حجة، ونسأل الله العافية.
فإن قال قائل: لا نسلم أننا خالفنا الإجماع، بل قولنا هو مقالة السلف.
قلنا: هاتوا أخبرونا من قال قبلكم: إن هذا القرآن عبارة وحكاية، وأن حقيقة القرآن معنى قائم في النفس، ليس فيه سورة ولا آية؟! ومن قال قبلكم: إنه ليس في المصحف إلا العفص والزاج، لا فرق بينه وبين ديوان ابن(61/167)
حجاج؟
من رد قبلكم على الله تعالى قسمه الذي وصفه بالعصمة، فقال في كتابه الذي أحكمه: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (1) {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (2) {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (3) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (4) .
من قال: إن القرآن العظيم غير الكتاب المبين والذكر الحكيم؟
أخبرونا هل وجدتم هذه الضلالة وقبيح هذه المقالة عند أحد من المتقدمين سوى قائدكم إلى
__________
(1) سورة الواقعة الآية 75
(2) سورة الواقعة الآية 76
(3) سورة الواقعة الآية 77
(4) سورة الواقعة الآية 78(61/168)
الجحيم، الناكب بكم عن الصراط المستقيم، الذي لم يعرف له فضيلة في علم شرعي ولا دين مرضي، سوى علم الكلام المذموم المشئوم الذي الخير فيه معدوم، نشأ في الاعتزال إلى أربعين عاما يناظر عليه ويدعو الناس إليه، ثم أثمر ذلك مقالته(61/169)
هذه التي يرد بها على الله سبحانه وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم وخالف به المسلمين والجنة والناس أجمعين، فكيف رضيتم به إماما عوضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكيف قدمت قوله على قول الله سبحانه؟!
وكيف خالفتم إجماع المسلمين بمجرد قوله بلا حجة سوى مجرد تقليده والمصير إلى قوله؟!
وما عوض لنا منهاج جهم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين (1)
فلسان حالكم يقول: إن الحق ضاع عن رب العالمين ورسوله الصادق الأمين والصحابة والتابعين والجنة والناس أجمعين، حتى وجده قائدكم إلى الجحيم، فدعاكم إليه ونبهكم، فأجبتم مقاله، ورضيتم حاله، وقبلتم محاله، ونسبتم من لم يوافقكم على هذه الضلالة إلى الضلالة، ورميتموه بالجهالة.
وأهل السنة قبلوا قول ربهم ووصيته، واتبعوا رسول ربهم وسنته، وسلكوا سبيل سلفهم وطريقته {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3) والله أعلم.
__________
(1) ذكر هذا البيت مع غيره من الأبيات: اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1 \ 148) .
(2) سورة الأنعام الآية 81
(3) سورة الأنعام الآية 82(61/170)
تمت الفتوى المباركة على يد أفقر الورى إلى رحمة ربه الجليل، عبد صالح بن حسن بن صالح المقدسي الحنبلي السلفي، مصليا مسلما محوقلا يوم الاثنين 17 رجب سنة 1227 هـ.(61/171)
صفحة فارغة(61/172)
نداء الله نبيه الكريم في آي الذكر الحكيم
للدكتور \ بدر بن ناصر البدر (1)
المقدمة:
الحمد الله رب العالمين إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن الله عز وجل قد أنعم على هذه الأمة وامتن عليها بأن أرسل إليها أفضل رسله وخيرته من خلقه وأنزل عليه القرآن هدى ونورا، ضياء وشفاء، يقول تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) .
بعثه الله عز وجل بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وجعله رحمته المهداة ونعمته المسداة، ففتح الله به أعينا عميا وقلوبا غلفا وآذانا صما، أنار به الطريق وأوضح به المحجة، وأوجب على الأمة محبته وطاعته واتباع سنته وألا يعبد جل وعلا إلا بما شرع. وقد بذل عليه الصلاة والسلام جهده
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بالرياض \ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2) سورة آل عمران الآية 164(61/173)
ووقته وما يملك في بيان الدين ودعوة الناس إليه، حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد عظم الله عز وجل منزلة رسوله عليه الصلاة والسلام عنده وأعلى قدره، وخصه بفضائل ومحاسن تدل على شرفه ورفعة مكانته، وأثنى عليه بها وأثابه عليها الجزاء الأوفى، وإن العلم بما خصه الله به من الفضائل الكريمة والمحاسن الجميلة والأخلاق الحميدة وتأييده بالمعجزات الباهرة والبراهين الواضحة ليغرس في القلوب محبته والإيمان به، ويوجب على الأمة طاعته والتمسك بسنته، والسير على نهجه واقتفاء أثره، والتحاكم إليه وإلى سنته في كل شأن من شؤون الحياة، عن إيمان راسخ وحب صادق، يقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ، ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وفي القرآن الكريم آيات بينات دالة على عظيم قدره وعلو منزلته عند ربه جل وعلا، منها أن الله عز وجل نادى أنبياءه بأسمائهم، أما هو فقد ناداه بوصفه الشريف " الرسول " في موضعين من القرآن، و " النبي " في ثلاثة عشر موضعا، وناداه بوصف مشتق من حالته التي كان عليها " المزمل "، " المدثر" لطفا به وتأنيسا له وشفقة عليه.
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة آل عمران الآية 31(61/174)
فجاء هذا البحث لدراسة هذه الآيات الكريمات التي تضمنت نداءه عليه الصلاة والسلام، وما فيها من أحكام شرعية وأسباب نزول، وذكر أقوال المفسرين في معانيها والمراد بها وما اشتملت عليه من نكات بلاغية ولطائف أسلوبية، دالة على سمو مكانته وعلو مرتبته عند الله عز وجل، وجعلت عنوانه " نداء الله نبيه الكريم في آي الذكر الحكيم ". وقد سرت في كتابة هذا البحث حسب الخطة التالية:(61/175)
-مقدمة.
-تمهيد وفيه مبحثان:
المبحث الأول: رفعة قدره عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل.
- المبحث الثاني: النداء في القرآن الكريم.
-الفصل الأول: أساليب نداء الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: النداء بصفة الرسالة.
المبحث الثاني: النداء بصفة النبوة.
المبحث الثالث: النداء بصفات أخرى.
المبحث الرابع: ما قيل إنه نداء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس كذلك.
-الفصل الثاني: ما يعقب نداءه عليه الصلاة والسلام والمعاني التي تضمنها.(61/175)
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ما يعقب النداء في القرآن.
المبحث الثاني: ما يعقب نداءه عليه الصلاة والسلام في القرآن.
المبحث الثالث: المعاني التي تضمنها نداؤه عليه الصلاة والسلام.
- الفصل الثالث: خصائص نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: نداؤه عليه الصلاة والسلام بالوصف لا باسمه العلم.
المبحث الثاني: التزام ندائه عليه الصلاة والسلام بـ (يا أيها) .
المبحث الثالث: الفرق بين ندائه عليه الصلاة والسلام والإخبار عنه.
- الخاتمة.
وقد قمت في هذا البحث بعزو الآيات إلى سورها وتخريج الأحاديث والآثار والحكم عليها بكلام أئمة العلم في ذلك، ووثقت الأقوال بعزوها إلى مصادرها وتركت تراجم الأعلام خوفا من إطالة البحث مما هو عليه الآن.
أسأل الله عز وجل التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(61/176)
التمهيد: وفيه مبحثان:(61/177)
المبحث الأول: رفعة قدره عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل:
لقد من الله عز وجل على هذه الأمة بأن أرسل إليهم أفضل رسله وخيرته من خلقه، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين والمخصوص بالشفاعة العظمى يوم الدين، إمام الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام، صاحب اللواء المعقود والحوض المورود والمقام المحمود، هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، فألزم جميع الخلق الإيمان به وطاعته واتباع سنته واقتفاء أثره إلى يوم الدين.
اصطفى الله سبحانه نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من خلقه وأعلى قدره وعظم منزلته، وفضله على خلقه، وخصه بفضائل لم تكن لغيره، وكرمه بخصائص انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام، فمما جاء في القرآن مما يدل على عظيم قدره ورفعة منزلته عند ربه:
-أن الله عز وجل أخذ العهد له على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إن بعث هو عليه الصلاة والسلام وهم أحياء أو أحد منهم وجب عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه، وأن يأخذوا هذا العهد على جميع أممهم إن بعث عليه الصلاة والسلام وجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ(61/177)
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) .
قال بعض المفسرين: " ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه " (2) .
- أنه عليه الصلاة والسلام أول المسلمين وخاتم النبيين، قال تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (6) » متفق عليه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) تفسير القرآن العظيم 2 \ 378.
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) سورة الأحزاب الآية 40
(6) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب المناقب - باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم 6 \ 558 برقم 3535 واللفظ له، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين 7 \ 64.(61/178)
- كونه عليه الصلاة والسلام منة الله عز وجل على عباده، فلا هداية لهم إلا على يديه وعن طريقه الداعي إليه، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) .
- أن طاعته ومبايعته عليه الصلاة والسلام هي طاعة الله عز وجل ومبايعته، وقرن بين طاعته سبحانه وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ وجعل اتباعه عليه الصلاة والسلام موجبا لمحبته سبحانه، والأدلة على هذا كثيرة، منها قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (3) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (4) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2) سورة النساء الآية 80
(3) سورة الفتح الآية 10
(4) سورة الأنفال الآية 20
(5) سورة آل عمران الآية 31(61/179)
- أن الإيمان به عليه الصلاة والسلام مقرون بالإيمان بالله تعالى، فلا يصح إيمان من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ادعى الإيمان بالله تعالى، بل لا بد من وجود الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (2) وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3) .
- أن الله جعله رحمة مهداة للعالمين مؤمنهم وكافرهم، كما جعله رؤوفا رحيما بأمته خاصة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) ، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (5) .
- أن الله عز وجل جعل وجوده عليه الصلاة والسلام بين أمته أمنة لهم من العذاب والهلاك، بخلاف ما حصل لبعض الأمم السابقة حيث عذب بعضهم وأهلك آخرون مع وجود أنبيائهم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (6) 181
__________
(1) سورة النساء الآية 136
(2) سورة الحجرات الآية 15
(3) سورة التغابن الآية 8
(4) سورة الأنبياء الآية 107
(5) سورة التوبة الآية 128
(6) سورة الأنفال الآية 33(61/180)
- أن الله عز وجل جعل رسالته عليه الصلاة والسلام عامة لكل الناس، بخلاف ما كان عليه الأنبياء والرسل السابقون عليهم وعليه الصلاة والسلام، فقد كانوا يرسلون إلى أقوامهم خاصة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (2) ، وعن جابر رضي الله عنه: عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود (3) » - وفي البخاري: «وبعثت إلى الناس عامة- وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة (4) » متفق عليه واللفظ لمسلم.
أن الله عز وجل تكفل بحفظه وعصمته.
- كما كفاه المستهزئين فلا يصلون إليه، وتكفل أيضا بحفظ دينه من التبديل والتحريف،
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 1
(3) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(4) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التيمم- الباب الأول 1 \ 435 برقم 335، ورواه مسلم في صحيحه- كتاب المساجد ومواضع الصلاة- 2 \ 63.(61/181)
ليكون باقيا سليما معجزا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (2) {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (3) ، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4) .
-القسم بحياته، ولا يعرف هذا لغيره من الأنبياء، قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (5) .
كما أن الله تعالى أقسم له صلى الله عليه وسلم وهذا غاية التعظيم والتقدير، قال تعالى: {وَالضُّحَى} (6) {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (7) {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (8) {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (9) {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (10) .
وقال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (11) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (12) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (13) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (14) .
-أن الله عز وجل غفر له عليه الصلاة والسلام ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو حي صحيح يمشي على الأرض، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (15) {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (16) 183 {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} (17)
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الحجر الآية 94
(3) سورة الحجر الآية 95
(4) سورة الحجر الآية 9
(5) سورة الحجر الآية 72
(6) سورة الضحى الآية 1
(7) سورة الضحى الآية 2
(8) سورة الضحى الآية 3
(9) سورة الضحى الآية 4
(10) سورة الضحى الآية 5
(11) سورة النجم الآية 1
(12) سورة النجم الآية 2
(13) سورة النجم الآية 3
(14) سورة النجم الآية 4
(15) سورة الفتح الآية 1
(16) سورة الفتح الآية 2
(17) سورة الفتح الآية 3(61/182)
- شهادة الله عز وجل وملائكته له صلى الله عليه وسلم أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه المرسل للناس كلهم، كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (1) ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (2) .
- أن الله عز وجل لم يناده باسمه كما نادى غيره من الأنبياء وإنما ناداه بوصفه الشريف " الرسول " أو " النبي "، أو ما هو مشتق من حالته التي كان عليها وهما " المزمل "، " المدثر ". وهذا هو محل الدراسة في هذا البحث، لبيان معاني الآيات التي تضمنت نداء الله عز وجل إياه وتفسيرها ومعرفة الأحكام التي تضمنتها، وما اشتملت عليه من نكات بلاغية ولطائف بيانية وأسرار أسلوبية.
__________
(1) سورة النساء الآية 166
(2) سورة الفتح الآية 28(61/183)
المبحث الثاني: النداء في القرآن الكريم:
للنداء مكانة بارزة في اللغة، فله دوره في الحياة البشرية ووظيفته في التواصل بين الناس إما للحوار بينهم وإما لأغراض أخرى تفهم من السياق. وافتتاح الكلام بالنداء دليل على الاعتناء(61/183)
بما سيلقى على المخاطب، وكأنه يعد نفسه ويهيئها لتلقي ما يقال له.
وتعريفه - كما يقول النحويون -: " هو طلب المتكلم إقبال المخاطب بواسطة أحد حروف النداء، ملفوظا كان حرف النداء أو ملحوظا" (1) .
وحروفه ثمانية: الهمزة المقصورة مثل: أمحمد، الهمزة الممدودة مثل: آمحمد، أي المقصورة، آي الممدودة، يا، أيا، هيا، وتستعمل في الندبة لا غير.
و (يا) أكثر حروف النداء استعمالا، وقد ذكر بعض العلماء أنه لم يأت في القرآن نداء بغير يا، ولذلك لا يقدر غيرها من حروف النداء عند الحذف، قال ابن إياز: " القرآن المجيد مع كثرة النداء فيه لم يأت فيه نداء بغير (يا) " (2) ، وذكر نحوه ابن هشام (3) .
لكن ذكر الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة آيتين، احتملت بعض القراءات فيها أن تكون الهمزة للنداء، وذلك في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (4) ، حيث قرأ ابن كثير ونافع وحمزة (آمن) بتخفيف
__________
(1) ينظر: شرح التصريح على التوضيح 2 \ 163.
(2) ينظر: الأشباه والنظائر في النحو للسيوطي 2 \ 131.
(3) ينظر: مغني اللبيب1 \ 13.
(4) سورة الزمر الآية 9(61/184)
الميم وقرأ الباقون بتشديدها (1) .
قال الفراء: " وفسروها، يريد: يا من هو قانت، وهو وجه حسن. العرب تدعو بألف كما تدعو بيا، فيقولون: يا زيد أقبل وأزيد أقبل " (2) .
وأيضا قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (3) ، حيث قرأ طلحة (أمن) بغير فاء، قيل: " يجوز أن تكون بمعنى حرف النداء " (4) .
لكن رد هذا والذي قبله بأنه ليس في التنزيل نداء بغير يا، ولا يخلو من تكلف وكثرة حذف.
ويرى بعض الباحثين أن السر في إيثار القرآن لحرف النداء (يا) هو "أن هذه الأداة تكون الوسيلة الطبيعية في النداء إذ هي أكثرها استعمالا عند الخاصة والعامة، ولأنها أم الباب، ولأنها أخف أحرف النداء في النطق، لأنها تبدو في خفة حركتها كأنها صوت واحد، لانطلاق اللسان بها دون أن يستأنف عملا " (5) ، وقد ذكر الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة أنه بعد استقراء الآيات التي ورد فيها النداء ظهر له ما يلي:
__________
(1) ينظر: كتاب السبعة 561، التبصرة في القراءات السبع 658، النشر 2 \ 362.
(2) معاني القرآن 2 \ 416.
(3) سورة فاطر الآية 8
(4) ينظر: البحر المحيط 7 \ 301
(5) ينظر: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية 2 \ 8.(61/185)
1 - نادى الله تعالى جميع أنبيائه ورسله بأسمائهم، ونادى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بوصفه الشريف {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (1) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} (2) {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (3) {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (4)
2 - المنادى المضاف هو أكثر الأنواع في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (5) الآية. 3- جاء نداء النكرة المقصودة في بضع مواضع، كقوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (6) ، أما نداء النكرة غير المقصودة فقد جاء في موضع واحد على الاحتمال، وكذلك نداء الشبيه بالمضاف جاء في موضع واحد على الاحتمال، وهو قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (7) ، فإنه محتمل لهما ولغيرهما.
4 - الكثير في القرآن حذف (يا) النداء مع نداء (رب) ، وقد ذكرت (يا) في موضعين، هما قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (8) ، وقوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} (9) وحذفت (يا)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 64
(2) سورة المائدة الآية 41
(3) سورة المزمل الآية 1
(4) سورة المدثر الآية 1
(5) سورة النساء الآية 171
(6) سورة هود الآية 44
(7) سورة يس الآية 30
(8) سورة الفرقان الآية 30
(9) سورة الزخرف الآية 88(61/186)
في نداء الرب في خمسة وستين موضعا.
- وقع المنادى بالياء في أثناء الجملة وفي ختامها، كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وكقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} (2) (3) .
إن النداء له وجوهه البلاغية وأسراره الأسلوبية، يتبين ذلك فيما يلي:
1 - في النداء إقامة علاقة مع شخص آخر، إما للحوار معه وإما لأغراض أخرى تفهم من سياق الكلام.
2 - فيه حث على الاهتمام بموضوع الكلام ودعوة للتبصر فيه، مما يعطي المضمون قيما رمى إليها المنادي، قال العز بن عبد السلام:
" النداء تنبيه للمنادى ليسمع ما يلقى إليه بعد النداء من الكلام ليعمل بمقتضاه، ولذلك كثر النداء في القرآن " (4) .
3 - فيه توجيه الأنظار إلى المنادى وتركيز الاهتمام حوله.
4 - أن فيه ضربا من الإيجاز واختصارا للكثير من الكلام.
5 - أن فيه تلوينا للكلام والتفاتا بليغا يرغب في استمالة المخاطب، ويبعث الاطمئنان في نفس السامع (5) .
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة طه الآية 95
(3) دراسات لأسلوب القرآن الكريم 1 \ 3، 624، 625.
(4) ينظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز ص 333.
(5) ينظر: النداء في اللغة والقرآن 160، 161.(61/187)
وقد يخرج النداء عن معناه الأصلي إلى معان أخرى تفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال، ومما ورد في القرآن:
ا- إظهار التحسر، كقوله تعالى: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} (1) .
2 - الإهانة، كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} (2) .
3 - إظهار الشفقة والعطف، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (3) .
4 - التأنيس والتلطف، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (4) {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (5) وغير ذلك.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 31
(2) سورة الواقعة الآية 51
(3) سورة الصف الآية 5
(4) سورة المزمل الآية 1
(5) سورة المدثر الآية 1(61/188)
الفصل الأول: أساليب نداء الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام:
المبحث الأول: النداء بصفة الرسالة:
جاء في آيتين:
أ - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 41(61/188)
جاء في سبب نزول الآية أقوال منها:
أولا: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: إلى قوله: يقول: ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم
__________
(1) رواه مسلم مع شرح النووي في صحيحه- كتاب الحدود- باب حد الزنا، 11 \ 209، 210.
(2) مسودا وجهه بالفحم، القاموس (حمم) 4 \ 101. (1)
(3) سورة المائدة الآية 41 (2) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}(61/189)
بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى:،، في الكفار كلها (4) » .
ثانيا: أنها نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه (5) ، قاله ابن عباس.
ثالثا: أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو الذبح فلا تنزلوا على حكم سعد قاله السدي (6) ، والصحيح القول الأول.
في هذه الآية نداء من الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام بـ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} (7) تشريفا له ورفعة لقدره وبيانا لعلو منزلته، حيث لم يناده باسمه العلم، وفي هذا تعليم وتأديب
__________
(1) سورة المائدة الآية 41 (3) {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}
(2) سورة المائدة الآية 44 (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
(3) سورة المائدة الآية 45 (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
(4) سورة المائدة الآية 47 (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
(5) ينظر: جامع البيان 6 \ 150 تفسير القرآن العظيم 2 \ 58، الدر المنثور3 \ 74، 75.
(6) ينظر: جامع البيان 6 \ 149، 150، الدر المنثور 3 \ 78.
(7) سورة المائدة الآية 41(61/190)
للمؤمنين، يتضمن النهي عن مخاطبته باسمه، والأمر بأن يخاطبوه بوصفه، وهكذا كان يدعوه الصحابة. ولما جهل هذا الأدب بعض الأعراب لما كانوا عليه من خشونة البادية وجفائها فكانوا ينادونه باسمه (يا محمد) أنزل الله عز وجل: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (1) الآية (2) .
وقد نهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية عن الحزن والأسى على كفر هاتين الطائفتين، المنافقين {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) أي: أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فإن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لم يعدل به صاحبه غيره، ولم يبغ به بدلا.
{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} (4) أي: اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} (5) أي: مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم وأئمتهم، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي، وهؤلاء الرؤساء والأئمة المتبعون {لَمْ يَأْتُوكَ} (6) بل أعرضوا عنك، وفرحوا بما عندهم من الباطل {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (7) أي: يتأولونه على غير تأويله الحق، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (8) أي: يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) ينظر: لباب النقول 162، التفسير الكبير 11 \ 238، البحر المحيط 3 \ 487.
(3) سورة المائدة الآية 41
(4) سورة المائدة الآية 41
(5) سورة المائدة الآية 41
(6) سورة المائدة الآية 41
(7) سورة المائدة الآية 41
(8) سورة المائدة الآية 41(61/191)
بهذا الحكم الذي يوافق هواكم فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك.
وقوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (1) كقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (3) فلذلك صدر منهم ما صدر من اتباع الهوى والإعراض عن الحق {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} (4) أي: فضيحة وعار {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) أي: النار وما فيها (6) .
2 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (7) .
جاء في سبب نزول هذه الآية أقوال منها:
أولا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم، فينزل تحتها، وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة
__________
(1) سورة المائدة الآية 41
(2) سورة القصص الآية 56
(3) سورة المائدة الآية 41
(4) سورة المائدة الآية 41
(5) سورة المائدة الآية 41
(6) ينظر: تفسير القرآن العظيم 2 \ 58، 59، تفسير التحرير والتنوير 6 \ 194، 195.
(7) سورة المائدة الآية 67(61/192)
ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فأيقظه: فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله» فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) الآية.
ثانيا: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال: ألا رجل صالح يحرسنا الليلة؟ فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال من هذا؟ قال سعد وحذيفة: جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه، ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم، وقال: انصرفوا يا أيها الناس، فقد عصمني الله (2) » .
ثالثا: ما رواه الحسن البصري ومجاهد وابن جريح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهاب قريشا ويخشى تكذيبهم إياه،
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) جاء الحديث بهذا اللفظ في أسباب النزول للواحدي 233، 234، ورواه الطبري مختصرا في تفسيره 6 \ 197، وكذا الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير 2 \ 313 وقال: '' هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه '' ووافقه الذهبي، والحديث في صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم- باب فضل سعد بن أبي وقاص 7 \ 124، لكن بدون ذكر نزول الآية.(61/193)
فأنزل الله هذه الآية (1) » .
في هذه الآية نادى ربنا عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بوصفه الشريف: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} (2) ثم أمره بتبليغ ما أنزل إليه، فكان نداؤه بهذا الوصف في غاية المناسبة، حيث اصطفاه الله عز وجل وشرفه وأعلى قدره، وحمله تبليغ هذا الدين ودعوة الناس إليه، معتصما به سبحانه، واثقا بنصره وإعانته، معرضا عما سواه.
والمراد بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (3) الديمومة في ذلك وألا يتوقف عند أي عارض، غير مراقب في ذلك أحدا، ولا خائف أن يناله مكروه أبدا.
قال ابن عاشور: وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله: {إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (4) إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والناس، إذ جعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم، كما قال في آية آل عمران: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (5) ، وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (6) وفي تعليق الإنزال بأنه من الرب تشريف للمنزل.
__________
(1) ينظر: جامع البيان 6 \ 198، أسباب النزول للواحدي 232، 233، الدر المنثور 3 \ 116، 117.
(2) سورة المائدة الآية 67
(3) سورة المائدة الآية 67
(4) سورة المائدة الآية 67
(5) سورة آل عمران الآية 199
(6) سورة النحل الآية 44(61/194)
والإتيان بلفظ الرب هنا دون اسم الجلالة؛ لما في التذكير بأنه ربه من معنى كرامته، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه كما ينبغي من التعجيل والإشاعة، والحث على تناوله والعمل بما فيه.
وقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) أي: إذا لم تبلغ جميع ما أنزل إليك، فتركت بعضه لم تكن مبلغا رسالته؛ لأن كتمان البعض مثل كتمان الجميع في الاتصاف بعدم التبليغ، وجاء الشرط بـ (إن) التي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط؛ لأن عدم التبليغ غير مظنون به صلى الله عليه وسلم، وإنما فرض هذا الشرط ليبنى عليها الجواب، وهو قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2) وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (3) افتتح باسم الجلالة للاهتمام به؛ لأن المخاطب والسامعين يترقبون عقب الأمر بتبليغ كل ما أنزل إليه أن يلاقي عنتا وتكالبا عليه من أعدائه، فافتتح تطمينه بذكر اسم الله؛ لأن المعنى: هذا ما عليك، وأما ما علينا فالله يعصمك، والعصمة هنا: الحفظ والوقاية من كيد أعدائه، وقد جاء الوعد بها في القرآن أيضا، قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} (4) (5) .
وقد يقال: أين ضمان العصمة وقد شج وجهه عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد وكسرت رباعيته؟ .
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة المائدة الآية 67
(3) سورة المائدة الآية 67
(4) سورة البقرة الآية 137
(5) تفسير التحرير والتنوير 6 \ 259، 262 بتصرف.(61/195)
قيل: المراد أنه يعصمه من القتل وأما دون ذلك من أنواع الأذى فذلك مما ناله عليه الصلاة والسلام؛ ليكون قدوة وأسوة لأمته.
وفيه التنبيه على أنه يجب عليه أن يتحمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء، وقيل: إن الآية نزلت بعد يوم أحد (1) .
وقد أعيد افتتاح الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم بوصف الرسول إشعارا بمنتهى شرفه، ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثاني موقع زائد على موقعه في الخطاب الأول (2) ، فكما ثبت جنانه بالخطاب الأول أن لا يهتم بمكائد أعدائه ومسارعتهم في الكفر وإعراضهم عنه، حذر بالخطاب الثاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن وأحكامه وشرائعه، خشية إعراضهم أو أذاهم (3) .
وهنا ذكر بعض الباحثين: أنه يتجه النداء في القرآن الكريم إلى رسولنا عليه الصلاة والسلام بصيغة (يا أيها الرسول) حينما يكون الحديث عن رسالته العامة، أو عما يعترضها من معوقات،
__________
(1) وهو قوله: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية 41
(2) ينظر: الكشاف 1 \ 631، التفسير الكبير 12 \ 53، تفسير التحرير والتنوير 6 \ 263.
(3) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 6 \ 257(61/196)
وذلك كما في هاتين الآيتين، ويتجه النداء بصيغة (يا أيها النبي) فيما عدا الحالين السابق ذكرهما، وذلك حينما يكون الغرض توجيه الرسول عليه الصلاة والسلام في شأن عام أو خاص به وبأهله، وذلك في ثلاث عشرة آية.(61/197)
المبحث الثاني: النداء بصفة النبوة:
جاء ذلك في ثلاث عشرة آية:
1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) في هذه الآية نداء للنبي صلى الله عليه وسلم بوصف النبوة إشعارا برفعة قدره وعلو منزلته، واعتناء بمضمون الخطاب وما يدل عليه من أوامر وتعاليم عظيمة، مهد لقبولها وتسهيلها بما سبق في السورة من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين، وأن الفلاح والخير في طاعة الله عز وجل وطاعته (2) .
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أن الله كافيك وحافظك وناصرك ومؤيدك وكافي أتباعك المؤمنين وناصرهم فلا تحتاجون مع الله إلى أحد، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وهو اختيار المحققين من أهل
__________
(1) سورة الأنفال الآية 64
(2) ينظر: روح المعاني 10 \ 30، تفسير التحرير والتنوير 10 \ 65.(61/197)
العلم، وهذا القول هو مقتضى كمال التوحيد، وهو كفاية الله له ولهم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1) ، فالحسبلة مقتضى التوكل، وإنما يكون التوكل على الله وحده، كما قال لنبيه: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (2) أي: عليه وحده، بدلالة تقديم الظرف، ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة (3) .
