في المعنى.
وإذا ما رجعنا إلى مصادر اللغة نجد الصاحب، إسماعيل بن
__________
(1) لسان العرب مادة م ي ن 12 \ 426.
(2) لسان العرب مادة م ي ن 12 \ 426.
(3) لسان العرب مادة م ي ن 12 \ 426.
(4) سورة البقرة الآية 98
(5) سورة البقرة الآية 238(65/298)
عباد في مادة ذكر من محيطه يقول: " الذكر: الحفظ الذي تذكره، وهو مني على ذكر وذكر. وهو أيضا: جرى الشيء على لسانك. وكذلك الشرف والصيت من قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (1) .
والكتاب الذي فيه تفصيل الدين. والصلاة لله عز وجل والثناء عليه (2) .
وقال ابن سيده: " الذكر: الحفظ للشيء. والذكر أيضا: الشيء يجري على اللسان، وقد تقدم أن الذكر لغة في الذكر.
ذكر يذكره ذكرا وذكرا، الأخيرة عن سيبويه (3) .
ثم قال أيضا: " والذكر: الصيت، ويكون في الخير والشر.
والذكر: الشرف، وفي التنزيل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (4) وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (5) ، أي شرفك، وقيل معناه:
__________
(1) سورة الزخرف الآية 44
(2) المحيط في اللغة 6 \ 235.
(3) المحكم والمحيط الأعظم في اللغة مادة ذ ك ر.
(4) سورة الزخرف الآية 44
(5) سورة الشرح الآية 4(65/299)
إذا ذكرت ذكرت معي.
والذكر: الصلاة لله، والدعاء إليه والثناء عليه " (1) .
وقال الفيروز آبادي: الذكر بالكسر: الحفظ للشيء كالتذكار. والشيء يجري على اللسان. والصيت كالذكرة بالضم. والثناء، والشرف، والصلاة لله تعالى، والدعاء " (2) .
وفي اللسان: " الذكر الصلاة، والذكر: قراءة القرآن، والذكر: التسبيح، والذكر: الدعاء، والذكر: الشكر، والذكر: الطاعة " (3) .
والذكر في الشرع يراد به ما تعبد به الشارع من لفظ يتضمن الثناء على الله وتعظيمه، ويراد به كذلك سؤاله واستغفاره.
وقيل فيه أيضا: أنه قول سيق لثناء أو دعاء (4) .
وقد جاء في بعض الأحاديث إطلاق الدعاء على شكر الله عز وجل وحمده، وذلك ما أخرجه الترمذي في جامعه (5) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله (6) » .
__________
(1) المحكم مادة ذ ك ر.
(2) القاموس مادة ذ ك ر.
(3) لسان العرب مادة ذ ك ر.
(4) انظر: الفتوحات الربانية على الأذكار النورانية 1 \ 18.
(5) في كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة 5 \ 462، وقال: حسن غريب.
(6) سنن الترمذي الدعوات (3383) ، سنن ابن ماجه الأدب (3800) .(65/300)
ومن كل ما سبق يتضح أن معاني الذكر: التسبيح، والدعاء، والثناء على الله، وقراءة القرآن، وهذا يدل على أن هناك قدرا من الاشتراك في المعنى بين لفظ الدعاء ولفظ الذكر، وأن بينهما عموما وخصوصا، فكل دعاء ذكر لله، وليس كل ذكر دعاء.
وهذا يكشف أيضا عن سبب الاقتران بينهما عند العلماء الذين سبقت الإشارة إليهم.(65/301)
المبحث الرابع: في بيان شأن الدعاء وفضله، وأنه مندوب إليه في كل حال وحين:
جاء الأمر في القرآن الكريم بالدعاء في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) .
قال البغوي: " أي اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإنابة استجابة " (2) .
وذكر البغوي أن الدعاء هو الذكر والسؤال.
ومن الأمر بالدعاء قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3)
قال الطبري: " تضرعا وتذللا، واستكانة لطاعته، وخفية
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) معالم التنزيل 7 \ 156.
(3) سورة الأعراف الآية 55(65/301)
يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا مراءاة " (1) .
وقيل: ادعوه متضرعين متذللين، دعاء تضرع ودعاء خفية، فإن الإخفاء دليل الإخلاص (2) .
وقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) قال أبو السعود: " أي لا يحب في دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء، فيدخل فيه الاعتداء دخولا أوليا، وقد نبه على أن الداعي يجب أن لا يطلب ما لا يليق به، كرتبة الأنبياء، والصعود إلى السماء، وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه " (4) .
وقال الشوكاني: " أمرهم الله سبحانه بالدعاء، وقيد ذلك بكون الداعي متضرعا بدعائه مخفيا له، وانتصاب {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (5) على الحال أي: متضرعين بالدعاء، مخفين له، أو صفة مصدر محذوف: أي ادعوه دعاء تضرع، ودعاء خفية، والتضرع من الضراعة، وهي الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية: الإسرار به " (6) .
ومما ورد في فضل الدعاء وشرفه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (7) .
__________
(1) معالم التنزيل 7 \ 156.
(2) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم 2 \ 170. وانظر الكشاف للزمخشري 2 \ 66.
(3) سورة البقرة الآية 190
(4) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم 2 \ 170. وانظر: الكشاف للزمخشري 2 \ 66.
(5) سورة الأعراف الآية 55
(6) فتح القدير 2 \ 213
(7) سورة البقرة الآية 186(65/302)
قال القرطبي: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} (1) أي بالإجابة، وقيل: بالعلم، وقيل قريب من أوليائه بالإفضال والإنعام (2) .
وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} (3) قيل: إن معناه: فليدعوني، وقيل: فليطيعوني (4) .
ومما ورد في فضل الدعاء قوله سبحانه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (5) ، يعني: ما يصنع بكم لولا دعاؤكم، وعن ابن عباس: لولا إيمانكم (6) .، وقال النقاش.، وغيره: " لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك " (7) .
وجاء في صحيح الأحاديث ما يدل على أن الدعاء هو العبادة، على سبيل الحصر والقصر، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) الجامع لأحكام القرآن 2 \ 308.
(3) سورة البقرة الآية 186
(4) فتح القدير 1 \ 185.
(5) سورة الفرقان الآية 77
(6) انظر: جامع البيان 19 \ 35.
(7) الجامع لأحكام القرآن 13 \ 91.(65/303)
النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة، وقرأ: (2) » .
وقوله: «الدعاء هو العبادة (3) » معناه أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون أنهم أفضل الناس، أو أكثرهم عددا، أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها. . . " (4) .
ومما ورد في شرف الدعاء قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء (5) » .
وهذا الحديث غاية في بيان شرف الدعاء، وعظيم شأنه، وسمو قدره.
قال الشوكاني في شرحه: " قيل: وجه ذلك، أنه يدل على قدرة الله تعالى وعجز الداعي، والأولى أنه يقال: إن الدعاء لما كان هو
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء (1479) ، والترمذي في الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء (3372) ، وقال: حسن غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عمران القطان، وعمران القطان عن قتادة هو ابن داود، ويكنى أبا العوام، وأخرجه ابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء (3828) وأحمد 4 \ 267، والبخاري في الأدب المفرد (714) والحاكم 1 \ 490، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة غافر الآية 60 (1) {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء (1479) ، والترمذي في الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء (3372) ، وقال: حسن غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عمران القطان، وعمران القطان عن قتادة هو ابن داود، ويكنى أبا العوام، وأخرجه ابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء (3828) وأحمد 4 \ 267، والبخاري في الأدب المفرد (714) والحاكم 1 \ 490، وصححه ووافقه الذهبي.
(4) شأن الدعاء للخطابي ص 5.
(5) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء (3370) وابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء 2 \ 1258، وأحمد، 1 \ 490 وصححه ووافقه الذهبي والطبراني في الدعاء 2 \ 798. من حديث أبي هريرة. وسنده لا بأس به قابل للتحسين لعمران القطان، وهو صدوق يهم كما في التقريب.(65/304)
العبادة، وكان مخ العبادة كما تقدم، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؟ لأن العبادة هي التي خلق الله سبحانه الخلق لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
قال الطيبي: ولا منافاة بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) ؛ لأن كل شيء شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم. . . . (3)
والدعاء مطلوب في كل وقت، ومندوب إليه في كل آن، لم يحدد الشارع له ظرفا من الزمان أو المكان، ولم يرد في نصوص الشرع ما يجعل له حدا محدودا أو زمانا موقوتا.
والدعاء - كما سبق بيانه - نوع من ذكر الله سبحانه، يطرح فيه العبد مسألته بين يدي ربه، يسأله من خيره، ويستعيذ به مما يحذر، وقد جاء في كتاب الله وصف المؤمنين المخبتين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4) {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (6) {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (7) {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (8) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) تحفة الذاكرين، ص21.
(4) سورة آل عمران الآية 191
(5) سورة آل عمران الآية 192
(6) سورة آل عمران الآية 193
(7) سورة آل عمران الآية 194
(8) سورة آل عمران الآية 195(65/305)
فانظر كيف قرن الذكر بالدعاء، وجعل دعاء المؤمنين من ذكره سبحانه، وتأمل قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1) ودلالته على استمرار الذكر منهم على اختلاف الأحوال والهيئات، واستغراق الزمان في ذلك.
قال القرطبي: " قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (2) ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه. ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (3) » .
قال النووي: " اعلم أن الذكر محبوب في جميع الأحوال إلا في أحوال ورد الشرع باستثنائها، نذكر منها طرفا إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، فمن ذلك: أنه يكره الذكر حال الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجماع، وفي حالة الخطبة لمن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191
(2) سورة آل عمران الآية 191
(3) الجامع لأحكام القرآن 4 \ 319. والحديث أحرجه مسلم في الحيض، باب ذكر الله تعالى حال الجنابة وغيرها 1 \ 282، وأبو داود في الطهارة باب الرجل يذكر الله تعالى على غير طهر 1 \ 5، وابن ماجه في الطهارة، باب ذكر الله عز وجل على الخلاء 1 \ 110، وأحمد 6 \ 70.(65/306)
يسمع صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغل بالقرآنية، وفي حالة النعاس، ولا يكره في الطريق ولا في الحمام. . والله أعلم " (1) .
__________
(1) الأذكار ص7.(65/307)
المبحث الخامس: في من تجاب دعوتهم، وأرجى أوقات الإجابة:
تقدم فيما سبق قول الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) .
وقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) .
ودلالة الآيتين الكريمتين ظاهرة على وعد الله سبحانه عباده إذا دعوه أن يستجيب لهم، وأن يسمع منهم دعاءهم، وأن يعطيهم سؤلهم، فإنه سبحانه حيي كريم، يستحي من عبده المؤمن إذا دعاه مستجيبا لأمره، موقنا بالإجابة، مخبتا متذللا رافعا يديه متضرعا لمولاه أن يردهما صفرا، وقد قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) وقوله حق لا شك فيه، ووعده صدق لا مرية فيه، وكل دعاء يدعو به المؤمن مستجاب عند الله ولا شك، وليس يعني ذلك بالضرورة أن يحصل للداعي عين ما أراد، والله حكيم خبير، يعلم ما يصلح لعبده، وما لا يصلح، وعسى أن يكره المؤمن شيئا هو خير له، وعسى أن يحب شيئا وهو شر له، فربما سأل العبد ربه عرضا من الدنيا، يكون
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة غافر الآية 60(65/307)
فيه هلاكه وخسارته، فيصرف الله عنه ذلك، ولا يعطيه ما يريد، لعلمه المحيط سبحانه بما يلحق بعبده المؤمن من جرائه لو أوتيه، ولا شك أن صرف ذلك عنه عطاء من الله سبحانه لهذا العبد، خير مما سأل؛ لأنه لا يدري عواقبه، والعبد المسكين كان يريد بدعائه ذلك الخير والمنفعة، والله عز وجل أعطاه سؤله من الخير، وحقق له ما يريد من تلك المنفعة بصرف ذلك عنه، وتعويضه ما هو خير له في الدنيا والآخرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذا نكثر، قال: الله أكثر (1) » .
وقد جاء في الأحاديث الشريفة ما يدل على أن الله سبحانه قد يستجيب خاصة - إن جاز التعبير - لبعض من عباده، أو يعطيهم ما أرادوه، ويعنى عناية خاصة بدعائهم، ومن هؤلاء: الوالد إذا دعا لولده أو عليه، والمظلوم على من ظلمه، والمسافر في سفره.
قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده (2) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب انتظار الفرج 5 \ 566، وقال: حسن صحيح غريب، والحاكم في المستدرك 1 \ 493.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء بظهر الغيب 2 \ 89، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين 4 \ 277، وابن ماجه في الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم 2 \ 1270، وأحمد في المسند 2 \ 517، وسنده صحيح من حديث أبي هريرة.(65/308)
وفي رواية: «ودعوة الوالد لولده (1) » ، ودعوة المظلوم لا ترد، وليس بينها وبين الله حجاب، «ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن نبهه إلى ذلك وقال له فيما أوصاه: واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (2) » .
فليتق الله أولئك الذين يظلمون الناس، بالليل والنهار، وليخش الذين يتخوضون في أموال الناس، ويستطيلون في أعراضهم ظلما وعدوانا، أن يحل بهم سخط الله ومقته، فما قوضت عروش الأكاسرة والقياصرة إلا بسبب من ظلمهم وبغيهم، وما أخذ الله الأمم، وأتى بنيانهم من القواعد، إلا بظلمهم، وما ربك بظلام للعبيد.
ودعوة المسافر دعوة مستجابة، وكأنه - والله أعلم - لبعده عن الأهل والعشيرة، وخوفه من أهوال الطريق، وتعرضه لمشاق السفر، وعنائه، أصبح قلبه معلقا بالله سبحانه، قريبا منه، منتظرا لفرجه ولطفه، ومن كان قريبا من الله كان الله قريبا منه، ولا بد أن يكون هذا السفر من الأسفار المشروعة حتى يكون صاحبه مجاب الدعوة، مسموع الدعاء، قريبا من رحمة الله.
وربما تأكد رجاء الإجابة إذا كان السفر طاعة وقربى، كسفر الحج، والجهاد، والدعوة في سبيل الله.
ودعوة الوالد لولده أو عليه مستجابة أيضا، بما للوالدين من
__________
(1) أخرجها ابن ماجه 2 \ 1270.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء 3 \ 455، ومسلم في الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين 1 \ 50.(65/309)
الحقوق العظيمة على أبنائهم، وقد قرن الله الأمر بالإحسان إليهما بالأمر بعبادته وحده، والنهي عن الإشراك به، وذلك قول الله عز ذكره: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) .
وممن تجاب دعوتهم: المضطر الذي أحوجه الحال من خوف أو مرض أو فقر أو نازلة إلى اللجوء إلى الله سبحانه والتضرع إليه (2) .
قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} (3) .
قال الشوكاني: " واللام في المضطر للجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك، بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبن إجابة دعائه " (4) .
ونحوه في روح المعاني، فإنه قيد الإجابة للمضطر بالمشيئة، وحمل اللام في الآية على الجنس (5) .
ودعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، مما ترجى إجابته لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك الموكل: ولك بمثل (6) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) انظر: الكشاف للزمخشري 3 \ 376.
(3) سورة النمل الآية 62
(4) فتح القدير 4 \ 146.
(5) 20 \ 7.
(6) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب 4 \ 2094، وأبو داود في الصلاة باب الدعاء بظهر الغيب 2 \ 89، والبخاري في الأدب المفرد (625) وابن أبي شيبة 10 \ 197 من حديث أبي الدرداء.(65/310)
وهناك أوقات ومواطن تجاب فيها الدعوات فمن ذلك:
1 - الدعاء في السجود: وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (1) » والعبد الساجد بين يدي ربه في أشرف أحواله، وأقربها إلى الله سبحانه، كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعا: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء (2) » .
2 - الدعاء في ثلث الليل الأخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 1 \ 348، وأبو داود في الصلاة، باب الدعاء في الركوع والسجود 1 \ 232، والنسائي في التطبيق، باب الأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود 2 \ 217، وأحمد 1 \ 219، والدارمي 1 \ 304، وعبد الرزاق (2839) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1 \ 350، وأبو داود في الصلاة باب الدعاء في الركوع والسجود 1 \ 231، والنسائي في التطبيق، باب أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل 2 \ 226، وأحمد 2 \ 280، كلهم من حديث أبي هريرة.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3 \ 36، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل 1 \ 523، من حديث أبي هريرة.(65/311)
3 - الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعوة لا ترد بين الأذان والإقامة فادعوا (1) » .
4 - الدعاء في ساعة الجمعة: وذلك لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم الجمعة: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها (2) » ووقت هذه الساعة مما اختلف فيه العلماء، ورجح ابن القيم (3) أنها بعد العصر.
5 - الدعاء في دبر الصلوات المكتوبة: وذلك لما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبة (4) » .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه كان
__________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة 1 \ 415، وقال حسن صحيح، وأحمد 3 \ 225، وابن أبي شيبة في مصنفه 2 \ 488، وابن السني ص 51 من حديث أنس بهذا اللفظ، وأخرجه أبو داود في الصلاة، باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة 1 \ 358 بلفظ: لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة. وسند الحديث حسن.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة 2 \ 527، ومسلم في الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة 2 \ 584.
(3) زاد المعاد 1 \ 104 - 105.
(4) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب (79) 5 \ 527، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الطبراني في الدعاء 2 \ 842.(65/312)
يدعو دبر الصلوات المكتوبة ويعلم أصحابه أن يفعلوا ذلك، وسيأتي ذكر هذه الأحاديث وبيان المراد بالدعاء في دبر الصلوات المكتوبة في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.(65/313)
المبحث السادس: في بيان المراد بالدعاء في أدبار الصلوات:
تقدم أن الدعاء في أدبار الصلوات المكتوبة يرجى له الإجابة، ومظنة قبول من الله سبحانه، وفيه ورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة (1) » .
ونريد في هذا المبحث، أن نبين المراد بأدبار الصلوات، فلننظر إلى دلالة لفظ: " دبر " في كتب اللغة، ثم نتأمل دورانه في كتب السنة؛ لنقف على دلالاته المختلفة.
جاء في جمهرة اللغة: " الدبر: ضد القبل، والإدبار: خلاف الإقبال، وأمس الدابر: الذاهب " (2) .