الثاني: أن المعنى: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، فإن الله ينصرك بهم، وهذا قول مرجوح لما سبق.
2 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (4) .
تكرر النداء مرة أخرى لنبينا صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه؛ تكريما له ورفعة لقدره، وللتنويه بشأن الكلام الوارد بعد
__________
(1) سورة آل عمران الآية 173
(2) سورة الزمر الآية 38
(3) ينظر: تفسير المنار 10 \ 74.
(4) سورة الأنفال الآية 65(61/198)
النداء، وإظهارا لكمال الاعتناء بشأن المأمور به، وهو المبالغة في الحث على القتال (1) ، قال الراغب: " التحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه " (2) .
ثم وعدهم بأنهم إن صبروا في قتال الكفار، الواحد لعشرة غلبوا بعون الله وتأييده، وذلك متى احتسبوا أنفسهم في سبيل الله وثبتوا عند لقاء عدوهم.
وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (3) بيان لسبب انتصار المؤمنين عليهم، وهو أن الكفار قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى وطاعته وإعلاء لكلمته كما يفعل المؤمنون، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان، فلا يستحقون- والحالة هذه- إلا القهر والخذلان، وقيل: لأن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد، والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها، ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب، فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية، وإنما السعادة في الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا، ولا يلتفت إليها، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير (4) .
__________
(1) ينظر: روح المعاني 10 \ 30، تفسير التحرير والتنوير 10 \ 66.
(2) المفردات 113.
(3) سورة الأنفال الآية 65
(4) ينظر: جامع البيان 10 \ 27، التفسير الكبير 15 \ 199، روح المعاني 10 \ 30، 31.(61/199)
ثم نسخ هذا الأمر في الآية بالآية التي بعدها، قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) شق ذلك على المسلمين، حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (3) قال: " فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم ".
3 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
هذه الآية والتي تليها: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (5) متممتان للكلام في أسرى بدر، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرغبهم في الإسلام وبيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وبتهديدهم وإنذارهم عقاب بقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم، ويتضمن
__________
(1) سورة الأنفال الآية 66
(2) سورة الأنفال الآية 65
(3) سورة الأنفال الآية 66
(4) سورة الأنفال الآية 70
(5) سورة الأنفال الآية 71(61/200)
ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين (1) .
وقد جاء في سبب نزولها في أسارى بدر عدة ألفاظ، منها ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} (2) كان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية (3) من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا، إني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله (4) ، والخطاب للعباس ولغيره (5) .
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للأسرى الذين في يده وأيدي أصحابه ممن أخذوا منهم الفداء: إن يعلم الله في قلوبكم إسلاما وتصديقا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء ويغفر لكم جرمكم الذي أجرمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله، وإن يريدوا غدرا وخيانه بإظهار خلاف ما في أنفسهم، فقد خانوا الله من قبل حيث خالفوا أمره من قبل وقعة بدر، فأمكن منهم المؤمنين ببدر، والله عليم بما يقولون
__________
(1) ينظر: التفسير الكبير 15 \ 211، تفسير المنار 10 \ 100.
(2) سورة الأنفال الآية 70
(3) أوقية: سبعة مثاقيل وأربعون درهما، القاموس (وقى) 4 \ 401.
(4) ينظر: جامع البيان 10 \ 35، أسباب النزول 276، 277، الدر المنثور 4 \ 111 - 113.
(5) ذكر الرازي في التفسير الكبير 15 \ 211، 212 ستة أوجه من الآية للدلالة على أنها عامة.(61/201)
بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم، حكيم في تدبير أمور خلقه (1) .
__________
(1) ينظر: جامع البيان 10 \ 34 - 36.(61/202)
4- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1) .
في هذه الآية يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين مع الغلظة والشدة عليهم وعدم اللين معهم، وسبب أمره صلى الله عليه وسلم بهذا لأنه جبل على الرحمة والرأفة بالأمة، فأمر بأن يتخلى عن جبلته في حق الكفار والمنافقين، وأن لا يغضي عنهم ويتسامح معهم كما كان شأنه من قبل، وجمع في الآية جهاد هاتين الفئتين لإلقاء الرعب في قلوبهم، فإن كل واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامل معاملة الكفار والمحاربين، فيكون ذلك قاطعا لدابرهم ومستأصلا لشوكتهم (2) .
أما جهاد الكفار فظاهر، وأما جهاد المنافقين فمختلف في المراد به، لأنهم غير مظهرين للكفر بل ظاهرهم الإسلام، وهم مع المسلمين في غالب أحوالهم، قال ابن عباس: " أمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم " (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 73
(2) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 10 \ 266، 267.
(3) رواه الطبري في تفسيره 10 \ 126.(61/202)
وقال الحسن وقتادة: " جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحدود، أقم حدود الله عليهم " (1) ، واستشكل هذا القول بأن إقامة الحدود واجبة على غيرهم أيضا، فلا يختص ذلك بهم (2) .
وقيل: جاهد الكفار والمنافقين معا باليد واللسان وبكل ما أطاق جهادهم، روى الطبري عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (3) قال: " بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه" (4) واختار هذا القول الطبري ثم قال: " فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟
قيل: إن الله - تعالى ذكره - إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك، وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك له دمه وماله، وإن كان معتقدا غير ذلك، وتوكل هو- جل ثناؤه- بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر " (5) .
__________
(1) رواه عنهما الطبري في تفسيره 10 \ 126، 127
(2) ينظر: روح المعاني 10 \ 137.
(3) سورة التوبة الآية 73
(4) ينظر: جامع البيان 10 \ 126
(5) ينظر: جامع البيان 10 \ 127، وذهب إلى هذا ابن كثير في تفسيره 2 \ 371.(61/203)
فلا غرو إذا أن يكون جهاد المنافقين فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط وحرج بين رحمته صلى الله عليه وسلم ولينه مع المؤمنين المخلصين، وبين شدته في قتاله الأعداء الحربيين، مما يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم (1) .
5 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) .
في هذه الآية نداء من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بوصفه الشريف (النبي) وترك نداءه باسمه كرامة له وتشريفا وإعلاء لمحله وتنويها بفضله وجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، ولأن مواجهة العظماء بأسمائهم في النداء لا تليق بخلاف الإخبار عنهم (3) .
وهذا هو النداء الأول في هذه السورة، افتتح به؛ لأن غرضه والمراد منه هو الأصل، حيث تضمن الأمر بالتقوى وواجب تأدية رسالة ربه على أكمل وجه، دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، سيرا على منهج الله مع التوكل عليه وحده، وما بعده من النداءات الأربعة مندرجة أغراضها في هذا الغرض الأساس (4) .
__________
(1) ينظر: تفسير المنار 10 \ 551.
(2) سورة الأحزاب الآية 1
(3) ينظر: الكشاف 3 \ 248، البحر المحيط 7 \ 210، روح المعاني 21 \ 143، حاشية الشهاب 7 \ 457.
(4) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 21 \ 249، 250.(61/204)
وقد اختلف في المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالتقوى مع أنه خير المتقين على الإطلاق، أعرف الناس بالله وأشدهم له خشية، فقيل: المراد واظب على ما أنت عليه من التقوى واثبت عليه وازدد منه، وذلك لأن التقوى باب عظيم لا يبلغ آخره، وقيل: المراد الازدياد من التقوى فإن مراتبها لا تتناهى، فكان عليه الصلاة والسلام يزداد علمه وتقواه واستغفاره، وتتجدد له هذه المقامات، على حد قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة (1) » . وقيل: إن هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بتقواه وهو خير المتقين، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى، وأمره صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل مانع له من طاعة الكافرين والمنافقين ومتابعتهم، وخص الكافرين والمنافقين بالذكر هنا ليشمل من هو معلن كفره مصرح به، أو من هو متستر باسم الإسلام وهو مبطن للكفر، سواء قرب أم بعد، ثم أمره باتباع ما يوحى إليه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين، قال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2) ، ثم أمره بالتوكل عليه
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 8 \ 72 عن الأغر المزني رضي الله عنه.
(2) سورة الأحزاب الآية 2(61/205)
وتفويض الأمور إليه، وهو خير حافظا موكولا إليه كل الأمور، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1) ، وجاء الإظهار في لفظ الجلالة مقام الإضمار للتعظيم والتقرير (2) .
6 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (3) {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) .
ذكر الرازي وجه تعلق هذا النداء بما قبله من النداء الأول، وهو " أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين، التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. . . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (5) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة (6) .
وافتتاح هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (7) تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به، وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 3
(2) ينظر: التفسير الكبير 25 \ 191، 192، البحر المحيط 7 \ 210، 211، روح المعاني 21 \ 144.
(3) سورة الأحزاب الآية 28
(4) سورة الأحزاب الآية 29
(5) سورة الأحزاب الآية 1
(6) التفسير الكبير 25 \ 206، وانظر: روح المعاني 21 \ 182.
(7) سورة الأحزاب الآية 28(61/206)
مرتبة النبوة ومقام الرسالة (1) .
وقد ثبت في الصحيحين في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا قول عائشة: «فأنزلت آية التخيير فبدأ بي أول مرة، فقال: إني ذاكر لك أمرا، ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: إن الله قال: إلى قوله: قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة (4) » .
فقد خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بأمر الله له أن يقول: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (5) أي: السعة والتنعيم فيها {وَزِينَتَهَا} (6) أي: زخرفها ومباهجها، {فَتَعَالَيْنَ} (7) أي: أقبلن بإرادتكن واختياركن {أُمَتِّعْكُنَّ} (8) أي: أعطكن متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (9) التسريح في الأصل مطلق الإرسال كني به عن الطلاق {جَمِيلًا} (10) أي: ذا حسن كثير، بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي، وقيل: الطلاق
__________
(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 21 \ 315.
(2) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب تفسير قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية 8 \ 519 برقم 4785، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الطلاق- باب بيان آن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية 4 \ 185، 186.
(3) سورة الأحزاب الآية 28 (2) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}
(4) سورة الأحزاب الآية 29 (3) {أَجْرًا عَظِيمًا}
(5) سورة الأحزاب الآية 28
(6) سورة الأحزاب الآية 28
(7) سورة الأحزاب الآية 28
(8) سورة الأحزاب الآية 28
(9) سورة الأحزاب الآية 28
(10) سورة الأحزاب الآية 28(61/207)
الخالي عن الخصومة والمشاجرة والإيذاء (1) . وفي تقديم التمتيع على التسريح مع أنه في الواقع بعده، ما يدل على كرمه عليه الصلاة والسلام وحسن خلقه، وفي ذلك إيناس لهن وقطع لمعاذيرهن من أول الأمر، حيث سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة وتوسعة الحال (2) .
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} (3) أي: تردن رضا الله لما يريده رسوله وهو البقاء في عصمته، ونعيم الدار الآخرة الباقي، وتؤثرن ذلك على هذه الدنيا الفانية {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ} (4) أي: هيأ ويسر {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} (5) جزاء إحسانهن {أَجْرًا عَظِيمًا} (6) لا تحصى كثرته ولا تستقصى عظمته، قال الرازي: " الأجر العظيم: الكبير في الذات، الحسن في الصفات، الباقي في الأوقات " (7) .
ولما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤي الفرح في وجهه مسرورا بذلك، فشكرهن الله على ذلك فجعلهن أمهات المؤمنين، وقصره عليهن فلم ينكح بعدهن، قال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (8) الآية.
__________
(1) ينظر: جامع البيان21 \ 99، 100، روح المعاني 21 \ 181، 182
(2) . ينظر: البحر المحيط 7 \ 227، أنوار التنزيل للبيضاوي 4 \ 61، روح المعاني 21 \ 181
(3) سورة الأحزاب الآية 29
(4) سورة الأحزاب الآية 29
(5) سورة الأحزاب الآية 29
(6) سورة الأحزاب الآية 29
(7) التفسير الكبير 25 \ 207
(8) سورة الأحزاب الآية 52(61/208)
فرفع الله محلهن وأجل قدرهن، وجعلهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وشاهدن من أحواله وأفعاله وأقواله بالليل والنهار ما لم يكن لغيرهن، فكن أشد تعلقا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرص الناس على اقتفاء أثره والتمسك بسنته، وقد ذكرهن الله ذلك تذكيرا بديعا بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1) الآية (2) .
7- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4) .
هذا هو النداء الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، فإن الله تعالى لما أبلغه بالنداء الأول: ما هو متعلق بذاته، وبالنداء الثاني: ما هو متعلق بأزواجه، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه تنويها بشأنه وزيادة رفعة في قدره، وبين له أركان رسالته، ذكر له هنا خمسة أوصاف هي: شاهد، مبشر، نذير، داع إلى الله، سراج منير، فهذه الأوصاف تنطوي على مجامع الرسالة وعليها تقوم الدعوة إلى هذا الدين، ولذلك اقتصر
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 34
(2) ينظر: روح المعاني 21 \ 182، حاشية زادة على البيضاوي 4 \ 62، تفسير التحرير والتنوير 21 \ 317
(3) سورة الأحزاب الآية 45
(4) سورة الأحزاب الآية 46(61/209)
عليها من بين أوصافه الكثيرة (1) . وقيل: إن السورة فيها تأديب وتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه، فقوله في ابتدائها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (2) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (3) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} (4) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق (5) .
__________
(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 22 \ 52.
(2) سورة الأحزاب الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 28
(4) سورة الأحزاب الآية 45
(5) ينظر التفسير الكبير 25 \ 217.(61/210)
فأول أوصافه: أنه شاهد، وقد اختلف في المراد به، فقيل: يكون شاهدا على الخلق يوم القيامة بما بلغهم، كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) ، وقيل: إنه شاهد أن لا إله إلا الله، وقيل: شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وبأعمال الخلق، كما قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (2) .
الوصف الثاني والثالث: قوله: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) فيه ترتيب حسن فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل شاهدا مبلغا لا إله إلا الله، مرغبا في ذلك، يبشرهم بالجنة إن صدقوه وآمنوا به
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة النساء الآية 41
(3) سورة الأحزاب الآية 45(61/210)
وعملوا بما جاءهم به من ربه،، ونذيرا من النار أن يدخلوها إن هم كذبوه ولم يؤمنوا به وخالفوا ما جاءهم به، وقدم التبشير على الإنذار لشرف المبشرين وعظيم ثوابهم، ولأنه المقصود الأصلي، إذ هو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.
الوصف الرابع: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (1) أي: يدعو الناس إلى توحيده سبحانه وإلى سائر ما يجب الإيمان به وطاعته والحذر من معصيته، والوقوع في نواهيه، وقوله: {بِإِذْنِهِ} (2) أي: بأمره إياك بذلك.
الوصف الخامس: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) أي: ضياء ينير لمن استضاء بضوئه، وهو النور الذي أتى به الخلق من عند الله، فهو يهدي به من اتبعه من أمته، مؤمنا به عاملا بما يأمرهم به، تاركا ومجانبا ما حذرهم منه، وما أتاهم به مبرهن عليه، مظهر على غيره بأوضح الحجج وأصدق الأدلة.
وبولغ في الوصف بالإنارة، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودق فتيله، فهو كوصف الشيء بالمشتق من لفظه كقولهم: شعر شاعر وليل أليل، أو من معناه كالآية، لإفادة قوة معنى الاسم في الموصوف به، فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أوضح الهدي وإرشاده أبلغ الإرشاد، فهو كالسراج الوقاد الذي يضيء ظلمة المكان، فهديه ودعوته واضحة لا لبس فيها، لا تترك باطلا إلا فضحته ولا شبهة إلا أزالتها، وهو القائل:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 46
(2) سورة الأحزاب الآية 46
(3) سورة الأحزاب الآية 46(61/211)
«قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (1) » .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
8- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3)
__________
(1) جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في مسنده 4 \ 126، وابن ماجه في سننه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1 \ 13، 14، وفي السلسلة الصحيحة 2 \ 647، 648 برقم 937.
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 50(61/212)
قال ابن عاشور: " نداء رابع خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به، هو بيان ما أحل له من الزوجات والسراري، وما يزيد عليه وما لا يزيد، مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به، أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه، أو مما روعي في تخصيصه به علو درجته " (1) .
فالآية امتنان وتذكير بنعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه عز وجل قد اختار لرسوله عليه الصلاة والسلام الأفضل والأولى واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغير ذلك من الخصائص وآثره بما سوى ذلك، مما فيه رفعة قدره، وعلو منزلته، ومما جاء في الآية على وجه الإجمال:
قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (2) أي: أعطيتهن مهورهن، وتسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وسوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، لا يعرف بينهم غيره، وفي التعجيل بإعطاء المهر براءة الذمة وطيب النفس وأولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير 22 \ 62.
(2) سورة الأحزاب الآية 50(61/213)
وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (1) فالجارية التي سباها الرجل بنفسه وغنمها في الحرب أحل وأطيب من التي اشتراها من غيره، لأنه لا يدري كيف حالها، ولأن الله قال: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (2) وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أن رزق الله يطلق على الحلال دون الحرام، وأولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} (3) أي: نكاح اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه، والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة والمقارنة فيها، يقال: دخل فلان معي في كذا، أي: كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان.
قال الحافظ ابن كثير: " هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا شنيع فظيع " (4) .
وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (5) أي:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 50
(2) سورة الأحزاب الآية 50
(3) سورة الأحزاب الآية 50
(4) تفسير القرآن العظيم 3 \ 499.
(5) سورة الأحزاب الآية 50(61/214)
وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها، ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وذلك تكرمة لنبيه وإجلالا لقدره، وجاء الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} (2) للإيذان والإعلام بأن هذا الحكم مما خص به تكرمة له، لأجل النبوة، وتكريم تفخيم له، وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته وفي ذلك تزكية لفعل المرأة التي تهب نفسها له بأنها راغبة لكرامة النبوة وجليل قدر الرسالة، فأرادت أن تكون في عداد أهل بيته ومن يشرف بخدمته، ويقرب من هديه وحاله.
أما قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (3) فجملة اعتراضية، معناها: أن ما ذكر فرضك وحكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل أحد المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن له في النكاح وغيره خصائص ليست لغيره.
أما قوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} (4) فتعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في الآية من التوسعة في الازدياد مما خص به عن أمته وفيما ساواهم فيه، فلم يضيق عليه، وهذا تعليم وامتنان، وقد سلك عليه الصلاة والسلام في الأخذ بهذه التوسعات والعيش مع هذه المنن والكرامات التي رفع الله بها قدره مسلك الكمل من عباده وهو أكملهم، فكان عبدا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 50
(2) سورة الأحزاب الآية 50
(3) سورة الأحزاب الآية 50
(4) سورة الأحزاب الآية 50(61/215)
شكورا لما خص به من اختيار وإباحة ما هو أولى وأفضل.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) أي: كثير المغفرة فيغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها {رَحِيمًا} (2) أي واسع الرحمة، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج، ولم يعاقبهم على سالف ذنب منهم بعد توبتهم منه.
9 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
قال أبو حيان: " كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان (4) للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن. . . وقوله: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 50
(2) سورة الأحزاب الآية 50
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) الغيطان: جمع غائط، وهو المطمئن الواسع من الأرض، القاموس (غوط) 2 \ 376.
(5) سورة الأحزاب الآية 59(61/216)
النساء إلى دليل واضح " (1) .
وقد جاء في سبب نزول الآية عدة روايات، منها: ما روته عائشة رضي الله عنها «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - فكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فنادها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (3) » . وعن أنس رضي الله عنه قال: «قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب (4) » .
وكان البدء بأزواجه وبناته عليه الصلاة والسلام لشرفهن ورفعة قدرهن، فأفردهن بالذكر اهتماما بذلك، فهن من أهل
__________
(1) البحر المحيط 7 \ 250
(2) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب الوضوء - باب خروج النساء إلى البراز 1 \ 248، برقم 146، ومسلم في صحيحه بشرح النووي - كتاب السلام - باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان 14 \ 152.
(3) المناصع: جمع منصع، مواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة، القاموس (نصع) 3 \ 89. (2)
(4) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب التفسير- باب تفسير لا تدخلوا بيوت النبي 8 \ 527، برقم 4790.(61/217)
بيته (1) ، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2) .
ومعنى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (3) أي: ذلك أقرب أن يعرفن ويميزن لتسترهن بالحجاب والعفة، فلا يتعرض لهن أحد ولا يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت في غاية من التستر لم يقدم عليها فاسق، بخلاف المتبرجة، فإنه مطموع فيها (4) .
وقد كان من المؤمنات الامتثال والانقياد لأمر الله والاستجابة له ولرسوله عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة رضي الله عنها: «رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت: الآية، شققن مروطهن فاعتجرن (8) » ، وعن أم سلمة رضي الله عنها
__________
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم 3 \ 518، تفسير التحرير والتنوير 22 \ 106.
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) ينظر: البحر المحيط 7 \ 250، روح المعاني 22 \ 89.
(5) ذكره السيوطي في الدر المنثور 6 \ 660، عنها وعزاه لابن مردويه، وروى البخاري نحوه في التفسير، ورواه أبو داود برقم 4100 في اللباس.
(6) سورة الأحزاب الآية 59 (5) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}
(7) المروط: جمع مرط، كساء من صوف أو خز، القاموس (مرط) 2 \ 385 (6)
(8) (7) بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان(61/218)
قالت: «لما نزلت هذه الآية: خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها (2) » .
10 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
اشتملت الآية على بيان بيعة النساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تعددت مواضع ذلك، فوقع ذلك بعد فتح مكة، ووقع أيضا في المدينة، وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد النساء بذلك بعد صلاة العيد وغيرها (4) .
مع شفقته عليه الصلاة والسلام ورحمته بهن وعدم تكليفهن ما لا يطقنه، والعفو عما كان منهن قبل ذلك، وكان لا يصافحهن بل كانت بيعتهن من وراء حجاب.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر أسفل منه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة بين النساء، خوفا من رسول الله صلى الله
__________
(1) رواه عبد الرزاق في تفسيره 2 \ 123.
(2) سورة الأحزاب الآية 59 (1) {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
(3) سورة الممتحنة الآية 12
(4) ينظر: جامع البيان 28 \ 51، تفسير القرآن العظيم 4 \ 352 - 356.(61/219)
عليه وسلم أن يعرفها، فقال عليه الصلاة والسلام: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، فرفعت هند رأسها وقالت: والله لقد عبدنا الأصنام، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد. وفي رواية: قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ - تعني: أن هذا بين لزومه - فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات، فما أدري أتحل لي أم لا؟
فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: فقالت: أو تزني الحرة؟! فقال عليه الصلاة والسلام: فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا، فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (5) » .
__________
(1) ينظر: الكشاف 4 \ 95، التفسير الكبير 29 \ 308، الدر المنثور 8 \ 140، ورواه الطبري في تفسيره مختصرا عن ابن عباس من طريق العوفي 28 \ 51، وهو إسناد ضعيف فيه ضعفاء ومجاهيل كما بحث ذلك الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه تفسير الطبري 1 \ 263، 264 حاشية رقم (1) ، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 10 \ 3350 عن مقاتل بن حيان فذكره، وهذا إسناد معضل، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في الكشاف 4 \ 169: '' لم أره بسياقه '' ثم ذكر ما تقدم وسكت عنه، فالأثر لم يثبت وهو على ضعفه الشديد فيه غرابة ونكارة في بعض ألفاظه، وقد استغربه الزيلعي فقال: '' غريب بهذا اللفظ ''، تخريج الأحاديث والآثار الواردة في تفسير الكشاف 3 \ 462
(2) سورة الممتحنة الآية 12 (1) {وَلَا يَزْنِينَ}
(3) سورة الممتحنة الآية 12 (2) {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ}
(4) سورة الممتحنة الآية 12 (3) {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ}
(5) سورة الممتحنة الآية 12 (4) {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}(61/220)
وعن أميمة بنت رقيقة، قالت: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقلن: يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، فقال: إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ: فقال: فيما أطقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا (2) » .
فقد جاء في الآية أنه بايعهن على هذه الأمور الستة، وقدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح، ثم ما بعده إلى آخرها، وقيل: قدم من الأشياء المذكورة ما هو الأظهر فيما بينهم (3) .
وقوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} (4) قال الفراء: " كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى " (5) وذلك أن الولد إذا أرضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى النهي عن الزنا؛ لأن
__________
(1) ينظر: جامع البيان 28 \ 51، 52 الدر المنثور 8 \ 138، 139.
(2) سورة الممتحنة الآية 12 (1) {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}
(3) ينظر: التفسير الكبير 29 \ 310.
(4) سورة الممتحنة الآية 12
(5) معاني القرآن 3 \ 152،(61/221)
النهي عن الزنا قد تقدم (1) . وقوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (2) أي: فيما تأمرهن به من معروف، وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويدخل في هذا عموم ما نهى عنه النساء من النياحة وشق الجيوب ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة.
__________
(1) ينظر: الكشاف 4 \ 95، التفسير الكبير 29 \ 309، روح المعاني 28 \ 80.
(2) سورة الممتحنة الآية 12(61/222)
11- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) .
خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء ثم جاء الخطاب عاما له ولأمته؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه، وأنه إمام قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه، فكان وحده في حكم كلهم، وسادا
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1(61/222)
مسد جميعهم، وجاء اختيار لفظ {النَّبِيُّ} (1) لما فيه من الدلالة على علو مرتبته ورفعة قدره عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله - حكاية عن فرعون -: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} (2) . فأفرد موسى عليه السلام بالنداء؛ لأنه كان أجل الاثنين والمقدم فيهما عليهما السلام ثم عمهما بالخطاب (3) ، وقيل: المعنى يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء، فأضمر القول، فالله عز وجل خاطبه وجعل الحكم للجميع، كما يقال للرجل: ويحك أما تتقون الله! أما تستحون منه! تذهب إليه وإلى أهل بيته، على سيبل تلوين الخطاب (4) .
وقيل: النداء له ولأمته، فحذف نداء الأمة، والتقدير: يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، فالخطاب له ولهم، أي: أنت وأمتك (5) . وقيل: إنه بعدما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته، تكريما له صلى الله عليه وسلم؛ لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما وإجلالا لقدره (6) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة طه الآية 49
(3) ينظر: الكشاف وحاشية الإنصاف عليه 4 \ 117.
(4) ينظر: التفسير الكبير 30 \ 29، تفسير القرآن العظيم 4 \ 377، البحر المحيط 8 \ 281.
(5) ينظر: البحر المحيط 8 \ 281، روح المعاني 28 \ 128، 129.
(6) ينظر: روح المعاني 28 \ 128.(61/223)
وقد اختلف في سبب نزول الآية:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها، فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة (2) » .
وعن «عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليراجعها. فردها، وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن (3) » .
__________
(1) رواه ابن كثير في تفسيره 4 \ 379 وعزاه لابن أبي حاتم في تفسيره هكذا موصولا، ورواه الطبري في تفسيره 28 \ 58 مرسلا عن قتادة، وذكره السيوطي في لباب النقول 215، والدر المنثور 8 \ 189 وعزاه لابن المنذر عن ابن سيرين مرسلا.
(2) سورة الطلاق الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
(3) رواه مسلم في صحيحه مع شرح النووي بهذا اللفظ، كتاب الطلاق 10 \ 69، والحديث قد جاء بعدة ألفاظ منها ما رواه البخاري في صحيحه مع الفتح - كتاب الطلاق - باب قول الله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن الآية 9 \ 345، 346، برقم 5251، ومسلم في صحيحه مع شرح النووي - كتاب الطلاق 10 \ 59- 61 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: '' أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ''.(61/224)
وعن مقاتل قال: " بلغنا في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) أنها نزلت في عبد الله بن عمرو بن العاص، وطفيل بن الحارث، وعمرو بن سعيد بن العاص " (2) .
ومعنى الآية: إذا أردتم الطلاق فالتمسوا لطلاقهن الأمر المشروع، ولا تبادروا بالطلاق من حين يوجد سببه، بل طلقوهن لأجل عدتهن، بأن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه أو وهي حامل، وهذا هو طلاق السنة، أما طلاق البدعة فأن يطلقها وهي حائض، أو في طهر جامعها فيه.
وذلك أمر بإحصاء العدة وذلك ضبطها إن كانت تحيض، أو بالأشهر إن لم تكن تحيض وليست حاملا، وذلك لما يترتب عليها من الحقوق، فلا بد من معرفة بدايتها لتعرف نهايتها، والخطاب موجه للزوج وللمرأة إن كانت مكلفة أو لوليها، وأمر بتقواه جل وعلا والخوف منه، وأمر بعدم إخراجها من بيتها زمن العدة بل تلزم بيت زوجها ولا يجوز لها أن تخرج منه، فإن لها الحق في النفقة والسكنى، وتستمر على تلك الحال إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، أي بأمر قبيح واضح موجب لإخراجها، قيل:
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) ذكره السيوطي في الدر المنشور 8 \ 189، ولباب النقول 215، وعزاه لابن أبي حاتم عنه.(61/225)
هو الزنا، وقيل: إدخال الضرر على أهل البيت بأذيتها لهم بالقول والفعل، فهي التي تسببت في إخراج نفسها، وقد كان سكنها جبرا لخاطرها ورفقا بها، وهذا في المعتدة الرجعية، أما المطلقة البائن فلا نفقة لها ولا سكنى.