وفي مجمل اللغة: " الدبر: خلاف القبل، والدبير: ما أدبرت به المرأة من غزلها حين تفتله " (3) .
وفي معجم مقاييس اللغة: " دبر " الدال والباء والراء. أصل هذا الباب أن جله في قياس واحد، وهو آخر الشيء، وخلفه خلاف
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب (79) 5 \ 527، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الطبراني في الدعاء 2 \ 842.
(2) 1 \ 242. مادة د ب ر.
(3) ص 344، 345.(65/313)
قبله. وتشذ عنه كلمات يسيرة نذكرها.
فمعظم الباب أن الدبر خلاف القبل، والدبير: ما أدبرت به المرأة من غزلها حين تفتله، قال ابن السكيت: " القبيل من الفتل: ما أقبلت به إلى صدرك، والدبير: ما أدبرت به عن صدرك ".
ثم قال: " ودبر النهار، وأدبر، وذلك إذا جاء آخره، وهو دبره (1) .
وفي تاج العروس: " (الدبر بالضم، وبضمتين نقيض القبل، والدبر من كل شيء عقبه ومؤخره) (2) .
وفيه: " وأدبار السجود وإدباره: أواخر الصلوات، وقد قرئ: وأدبار وإدبار فمن قرأ (وأدبار) فمن باب خلف ووراء، ومن قرأ (وإدبار) فمن باب خفوق النجم " (3) .
وفي التاج أيضا: " الدبر: (خلف الشيء) ومنه جعل فلان قولك دبر أذنه أي خلف أذنه " (4) .
وفي لسان العرب: " الدبر والدبر: نقيض القبل، ودبر كل شيء: عقبه ومؤخره، وجمعها: أدبار. ودبر كل شيء: خلاف قبله في كل
__________
(1) 2 \ 324.
(2) 3 \ 197 مادة د ب ر.
(3) 3 \ 197 مادة د ب ر.
(4) 3 \ 198 مادة د ب ر.(65/314)
شيء، ما خلا قولهم: جعل فلان قولك دبر أذنه أي خلف أذنه ".
وفي اللسان: " دبرت الرجل: إذا بقيت بعده "
وفي اللسان أيضا: " الدبر والدبر: الظهر ومنه قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (1) .
وفيه أيضا: " دبر بالشيء: ذهب به، ودبر الرجل ولى وشيخ، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} (2) ، أي: تبع النهار قبله ".
وفيه: (أدبر الرجل: جعله وراءه، ودبر السهم: أي خرج من الهدف، وفي المحكم: دبر السهم الهدف يدبره دبرا ودبورا: جاوزه وسقط وراءه) .
ومن مجموع ما سبق يتبين أن لفظ: " دبر " يعني:
1 - خلاف القبل.
2 - آخر الشيء.
3 - خلف الشيء وما بعده.
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم، والسنة المطهرة بهذه المعاني والدلالات، ونسوق بعض الأمثلة للتمثيل لا للحصر، فمن ذلك قوله سبحانه: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} (3) .
أي من الخلف، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (4) .
__________
(1) سورة القمر الآية 45
(2) سورة المدثر الآية 33
(3) سورة يوسف الآية 25
(4) سورة الأنفال الآية 16(65/315)
وهو كناية عن التولي والفرار، وشأن الفار أن يكون مدبرا، ومن ذلك قوله سبحانه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (1) ، وهو كسابقه.
ومن ذلك قوله عز ذكره: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} (2) ، أي ولى، أو جاء بعده النهار.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبة (3) » . والمقصود بدبر الصلوات المكتوبة بعد الفراغ منها، أو قبيل التسليم.
وفي الحديث أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «. . أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (4) » وهذا محتمل للمعنيين كما سبق.
وفي حديث عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة (5) » .
__________
(1) سورة القمر الآية 45
(2) سورة المدثر الآية 33
(3) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب (79) 5 \ 527، وقال: هذا حديث حسن، والطبراني في الدعاء 2 \ 842، وتقدم.
(4) سنن النسائي السهو (1303) ، سنن أبو داود الصلاة (1522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/247) .
(5) أخرجه أبو داود في الوتر باب في الاستغفار 2 \ 86، والترمذي في فضائل القرآن، باب ما جاء في المعوذتين 5 \ 171، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الصلاة باب الأمر بقراءة المعوذتين بعد التسليم من الصلاة 3 \ 61.(65/316)
وهذا في خارج الصلاة بعد الفراغ منها.
ومن ذلك حديث أبي هريرة في فقراء المهاجرين الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: «ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة (1) » .
وفي رواية للبخاري: «تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين (2) » .
"ودبر الصلاة" هنا: معناه بعد التسليم كما بين في الرواية الأخرى.
ومما سبق يتضح أن "دبر الصلاة" يراد به آخر الصلاة، بعد التشهد ويراد به أيضا بعد السلام والفراغ من الصلاة، وعليه فإن ما جاء من الحديث من دعائه صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة يكون
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات باب الدعاء بعد الصلاة 11 \ 132، ومسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1 \ 416.
(2) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة 2 \ 413.(65/317)
محتملا للمعنيين السابقين، كحديث معاذ السابق، فإنه قد يعني به أن محل الدعاء قبل السلام أو بعده، وهذا الاحتمال أو الإجمال إنما يكون في حالة خلو الروايات من البيان، أما إذا بين ذلك كما في حديث أهل الدثور، فلا يبقى هناك إجمال ولا احتمال، والله تعالى أعلم.(65/318)
المبحث السابع: في حجة من منع من الدعاء بعد الصلاة المكتوبة والجواب على ذلك:
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى أن الدعاء لا يشرع بعد الصلاة، وإنما محل الدعاء في الصلاة لا خارجها، وحمل ما ورد من الأدعية في دبر الصلاة على أن ذلك محله آخر الصلاة وقبيل السلام.
وقد سئل - رحمه الله تعالى - عن هذه المسالة أكثر من مرة، وكان جوابه بنحو ما سبق بيانه:
سئل مرة: هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز أو لا؟
فأجاب: " الحمد لله. أما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فهو بدعة، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنما كان دعاؤه في صلب الصلاة؛ فإن المصلي يناجي ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسبا.
وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبي صلى الله عليه(65/318)
وسلم، من التهليل، والتحميد، والتكبير، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1) » .
وقد ثبت في الصحيح، أنه قال: «من سبح دبر الصلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، فذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، حطت خطاياه (2) » أو كما قال، فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة والله أعلم (3) .
وملخص الجواب في النقاط التالية:
1 - الدعاء الجماعي للإمام والمأموم بدعة.
2 - لم يكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة بعد الفراغ منها، بل كان داخل الصلاة.
3 - أن الدعاء في الصلاة هو المناسب لحال من يناجي ربه.
4 - المسنون بعد السلام من الصلاة هو الذكر المأثور، من التهليل والتحميد والتسبيح والتكبير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة 11 \ 132، ومسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1 \ 415.
(2) مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1 \ 418، وأخرجه أحمد 2 \ 371 كذلك.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 22 \ 519.(65/319)
وقال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - " الذي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف، كالأذكار التي في الصحاح، وكتب السنن والمسانيد، وغيرها، مثل ما في الصحيح: أنه «كان قبل أن ينصرف من الصلاة، يستغفر ثلاثا، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (1) » . . إلخ.
وقال: (وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة، فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أمر معاذ أن يقول دبر كل صلاة: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (2) » ، ونحو ذلك.
ولفظ (دبر الصلاة) قد يراد به آخر جزء من الصلاة، كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما في قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (3) ، وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضا لمن تتبع ذلك وتدبره.
وبالجملة فهنا شيئان:
أحدهما: دعاء المصلي المنفرد، كدعاء المصلي صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي وحده إماما كان أو مأموما.
والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعا، فهذا الثاني لا ريب أن
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(2) سنن النسائي السهو (1303) ، سنن أبو داود الصلاة (1522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/247) .
(3) سورة ق الآية 40(65/320)
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك.
ولهذا كان العلماء المتأخرون في الدعاء على أقوال:
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدها.
ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم. كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وليس معهم في ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعا، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة. فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة، واتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب قال: " والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة، فإن المصلي يناجي ربه، فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه، فالدعاء مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء، وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين(65/321)
الإقبال والتوجه إلى الله في الصلاة، أما حال الانصراف فالثناء والذكر أولى) .
ويظهر والله تعالى أعلم أن فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كانت لمواجهة ما أحدثه بعض الأئمة من الدعاء بعد الصلاة مباشرة، وتأمين المأمومين على ذلك، وترك الأذكار المعروفة المشروعة بعد السلام، من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحو ذلك، يوضح ذلك قوله:
" لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا، لا في الفجر ولا في العصر ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه، ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة) (1) .
ويوضحه أيضا قوله: " وأما حديث أبي أمامة قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة (2) » .
فهذا يجب أن لا يخص ما بعد السلام، بل لا بد أن يتناول ما قبل السلام، وإن قيل: إنه يعم ما قبل السلام وما بعده، لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعا بعد السلام سنة، كما لا
__________
(1) مجموع الفتاوى 22 \ 492.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب (79) 5 \ 527، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الطبراني في الدعاء 2 \ 842.(65/322)
يلزم مثل ذلك قبل السلام، بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام فهذا لا يخالف السنة، وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (1) » يتناول ما قبل السلام، ويتناول ما بعده أيضا كما تقدم، فإن معاذا كان يصلي إماما بقومه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إماما، وقد بعثه إلى اليمن معلما لهم، فلو كان هذا مشروعا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك كدعاء القنوت، ولكان يقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، فلما ذكره بصيغة الإفراد، علم أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع.
ومما يوضح ذلك ما في الصحيح (2) ، عن البراء بن عازب، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: «ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك أو يوم تجمع عبادك (3) » فهذا فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم بصيغة الإفراد كما في حديث معاذ، وكلاهما إمام. وفيه أنه كان يستقبل المأمومين، وأنه لا يدعو بصيغة الجمع) (4) .
والظاهر أن صنيع أولئك الأئمة من الدعاء الجماعي مع المأمومين، جعل شيخ الإسلام يحشد ما استدل به من الأدلة النقلية والعقلية على منع الدعاء الجماعي المخالف للسنة، ولا ريب، ولكن
__________
(1) سنن النسائي السهو (1303) ، سنن أبو داود الصلاة (1522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/247) .
(2) في صلاة المسافرين، باب استحباب يمين الإمام 1 \ 492
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (709) ، سنن النسائي الإمامة (822) ، سنن أبو داود الصلاة (615) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1006) ، مسند أحمد بن حنبل (4/290) .
(4) مجموع الفتاوى 22 \ 500 - 501.(65/323)
هذا الدافع ذهب به إلى حد أن يقول بعدم سنية الدعاء بعد الصلاة، وأن المسنون هو الدعاء قبل السلام، وأما بعد السلام فإنه (شرع لسنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة) (1) .
ولذلك نجد شيخ الإسلام يرجح أن دبر الصلاة يراد به آخر جزء منها، وقد يراد به ما يلي: آخر جزء منها، كما في دبر الإنسان فإنه آخر جزء منه (2) .
قال رحمه الله: (فالدعاء المذكور في دبر الصلاة، إما أن يراد به آخر جزء منها؛ ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد. . أو يكون مطلقا أو مجملا، وبكل حال فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام؛ لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة) (3) .
ومن كل ما سبق يمكن تلخيص رأي شيخ الإسلام في هذه المسألة في النقاط الآتية:
1 - أن محل الدعاء قبل السلام لا بعد السلام، وأن الصلاة كلها محل دعاء.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 22 \ 499.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 22 \ 499.
(3) مجموع الفتاوى 22 \ 499.(65/324)
2 - أن الأحاديث التي جاءت في الأدعية دبر الصلاة ينبغي أن تحمل على ما قبل السلام، لأن دبر كل شيء جزء منه.
3 - لا يجوز أن يقال بسنية الدعاء بعد الصلاة؛ لأن ذلك تشريع لسنة بلفظ مجمل وهو (دبر الصلاة) هذا، مع تجويزه، لأن يراد بدبر الصلاة ما بعدها أيضا.
4 - يستدل شيخ الإسلام بالدليل العقلي لتدعيم مذهبه، وهو أن المصلي في صلاته يناجي ربه ويدعوه، وهو في هذه الحالة مقبل على مولاه، فالدعاء في هذه الحال مناسب، أما بعد انصرافه عن مناجاة ربه بعد السلام فغير مناسب.
5 - الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين بدعة محدثة.
أما تلميذه ابن القيم رحمه الله، فقد تناول هذه المسألة في كتابه زاد المعاد (1) ، وكان متأثرا بشيخه من ناحية، ومخالفا له نوع مخالفة، من ناحية أخرى.
فأما تأثره بشيخه فهو قوله: " إن الدعاء بعد السلام من الصلاة لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن) (2) .
وأما مخالفته لشيخه فهي قوله إن الدعاء بعد الصلاة يشرع بعد الفراغ من الأذكار المشروعة، وتكون مشروعيته لا لكونه واقعا
__________
(1) 1 \ 66، 78، 237.
(2) زاد المعاد 1 \ 66.(65/325)
في دبر الصلاة، بل لأنه بعد العبادة الثانية، ويقصد بها الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحوه.
ويمكن تلمس مخالفته لشيخه في قوله عقب حديث معاذ في الدعاء دبر الصلاة: (ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه، فقال: دبر كل شيء منه كدبر الحيوان) (1) .
ويحسن بنا أن ننقل نص كلامه، لنكون على بينة من مذهبه في المسألة، وحتى لا ينسب إليه رحمه الله ما لم يرده، قال في زاد المعاد في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما. والله أعلم.
وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه، ولا ريب أن عكس هذا
__________
(1) زاد المعاد 1 \ 78.(65/326)
الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن هاهنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلله، وسبحه، وحمده، وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقيب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء (1) » قال الترمذي: حديث صحيح.
هذا نص كلامه، وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة توضيح، غير أنا نود أن نلخصه في النقاط الآتية:
1 - دعاء الإمام وهو مستقبل القبلة أو مستقبل المأمومين ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - أن هذا الدعاء على هذا الوجه لم يرو بسند صحيح ولا حسن.
3 - أن تخصيص هذا الدعاء بصلاة الفجر والعصر استحسان من بعض العلماء.
4 - الدليل العقلي وهو أن اللائق بالمصلي أن يدعو في الصلاة لا
__________
(1) في كتاب الدعوات، باب (65) ، 5 \ 516، وأخرجه أيضا أبو داود في الصلاة، باب الدعاء، 2 \ 77، والنسائي في الصلاة (السهو) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة 3 \ 44.(65/327)
بعدها، وهو عين ما قاله الإمام ابن تيمية.
5 - استحبابه للمصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الأذكار المشروعة ثم يدعو بما شاء.
6 - هذا الدعاء مشروع أو مستحب، لا لكونه واقعا في دبر الصلاة، بل لأنه واقع بعد تمجيد الله وذكره والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غير أنا نراه بعد صفحات قلائل يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو إذا سلم من الصلاة، وذكر بعض أدعيته، مثل حديث معاذ: «اللهم أعني على ذكرك (1) » وحديث علي بن أبي طالب «كان إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت (2) » . قال بعده: " هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه عليه الصلاة والسلام، وما كان يقوله في ركوعه، سجوده، ولمسلم فيه لفظان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم، وهذا هو الصواب. والثاني: كان يقوله بعد السلام، ولعله كان يقوله في الموضعين. والله أعلم " (3) .
وقال عقيب إيراده لحديث معاذ حين أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم في دبر كل صلاة «اللهم أعني على ذكرك
__________
(1) أخرجه النسائي في سننه، باب الدعاء بعد الذكر نوع آخر من الدعاء 3 \ 53، من طريق ابن وهب قال: سمعت حيوة به. وأخرجه أحمد في مسنده 5 \ 245، من طريق عبد الله بن يزيد المقري به. وأخرجه أيضا 5 \ 247، من طريق أبي عاصم عن حيوة به. وأخرجه ابن حبان في الصحيح كما في الإحسان 3 \ 243، من طريق عبد الله بن يزيد به. وأخرجه الحاكم في المستدرك 1 \ 273، من طريق عبد الله بن يزيد به. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني في الدعاء (654) ، من طريق حيوة به. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 33، من طريق يحيى بن يعلى، عن حيوة ابن شريح به. درجته: إسناده صحيح.
(2) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين 1 \ 534، من طريق الماجشون به، وفيه أنه كان يقول ذلك الدعاء بعد السلام، وفي رواية: بين التشهد والتسليم، وأخرجه الترمذي في الدعوات، ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة 5 \ 486، من طريق الماجشون به بنحو روايتي مسلم، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في الصلاة، باب جامع الدعاء بعد السلام في دبر الصلاة 1 \ 366، من طريق الماجشون به ولفظه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من صلاته فسلم قال: اللهم اغفر لي ما قدمت. . . إلخ. درجته: صحيح، لأنه في صحيح مسلم.
(3) زاد المعاد 1 \ 76.(65/328)
وشكرك وحسن عبادتك (1) » . ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه فقال: (دبر كل شيء منه كدبر الحيوان) (2) .
ويبدو والله أعلم أن الإمام ابن القيم قد نقض قوله السابق بعدم مسنونية الدعاء بعد الصلاة، أو كاد، فقد ذكر هذا الكلام الأخير في فصل عقده لبيان ما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسه بعدها، وسرعة الانتقال منها، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة.
ويدلك على ذلك أيضا قوله في حديث علي بن أبي طالب:
إن مسلما رواه بلفظين أحدهما أنه كان يقوله قبل السلام، والآخر أنه كان يقوله بعد السلام، ومع أنه رجح الأول إلا أنه جوز أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في الموضعين.
وكذلك تفسيره لدبر الصلاة بأنه يعني ما قبل السلام وما بعده، وذكره لحديث معاذ وغيره.
كل ذلك يدل على أن رأيه في المسألة متجاذب بين متابعته لشيخه، وبين نظره إلى الأحاديث، مما حدا به إلى التوفيق بين قول شيخه الإمام، ودلالات الحديث التي ذكرها في الزاد، وعقد له فصلا في بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من صلاته.
__________
(1) سنن النسائي السهو (1303) ، سنن أبو داود الصلاة (1522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/247) .