وما سبق من هذه الأحكام من حدود الله التي وضعها لعباده، فالواجب التزامها والوقوف عندها ولا يجوز تعديها، ففيها الخير والمصالح، ومن ذلك أن في بقاء المطلقة طلاقا رجعيا في بيت زوجها مصلحة عظيمة، فلعله يحدث في قلب زوجها الرحمة والمودة لها، ولعله أن يرى منها ما يعجبه فتميل نفسه إليها، ولعل السبب الموقع للطلاق يزول، ونحو ذلك (1) ، وصدق الله القائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) .
12 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
جاء في سبب نزول الآية ثلاثة أقوال:
أولا: أنها نزلت في تحريمه عليه الصلاة والسلام على نفسه العسل، وذلك في قصة مخرجة في الصحيحين بعدة ألفاظ، منها ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث
__________
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم 4 \ 378، تيسير الكريم الرحمن 805، 806.
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة التحريم الآية 1(61/226)
عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا (2) » .
ثانيا: أنها نزلت في تحريمه عليه الصلاة والسلام على نفسه وطء جاريته مارية، عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها، فأنزل الله عز وجل: الآية (4) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه: «أن أم إبراهيم القبطية أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها، فوجدته حفصة، فقالت: يا نبي الله لقد جئت إلي شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك بمثله، في يومي وفي
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح واللفظ له - كتاب التفسير- باب يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك 8 \ 656، برقم 4912، ومسلم في صحيحه مع النووي- كتاب الطلاق 10 \ 74، 75.
(2) مغافير: جمع مغفور، شيء ينضحه شجر العرفط حلو له ريح كريهة منكرة، النهاية (غفر) 3 \ 374. (1)
(3) رواه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - تفسير سورة التحريم 2 \ 493، وقال: '' صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه '' ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في تفسيره 4 \ 386، والحافظ في الفتح 8 \ 657 وعزياه للنسائي وصححه السيوطي في لباب النقول 217، والدر المنثور 8 \ 214.
(4) سورة التحريم الآية 1 (3) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}(61/227)
دوري وعلى فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري ذلك لأحد، فذكرته لعائشة فأظهره الله عز وجل عليه، فأنزل الله: الآيات كلها، فبلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كفر يمينه وأصاب جاريته (2) » .
ثالثا: أنها نزلت في الواهبة التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني وهبت لك نفسي، فلم يقبلها، روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما (3) ، قال ابن العربي: " أما من روى أن الآية نزلت في الموهوبة فهو ضعيف في السند وضعيف في المعنى، أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه؛ فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه، وإنما حقيقة التحريم بعد التحليل ".
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره 28 \ 102، وقال ابن كثير في تفسيره 4 \ 386 بعد أن ذكر له طريقا آخر: '' هذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ''، وقال عنه الحافظ في الفتح 8 \ 657، بعد أن ذكر بعض طرقه: '' وهذه طرق يقوي بعضها بعضا ''، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7 \ 126: '' رواه البزار بإسنادين، والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح، غير مبشر بن آدم وهو ثقة ''.
(2) سورة التحريم الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
(3) ذكره السيوطي في لباب النقول 218، والدر المنثور 8 \ 217، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عنه.(61/228)
قال الحافظ ابن حجر - بعد أن ذكر قصتي العسل ومارية -:
" فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا " (1) ، وقال الشوكاني: " فهذان سببان صحيحان لنزول الآية، والجمع ممكن بوقوع القصتين، قصة العسل وقصة مارية، وأن القرآن نزل بهما جميعا، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه " (2) ، فافتتاح السورة بنداء النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه على أن ما سيذكر بعده، مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة؛ لما اشتمل عليه من بيان الأمور وذكر الأحكام والتوجيهات المناسبة لها، ولأن سبب النزول كان مرتبطا به عليه الصلاة والسلام وفي بيته (3) .
وقد أساء الزمخشري الأدب مع مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وزل لسانه بما ينبغي أنه يطهر عنه ويكرم من أعلى الله عز وجل مقامه ورفع من قدره، حيث قال: "وكان هذا زلة منه؛ لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله؛ لأن الله عز وجل إنما أحل ما أحل لحكمة أو مصلحة عرفها في إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة {وَاللَّهُ غَفُورٌ} (4) قد غفر لك ما زللت فيه، {رَحِيمٌ} (5) قد رحمك فلم يؤاخذك به ".
__________
(1) فتح الباري 10 \ 657.
(2) فتح القدير 5 \ 252، وانظر: جامع البيان 28 \ 102.
(3) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 28 \ 346.
(4) سورة التحريم الآية 1
(5) سورة التحريم الآية 1(61/229)
وقد شنع بعض المفسرين على الزمخشري إساءته الأدب وزلل لسانه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فما أطلقه في حق النبي صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء، والنبي صلى الله عليه وسلم منه براء، وإذا كان آحاد المؤمنين يتحاشى أن يعتقد تحريم ما أحل الله له، فكيف لا يربأ بمنصب النبي صلى الله عليه وسلم عما يرتفع عنه منصب عامة الأمة.
وذلك أن تحريم الحلال على وجهين:
الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام، وهذا محظور يوجب الكفر، فلا يمكن صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم أصلا.
الثاني: الامتناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض، وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع، فإذا أراد الحنث فيه والعود إليه كفر كفارة يمين، وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة والسلام، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به؛ لرفعة منزلته وسمو مكانته عنده جل وعلا.
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (1) في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه ما لا يخفى، ونظير
__________
(1) سورة التحريم الآية 1(61/230)
ذلك تقديم العفو على العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (1) .
أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ففيه تعظيم لشأنه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب، وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلى الله عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، والإيناس له مما حصل (3) .
13 - قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (4) سبق الحديث عن هذه الآية فيما سبق عند الآية التي مثلها في سورة التوبة (5) ، ومناسبته للذي قبله في أول السورة، أن هذا النداء الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح هموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء الكفار والمنافقين بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج (6) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 43
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) ينظر: البحر المحيط 8 \ 289، حاشية الإنصاف 4 \ 125، 126، روح المعاني 28 \ 146، 147
(4) سورة التحريم الآية 9
(5) ينظر ما سبق ص 22
(6) ينظر: تفسير التحرير والتنوير 28 \ 347(61/231)
المبحث الثالث: النداء بصفات أخرى:
1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) .
افتتح خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيها وإعلاما بأهمية وعظم شأن ما سيوجه إليه ويكلف القيام به، والمزمل اسم فاعل من تزمل، أي: تلفف في الثوب (3) . فالمزمل أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، وبها قرأ أبي (المتزمل) على الأصل (4) .
ففي مستهل هذه السورة يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل وهو التغطي والتلفف، وينهض للقيام لربه سبحانه ويستعد للأمر العظيم الذي كلف به وهو إبلاغ الرسالة للناس كافة، فالمزمل صفة له عليه الصلاة والسلام، اشتقاقا من الحالة التي كان عليها، وليس اسما من أسمائه، كما ظن السيوطي (5) .
وروي عن عكرمة أن المراد بالتزمل هو تزمل النبوة والرسالة (6) وهو معنى مجازي بعيد عن ظاهر الآية (7) .
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) سورة المزمل الآية 2
(3) ينظر: معاني القران للفراء3 \ 196، معاني القرآن وإعرابه 5 \ 239، البحر المحيط 8 \ 360
(4) ينظر: مختصر في شواذ القرآن 164، البحر المحيط 8 \ 360
(5) ينظر: الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة 238
(6) رواه ابن جرير في تفسيره 29 \ 78، ورجح المعنى الأول
(7) ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 4 \ 1871، الجامع لأحكام القرآن 19 \ 33(61/232)
ونداؤه عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) في هذا المقام يراد به تأنيسه وملاطفته والتودد إليه، وقد يعدل عن نداء الشخص باسمه إلى صفة متلبس بها إيناسا وملاطفة له لنفسه للقيام بمهمة يكلف بها، كقوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه: «قم يا نومان (2) » ، وكقوله لعلي رضي عنه: «قم أبا تراب (3) » . قال السهيلي: " وفي خطابه بهذا فائدتان:
إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما فأتاه وهو نائم، وقد لصق بجنبه التراب، فقال «قم يا أبا تراب» ، وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة رضي الله عنه: «قم يا نومان» ، وكان نائما ملاطفة له وإشعارا لترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (4) فيه تأنيس وملاطفة، ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) رواه مسلم والسير في صحيحه- كتاب الجهاد غزوة الأحزاب 5 \ 177
(3) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب فضائل الصحابة- باب مناقب علي بن أبي طالب 7 \ 75 برقم 3703، ورواه مسلم في صحيحه- كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل علي بن أبي طالب 7 \ 124
(4) سورة المزمل الآية 1(61/233)
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل، واتصف بتلك الصفة (1) . وقال ابن عاشور: " والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم، فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء، من تعظيم أو تكريم نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (2) أو تلطف وتقرب نحو: يا بني ويا أبت، أو قصد تهكم نحو: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (3) ، فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لبسة أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته. . . فنداء النبي بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (4) نداء تلطف وارتفاق، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (5) (6) .
وهنا أساء الزمخشري الأدب كعادته مع مقام سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لسوء معتقده، معرضا نفسه لعقوبة الله عز وجل، ثم للوم العلماء ونقدهم وردهم عليه، حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يناد بذلك إلا تهجينا للحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفة، واستعداده للاستثقال
__________
(1) التعريف والإعلام 178، وانظر: الجامع لأحكام القرآن 19 \ 33، البحر المحيط 8 \ 360
(2) سورة الأنفال الآية 64
(3) سورة الحجر الآية 6
(4) سورة المزمل الآية 1
(5) سورة المدثر الآية 1
(6) تفسير التحرير والتنوير 29 \ 255- 257، وانظر. حاشية الشهاب الخفاجي 9 \ 304، روح المعاني 29 \ 101(61/234)
في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، ثم استشهد على ذلك بأبيات قيلت ذما في جفاة حفاة من الرعاء (1) ، كما يقول ابن المنير. ومن اعتبر عادة خطاب الله تعالى له في الإكرام والاحترام فإنه يربأ بمقام النبي صلى الله عليه وسلم عما قاله الزمخشري (2) .
وقال السكوني بعد أن ذكر كلام الزمخشري: " هذا التفسير الذي يليق بعقول المعتزلة في الإلهية والنبوة، ولم يعلم الزمخشري ولا شيعته المعتزلة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزمل من أثنى الله عليه وخصصه بالتأهل للرسالة للثقلين الإنس والجن لكسل كما أشار إليه، ولا للاستثقال في النوم، وقول الزمخشري سوء أدب مع النبوة، وبالجملة فهذا كله كلام من خذل الله عقله ".
وقد حاول بعضهم (3) الدفاع عن الزمخشري وتوجيه عبارته بأن يكون التهجين المذكور محمولا على ما يفهم من معنى الآية من لطيف العتاب الممزوج بالرأفة، ولينشطه ويجعله مستعدا لما
__________
(1) ينظر: الكشاف 4 \ 174، وتبعه في هذا البيضاوي والشيخ زاده 4 \ 562، وأبو السعود في تفسيره 9 \ 49
(2) ينظر: حاشية الإنصاف على الكشاف 4 \ 174
(3) نقل ذلك عنهم في روح المعاني 29 \ 101، حاشية الشهاب 9 \ 304(61/235)
وعده تعالى بقوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (1) ، ولا يربأ برسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء، فقد خوطب بما هو أشد منه في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (2) ، قال العلامة الألوسي رادا عليهم: " ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره، فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء، لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به، بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم، ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب، وربما كان العقاب هو الجواب " (3) .
ولا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتثل أمر ربه مع أصحابه رضي الله عنهم، فأحيوا ليلهم بالصلاة وقراءة القرآن، والدعاء والاستغفار، رافضين الدعة والرقاد، وجاهدوا أنفسهم في ذلك.
عن سعد بن هشام بن عامر قال: قلت- لعائشة رضي الله عنها-: «يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قال: فهمت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت، ثم بدا لي،
__________
(1) سورة المزمل الآية 5
(2) سورة عبس الآية 1
(3) روح المعاني 29 \ 101، وانظر: حاشية الشهاب 9 \ 304(61/236)
فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألست تقرأ؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة (2) » إلخ.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (3) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (4) ثبت في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (5) قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (6) فقال سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «جاورت بحراء (7) فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا،!! فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، قال: فدثروني وصبوا علي ماء باردا، قال:
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه شرح النووي- كتاب صلاة المسافرين وقصرها- كتاب باب صلاة الليل6 \ 26، 27
(2) سورة المزمل الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}
(3) سورة المدثر الآية 1
(4) سورة المدثر الآية 2
(5) سورة المدثر الآية 1
(6) سورة العلق الآية 1
(7) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب تفسير سورة المدثر 8 \ 676، 677، برقم 4922 واللفظ له، ومسلم في صحيحه بشرح النووي كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 \ 207، 208(61/237)
فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) » فهذا الحديث يقتضي أن أول ما نزل من القرآن سورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (4) وأنها قبل نزول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (5) والمروي في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور عند علماء الأمة أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (6) ، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم. إلى قولها: حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: مما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: الآيات، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره (11) » الحديث.
__________
(1) سورة المدثر الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة المدثر الآية 3
(4) سورة المدثر الآية 1
(5) سورة العلق الآية 1
(6) سورة العلق الآية 1
(7) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب تفسير سورة '' اقرأ '' 8 \ 715 برقم 4953 ورواه مسلم في صحيحه بشرح النووي- كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 \ 197- 204.
(8) سورة العلق الآية 1 (7) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
(9) سورة العلق الآية 2 (8) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
(10) سورة العلق الآية 3 (9) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}
(11) بوادره: جمع بادرة وهي لحمة بين المنكب والعنق، النهاية '' بدر ''1 \ 106. (10)(61/238)
ولصحة الحديثين ذكر العلماء وجوها في الجمع بينهما منها:
أولا: أن السؤال لجابر رضي الله عنه عن نزول سورة كاملة، فبين أن سورة المدثر نزلت بكاملها قبل نزول تمام سورة العلق، فإن أول ما نزل منها صدرها، ويؤيد هذا ما في الصحيحين وأيضا عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني. فأنزل الله (3) » .
فقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء (4) » يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء التي نزل فيها {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (5)
ثانيا: أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، لا أولية مطلقة، ويدل على هذا ما جاء صريحا في رواية
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب التفسير- باب (وثيابك فطهر) 8 \ 678، برقم 4925 ورواه مسلم في صحيحه بشرح النووي- كتاب الإيمان ـ باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 \ 206.
(2) فجئثت: وفي رواية '' فجثثت '' أي أفزعت ورعبت، شرح النووي لصحيح مسلم 2 \ 207 (1)
(3) سورة المدثر الآية 1 (2) {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}
(4) صحيح البخاري بدء الوحي (4) ، صحيح مسلم الإيمان (160) ، مسند أحمد بن حنبل (6/233) .
(5) سورة العلق الآية 1(61/239)
أخرى من حديث جابر: «ثم فتر عني الوحي فترة، فبينا أنا أمشي (1) » .
ثالثا: أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، فأول ما نزل للنبوة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (2) وأول ما نزل للرسالة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (3)
رابعا: أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم، وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (4) فنزلت ابتداء من غير سبب متقدم.
و (المدثر) اسم فاعل من تدثر، أي: لبس الدثار وهو الثوب الذي فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، فالأصل المتدثر فأدغم التاء في الدال لتقاربهما في النطق (5) ، وبها قرأ أبي على الأصل (المتدثر) (6) .
نودي النبي صلى الله عليه وسلم بوصف مشتق من حاله التي كان عليها، تأنيسا له وملاطفة في الخطاب معه، ولم يناد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب بدء الخلق- باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه 6 \ 314 برقم 3238، ومسلم في صحيحه بشرح النووي- كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 \ 206
(2) سورة العلق الآية 1
(3) سورة المدثر الآية 1
(4) سورة العلق الآية 1
(5) ينظر: معاني القرآن للفراء، 3 \ 200، البحر المحيط 8 \ 370
(6) ينظر: مختصر في شواذ القرآن 164، الجامع لأحكام القرآن 19 \ 59(61/240)
باسمه ليستشعر اللطف والتكريم من ربه، وقد سبق مثل هذا في الحديث عن ندائه بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1)
وقوله {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) قيل: المراد قم قيام عزم وتصميم ومبادرة وامتثال، وقيل: بل المعنى على الحقيقة فإنه كان مضطجعا متدثرا بثوب أو رداء، ولا مانع أن يراد هنا المعنى الحقيقي مع المعنى المجازي، الذي يحصل منهما القيام بهذا الأمر والنشاط فيه، وجاءت الفاء في قوله: {فَأَنْذِرْ} (3) لإفادة التعقيب للشروع في الإنذار المأمور به، ولم يقل هنا: وبشر؛ لأنه كان في ابتداء النبوة لأن غالب أحوال الناس يومئذ محتاجة إلى الإنذار والتحذير، أو هو من باب الاكتفاء لأن الإنذار يلزم منه ما يقابله وهو التبشير (4) .
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة المدثر الآية 2
(4) ينظر: حاشية الخفاجي 9 \ 320، روح المعاني 29 \ 116، تفسير التحرير والتنوير 29 \ 294، 295(61/241)
المبحث الرابع: ما قيل: إنه نداء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس كذلك:
ومما قيل إنه نودي فيه قوله تعالى: {طه} (1) {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (2) {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (3) حيث ذهب بعض
__________
(1) سورة طه الآية 1
(2) سورة طه الآية 2
(3) سورة طه الآية 3(61/241)
المفسرين إلى أن (طه) اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، نودي به في هذه الآية ومثله (يس) . روي هذا عن سعيد بن جبير ومحمد بن الحنفية (1) ، وعزاه السيوطي لخلائق من المفسرين والمحدثين (2) ، كأنه يقول لنبيه: يا طاهرا من الذنوب، يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وقيل: (طاء) يا طامع الشفاعة للأمة، (هاء) يا هادي الخلق إلى الله، وقيل: (طاء) يا طيب، (هاء) يا هادي.
أما (يس) فقيل: يا سيد مخاطبا ومناديا رسوله صلى الله عليه وسلم، فالياء للنداء، والسين إشارة إلى لفظ (سيد) وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد الناس يوم القيامة (3) » فاكتفي بفاء الكلمة لدلالتها على باقيها، وهذا مذهب العرب في كلامهم وأشعارهم.
حكى سيبوبه عن بعض العرب " من يقول ألا تا، بلى فا " فإنما أرادوا: ألا تفعل، بلى فافعل " (4) وفي الأثر: " كفى
__________
(1) ينظر لقولهما: نسيم الرياض وشرح الشفا 1 \ 191، الجامع لأحكام القرآن 15 \ 4، 5، النكت والعيون 5 \ 5
(2) ينظر: الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة 204، 205، 272.
(3) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح- كتاب الأنبياء- باب قول الله عز وجل. ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه 6 \ 371، برقم 3340 واللفظ له، ومسلم في صحيحه- كتاب الفضائل- باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق 7 \ 59 عن أبي هريرة رضي الله عنه
(4) الكتاب 3 \ 321(61/242)
بالسيف شا (1) " أي شاهدا.
وقيل المراد من (طه) ، (يس) يا إنسان، ولما كان الإنسان اسما لعموم أفراد الإنس، أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنه أكملهم وأفضلهم.
واستدلوا بما رواه أبو الطفيل عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لي عند ربي عشرة أسماء، وعد منها: (طه) ، (يس) (2) » . وقد جاء في الشعر ما يعضده، وهو قول الشاعر:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا
يريد: إلا آل محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا يخفى أن هذا القول في غاية الضعف والتكلف، ولا
__________
(1) ينظر: نسيم الرياض وشرح الشفا 1 \ 190 غير معزو.
(2) رواه أبو نعيم في الدلائل 1 \ 68، وذكره الخفاجي في نسيم الرياض والقاري في شرح الشفا 1 \ 189، والسيوطي في الرياض الأنيقة 29 وعزوه لابن مردويه في تفسيره، والديلمي في تفسيره وذكر نحوه الماوردي في تفسيره 5 \ 5 عن علي رضي الله عنه مرفوعا، وقال محققه: '' لم يصح هذا الحديث)(61/243)
دليل عليه، وما استدلوا به وهو حديث أبي الطفيل موضوع، في سنده وضاع وضعيف. .
وقيل إن (طه) و (يس) اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى، روي هذا عن ابن عباس وقيل: هما بمعنى يا رجل، كلمة معروفة في عك، معناها عندهم: يا رجل، قال الشاعر (1) :
هتفت بطه في القتال فلم يجب ... فخفت عليه أن يكون موائلا
وقال آخر (2) :
__________
(1) قائله: متمم بن نويرة، كما نسبه إليه الطبري في تفسيره 16 \ 103
(2) لم أقف على قائله بعد البحث، ينظر: جامع البيان 16 \ 103، الكشاف 2 \ 528.(61/244)
إن السفاهة طه من خلائقكم ... لا بارك الله في القوم الملاعين
واختار هذا القول ابن جرير الطبري وعزاه إلى جماعة من الصحابة والتابعين.
وقيل: هما من الحروف المقطعة التي في أوائل السور، وهي مما استأثر الله بعلمه، وقال بعضهم: بل كل حرف منها يدل على معنى، ف (ط) شجرة طوبى، والهاء الهاوية، أراد: الجنة والنار، وقيل: الطاء: طهارة أهل البيت، والهاء: هدايتهم، وقيل: الطاء: طبول الغزاة، والهاء: هيبتهم في قلوب الكفار، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (1) وقيل: الطاء طرب أهل الجنة في الجنة، والهاء هوان أهل النار في النار، وقيل معنى طه: طوبى لمن اهتدى (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 151
(2) ينظر: التفسير الكبير 22 \ 3، نسيم الرياض، وشرح الشفا 1 \ 232، الجامع لأحكام القرآن 11 \ 166، 167(61/245)
وقيل: هما اسمان من أسماء القرآن (1) ، وقيل هما اسمان لهاتين السورتين.
وقيل-: روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه، ويرفع الأخرى من طول القيام، فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا، ولا يتعب نفسه بالاعتماد على قدم واحدة، وكأن الأصل طأ، فقلبت همزته هاء، كما قالوا: هياك في إياك، وهرقت في أرقت، ويجوز أن يكون الأصل من وطي على ترك الهمزة فيكون الأمر أصله: ط يا رجل، ثم أثبت الهاء فيها للوقف (2) .
والذي يظهر لي أن (طه) و (يس) من الحروف المقطعة التي استأثر الله بعلمها، مما افتتح بها بعض سور القران. أما القول بأنها معلومة المعنى فظاهر فيه التكلف، وليس لهم دليل على صحة ما ادعوه، وليسا اسمين للنبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: " وأما ما يذكره العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيح، ليس ذلك في حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل، ولا أثر عن صحابي، وإنما هذه الحروف مثل: الم وحم والر، ونحوها ".
__________
(1) رواه الطبري عن قتادة 22 \ 97، وانظر: النكت والعيون 5 \ 5
(2) ينظر معاني القرآن وإعرابه 3 \ 349، التفسير الكبير 22 \ 3(61/246)
تنبيه:
ومما جاء فيه نداء النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (1) قال مقاتل: " نزلت في عبد الله بن أمية والنضر بن الحارث نوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة " (2) وخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الوصف مع أنهم كفرة لا يعتقدون نزول شيء كما قال عز وجل- حكاية عن فرعون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (3) .
ومرادهم من قولهم {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (4) أي: يا من تدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم الوجوه، وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده: أنت مجنون، وقيل: حكمهم هذا لما كان يظهر عليه صلى الله عليه وسلم من شبه الغشي حين ينزل عليه القرآن (5) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 6
(2) ينظر: البحر المحيط 5 \ 446، وروح المعاني 14 \ 12
(3) سورة الشعراء الآية 27
(4) سورة الحجر الآية 6
(5) ينظر الكشاف 2 \ 387، التفسير 19 \ 162، وحاشية الخفاجي 5 \ 497، 498، وروح المعاني 14 \ 12(61/247)
وذهب بعضهم إلى أن المقول هو الجملة المؤكدة فقط {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (1) دون النداء، أما النداء فهو من كلام الله تعالى، تبرئة له عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه، لكن رد هذا بأنه خلاف الظاهر، فالكل من كلامهم، ولأن فيه تفكيكا للكلام واعتراضا لا دليل عليه، وقد سبقهم في هذا فرعون بقوله في حق موسى عليه السلام: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (2) .
قيل: وتقديم الجار والمجرور (عليه) على نائب الفاعل (الذكر) ، لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى، لا إلى كون المنزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (3) فإن الإنكار هنا متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام (4) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 6
(2) سورة الشعراء الآية 27
(3) سورة الزخرف الآية 31
(4) ينظر: روح المعاني 14 \ 12(61/248)
الفصل الثاني: ما يعقب نداءه عليه الصلاة والسلام والمعاني التي تضمنها:
المبحث الأول: ما يعقب النداء في القرآن الكريم:
يعقب النداء غالبا الأمر والنهي والاستفهام، وكأنه يعد النفس ويهيئها لتلقي تلك الأساليب وما تتضمنه من المعاني، لأن النداء يوقظ النفس ويلفت الذهن وينبه المشاعر، فإذا جاء بعده(61/248)
الأمر أو النهي أو الاستفهام صادف نفسا مهيأة يقظة مستعدة للقبول والامتثال، كما أنه دليل على اهتمام المتكلم وعنايته بهذا الطلب وحرصه الأكيد على تنفيذه وأدائه.
لذا فقد كثر في القرآن الكريم مصاحبة النداء لهذه الأساليب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (1) وقال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) .
وقد بالغ الكوفيون حين ادعوا أن النداء لا ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه من الطلب والنهي، قالوا: " ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي، ولهذا لما جاء بعده الخبر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} (4) (5) شفعه الأمر في قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (6)
ومما يبطل قولهم كثرة مجيء الخبر مع النداء دون أن يشفعه أمر، كقوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (7) ، وقوله تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة المنافقون الآية 9
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الحج الآية 73
(5) ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف 1 \ 103
(6) سورة الحج الآية 73
(7) سورة مريم الآية 45(61/249)
{يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (1) الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (2) الآية (3) .
وأحسن من قول الكوفيين وأكثر دقة قول الزمخشري:
" كل نداء في كتاب الله تعالى يعقبه فهم في الدين، إما من ناحية الأوامر والنواهي التي عقدت بها سعادة الدارين، وإما مواعظ وزواجر وقصص لهذا المعنى، كل ذلك راجع إلى الدين الذي خلق الخلق لأجله، وقامت السماوات والأرض به، فكان حق هذه أن تدرك بهذه الصيغة البليغة " (4) ، (5) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 4
(2) سورة يونس الآية 23
(3) ينظر: الإنصاف 1 \ 120، 121
(4) هو بهذا اللفظ في البرهان في علوم القران 2 \ 324، وانظر. الكشاف1 \ 226
(5) ينظر لما سبق: أسلوب الإنشاء في سور المفصل 365، 366(61/250)
المبحث الثاني: ما يعقب نداءه عليه الصلاة والسلام في القرآن: جاء نداء الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام في القرآن في سبعة عشر موضعا جاء في غالبها بعد النداء الطلب، ففي عشرة مواضع منها جاء عقيب ندائه عليه الصلاة والسلام الأمر، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} (2) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} (3) وقوله
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الأنفال الآية 65
(3) سورة الأنفال الآية 70(61/250)
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (1) في موضعين، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (2) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (3) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وقوله تعالى. {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (5) {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (6) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (7) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (8)
وفي موضعين جاء عقيب ندائه النهي، إما مباشرة، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (9) وإما معطوفا على الأمر، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (10) وفي موضع واحد جاء عقيب ندائه عليه الصلاة والسلام الاستفهام، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (11)
فمجموع هذه المواضع على وجه الإجمال اثنا عشر موضعا جاءت وفق ما قررته آنفا من أن النداء يعقبه غالبا الأمر- وهو الأكثر- والنهي والاستفهام، وكأن النداء يهيء النفس ويعدها لقبول ما يطلب منها وامتثاله بعد ذلك، وكل هذه الأوامر التي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم امتثالها والقيام بها أوامر عظيمة، وهو الإمام والقدوة فيها لأمته، كما أنه الحقيق والجدير بالنهوض بها وأدائها كما أمر، فلا غرو حينئذ أن يأتي النداء بوصفه الشريف (النبي) أو (الرسول) أو ما يناسب حاله التي كان عليها، (المزمل) ، (المدثر) ، على سبيل العطف عليه والتلطف معه، مما يدل على رفعة قدره وعظيم منزلته عند ربه.
__________
(1) سورة التحريم الآية 9
(2) سورة الأحزاب الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 28
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة المزمل الآية 1
(6) سورة المزمل الآية 2
(7) سورة المدثر الآية 1
(8) سورة المدثر الآية 2
(9) سورة المائدة الآية 41
(10) سورة الأحزاب الآية 1
(11) سورة التحريم الآية 1(61/251)
ومثل ذلك حين يأتي ما ينهى عنه، وهو الحزن بسبب مسارعة الكفار في كفرهم وتعلقهم بدينهم الباطل، أتى النداء بوصفه الشريف (الرسول) تأكيدا عليه وتذكيرا له للقيام بأداء مهمة الرسالة ودعوة الناس إلى هذا الدين، ولا يحزن إن قوبل بما ذكره الله عز وجل عنهم في الآية بعده، ومثله أيضا تقديم ندائه عليه الصلاة والسلام بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (1) في مفتتح عتابه وسؤاله {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) وفي هذا من حسن التلطف معه والتنويه بشأنه ما لا يخفي، ونظير هذا تقديم العفو على العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (3) .
أما المواضع التي جاء فيها عقيب ندائه عليه الصلاة والسلام الخبر فخمسة، اثنان منها جاء جملة شرطية، وهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} (4) الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5) الآية.
والثلاثة الأخيرة هي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (6) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (7) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (8) الآية.
وبالتأمل في هذه الآيات الخمس تبين لي أن لها ارتباطا وثيقا بما سبق، فبيعة النساء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر في الآية هو رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمر بإبلاغها وعدم التواني في دعوة الناس
__________
(1) سورة التحريم الآية 1
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التوبة الآية 43
(4) سورة الممتحنة الآية 12
(5) سورة الطلاق الآية 1
(6) سورة الأنفال الآية 64
(7) سورة الأحزاب الآية 45
(8) سورة الأحزاب الآية 50(61/252)
إليها، ويناسب هذا أيضا ما ذكر في سورة الأحزاب من أركان رسالته وبعض صفاته التي تناسب هذا المقام العظيم، أعني: مقام النبوة وإبلاغ الرسالة.
أما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) فمناسب غاية المناسبة لما بعده من الحث على الجهاد في سبيل الله وذكر بعض أحكامه، مهد لقبولها وامتثالها التأكيد على أن الله ذكر بعض أحكامه، مهد لقبولها وامتثالها التأكيد على أن الله كاف وحافظ وناصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين، وهذا مما يسبغ عليهم الثقة بموعود الله، والطمأنينة بنصره إياهم على أعدائهم. أما الآيتان اللتان تضمنتا ذكر بعض أحكام النساء، سواء ما يختص به عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} (2) أو ما يشترك معه أفراد أمته كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) فقد تضمنتا بعض أحكام هذه الشريعة السماوية التي أمر بتبليغها ودعوة الناس إليها.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 64
(2) سورة الأحزاب الآية 50
(3) سورة الطلاق الآية 1(61/253)
المبحث الثالث: المعاني التي تضمنها نداؤه صلى الله عليه وسلم:
يمكننا بعد النظر في الآيات التي نادى فيها ربنا جل وعلا نبيه المصطفى وحبيبه المجتبى صلى الله عليه وسلم، أن نضم معانيها التي تضمنتها فيما يلي:
أولا: الأمر بإبلاغ الرسالة وما يتعلق بها، كالحذر من معوقاتها، مع بيان أركان هذه الرسالة وصفات المرسل بها، والبيعة عليها، دل على ذلك الآيات الكريمة التالية:(61/253)
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1)
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (2) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (3)
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (4)
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (5) الآيات.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} (6) الآية.
ثانيا: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل وما يتصل به، كبيان بعض أحكامه، مع التصديق بموعود الله والثقة بنصره وتأييده لرسوله والمؤمنين وكفايته ورعايته لهم، يدل على ذلك الآيات الكريمة التالية:
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (7) الآية.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} (8) الآية.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (9)
ثالثا: الأمر بتقوى الله عز وجل ورعايتها بنوافل الطاعات والقربات، والبعد عما يعارضها ويخالف مقتضاها، دل على ذلك الآيات الكريمة التالية:
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (10) الآية
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (11) الآية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة المدثر الآية 1
(3) سورة المدثر الآية 2
(4) سورة المائدة الآية 41
(5) سورة الأحزاب الآية 45
(6) سورة الممتحنة الآية 12
(7) سورة التحريم الآية 9
(8) سورة الأنفال الآية 65
(9) سورة الأنفال الآية 64
(10) سورة الأحزاب الآية 1
(11) سورة التحريم الآية 1(61/254)
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} (3) الآيات.
رابعا: بيان بعض الأحكام المتعلقة بالنساء، سواء ما كان خاصا به عليه الصلاة والسلام مع أهله، كتخييرهن بين البقاء معه أو تخلية سبيلهن، وبيان ما أحل الله له من النساء وما اختاره له وخصه به، أو ما يشترك فيه أفراد الأمة، كالأمر بالحجاب وبيان بعض أحكام الطلاق، دل على هذا الآيات الكريمة التالية:
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (4) الآية.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (5) الآية.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (6) الآية.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (7) الآية وقد سبق في الفصل الأول بيان معاني هذه الآيات وما تضمنته من أحكام شرعية ولطائف بيانية ونكات بلاغية.
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) سورة المزمل الآية 2
(3) سورة المزمل الآية 3
(4) سورة الأحزاب الآية 28
(5) سورة الأحزاب الآية 50
(6) سورة الأحزاب الآية 59
(7) سورة الطلاق الآية 1(61/255)
الفصل الثالث: خصائص نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن:
المبحث الأول: نداؤه عليه الصلاة والسلام بالوصف لا باسمه العلم:
إن افتتاح الكلام بالنداء يدل على الاعتناء بما سيلقى على المخاطب، وكأنه يعد نفسه ويهيئها لذلك، فيقع منها موقع(61/255)
الإصابة، حيث تتلقاه بحس واع وذهن منتبه، ثم إن نداء المخاطب بوصفه الشريف دليل على سموه وفضله على غيره.
وهذا ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره حيث نودي بوصفه (الرسول) في آيتين، و (النبي) في ثلاث عشرة آية؛ تشريفا وتكريما له، ودلالة على رفعة قدره وعظيم منزلته عند ربه، وحثا له على تبليغ رسالة ربه ودعوة الناس إلى هذا الدين، وغيره من الأنبياء نودي باسمه العلم.
2 قال العز بن عبد السلام: " نداء النبي بالنبوة فيه فائدة التفخيم والإكرام، والحث على الطاعة والإذعان؛ شكرا لنعمة النبوة. والنداء بالرسالة فيه الفائدتان المذكورتان في النداء بالنبوة، مع التأكيد بذكر الرسالة، وهي من النعم الجسام لأنها تستلزم النبوة وتحث على تبليغ الرسالة، فما أحسن قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) (2) .
ونودي أيضا بوصفين مشتقين من حالته التي كان عليها؛ تأنيسا وملاطفة له، وتثبيتا وتقوية لفؤاده، وهما (المزمل) ، (المدثر) ، ولا يخفي ما ينطوي عليه العدول عن ندائه باسمه إلى ندائه بهذه الصفات من دلالة على سمو مكانته عند من يخاطبه، وتعريفا لجلالة قدره وعظيم منزلته عند غيره.
وقد أبان هذا بعض المفسرين فيما سبق وقرروه، وذكروا ما تضمنته تلك الآيات من لطائف بيانية ونكات بلاغية تقوي هذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) ينظر الإشارة إلى الإيجاز ص 333.(61/256)
الغرض وتؤكد هذا المعنى.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين ألا ينادوا الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، فلا يقولوا له: (يا محمد) بل: (يا نبي الله) ، وحتى في هذا الأمر ذكر اسمه، بل استبدل به صفة الرسول، قال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (1) الآية وقد جاء في سبب نزول الآية ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (2) .
ففي هذا تعظيم وتوقير له عليه الصلاة والسلام مع التواضع كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (3) الآيات.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة الحجرات الآية 2(61/257)
قال بعض المفسرين: أمرهم الله أن يدعوه: يا رسول الله يا نبي الله في لين وتواضع ولا يصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم، ولا ينادوه: يا محمد في تجهم (1) ، بل أمر الله سبحانه أن يبجل ويعظم ويفخم ويشرف، بأن يتعلم الأدب في مناداته والحديث معه عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) تجهم: أي في وجه غليظ كريه، القاموس (جهم) 4 \ 92(61/258)
المبحث الثاني: التزام ندائه عليه الصلاة والسلام ب (يا أيها) .
كثيرا ما يجيء النداء في القرآن ب (يا) المتلوة بـ (أيها) (1) ، وللزمخشري تحليل بديع وكشف عن سر كثرة هذا التركيب في القرآن، حيث يقول: " وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام. . . وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه، يتصف به حتى يضح (2) المقصود بالنداء، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي، والاسم التابع له صفته، كقولك: يا زيد الظريف، إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد، فلم ينفك من الصفة.
وفي هذا التدرج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين:
__________
(1) ينظر في الحديث عنها: مغني اللبيب 1 \ 78، الإتقان 1 \ 501
(2) من الوضوح، أي: يتضح(61/258)
معاضدة حرف النداء ومكانفته (1) بتأكيد معناه، ووقوعها عوضا مما يستحقه، أي: من الإضافة.
فإن قلت: لم كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؛ قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة؛ لأن كل ما نادى الله له عباده من أوامره ونواهيه؛ وعظاته وزواجره ووعده ووعيده واختصاص (2) أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أمور عظام (3) ، وخطوب جسام ومعان عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم، وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ " (4) .
وللرازي تفريق دقيق بين النداء بـ (يا) و (يا أيها) ، وبيان السر البياني في اختصاص ندائه عليه الصلاة والسلام بـ (يا أيها) المراد منه، حيث يقول: " قول القائل: يا رجل يدل على النداء، وقوله: يا أيها الرجل يدل على ذلك أيضا، وينبئ عن خطب المنادى له أو غفلة المنادى. . . ولأن قوله:
__________
(1) مكانفته: إعانته وحفظه، القاموس (كنف) 3 \ 192
(2) هكذا في الكشاف، وفي الإتقان 2 \ 897 فيما نقله عنه (واقتصاص)
(3) خبر (لأن) السابقة
(4) الكشاف 1 \ 225، 226(61/259)
(يا أي) جعل المنادى غير معلوم أولا، فيكون كل سامع متطلعا إلى المنادى، فإذا خص واحدا كان في ذلك إنباء الكل لتطلعهم إليه، وإذا قال: يا زيد أو يا رجل لا يلتفت إلى جانب المنادي إلا المذكور، إذا علم هذا فنقول: (يا أيها) لا يجوز حمله على غفلة النبي صلى الله عليه وسلم لأن قوله: (النبي) ينافي الغفلة، لأن النبي عليه السلام خبير فلا يكون غافلا، فيجب حمله على خطر الخطب ".(61/260)
المبحث الثالث: الفرق بين ندائه عليه الصلاة والسلام والإخبار عنه:
جاء نداء النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه الشريف (الرسول) أو (النبي) تكريما وتقديرا له وتنويها بفضله ودلالة على رفعة مكانته وعلو منزلته عند ربه، وليربأ بمقامه الشريف عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره.
وهذا بخلاف الإخبار عنه، فقد يجيء بهذا الوصف، كقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} (1) ، وقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (2) وقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (3)
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) سورة الأنفال الآية 1(61/260)
وقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1) ، وقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (2) .
وقد يجيء الإخبار عنه باسمه العلم مع إضافة صفة الرسول إليه وذلك في آيتين، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (3) وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (4) .
وقد يجيء الإخبار عنه باسمه العلم مع الإشارة إلى رسالته، وذلك في آيتين، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (5) وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (6) وقد يجيء الإخبار عنه باسمه العلم مع الإشارة إلى رسالته، وذلك في آيتين، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (7) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (8) وفي بيان سبب إيثار نداء الرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه: الشريف وعدم التزام ذلك في الإخبار عنه، يقول الزمخشري: " فإن
__________
(1) سورة الفرقان الآية 30
(2) سورة الأنفال الآية 41
(3) سورة آل عمران الآية 144
(4) سورة الفتح الآية 29
(5) سورة آل عمران الآية 144
(6) سورة الفتح الآية 29
(7) سورة الأحزاب الآية 40
(8) سورة محمد الآية 2(61/261)
قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار، في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (1) ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (2) ، قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه. رسول الله، وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الإخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (3) ، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} (4) ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (5) ، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (6) ، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (7) ، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (8) ، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} (9) (10) .
مراده: أن تلك المقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب هذا الاسم هو رسول الله الواجب الإيمان به واتباعه، أو تلقين لهم بأن يسموه بهذا الوصف وينادوه به.
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) سورة آل عمران الآية 144
(3) سورة التوبة الآية 128
(4) سورة الفرقان الآية 30
(5) سورة الأحزاب الآية 21
(6) سورة التوبة الآية 62
(7) سورة الأحزاب الآية 6
(8) سورة الأحزاب الآية 56
(9) سورة المائدة الآية 81
(10) الكشاف 3 \ 248، انظر: البحر المحيط: 7 \ 210، تفسير التحرير والتنوير 21 \ 250(61/262)
وقد تعقب الزمخشري فيما ذكر بأن أمر التعليم والتلقين في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (1) ظاهر، أما في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (2) فلا، على أن قوله تعالى: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} (3) ينقض ما بناه.
نعم النداء يناسب التعظيم، وربما يكون نداء سائر الأنبياء عليهم السلام في كتبهم أيضا على نحو منه، وجاء في القرآن بأسمائهم دفعا للإلباس (4) .
واختار الطيببي أن النداء بهذا الوصف الشريف؛ للاحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي الذي يعقب هذا النداء، كتقديم العفو قبل العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (5) (6) .
لكن ما ذكره لا يشمل جميع نداءاته عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (7) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} (8) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (9) ؛ لأن ما بعد هذه النداءات أخبار.
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) سورة آل عمران الآية 144
(3) سورة محمد الآية 2
(4) ينظر: روح المعاني 21 \ 143
(5) سورة التوبة الآية 43
(6) ينظر: روح المعاني 21 \ 143
(7) سورة الأنفال الآية 64
(8) سورة الأحزاب الآية 50
(9) سورة الأحزاب الآية 45(61/263)
الخاتمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإنني بعد الفراغ من كتابة هذا البحث عن نداء الله عز وجل نبينا عليه الصلاة والسلام في القرآن، وقفت على الكثير من الثمرات المباركة والنتائج الطيبة، أجملها فيما يلي:
* أن الله عز وجل امتن على هذه الأمة ببعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليه أفضل كتبه القرآن الكريم، وأوجب على الأمة الإيمان به ومحبته وطاعته.
*عظم الله سبحانه منزلة رسوله عليه الصلاة والسلام عنده وأعلى قدره، وخصه بفضائل ومحاسن تدل على شرفه ورفعة مكانته، وأثنى عليه بها، والعلم بهذا يزيد القلب إيمانا به ومحبة وطاعة وتوقيرا له.
* وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على سمو مكانته، وعلو مرتبته عند ربه، ومن ذلك نداؤه بوصفه الشريف (الرسول) في موضعين، و (النبي) في ثلاثة عشر موضعا، كما نودي أيضا بوصفين مشتقين من حالته التي كان عليها، تأنيسا ولطفا به، وهما: المزمل، المدثر.
* رجحت ما اختاره المحققون من أهل العلم من أن (طه) و (يس) ليسا اسمين للنبي صلى الله عليه وسلم، إنما هما من الحروف المقطعة التي استأثر الله بمراده منها.
* جاء نداء الكفار لنبينا صلى الله عليه وسلم في قوله:(61/264)
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (1) استهزاء وتهكما وسخرية به، أما قول من قال: إن النداء من الله، وإنما قولهم هو: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (2) فتفكيك للكلام، ظاهر فيه التكلف.
* تضمنت الآيات التي نودي فيها عليه الصلاة والسلام الكثير من الأحكام الشرعية مما هو خاص به عليه الصلاة والسلام، أو ما يشترك معه فيه أفراد أمته.
* في العلم بأساليب ندائه عليه الصلاة والسلام وما تضمنته هذه الآيات من نكات بلاغية ولطائف بيانية تخدم هذا الغرض- وجوب الأدب معه عليه الصلاة والسلام واحترامه وتوقيره، فلا ينادى باسمه المجرد، ولا يرفع الصوت فوق صوته، ولا يتقدم على سنته برأي أو هوى، بل لا بد من محبته واتباعه وإجلاله ودعوة الناس إلى سنته.
* جاء في سبب نزول بعض الآيات جملة من الأقوال، ولا شك أن العلم بها ومعرفتها معين على فهم الآية، فالعلم بالسبب معين على معرفة المسبب.
* الغالب في القرآن الكريم إتيان الأمر والنهي والاستفهام بعد النداء، خلافا للكوفيين الذين يرون وجوبه، وسبب كثرته أنه يعد النفس ويهيئها لتلقي ما يقال لها، فإذا جاء بعده الأمر- وهو الأكثر- والنهي والاستفهام قابل نفسا مستعدة للقبول والانقياد، ومن ذلك ما جاء في نداء الله نبيه عليه الصلاة والسلام.
* جاء نداء نبينا عليه الصلاة والسلام بوصفه الشريف، وكذا في
__________
(1) سورة الحجر الآية 6
(2) سورة الحجر الآية 6(61/265)
معظم الإخبار عنه، وقد يجيء الإخبار عنه باسمه العلم مع إضافة صفة الرسول إليه، أو الإشارة إلى رسالته، وقد سبق بيان هذا.
* ظهر فيما سبق جرأة الزمخشري ومن تبعه على مقام النبوة، وسوء تعبيره مع النبي صلى الله عليه وسلم، واتهامه بما يبرأ عنه آحاد أمته، فكيف به عليه الصلاة والسلام، وقد انبرى العلماء في الرد عليه وبيان خطئه، فكفوا وشفوا.
* تبين لنا أن المعاني التي تضمنها نداؤه عليه الصلاة والسلام تجتمع في أربعة أمور: الأمر بإبلاغ الرسالة وما يتعلق بها. الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل وما يتصل به. الأمر بتقوى الله سبحانه ورعايتها. بيان بعض الأحكام المتعلقة بالنساء، سواء كان خاصا به عليه الصلاة والسلام مع أهله، أو ما يشترك معه فيه أفراد أمته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.(61/266)
تنفيذ العقوبة التعزيرية في الفقه
للدكتور طارق بن محمد بن عبد الله الخويطر
المقصود بتنفيذ العقوبة التعزيرية في الفقه:
يقصد بتنفيذ العقوبة التعزيرية في الفقه: القواعد والأسس التي على ضوئها تقام العقوبة التعزيرية، كما يقصد أيضا بالتنفيذ: الكيفية التي يتم بها إيقاع العقوبات التعزيرية.(61/267)
القواعد العامة لتنفيذ العقوبة التعزيرية:
ذكر الفقهاء رحمهم الله قواعد ثابتة كفيلة بتحقيق المصلحة من إقامة العقوبات التعزيرية، وهذه القواعد هي:
أولا: عمومية التعزير:
لا يختص التعزير في فئة من الناس دون فئة، بل كل فرد من أفراد المجتمع عرضة للتعزير متى ما صدر منه فعل يوجبه، بيد أن التعزير هنا يختلف بحسب تأثر الشخص ومكانته في المجتمع.
جاء في بدائع الصنائع: " ومن مشايخنا من رتب التعزير على مراتب الناس، فقال: التعازير على أربعة مراتب: تعزير(61/267)
الأشراف وهم الدهاقون والقواد، وتعزير أشراف الأشراف وهم العلوية والفقهاء، وتعزير الأوساط وهم السوقة، وتعزير الأخساء وهم السفلة. فتعزير أشراف الأشراف بالإعلام المجرد، وهو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا. وتعزير الأشراف بالإعلام والجر إلى باب القاضي، والخطاب بالمواجهة. وتعزير الأوساط: الإعلام والجر والحبس. وتعزير السفلة: الإعلام والجر والضرب والحبس؛ لأن المقصود من التعزير هو الزجر، وأحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب " (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 64(61/268)
ثانيا: من يقيم التعزير:
إقامة العقوبات التعزيرية موكولة إلى أشخاص معينين؛ إذ الغرض من التعزير التأديب والإصلاح، وهؤلاء هم: الإمام أو نائبه، والأب وإن علا لابنه، والزوج لزوجته، والسيد لمولاه، والمعلم لتلميذه.
جاء في شرح الزرقاني: " وعزر الإمام أو نائبه، أو السيد لعبده في مخالفته لله أو له، أو الزوج للنشوز، أو والد الصغير فقط، أو معلم لمعصية لله، وهي ما ليس للآدمي إسقاطه؛ كالأكل(61/268)
نهار رمضان بغير عذر إلا أن يجيء تائبا، أو لحق آدمي وهو له إسقاطه كشتم آخر وضربه. . . " (1) .
وجاء في روضة الطالبين: " من الأصحاب من يخص لفظ التعزير بضرب الإمام أو نائبه للتأديب في غير حد، ويسمي ضرب الزوج زوجته، والمعلم الصبي، والأب ولده تأديبا لا تعزيرا، ومنهم من يطلق التعزير على النوعين، وهو الأشهر، فعلى هذا مستوفي التعزير: الإمام والزوج والأب والمعلم والسيد أما الإمام فيتولى بالولاية العامة إقامة العقوبات حدا وتعزيرا. والأب يؤدب الصغير تعليما وزجرا عن سيئ الأخلاق، وكذا يؤدب المعتوه بما يضبطه، ويشبه أن تكون الأم في زمن الصبا في كفالته كذلك، كما ذكرنا في تعليم أحكام الطهارة والصلاة والأمر والضرب عليها أن الأمهات كالآباء. والمعلم يؤدب الصبي بإذن الولي ونيابة عنه. والزوج يعزر زوجته في النشوز وما يتعلق به، ولا يعزرها فيما يتعلق بحق الله تعالى. والسيد يعزر في حق نفسه، وكذا في حق الله تعالى على الأصح " (2)
__________
(1) شرح الزرقاني على خليل 8 \ 115
(2) . روضة الطالبين 10 \ 175(61/269)
ثالثا: علانية التعزير:
لما كان أمر التعزير متروكا لولي الأمر يختار ما يراه من العقوبات موافقا للمصلحة ورادعا للجاني؛ فقد ذكر الفقهاء التشهير كنوع من أنواع التعزير، متى ما رأى ولي الأمر المصلحة(61/269)
في ذلك.
جاء في السياسة الشرعية لابن نجيم: " ويجوز في نكال التعزير أن يجرد من ثيابه، إلا قدر ما يستر عورته، ويشهر في الناس، وينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يقلع عنه. . . " (1) . وجاء في شرح الزرقاني: " وعزر شاهدا بزور في الملأ بنداء (2) .
وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: " ويجوز أن ينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يقلع عنه " (3) .
ودليل الفقهاء رحمهم الله لمسألة التشهير ما يلي:
1 - فعل عمر رضي الله عنه حيث أتي بشاهد زور، فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول: هذا فلان يشهد بزور فاعرفوه، ثم حبسه (4) .
__________
(1) السياسة الشرعية لابن نجيم ص58، والأحكام السلطانية للماوردي في ص 390
(2) شرح الزرقاني على خليل 8 \ 115.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 283
(4) أخرجه عبد الرزاق 8 \ 325، والبيهقي 10 \ 141 واللفظ له.(61/270)
2 - وكتب عمر رضي الله عنه إلى عماله بالشام في شاهد الزور أن يجلد أربعين جلدة، وأن يسخم (1) وجهه، وأن يحلق رأسه وأن يطال حبسه (2) .
3 - وأمر رضي الله عنه بشاهد الزور أن يسخم وجهه، يلقى في عنقه عمامته، ويطاف به في القبائل، ويقال: إن هذا شاهد الزور فلا تقبلوا له شهادة (3) .
4 - وكان علي رضي الله عنه إذا أخذ شاهد زور بعث به إلى عشيرته فقال: إن هذا شاهد زور فاعرفوه، وعرفه، ثم خلى سبيله (4) .
5 - وأقام شريح رحمه الله شاهد الزور على مكان مرتفع (5) .
6 - وأتي شريح رحمه الله بشاهد زور فنزع عمامته، وخفقه خفقات بالدرة، وبعث به إلى المسجد ليعرفه الناس (6) .
7 - وكان شريح رحمه الله يؤتى بشاهد الزور، فيطوف به في أهل مسجده، وسوقه، فيقول: إنا قد زيفنا شهادة هذا (7) .
__________
(1) أي يسود. القاموس المحيط 4 \ 129.
(2) أخرجه عبد الرزاق 8 \ 326 واللفظ له، والبيهقي 10 \ 142
(3) أخرجه عبد الرزاق 8 \ 327.
(4) رواه البيهقي 10 \ 142 وفيه انقطاع.
(5) أخرجه عبد الرزاق 8 \ 326
(6) أخرجه عبد الرزاق 8 \ 326 واللفظ له، والبيهقي 10 \ 142
(7) أخرجه البيهقي 10 \ 142(61/271)
رابعا: مكان التعزير:
ذكر الفقهاء رحمهم الله أن التعزير لا يقام في المساجد.
جاء في روضة الطالبين: " لا تقام الحدود في المسجد ولا التعزير، فإن فعل وقع الموقع، كالصلاة في أرض مغصوبة " (1) .
واستدل الفقهاء لقولهم: إن التعزير لا يقام في المساجد بما يلي:
1 - حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود (2) » .
__________
(1) روضة الطالبين 10 \ 172
(2) رواه أبو داود 4 \ 629 واللفظ له، وأحمد 3 \ 434، والدارقطني 3 \ 85، والبيهقي 8 \ 328(61/272)
2 - وبما رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد (1) » .
3 - وقول عمر رضي الله عنه لما أتي برجل في شيء قال: أخرجاه من المسجد واضرباه (2) .
4 - ولأنه لا يؤمن في التعزير أن يشق الجلد بالضرب، فيسيل منه الدم، أو يحدث من شدة الضرب فينجس المسجد (3) .
وقد أمر الله تعالى بتطهيره فقال عز وجل: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (4) .
__________
(1) رواه الترمذي 4 \ 12، واللفظ له، وقال: هذا حديث لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعا إلا من حديث إسماعيل بن مسلم أو إسماعيل بن مسلم المكي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، ورواه أيضا ابن ماجه 2 \ 867، والدارمي 2 \ 190
(2) أخرجه عبد الرزاق 10 \ 23
(3) الحاوي 13 \ 441، والمهذب 2 \ 368، ومغني المحتاج 4 \ 191، والكافي 4 \ 237
(4) سورة البقرة الآية 125(61/273)
5 - ولأن إقامة التعزير في المساجد مؤذ للمصلين فيها (1) .
6 - ولأن المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى (2) ، ويدل لذلك:
أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا (3) » .
ب- وقد نشد رجل في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له (4) » .
وقال النووي: " وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بنيت المساجد لما بنيت له (5) » معناه لذكر الله تعالى، والصلاة، والعلم، والمذاكرة في الخير، ونحوها " (6) .
وإذا ثبت أن الحدود والتعازير لا تقام في المساجد نظر في المجلود: فإن كان متهافتا في ارتكاب المعاصي، أظهر تعزيره في مجامع الناس ومحافلهم؛ ليزداد به نكالا وارتداعا، وإن كان
__________
(1) الحاوي 13 \ 441
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 340
(3) مسلم بشرح النووي 5 \ 54
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (890) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (802) ، مسند أحمد (4/244) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (890) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (802) ، مسند أحمد (4/244) .
(6) شرح النووي على مسلم 5 \ 55(61/274)
من ذوي الهيئات، عزر في الخلوات؛ حفظا لصيانته (1) .
__________
(1) الحاوي 13 \ 441(61/275)
كيفية تنفيذ العقوبات التعزيرية في الفقه:
العقوبات التعزيرية كثيرة، بيد أن الفقهاء رحمهم الله أجملوا في ذكر بعضها باعتبار أنها لا تحتاج إلى تفصيل؛ كالصفع، ونزع، العمامة، والإقامة من المجلس، والزجر، ونحو ذلك، وفصلوا منها ما يحتاج إلى تفصيل. وسأذكر من العقوبات التعزيرية ما فصله الفقهاء رحمهم الله وهي:
الجلد، والسجن، والنفي، والقتل، والصلب، على النحو التالي:
أولا: تنفيذ عقوبة الجلد:
أ- آلة الجلد:
أجمع الفقهاء على أنه يجلد بالسوط المتوسط الذي ليس بجديد ولا خلق.(61/275)
جاء في الهداية: " قال: يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا " (1) .