(2) زاد المعاد 1 \ 76.(65/329)
والتجاذب الذي كان ابن القيم رحمه الله واقعا تحت تأثيره يشير إليه، ويوحي به قوله - رحمه الله - (ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه، فقال: (دبر كل شيء منه كدبر الحيوان) .
وإذن فقد كان ابن القيم يراجع شيخه في تفسيره لمدلول " دبر الصلاة " والمراجعة تعني ولا شك أنه كان يرى رأيا غير رأي شيخه، وأنه كان يناقشه فيه؟ ولذلك جاء بتلك " النكتة اللطيفة " (1) في تجويزه بل استحبابه لدعاء المصلي بعد أن يفرغ من صلاته، وأذكاره المشروعة، وقوله: إن هذا الدعاء المستحب ليس لكونه واقعا دبر الصلاة، ولكن لكونه بعد الأذكار المشروعة، والصلاة والسلام على رسول الله.
ومع ذلك فقد فهم منه بعض الناس أنه يمنع من الدعاء بعد الصلاة مطلقا، قال ابن حجر: (وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال القبلة وإيراده بعد السلام، أما إذا انفتل بوجهه وقدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده
__________
(1) ذلك قوله في الزاد.(65/330)
الإتيان بالدعاء حينئذ) (1) .
وبعد هذا العرض لمذهب شيخ الإسلام وتلميذه، نشرع بحول الله وقوته وتوفيقه وهدايته في النظر فيما ذهبا إليه، ودراسة ما أورداه من الحجج التي استندا إليها في مذهبهما.
فأما ما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله من منع الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين فحق لا ريب فيه، ولا مناقشة في هذا، لأنه كما قال شيخ الإسلام: لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من هذا، ولو كان هناك شيء منه لنقل.
وأما قوله وقول ابن القيم رحمهما الله تعالى: أن المشروع بعد الصلاة الذكر المشروع من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير فهذا أيضا حق واضح، وشرع بين، وسنة متواترة. ولكنه لا يمنع من الدعاء بعد الصلاة.
والمناقشة إنما هي في قول شيخ الإسلام وقول ابن القيم: أن الدعاء بعد السلام ليس بمشروع، بناء على أن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما ورد عنه من الدعاء دبر الصلاة معناه قبل السلام منها، وأن اللائق بحال المصلي أن يدعو في الصلاة لا خارجها.
فأما قولهما: إن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيرده ما أورده ابن القيم من بعض الأحاديث، وما سنذكره إن شاء
__________
(1) فتح الباري 13 \ 382.(65/331)
الله في المبحث الخاص بذلك.
وأما قول شيخ الإسلام: إن (دبر الصلاة) يراد به آخر جزء منها قبل السلام. فيرده ما جاء من الحديث من تفسير لدبر الصلاة بما بعد السلام منها، وما ورد من الحديث أيضا بقراءة المعوذات دبر الصلاة، بما بعد السلام منها، وما ورد من الحديث أيضا بقراءة المعوذات دبر الصلاة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض صحابته بذلك، ومعلوم أن جلوس التشهد ليس محلا للقراءة، وإنما هو للدعاء والصلاة والسلام على رسول الله بالمأثور من ذلك، فوجب أن يحمل ذلك على ما بعد السلام.
وقد ذكرنا في المبحث السادس أن (دبر الصلاة) يراد به ما قبلها وما بعدها، وهذا ما رجحه ابن القيم ونقلنا قوله في ذلك، وجوزه أيضا شيخ الإسلام في ثنايا كلامه ونقلناه أيضا.
قال الحافظ ابن حجر: " فإن قيل المراد بـ " دبر الصلاة " قرب آخرها وهو التشهد، قلنا: ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه) (1) ، واحتج الحافظ أيضا «بحديث: ذهب أهل الدثور (2) » وأن فيه: «تسبحون دبر كل صلاة (3) » وهو بعد السلام جزما، فكذلك ما شابهه (4) .
على أنه قد جاءت أحاديث صريحة في دعائه عليه السلام بعد الصلاة بلفظ: كان إذا سلم من الصلاة أو إذا فرغ من صلاته أو نحو ذلك، فتكون هذه الأحاديث مفسرة للفظ المجمل المختلف حوله.
__________
(1) فتح الباري 13 \ 382.
(2) صحيح البخاري الأذان (843) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1353) .
(3) صحيح البخاري الدعوات (6329) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1353) .
(4) انظر: فتح الباري 13 \ 382.(65/332)
وأما الدليل العقلي الذي استدل به، أو استأنس به شيخ الإسلام وتلميذه وهو: أن المصلي قريب من ربه في صلاته، والمناسب الدعاء حال قربة وإقباله على ربه.
فالجواب: أننا نسلم بذلك، والصلاة كلها محل للدعاء، بل هي كلها دعاء إذا نظرنا إلى الاشتقاق اللغوي، لكن لم لا ينظر إلى الصلاة على أنها قربة ووسيلة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا قضاها العبد وأداها توسل بها إلى مولاه وتقرب بها إليه سبحانه وطلب حاجته من الله بعدها.
ولم يمنع أحد من الدعاء قبل السلام، ومن المواضع الأخرى في الصلاة كالركوع والسجود والقيام وغيرها، حتى يقال: إن المناسب الدعاء في الصلاة لا خارجها: بل إنا نقول: يدعو في الصلاة ويدعو خارجها بعد الفراغ منها بناء على دلالة الأحاديث، واستئناسا بالنظر الاعتباري، الذي يجعل الصلاة وسيلة صالحة يدعو فيها العبد ربه، فإذا فرغ منها جعلها وسيلة صالحة تقوم بين يدي حاجته من ربه وسؤاله إياه.
ثم إن مما يستدل به على مشروعية الدعاء بعد الصلاة - فريضة أو نافلة - أنه ليس هناك وقت محدد من الشارع للدعاء يجوز فيه، ووقت لا يجوز فيه كالصلاة، بل الدعاء عبادة مشروعة في كل وقت، ومن منع منه في حال أو زمان أو مكان يحتاج إلى إثبات ذلك بالدليل الصحيح الصريح، فمن يدعو بعد الصلاة أقل أحواله أن يكون متمسكا هذا الأصل، وهو مشروعية الدعاء في كل وقت، فكيف إذا جاءت بالأمر به(65/333)
والحث عليه أحاديث، ولو كانت مجملة الدلالة على فرض ذلك، والواقع أن هذه الأحاديث، لا إجمال فيها، بل بينتها أحاديث أخرى، كما سبق بيانه. والله أعلم.
وقد ذكر المحدثون في كتبهم أحاديث الدعاء بعد المكتوبة وبوبوا لها الأبواب الدالة على مشروعية ذلك، فها هو الإمام البخاري يعقد بابا لذلك في صحيحه: باب الدعاء بعد الصلاة، وباب الذكر بعد الصلاة، ومسلم يعقد بابا لاستحباب الذكر بعد الصلاة، وأبو داود يعنون ذلك بقوله: باب ما يقول الرجل إذا سلم، والترمذي عنده: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه دبر كل صلاة، والنسائي: باب التعوذ في دبر الصلاة، الذكر والدعاء بعد التسليم والدعاء عند الانصراف من الصلاة، وابن ماجه: باب ما يقال بعد التسليم، وابن أبي شيبة: باب ما يقال في دبر الصلوات. وعبد الرزاق: باب التسبيح والقول وراء الصلاة، وابن حبان: ذكر الاستحباب للمرء أن يستعين بالله عز وجل على ذكره وشكره وحسن عبادته عقيب الصلوات المفروضات، وابن خزيمة: باب جامع الدعاء بعد السلام في دبر الصلاة، والحاكم: باب الدعاء بعد الصلاة. وكذلك المصنفون في الأدعية كابن السني وغيره، وذكر أبو بكر الطرطوشي في كتابه: " الدعاء المأثور وآدابه " باب الدعاء في أثر الصلاة. وما مضى ذكره إنما هو للتمثيل لا للحصر.(65/334)
تنبيه:
القول بمشروعية الدعاء أدبار الصلوات، لا يعني به الذكر أو الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين، كما هو واقع في بعض البلدان الإسلامية، فإن هذا ليس له أصل من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك.
لكن لو فعله الإمام على سبيل التعليم في بعض الأحيان، لكي يعرف المأمومون الأذكار المشروعة بعد الصلاة، المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يظهر والله أعلم أنه لا بأس بذلك إن شاء الله، وقد سئلت لجنة الفتوى في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية عن (إمام يرفع يديه بعد الصلوات المكتوبة والمأمومون كذلك، يدعو الإمام والمأمومون يؤمنون على دعائه) فأجابت بما نصه:
(العبادات مبنية على التوقيف، فلا يجوز أن يقال: هذه العبادات مشروعة من جهة أصلها أو عددها أو هيئتها، أو مكانها إلا بدليل شرعي يدل على ذلك ولا نعلم سنة في ذلك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قوله، ولا من فعله، ولا من تقريره) (1) .
وسئلت عن: حكم الدعاء بعد الصلاة جماعة فأجابت: " الدعاء عبادة، ولكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية 17 \ 55 فتوى رقم (1373) .(65/335)
عن خلفائه الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم، أنهم دعوا جماعة بعد الصلاة، فكان اجتماع المصلين بعد السلام من الصلاة للدعاء جماعة، بدعة محدثة " (1) .
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية 21 \ 147 فتوى رقم (4600) .(65/336)
المبحث الثامن: في بيان الأدلة المثبتة للدعاء بعد المكتوبة:
أذكر في هذا المبحث ما وقفت عليه من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيان مشروعية الدعاء بعد الصلاة المكتوبة، وأذكر تراجم رواتها ومنازلهم في الجرح والتعديل، وأبين حكم العلماء من أهل الحديث على هذه المرويات، وما يتعلق بالحديث من فوائد حديثية وفقهية.
ونود أن نلفت نظر الواقف على هذا المبحث أننا لا نحتاج إلى ذكر كل ما ورد في هذا الباب لإثبات مشروعية الدعاء بعد المكتوبة، بل يكفي لإثبات هذه المشروعية حديث واحد، صحيح السند، صريح الدلالة، غير معارض بمثله، أو بما هو أقوى منه، سالم من عوارض النسخ ونحوه.
ولكننا نذكر إن شاء الله الأحاديث. كلها، لتتميم البحث، وتدعيم الدلالة وتثبيتها في حال قوة الأسانيد وجودها، ووضوح الدلالة وصراحتها، وليعضد بعض هذه الأحاديث بعضها، ويشد من(65/336)
أزرها، في حال وجود شيء من الوهن والضعف في بعض أسانيدها. وعلى الله سبحانه الاتكال، ومنه سبحانه نستمد العون، ونستلهم التوفيق، ونسأله الهداية والسداد، لا إله إلا هو، ولا رب لنا سواه.(65/337)
الحديث الأول:
أخرجه الإمام مسلم (1) ، من طريق أبي أسماء عن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام (2) » .
قال الوليد (أحد رواته) فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: أستغفر الله، أستغفر الله.
__________
(1) في المساجد باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1 \ 414.
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن النسائي السهو (1337) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) .(65/337)
ووجه الدلالة من هذا الحديث على المراد ظاهر بين؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ما يفرغ من الصلاة المكتوبة يدعو الله عز وجل بغفر الذنوب، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: أستغفر الله معناه: طلب المغفرة من الله سبحانه لأن الألف والسين والتاء هنا للطلب. والله أعلم.(65/338)
الحديث الثاني: قال الإمام أبو داود (1) : حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الماجشون بن أبي سلمة عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت (2) » .
__________
(1) في الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم 2 \ 83.
(2) لم نترجم لرجاله، لأن الحديث في صحيح مسلم مطولا. تخريجه: أخرجه مسلم في صلاة المسافرين 1 \ 534، من طريق الماجشون به، وفيه أنه كان يقول ذلك الدعاء بعد السلام، وفي رواية: بين التشهد والتسليم، وأخرجه الترمذي في الدعوات، ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة 5 \ 486، من طريق الماجشون به بنحو روايتي مسلم، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في الصلاة، باب جامع الدعاء بعد السلام في دبر الصلاة 1 \ 366، من طريق الماجشون به ولفظه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من صلاته فسلم قال: اللهم اغفر لي ما قدمت. . . إلخ. درجته: صحيح، لأنه في صحيح مسلم.(65/338)
وقول علي رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يشمل الصلاة المكتوبة والنافلة، وكونه للمكتوبة أوفى وأقرب، إذ هي المعنية عند الإطلاق والله أعلم.(65/339)
الحديث الثالث:
قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شبابة، ثنا(65/339)
صفحة فارغة(65/340)
شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن مولى لأم سلمة، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا، وعملا متقبلا» .(65/341)
الحديث الرابع:
قال الإمام أبو داود: حدثنا مسدد وسليمان بن داود(65/341)
العتكي، وهذا حديث مسدد، قالا: حدثنا المعتمر، قال: سمعت داود الطفاوي قال: حدثني أبو مسلم البجلي عن زيد بن أرقم قال سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقال سليمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته: «اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا رب(65/242)
كل شيء، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصا لك وأهلي، في كل ساعة في الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام، اسمع واستجب الله أكبر الأكبر، الله نور السماوات والأرض» . قال سليمان بن داود: «رب السماوات والأرض الله أكبر الأكبر، حسبي الله ونعم الوكيل، الله أكبر الأكبر» .
ووجه الدلالة: أن هذا الدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في دبر الصلاة، ودبر الصلاة أي عقبها، على أحد التأويلين لمعنى الدبر. وقد ذكره أبو داود في باب ما يقول الرجل إذا سلم.(65/343)
الحديث الخامس:
قال الإمام النسائي: أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا(65/343)
يعلى، قال: حدثنا قدامة عن جسرة قالت: «حدثتني عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي امرأة من اليهود فقالت: إن عذاب القبر من البول، فقلت: كذبت، فقالت: بلى إنا لنقرض منه الجلد والثوب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتفعت أصواتنا، فقال: ما هذا؟ فأخبرته بما قالت، فقال: (صدقت) ، فما صلى بعد يومئذ(65/344)
صلاة إلا قال في دبر الصلاة: (رب جبريل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حر النار وعذاب القبر» .
قال السيوطي (1) ، في قول اليهودية في الحديث: إنا لنقرض منه الجلد والثوب: قيل: المراد بالجلد الذي يلبسونه فوق أجسادهم، وبه جزم القرطبي، قال: وسمعت بعض أشياخنا يحمل هذا على ظاهره، ويقول: إن ذلك كان من الإصر الذي حملوه، ونقل ابن سيد الناس.، عن ابن دقيق العيد، أنه كان يذهب إلى هذا، قال الشيخ، ولي الدين العراقي: ويؤيده رواية الطبراني: إن أحدهم كان إذا أصاب شيئا من جسده بول، قرضه بالمقاريض، قال: والحديث إذا جمعت طرقه تبين المراد منه.
ووجه الدلالة من الحديث ظاهر، كما سبق، وقد ترجم له الإمام
__________
(1) زهر الربى 3 \ 72.(65/345)
النسائي بقوله: نوع آخر من الذكر والدعاء بعد التسليم.(65/346)
الحديث السادس:
قال الإمام النسائي: أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا(65/346)
يحيى، عن عثمان الشحام، «عن مسلم بن أبي بكرة قال: كان أبي يقول في دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، فكنت أقولهن فقال أبي: أي بني: عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن في دبر كل صلاة» .
ووجه الدلالة ظاهر كسابقه، والله أعلم.(65/347)
الحديث السابع:
قال الإمام النسائي: أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن(65/347)
صفحة فارغة(65/348)
عمرو قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه، «أن كعبا حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى، إنا لنجد في التوراة أن داود نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته، قال: اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، قال: وحدثني كعب أن صهيبا حدثه أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقولهن عند انصرافه من صلاته» .
ودلالته على المراد ظاهرة، وفيه أيضا أن الدعاء بعد الصلاة من هدي المرسلين والله أعلم، وقد ترجم له النسائي بقوله: نوع آخر من الدعاء عند انصرافه من الصلاة.(65/349)
الحديث الثامن:
قال الإمام النسائي: أخبرنا محمد بن إسحاق الصاغاني قال:(65/349)
حدثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة، قال: حدثنا خلاد بن سليمان، قال أبو سلمة وكان من الخائفين، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة، «عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس مجلسا أو صلى تكلم بكلمات، فسألته عائشة عن الكلمات فقال: إن تكلم بخير كان طابعا عليهن إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كان كفارة له: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك» .
ودلالته ظاهرة على مشروعية الدعاء بعد الصلاة.(65/350)
الحديث التاسع:
قال الإمام أبو داود، حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، ثنا(65/351)
عبد الله بن يزيد المقري، ثنا حيوة بن شريح، قال: سمعت: عقبة بن مسلم يقول: حدثني أبو عبد الرحمن الحبلي، عن الصنابحي، «عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك. فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ، وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن.(65/352)
الحديث العاشر:
قال الإمام الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا(65/353)
زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله - هو ابن عمرو الرقي -، عن(65/354)
عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، وعمرو بن ميمون قال: «كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المكتب الغلمان ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر» .
قال عبد الله بن عبد الرحمن: أبو إسحاق الهمداني مضطرب في هذا الحديث، يقول: عن عمرو بن ميمون عن عمر، ويقول عن غيره ويضطرب فيه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح من هذا الوجه.
ودلالة الحديث ظاهرة - على التأويلين - لدبر الصلاة.(65/355)
الحديث الحادي عشر:
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، ثنا أبو مسعود(65/355)
الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الحنظلي، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يأوي إلى فراشه فيقرأ سورة من كتاب الله عز وجل، إلا بعث الله عز وجل إليه ملكا يحفظه من كل شيء يؤذيه، حتى يهب متى هب» . قال: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا، أو قال في دبر صلاتنا: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر،(65/356)
وأسألك عزيمة الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأستغفرك لما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم (1) » .
ودلالته على المراد ظاهرة كسابقه، إلا أن الرواية هنا على التردد بين كون الدعاء في الصلاة أو في دبرها.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3407) ، سنن النسائي السهو (1304) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) .(65/357)
الحديث الثاني عشر:
قال الإمام الترمذي: حدثنا علي بن عيسى بن يزيد(65/357)
البغدادي، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي.