وجاء في شرح الخرشي: " أن الحدود في الزنى وفي القذف وفي التعزير وفي الشرب تكون بسوط معتدل وضرب معتدل " (2) .
وجاء في الحاوي: فأما السوط الذي تقام به الحدود فهو بين السوطين لا جديد فيتلف، ولا خلق لا يؤلم. . . فأما السوط في ضرب التعزير فإن لم يكن دون سوط الحد لم يكن فوقه " (3) .
وجاء في المحرر: " ويضرب الرجل في الحد بسوط لا خلق ولا جديد. . . والمرأة كالرجل في ذلك " (4) .
__________
(1) الهداية شرح بداية المبتدي، مطبوع مع فتح القدير 5 \ 230
(2) الخرشي على خليل 8 \ 109
(3) الحاوي 13 \ 435
(4) المحرر 2 \ 164(61/276)
ب- جلد الرجل: وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هل يجلد الرجل قائما أو قاعدا؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال وهي:
القول الأول: أن الرجل يجلد قائما، وإلى هذا ذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
__________
(1) المبسوط 9 \ 72
(2) الحاوي 13 \ 436
(3) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 336(61/276)
جاء في المبسوط: " ويضرب الرجل قائما " (1) .
وجاء في الحاوي: " فأما صفة الضرب فلا يخلو: إما أن - يكون رجلا أو امرأة فإن كان رجلا ضرب قائما، ولم يصرع إلى الأرض " (2) .
وجاء في المغني: " أن الرجل يضرب قائما " (3) .
القول الثاني: أنه يجلد قاعدا، وإلى هذا ذهب المالكية (4) .
جاء في التفريع: " ويضرب الرجل والمرأة قاعدين " (5) .
القول الثالث: أن الجلد يقام على الرجل قائما أو قاعدا كيفما تيسر، وهذا قول الظاهرية (6) .
جاء في المحلى: " فصح أن الجلد في الزنى والقذف والخمر والتعزير يقام كيفما تيسر، على المرأة والرجل، قياما وقعودا، فإن امتنع أمسك، وإن دفع بيديه الضرب عن نفسه مثل أن يلقي الشيء الذي يضرب به فيمسكه، أمسكت يداه " (7) .
__________
(1) المبسوط 9 \ 72
(2) الحاوي 13 \ 436
(3) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 336
(4) التفريع 2 \ 227، والمنتقي في شرح الموطأ 7 \ 142
(5) التفريع 2 \ 227
(6) المحلي 11 \ 169
(7) المحلي 11 \ 169(61/277)
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل الجمهور أصحاب القول الأول بأدلة منها:
1 - فعل علي رضي الله عنه فقد كان يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة (1) .
2 - واستدلوا بقوله رضي الله عنه: " اضرب، وأعط كل عضو حقه، واجتنب وجهه ومذاكيره ".
وقيام الرجل حين الجلد وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب (2) .
أدلة القول الثاني:
استدل المالكية بقولهم: " إنه شخص وجب حده فلم يستحق عليه القيام كالمرأة (3) ، ولم يأمر الله تعالى بقيامه عند جلده " (4) .
أدلة القول الثالث:
استدل الظاهرية بقولهم: " إنه لا نص في هذه المسألة ولا
__________
(1) رواه البيهقي 8 \ 327
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 336
(3) المنتقي شرح الموطأ 7 \ 142
(4) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 336(61/278)
إجماع، ولو أراد الله تعالى إقامة الحد على حال لا تتعدى من قيام أو قعود لبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (1) .
القول الراجح:
والراجح والله أعلم هو قول الجمهور القائل بأن الرجل يجلد قائما، وأما ما استدل به المالكية فقولهم: إن الله لم يأمر بالقيام، فيقال: ولم يأمر بالجلوس، ولم يذكر الكيفية، فعلمناها من دليل آخر، ولا يصح قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها ويخشى هتكها (2) .
ويرد على الظاهرية بأنه ورد دليل من فعل علي رضي الله عنه وقوله.
__________
(1) المحلي 11 \ 169
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 337(61/279)
المسألة الثانية: صفة المجلود عند جلده:
اتفق الفقهاء على أن الرجل عند جلده لا يمد، ولا يربط، ولا يجرد من ثيابه، إلا إن منعت وصول الضرب إلى جسمه (1) . جاء في فتاوى قاضي خان: " ويضرب في التعزير قائما
__________
(1) فتاوى قاضي خان 3 \ 480، ومختصر خليل ص 332، والحاوي 12 \ 436، والمغني مع الشرح الكبير 10 \ 337(61/279)
عليه ثيابه، وينزع عنه الحشو والفرو، ولا يمد في التعزير " (1) . وجاء في مختصر خليل: " والحدود بسوط وضرب معتدلين، بلا ربط وشد يد بظهره وكتفيه، وجرد الرجل والمرأة مما يقي الضرب " (2) .
وجاء في الحاوي: " فأما صفة المضروب فلا يخلو إما أن يكون رجلا أو امرأة فإن كان رجلا ضرب قائما، ولم يصرع على الأرض، ووقف مرسلا غير مشدود ولا مربوط، وترسل يده ليتوقى بها ألم الضرب إن اشتد به. فأما ثيابه فلا يجرد منها وتترك عليه؛ لتواري جسده وتستر عورته، إلا أن يكون فيها ما يمنع من ألم الضرب كالفراء، فتنزع عنه ويترك ما عداها مما لا يمنع ألم الضرب " (3) .
وجاء في المغني: " المسألة الثانية: أنه لا يمد ولا يربط، ولا نعلم عنهم في هذا خلافا. . . ولا تنزع عنه ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان، وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت عنه؛ لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب " (4) .
دليل الفقهاء:
واستدل الفقهاء لقولهم هذا بقول ابن مسعود رضي الله
__________
(1) فتاوى قاضي خان 3 \ 480
(2) مختصر خليل ص 332
(3) الحاوي 13 \ 436
(4) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 337(61/280)
عنه: " لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد ولا غل ولا صفد " (1)
__________
(1) رواه البيهقي 8 \ 326(61/281)
ج- جلد المرأة: وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تجريد المرأة من ثيابها:
اتفق الفقهاء على أن المرأة كالرجل لا تجرد من ثيابها إلا ما يمنع عنها ألم الضرب فإنه ينزع عنها (1) .
جاء في اللباب: " والرجل والمرأة في ذلك سواء؛ لأن النصوص تشملها غير أن المرأة لا تنزع عنها ثيابها تحرزا عن كشف العورة، لأنها عورة، إلا الفرو والحشو لأنهما يمنعان وصول الألم إلى المضروب، والستر حاصل بدونها " (2) .
وجاء في الشرح الكبير: " والمرأة تجرد مما يقي الضرب أي ألمه من الثياب الغليظة بأن تلبس ثوبا واحدا رقيقا " (3) .
وجاء في روضة الطالبين: " ويجلد الرجل قائما والمرأة جالسة وتلف أو تربط عليها ثيابها " (4) .
وجاء في المحرر: " والمرأة كالرجل في ذلك، لكن تضرب جالسة، ولا تجرد، رواية واحدة، وتشد عليها ثيابها،
__________
(1) اللباب في شرح الكتاب 3 \ 185، والشرح الكبير 4 \ 354، وروضة الطالبين 10 \ 172، والمحرر 2 \ 164
(2) اللباب في شرح الكتاب 3 \ 185
(3) الشرح الكبير 4 \ 354
(4) روضة الطالبين 10 \ 172(61/281)
وتمسك يداها، لئلا تنكشف " (1) .
__________
(1) المحرر 2 \ 164(61/282)
المسألة الثانية: هيئة المرأة عند الجلد:
للفقهاء في هيئة جلد المرأة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المرأة تجلد جالسة، وهذا قول الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
جاء في المبسوط: "وتضرب وهي قاعدة كأستر ما يكون " (5) .
وجاء في جواهر الإكليل: " ويضرب على الظهر والكتفين دون سائر الأعضاء، حال كون المحدود قاعدا، لا قائما ولا ممدودا. . . " (6) .
وجاء في الحاوي: " فأما المرأة فتضرب جالسة؛ لأنها عورة " (7) .
وجاء في متن الخرقي: " وتضرب المرأة جالسة وتشد
__________
(1) المبسوط 9 \ 73
(2) جواهر الإكليل 2 \ 296
(3) الحاوي 13 \ 436
(4) متن الخرقي ص 136
(5) المبسوط 9 \ 73
(6) جواهر الإكليل 2 \ 296
(7) الحاوي 13 \ 436(61/282)
عليها ثيابها" (1) .
القول الثاني: أن المرأة تجلد قائمة كالرجل، وهذا قول ابن أبي ليلى رحمه الله (2) .
القول الثالث: أن المرأة تجلد كيفما تيسر قائمة أو قاعدة، وهذا قول الظاهرية (3) .
القول الراجح:
والراجح والله أعلم هو قول الجمهور؛ لفعل علي رضي الله عنه، حيث كان يضرب المرأة وهي قاعدة (4) ، وفرق بين الرجل والمرأة؛ لأن مبنى حال الرجل على الانكشاف والظهور، ومبنى حالها على الستر (5) .
__________
(1) متن الخرقي ص 136
(2) المبسوط 9 \ 73
(3) المحلي 11 \ 169
(4) رواه البيهقي 8 \ 327
(5) المبسوط 9 \ 73(61/283)
المسألة الثالثة: من يتولى جلد المرأة:
يتولى جلد المرأة الرجال؛ لأن الجلد ليس من شأن النساء (1) .
جاء في الحاوي: " فأما المرأة فتضرب جالسة؛ لأنها عورة
__________
(1) الحاوي 13 \ 436، وروضة الطالبين 10 \ 173، ومغني المحتاج 4 \ 191(61/283)
وجلوسها أستر لها، وتربط عليها ثيابها؛ لئلا تنكشف فتبدو عورتها، وتقف عندها امرأة تتولى ربط ثيابها، وتستر ما بدا ظهوره من جسدها، ويتولى الرجل ضربها دون النساء؛ لأن في مباشرة النساء له هتكه " (1) .
__________
(1) الحاوي 13 \ 436(61/284)
حكم الخنثى:
وحكم الخنثى حكم المرأة فيما ذكر (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 \ 191(61/284)
د- صفة الجلد:
اتفق الفقهاء على أن الجلد يكون وسطا؛ لا شديدا فيقتل، ولا ضعيفا لا يردع.
جاء في البحر الرائق: " قوله: غير ممدود فقد قيل: إن المد أن يلقى على الأرض، ويمد كما يفعل في زماننا، وقيل: أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه، وقيل: أن يمد بعد الضرب، وذلك كله لا يفعل؛ لأنه زيادة على المستحق " (1) .
وجاء في الشرح الكبير: " والحدود. . . بسوط. . . وضرب معتدلين؛ أي متوسطين، لا شديدين ولا خفيفين، فاعتدال السوط بما مر من كونه لينا، له رأس لا رأسان، واعتدال الضرب بكونه
__________
(1) البحر الرائق 5 \ 10(61/284)
ضربا بين ضربين، ليس بالمبرح ولا بالخفيف " (1) .
وجاء في الحاوي: " فأما صفة الضرب؛ فلا يكون شديدا قاتلا ولا ضعيفا لا يردع، فلا يرفع باعه فينزل من عل، ولا يخفض ذراعه فيقع من أسفل فيمد عضده " (2) .
وجاء في كشاف القناع: " ولا يبالغ في ضربه بحيث يشق الجلدة لأن الغرض تأديبه وزجره عن المعصية لا قتله، والمبالغة تؤدي إلى ذلك. ولا يبدي الضارب إبطه في رفع يده، أي لا يرفع يده بحيث يظهر إبطه؛ لأن ذلك مبالغة في الضرب " (3) .
__________
(1) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 4 \ 354
(2) الحاوي 13 \ 435
(3) كشاف القناع 6 \ 81(61/285)
هـ- موضع الضرب من الجسم:
للفقهاء في موضع الضرب من الجسم قولان:
القول الأول: أن الضرب يفرق على أعضاء الجسم، ويتقى المقاتل من الجسد، كالرأس، والوجه، والفرج، وغيرها، من الرجل والمرأة جميعا، وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية (1) والحنابلة
__________
(1) الحاوي 13 \ 437، وروضة الطالبين 10 \ 172، وأسنى المطالب 3 \ 160(61/285)
والظاهرية (1) .
جاء في الهداية: " ويفرق الضرب على أعضائه؛ لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف، والحد زاجر لا متلف. . . إلا رأسه ووجهه وفرجه، ولأن الفرج مقتل، والرأس مجمع الحواس، وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا، فلا يؤمن فوات شيء منها بالضرب " (2) .
وجاء في الحاوي: "يجب في جلد الحدود أن يفرق الضرب في جميع البدن ليأخذ كل عضو حظه من الألم، ولا يجمعه في موضع واحد، فيفضي إلى تلفه، إلا في موضعين عليه أن يتقي ضربهما:
أحدهما: المواضع القاتلة كالرأس والخاصرة والقواد (3) والنحر والذكر والأنثيين.
والثاني: ما شانه الضرب وقبحه كالوجه. . . فأما ضرب التعزير فالمذهب أنه يفرق في جميع الجسد كالجلد " (4) .
وجاء في المغني: " فإن الضرب يفرق على جميع جسده ليأخذ كل عضو فيه حصته، ويكثر منه في مواضع اللحم كالإليتين والفخذين، ويتقي المقاتل وهي: الرأس والوجه والفرج من
__________
(1) المحلي 11 \ 168
(2) الهداية شرح بداية المبتدي، مطبوع مع فتح القدير 5 \ 231
(3) القواد: الأنف يقال: هو حسن القواد. المشوف المعلم 2 \ 617
(4) الحاوي 13 \ 437(61/286)
الرجل والمرأة جميعا " (1) وجاء في المحلى: "فلم نجد عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بأن يخص عضوا بالضرب دون عضو إلا حد القذف " (2) .
القول الثاني: أن الضرب يكون على الظهر والكتفين فقط، وهذا قول جمهور المالكية.
جاء في جواهر الإكليل: " ويضرب على الظهر والكتفين دون سائر الأعضاء " (3) .
وذكر الدسوقي قولا آخر عند المالكية، وهو: أن محل الضرب في التعزير موكول إلى الإمام.
جاء في حاشيته: " قوله: بظهر؛ وكتفيه، أي: بخلاف التعزير، فينبغي أن يوكل محله للإمام " (4) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
ودليل الجمهور على قولهم بتفريق الضرب على البدن قول
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 337
(2) المحلي 11 \ 168
(3) جواهر الإكليل 2 \ 296
(4) حاشية الدسوقي 4 \ 354(61/287)
علي رضي الله عنه للجلاد: اضرب، وأعط كل عضو حقه، واجتنب وجهه ومذاكيره.
وعلي قولهم باتقاء المقاتل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه (1) » .
قال النووي: قال العلماء: هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه، لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه؛ والشين فيه فاحش؛ لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من شين غالبا.
ويدخل في النهي إذا ضرب زوجته، أو ولده، أو عبده، ضرب تأديب، فليتجنب الوجه (2) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة في شأن الغامدية: «ارموا واتقوا الوجه (3) » .
وإذا كان هذا في حق من تعين إهلاكه فمن دونه أولى (4) .
__________
(1) متفق عليه واللفظ للبخاري، البخاري مع الفتح 5 \ 182، ومسلم بشرح النووي 16 \ 165.
(2) شرح النووي على مسلم 16 \ 165
(3) رواه أبو داود 4 \ 590، واللفظ له، والنسائي في الكبرى 4 \ 287 قال الألباني: ضعيف الإسناد، ضعيف سنن أبي داود ص 443
(4) فتح الباري 5 \ 183(61/288)
ودليل المالكية قولهم: إنه ليس الغرض إتلاف الأعضاء، ومنها ما يخاف إفساده بالضرب فيه، والظهر أصل لذلك فكان محلا له (1) .
القول الراجح:
والراجح هو قول الجمهور؛ إذ تفريق الضرب على البدن زيادة زجر وتأديب، فيتألم كل عضو من أعضائه، وأيضا فإن الضرب على عضو واحد قد يعرضه للضرر أو التلف، وليس هذا القصد من التعزير. والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) المنتقي شرح الموطأ 7 \ 142(61/289)
وصفة مسك السوط:
تعرض بعض الفقهاء لكيفية مسك السوط عند الجلد (1) ، وذلك من أكبر الأدلة على دقة الفقهاء- رحمهم الله- وحرصهم على سير التعزير وفق أسس ثابتة.
جاء في الخرشي على خليل: " وصفة السوط أن يكون من جلد واحد، ولا يكون له رأسان، وأن يكون رأسه لينا، ويقبض عليه بالخنصر والبنصر والوسطى، ولا يقبض عليه بالسبابة والإبهام ويعقد عليه عقدة التسعين، ويقدم رجله اليمنى ويؤخر رجله اليسرى، وصفة عقد التسعين أن يعطف السبابة حتى تلقى الكف، ويضم الإبهام إليها " (2) .
ويظهر لي أن الغرض من هذه الصفة التي ذكرها الفقهاء
__________
(1) الخرشي على خليل 8 \ 109، ومواهب الجليل 6 \ 318
(2) الخرشي على خليل 8 \ 109(61/289)
حتى لا يكون الضرب مبرحا؛ لأن مسك السوط باليد والأصابع عرضة لأن يقوى الضرب، والفرق بين الصورتين- أعني: في مسك السوط- يدركه من طبقهما والعلم عند الله تعالى.(61/290)
ز- أقل الجلد:
يرى بعض فقهاء الحنفية أن أقل الجلد ثلاث جلدات؛ لأن ما دونها لا يقع به الزجر.
جاء في الكتاب: " والتعزير أكثره تسعة وثلاثون سوطا، وأقله ثلاث جلدات " (1) .
والصحيح أن أقله لا يتقدر بعدد، بل هو مفوض إلى رأي الإمام فيتقدر بقدر ما يرى أنه يحصل به الانزجار؛ لأن الناس يختلفون بذلك، فقد ينزجر شخص بسوط أو سوطين، وقد لا ينزجر إلا بأضعاف ذلك.
__________
(1) الكتاب 3 \ 198(61/290)
ح- أشد الضرب:
اختلف الفقهاء في أشد الضرب:
فيرى فقهاء الحنفية أن أشد الضرب ضرب التعزير، ثم حد الزنى، ثم حد الشرب، ثم حد القذف.(61/290)
جاء في اللباب: وأشد الضرب التعزير؛ لأنه خفف من حيث العدد فيغلظ من حيث الوصف؛ لئلا يؤدي إلى فوت المقصود، ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء. ثم حد الزنى؛ لأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم، ثم حد الشرب؛ لأن سببه متيقن، ثم حد القذف لأن سببه محتمل لاحتمال صدقه " (1) .
وقد ذكر الكاساني خلافا عند فقهاء الحنفية في معنى الشدة هنا بعدما ذكر أن صفة التعزير أنه أشد الضرب فقال: " واختلف المشايخ في المراد بالشدة المذكورة؛ قال بعضهم: أريد بها الشدة من حيث الجمع، وهي أن يجمع الضربات فيه على عضو واحد ولا يفرق، بخلاف الحدود. وقال بعضهم: المراد منها الشدة في نفس الضرب وهو الإيلام " (2) .
وأما المالكية فيستوي الجلد عندهم في الحدود ".
جاء في المدونة: " قلت لابن القاسم: أي الحدود أشد ضربا في قول مالك: الزاني، أو الشارب، أم حد الفرية؟ قال مالك: ضربها كلها سواء، قال مالك: والضرب في هذا كله ضربا بين الضربين ليس بالمبرح ولا بالخفيف (3) .
__________
(1) اللباب في شرح الكتاب 3 \ 199
(2) بدائع الصنائع 7 \ 64
(3) المدونة 4 \ 404(61/291)
ويرى الشافعية (1) والحنابلة (2) أن جلد الحدود أشد من جلد التعزير. جاء في الأحكام السلطانية: " وأما صفة الضرب في التعزير، فيجوز أن يكون بالعصا وبالسوط الذي كسرت ثمرته كالحد، واختلف في جوازه بسوط لم تكسر ثمرته. . . وذهب جمهور أصحاب الشافعي إلى حظره بسوط لم تكسر ثمرته؛ لأن الضرب في الحدود أبلغ وأغلظ، وهو كذلك محظور، فكان في التعزير أولى أن يكون محظورا (3) .
على أن الحنابلة فصلوا في ذلك فقالوا: أشد الجلد: الجلد للزنى، ثم للقذف، ثم للشرب، ثم للتعزير.
جاء في الكافي: " والضرب في الزنى أشد منه في سائر الحدود؛ لأن الله تعالى خصه بمزيد تأكيد، بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (4) ولأن الفاحشة به أعظم فكانت عقوبته أشد، ثم بعده الضرب في حد القذف؛ لأنه يليه في العدد وهو حق آدمي، ثم الضرب في الشرب؛ لأنه أخف الحدود، وهو محض حق لله تعالى، ثم التعزير، لأنه لا يبلغ به الحد " (5) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 389
(2) الكافي 4 \ 240، والمحرر 2 \ 114، ومغني ذوي الأفهام ص 450
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 389
(4) سورة النور الآية 2
(5) الكافي 4 \ 240(61/292)
ط- وقت إقامة الجلد:
لا يقام الجلد في شدة الحر والبرد؛ بل يؤخر إلى اعتدال(61/292)
الهواء وهذا التأخير واجب إذا غلب على ظن المستوفي هلاكه عند إقامة الجلد، وقد نص على ذلك الفقهاء عند كلامهم على الجلد في الحدود، والتعزير يدخل في حكم الحدود هنا (1) .
جاء في التلقين: "ويقام الحد. . . ولا يؤخر إلا أن يعرض ما يوجب التأخير والعوارض الموجبة لذلك ثلاثة:
منها: معنى في المحدود يختص به.
ومنها: معنى فيه يتعلق بغيره.
ومنها: معنى منفصل عنه.
فالأول: كالمرض الذي يخاف منه إن حد تلفه.
والثاني: الحمل الذي يخاف تلفه بحد الحامل.
والثالث: الزمن (2) الذي يعلم الخطر فيه فيؤدي إلى تلفه (3) .
وجاء في تحفة المحتاج: " ولا حد في حر وبرد مفرطين بل يؤخر مع الحبس لوقت الاعتدال ولو ليلا " (4) .
__________
(1) المدونة 4 \ 404، عقد الجواهر الثمينة 3 \ 311، والتلقين 2 \ 501، وتحفة المحتاج 9 \ 118
(2) رجل زمن: أي مبتلي بين الزمانة والزمانة العاهة، لسان العرب 13 \ 199
(3) التلقين 2 \ 500
(4) تحفة المحتاج 9 \ 118(61/293)
ثانيا: تنفيذ عقوبة السجن:
السجن مشروع بالكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب:
فقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (1) قال ابن العربي: " أمر الله تعالى بإمساكهن في البيوت وحبسهن فيها في صدر الإسلام قبل أن تكثر الجناة، فلما كثر الجناة وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن " (2) .
وقوله عز وجل في قطاع الطريق: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (3) .
والمراد بالنفي هنا الحبس عند بعض الفقهاء.
__________
(1) سورة النساء الآية 15
(2) أحكام القرآن 1 \ 357
(3) سورة المائدة الآية 33(61/294)
وأما السنة:
فقد أسر الصحابة رضوان الله عليهم ثمامة بن أثال، وربطوه بسارية من سواري المسجد، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك (1) .
وحبس الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا في تهمة ثم خلى عنه.
وأما الإجماع:
فقد أجمع العلماء على مشروعيته.
ولذا اهتم الفقهاء بذكر عقوبة السجن، وفصلوا في كثير من أحكامه، وقد أفرد له فصلا مستقلا، فقهاء الحنفية، وبعض من
__________
(1) متفق عليه، البخاري مع الفتح 8 \ 87، ومسلم بشرح النووي 12 \ 87.(61/295)
المالكية (1) ، وباقي الفقهاء ذكروه في أبواب مختلفة؛ كباب التعزير والفلس وغيرهما.
__________
(1) التفريع 2 \ 247(61/296)
أ- مكان السجن:
يكون التعزير بالحبس في البيت أو في السجن حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر (1) .
__________
(1) البحر الرائق 5 \ 52(61/296)
ب- صفة السجن:
لما كان المقصود بالسجن هو التأديب والزجر فقد نص بعض الفقهاء على أن يكون بموضع ليس به فراش ولا وطاء وتكون صفته على ما يختاره ولي الأمر ويرى فيه المصلحة.(61/296)
ج- مدة السجن:
لم يذكر الفقهاء في التعزير بالسجن مدة؛ ذلك لأن الناس يختلفون. فبعضهم يكفيه لينزجر سجن يوم، وبعضهم ينزجر بشهر، وبعضهم بأكثر من ذلك؛ ولذا فإن ولي الأمر يقدر المدة التي يراها موافقة للمصلحة.(61/296)
جاء في البحر الرائق: " وتقدير مدة الحبس راجعة إلى الحاكم " (1) .
وجاء في الإنصاف: " ونص الإمام أحمد رحمه الله في المبتدع الداعية: يحبس حتى يكف عنها. وقال في الرعاية: من عرف بأذى الناس ومالهم، حتى بعينه، ولم يكف: حبس حتى يموت " (2)
__________
(1) البحر الرائق 5 \ 46
(2) الإنصاف 10 / 249.(61/297)
د- حالات خروج السجين:
ذكر الفقهاء رحمهم الله حالات يخرج بها السجين من السجن، وخروجه غالبا ما يكون مؤقتا لحين زوال العذر الذي خرج من أجله، ومن هذه الحالات:
أ- خروجه لإقامة حد عليه.
2 - إذا جن؛ إذ لا فائدة من سجنه، وإن عاد عقله أرجع إلى السجن.
3 - إذا مرض قريب له، كالوالدين والأولاد والإخوة، مرضا شديدا، وخيف عليه الموت أو مات، فإنه يخرج بكفيل.
4 - إن مرض مرضا أضناه؛ فإن كان له من يخدمه لم يخرج، وإلا أخرج.(61/297)
5 - إذا هاجم عدو البلد وخيف قتله أو أسره.
جاء في تبيين الحقائق: " ولا يخرج لموت قريبه، إلا إذا لم يوجد من يغسله ويكفنه، فيخرج حينئذ لقرابة الولادة، وفي رواية يخرج إن وجد من يجهزه، وإن مرض مرضا أضناه، فإن كان له من يخدمه لا يخرج وإلا أخرج " (1) .
وجاء في جواهر الإكليل: " وأخرج المسجون من السجن لإقامة حد شرعي عليه فعل موجبه في السجن، من سكر أو قذف، أو زنى، أو سرقة، أو لذهاب عقله- أي: المسجون- لعدم شعوره بالضيق المقصود من سجنه، وغاية مكثه خارجه لعوده- أي العقل- فيعاد في السجن، واستحسن نائبه ضمير إخراجه من السجن بكفيل بوجهه- أي: ذات المسجون- لأجل مرض أحد أبويه، وولده، وأخيه، وأخته، وشخص قريب للمسجون جدا- أي: قريب القرابة- فلا يخرج لمرض قريب بعيد القرابة- ليسلم على من ذكر ويعود للسجن. . . ولا يخرج لفجء عدو البلد المحبوس فيه في كل حال، إلا لخوف قتله أو أسره، فيخرج في محل يؤمن عليه منهما " (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 \ 182
(2) جواهر الإكليل 2 \ 93(61/298)
هـ- ما يمنع المحبوس عنه:
يمنع المحبوس عن أمور منها أنه:.
1 - لا يخرج للجمع والجماعات والأعياد.
2 - ولا يخرج لتشييع الجنائز وعيادة المرضى والزيارة.
3 - ولا يخرج لأشغاله وأعماله.
4 - ولا يدخل أحد عليه للاستئناس إلا أقاربه وجيرانه فيمكثون قليلا معه ثم يخرجون.
5 - ولا يخرج للمعالجة لأنه يمكن أن يعالج في السجن.
جاء في بدائع الصنائع: " وأما بيان ما يمنع عنه المحبوس وما لا يمنع فالمحبوس ممنوع عن الخروج إلى أشغاله، ومهماته، وإلى الجمع والجماعات، والأعياد، وتشييع الجنائز، وعيادة المرضى، والزيارة، والضيافة. . . " (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 174(61/299)
وجاء في شرح الخرشي: " أن المحبوس لا يمكن من الخروج لصلاة الجمعة؛ لأن لها بدلا، ولا لصلاة العيد. . . " (1) .
وما لا يمنع المحبوس عنه (حقوق السجين) :
لا يمنع المحبوس عن أمور منها:
أ- لا يمنع من دخول أقاربه وجيرانه عليه وقتا قصيرا؛ لأنه يحتاج إليهم للمشاورة.
2 - لا يفرق في السجن بين الأقارب كالأخوين.
3 - إن احتاج إلى الجماع، فلا يمنع من دخول امرأته أو جاريته عليه، إن كان في السجن موضع يستره.
4 - إذا مرض واحتاج إلى من يخدمه فلا بأس من ذلك.
5 - يرى بعض الفقهاء أنه لا يمنع من التصرفات الشرعية من البيع والشراء.
6 - لا يمنع أحد جاء للسلام عليه.
جاء في بدائع الصنائع: " ولا يمنع من دخول أقاربه عليه؛ لأن ذلك لا يخل بما وضع له الحبس، بل قد يقع وسيلة إليه، ولا يمنع من التصرفات الشرعية من البيع والشراء، والهبة،
__________
(1) الخرشي على خليل 5 \ 281(61/300)
والصدقة " (1) .
وجاء في البحر الرائق: " ولا يمنع من الجماع إن احتاج إليه فتدخل امرأته أو جاريته عليه إن كان فيه موضع سترة " (2) .
وجاء في المنتقى: " وقد روي عن محمد بن عبد الحكم:
لا يفرق بين الأب والأبوين ولا غيرهما من القرابات في السجن، ولا يمنع المحبوس في الحقوق ممن يسلم عليه، ولا ممن يخدمه وإن اشتد مرضه، واحتاج إلى أمة تخدمه وتباشر منه ما لا يباشر غيرها، وتطلع على عورته، فلا بأس أن يجعل معه، حيث يجوز ذلك " (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 174
(2) البحر الرائق 6 \ 308
(3) المنتقى شرح الموطأ 5 \ 88(61/301)
ز- عزل الرجال عن النساء:
لما كان اجتماع الرجال والنساء في محل واحد عرضة للفتنة، فقد نص الفقهاء على العزل بينهم حتى في السجن
جاء في الدر المختار: ''ويجعل للنساء سجن على حدة نفيا للفتنة'' (1) .
وجاء في جواهر الإكليل: "ولم يفرق في السجن بين
__________
(1) الدر المختار 5 \ 401.(61/301)
الأخوين من الأقارب، والزوجين المحبوسين في حق عليهما إن خلا السجن فلا يجاب الطالب للتفريق، فإن لم يخل، حبس الرجل مع الرجال، والمرأة بين النساء (1) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 \ 93(61/302)
ثالثا: تنفيذ عقوبة القتل:
ذكر الفقهاء كيفية القتل في أبواب مختلفة منها: الحرابة، والردة، والقصاص، وغيرها، وهم يجمعون على أن القتل يكون بأسهل وأسرع طريقة، ولم يكن ذلك في ذلك الوقت إلا بالسيف.
جاء في بدائع الصنائع " وأما بيان ما يستوفى به القصاص وكيفية الاستيفاء، فالقصاص لا يستوفى إلا بالسيف عندنا " (1) .
وجاء في بداية المجتهد: " فأما صفة القصاص في النفس فإن العلماء اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: يقتص من القاتل على الصفة التي قتل، فمن قتل تغريقا قتل تغريقا، ومن قتل بضرب بحجر قتل بمثل ذلك، وبه قال مالك والشافعي، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له أروح " (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 245
(2) بداية المجتهد 2 \ 440(61/302)
وجاء في حاشية قليوبي: " وفي قول: السيف هو المعتمد " (1) .
وجاء في شرح المحلى: " ومن قتل بمحدد، كسيف، أو من مثقل أو خنق- بكسر النون مصدرا- أو تجويع ونحوه، كإغراق، وإلقاء من شاهق، اقتص به رعاية للمماثلة. . . وفي قول: السيف يقتل به " (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه؛ لأن ذلك أوحى أنواع القتل، وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم- إذا قدر عليه- على هذا الوجه " (3) .
ومن هذا يتبين لنا أن الفقهاء- رحمهم الله- يذكرون السيف؛ لكونه عندهم أسرع وأسهل آلة تنتهي بها حياة المقتول من غير تعذيب، بدليل أنهم يستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم. شفرته، وليرح ذبيحته (4) » .
وبقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان (5) » .
__________
(1) حاشية قليوبي 4 \ 124
(2) حاشية المحلي على منهاج الطالبين 4 \ 124
(3) السياسة الشرعية ص 89
(4) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(5) رواه أبو داود 3 \ 120، وأحمد 1 \ 393 واللفظ له، وابن ماجه 2 \ 894، وضعفه الألباني. انظر: ضعيف سنن ابن ماجه ص 214، وسلسلة الأحاديث الضعيفة 3 \ 376(61/303)
وما دام أن الغرض هو إزهاق روح الجاني بأسهل طريقة، ففي عصرنا يمكن استخدام أي وسيلة حديثة، كالرصاص أو إعطائه حبة طبية أو حقنة ونحو ذلك، متى ما ثبت أن هذه الوسيلة خالية من التعذيب.
بل يمكن أن يقال: إنه يتعين استخدام الرصاص متى ما وجد مبرر لذلك؛ لعدم وجود الجلاد، أو مرضه، أو عدم إتقانه، أو تعدد الجناة، في أماكن مختلفة من الدولة، مع عدم وجود عدد كاف من الجلادين، أو يكون الرصاص في وقت أوجز للناس من السيف، ونحو ذلك.(61/304)
رابعا: تنفيذ عقوبة النفي:
1 - المقصود بعقوبة النفي:
يقصد بعقوبة النفي التعزيرية هي: إبعاد الجاني عن البلد الذي يعيش فيه إلى بلد آخر.(61/304)
- 2- مشروعية النفي:
دل على جواز النفي الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب:
فقوله تعالى في حق قطاع الطريق: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(61/304)
وقد فسر كثير من الفقهاء النفي بأنه الإبعاد عن المكان الذي فعلت فيه الجريمة.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها:
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، وأخرج فلانا، وأخرج عمر فلانا (1) » .
وقد بوب البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله: باب نفى أهل المعاصي والمخنثين (2) .
وعلق ابن حجر رحمه الله على ذلك فقال: كأنه أراد الرد على من أنكر النفي على غير المحارب. فبين أنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده في حق غير المحارب. وإذا ثبت في حق من لم يقع منه كبيرة، فوقوعه فيمن أتى كبيرة بطريق الأولى (3) .
«وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم مخنثا (4) كان في بيته
__________
(1) البخاري مع الفتح 12 \ 159
(2) البخاري مع الفتح 12 \ 159
(3) فتح الباري 12 \ 159.
(4) البخاري مع الفتح 9 \ 333(61/305)
وقال: لا يدخلن هذا عليكن» .
وأما الإجماع:
فقد أجمع العلماء على جوازه (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 93، وبداية المجتهد 2 \ 495، والأم 5 \ 164، والمغني مع الشرح الكبير 10 \ 313.(61/306)
- 3- الحكمة من عقوبة النفي:
وهذه العقوبة مؤثرة بلا شك، إذ البعد عن الأهل والأصدقاء يجعل الإنسان دائم الوقت حزينا؛ نظرا لتغير المكان والناس. فيعيش غريبا في هذا المجتمع الجديد الذي لا يعرف فيه أحدا، خائفا من السؤال عن سبب مجيئه إلى هذا البلد، وهو ببعده هذا يجد الألم والحسر؛ بفقد أقاربه، وتارة باشتياقه إليهم. وهو مع ذلك كله يجد نفسه مضطرا- لطول الوقت- للتفكير ومراجعة أفعاله ومعرفة أخطائه وكيف يتفاداها مستقبلا. والمجتمع- أيضا- منتفع بهذا النفي؛ إذ العضو الفاسد الذي نغص عيشهم قد ابتعد عنهم، ثم هو أيضا تأديب لكل من تسول له نفسه من أفراد المجتمع، إذا ما تذكر هذا المصير المر، وكيف يقدم على محرم، وهو يرى بعينه ذلك الكسر، يعاني من ويلات البعد، ويئن تحت(61/306)
وطأة الغربة، يسفح دمعه تائبا راجيا أن يعود إلى بلده وموطنه.(61/307)
4 - مدة النفي:
اختلف العلماء في مدة النفي في عقوبة التعزير، على قولين:
القول الأول: أن مدة النفي غير مقدرة بزمن، وإنما تقدر بما يردع الجاني، وإلى هذا ذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
جاء في المبسوط: " ونحن نقول: يحبس بطريقة التعزير حتى تظهر توبته". (3) .
وجاء في تبصرة الحكام: " والتعزير لا يختص بفعل معين، ولا قول معين. . . وعزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي، فأمر بإخراج المخنثين من المدينة، ونفيهم، وكذلك الصحابة من بعده ". (4) .
القول الثاني: أن أكثر مدة النفي لا بد أن تنقص عن السنة ولو بيوم واحد، وإلى هذا ذهب الشافعية (5) والحنابلة (6) . جاء في الأحكام السلطانية للماوردي: " واختلف في غاية
__________
(1) المبسوط 9 \ 45
(2) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 \ 296
(3) المبسوط 9 \ 45
(4) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 \ 296.
(5) الحاوي 13 \ 425، والأحكام السلطانية للماوردي ص 386، ونهاية المحتاج 8 \ 21،
(6) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 279، والإنصاف 10 \ 255، والفروع 6 \ 115.(61/307)
نفيه وإبعاده. فالظاهر من مذهب الشافعي تقدر بما دون الحول ولو بيوم واحد لئلا يصير مساويا لتعزير الحول في الزنى، وظاهر مذهب مالك أنه يجوز أن يزاد فيه على الحول بما يرى من أسباب الزواجر" (1) .
وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: " وعامة نفيه مقدر بما دون الحول ولو بيوم واحد؛ لئلا يصير مساويا لتغريب الحول في الزنى " (2) .
القول الراجح:
والراجح هو القول الأول: وهو أن مدة النفي غير محددة حتى ينزجر الجاني، ويتوب، إذ الغرض من النفي هو التأديب. وإذا قلنا بالتحديد فقد لا ينزجر بهذه المدة المقدرة التي نفي فيها، وحينئذ يخلو النفي من الفائدة المعلقة عليه، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 386.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 279.(61/308)
خامسا: تنفيذ عقوبة الصلب:
الصلب من العقوبات التعزيرية التي تطبق على الجناة، متى ما رأى ولي الأمر أن المصلحة في ذلك.
أ- كيفية الصلب:
وأما كيفيته فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند حديثه عن(61/308)
عقوبة المحاربين، قال: وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال؛ ليراهم الناس ويشتهر أمرهم. (1) .
__________
(1) السياسة الشرعية ص 90.(61/309)
ب- ما لا يمنع عن المصلوب:
قرر الفقهاء- رحمهم الله- أن المصلوب إذا صلب فإنه لا يمنع من الطعام الشراب، وكذا لا يمنع من الوضوء للصلاة. جاء في الأحكام السلطانية للماوردي: " ويجوز أن يصلب في التعزير حيا، ولا يمنع- إذا صلب- من أداء الطعام والشراب، ولا يمنع من الوضوء، ويصلي موميا ويعيد إذا أرسل ". (1) .
وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: " ويجوز أن يصلب في التعزير حيا، ولا يمنع- إذا صلب- من طعام وشراب ولا يمنع من الوضوء للصلاة ويصلي موميا ولا يعيد ". (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 389
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 283.(61/309)
ج- مدة الصلب:
وأما مدة الصلب في عقوبة التعزير، فقد قرر فقهاء الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، بأن مدة الصلب لا تتجاوز ثلاثة أيام.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 389
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 283(61/309)
جاء في الأحكام السلطانية للماوردي ولأبي يعلى: "ولا يتجاوز بصلبه ثلاثة أيام". (1) .
ويمكن القول بأن هذه المدة لا دليل عليها، وإنما هي اجتهاد من الفقهاء رحمهم الله، ولعلهم رأوا أنه بعد ثلاثة أيام قد يتشوه الميت، أو تخرج رائحة كريهة. وهذه العلة قد تكون بعد يوم الصلب مع حرارة الجو، وما دام أن الغرض من الصلب هو التأديب والانزجار، فيمكن أن تتجاوز المدة ثلاثة أيام متى أمن الضرر على الميت، وكان تجاوز المدة فيها مصلحة راجحة.
ولذا يترك الأمر في تقدير هذه المدة لولى الأمر؛ ليأمر بما يرى فيه المصلحة، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 389، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 283(61/310)
سقوط العقوبة التعزيرية وأسبابه في الفقه:
ذكر الفقهاء- رحمهم الله- أسبابا لسقوط العقوبة وعدم استيفائها، ومن هذه الأسباب:
أولا: العفو:
التعزير الواجب إما أن يكون حقا للعبد أو حقا لله.
أ- حق العبد: وهو ما له إسقاطه؛ كالسب، والضرب، والإيذاء بوجه ما، وإن كان فيه حق لله تعالى؛ لأنه ما من حق لآدمي إلا ولله فيه حق؛ إذ من حق الله على كل مكلف ترك أذية(61/310)
غيره من المعصومين.
ب- حق الله تعالى: وهو ما ليس لأحد إسقاطه، كالأكل في نهار رمضان، وتأخير الصلاة، وطرح النجاسة ونحوها في طريق العامة. .
1 - حق العفو عن التعزير الذي لحق العبد:
اتفق الفقهاء رحمهم الله على أنه يجوز العفو عن التعزير الذي وجب لأجله.
جاء في بدائع الصنائع: " وأما صفته أي صفة التعزير- فله صفات. . . ومنها: أنه يحتمل العفو والصلح والإبراء؛ لأنه حق العبد خالصا، فتجري فيه هذه الأحكام، كما تجري في سائر الحقوق للعباد من القصاص، وغيره بخلاف الحدود ". (1) .
وجاء في حاشية الدسوقي: " بخلاف التعزير لحق الآدمي، فإنه لا يسقط بذلك. نعم، يسقط لعفو صاحب الحق عنه". (2) .
وجاء في الأحكام السلطانية للماوردي: " والوجه الثاني: أن الحد، وإن لم يجز العفو عنه، ولا الشفاعة فيه، فيجوز في
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 64
(2) حاشية الدسوقي 4 \ 354(61/311)
التعزير العفو عنه، وتسوغ الشفاعة فيه". (1) .
وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: " فهل يجوز في التعزير العفو، وتسوغ الشفاعة فيه. . .؟ نظرت: فإن تعلق بحق آدمي وعفا عن حقه، جاز عفوه ". (2) .
2 - العفو عن التعزير الذي لحق الله تعالى:
اختلف العلماء في العفو عن التعزير الذي لحق الله تعالى على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن ما نص عليه من التعزير كما في وطء جارية امرأته، أو المشتركة، وجب امتثال الأمر فيه. وما لم ينص عليه، إذا رأى الإمام المصلحة، أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب، وما علم أنه انزجر بدونه لا يجب، وإلى هذا ذهب الحنفية (3) وهو قول عند الحنابلة (4) .
جاء في فتح القدير: " ولنا أن ما كان منصوصا عليه من التعزير، كما في وطء جارية امرأته، أو جارية مشتركة يجب امتثال الأمر فيه. وما لم يكن منصوصا عليه؛ إذا رأى الإمام- بعد مجانبة هوى نفسه- المصلحة، أو علم أنه لا ينزجر إلا به
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 387.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 281
(3) فتح القدير 5 \ 346، والبحر الرائق 5 \ 49، وحاشية ابن عابدين 4 \ 80
(4) المغني مع الشرح الكبير 10 \ 349، والكافي 4 \ 243(61/312)
وجب؛ لأنه زاجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد" (1) . وجاء في الكافي: " ويجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما، وما عداهما يفوض إلى اجتهاد الإمام ". (2) .
القول الثاني: أن إقامة التعزير إذا كان لحق الله واجب، لا يجوز العفو فيه. وهذا قول بعض فقهاء المالكية (3) ، ويستثني بعضهم من ذلك إتيان من يراد تعزيره تائبا (4) ، وهو المذهب عند الحنابلة بلا استثناء (5) .
جاء في الشرح الكبير: " وعزر الإمام أو نائبه ممن له ذلك لمعصية الله. . . إلا أن يجيء تائبا " (6) .
وجاء في الإنصاف: " باب التعزير، وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. . . قوله: واجب، هذا المذهب مطلقا وعليه أكثر الأصحاب" (7) .
القول الثالث: أن التعزير الذي لحق الله يجوز لولي الأمر
__________
(1) فتح القدير 5 \ 346
(2) الكافي 4 \ 243
(3) الفروق 4 \ 179، والشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 4 \ 354 وحاشية الدسوقي 4 \ 354
(4) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقى 4 \ 354 وحاشية الدسوقي 4 \ 354
(5) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 282، والإنصاف 10 \ 240
(6) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 4 \ 354
(7) الإنصاف 10 \ 240(61/313)
فيه أن يراعي الأصلح في العفو، أو التعزير، وهو المشهور عند المالكية (1) وإليه ذهب الشافعية (2) .
جاء في المدونة: " قلت: أرأيت الشفاعة في التعزير أو النكال بعد بلوغ الإمام، أيصلح ذلك أم لا؛ قال: قال مالك في الذي يجب عليه التعزير، أو النكال، فيبلغ به الإمام، قال مالك: ينظر الإمام في ذلك؛ فإن كان لرجل من أهل المروءة والعفاف، وإنما هي طائرة أطارها، تجافى السلطان عن عقوبته.
وإن كان قد عرف بذلك، وبالطيش، والأذى ضربه النكال. فهذا يدلك على أن العفو والشفاعة جائزة في التعزير، وليست بمنزلة الشفاعة في الحدود " (3) .
وجاء في روضة الطالبين: "الجناية المتعلقة بحق الله تعالى خاصة، يجتهد الإمام في تعزيرها بما يراه من ضرب، أو حبس، أو اقتصار على التوبيخ بالكلام. وإن رأى المصلحة في العفو فله ذلك ". (4) .
الأدلة:
استدل من قال بوجوب إقامة التعزير إذا كان لحق الله تعالى بقولهم: إن التعزير زاجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب
__________
(1) المدونة 4 \ 387، ومواهب الجليل 6 \ 320
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 387، والمهذب 2 \ 370، وروضة الطالبين 10 \ 176، ومغني المحتاج 4 \ 193
(3) المدونة 4 \ 387
(4) روضة الطالبين 10 \ 176.(61/314)
كالحد (1) . واستدل من قال: إن لولي الأمر الحق في التعزير أو العفو بأدلة منها:
1 - ما رواه البخاري (2) «أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يستقون بها من النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: " اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم»
__________
(1) فتح القدير 5 \ 346، والمغني مع الشرح الكبير 10 \ 349
(2) البخاري مع الفتح 5 \ 34(61/315)
«احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) » وجه الاستشهاد: لو لم يجز ترك التعزير لعزره الرسول صلى الله عليه وسلم على ما قال (2) .
2 - ولما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، قال له رجل: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله (3) ولم يعزره الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 - وترك النبي صلى الله عليه وسلم تعزير الذي غل من الغنيمة.
4 - واستدلوا أيضا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود (4) » . قال الماوردي:
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) المهذب 2 \ 370
(3) متفق عليه، البخاري مع الفتح 10 \ 511، ومسلم بشرح النووي 7 \ 158.
(4) رواه أحمد 6 \ 181، وأبو داود 4 \ 540 واللفظ له، وقال المنذري: وفي إسناده عبد الملك بن زيد العدوي وهو ضعيف، مختصر سنن أبي داود 6 \ 213، والنسائي في الكبرى 4 \ 310، وانظر: تلخيص الحبير 4 \ 149(61/316)
وفي ذوي الهيئات هاهنا وجهان:
أحدهما: أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر.
والثاني: أنهم الذين إذا ألموا بالذنب ندموا عليه وتابوا منه. وفي عثراتهم هاهنا وجهان:
أحدهما: أنها صغائر الذنوب التي لا توجب الحدود.
والثاني: أنها أول معصية ذل فيها مطيع (1) .
وجه الاستشهاد: قال الخطابي: " فيه دليل على أن الإمام مخير في التعزير، إن شاء عزر، وإن شاء ترك، ولو كان التعزير واجبا كالحد، لكان ذو الهيئة وغيره في ذلك سواء". (2) .
القول الراجح:
والراجح- والله أعلم- هو القول الثاني والقائل بأن التعزير - الذي لحق الله يجوز لولي الأمر فيه مراعاة الأصلح من إقامته أو العفو عنه، إذ الغرض من التعزير هو التأديب، والتأديب قد يكون بالتعزير وقد يكون بالعفو، ولا يلزم بإقامة التعزير، قياسا على الحدود، لأن هذا من الفروق التي ذكرها بعض العلماء بين الحدود والتعازير (3) .
__________
(1) الحاوي 13 \ 440
(2) معالم السنن للخطابي، مطبوع مع سنن أبي داود 4 \ 540
(3) الفروق 4 \ 179.(61/317)
ثانيا: التوبة:
لا يخلو التعزير هنا: إما أن يكون لحق الله تعالى، وإما أن يكون حقا للعبد.
أ- فإن كان حقا لله تعالى، فقد أجمع العلماء على أنه يسقط بالتوبة. وقد صرح بذلك فقهاء الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وأما الشافعية فلم أر لهم- فيما اطلعت عليه- ذكرا لأثر التوبة في إسقاط التعزير الذي لحق الله، بيد أنهم فصلوا في أثر التوبة في إسقاط الحدود، وذكروا هناك وجهين، ولعل التعزير يدخل في التفصيل الذي ذكروه في الحدود (3) .
وأما الحنابلة فقد ذكروا التوبة في التعزير الذي لحق الله، وتركوا الأمر لولي الأمر في ذلك (4) .
جاء في حاشية ابن عابدين: "قوله: التعزير لا يسقط بالتوبة لما مر أن الذمي إذا لزمه التعزير، فأسلم، لم يسقط عنه، لكن هذا مقيد بما إذا كان حقا للعبد. أما ما وجب حقا لله تعالى فإنه يسقط. " (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 \ 87
(2) منح الجليل 9 \ 355
(3) روضة الطالبين. 10 \ 158، 159، ومغني المحتاج 4 \ 183، ونهاية المحتاج 8 \ 8.
(4) الكافي 4 \ 243
(5) حاشية ابن عابدين 4 \ 87(61/318)
وجاء في منح الجليل: " وإن جاء فاعل معصية الله تعالى تائبا سقط تعزيره " (1) .
وجاء في روضة الطالبين: " السقوط بالتوبة، وقد سبق أن قاطع الطريق إذا هرب يطلب، ويقام ما يستوجبه من حد أو تعزير، فلو تاب قبل القدرة عليه، سقط ما يختص بقطع الطريق من العقوبات على المذهب، وقيل: قولان. وإن تاب بعد القدرة، لم يسقط على المذهب، وقيل: قولان. وهل تؤثر في إسقاط حد الزنى، والسرقة، والشرب في حق غير قاطع الطريق، وفي حقه قبل القدرة، وبعدها، فيه قولان. ثم ما يسقط بالتوبة في حق قاطع الطريق قبل القدرة يسقط بنفس التوبة. وأما توبته بعد القدرة، وتوبة الزاني، والسارق، فوجهان:
أحدهما: كذلك، ويكون إظهار التوبة كإظهار الإسلام تحت السيف.
والثاني: يشترط مع التوبة إصلاح العمل؛ ليظهر صدقه فيها.
ونسب الإمام هذا الوجه إلى القاضي حسين، والأول إلى سائر الأصحاب، والذي ذكره جماعة من العراقيين وغيرهم هو ما نسبه إلى القاضي، واحتجوا بظاهر القرآن، قال الله تعالى في قطاع الطرق: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) لم
__________
(1) منح الجليل 9 \ 355
(2) سورة المائدة الآية 34(61/319)
يذكر غير التوبة، وقال في الزاني: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (1) ، وفي السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} (2) ، قال الإمام: معرفة إصلاح العمل بأن يمتحن سرا وعلنا، فإن بدا الصلاح أسقطنا الحد عنه، وإلا حكمنا بأنه لم يسقط، قال الإمام: وهذا مشكل؛ لأنه لا سبيل إلى حقيقته، وإن خلي، فكيف يعرف صلاحه؛ ويشبه أن يقال تفريعا على هذا: إذا أظهر التوبة، امتنعنا من إقامة الحد، فإن لم يظهر ما يخالف الصلاح، فذاك، وإن ظهر، أقمنا عليه الحد، وقد ذكرنا في باب حد الزنى في موضع القولين في سقوط الحد بالتوبة طريقين، أحدهما:
تخصيصهما بمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فإن تاب بعد الرفع، لم يسقط قطعا.
والثاني: طردهما في الحالين، وقد يرجع هذا الخلاف إلى أن التوبة بمجردها تسقط الحد، أم يعتبر الإصلاح، إن اعتبرناه اشترط مضي زمن يظهر به الصدق، فلا تكفي التوبة بعد الرفع" (3) .
وجاء في الكافي: " ويجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما. . . فإن جاء تائبا معترفا يظهر منه الندم والإقلاع؛؛ جاز ترك تعزيره. وإن لم يكن كذلك وجب تعزيره؛ لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد " (4)
__________
(1) سورة النساء الآية 16
(2) سورة المائدة الآية 39
(3) روضة الطالبين 10 \ 158، 159
(4) الكافي 4 \ 243(61/320)
والخلاصة: أن التعزير الواجب لحق الله تعالى يسقط بالتوبة إجماعا، وقد حكى غير واحد من العلماء هذا الإجماع.
قال القرافي عند كلامه عن الفرق بين قاعدة الحدود وقاعدة التعازير: " من الفروق أن التعزير يسقط بالتوبة ما علمت في ذلك خلافا ". (1) .
ب-وإن كان التعزير حقا للعبد؛ فلا أثر للتوبة في إسقاطه. وبهذا صرح الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، أما الشافعية (4) والحنابلة (5) فالذي يظهر من كلامهم أنهم لا يفرقون بين التعزير الذي لحق الله، والتعزير الذي لحق العبد من جهة التوبة؛ فهم يوكلون الأمر إلى ولي الأمر، فيقيم التعزير أو يتركه؛ بحسب ما يراه على الشخص المراد تعزيره من الندم، والإقلاع، والصلاح.
وقد سبق قريبا نص كلام الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وأما المالكية فقد جاء في حاشية الدسوقي: " قوله: إلا أن يجيء تائبا. أشار بهذا إلى أن التعزير المتمحض لحق الله يسقط عن مستحقه إذا جاء تائبا، بخلاف التعزير الذي لحق الآدمي،
__________
(1) الفروق 4 \ 181
(2) حاشية ابن عابدين 4 \ 87
(3) حاشية الدسوقي 4 \ 354
(4) روضة الطالبين 10 \ 158، 159
(5) الكافي 4 \ 243(61/321)
فإنه لا يسقط بذلك ". (1)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 \ 354.(61/322)
ثالثا: الموت:
والعقوبات التعزيرية لا تخلو: إما أن تكون متعلقة بالمال أو بالبدن. فإن كانت متعلقة بالمال فلا تسقط بالموت؛ لأنه يمكن الأخذ من المال وإن مات صاحبه.
وان كانت متعلقة بالبدن كالجلد، والسجن، والنفي، والقتل، ونحو ذلك؛ فإنها تسقط؛ لفوات المحل الذي توقع عليه العقوبة التعزيرية، ولم أر- فيما اطلعت عليه- من كلام الفقهاء ذكرا لسقوط التعزير بالموت، ولكنهم ذكروا ذلك عند الكلام على سقوط الحدود والقصاص بالموت، ولعلهم اكتفوا بعدم ذكر ذلك في التعزير؛ لكون التعزير يأخذ حكم الحدود والقصاص في هذه المسألة.
جاء في بدائع الصنائع: " وأما بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه؛ فالمسقط له أنواع منها: فوات محل القصاص؛ بأن مات من عليه القصاص بآفة سماوية؛ لأنه لا يتصور بقاء الشيء في غير محله ". (1) .
وجاء في المنتقى: ". . . وهذا على ما قال؛ لأن حق المقتول متعلق بنفس القاتل، فإذا تلف بأمر السماء، أو بقتل غيره
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 246(61/322)
له في قصاص أو غيره، بطل حقه؛ لأن ما تعلق به حقه قد عدم، فلا سبيل إلى القصاص لعدم محله ". (1) .
وجاء في المهذب: " ومن وجب عليه قصاص في النفس فمات عن مال، أو وجب عليه قصاص في الطرف فزال الطرف، وله مال؛ ثبت حق المجني عليه في الدية؛ لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر كذوات الأمثال " (2) .
وجاء في الكافي: "ومن وجب عليه القصاص في نفس، أو طرف، فمات عن تركة، وجبت دية جنائية في تركته؛ لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجبت الدية، كقتل غير المكافئ، وإن لم يخلف تركة، سقط الحق؛ لتعذر استيفائه " (3) .
كما نص الفقهاء على أن يمين السارق إذا ذهبت بسبب سماوي، أو قصاص، ونحو ذلك، فإنه يسقط القطع.
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 7 \ 122
(2) المهذب 2 \ 241.