وحدثنا عبد الله بن منير، عن عبد الله بن بكر، عن فائد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له إلى الله حاجة، أو إلى أحد من بني آدم، فليتوضأ فليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها، يا أرحم الراحمين» .(65/358)
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث، وفائد هو أبو الورقاء.(65/359)
الحديث الثالث عشر:
قال ابن السني (1) : أخبرنا سلام بن معاذ، حدثنا حماد بن الحسن بن عنبسة، حدثنا أبو عمر الحوضي، حدثنا سلام المدائني، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك رضي الله
__________
(1) في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول في دبر صلاة الصبح ص 31.(65/359)
عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاته مسح جبهته بيده اليمنى، ثم قال: أشهد أن لا إلى إلا الله الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الحزن» .
وقوله: «إذا قضى صلاته مسح جبهته بيده اليمنى، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الحزن» ، صريح الدلالة على المطلوب.(65/360)
الحديث الرابع عشر:
قال ابن السني: أخبرني علي بن محمد المريعي، حدثنا إبراهيم بن القعقاع، حدثنا عاصم بن يوسف، حدثنا قطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن زيد بن جدعان، عن(65/361)
صفحة فارغة(65/362)
القاسم، عن أبي أمامة قال: ما دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر صلاة مكتوبة ولا تطوع إلا سمعته يقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها، اللهم أنعشني، واجبرني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، إنه لا يهدي لصالحها، ولا يصرف سيئها إلا أنت» .
وفيه دلالة بينة على مشروعية الدعاء بعد المكتوبة والنافلة.(65/363)
الحديث الخامس عشر:
قال ابن السني (1) : أخبرنا أبو يعلى، حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، «عن صهيب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه بعد صلاة الفجر بشيء، فقلت: يا رسول الله، إنك تحرك شفتيك بشيء ما كنت تفعل (2) ، ما هذا الذي تقول؟
__________
(1) في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول في دبر صلاة الصبح ص 32، 33.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 4 \ 332، عن وكيع عن حماد، وأخرجه أيضا 4 \ 333، عن عفان عن حماد به، وأخرجه الطبراني في الدعاء (664) ، من طريق عن حماد بن سلمة به بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى حرك شفتيه قلنا: يا رسول الله، ما تقول؟ قال ((أقول: اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أقاتل)) . درجته: إسناده حسن؛ لحال إبراهيم بن الحجاج، وقد تابعه جماعة عند أحمد والطبراني، فيرتقي إلى الصحة. والله أعلم.(65/363)
قال: أقول: اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل» .(65/364)
والحديث صريح في إثبات الدعاء بعد المكتوبة.(65/365)
الحديث السادس عشر:
قال ابن السني: أخبرنا ابن منيع، حدثنا طالوت بن عباد،(65/365)
حدثنا بكر بن خنيس، عن أبي عمران، عن الجعد، عن أنس رضي الله عنه قال: «ما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة مكتوبة إلا أقبل بوجهه علينا فقال: اللهم إني أعوذ بك من كل عمل يخزيني، وأعوذ بك من كل صاحب يرديني، وأعوذ بك من كل أمل يلهيني، وأعوذ بك من كل فقر ينسيني، وأعوذ بك من كل غنى يطغيني» .(65/366)
الحديث السابع عشر:
قال ابن السني: حدثنا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي،(65/366)
صفحة فارغة(65/367)
حدثنا محمد بن جامع الموصلي، حدثنا أحمد بن عمرو المزني الموصلي حدثنا عكرمة بن إبراهيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، حدثني معاذ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال بعد الفجر ثلاث مرات، وبعد العصر ثلاث مرات: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، كفرت عنه ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» .(65/368)
الحديث الثامن عشر:
قال ابن السني (1) : حدثنا أبو يعلى، ثنا عمرو بن الحصين، ثنا سعيد (2) بن راشد، عن الحسين بن ذكوان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استغفر الله في دبر كل صلاة ثلاث مرات فقال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر الله عز وجل ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف» .
__________
(1) في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول في دبر صلاة الصبح ص 38.
(2) في الهامش: ن: شعبة.(65/368)
صفحة فارغة(65/369)
الحديث التاسع عشر:
قال ابن السني (1) : أخبرني أبو عروبة الحراني، ثنا عمرو بن
__________
(1) في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول في دبر صلاة الصبح ص 39.(65/370)
عثمان، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان، عن مسلم بن الحارث، أنه حدثه عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم سبع مرات: اللهم أجرني من النار، فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله عز وجل لك جوارا من النار» .(65/371)
الحديث العشرون:
قال الإمام الطبراني: حدثنا بكر بن سهل، ثنا شعيب بن(65/372)
يحيى التجيبي، ثنا عبد الجبار بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، قال: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول خلف كل صلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أبديت وما أخفيت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» .(65/373)
المبحث التاسع: في ذكر ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من الدعاء بعد المكتوبة:
بعد أن ذكرنا الأحاديث الواردة في بيان مشروعية الدعاء بعد الصلاة المكتوبة، نذكر هنا إن شاء الله تعالى ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة، وفيها أوضح البيان على أن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يترسمون الهدي النبوي في ذلك، وأنهم كانوا يرون مشروعية الدعاء بعد الفريضة.
الأثر الأول:
روى عبد الرزاق عن ابن التيمي عن ليث: أن أبا الدرداء(65/373)
كان يقول إذا فرغ من صلاته: (بحمد ربي انصرفت، وبذنوبي اعترفت، أعوذ بربي من شر ما اقترفت، يا مقلب القلوب قلب قلبي على ما تحب وترضى) .(65/374)
الأثر الثاني:
روى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن يونس بن أبي إسحاق،(65/374)
عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى أنه كان يقول إذا فرغ من صلاته: " اللهم اغفر لي ذنبي، ويسر لي أمري، وبارك في رزقي ".(65/375)
الأثر الثالث:
روى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي(65/375)
إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي أنه كان يقول: " تم نورك فهديت، فلك الحمد، وعظم حلمك فعفوت، فلك الحمد، وبسطت يدك فأعطيت، فلك الحمد، ربنا وجهك أكرم الوجوه، وجاهك خير الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهنؤها، تطاع ربنا فتشكر، وتعصى ربنا فتغفر، تجيب المضطر، وتكشف الضر، وتشفي السقيم، وتنجي من الكرب، وتقبل التوبة، وتغفر الذنب لمن شئت، لا يجزي آلاءك أحد، ولا يحصي نعماءك قول قائل (يعني: يقول بعد الصلاة) .(65/376)
الأثر الرابع:
روى عبد الرزاق عن معمر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق،(65/376)
عن رجل، عن معاذ بن جبل، قال: (من قال بعد كل صلاة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاث مرات، كفر الله عنه ذنوبه، وإن كان فر من الزحف) .(65/377)
الأثر الخامس:
قال ابن أبي شيبة (1) : حدثنا أبو بكر قال: حدثنا عبيدة بن
__________
(1) المصنف 10 \ 235، 236.(65/377)
حميد، عن الركين بن الربيع، عن أبيه قال: كان عمر إذا انصرف من صلاته قال: " اللهم أستغفرك لذنبي، وأستهديك لأرشد أمري، وأتوب إليك، فتب علي، اللهم أنت ربي فاجعل رغبتي إليك،(65/378)
واجعل غناي في صدري، وبارك لي فيما رزقتني، وتقبل مني، إنك أنت ربي) .(65/379)
الأثر السادس:
قال ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم قال: أخبرنا حصين، عن(65/379)
أبي اليقظان حصين بن يزيد التغلبي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول إذا فرغ من الصلاة: (اللهم إني أسألك من موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، اللهم أني أسألك الفوز بالجنة، والجواز من النار، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة إلا قضيتها ".(65/380)
الخاتمة:
بعد أن وصل بنا البحث إلى نهاية مطافه، يحسن بنا أن نسجل أهم النتائج التي أسفر عنها هذا البحث، ونسأل الله عز وجل السداد والتوفيق.
1 - الدعاء ذكر لله سبحانه، وهو أخص من الذكر، فكل دعاء ذكر لله، ولا عكس.
2 - ليس للدعاء وقت ينهى فيه عنه، ولا موضع يحظر فيه، إلا حال الجماع وقضاء الحاجة، أو وقت الخطبة لمن يسمعها، فإنه يكره.
3 - " دبر الصلاة " لفظ يراد به آخر الصلاة، أو ما يلي آخرها، قبل(65/380)
السلام وبعده، على السواء.
4 - جاءت السنة بمشروعية الدعاء واستحبابه بعد السلام، من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله.
5 - جاءت الأحاديث بدعاء بعض الصحابة بعد السلام.
6 - ترجح لدى الباحث أن منع ابن تيمية - رحمه الله - من الدعاء بعد السلام، كان لسد الباب أمام بدعة الدعاء الجماعي التي كانت في عصره.
7 - لا يجوز ابن القيم الدعاء بعد السلام مباشرة، ولكن بعد الفراغ من الأذكار المعهودة، ولا يرى هذا الدعاء من قبيل الدعاء دبر الصلاة، بل مطلق عن هذا الاعتبار.
8 - يرى ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، أن محل الدعاء في الصلاة ليس بعد السلام، ولكن قبله وهذا هو السنة، وعند ابن تيمية أن الدعاء بعد السلام لا يخالف السنة، ولكن ليس بسنة، إذ السنة أن يكون الدعاء قبل السلام، وهو المراد عنده بـ " دبر الصلاة ".
9 - دعاء الإمام بعد السلام من الصلاة، وتأمين المأمومين على دعائه، مما لا دليل عليه في الكتاب ولا في السنة، وهو بدعة إذا اتخذ ديدنا وعادة، ولو فعله الإمام مرة أو مرتين، ونحو ذلك، لتعليم المأمومين الأدعية والأذكار الشرعية، فقد يجوز لهذا الغرض. والله أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك. أشهد أن لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك.(65/381)
صفحة فارغة(65/382)
حديث شريف
عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » .
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(65/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (2)
(سورة النور، الآيتان 51، 52)
__________
(1) سورة النور الآية 51
(2) سورة النور الآية 52(66/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(66/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(66/3)
المحتويات
الافتتاحية
التسليم بحكم الله ورسوله من صفات المؤمنين 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 23
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 49
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 77
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 95(66/4)
البحوث
التفكر في آيات الله تعالى ومخلوقاته في ضوء القرآن والسنة لفضيلة الدكتور / عبد الله بن إبراهيم اللحيدان 123
تفسير آيات الربا لفضيلة الدكتور / فريد بن مصطفى السلمان 183
أثر التوبة على عقوبة القذف في الفقه الإسلامي لفضيلة الشيخ / عبد الله بن سليمان المطرودي 251
كتابة القرآن الكريم بخط برايل للمكفوفين لمعالي الدكتور / عبد الله بن محمد المطلق 337
تعدد الزوجات وحقوق الإنسان لمعالي الشيخ / صالح بن عبد الرحمن الحصين 363(66/5)
صفحة فارغة(66/6)
التسليم بحكم الله ورسوله
من صفات المؤمنين
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين. . وبعد.
فإنا قد اطلعنا على ما كتبه عبد الله أبو السمح في صحيفة المدينة بعددها رقم (14278) الصادر يوم الاثنين 15 ربيع الأول 1423هـ بعنوان " لماذا يغسلونه " ولما كان الموضوع قد احتوى جملة من المخالفات الشرعية؛ لذا وجب علينا البيان نصحا للأمة، وجملة ما يلاحظ على المقالة المذكورة أمور:
1 - الجانب التأصيلي وتطرق فيه لأمور منها:
أ - قوله (والسؤال القائم لماذا غسل الميت ما هو المقصد الشرعي من ذلك، ونحن نقرأ عن مقاصد الشريعة في كثير من أحكامها، والعلماء الأجلاء قديما وحديثا ينظرون دائما إلى علة الحكم لتكون أساس الاعتبار في الفتوى) .
ب - قوله حول الفتوى التي نصت على أن المحترق ييمم اكتفاء(66/7)
بالتيمم عن الغسل: (هذه الحادثة والفتوى هي التي جعلتني أغضب وأحزن معا؛ لأننا نضيق واسعا لنا فيه من الشرع الحنيف سعة) .
ج - نقله لأقوال بعض الفقهاء في مذهب الإمام مالك ممن ينقل القول بسنية غسل الميت ثم يقول: " هذه الأقوال وهي لفقهاء أجلاء تتفق مع المفهوم الإسلامي بأن الله لا ينظر إلى صورنا بل إلى أعمالنا، فما معنى غسل جسد ميت سيهال عليه التراب، ويقفل عليه القبر ليتحلل كما هو معروف ".
د - قوله: " إن الطهارة بأنواعها من وضوء وغسل من شروط أداء الفروض والعبادات ولا تتم إلا بالنية، والميت لا نية له عنده، ودخول القبر لا إرادة له فيه ".
2 - الجانب التطبيقي: وقد بنى الكاتب على ما سبق من تأصيل نتيجة، وهي أنه لا حاجة إلى غسل الميت في هذا العصر الذي تزدحم فيه البيوت وتضيق، ويجد أهل الميت مشقة في إيجاد مكان للغسل، ثم يقول: " كذلك إذا أخذنا في الاعتبار أيضا الناحية الصحية، ومخاطر انتشار الأمراض والأوبئة " إلى أن قال: " ومن الأحوط أن نتفادى هذا، فالحي أبدى من الميت، ورفع المشقة واجب ومطلوب ".
ثم خرج باقتراح قال فيه: " إنني هنا أقترح أن تكلف جميع المستشفيات تعقيم جثث المرضى الذين يموتون فيها، ووضعها في أكياس خاصة معقمة مغلقة، والاكتفاء بذلك عن الغسل، وواجب(66/8)
وزارة الصحة، وهيئات المحافظة على البيئة، العمل على توضيح مخاطر الغسل للجهات المختصة، وتبني الرأي والذي لا يراه واجبا ".
ومن نظر إلى هذه الملاحظات بعين البصيرة أدرك ما فيه من مخالفات شرعية كثيرة، لكن لما كان المقال منشورا ومتداولا، وأن بعض الناس قد يغتر بما فيه، رأينا إيضاح الحق ورد الباطل، فنقول مستعينين بالله: إن الأمور الشرعية يجب أن تصان عن عبث العابثين، فالأحكام الشرعية لا يتكلم فيها إلا من هو أهل لها ممن حصل العلم، ودرس على العلماء الموثوقين، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) فخص السؤال فيما لا يعلم العبد بأهل الذكر؛ لأنهم أعلم الناس بمراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويقول سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ، فبين أن العلماء لا يمكن أن يساووا بغيرهم، وأن غير العالم لا يمكن أن يكون في منزلته، ونحن نعلم يقينا بما أخبرنا الله به، وحذرنا من القول عليه بلا علم، بقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) ويقول سبحانه:
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة الأعراف الآية 33(66/9)
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) ، وأيضا فإنا نرى في الواقع أن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، ومن ذلك ما تعرض له الكاتب في مقاله المذكور، فتساؤله عن المقصد الشرعي لغسل الميت، ودعواه أن العلماء ينظرون دائما إلى علة الحكم؛ لتكون أساس الاعتبار في الفتوى، فإن هذا الكلام ليس في محله ألبتة، فإنه من المعلوم أن الأحكام معللة، لكن معرفة علة كل حكم هذا ما لم يدعه أحد من العلماء، ولا جعلوه أساسا للفتوى بحال، بل إن بينهم اتفاقا على أن بعض الأحكام لا تعلم علتها، وهو ما يعبر عنه البعض بقولهم " العلة تعبدية " وأساس الفتوى لكل عالم هو الدليل، فمتى ثبت عنده الدليل عمل بمقتضاه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ويقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) ويقول سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (4) فأساس الفتوى هو الدليل، فإن علم مع ذلك علة الحكم بأحد الطرق المعروفة عند العلماء، إما بالنص، أو المفهوم، أو الإيماء ونحو ذلك، فإن لكل طريق درجة في الاعتبار يدركها أهل العلم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة النور الآية 51(66/10)
ثم إن غسل الميت فيه حكم عظيمة، منها تكريم المسلم، والقيام بحقه من العناية بتغسيله وتطييبه وتحنيطه وتكفينه، ثم الصلاة عليه ودفنه، كل هذا إظهار لتكريمه؛ لأن حرمته ميتا كحرمته حيا، ولأن الله شرفه وأعزه بهذا الدين، فلما اعتنقه استحق هذا التكريم ونحو ذلك من الحكم، ومعلوم أن مثل هذه الحكم ليس لها تعلق بعصر دون عصر أو مكان دون مكان، بل هي عامة لكل مسلم في كل عصر أو مكان.
أما ما يتعلق بالفقرة (ب) من قول الكاتب " هذه الحادثة والفتوى هي التي جعلتني أغضب وأحزن معا؛ لأننا نضيق واسعا. . إلخ " فنقول كونك يضيق عطنك عن قبول الحق، ولا ينشرح صدرك لمقتضى الشريعة، هذا أمر يعود عليك، ولا يرجع على شرع ربنا بالبطلان أو التنقص، والواجب عليك توطين نفسك على الرضا بحكم الله ورسوله، وشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) أما قوله: " لأننا نضيق واسعا لنا فيه من الشرع الحنيف سعة. . . " فنقول: لا شك أن شرعنا وديننا دين الحنيفية السمحة كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أخبرنا الله - عز وجل - بأنه بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا، وامتن به علينا، وكان فيما امتن به
__________
(1) سورة النساء الآية 65(66/11)
أنه وضع به الأغلال والآصار التي كانت على من قبلنا فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) الآية.
ومعلوم أن في شرعنا من السعة والتيسير ما جعله صالحا لكل زمان ومكان، بل وللإنس والجان لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث للثقلين الإنس والجن.
لكن هذه السعة ليست مطلقه يتعلق بها كل متعلق، بل شرع الله محدود بحدود، لا يجوز تعديها، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها» . . . . .
وعائشة - رضي الله عنها - تخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «بأنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه (3) » متفق عليه.
ومعلوم أن غسل الميت كما سيأتي - إن شاء الله - مشروع بالسنة القولية والفعليه والإجماع، فلو كان ما ذكره الكاتب خيرا لما تركه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة النساء الآية 14
(3) صحيح البخاري المناقب (3560) ، صحيح مسلم الفضائل (2327) ، سنن أبو داود الأدب (4785) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) ، موطأ مالك الجامع (1671) .(66/12)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أيسر، ولما شرع غسل الميت وهو أشق، فلما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك دل على أن ترك التغسيل إثم بنص الحديث السابق، وأنه ليس من التيسير المشروع ولا من سعة الشريعة ترك غسل الميت.