(3) الكافي 4 \ 47(61/323)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(61/324)
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
في دائرة المعارف الإسلامية
نقد وعرض الدكتور: خالد بن عبد الله القاسم
تمهيد: تعريف بدائرة المعارف الإسلامية:
تعد " دائرة المعارف الإسلامية " أهم مؤلف استشراقي على الإطلاق، وهذا يرجع لأسباب متعددة منها: العدد الكبير من أساطين المستشرقين المساهمين فيها، وكبر حجمها، وتنوع المعارف فيها، واستمرارية إخراجها، وتعدد لغاتها حيث خرجت بالإنجليزية والفرنسية والألمانية، وترجمت إلى العربية والأردية والتركية وغير ذلك، وتعد بحق خلاصة الفكر الاستشراقي، لذا لا يستغني عنها أي باحث في علم الاستشراق.
وقد شعر المستشرقون في مؤتمراتهم الدولية بالحاجة إلى دائرة معارف لأعلام العرب والإسلام؛ لكي تجمع شتات دراساتهم عنهم باللغات الثلاث: الألمانية والفرنسية والإنجليزية، فدعوا إليها في سنة 1895 م، وكلفوا هوتسما بإنشائها ومطبعة(61/325)
ليدن بإصدارها، واستعين بالمجامع ومؤسسات نشر العلم في أوروبا قاطبة؛ للإنفاق عليها، فأمدتها بالمال.
بدأ تأليفها سنة (1906) ومن أوائل من بادر بها هوتسما، وحرر الدراسات المتعلقة بالخلافة العثمانية وفارس والهند والهولندية، ثم حل محله فيما بعد فنسنك عام (1924 م) .(61/326)
وقد خرجت الطبعة الأولى في سنة (1933 م) في خمسة عشر مجلدا، كل مجلد يقارب خمسمائة صفحة اشتملت على مواد من حرف الألف حتى أجزاء من حرف العين، وبالتحديد انتهت بمادة " عارفي باشا " (1) وطبعتها دار الفكر بالقاهرة.
ثم الطبعة الثانية في سنة (1969 م) في ستة عشر مجلدا كل مجلد يقارب ستمائة صفحة، واشتملت من حرف الألف حتى أجزاء من حرف الخاء، وانتهت بمادة " خدا بخش " (2) وهي
__________
(1) رجل دولة تركي توفي سنة 1313هـ
(2) قانوني هندي محب للكتب وجمعها، توفي سنة 1908 م(61/327)
مشتملة على ما وجد من الدائرة الأصل، ورمزوا للمواد المضافة بالرمز (+) .
وقد بلغ عدد كتاب الدائرة في كلا الطبعتين (486) كاتبا، حرروا (3930) مادة (1) .
كما طبعت طبعة مترجمة كاملة بتمويل من إمارة الشارقة في 33 مجلدا، منها مجلد فهارس، احتوت على الطبعتين الأولى والثانية بهوامشها، وترجم الجزء المتبقي من حرف العين حتى النهاية، وهمش على الزيادة هوامش مفيدة لأساتذة مصريين وبلغت الزيادة عشر وبلغ مجموع الصفحات (10240) صفحة في أكثر من (5000) مادة.
وقد احتوت الدائرة على تشويه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وعلماء الإسلام والمسلمين لا سيما أهل السنة والجماعة، وكافة الدعوات السلفية الإصلاحية ومن أهمها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وسأتناول في هذا البحث مزاعمهم تجاه هذه الدعوة المباركة ومناقشتهم في تلك المزاعم.
__________
(1) هذا العدد مع المواد التي أعاد كتاباتها في الطبعة الثانية مستشرقون آخرون، ويبلغ عددها قرابة ألف مادة(61/328)
الطعن في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
أولا: نظرة عامة لما في الدائرة:
جاء ذم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في مواضع كثيرة في دائرة المعارف الإسلامية ووصفوا بالأوصاف الشنيعة، وافتري عليهم ما لم يقولوا به، وصدق كلام خصومهم فيهم، حيث تزعم الدائرة أنهم يكفرون ما سواهم من المسلمين، وأنهم مشبهة في الصفات، ولا يعترفون بالقياس والإجماع، وأنهم متطرفون، بل هم أشد المسلمين تعصبا وتزمتا، ويحرمون زيارة القبور ويعدونها بدعة، ويهاجمون أشد الأماكن قداسة عند أهل السنة والشيعة،(61/329)
كما أن لهم دورا كبيرا في القرصنة في البحر والسلب في البر، كما كانت تجارة الرقيق بسببهم مزدهرة، وهم ينكرون التقليد! .
وهذه طائفة من النقول من الدائرة الدالة على ذلك:
عند الحديث عن مصادر التشريع الأربعة: (ومهما يكن من شيء فإن المذاهب الأربعة قد تخلت عن هذه [الاكتفاء بالقرآن والسنة وحدهما] وأخذ الإجماع والقياس مكانهما بين أصول الفقه. وهذه الأصول الأربعة لم يعترف بها قط الخوارج والوهابية فضلا عن الشيعة) (1) .
وجاء أيضا: (وكانت زيارة قبور الأولياء من البدع التي حاربها محمد بن عبد الوهاب) (2) .
كما جاء أيضا: (لا يعتبر موحدا كل من زار قبور الأولياء) (3) .
كما جاء عن قبائل الدواسر: (وهم يعيشون حيثما تيسر لهم على السلب، ويقال إنهم أكثر الوهابيين تعصبا وخطورة) (4) . وجاء أيضا: (ولما كان جميع المسلمين اليوم ما عدا المتطرفين من أهل الحديث والمشبهة كالوهابية وأصحاب ابن تيمية يأخذون بما يقوله الغزالي في أمر العقائد الإسلامية، ويقدرونه تقديرا كبيرا فيحسن أن نرجع إلى الرسالة القدسية التي
__________
(1) الدائرة الأولى 12 \ 285، السنة فنسنك
(2) الدائرة الأولى 10 \ 473، زيارة، فنسنك
(3) الدائرة الثالثة 32 \ 10174 مرجليوث
(4) الدائرة الأولى 9 \ 306، دواسر، فاير(61/330)
كتبها في بيت المقدس) (1) .
وجاء أيضا: (وكذلك يرى الوهابيون في أنفسهم أنهم وحدهم هم الموحدون، وأن سائر المسلمين مشركون وأنهم هم أنفسهم المكلفون بإحياء السنة، وهم يرون أن السنة القديمة وشخصية النبي وجوهر الإسلام تبعا لذلك قد شوهت بسبب تقديس الأولياء، وهم من أجل ذلك يهاجمون أكثر أماكن الإسلام قداسة عند أهل السنة وعند الشيعة؛ لأن هذه الأماكن تعتبر في نظرهم معاقل لعبادة الأوثان) (2) .
وجاء: (وزار بورخارت هذا المكان- بقيع الغرقد - بعد غزو الوهابيين فوجد أنه أصبح أتعس المقابر حالا في المشرق- يشير إلى هدم القباب والزخارف -) (3) .
كما جاء في وصف جماعة أهل الحديث في الهند: (ويسمي الوهابيون في الهند أنفسهم بهذا الاسم) ثم جاء في وصفهم: (عنوا خاصة بتوكيد التوحيد، وإنكار علم الغيب لأي من مخلوقات الله، وقد اقتضى هذا إنكار كرامات الأولياء، والمبالغة في تقديسهم) (4) .
كما جاء: (وكان هدف البريطانيين من تدخلهم في سياسة
__________
(1) الدائرة 4 \ 265، الله، ماكدونالد
(2) الدائرة الأولى 13 \ 217، شرك، بيوركمان
(3) الدائرة 7 \ 462، بقيع الغرقد، بلا
(4) الدائرة 5 \ 143، 144، أهل الحديث، ش عنايات الله(61/331)
بحر فارس هو القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة اللتين كانتا قد نظمتا تنظيما أفضل مع اتساع نفوذ الوهابيين) (1) .
كما جاء: (المخترعات الحديثة تستخدم بلا حرج بين الوهابيين، وهم أكثر فرق الإسلام الحديث تزمتا) (2) .
كما جاء عن بعض سكان سومطرة الأندونوسية: (وقد عاد من الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة من أهل منغكاباو بعد أن أدوا فريضة الحج، ورأوا الحكم الوهابي في مكة بعد سنة 1806 م فامتلأت نفوسهم بالحماسة لتزمت الوهابيين وتشددهم) (3) ، كما جاء وصفهم بـ " التطرف " (4) .
وجاء أيضا: (ولقد رفض الوهابيون السماح لقوافل المحمل الذي أعدته الحكومة التركية بدخول الأراضي المقدسة، وأبطل سعود الخطبة للسلطان، وقال في رسالة رسمية: إنه ليس على والي دمشق أن يعتنق المذهب الوهابي فحسب، بل على السلطان أن يفعل ذلك. ولما رفض صاحب دمشق رفضا باتا أن يذعن لمشيئته أجابه سعود بسلب حوران في يوليه عام 1810 م) (5) .
__________
(1) الدائرة 6 \ 297، بحر فارس، بكنكهام
(2) الدائرة 6 \ 417، بدعة، روبصون
(3) الدائرة 6 \ 411، بدري، كرن
(4) الدائرة 4 \ 265، الله، ماكدونالد
(5) الدائرة 1 \ 309، ابن سعود، مورتمان(61/332)
وجاء في الدائرة أيضا: (وينكر الوهابية، وأولهم إمامهم ابن عبد الوهاب التقليد) (1) .
__________
(1) الدائرة 9 \ 476، التقليد، شاخت(61/333)
ثانيا: عدم وجود الأدلة على ما زعموا:
لم يقم دليل واحد على غالب تلك الدعاوى، وقد أخذها أولئك المستشرقون من أعداء الدعوة الإصلاحية " الوهابية " إذ أن تلك هي مفترياتهم القديمة على الدعوة.
ورسائل الشيخ وكتبه ومصنفات تلاميذه موجودة متاحة، فالواجب الرجوع إليها والتأكد من تلك المزاعم.
إن كتب أئمة الدعوة طافحة بخلاف أكثر ما ذكر، مستدلة في جميع مسائلها بالقرآن والحديث وإجماع أهل العلم.
وقد أنكر الشيخ نفسه في حياته كثيرا من هذه المزاعم التي افتراها عليه بعض أعدائه، حيث جاء في إحدى رسائله إلى أهل القصيم: " ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتسبين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها قوله: أني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وأني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وأني أدعي الاجتهاد، وأني خارج عن التقليد، وأني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة. وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري؛ لقوله يا أكرم الخلق، وأني أقول: لو أقدر(61/333)
على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابا من خشب، وأني أحرم زيارة قبر النبي، وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وأني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وأني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل: سبحانك هذا بهتان عظيم ".
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عن أعداء الدعوة:
" وعندما عجز كبراؤهم في ميادين الحجج والبراهين وباءوا بالفشل لجأوا إلى وضع العقبات في سبيل الدعوة وإلى الاعتداء الأمر الذي ألجأ الشيخ وحزبه برياسة الأمير محمد بن سعود أن يقاومهم. . . فجرت الحروب الشديدة بين حزب الشيخ وبين أولئك المخالفين، فكما فشلوا في ميادين الحجج العلمية(61/334)
وخرجوا صفر اليدين، فشلوا أيضا في ميادين المقارعة والحروب، وكان النصر في الأغلب حليف الشيخ وحزبه. فلما لم يبق لديهم من سلاح يحاربون الدعوة به؛ شرع بعض المدعين للعلم والحكام يزيدون في اختلاقهم للأكاذيب والافتراءات وينسبونها إلى الشيخ، وأخذوا في استعمال الدعايات الكاذبة والإشاعات الباطلة، وطفق بعضهم يكتب إلى الأتراك، وإلى الأشراف في الحجاز: إن هذا مبتدع، ومذهبه خامس المذاهب، ولا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر جميع الناس إلا من كان من أتباعه. . . ".
إن أعداء الدعوة من أهل نجد والحجاز المصريين والأتراك غير مؤهلين للسماع منهم؛ لكون غالب عداوتهم للدعوة من باب الجهل والحسد، وكفهم عما يخالف الشريعة مما ألفوه من البدع، وانقطاع ما يصل إلى بعضهم من أموال حقا كانت أم باطلا.
وقد فطن لذلك التشويه والافتراءات على دعوة الشيخ رحمه الله بعض المؤرخين المسلمين والغربيين المحايدين، فنبهوا على كذب تلك المزاعم، ومن ذلك:
ما ذكره الجبرتي المؤرخ المصري الشهير في حوادث(61/335)
الحج سنة 1223 هـ، حيث قال عن أهم الأحداث: " ومنها انقطاع الحج الشامي والمصري معتلين بمنع الوهابي الناس عن الحج، والحال ليس كذلك؛ فإنه لم يمنع أحدا يأتي الحج على الطريقة المشروعة؛ وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع، مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة، وقد وصل طائفة من الحجاج المغاربة حجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء، ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي، وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها، خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم، ولم يمكث إلا الذي ليس له إيراد من ذلك، وأتوا إلى مصر والشام، ومنهم من ذهب إلى إسلامبول يتشكون من الوهابي، ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين؛ لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق، واتصال الصلات ".
ومن المعلوم أن الجبرتي شاهد منصف، وليس له أي ميول(61/336)
في هذه القضية، وقد شهد الجميع بنزاهته وتثبته، ومن ذلك ما جاء في الدائرة نفسها بقلم اثنين من كتابها حيث قال ماكدونالد(61/337)
في الطبعة الأولى: (ولا شك في نزاهة أحكام الجبرتي، فهو من بيت علم يعرف قدر الرواية المحكمة إذا رواها شاهد عيان) (1) . وقال عن تاريخه: (وهو أعظم تواريخ مصر في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة) (2) .
كما وصفه إيالون في الطبعة الثانية بقوله حين الحديث عن أسرته: (وظهر في هذه الأسرة مؤرخ عظيم، كان بلا شك ظاهرة فريدة في فن تدوين التاريخ الإسلامي) (3) .
وقال العلامة العراقي الآلوسي عن دعوة الشيخ في كتابه "تاريخ نجد": " ونقص عليك شيئا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفا من أخباره وأحواله؛ ليعلم الناظر فيه بحقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغواه، وبالغ في كفره واستهواه. . . ".
ثم أخذ يسرد فضائله ويبرهن على صحة معتقده (4) .
__________
(1) الدائرة 11 \ 65، الجبرتي، ماكدونالد
(2) الدائرة 11 \ 65، الجبرتي، ماكدونالد
(3) الدائرة 11 \ 66، الجبرتي، إيالون
(4) انظر: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ، عبد الله بن سعد الرويشد ص 408، 409، رابطة الأدب الحديث، دطت(61/338)
وقال برائجس (1) : لقد أشاع الباب العالي أنه- أي سعود بن عبد العزيز - نهى الناس عن زيارة المدينة، إلا أن هذا ليس بصحيح، فإنه نهى فقط عن ارتكاب الأعمال الشركية عند الروضة المطهرة، كما نهى عنها عند قبور الأولياء. . . بعض الجهال يرونهم- أي الوهابيين- كفارا، وقد اعتمد الأتراك على الشائعات التي روجها الأشراف، إلا أن الحقيقة أنهم متبعون تماما للقرآن والسنة، وكانت حركتهم تطهيرية خالصة في الإسلام "، وقال أيضا ردا على أحد الفرنسيين وقد ألف كتابا سنة 1808 هـ ادعى بأنه سمع من مقرب من سعود أن سعود ألغى الحج، فرد عليه برائجس: " يجب على الفرنسي الأحمق الذي ذكر نسخ الحج أن يعرف أن سعود نهى عن التقاليد القبيحة في الحج، وأن أول عمل عمله بعد دخول مكة هو الطواف والعمرة ".
فكما أن هذا هو حال أعداء الدعوة في شبهاتهم فإن حالهم كذلك في قتالهم، ولا أدل على ذلك مما ذكره الجبرتي بعد هزائم المصريين والأتراك أول الأمر في الجزيرة العربية، حيث قال نقلا عن بعض من حضر الحرب: " ولقد قال لي بعض أكابرهم- في جيش محمد علي - من الذين يدعون الصلاح: أين لنا بالنصر؟! وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا
__________
(1) أحد الغربيين الذين زاروا الشرق، وكان في البصرة سنة 1784 م، وله كتابه: تاريخ موجز للوهابيين(61/339)
ينتحل مذهبنا، وبصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضنا أذان، ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذنون وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم للحرب طائفة، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعساكرنا يتعجبون من ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته.
وكان كثيرا من قتلاهم- الجيش المصري- لما ظهرت عورته لغسيله بعد القتل وجدوا غلفا غير مختونين، وقد سبى الجيش المصري نساء في بدر، حتى إن بعض أهل بدر الصلحاء قال لبعض العسكر: أعطني زوجتي. قال: حتى تبيت معي الليلة، وأعطيها لك من الغد " (1) .
وقد شهد بصحة معتقد الشيخ محمد وأتباعه - رحمهم الله- علماء مكة والمدينة من سائر المذاهب وكذا الشريف غالب أمير مكة حينذاك بعد الجلوس مع علماء الدعوة.
كما مدح دعوته وأطنب في مدحه كثير من العلماء والمفكرين
__________
(1) تاريخ الجبرتي 7 \ 823(61/340)
المنصفين من خارج نجد منهم الأمير الصنعاني، ومؤرخ مصر الجبرتي، والشيخ القاسمي الذي حوكم بتهمة العمل على الوهابية، والعلامة الآلوسي، وكذلك الشيخ محمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي، والشيخ طاهر(61/341)
الجزائري، والزركلي (1) ، وغيرهم كثير (2) .
وهذا المطلب في حد ذاته كاف كرد إجمالي على تلك المطاعن جميعا.
__________
(1) خير الدين الزركلي المؤرخ السوري المشهور وصاحب كتاب الأعلام، وقد مدح الشيخ في ترجمته له 6 \ 257
(2) نظر جميع ذلك ما خلا الجبرتي في: ''محمد بن عبد الوهاب في التاريخ '' عبد الله بن سعد الرويشد 408، 409(61/342)
ثالثا: علماء الدعوة وتكفير المسلمين:
جاءت هذه الفرية على لسان بيوركمان بقوله: " يرى الوهابيون في أنفسهم أنهم وحدهم هم الموحدون، وأن سائر المسلمين مشركون " (1) .
__________
(1) الدائرة، الأولى 13 \ 217، شرك، بيوركمان(61/342)
وهذه الفرية نشرها ابن عابدين في حاشيته (1) ، وابن دحلان حيث يقول عن محمد بن عبد الوهاب: " وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله ".
إن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لا يكفرون عموم المسلمين؛ وإنما يكفرون من قامت عليه الحجة بالعلم ثم أشرك مع الله غيره بعبادة القبور، أو بموالاة عبادها على أهل التوحيد، أو عمل ناقضا من نواقض الإسلام المجمع عليها.
قال محمد بن عبد الوهاب: " فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد ".
__________
(1) رد المحتار 3 \ 309، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دطت(61/343)
وقال أيضا: " وأما التكفير، فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك " (1) .
وقال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مدافعا عن مذهبه وردا على ما قاله له: " إنك ضللت وكفرت من خالف مذهبك في الصفات " فقال: " إن الأمة اختلفوا في هذه المسائل اختلافا كثيرا، ولم يكفر بعضهم بعضا؛ وإنما يكفرون من خالف نص كتاب أو سنة، وقامت عليه الحجة، واعتقد أن الحق خلاف ذلك.
وأما نحن فلم نكفر أحدا بهذه الأمور، وإنما كفرنا من أشرك بالله وعبد معه غيره، وقامت عليه الحجة، واستهزأ بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو شيء منه، أو كرهه وأبغضه، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2)
__________
(1) رسالة محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1 \ 51
(2) سورة المائدة الآية 72(61/344)
وقال لنبيه صلى الله عليه وسل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (3) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (4) وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (5) ، وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن: " وأما القول بأننا نكفر الناس عموما، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل " ومثل هذا، وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، إذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم؛ فكيف نكفر
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة الحج الآية 31
(3) سورة التوبة الآية 65
(4) سورة التوبة الآية 66
(5) سورة محمد الآية 9(61/345)
من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا! أو لم يكفر ويقاتل! سبحانك هذا بهتان عظيم " (1) .
وقال أيضا: " وقد جاء في الحديث: «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما (2) » فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه- انتشار الجهل- دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام ".
فهؤلاء أئمة الدعوة ينكرون هذه التهمة مبينين إدراكهم لعظم تكفير المسلم، وأنه من صفات الجهلة المتعجلين. وربما صدر تكفير بعض من يستحق ذلك، وقد مضى بيان حال بعض المخالفين في كلام الجبرتي السابق.
__________
(1) ''الإمام محمد بن عبد الوهاب'' للرويشد 1 \ 71
(2) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/18) ، موطأ مالك الجامع (1844) .(61/346)
رابعا: وصف أتباع محمد بن عبد الوهاب بالمشبهة:
جاء في الدائرة اتهام أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالتشبيه في صفات الله تعالى (1) .
ومصنفات علماء الدعوة تنفي هذه التهمة بدءا من الشيخ نفسه حيث قال في شرح اعتقاده: " أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به
__________
(1) الدائرة 4 \ 265، الله، ماكدونالد. تقدمت ترجمته(61/346)
نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه ".(61/347)
خامسا: اتهامهم بإنكار الإجماع والقياس:
جاء في الدائرة قول فنسنك (1) عن مصادر التشريع: " وهذه الأصول الأربعة لم يعترف بها قط الخوارج والوهابية فضلا عن الشيعة " (2) أي: أنهم يقتصرون على الكتاب والسنة، وينكرون الإجماع والقياس.
وهذا أيضا من الاتهامات الباطلة، وليس هناك ما يدل عليها، وكتب علماء الدعوة طافحة بالاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وقد ذكر علماء الدعوة أنهم على مذهب الحنابلة في أصول الفقه، حيث يأخذون بالنصوص في الكتاب والسنة ثم بأقوال الصحابة إذا اجتمعوا، وإذا اختلفوا اجتهدوا في التخير بين أقوالهم، ولم يخرجوا عنها، ثم بالحديث المرسل والضعيف المنجبر إذا لم يعارض، ثم بالقياس (3) .
__________
(1) سبقت ترجمته
(2) الدائرة الأولى 12 \ 285، السنة، فنسنك
(3) رسالة للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الدرر السنية 3 \ 10(61/347)
سادسا: اتهامهم بالتطرف والتشدد والتزمت:
جاء في الدائرة بقلم ماكدونالد (1) : " ولما كان جميع المسلمين اليوم ما عدا المتطرفين من أهل الحديث والمشبهة كالوهابية وأصحاب ابن تيمية. . . " (2) .
وقال روبصون: " المخترعات الحديثة تستخدم بلا حرج بين الوهابيين، وهم أكثر فرق الإسلام الحديث تزمتا " (3) .
وقال كرن عن بعض سكان سومطرة الأندونيسية: " وقد
__________
(1) سبقت ترجمته
(2) الدائرة 4 \ 265، الله، ماكدونالد
(3) الدائرة 6 \ 417، بدعة، روبصون(61/348)
عاد من الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة من أهل منغكاباو، بعد أن أدوا فريضة الحج، ورأوا الحكم الوهابي في مكة بعد سنة 1806 م فامتلأت نفوسهم بالحماسة لتزمت الوهابيين وتشددهم " (1) .
قال مورتمان: " ولقد رفض الوهابيون السماح لقوافل المحمل الذي أعدته الحكومة التركية بدخول الأراضي المقدسة، وأبطل سعود الخطبة للسلطان، وقال في رسالة رسمية: إنه ليس على والي دمشق أن يعتنق المذهب الوهابي فحسب بل على السلطان أن يفعل ذلك، ولما رفض صاحب دمشق رفضا باتا أن يذعن لمشيئته
__________
(1) الدائرة 6 \ 411 بدري، كرن(61/349)
أجابه سعود بسلب حوران في يوليه عام 1810 م " (1) .
قلت: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة دين الله هو المقصود بالتشدد والتزمت والتطرف فنعم؛ فقد كانت دعوة الشيخ كذلك، بل ذلك هو غاية دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما سوى ذلك فلم تكن دعوة الشيخ رحمه الله بهذه الصفة، " بل إن الشيخ نفسه رغم شدة خصومة مناوئيه وضراوتها، وشناعة عنادهم، واستمراره، إلا أن الشيخ رحمه الله قد كان حريصا على هداية أولئك الخصوم، فيبذل الأسباب والوسائل لتحقيق ما يؤدي إلى استقامتهم والتزامهم بمتابعة الحق المؤيد بالدليل، ويظهر اللين والتلطف معهم ".
ومن أمثلة ذلك: رسالته للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف أحد علماء الإحساء، حيث يخاطبه فيقول: " سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إلينا من ناحيتكم رسالة فيها إنكار وتغليظ علي، ولما قيل إنك كنت معهم وقع في الخاطر بعض الشيء؛ لأن الله نشر لك الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس " (2) .
__________
(1) الدائرة 1 \ 309، ابن سعود، مورتمان
(2) الدرر السنية 1 \ 31(61/350)
مع أن الشيخ المخاطب سبق له أن ألف رسالة في الرد على الشيخ سماها " سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد" (1) .
كما يخاطب الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى فيقول: " إني أدعو لك في سجودي، وأنت وأبوك أجل الناس إلي وأحبهم عندي " (2) .
ومع ذلك فقد عانى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الشيخ المخاطب وأبيه معاناة شديدة، وأصابه منهما نكد وهم، كما صرح به الشيخ في رسائله (3) .
وهذا محمد بن فيروز الحنبلي المدافع عن الاستغاثة بالأموات، ومن ألد أعداء دعوة الشيخ، وقد كتب إلى الأتراك يستنجدهم لقتال البغاة الخارجين بنجد، وهو يقصد الشيخ وأتباعه، وحسبنا في بيان شدة كراهته وتعديه قوله: لعل الشيخ - يعني عبد الوهاب - غفل عند مواقعة أمه- يعني أم محمد بن عبد الوهاب- فسبقه الشيطان إليها فكان أبا هذا المارد " (4) .
ومع ذلك يصف الشيخ ابن فيروز في إحدى رسائله: " ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة " (5) .
__________
(1) دعاوى المناوئين ص 36
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ، الرسائل الشخصية ص 281
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ، الرسائل الشخصية ص 314
(4) محمد بن عبد الوهاب للندوي ص 171، وانظر: دعاوى المناوئين ص 37
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ، الرسائل الشخصية ص 206(61/351)
كما كان أمراء آل سعود القائمون بنصرة الدعوة في نجد متسامحين، فهذا سعود أعظم أمراء الدولة ولى على المدينة النبوية قاضيا حنفيا من اسطنبول، كما أن قاضيه على القطيف كان من أهل فارس.
كما كان علماء الدعوة متسامحين رحماء، مع حرصهم على تطبيق أحكام الله تعالى، ويشهد كل من جالسهم باعتدالهم وسعة علمهم، ومن ذلك ما يذكره المؤرخ المصري الجبرتي: " أنه لما أرسل عبد الله بن سعود اثنين من علماء نجد لمصر للتفاوض مع محمد علي، وجلسوا مع علماء الأزهر استأنسوا بهما، وأعجبوا بخلقهما وعلمهما بعد أن ناقشوهما واستمعوا إليهما، وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وعن الكتب المصنفة في مذهبه، فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية، واشتريا نسخا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة ".
وقال: " وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أنسا، وطلاقة لسان، واطلاعا وتضلعا، ومعرفة بالأخبار والنوادر،(61/352)
ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق، وحسن الأدب، واستحضار الفروع الفقهية، واختلاف المذاهب ما يفوق الوصف" (1) . كما شهد الرحالة الأسباني " دومنغوبادلي أي لبيخ " المعروف باسم الحاج علي بك العباسي - والذي عاصر الدولة السعودية الأولى وزار الحجاز إبان حكمهم، وشهد موكب الإمام سعود في مكة سنة 1806 م- باعتدال الوهابيين حيث قال: " إن الحقيقة تفرض علي أن أعترف أنني وجدت جميع الوهابيين الذين تحدثت إليهم على جانب من التعقل والاعتدال، وقد استقيت منهم كل المعلومات التي أوردوها عن مذهبهم. ولكن على الرغم من اعتدالهم لا يستطيع السكان والحجاج سماع مجرد اسمهم دون أن تمتلك الرجفة قلوبهم، ولا يتلفظون به إلا
__________
(1) المختار من تاريخ الجبرتي 8 \ 925 في أحداث شوال 1230 هـ(61/353)
همسا. لذا فإن الناس يهربون منهم، ويتجنبون التحدث إليهم قدر الإمكان ".
وما يتعلق بالدعاء للسلطان فإن الدولة العثمانية في حالة حرب مع الدعوة فمن الطبيعي أن يلغي سعود الدعاء له في الخطبة.
وأما من حيث الحج فقد تقدم ما يدل على أن الأمراء السعوديين لم يمنعوا أحدا من الحج (1) ، وإنما نهوا عن البدع وما خالف الشريعة، وكل ذلك إنما كان بعد الإنذار لعام كامل.