وقد كثر في الآونة الأخيرة من بعض الكتاب الدندنة حول سعة الشريعة ويسرها، وهي كلمة حق أريد بها باطل، يريدون بهذا التوصل إلى باطلهم وترويجه في مجتمعات المسلمين وإلباسه لباس الدين، وهذا من أبطل الباطل.
أما ما يتعلق بالفقرة (ج) فإن هذا الذي ذكره من أن الله لا ينظر إلى صورنا بل إلى أعمالنا هذا جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (1) » وهذا ليس فيه ما يعارض غسل الميت بوجه، فغسله فرض على الكفاية، ومن الأعمال التي ينظر الله إليها ويجازى عليها القيام بحق الميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن.
فمن فعل ذلك محتسبا الأجر عند الله، متقربا بذلك لله فله أجر عمله هذا، ومن كانت صورة عمله هي التغسيل والتكفين وغير ذلك من حقوق الميت، ولكن نيته ليست التقرب إلى الله، فهذا يجازى بحسب نيته، ولا يكفي في ذلك صورة عمله، بل المحاسبة تكون على العمل الظاهر وما
__________
(1) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والاداب، حديث (4651) ، وابن ماجه في كتاب الزهد، حديث (4133) ، وأحمد في باقي مسند المكثرين، حديث (7493) .(66/13)
قام في القلب من النية.
أما قوله: " فما معنى غسل جسد ميت سيهال عليه التراب ويقفل عليه القبر ليتحلل كما هو معروف " فهذا الكلام ليس من سبيل المؤمنين، وإنما سبيلهم كما قدمنا أنهم إذا جاءهم أمر من الله ورسوله قالوا سمعنا وأطعنا، فإن علموا الحكمة من هذا الأمر فهذا خير إلى خير، وإلا فقلوبهم مطمئنة بامتثال أمر الله.
أما ما يتعلق بالفقرة (د) وما جاء من قوله فيها. فكل هذا ينبئ عن جهل الكاتب، فالتعبد في غسل الميت للمغسل لا للمغسل، فمعلوم أن الميت قد انتقل من دار التكليف إلى دار الجزاء، وأنه لا تعتبر نيته ولا تطلب، وإنما المعتبر نية المغسل، لأنه هو المكلف، هذا ما يتعلق بالجانب التأصيلي.
أما ما جاء في الجانب التطبيقي من خروجه بنتيجة، وهي أنه ما دام الخلاف قائما فإنه لا حاجة في هذا العصر لغسل الميت؛ لما فيه من مشقة من ضيق البيوت، ووجود أمراض في الميت يخشى انتشارها ونحو ذلك.
فيقال له: أولا: الخلاف في وجوب غسل الميت خلاف شاذ، وهو قول في مذهب المالكية، لم ينقل عن الإمام مالك - رحمه الله - وحاشاه القول به، ومن قال به من علماء المالكية لعله لم يبلغه دليل الوجوب، وإلا فوجوبه ظاهر بأدلة السنة والإجماع.
فمن السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي(66/14)
وقصته ناقته: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » أخرجه مسلم وغيره. وفي البخاري: «ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي (2) » فقوله - صلى الله عليه وسلم - «اغسلوه بماء وسدر (3) » أمر صريح، والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، فدل على أن غسل الميت واجب.
وكذلك قوله في قصة غسل إحدى بناته - صلى الله عليه وسلم - «اغسلنها ثلاثا أو خمسا (4) » فيه الأمر بالغسل، وأما السنة الفعلية، فإن غسل الميت من السنة الماضية من لدن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، لا نعلم أحدا من المسلمين تركها بلا عذر من احتراق الجثة ونحو ذلك.
وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الأئمة المحققين، كالإمام النووي في المجموع شرح المهذب، والكاساني في بدائع الصانع، وغيرهما من العلماء. وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى كثير عناء في بيان وجوبه.
أما ما ذكر عن ابن رشد من قوله أن سبب الخلاف - المذكور في مذهب المالكية - هو أن غسل الميت إنما ثبت بالسنة الفعليه دون القولية. فهذا أمر مردود بما تقدم، ومعلوم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت بالسنة القولية الصريحة، والفعل الذي تتابع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1265) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/328) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .
(2) صحيح البخاري الحج (1849) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/221) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1268) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/221) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .
(4) صحيح البخاري الجنائز (1253) ، صحيح مسلم الجنائز (939) ، سنن الترمذي الجنائز (990) ، سنن أبو داود الجنائز (3145) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1459) ، مسند أحمد بن حنبل (6/407) .(66/15)
وأصحابه - رضي الله عنهم - بل إن بعض العلماء يذكر أن هذا معلوم من لدن آدم - عليه السلام - إلى يومنا هذا، وهم يغسلون موتاهم، والإجماع على كونه فرض كفاية قد نقله أئمة محققون، ومستنده من السنة ظاهر، فلا عبرة بخلاف من خالف، وإن كنا نسأل الله له العفو، وأن يتجاوز عن خطئه، لكن العلماء غير معصومين، ولا يجوز لأحد أن يتبعهم في زلاتهم إذا ظهر الدليل وقامت الحجة، وهي في مسألتنا هذه بحمد الله - ظاهرة.
وتعلل الكاتب بضيق المكان هذا لا عبرة به؛ لأن من سبقنا من السلف الصالح كانت دورهم أصغر وأضيق من دورنا، ولم يكن ذلك عذرا في ترك هذه الفريضة. وقول الكاتب: كذلك إذا أخذنا في الاعتبار الناحية الصحية ومخاطر انتشار الأوبئة. . . إلى آخر ما ذكر ".
كل هذه مزاعم لا تقاوم ما ثبت في الشرع، فإن المسلمين منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا وهم يغسلون موتاهم، ولم يصبهم ما زعمه الكاتب من الأوبئة ونحوها.
أما تعلقه بالمشقة، فليس كل مشقة معتبرة، بل هناك مشقة غير معتبرة، إذا كان الشارع أمر بالأمر وجب امتثاله، وإن كان فيه نوع مشقة، فإن في جنس التكاليف الشرعية مشقة أيضا، فإن النفس تميل إلى الدعة والسكون، فيشق عليها أن تكلف بالعبادات من صلاة وزكاة(66/16)
وحج وصوم وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر ونحو ذلك، فإذا تعلقنا بالمشقة في كل شيء، فإن الدين ينهدم ولا يبقى لنا منه إلا اسمه.
والله تعالى يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو قدوة لأمته {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} (1) {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (2) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة - رضي الله عنها - «أجرك على قدر نصبك (3) » .
والمشقة التي يذكرها العلماء ويجعلونها سببا للتخفيف ليس هذا موردها، وإنما جر الكاتب إلى هذا قلة فقهه، ودخوله فيما لا يحسنه.
وبما سبق بيانه يظهر بطلان ما اقترحه، وأنه مصادم للشرع لا يجوز الأخذ به ولا العمل به؛ لأن فيه إهانة للمسلم الذي كرمه الله وأعزه بالإسلام، وجعله كسائر الميتات التي يخشى منها من الحيوانات والجيف والكفرة ونحوهم، وهذا محرم باطل بالنص والإجماع.
وقبل أن أختم أحب أن أنبه على كلمة ذكرها الكاتب هي في حقيقتها خطيرة جدا، لكني أحسن الظن بالكاتب، وأنه لم يقصد حقيقتها، وإنما نبهت عليها لئلا ينخدع بظاهرها مسلم، وهي قوله " ومعلوم طبيا أن جثة الميت تحتوي على أنواع من البكتيريا التي أنهت حياته ".
فنقول الموت مخلوق خلقه الله لابتلاء عباده، يقول سبحانه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4) ، ثم أيضا موت العبد
__________
(1) سورة الشرح الآية 7
(2) سورة الشرح الآية 8
(3) صحيح البخاري الحج (1643) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/43) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .
(4) سورة الملك الآية 2(66/17)
إنما هو انتقال من الحياة إلى حياة أخرى، وليس هو إعدام لهذا الجسد بأنواع البكتيريا أو غير ذلك مما يتعلق به الفلاسفة ونحوهم، إنما هو أجل لحياته التي قدرها الله له في الدنيا، فمتى انتهى ذلك الأجل أذن الله له بالموت فيقبض الملك روحه، وينتقل إلى حياة برزخية بين حياة الدنيا وحياة الآخرة - بعد البعث - لها أحوالها الخاصة بها، علمنا منها ما بلغنا بالنصوص، وكثير منها لا نعلمه، يقول الله سبحانه {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (1) {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (2) ويقول سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) .
وما ذكر من البكتيريا ونحوها ليست هي التي تنهي حياة العباد؛ بدليل أن أصحاء ماتوا من غير علة، وهناك مرضى عاشوا أزمانا يعانون المرض، وربما صحوا وشفوا ولم يموتوا، ونحن لا ننكر أن الله قد يقدر المرض سببا لموت هذا أو ذاك، لكن أسباب الموت كثيرة منها القتل، وحوادث السيارات، وغيرها كثير من الأسباب، ومع هذا نقول إنها أسباب، وليست هي التي أنهت حياة العبد.
ثم إني أوصي نفسي وإخواني بتقوى الله - عز وجل - في كل ما
__________
(1) سورة الأنعام الآية 61
(2) سورة الأنعام الآية 62
(3) سورة الزمر الآية 42(66/18)
نأتي ونذر، وأحذر إخواني المسئولين في الصحف المحلية، بل وفي الصحف في العالم الإسلامي بأجمعه، أحذرهم من السماح لكل من هب ودب بالكتابة عن أمور الدين والشرع، والخوض فيها بغير علم، فإنهم مسؤولون عن هذا أمام الله - عز وجل - فليحذروا سخط الله وعقابه، وليتقوه حق تقواه، كذلك أيضا أدعو أخي كاتب هذه المقالة إلى أن يتوب إلى ربه، وأن يكف عن نشر مثل هذه المقالات التي تفسد على المسلمين عباداتهم، وليكن بعيدا عن الكتابة في أمور شرعية بضاعته فيها مزجاة، فإن العاقل يربأ بنفسه أن يخوض فيما لا يحسنه من أمور الدنيا وعلومها؛ لأن ذلك سبب للطعن فيه والتنقص منه، كيف والأمر متعلق بشرع الله بغير علم قول على الله بلا علم وهو من أعظم الجرم، ولا يعفي هذا الكاتب ولا غيره ممن هو مثله، أن ينقل كلام بعض العلماء من هنا وهناك، ففي كل قضية يلتقط الشاذ من الأقوال، ويتتبع الرخص، فإنه هذا لا يعفيه من التبعة؛ لأنه نقل كلام من لا يحسن فهم كلامهم، ولا يعرف طرائقهم في الاستدلال وعرض الأقوال ونقل الحجاج ونحو ذلك مما يدركه العلماء. ومعلوم أن من تتبع الرخص والشواذ خرج بدين ملفق لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون، لذا أثر عن بعض السلف " من تتبع الرخص تزندق " فالأمر عظيم، والخطب جسيم، وما دام المرء في عافية من أمره، فليحمد الله، وليمسك عليه لسانه وقلمه.(66/19)
أسأل الله العظيم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يمن علينا بالفقه في الدين، والتزام سنة سيد المرسلين، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يصلح نياتنا، وأعمالنا وذرياتنا، ويصلح لنا أحوال المسلمين في كل مكان، ويجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء.(66/20)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(66/21)
صفحة فارغة(66/22)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتى الديار السعودية - رحمه الله
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة \ صاحب السمو الملكي رئيس الديوان الملكي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على خطاب سموكم رقم ص - ف -1932 وتاريخ 22 \ 9 \ 1383 هـ، المرفق به الرسالة الواردة إليكم من الحاج (قي بلا) من الجمهورية السنغالية المتضمن استفتاءه عن المسألتين الآتيتين، وقد جرى تأملها والجواب عليها بما يلي (1) .
__________
(1) المسألة الثانية في التأمين وتأتي قريبا(66/23)
المسألة الأولى: في حكم وضع اليد اليمنى على اليسرى حال القيام في الصلاة هل هو السنة، أو أن السنة إرسالها؟
ج: الحمد لله وحده. السنة للمصلي أن يضع يده اليمنى على اليسرى حال قيامه، وهو قول الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، ذكره الإمام مالك في الموطأ، حيث قال: " وضع اليدين(66/23)
إحداهما على الأخرى في الصلاة " مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنه قال: من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، يضع اليمنى على اليسرى، وتعجيل الفطر والإستيناء بالسحور مالك عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد، أنه قال: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه في الصلاة " قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك. اهـ.
قال الزرقاني في " شرح الموطأ ": روى أشهب عن مالك: لا بأس به في الفريضة والنافلة. وكذلك قال أصحاب مالك المدنيون. وروى مطرف، وابن الماجشون، أن مالكا استحسنه. قال ابن عبد البر لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر غيره عن مالك.
وفي " الشرح الكبير على مختصر خليل " لأحمد الدردير، عند قول الشيخ خليل: وهل كراهتة في الفرض للاعتماد. ما نصه: فلو فعله لا للاعتماد بل استنانا لم يكره، وكذا إن لم يقصد شيئا فيما يظهر.
ومن تأمل الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، عرف يقينا أنه هو السنة، وقد تتبع العلماء الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، فبلغت عشرين حديثا، رواها ثمانية عشر صحابيا وتابعيان، منها ما قد(66/24)
سبق إيراده مما رواه الإمام مالك في الموطأ، ومنها ما رواه الترمذي عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه (1) » قال الترمذي: حديث حسن، وعليه العمل عند أهل العلم، من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، ومن بعدهم. وعن وائل بن حجر قال: «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره (2) » أخرجه ابن خزيمة، وأخرجه أبو داود، بلفظ «ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد (3) » والرسغ هو المفصل بين الساعد والكف.
فأما القائلون بإرسال اليدين، فاحتجوا بأنه قد جاءت آثار ثابتة، نقلت منها صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى. وأجيب عن ذلك بما ذكره ابن رشد في " بداية المجتهد "، وهو أن الآثار التي أثبتت وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة اقتضت زيادة على الآثار التي لم تذكر ذلك. والزيادة يجب أن يصار إليها.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (252) ، سنن أبو داود الصلاة (1041) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (929) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (401) ، سنن الترمذي الصلاة (248) ، سنن النسائي الافتتاح (889) ، سنن أبو داود الصلاة (723) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (867) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) ، سنن الدارمي الصلاة (1357) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (401) ، سنن النسائي الافتتاح (889) ، سنن أبو داود الصلاة (726) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (867) ، مسند أحمد بن حنبل (4/318) .(66/25)
فتوى في الموضوع أيضا
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. إ. ف. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بالإشارة إلى كتابك الذي تسأل فيه عن مسألة، هي: هل فيه حديث يدل على سنة الإرسال في الصلاة؟(66/25)
الجواب: الأصل في هذا القول عند من قال به: الكتاب، والسنة، الاستصحاب.
أما الكتاب: فقوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) وما جاء في معنى هذه الآية، مما يدل على الخشوع في الصلاة. ووجه الدلالة: أن قبض رسغ اليد اليسرى بكف اليد اليمنى والحركة المؤدية إلى ذلك بعد تكبيرة الإحرام مناف للخشوع، فيكون ممنوعا، والأقرب إلى الخشوع هو الإرسال فيكون مشروعا.
والجواب: على هذا إن تحريك اليدين إلى استقرار القبض وسيلة، والغاية سنة كما سيأتي، والوسائل لها حكم الغايات، وكون الغاية سنة، ثابت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه بطريق التواتر، فعند الترمذي وابن ماجه عن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال الترمذي - بعد إخراجه -: حديث حسن، وعند مسلم في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه عن وائل بن حجر، وعند أحمد في المسند، وابن عبد البر في التمهيد والاستذكار عن عطيف بن الحارث، وعند الدارقطني عن حذيفة بن اليمان، وعن أبي الدرداء عند الدارقطني مرفوعا، وابن أبي شيبة موقوفا، وعند أحمد والدارقطني، عن جابر، وعند أبي داود عن عبد الله بن الزبير، وعند البيهقي عن عائشة، وقال صحيح،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2(66/26)
وعند الدارقطني عن أبي هريرة، وعند أبي داود عن الحسن مرسلا، وعنده أيضا عن طاوس مرسلا، وعند البخاري في الصحيح، وأحمد في المسند عن سهل بن سعد، وعند أبي داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود، قال ابن سيد الناس: رجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن. وقال الترمذي في جامعه بعد سياقه لحديث هلب بن قبيصة عن أبيه ما نصه: والعمل على هذا عند أهل العلم، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة. ورأى بعضهم أن يضعها فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم. انتهى كلام الترمذي.
وأما السنة، فإنهم استدلوا بالدليلين الآتيين:
الأول: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء وسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل(66/27)
ذلك في صلاتك كلها (1) » متفق عليه.
وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبين له وضع اليمنى على اليسرى، وهذا موضع البيان، وقد أجمع العلماء على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم.
والجواب على هذا من وجهين:
الأول: ما سبق من الأدلة الدالة على مشروعية القبض. وهذا قدر زائد على حديث المسيء فيعمل به.
الوجه الثاني: أن حديث المسيء غير وارد في محل النزاع. وتقرير ذلك: أن النزاع في الاستحباب لا في الوجوب، فترك ذكره إنما هو حجة على القائل بالوجوب، وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على ذكر الفرائض في هذا الحديث.
الدليل الثاني:
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة (2) » رواه مسلم في الصحيح، وأبو داود في السنن.
وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أصحابه - رضي الله عنهم - رفع أيديهم، وأمرهم بالسكون في الصلاة، وأمره يقتضي الوجوب، وقبض الشمال باليمين بعد تكبيرة الإحرام مخالف للسكون. والأمر بالشيء نهي عن ضده، ففيه نهي عن القبض،
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (757) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (430) ، سنن النسائي السهو (1185) ، سنن أبو داود الصلاة (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (5/102) .(66/28)
والنهي إذا تجرد عن القرائن اقتضى التحريم.
والجواب على هذا من وجوه ستة.
الأول: ما سبق من الجواب على الآية.
الثاني: ما سبق من الوجه الأول من الجواب على حديث المسيء.
الثالث: أن هذا الحديث ورد على سبب خاص، فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: «كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة، إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخديه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله (1) » رواه مسلم.
وإذا تقرر أنه وارد على سبب خاص، فالقاعدة المقررة في علم الأصول في هذا الباب أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن ورد ما يدل على عدم تناول هذا العموم لمسألة قبض الشمال باليمين، إذا تعارض عام أو خاص، أخرج الخاص من العام، لأن تناول الخاص لمدلوله أقوى من تناول العام لهذا المدلول، وقد اجتمع في هذا الخصوص قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره.
الرابع: أن أدلة القبض متواترة فتقدم.
الخامس: إذا ورد دليل عام وأجمع الصحابة على خلافه، أو
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (431) ، سنن النسائي السهو (1318) ، سنن أبو داود الصلاة (998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/86) .(66/29)
خلاف بعض مدلوله، علمنا أنهم لم يجمعوا إلا على أساس مستند اقتضى ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجتمع أمتي على ضلالة (1) » وهذا الحديث متواتر معنى (2) ، فإنه ورد من طرق كثيرة، عن كثير من الصحابة، بألفاظ مختلفة، ترجع إلى معنى هذا اللفظ الذي ذكرناه، وبناء على ذلك فقد سبق نقل الإجماع عن الترمذي في هذه المسألة، وحكى الحافظ ابن حجر عن ابن عبد البر أنه قال: لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف. والذي حكاه ابن حجر عن ابن عبد البر هو في كتابه (النقض) : وهو أمر مجمع عليه في هيئه وضع اليدين إحداهما على الأخرى. فعلم بذلك عدم تناول العموم له.
السادس: أن مسمى الرفع في اللغة لا يصدق على مسمى الوضع، قال أحمد ابن الفارس في (معجم مقاييس اللغة) في مادة (رفع) : الراء والفاء والعين، أصل واحد يدل على خلاف الوضع تقول: رفعت الشيء رفعا. وقال أيضا في مادة (وضع) : الواو والضاد والعين أصل واحد يدل على الخفض للشيء وحطه. انتهى. وهذا المعنى في اللسان والقاموس وغيرهما من كتب اللغة. إذا تقرر ذلك بطل الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - «مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس (3) » فإن الأدلة جاءت بالوضع لا بالرفع. . .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/396) .
(2) وأخرجه ابن أبي عاصم.
(3) صحيح مسلم الصلاة (430) ، سنن النسائي السهو (1185) ، سنن أبو داود الصلاة (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (5/107) .(66/30)
وأما الاستصحاب: فهو أن الأصل هو الإرسال كحالة الإنسان، قبل الدخول في الصلاة، فكذلك إذا دخل في الصلاة.
والجواب: أن هذا الأصل مسلم لو سلم من المعارض. وتقرير ذلك أن الاستصحاب إنما يستدل به في حالة عدم ما يعارضه، وقد عورض هنا بأدله الوضع فتكون رافعة له.
إذا علمت ما سبق، فإننا نبين لك من علمنا أنه قال بالإرسال، قال النووي في (المجموع شرح المهذب) : حكى ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير، والحسن البصري، والنخعي، أنه يرسل يديه ولا يضع إحداهما على الأخرى، وحكاه القاضي أبو الطيب عن ابن سيرين، وقال الليث بن سعد: يرسلهما، فإن طال ذلك عليه وضع اليمنى على اليسرى للاستراحة. وروى ابن عبد الحكم عن مالك الوضع، وروى عنه ابن القاسم الإرسال وهو الأشهر، وعليه جميع أهل المغرب من أصحابه، أو جمهورهم. قال ابن القيم في (إعلام الموقعين) بعد ذكر أحاديث وضع اليدين في الصلاة، ما لفظه: فهذه الآثار قد ردت برواية ابن القاسم عن مالك. قال: تركه أحب إلي، ولا أعلم شيئا قد ردت به سواه. انتهى.
وقال سليمان بن خلف الباجي في كتابه شرح الموطأ " وقد اختلف الرواة عن مالك في وضع اليمنى على اليسرى، فروى أشهب عن مالك أنه قال: لا بأس بذلك في النافلة والفريضة، وروى مطرف، وابن الماجشون عن مالك أنه استحسنه، وروى العراقيون عن(66/31)
أصحابنا عن مالك في ذلك روايتين إحداهما الاستحسان، والثانية المنع، وروى ابن القاسم عن مالك: لا بأس بذلك في النافلة، وكرهه في الفريضة، وقال القاضي أبو محمد: ليس هذا من باب وضع اليمنى على اليسرى، وإنما هو من باب الاعتماد. والذي قاله هو الصواب، فإن وضع اليمنى على اليسرى إنما اختلف فيه هو من هيئة الصلاة، أم لا. وليس فيه اعتماد، فيفرق فيه بين النافلة والفريضة، ثم قال: وإنما منع الوضع على سبيل الاعتماد، ومن جعل منع مالك على هذا الوضع اعتل بذلك، لئلا يلحقه أهل الجهل بأفعال الصلاة المعتبرة في صحتها. انتهى.
فتبين لك مما سبق أن الإرسال ليس بسنة، وإنما السنة القبض، ولا اعتبار لقول أحد مع قول رسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره. والسلام عليكم.(66/32)
س: هل يوضعان تحت السرة، أو على الصدر؟
ج: تعرف أن الأحاديث في أصل المسألة عدة ثابتة. ولا نزاع بين جمهور أهل العلم أنها تقبض اليمنى على اليسرى، لكن أين يجعلان بعد ذلك؟ من أهل العلم من يذهب إلى أنه يجعلهما تحت سرته، لخبر علي: «من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة (1) » رواه أحمد وأبو داود. والصحابي إذا قال من السنة فله حكم الرفع، ولكن خبر علي فيه ضعف عند أهل الحديث، إلا أنه عضده بعض الآثار فقوته، فمن أجل ذلك ذهب إليه أحمد. وبقي يشكل عليه حديث وائل أنه يجعلهما
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (756) ، مسند أحمد بن حنبل (1/110) .(66/32)
على صدره صريحا، وفي كلام للعلامة ابن القيم في (البدائع) و (الإعلام) تكلم عن سند حديث وائل وحاول أن (على صدره) شاذة للسكوت عنها في أكثر الروايات والأحاديث الأخر، وذكر في أحد الكتابين ما عاضده من آثار.
مع أن الأمر فيه سهل: أن جعلت على الصدر أو تحت الصدر، كما ذهب إليه الشافعي، وهو متوسط بين الموضعين، أو تحت السرة كما في مذهب أحمد، كل خير إن شاء الله. ولو قيل: إن الكل موضع جمعا، لكان حسنا أن قال به أحد، والسر في ذلك كله أنه ذل بين يدي الله.(66/33)
حكم قول المصلي (آمين) والجهر بها
س: ما حكم قول المصلي آمين بعد قراءة الفاتحة، وهل يقولها جهرا في الصلاة الجهرية أو يسر بها؟
ج: إن هذه مسألة خلافية، ومذهب الجماهير أن الجهر بها في الصلاة الجهرية سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن الزبير، وهو قول الثوري عطاء وإسحاق ومذهب الشافعي، وأصحاب الرأي، وبه قال الإمام مالك في رواية المدنيين كما سيأتي.
واستدلوا على ذلك بالأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، فمنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -(66/33)
قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا (1) » متفق عليه، وحديث وائل بن حجر: «" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ولا الضالين آمين، ورفع صوته (2) » رواه أبو داود، قال الزرقاني: وبه قال مالك في رواية المدنيين والشافعي والجمهور وفي شرح المواق لمختصر خليل ما نصه: وفي قول الإمام إياها في الهجر اختلاف. قال الباجي: وهما روايتان، وقال بعض أصحاب الإمام مالك: لا يسن التأمين للإمام واستدلوا بحديث أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا آمين (3) » الحديث رواه الإمام مالك، قالوا هذا دليل على أنه لا يقولها.
وأجاب الأولون بأن هذا لا حجة فيه؛ لأنه قصد تعريفهم بموضع تأمينهم، وهو موضع تأمين الإمام ليكون موافقا لتأمين الملائكة كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (4) » قال ابن شهاب، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول آمين.
وقالوا أبو حنيفة ومالك في إحدى الروايتين عنه: يسن إخفاؤها؛ لأنه دعاء فاستحب إخفاؤه كالتشهد.
وأجيب على هذا بأن آخر الفاتحة دعاء، ومع هذا فهو يجهر به.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (780) ، صحيح مسلم الصلاة (410) ، سنن الترمذي الصلاة (250) ، سنن النسائي الافتتاح (928) ، سنن أبو داود الصلاة (936) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/270) ، موطأ مالك النداء للصلاة (195) ، سنن الدارمي الصلاة (1246) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (248) ، سنن النسائي الافتتاح (932) ، سنن أبو داود الصلاة (932) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (855) ، سنن الدارمي الصلاة (1247) .
(3) صحيح البخاري الأذان (782) ، صحيح مسلم الصلاة (410) ، سنن الترمذي الصلاة (250) ، سنن النسائي الافتتاح (927) ، سنن أبو داود الصلاة (935) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/270) ، موطأ مالك النداء للصلاة (196) ، سنن الدارمي الصلاة (1246) .
(4) صحيح البخاري الأذان (780) ، صحيح مسلم الصلاة (410) ، سنن الترمذي الصلاة (250) ، سنن النسائي الافتتاح (928) ، سنن أبو داود الصلاة (936) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/270) ، موطأ مالك النداء للصلاة (195) ، سنن الدارمي الصلاة (1246) .(66/34)
قال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم، يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق.
ومن تأمل الأحاديث والآثار الواردة في ذلك عرف أن التأمين والجهر به سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وتقريره - صلوات الله وسلامه عليه - وقد تتبعها العلماء فبلغت سبعة عشر حديثا وثلاثة آثار وليس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتبار فمتى ثبتت السنة اطرح ما سواها، وفق الله الجميع لما فيه من الخير. السلام عليكم.(66/35)
من لا يحسن غير الإنجليزية كيف يصلى
أما من ناحية صلاة الزوجة، فإنه يلزمها تعلم الفاتحة، والأذكار الواجبة للصلاة فورا، فإن عرفت بعض الفاتحة فإنها تكرره بمقدار طول الفاتحة، وإن لم تعرف منها شيئا، ولا من غيرها من القرآن، لزمها قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ لحديث رفاعة بن رافع، رواه أبو داود والترمذي. والله أعلم.(66/35)
هل يقول في الصلاة: سيدنا ومولانا محمد
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ علي بن قاسم آل ثاني سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتابكم، وسرنا ما ذكرتم عن صحتكم ومن(66/35)
لديكم، الحمد لله على ذلك، كما فهمنا السؤال الذي أوردتم عن جواز قول الرجل: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد إلى آخره.
الجواب: الحمد لله. لا يخفى أن الاقتصار على الأحاديث، وما جاء عن سلف هذه الأمة وأئمتها، أولى وأفضل وأكمل. ولا سيما إذا كان ذلك في نفس الصلاة فلا ينبغي أن يأتي في الصلاة بألفاظ غير ما ورد. فإن كان خارج الصلاة فهو أيسر، وتركه أولى على كل حال.
وعلى كل، فهذه الكلمة لم ترد عن السلف فمن تركها فقد أحسن، ومن قالها فلا ينهى عنها نهيا مطلقا، بل يرغب بما هو الأفضل. وهذا لا يغض من قدر نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - فإن له عند المسلمين من المنزلة والمحبة والتعزيز والتوقير ما لا يعلمه إلا الله بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - وهو بلا شك سيدنا وسيد جميع الخلق، ولكن اقتران هذه الكلمة بالصلاة عليه دائما باستمرار لا نراه؛ لأنه لم يرد بهذه الصفة. والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(66/36)
س: معنى الصلاة على النبي؟
ج: الثناء على عبده عند ملائكته. وقال آخرون: إن معناها الرحمة - يعنى اللهم ارحم محمدا - وهذا قول كثير، إن لم يكونوا الأكثر. وفيه قول ثالث: أن يثني على عبده، وأن يرحمه جميعا. وأشار إليه في تفسيره. والقول المقدم هو اختيار الشيخ، وابن القيم ذكر هذا في (البدائع) و (جلاء الأفهام) وهذا هو الراجح.(66/36)
ثم الواجب هو: اللهم صل على محمد. والقول الثاني: أنه ركن. وهو المشهور في مذهب أحمد، أو أحمد والشافعي.
ثم حكى ابن جرير الإجماع على أنه ندب، ولكن القول بأن هذا إجماع فيه شيء. والراجح أنه ليس بندب.
وأما الزيادة على ذلك فهو عند جماهير من يذهب إلى فريضة الصلاة عليه، ندب، وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك واجب إلى قوله: مجيد. لكونه في حديث كعب.(66/37)
لعن الرجل نفسه وهو في الصلاة
س: ما حكم لعن الرجل نفسه غضبا عليها، حينما تذكرت أحوال بعض الناس، وهو في الصلاة؟
فالجواب: أنه لا يجوز أن يلعن الرجل نفسه، ولا يدعو عليها؛ لحديث: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم (1) » . الحديث رواه مسلم وأبو داود، ولحديث: «ليس المؤمن باللعان (2) » .
وأيضا فلعن المعين منهي عنه، ولو كان غيره، فكيف يلعن نفسه، والأولى له في مثل هذا الحالة أن يستغفر الله ويتوب إليه، ويستعيذ بالله من الشيطان ووساوسه، ولا يطلق لسانه فيما لا يحل له.
والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (3014) .
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1977) ، مسند أحمد بن حنبل (1/405) .(66/37)
اجتماع الإمام والمأمومين على الدعاء في أدبار الصلوات بدعة.
س: عن اجتماع الإمام والمأمومين في أدبار الصلوات الخمس على الدعاء وتأمين المأمومين على ذلك بعده؟
ج: الدعاء المشروع الذي أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدبار الصلوات إنما هو الدعاء قبل السلام والتحلل من الصلاة، على أنه حسن بعده كذلك ولا بأس به، لكن الاجتماع عليه بالصفة التي أشرت إليها وكذا الاجتماع على غيره من ألوان التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ونحوها، فمبتدع محدث لم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمله ولا من عمل أصحابه - هذا مع أنه - صلى الله عليه وسلم - ندب أمته إلى التسبيح والتحميد والتكبير في أدبار الصلوات. وأوصى معاذا أن يقول في أدبارها: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (1) » . والأصل في ذلك أن الاجتماع لذكر الله إذا كان يفعل أحيانا حسن. فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى التطوع في جماعة أحيانا. وكان أصحابه إذا اجتمعوا يأمرون في بعض الأحيان واحدا منهم أن يقرأ وهم يستمعون.
أما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر لذلك فمبتدع محدث؛ لأنه يضاهي الاجتماعات المشروعة كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين والحج. ومن هنا نص أحمد وغيره من الأئمة على أن ملحظ التفرقة بين ما
__________
(1) سنن النسائي السهو (1303) ، سنن أبو داود الصلاة (1522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/247) .(66/38)
يتخذ سنة وعادة أن ذلك يضاهي المشروع.(66/39)
المصافحة بعد الجلوس في المسجد
س: ما حكم مصافحة الرجل من يكون في جانبه بعد جلوسه في المسجد؟
فجوابها: أن المصافحة لا بأس بها في المسجد وغيره، بل ورد الترغيب فيها، في حديث البراء بن عازب مرفوعا: «إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا لله تعالى واستغفرا غفر لهما (1) » رواه أبو داود. لكن بعض الناس يظن أن هذا مستحب دائما في هذه الحالة، ولو كان قد قابله ودخلا المسجد جميعا، بل ولو كان قد سلم عليه قبل جلوسه، وهذا غلط، لا سيما إذا اعتاده الناس وتوهموا سنية مداومته. أما إذا فعل في بعض الأحيان وترك في بعض، من دون أن يعتقد من السنة، فلا بأس به إن شاء الله.
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2727) ، سنن أبو داود الأدب (5211) ، سنن ابن ماجه الأدب (3703) .(66/39)
المرور بين يدي المصلي
س: هل المرور بين يدي المصلي يبطل صلاته؟
الجواب: تبطل الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود البهيم، إذا كان المصلى إماما، أو منفردا في صلاة فرض أو نفل، ومر واحد منها بينه وبين سترته، إذا كان له سترة، أو بين يديه قريبا في ثلاثة أذرع من قدميه، إن لم تكن له سترة.(66/39)
وبهذا قال عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، والحسن البصري، وأبو الأحوص، هذا هو اختيار مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية، وأحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، وابن القيم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا مذهب أحمد.
والأصل في هذا، ما ثبت في صحيح مسلم بسنده إلى أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان أحدكم قائما يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته المرأة، والحمار، والكلب الأسود وقال عبد الله بن الصامت: يا أبا ذر ما بال الأسود من الأصفر والأحمر، وقال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فقال الكلب الأسود شيطان (1) » وفي رواية لأحمد (والمرأة الحائض)
ثم اعلم أن أحاديث القطع بهذه الأشياء وردت عن جماعة من الصحابة، فعن عبد الله بن مغفل عند أحمد وابن ماجه، وعن أبي ذر عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، وعن الحكم الغفاري عند الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: وفيه عمر بن دريج ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين، وابن حبان، وبقية رجاله ثقات، وعن أنس عند البزار في مسنده - قال العراقي: رجاله ثقات، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه، وعن عبد الله بن
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (510) ، سنن الترمذي الصلاة (338) ، سنن النسائي القبلة (750) ، سنن أبو داود الصلاة (702) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) ، سنن الدارمي الصلاة (1414) .(66/40)
عمر، وعند أحمد في مسنده - قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : رجاله موثقون، وقال العراقي: إسناده صحيح.
وقال ابن القيم: فإن لم تكن سترة، فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقطع الصلاة مرور المرأة والحمار والكلب الأسود. ثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن مغفل وابن عباس.
ومعارض هذه الأحاديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح. فلا يترك ما ثبت لمعارض هذا شأنه. انتهى كلام ابن القيم.
وظاهر الحديث أن المقصود بالقطع هو فساد الصلاة، وأما السترة فهي ما يجعله الإنسان أمامه، فقد روى أبو داود في سننه، وابن حبان في صحيحه، بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا (1) » وروى الأثرم بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «استتروا في الصلاة ولو بسهم (2) » .
وما سوى هذه الثلاثة فلا يقطع الصلاة إذا مر، ولكن لا يجوز المرور بين المصلي وبين سترته إن كان له سترة ولو بعيدة، فإن لم يكن له سترة قدر ثلاثة أذرع فأقل سواء كان المار آدميا أو غيره. وعلى المصلي دفعه ما لم يغلبه، أو يخشى فساد صلاته، أو يكن المار محتاجا إلى المرور، أو كان بالمسجد الحرام، أو بمكة أو بسائر الحرم.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/249) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/404) .(66/41)
والأصل في منع المرور ووجوب دفع المار حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين (1) » رواه مسلم.
وأما تجويزه في المسجد الحرام، فيدل عليه ما رواه الأثرم بسنده عن المطلب قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي الركن بينه وبين السقيفة فصلى ركعتين في حاشية المطاف ليس بينه وبين الطواف أحد (2) » .
وأما تجويزه بمكة فيدل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «جئت أنا وغلام من بني هاشم على حمار فمررنا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فنزلنا عنه، وتركنا الحمار يأكل من بقل الأرض - فدخلنا معه في الصلاة، فقال أكان بين يديه عنزة. قال: لا (3) » رواه أبو يعلى في مسنده، قال الهيثمي بعد إخراجه: رجاله رجال الصحيح. وقال أيضا قلت: هو في الصحيح خلا قوله: " أكان بين يديه عنزة فقال: لا ".
أما جوازه في باقي الحرم فوجهه أن الحرم كله محل المناسك والمشاعر فجرى مجرى مكة، فإن الناس يكثرون لأجل قضاء النسك ويزدحمون هناك، فلو منع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس. ويلحق بهذا ما إذا كان المار محتاجا في غير الحرم.
وأما وجه الجواز فيما إذا غلبه أو خشي فساد صلاته، فمن
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (506) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (955) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) .
(2) سنن النسائي القبلة (758) ، سنن أبو داود المناسك (2016) ، سنن ابن ماجه المناسك (2958) ، مسند أحمد بن حنبل (6/399) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/254) .(66/42)
باب ارتكاب أخف المفسدتين لمنع وقوع أعلامها.(66/43)
س: متى تصح تكبيرة الإحرام؟
ج: أما ما سألت عنه مشافهة، من إتيان المسبوق إذا أدرك إمامه في الركوع بتكبيرة الإحرام في انحنائه. فاعلم أن تكبيرة الإحرام لا تصح في الفريضة من القادر على القيام إلا أن يأتي بها كاملة وهو واقف. وإن أتمها في مبادئ انحنائه يجب أن يتمها قبل وصوله إلى أدنى الركوع صحت منه أيضا. وأدنى الركوع هو الانحناء. بمقدار ما تمس أطراف أصابع يديه أعلى ركبتيه حين المبالغة في مد يديه، لكن لا ينبغي منه أن يأتي بها إلا وهو كامل الانتصاب قائما. والله يحفظكم.(66/43)
س: إذا أخل بشيء من الأعضاء السبعة؟
ج: فكأنه لم يسجد، ولكن ليس المراد أن يضعها على الأرض من حين يسجد إلى أن يرفع، بل لو أول ما سجد وضع يدا وترك يدا، ولكنه في آخر السجود وضعها على الأرض، فقد حصل منه الركن، إلا أن الأكمل الاستمرار. ومثله إذا سجد وأحس بشيء يخشاه فرفع يده ليزيله، فهذا لا يخل.(66/43)
صلى بهم خمس ركعات ساهيا ولم ينبهوه فما الواجب؟
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم \ ع. هـ المحترم
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي فيه عن إمام صلى بقوم(66/43)
صلاة الظهر خمس ركعات ساهيا، أنه صلى ركعتين وتشهد، ثم قام وصلى ركعة وتشهد، ثم قام وصلى ركعتين وتشهد، ثم سلم، ولم ينبهه أحد من المأمومين إلا بعد ما فرغ من الصلاة. . . . إلخ.
والجواب: الحمد لله. كان الواجب على المأمومين أن ينبهوه أول ما وقع منه السهو، وحيث لم ينبهوه إلا بعد فراغه من الصلاة، فكان الواجب عليه أنه حال ما نبه استقبل القبلة وسجد سجدتي السهو، ثم تشهد، ثم سلم، مع قصر الفصل، وإن طال الفصل عرفا أو أحدث أو خرج عن المسجد، سقط عنه سجود السهو، لفوات محله، وصلاتهم صحيحة. إلا من تابعه عالما بأنه صلى خمسا، ولم يكن جاهلا ولا ناسيا فعليه إعادة الصلاة، والسلام عليكم.(66/44)
ظن أنه التشهد الأخير فسجد للسهو
س: إمام مسجد صلى المغرب، فلما أتى في التشهد الأول ظن أنه التشهد الأخير، فنبهه الجماعة، وقام وأتى بالثالثة وسجد سجود السهو، واعترض عليه من يدعي أنه لا سجود عليه للسهو، أفتونا مأجورين؟
ج: ليس عليه سجود سهو، لكن ما فعله من سجود السهو ظانا أن عليه سجود سهو لا يخل بصلاته؛ بل سائغ أن يسجد أو مستحب لعموم الأدلة. قاله ممليه الفقير إلى عفو الله سبحانه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(66/44)
سئل عما إذا سها الإمام فقال أحد المأمومين: اسجد واقترب؟
فأجاب: إذا قال مثل قولك الآن - بكسر الهمزة وسكون السين وكسر الجيم - بطلت. وإذا قال واسجد واقترب بلغة القرآن لم تبطل.(66/45)
لا ينكر على من صلاها عشرين.
ولا على من صلاها إحدى عشر.
من محمد بن إبراهيم إلى الأخ المكرم \ ع. ج. سلمه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصلنا كتابك الذي تسأل فيه بما نصه:
وبعد: فأفتونا جزاكم الله عنا أحسن الجزاء، عن صلاة التراويح: كم عدد ركعاتها؛ لأن المتبع لدينا كنا نصليها عشرين ركعة، ولكن المرشدين اليمنيين، من قبل فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، للقيام بالوعظ والإرشاد بهذه الجهة قرروا أن صلاة التراويح هي من الوتر إحدى عشرة ركعة فقط، مستندين في ذلك بما جاء في الحديث المروي عن عائشة - رضي الله عنها. حيث قالت: «ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة (1) » إلخ.
وحيث قد أشكل علينا الأمر، ونظرا لقرب شهر رمضان،
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1147) ، سنن الترمذي الصلاة (439) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1697) ، سنن أبو داود الصلاة (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (6/73) ، موطأ مالك النداء للصلاة (265) .(66/45)
المبارك فإنا نلتمس من سماحتكم إرشادنا إلى إيضاح عدد ركعات هذه الصلاة، وتعميم الفتوى الصادرة من سماحتكم في هذا القبيل لكافة الهيئات الدينية، مع التكرم بإعطائنا نسخة بهذه الفتوى لنكون جميعا على حقيقة من الأمر.
ج: الحمد لله. ذهب أكثر أهل العلم كالإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة إلى أن صلاة التراويح عشرون ركعة؛ لأن عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، وكان هذا بمحضر من الصحابة، فيكون كالإجماع، وعلى هذا عمل الناس اليوم الآن. فلا ينبغي الإنكار عليهم، بل يتركون على ما هم عليه؛ لأنه قد ينشأ من الإنكار عليهم وقوع الاختلاف والنزاع وتشكيك العوام في سلفهم، ولا سيما في هذه المسألة، التي هي من التطوع، والأمر فيها واسع، وزيادة التطوع أمر مرغوب فيه، ولا سيما في رمضان، لحديث: «أن رجلا قال يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود (1) » .
وإذا كان من عادة أهل بلد فعل صلاة التراويح على وجه آخر، مما له أصل شرعي، فلا وجه للإنكار عليهم أيضا. والمقصود من ذلك كله هو البعد عن أسباب الشقاق والنزاع في أمر فيه سعة.
وقد لاحظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا، وترك أمرا عظيما، مخافة ما يقع في قلوب الناس، كما جاء في حديث عائشة:
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (489) ، سنن النسائي التطبيق (1138) ، سنن أبو داود الصلاة (1320) .(66/46)
«لولا حدثان قومك بالكفر (1) » الحديث، وترجم البخاري في هذا المعنى فقال: (باب من ترك بعض الاختيار، مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه) وساق حديث عائشة: «لولا حدثان قومك بالإسلام لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين (2) » الحديث. وقال علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله. وفي رواية: ودعوا ما ينكرون. وقال ابن مسعود: الخلاف شر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1586) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1333) ، سنن الترمذي كتاب الحج (876) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/113) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .
(2) صحيح البخاري الحج (1586) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1333) ، سنن الترمذي كتاب الحج (876) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/113) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .(66/47)
لا راتبة للعشاء قبله
س: إذا وجب العشاء، وأرادت المرأة أن تصلي قبله فهل له سنة أم لا؟
والجواب: ليس للعشاء راتبة قبله، فإن الرواتب عشر؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنه -: «حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر. وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين (1) » متفق عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1181) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (729) ، سنن الترمذي الصلاة (433) ، سنن أبو داود الصلاة (1130) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1145) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) ، سنن الدارمي الصلاة (1437) .(66/47)
تنفل المسافر
س: هل يجوز للمسافر أن يتنفل وهو يقصر الصلاة؟
والجواب: لا يخلو أمر التنفل في السفر من حالتين: إما أن(66/47)
يكون فيما يختص بالسنن الرواتب، أولا.
فإذا كان فيما يختص بالسنن الرواتب، فقد ذكر ابن القيم - رحمه الله -: أن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره الاقتصار على الفرض، وأنه لم يحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى سنه الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا، قال ابن عمر - رضي الله عنهما - وقد سئل عن ذلك - «صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أره يسبح في السفر (1) » وقال الله - عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) ومراده بالتسبيح التنفل بالرواتب، وذلك أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفا للمسافر، فإذا كان التخفيف بترك بعض الصلاة، فترك راتبتها من باب أولى، ولهذا قال ابن عمر: لو كنت مسبحا لأتممت.
وأما إذا كان التنفل في السفر مطلقا، فقد سئل عنه الإمام أحمد فقال: أرجو ألا يكون بالتطوع في السفر بأس. وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1101) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) .
(2) سورة الأحزاب الآية 21(66/48)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا - رحمه الله.
:
تمني الموت طلبه لا يجوز (1) .
س: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: الشيخ عبد العزيز، جزاكم الله خيرا على إجابتك علي، قد أرسلت أستفسر عن شيء، وأطلب منك أن تدعو لي في بيت الله الحرام، وفي هذه الحالة استخرت الله بأن أرسل إليك، لكي تدلني على الطريق الصحيح، وأن تدعو لي، أما في هذه المرة لم أستخر الله، ولا أعرف هل الطلب الذي أطلبه ستؤديه لي أم لا؟ ، وهذا الطلب هو بأن تدعو لي في بيت الله الحرام بأن يعجل لي في موتي، فلقد دعوت الله كثيرا ما يقرب من أربع سنوات، وصليت صلاة الحاجة لكي يعجل الله لي في موتي، وللأسف لم يقبض روحي حتى الآن هل من
__________
(1) إجابة سماحته على رسالة شخصية مقدمة من م. أ. ع. من مصر برقم 1196 \ ش في 20 \ 1 \ 1414 هـ.(66/49)
الممكن أن تدعو لي. فإذا أحببت أن تخبرني بأنك إن شاء الله سوف تدعو لي. فهذا هو عنواني: شارع طه حسين - المنزلة - دقهلية - مصر - م. أ. أ. ع.
ج - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: طلب الموت يا أخي لا يجوز تمنيه أيضا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتمن أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا، فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (1) » متفق على صحته. وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (2) » فنوصيك بهذا الدعاء، أصلح الله حالك، وقدر لك ما فيه الخير والصلاح، وحسن العاقبة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رواه البخاري في (الدعوات) ، باب الدعاء بالموت، برقم (6351) ، ومسلم في (الذكر والدعاء والاستغفار) ، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، برقم (2680) .
(2) رواه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين) برقم (17861) ، والنسائي في (السهو) برقم (1305) .(66/50)
كيفية تلقين المحتضر
س: ما هي طريقة التلقين؟(66/50)
ج: يقال للمحتضر قل: لا إله إلا الله، اذكر ربك يا فلان، وإذا قالها كفى، ولا يضجر المحتضر حتى يثبت على الشهادة، وإذا ذكر الله عنده وقلده المحتضر كفى، والحمد لله.(66/51)
حكم قراءة سورة يس عند المحتضر
س: هل قراءة سورة (يس) عند الاحتضار جائزة؟ (1) .
ج: قراءة سورة (يس) عند الاحتضار، جاءت في حديث معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقرءوا على موتاكم يس (2) » صححه جماعة. وظنوا أن إسناده جيد، وأنه من رواية أبي عثمان النهدي، عن معقل بن يسار، وضعفه آخرون وقالوا: إن الراوي له ليس هو أبا عثمان النهدي، ولكنه شخص آخر مجهول، فالحديث المعروف فيه أنه ضعيف، لجهالة أبي عثمان، فلا يستحب قراءتها على الموتى، والذي استحبها ظن أن الحديث صحيح، فاستحبها، لكن قراءة القرآن عند المريض أمر طيب، ولعل الله ينفعه بذلك، أما تخصيص سورة (يس) فالأصل أن الحديث ضعيف، فتخصيصها ليس له وجه.
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.
(2) سنن أبو داود الجنائز (3121) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1448) .(66/51)
حكم تلقين الكافر.
س: هل يشرع الحضور عند الكافر المحتضر وتلقينه؟ (1)
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/51)
ج: يشرع ذلك إذا تيسر، وقد «كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - خادم يهودي، فمرض فذهب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم- يعوده، فلقنه وقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فنظر اليهودي إلى أبويه، فقالا له: أطع أبا القاسم، فقالها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار (1) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) ، برقم (12962) ، والبخاري في (الجنائز) ، برقم (1356) .(66/52)
حكم وضع المصحف على بطن الميت
س: ما حكم وضع المصحف على الميت؟
ج: لا أصل لذلك، ولا يشرع، بل هو بدعة.
س: الأخت التي رمزت لاسمها ب هـ. هـ. هـ. من الرياض تقول في سؤالها: ما حكم قراءة القرآن على الميت، ووضع المصحف على بطنه؟ (1) .
ج: ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح،
__________
(1) سبق نشره في (الجزء الثامن) من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته، ص362.(66/52)
بل ذلك غير مشروع، بل من البدع، وهكذا وضع المصحف على بطنه ليس له أصل. وليس بمشروع، وإنما ذكر بعض أهل العلم وضع حديدة أو شيء على بطنه بعد الموت، حتى لا ينتفخ.(66/53)
حكم قراءة القرآن على الأموات
س: أرجو من سماحه الشيخ أن ينبه المسلمين إلى حكم قراءة القرآن على الأموات، هل هو جائز أم لا؟ وما حكم الأحاديث الواردة في ذلك؟ (1) .
ج: القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء، ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، أما القراءة على الميت عند قبره، أو بعد وفاته قبل أن يقبر، أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له، فهذا لا نعلم له أصلا، وقد صنف العلماء في ذلك، وكتبوا في هذا كتابات كثيرة، منهم من أجاز القراءة، ورغب في أن يقرأ للميت ختمات، وجعل ذلك من جنس الصدقة بالمال، ومن أهل العلم من قال: هذه أمور توقيفية؛ يعني أنها من العبادات، فلا يجوز أن يفعل منها إلا ما أقره الشرع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) »
__________
(1) نشرت في (الجزء الرابع) من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته، ص340
(2) رواه البخاري معلقا في (البيوع) ، باب النجش (4 \ 355 - فتح) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة، برقم (1718) .(66/53)
وليس هناك دليل في هذا الباب فيما نعلمه، يدل على شرعية القراءة للموتى، فينبغي البقاء على الأصل، وهو أنها عباده توقيفية، فلا تفعل للأموات، بخلاف الصدقة عنهم، والدعاء لهم، والحج والعمرة وقضاء الدين، فإن هذه الأمور تنفعهم، وقد جاءت بها النصوص، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » وقال الله سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (2) - أي بعد الصحابة - {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) فقد أثنى الله - سبحانه وتعالى - على هؤلاء المتأخرين بدعائهم لمن سبقهم، وذلك يدل على شريعة الدعاء للأموات من المسلمين، وأنه ينفعهم، وهكذا الصدقة تنفعهم، للحديث المذكور، وفي الإمكان أن يتصدق بالمال الذي يستأجر به من يقرأ للأموات، على الفقراء والمحاويج بالنية لهذا الميت، فينتفع الميت لهذا المال، ويسلم باذلة من البدعة، وقد ثبت في الصحيح أن رجل قال: «يا رسول الله: إن أمي ماتت ولم توص، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم (4) » .
__________
(1) رواه مسلم في (الوصية) ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631) .
(2) سورة الحشر الآية 10
(3) سورة الحشر الآية 10
(4) رواه مسلم في (الزكاة) ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم (1004) .(66/54)
فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الصدقة عن الميت تنفعه، وهكذا الحج عنه والعمرة، وقد جاءت الأحاديث بذلك، وهكذا قضاء الدين ينفعه، أما كونه يتلو له القرآن، ويثوبه له، أو يهديه له، أو يصلي له، أو يصوم له تطوعا، فهذا كله لا أصل له، والصواب أنه غير مشروع.(66/55)
حكم وضع الحناء
في يد المرأة التي تحتضر
س: ما حكم وضع الحناء على يد المرأة المتوفاة، أو التي تحتضر؟ (1) .
ج: لا أعلم لهذا أصلا يرجع إليه.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/55)
بعض البدع التي تقال عند المحتضر
س: ح. أ. م. من أم درمان بالسودان، يقول في سؤاله: بعض الناس يجعلون الورد (بسم الله الرحمن الرحيم) 786 مرة، ويقرءون الواقعة 42 مرة، وسورة الذاريات 60 مرة، وسورة يس(66/55)
41 مرة، عند الميت وغيره، ويقرءون في الورد (يا لطيف) 16641 مرة، فهل هذا جائز أم لا؟ أفيدونا أفادكم الله (1) .
ج: لا أعلم لهذا العمل أصلا - بهذا العدد المعين - في الشرع المطهر، بل التعبير بذلك واعتقاد أنه سنة بدعة، وهكذا فعل ذلك على هذا الوجه، عند الميت وقت الموت، أو بعد الموت، كل ذلك لا أصل له على هذا الوجه، ولكن يشرع للمؤمن الاستكثار من قراءة القرآن ليلا ونهارا، وأن يسمي بالله سبحانه عند ابتداء القراءة، وعند الأكل والشرب، وعند دخول المنزل، وعند جماع أهله، وغير ذلك من الشئون التي وردت بها السنة، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (2) » وهكذا استعمال (يا لطيف أو يا الله أو نحو ذلك) بعدد معلوم يعتقد أنه سنة لا أصل له، بل هو بدعة، ولكن يشرع الإكثار من الدعاء بلا عدد معين، كقوله: يا لطيف الطف بنا، أو اغفر لنا، أو ارحمنا، أو اهدنا، ونحو ذلك. وهكذا يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا غفور، يا حكيم، يا عزيز الطف بنا وانصرنا وأصلح قلوبنا وأعمالنا، وما أشبه ذلك؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) وقوله - عز وجل:
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) ، في ذي القعدة 1410 هـ
(2) أخرجه الإمام أحمد، في (باقي مسند المكثرين) ، برقم (8355) ، والنسائي، في السنن الكبرى في (كتاب عمل اليوم والليلة) ، باب ما يستحب من الكلام عند الحاجة، برقم (10259) .
(3) سورة غافر الآية 60(66/56)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ، ولكن بدون تحديد عدد، لا يزيد عليه ولا ينقص، إلا ما ورد فيه تحديد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) . في كل يوم مائة مرة، فهذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا قول: (سبحان الله وبحمده) مائة مرة في الصباح والمساء، وهكذا (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ثلاثا وثلاثين مرة بعد كل صلاة من الفرائض الخمس، الجميع تسع وتسعون بعد كل صلاة، ويختم المائة بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. كل هذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كل ما جاء في معناه. وإن قرأ عند المحتضر قبل أن يموت بعض آيات من القرآن، فلا بأس؛ لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك، ويستحب تلقينه لا إله إلا الله، حتى يختم له بذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (2) » رواه مسلم في صحيحه. والمراد بالموتى هنا المحتضرون، في أصح قولي العلماء؛ ولأنهم الذين ينتفعون بالتلقين. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين برقم (10570) ، ومسلم في (الجنائز) ، برقم (1523) .(66/57)
يستحب توجيه المحتضر للقبلة
س: هل يشرع توجيه المحتضر للقبلة؟ (1) .
ج: نعم، يستحب ذلك عند أهل العلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتا (2) » .
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) رواه أبو داود في (الوصايا) برقم (2874) ، بلفظ: '' البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ''.(66/58)
كيفية توجيه المحتضر إلى القبلة
س: ما هي كيفية التوجيه إلي القبلة بالنسبة للمحتضر؟
ج: يجعل على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة كما يوضع في اللحد.(66/58)
حكم تقبيل الميت
س: هل يجوز تقبيل الميت؟
ج: لا بأس بتقبيل الميت، إذا قبله أحد من محارمه من النساء، أو قبله أحد من الرجال، كما فعل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مع(66/58)
النبي صلى الله عليه وسلم.(66/59)
تارك الصلاة لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا
يدفن في مقابر المسلمين.
س: الأخ م. ص. ع. من معان بالأردن، يقول في سؤاله: ما حكم من مات وهو لا يصلي، مع العلم أن أبويه مسلمان؟ ، وكيف تكون معاملته، من ناحية التغسيل والتكفين والصلاة عليه والدفن، والدعاء، والترحم عليه؟ .
ج: من مات من المكلفين وهو لا يصلي فهو كافر، لا يغسل ولا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقاربه، بل ماله لبيت مال المسلمين، في أصح أقوال العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن، بإسناد
__________
(1) رواه الإمام أحمد، في (باقي مسند المكثرين) ، في مسند جابر بن عبد الله، برقم (14762) ، ومسلم في (الإيمان) ، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (82) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) ، برقم (22428) ، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2621) .(66/59)
صحيح، من حديث بريدة - رضي الله عنه - وقال عبد الله بن شقيق العقيلي - التابعي الجليل - رحمه الله تعالى -: " كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا تركه كفر إلا الصلاة " (1) والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة، وهذا فيمن تركها كسلا، ولم يجحد وجوبها، وأما من جحد وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام، عند جميع أهل العلم، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويسلك بهم صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
__________
(1) رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2622) .(66/60)
حكم سؤال المغسل عن حال الميت
س: هل للمغسل أن يسأل أهل الميت هل المتوفى يصلي أم لا؟ (1) .
ج: ما دام ظاهره الإسلام، والذين أحضروه مسلمون، فلا حاجة إلى سؤالهم، وقد يتساهل البعض في ذلك فيترتب على ذلك فضائح، وكذلك عند الصلاة عليه، فلا يسأل عنه إذا كان ظاهره الإسلام.
__________
(1) هذا السؤال وثلاثة بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/60)
من الأولى بتغسيل الميت
س: هل الأولى أن يتولى التغسيل أهل الميت؟
ج: لا يلزم، وإنما يتولى ذلك الأمين، الجيد، الخبير.
س: إذا أوصى الميت بتحديد من يغسله فهل تنفذ وصيته؟
ج: نعم تنفذ وصيته(66/61)
جواز غسل أحد الزوجين للآخر بعد الوفاة
س: هل الأولى بتغسيل الرجل زوجته أو الرجال؟
ج: تغسيل المرأة زوجها أمر لا بأس به، إذا كانت خبيرة بذلك، وقد غسل علي - رضي الله عنه - زوجته فاطمة - رضي الله عنها - وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
س: الأخ ص. أ. ع. من طنطا في جمهورية مصر العربية، يقول في سؤاله: هل يجوز للمرأة أن تغسل زوجها بعد وفاته، وكذلك هل يجوز للرجل أن يغسل زوجته بعد وفاتها؟ أفتونا مأجورين (1) .
ج: قد دلت الأدلة الشرعية على أنه لا حرج على الزوجة أن
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) ، بتاريخ جمادى الأولى 1412 هـ.(66/61)
تغسل زوجها، وأن تنظر إليه، ولا حرج على الزوج أن يغسلها، وينظر إليها، وقد غسلت أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - زوجها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وأوصت فاطمة - رضي الله عنها - أن يغسلها علي - رضي الله عنه - والله ولي التوفيق.(66/62)
حكم غسل الرجل لامرأته والبنت الصغيرة
س: هل يصح للرجل أن يغسل امرأته إذا ماتت، أو بنت سنة أو سنتين ولو أجنبية عنه؟ (1) .
ج - لا بأس أن يغسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها؛ لأن ذلك جاءت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن سلف الأمة في ذلك. أما غير الزوجة كالأم والبنت فلا يجوز للرجل تغسيلهما، ولا غيرهما من محارمه النساء. ويلحق بالزوجة المملوكة التي يباح له وطؤها، فلا بأس بغسلها إذا ماتت؛ لأنها كالزوجة، وهكذا البنت الصغيرة التي دون السبع، لا حرج على الرجل في تغسيلها، سواء كان محرما لها أو أجنبيا عنها، لأنها لا عورة لها محترمة، وهكذا المرأة لها تغسيل الصبي الذي دون السبع.
ولله ولي التوفيق.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(66/62)
العلاقة الزوجية لا تنتهي بالموت
س: رأى بعض الفقهاء أن العلاقة الزوجية انتهت بالموت، ما توجيهكم في ذلك؟ (1) .
ج: هذا رأي يعارض السنة، فلا يلتفت إليه.
س: لقد سمعنا كثيرا من عامة الناس، بأن الزوجة تحرم على زوجها بعد الوفاة، أي بعد وفاتها، ولا يجوز أن ينظر إليها، ولا يلحدها عند القبر، فهل هذا صحيح؟ أجيبونا، بارك الله فيكم (2) .
ج: قد دلت الأدلة الشرعية على أنه لا حرج على الزوجة أن تغسل زوجها، وأن تنظر إليه، ولا حرج عليه أن يغسلها، وينظر إليها، وقد غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر - رضي الله عنهما - وأوصت فاطمة أن يغسلها علي - رضي الله عنهما - والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) نشر في (فتاوى إسلامية) ، جمع وترتيب: محمد المسند (2 \ 25) .(66/63)
المطلقة طلاقا رجعيا يغسلها زوجها؟
س: المتوفاة المطلقة هل يغسلها زوجها؟ (1)
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/63)
ج: إذا كانت رجعية فلا بأس، يعني طلقة واحدة أو اثنين.(66/64)
عدد من يتولى غسل الميت
س: هل فيه عدد محدد لمن يتولى غسل الميت؟
ج: يكفي واحد ومن يساعده على ذلك.(66/64)
الأشياء التي يغسل بها الميت (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ \ ع. غ. وفقه الله آمين.
سلام الله ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم، بدون تاريخ، وصلكم الله بهداه، وهو مرفق بهذا، وما تضمنه - من السؤال عن الغسلة التي تبدأون بها غسل الميت بالصابون والشامبو إذا كان به أوساخ متراكمة - كان معلوما، ولا أذكر أن أحدا فاتحني في ذلك، والذي أرى أن تعملوا بما تضمنه حديث أم عطية، فتغسلوا الميت بالماء والسدر في جميع الغسلات، وتبدأوا بميامنه ومواضع الوضوء منه، مع العناية بإزالة
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 110 \ خ وتاريخ 14 \ 1 \ 1414 هـ.(66/64)
الأوساخ المتراكمة وغيرهما، في جميع الغسلات، حتى ينقى، ولو زاد على سبع، للحديث المذكور. ولا حاجة إلى الصابون والشامبو وغيرهما، إلا إذا لم يكف السدر في إزالة الأوساخ، فلا بأس باستعمال الصابون والشامبو والأشنان وغيرها من الأنواع المزيلة للأوساخ بدءا من الغسلة الأولى، ويجعل في الغسلة الأخيرة شيء من الكافور؛ للحديث المذكور، هذا هو السنة فيما أعلم من الأحاديث الصحيحة؛ لحديث أم عطية، وما جاء في معناه. وأسأل الله أن يبارك في جهودكم، ويمنحكم التوفيق والإخلاص والسداد، إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(66/65)
حكم استخدام السدر في الغسل
س: هل في حديث ابن عباس دليل على وجوب استخدام السدر؟ (1) .
ج: هو مشروع، والأمر عند العلماء للاستحباب؛ لأنه أبلغ
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء(66/65)
في الإنقاء، وإذا لم يتيسر سدر فيجعل بدله صابون أو أشنان أو ما يقوم مقامها.
س: هل رغوة السدر على الرأس بالنسبة للميت سنة؟
ج: ذكره بعض الفقهاء، وقالوا إنه أبلغ في التنظيف، وهو ليس بلازم، وإنما المشروع أن يغسل بالماء والسدر.(66/66)
حكم الأخذ من شارب
وإبط وأظفار وعانة الميت
س: هل يجوز أخذ شارب وإبط وأظفار الميت وعانته؟ (1) .
ج: يستحب قص شاربه وقلم أظافره. وأما حلق العانة، ونتف الإبط، فلا أعلم ما يدل على شرعيته، والأولى ترك ذلك، لأنه شيء خفي وليس بارزا كالظفر والشارب.
س: هل يتعرض للميت بقص شاربه أو أظافره؟ (2) .
ج: ليس على ذلك دليل، ولو أخذ شيء من ذلك فلا بأس، ونص بعض العلماء على الأظافر والشارب، أما حلق العانة والختان
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته، جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.
(2) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/66)
فلا يشرع فعلهما في حق الميت؛ لعدم الدليل على ذلك.(66/67)
حكم نزع أسنان الذهب من الميت
س: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب، فهل تنزع منه إذا كان عليه دين، ولو كان نزعها لا يحصل بسهولة، أم تترك إذا لم يكن عليه دين؟ (1) .
ج: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب أو فضة، ونزعها لا يحصل بسهولة فلا بأس بتركها، سواء كان مدينا أم غير مدين، وفي الإمكان نبشه بعد حين وأخذها للورثة أو الدين، أما إذا تيسر نزعها وجب ذلك؛ لأنها مال لا ينبغي إضاعته مع القدرة.
__________
(1) نشر في فتاوى إسلامية، جمع وترتيب: محمد المسند (2 \ 25)(66/67)
تطييب الميت وكفنه
س: ما حكم تطييب الميت وكفنه؟ (1) .
ج: تطييب الميت وكفنه سنة، إذا كان غير محرم.
__________
(1) هذا السؤال وسؤلان بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/67)
حكم تسويك الميت
س: ما حكم تسويك الميت؟(66/67)
ج: لا أعلم لهذا أصلا، وإنما يوضأ ثم يغسل، وإذا سوكه عند المضمضة فلا بأس، كالحي.(66/68)
حكم الزيادة على سبع غسلات
س: إذا لم يطهر الميت بسبع غسلات فهل يزاد عليها؟
ج: لا بأس إذا دعت الحاجة إلى ذلك.(66/68)
حث النساء على
المشاركة في غسل الميتات
س: يوجد عدد كبير من مغاسل الموتى في الرياض للرجال والنساء، وحيث إنه من النادر وجود نساء يقمن بتغسيل النساء، وخاصة ممن عندهن علم واحتساب، ولأهمية الأمر، نأمل من سماحتكم بيان هذا العمل، وحث الأخوات على المشاركة، وإرسال الاسم ورقم الهاتف لمن يرغب، لسماحتكم، أو لإمام المسجد الذي يوجد به مغاسل للموتى، أو لغيره. (1)
ج: نوافق على ما اقترح الأخ. ولا شك أن العناية بتغسيل الميتات مطلوب كالرجال، والمرأة تغسلها المرأة، والرجل يغسله
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته جوابا على استفتاء شخصي.(66/68)
الرجل، إلا أن المرأة لا مانع من أن يغسلها زوجها؛ وهكذا الزوجة لا مانع من أن تغسل زوجها؛ لأنه ثبت أن الصديق - رضي الله عنه - قد غسلته زوجته أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - غسل زوجته فاطمة - رضي الله عنها - وهكذا السيد يغسل مملوكته المباحة له، وهي تغسله، كالزوج والزوجة، وما سوى ذلك فالنساء يغسلن النساء، والرجال يغسلون الرجال. فأرجو ممن تجد في نفسها القدرة أن تحتسب، وأن تتولى هذا الأمر، وتبلغ المسئولين في البلدية، وغير البلدية؛ حتى يعرفوها ويطلبوها عند الحاجة، فتعطيهم رقم هاتفها، وتعتني بهذا الأمر، وتراجع كلام أهل العلم في كيفية تغسيل الميت؛ حتى تكون على بصيرة في ذلك؛ وحتى تعرف كيف تغسل الميتة، فإذا درست هذا من كلام أهل العلم، فعليها تطبيق ذلك، واحتساب الأجر عند الله، وإن دفع له أجرة فلا بأس من أخذها.
س: إحدى النساء كانت تغسل الأموات متطوعة، وأخيرا رفضت القيام بهذا العمل، رغم الحاجة إليها، بحجة تبلد الإحساس والغلظة تجاه الأموات، فهل توافق على هذا الرأي، أم لا؟ (1) .
ج: المشروع لها أن تحتسب وتصبر في تغسيل الأموات، إذ
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/69)
كانت الحاجة داعية إليها، وكانت معروفة بالخير والإتقان لهذا العمل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (1) » متفق على صحته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) رواه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء) ، برقم (2699) ، والترمذي في (الحدود) ، برقم (1425) .
(2) رواه البخاري في (المظالم والغصب) ، برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) ، برقم (2580) .(66/70)
حكم إقامة دورات لتعليم تغسيل الأموات
س: ما حكم إقامة دورات لتعليم تغسيل الأموات؟
ج: تعليم تغسيل الموتى طيب، ومشروع، وليس فيه شيء؛ لأن بعض الناس لا يحسن التغسيل، والحاجة ماسة إلى معرفة كيفية تغسيل الميت.(66/70)
حكم تصوير
غسل الميت للتذكير أو التعليم
س: ما حكم تصوير تغسيل الميت على شريط فيديو ثم بيعه(66/70)
بحجة أنه من باب التذكير بالموت؟ (1) .
ج: إن كان المقصود تصوير الميت حين التغسيل فذلك لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تصوير ذوات الأرواح ولعن المصورين، وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (2) » .
أما إن كان مراد السائل بيان صفة تغسيل الميت كما شرع الله - عز وجل - في شريط يوزع أو يباع فلا بأس، كما يسجل تعليم الناس الصلاة وغيرها مما يحتاجه الناس من غير تصوير. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
س: ما حكم تعليم التغسيل والتكفين عن طريق الفيديو؟ (3) .
ج: التعليم يكون بغير الفيديو؛ لما في الأحاديث الكثيرة الصحيحة من النهي عن التصوير ولعن المصورين.
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ، الجزء الثاني، ص141.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) ، برقم (3377) ، والبخاري في (اللباس) ، برقم (5994) ، ومسلم في (اللباس والزينة) ، برقم (3943) .
(3) هذا السؤال وأربعة بعده، من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته، من الجمعية الخيرية بشقراء.(66/71)
تغسيل المحرم إذا توفي
س: بالنسبة لتغسيل المحرم إذا توفي حال إحرامه؟(66/71)
ج: المحرم إذا توفي فإنه يغسل ولا يطيب ولا يغطى وجهه ولا رأسه، ويكفن في إحرامه، ولا يلبس قميصا ولا عمامة ولا غير ذلك؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يقضى عنه ما بقي من أعمال حجه، سواء كانت وفاته قبل عرفة أو بعدها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بذلك.
س: من مضى في حج فاسد فمات. فما الحكم؟
ج: يعامل معاملة من مات في حج صحيح، يكفن في ثوبيه، ولا يطيب، ولا يغطى وجهه، ولا رأسه؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في الذي سقط عن راحلته ومات وهو محرم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » متفق على صحته، واللفظ لمسلم، والتحنيط هو التطييب.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بنى هاشم) ، برقم (1853) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1265) ، ومسلم في (الحج) ، برقم (1206) واللفظ له.(66/72)
حكم تغسيل جريح المعركة إذا مات بعدها
س: من مات من المعركة متأثرا بجراحه، هل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟(66/72)