__________
(1) انظر: قول الجبرتي وبرائجس ص 908، 910(61/354)
سابعا: فيما يتعلق بالقبور:
جاء في الدائرة حكاية لمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه: " وهم يرون أن السنة القديمة وشخصية النبي وجوهر الإسلام تبعا لذلك قد شوهت بسبب تقديس الأولياء، وهم من أجل ذلك يهاجمون أكثر أماكن الإسلام قداسة عند أهل السنة وعند الشيعة؛ لأن هذه الأماكن تعتبر في نظرهم معاقل لعبادة الأوثان " (1) .
وقال بلا: " وزار بوركهارت هذا المكان- بقيع الغرقد -
__________
(1) الدائرة الأولى 13 \ 217، شرك، بيوركمان، تقدمت ترجمته(61/354)
بعد غزو الوهابيين فوجد أنه أصبح أتعس المقابر حالا في المشرق- يشير إلى هدم القباب والزخارف- " (1) .
وجاء أيضا: " وكانت زيارة قبور الأولياء من البدع التي حاربها محمد بن عبد الوهاب " (2) .
وجاء أيضا: " لا يعتبر موحدا من زار قبور الأولياء " (3) . كما جاء في الدائرة في وصف جماعة أهل الحديث في الهند:: " ويسمي الوهابيون في الهند أنفسهم بهذا الاسم " ثم جاء في وصفهم: " عنوا خاصة بتوكيد التوحيد، وإنكار علم الغيب لأي من مخلوقات الله، وقد اقتضى هذا إنكار كرامات
__________
(1) الدائرة 7 \ 462، بقيع الغرقد، بلا
(2) الدائرة الأولى 10 \ 473، زيارة، فنسنك، تقدمت ترجمته
(3) الدائرة الثالثة 32 \ 10174، مرجليوث(61/355)
الأولياء، والمبالغة في تقديسهم " (1) قلت: الشيخ لم يحرم زيارة القبور، وإنما حرم ما يصاحب ذلك من بدع وشرك. وفيما يتعلق بمهاجمتهم الأضرحة فصحيح، ولكن لا بد من مراعاة اعتبارين:
الأول: أنها وإن كانت أكثر الأماكن قداسة عند مرتاديها فإنها ليست أكثر الأماكن قداسة في الإسلام.
الثاني: أن القبور المرتفعة مخالفة للسنة، فضلا عن البناء عليها، وقد ثبت عن أبي الهياج الأسدي أنه قال: قال لي علي بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » .
فرفع القبور مخالفة للسنة الشريفة، وأعظم من ذلك دعاء أصحابها؛ إذ إن هذا هو الشرك الذي كان المشركون يفعلونه، وكان القرآن ينزل بالنكير عليهم. قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) وكثير من الناس يشنع على أتباع الدعوة فيما يخص القبور دون تصور للحكم الشرعي في هذا الأمر، ودون فهم للدوافع والأسباب التي جعلت من الشيخ وأتباعه يشددون بأن تكون وفق السنة، وذلك لمغالاة القوم فيها حتى عبدت من
__________
(1) الدائرة 5 \ 143، 144، أهل الحديث، ش عنايت الله
(2) رواه مسلم في كتاب، الجنائز، باب 63
(3) سورة الأعراف الآية 194(61/356)
دون الله تعالى.
وقد لاحظ ذلك بعض المعاصرين للدعوة من الغربيين حيث قالت " جاكلين بيرين " عن سبب عداوة بعض الناس لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " والسبب الأول في هذه العداوة أن الناس لم يفهموا للوهلة الأولى المعنى الإصلاحي لهدم المزارات وتقويض أضرحة الأولياء التي كان المؤمنون يؤدون لها واجب الإجلال، وقد كاد هذا الإجلال يتحول إلى نوع من أنواع العبادة التي لا تجب إلا لله وحده ".
أما عنايتهم بتوكيد التوحيد فهي في مكانها، إذ قد عني به جميع الأنبياء- عليهم السلام- بل إن الله حصر رسالتهم فيها: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) أما ما يختص بعلم الغيب فإن مذهب أتباع الدعوة موافق لمذهب أهل السنة، الذين يؤمنون بما جاء في القرآن أن الغيب لله وحده: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) وأن هذا الغيب يطلعه الله على رسله كرامة لهم
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة النمل الآية 65(61/357)
وإظهارا لإعجازهم، قال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (2) وأصل هذه المسألة أن كاتب المادة هو من أعداء أهل الحديث الذين يبالغون في تقديس الأولياء ويثبتون لهم العلم بالغيب، مع مخالفته الظاهرة للقرآن.
أما إنكار كرامات الأولياء فهي فرية لا تنطلي على أحد؛ ذلك أن مصنفات أهل السنة شاهدة على إثباتها، بل إنها جزء من عقيدتهم؛ لأن تلك الكرامات دلت عليها الأدلة، وإثباتها جزء من عقيدة أهل السنة.
قال ابن تيمية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سلف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة " (3) .
أما تقديسهم للأولياء: فإن كان المقصود محبتهم، وطلب الدعاء منهم في حال حياتهم، والاعتراف بفضلهم فهذا لم ينكروه، ولم ينكره أحد من المسلمين، بل هو ثابت عندهم فيمن علم ولايته.
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) مجموع الفتاوي لابن تيمية 3 \ 156، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، الرياض(61/358)
وأما إن كان المقصود صرف شيء من العبادة لهم من دعاء أو ذبح أو نذر أو غيرها من وجوه العبادة، فهذا شرك أكبر، أرسل الرسل للقضاء عليه.(61/359)
ثامنا: الرد على وصفهم بالقرصنة:
جاء في الدائرة محاولات عدة لوصف الحركة الإصلاحية في نجد بالقرصنة، ومن ذلك: " وكان هدف البريطانيين من تدخلهم في سياسة بحر فارس هو القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة اللتين كانتا قد نظمتا تنظيما أفضل مع اتساع نفوذ الوهابيين " (1) .
كما جاء عن سعود بن عبد العزيز تلميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأقوى الأئمة الذين حكموا في الجزيرة العربية: " ونظم سعود القرصنة التي كانت تقوم بها القبائل القاطنة على الخليج الفارسي " (2) .
كما جاء عن قبائل الدواسر: "وهم يعيشون حيثما تيسر لهم على السلب، ويقال إنهم أكثر الوهابيين تعصبا وخطورة " (3) . وقد قلدهم في ذلك "فيليب حتى" فسمى شاطئ الإمارات بشاطئ القراصنة.
__________
(1) الدائرة 6 \ 297، بحر فارس بكنكهام
(2) الدائرة 1 \ 309، ابن سعود، مورتمان، (تقدمت ترجمته)
(3) الدائرة الأولى 9 \ 306، دواسر، فاير(61/359)
وسبب وصفهم بذلك أن القواسم في ساحل رأس الخيمة والشارقة يغيرون على السفن البريطانية وعملائها في مسقط، وينهبونها، ويتم ذلك بتشجيع الأمراء السعوديين في نجد " الوهابيين " وترسل إليهم الخمس من المغنم.
إن من العجب وصف الوهابيين بذلك، فالمستعمر يصف غيره بالقرصان، وينسى نفسه! .
كما أن قرصنة الإنجليز في بحار العرب سابقة لظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث ظهرت في البحر الأحمر سنة (1966م) خمس سفن بريطانية وسفينتان أخريان على كل واحدة أربعة عشر مدفعا، ومن البحارة مائة وخمسون، وأخذت تنهب السفن في البحر الأحمر والبحر العربي والخليج العربي (1) ، ولم تحرك بريطانيا ساكنا.
فهذه القرصنة التي تفتك بسفن الحجاج وغيرهم مسكوت عنها، ودفاع صاحب الأرض ضد المستعمر قرصنة يجب إنهاؤها! .
إن الحقيقة التي لا يجادل فيها هي: أن مرور السفن البريطانية سواء شركة الهند البريطانية، أو غيرها في الخليج إنما كان لأعمال استعمارية خالصة، وهم لا يتناهون عن الاستيلاء ليس على السفن فحسب بل حتى على الأراضي إذا ما وجدوا فيها
__________
(1) (الخليج العربي) السير أرنولد ويلسون ص 322، ترجمة عبد القادر يوسف، مكتبة الأمل، الكويت(61/360)
ضالتهم الاستعمارية رغم أنف أهلها كما هو معلوم بالضرورة عن الإنجليز، فقد استعمروا آنذاك دولا وأراضي لا حصر لها، كما أن مرورهم في الخليج إنما كان لعبور السفن بين مستعمراتهم العربية في العراق ومستعمراتهم الهندية، التي تديرها شركة الهند الشرقية.
ولقد " تحولت سياسة شركة الهند الشرقية إلى امتلاك الأراضي وفرض السيادة الإنجليزية عليها من أواخر القرن السابع عشر. . . واستطاع الإنجليز في مدة قصيرة بين سنة 1750، وسنة 1818 فرض سيادتهم على أغلب أراضي الهند ".
وهل يتوقع الإنجليز أن تبحر سفنهم بأمان وهم بهذه المثابة، بالإضافة إلى تدخلهم في شئون بلاد الخليج حيث كانوا يحرضون حليفهم سلطان عمان على مهاجمة حلفاء الدولة السعودية، فلما لم يستطع على ذلك، بل أصبح حليفا للسعوديين يدفع الزكاة لهم (1) ، حاصرت بريطانيا جزيرة كشم التابعة للقواسم سنة 1805 م، منتحلة أوهى الأسباب، وأجبرتهم على اتفاقية مجحفة سنة 1806 م، ثم هاجموا رأس الخيمة في السنة نفسها (2) .
كما أبرموا معاهدة استعمارية أملوها على أمير رأس الخيمة
__________
(1) تاريخ ابن بشر، حوادث سنة 1223 هـ، ص 191
(2) قراءة جديدة لسياسة محمد باشا التوسعية، سليمان بن محمد الغنام ص 35، نشر شركة تهامة، جدة 1402 هـ(61/361)
بعد ضعفه حين هزيمة مناصريه السعوديين، الذين كانوا الساعد الأيمن له، وكانت تلك المعاهدة سنة 1820 م بعد سقوط الدرعية بعامين، ومن بنودها: " بقاء رأس الخيمة وما حولها من مزارع في أيدي الحكومة البريطانية " (1) .
قال بوندار ليفسكي المؤرخ الروسي: " في سنة 1805 م لما تولى الأمير بدر حاكم مسقط سعى إلى إقامة علاقات طبيعية مع آل سعود وبمساندة إمام عمان، وكان ذلك يتهدد خطط شركة الهند الشرقية في الجنوب الشرقي من الجزيرة، فاغتيل الأمير بدر في سنة 1807 م بأمر من مقيم الشركة، وصار سعيد بن سلطان صنيعة البريطانيين، ومن ثم أصبح عدو الوهابيين اللدود، ثم نشب صراع مسلح أسهم في فرض الحماية البريطانية على مسقط وساحل الصلح البحري الذي سماه المستعمرون بصفاقة ووقاحة: [ساحل القرصنة] " (2) .
إن السبب في الخصومة بين السعوديين والقواسم من جهة، والإنجليز وخاصة حاكم بومباي من قبل الإنجليز من جهة أخرى يتلخص ببساطة بـ: اصطدام مصالح الإنجليز الاستعمارية التوسعية في الشرق بالقوة السعودية الناشئة المصممة على خضوع أراضي الجزيرة للدعوة الإصلاحية، والتي من أسسها عدم خضوع
__________
(1) المقاومة العربية في الخليج العربي، سليم طه التكريتي ص 138، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1982 م
(2) الغرب ضد العالم الإسلامي، بوندار ليفسكي ص50، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم، موسكو، دطت(61/362)
الأراضي الإسلامية للكفار.
وكان لشركة الهند تجارة واسعة في عمان، بل هي مركزها في المنطقة بعد البصرة، وكان الإنجليز يمارسون نفوذهم عليها.
إن الدعوة الوهابية ترى في الإنجليز عدوا للإسلام ومستعمرا يجب محاربته، وحين احتل القواسم بعض مدن عمان سنة 1808 م وأرسل سلطان عمان رسله للدرعية للتوسط طلب منهم الإمام عبد العزيز أن يوجه حاكمهم سفنه لضرب البصرة، وأن عليه أن يثبت ولاءه للقضية الإسلامية، فيعد حملة ضد شركة الهند المتعاونة مع باشا بغداد (1) .
" وفي هجمات القواسم على الإنجليز في إحدى المرات وجدوا في إحدى السفن امرأة هي زوجة تيلر القنصل الإنجليزي في بغداد، فلم يمسوها بأذى بل أعادوها إلى بو شهر طبقا للتقاليد العربية" (2) ، فليس هذا من عمل القراصنة، وهو ليس تقليدا عربيا فحسب، بل هو ما يحث عليه الإسلام من عدم التعرض لغير المحاربين.
إن تحرير الأرض الإسلامية من المعتدين هو من الجهاد في سبيل الله وهو حق مشروع، بل هو واجب، وإذا لم يمكن ذلك فلا أقل من معاداة المعتدين، وعدم توليهم، ومضايقتهم، والتصدي لهم.
__________
(1) إمارات الساحل لمحمد مرسي ص 174
(2) إمارات الساحل لمحمد مرسي ص 180(61/363)
أما أن ينعت المعتدي أصحاب الحق بالقراصنة فهو من المفارقات العجيبة، وهذا يذكرنا بما تطلقه إسرائيل على المقاومين للاحتلال بالمخربين والإرهابيين.
أما السلب فلا ينكر أن القبائل البدوية في الجزيرة العربية كانت تمارس السلب على نطاق واسع، ولكن هذا مخالف لتعاليم الإسلام، ولم يكن له صلة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بل إن السلب والنهب انحسر بوضوح مع توسع الدولة السعودية المؤيدة من الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، ولقد شهد بذلك القاصي والداني ممن اطلع على أحوال نجد في تلك الفترة من المنصفين، ومن ذلك:
ما شهد به الرحالة الأسباني " دومنغو بادليا أي ليخ " المعروف باسم الحاج علي بك العباسي، عن قرب ومشاهدة شخصية عن الوهابيين بعد فتحهم لمكة بأنهم: " لا يسرقون قط، لا عن طريق القوة، ولا عن طريق الحيلة، إلا إذا اعتقدوا أن المتاع يخص عدوا أو كافرا (1) ، وهم يؤدون أثمان كل ما يشترونه، وأجور الخدمات التي تقدم لهم بالعملة التي لديهم ".
كما شهد بذلك بوركهارت الذي زار الجزيرة العربية بعد
__________
(1) لم يتعرضوا للكافر المعاهد البتة، وإنما للكافر الحربي(61/364)
ذلك حيث قال عن الأمن في عهد الدولة السعودية الأولى التي تسير على منهج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " ولعل هذا الأمن والأمان قد استتب في البلاد لأول مرة بعد النبي العربي، ووجد البدو لأول مرة فرصة النوم آمنين مطمئنين على أموالهم وأمتعتهم ومواشيهم " (1) .
وأما ما تفعله الدولة السعودية الأولى من الاستيلاء على ممتلكات الأعداء المحاربين، فهذه غنائم حرب، وتلك الغنائم مشروعة في الإسلام، بل في غالب الأعراف؛ وهم لا يفعلون ذلك إلا مع أعداء دعوتهم الإصلاحية المناوئين لها، ولا يفعلون ذلك إلا بعد البيان والإنذار، أما من يسمح لدعاة الدعوة بالإصلاح في الأرض، ويعينهم في إزالة الشرك والفساد، فإن أموالهم ودماءهم مصانة محفوظة.
ولقد أحس أهل نجد بفقد الرحمة والشورى بعد سقوط الدولة عندما حكم إبراهيم باشا الدرعية تسعة أشهر حكما إرهابيا
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب للندوي 104، 105، نقلا عن كتابه ص 130(61/365)
تعسفيا بشهادة المؤرخين الأوربيين أنفسهم (1) .
ومن المفارقات أن يسل أولئك النفر من أهل الكتاب أقلامهم لمحاربة الدعوات الإصلاحية في الإسلام، آخذين عليها محاربتها لأعداء الدعوة، متناسين تلك الحرب الصليبية الشنعاء التي شنها النصارى في بلاد الإسلام على بعد آلاف الأميال عن ديارهم، تلك الحرب المتجردة من الضمير، والتي لم تخلف سوى الدمار، ولم يكن لها هدف سوى نفث الأحقاد، متناسين ما فعل اليهود، وما يفعلون في فلسطين، وما يقوم به النصارى الصرب من حرب إبادة ضد اله- سلمين في البوسنة قديما وحديثا أمام بصر العالم وسمعه، بل إن هؤلاء الإنجليز يقفون ضد أي محاولة للسماح للمسلمين للتزود بالسلاح للدفاع عن أنفسهم.
__________
(1) اكتشاف جزيرة العرب ص 242(61/366)
تاسعا: فيما يتعلق بتجارة الرقيق:
جاء في الدائرة: " وكان هدف البريطانيين من تدخلهم في سياسة بحر فارس هو القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة اللتين كانتا قد نظمتا تنظيما أفضل مع اتساع نفوذ الوهابيين " (1) .
قلت: إن حكمنا على الرق نابع من نظرتنا إليه " في ضوء الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة، والمعاملة الوحشية التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة، فنستفظع الرق، ولا تطيق مشاعرنا أن يكون هذا اللون من المعاملة أمرا مشروعا يقره
__________
(1) الدائرة 6 \ 297، بحر فارس، بكنكهام(61/366)
دين أو نظام " (1) ، بينما يجب أن ننظر إليه في ضوء الإسلام الذي حرم سرقة الأحرار، وحصر الرق في أسرى الحرب خاصة إذا كان ثمة مصلحة من استرقاقهم، وفتح أبواب التحرير، وجعلها من أفضل الأعمال: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (2) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (3) {فَكُّ رَقَبَةٍ} (4) {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (5) {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (6) {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (7) {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (8) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (9) كما جعل غالب الكفارات شرطها الأول إعتاق الرقيق، وجعل إعتقاهم من مصارف الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام.
بل أمر بإعتاقهم بالمكاتبة على قدر من المال إذا أسلم الرقيق، وعرف منه قيامه بنفسه ورغبته في ذلك: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (10) كما أمر بمعاملة الرقيق معاملة إنسانية والإحسان إليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم (11) » متفق عليه.
__________
(1) شبهات حول الإسلام، محمد قطب ص 38، دار الشروق، بيروت، الطبعة الثامنة عشرة 1408 هـ-1988م
(2) سورة البلد الآية 11
(3) سورة البلد الآية 12
(4) سورة البلد الآية 13
(5) سورة البلد الآية 14
(6) سورة البلد الآية 15
(7) سورة البلد الآية 16
(8) سورة البلد الآية 17
(9) سورة البلد الآية 18
(10) سورة النور الآية 33
(11) رواه البخاري في (كتاب الشركة) باب 15، ومسلم في (كتاب الإيمان) حديث رقم (40)) .(61/367)
كما حفظ حقوقهم وحذر من التعدي عليهم كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال (1) » رواه مسلم.
وقد طبق المسلمون هذه المعاملة في الغالب، كما طبقت في الجزيرة العربية إبان دعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه التعاليم الإسلامية تجاه الرقيق، مما لا يقارن مع معاملة الغربيين للرقيق بشهادة الجميع، وإنني لا أذكر شهادات المسلمين، ولكنني سأستشهد ببعض الأوروبيين الذين زاروا البلاد الإسلامية، وبالتحديد الجزيرة العربية فهالهم حسن معاملة المسلمين للرقيق. فهذا أول قنصل بريطاني في زنجبار يصف حالة الرقيق: "إنهم عموما يتناولون طعاما جيدا ولا تساء معاملتهم، ومن النادر ضربهم " (2) ويقول أحد الذين خلفوه: " لا توجد طبقة في المجتمع سعيدة وخالية البال وتحظى بمعاملة كريمة كطبقة العبيد المسلمين" (3) وقد كتب المقيم الإنجليزي في الخليج سنة 1844 م يصف حالة الرقيق بعد انتقالهم للعرب: " ومن اللحظة التي يتم فيها شراؤهم تتحسن حالتهم من الناحية المادية، وهم بدورهم يعملون كثيرا عن طواعية وبإتقان، ويتضح أنهم سعداء وراضون ".
__________
(1) رواه مسلم في (كتاب الإيمان) باب 37
(2) بريطانيا والخليج 1795- 1870، جون. ب. كيلي ص 5، ترجمة محمد أمين عبد الله، دطت
(3) بريطانيا والخليج 1795- 1815 لجون كيلي ص 5(61/368)
ويقول الكاتب والمؤرخ أرنولد ويلسون يصف معاملة العرب للأرقاء في الخليج في القرن التاسع عشر الميلادي- أي أيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -: " كان السادة ملزمين بموجب الشرع بأن يعاملوا الأرقاء معاملة جيدة ويطعموهم ويكسوهم ويحافظوا عليهم حتى موتهم، ويزودوا كل رقيق ذكر بزوجة، ويحافظ على أولادهم، وكانت حياة الرقيق في الجزيرة العربية على قسوتها ليست على التأكيد أقسى من حياة العبري العادي، كما كانت أقل عسرا من حياة رجل القبائل الإفريقي ومن المؤكد أنها لم تكن مهينة، ويصل الأرقاء في العادة إلى منازل رفيعة من الثقة، ونظرا لاعتناقهم الإسلام كانوا أهلا للحصول على حريتهم في الظروف الصحيحة المتفق عليها " (1) .
وقد أكد برترام توماس الكلام السابق من واقع خبرته ومعرفته الوثيقة بحضرموت وعمان، حيث قال: " إن معاملة العربي للعبد قد قضت نهائيا على وصمة العار التي تلازم العبيد في المناطق الأخرى، وذلك أن المعاملة الحسنة والرفق بالعبيد هي السمة الغالبة اليوم في معاملة العرب للرقيق " (2) .
وقد حكت الليدي آن بلنت - وقد زارت الجزيرة العربية سنة 1879 م إبان حكم آل رشيد - مناقشة لها مع أحد مشائخ الحرم المدني وقد التقت به في حائل وهو صالح بنجي، حيث
__________
(1) الخليج العربي لأرنولد ويلسون ص 368
(2) بريطانيا والخليج 1795 ـ 1870 لجون كيلي ص 6(61/369)
قال لها: ما هي مصلحة الحكومة البريطانية الدنيوية من تدخلها في تجارة الرقيق.
قالت: إنها منع القسوة.
ولكنه أصر على ألا قسوة فيها، وسأل: من ذا الذي رأى زنجيا تساء معاملته؟ .
فسكتت، وجاء في كتابها: " حقا إنه لشيء مشهور أن العبيد عند العرب كالأطفال المدللين أكثر من كونهم خدما ".
إن أكبر استرقاق بل سرقة للأحرار واسترقاقهم قد تمت تحت نظر الدول الغربية وسمعها، بل بإشرافها ورعايتها، فهل كان السبب في تدخل بريطانيا في سياسة بحر فارس- وهو يبعد آلاف الأميال- الغيرة على العبيد؟! .
كيف! وهم السابقون إلى سرقة الأحرار في إفريقيا - خاصة في السنغال - وبيعهم في أسواق أوروبا؟ .
إن أكبر مراكز تجارة الرقيق كانت في عمان، وكانت تجارة الرقيق تعتمد في الدرجة الأولى على موسم حصاد البلح في البصرة (1) .
ومن المعلوم أن أمراء عمان المتعاقبين كانوا حلفاء الإنجليز
__________
(1) بريطانيا والخليج 1795 ـ 1870 لجون كيلي ص 5(61/370)
ضد الحركة الوهابية، وكانت البصرة التي تهيئ العمل للأرقاء تحت حكم الإنجليز في تلك الفترة.(61/371)
عاشرا: فيما يتعلق بالتقليد:
قال شاخت: " وينكر الوهابية، وأولهم إمامهم ابن(61/371)
عبد الوهاب التقليد " (1) .
قلت: هذا أيضا من مفتريات القوم، فلم ينكر محمد بن عبد الوهاب وأتباعه التقليد بهذا التعميم؛ لأن المسألة فيها تفصيل، ذلك أن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يرون وجوب الاجتهاد بحسب القدرة، وذم المقلد مع قدرته على الاجتهاد، أو التقليد مع علمه بمخالفة ذلك لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما من قلد الأئمة الأربعة من عوام الناس فأقروه من غير نكير (2) .
وهذا قول جمهور العلماء.
ذلك أن التقليد كما عرفه العلماء وجاء في نفس المادة في الدائرة: " قبول قول الغير أو العمل به في مسائل الدين بلا دليل" وعبر عنه بعض الأصوليين بأنه: قبول قول القائل بلا حجة" (3) .
وكيف يسوغ لمن عرف الأدلة واستطاع الاجتهاد أن يقلد؟! فمذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه موافق للقرآن والسنة وسلف الأمة وجمهور العلماء، وهو ظاهر راجح لمن تأمله وتدبره، فإنكاره ليس لعموم التقليد، وإنما لفروع منه.
__________
(1) الدائرة 9 \ 476، التقليد، شاخت
(2) الدرر السنية 3 \ 8 ـ 14
(3) الإبهاج للسبكي 3 \ 270.(61/372)
وختاما: فهذه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاحية موافقة للقرآن والسنة متبعة مذهب أهل السنة والجماعة، دعاتها أرادوا تنقية الدين وتجديده من الشرك والبدع والتقاليد الجاهلية، وهم كغيرهم من البشر ليسوا معصومين، قد يقع منهم الخطأ ولكن من العدل أن توزن الأمور فمن طغى خيره وصلاحه وإصلاحه عذر فيما وقع منه من الأخطاء اليسيرة التي هي من ضرورات البشر.
والناظر لهذه الدعوة ببصيرة متجردا من الحقد والهوى فإنه سيعلم فضلها على الأمة، وتضحية أصحابها.
وللإنصاف فإن كان غالب كتاب الدائرة ممن كتب عن الدعوة تجنى عليها، إلا أنه صدرت من بعض المؤرخين الغربيين أقوال منصفة في حق الدعوة، ومن ذلك: ما جاء في دائرة المعارف البريطانية:
"والوهابية: اسم لحركة التطهير في الإسلام، والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح " (1) .
قال وليمز وارمسترونج: ". . . لما شاع الفساد في بلاد المسلمين قام في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب يحارب البدع، ويدعو إلى جمع الصفوف لإعادة مجد الإسلام، وعبادة الله بقلب سليم، ولكنه كغيره من المصلحين اضطهد واتهم
__________
(1) انظر: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ للرويشد ص 422(61/373)
بالإلحاد والزندقة ".
وقال المؤرخ الأمريكي لوثرب ستودار: ". . . فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية صالحة بحتة غرضها إصلاح الخرق ونسخ الشبهات وإبطال الأوهام ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى، ودحض البدع وعبادة الأولياء. وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام والأخذ به على أوله وأصله، ولبابه وجوهره، أي إنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة " (1) .
وقد توقع الكاتب الفرنسي " الكسندر دوماس " بعد دراسة لدعوة الشيخ واطلاعه على كتب الرحالة الغربيين لجزيرة العرب وتأليفه في ذلك:: انتشار تلك الدعوة وظهورها، وذلك عند حديثه عن احتمال ظهور قوة عربية جديدة (2) ، بفضل: " أمة
__________
(1) حاضر العالم الإسلامي، لوثرب ستودار ص 264
(2) كتب هذا الكلام بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، وظهور الدولة الثانية(61/374)
الوهابيين التي تمتلك حيوية الأجيال الفتية، وإيمان المرسلين، وحماسة واقتناعا دينيين مبعثهما المعتقد الوهابي، هذا المعتقد الذي هو مؤهلا لأن يسود. . . إن الإصلاح لوشيك الحدوث من القفقاس إلى رأس زنجبار. . . إن مائتي مليون مسلم يتعادون ويتنازعون، تجمعهم نقطة عقائدية واحدة هي الحج، تشتم خلاله كل شيعة الشيعة الأخرى. . . ولكن المستقبل في غمرة كل ذلك للوهابيين وحدهم. . . ولمذهبهم الذي يختفي أمامه ألوف الأولياء، والشيوخ والمتصوفون، الذين يقدسهم المسلمون من غير الوهابيين، وأمام مبادئهم الخلقية التي تكاد تكون مبادئ إنجيلية تمحور ذلك الانحلال الشرقي المنتشر في أكثر العواصم ".(61/375)
صفحة فارغة(61/376)
قرار رقم (144)
وتاريخ 11 \ 7 \ 1408هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى اله وصحبه، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الحادية والثلاثين المنعقدة في مدينة الرياض من 3 \ 7 \ 1408 هـ إلى 11 \ 7 \ 1408 هـ، قد اطلع على كتاب سمو أمير منطقة الرياض رئيس الهيئة العامة لاستقبال التبرعات للمجاهدين الأفغان رقم. 4772 \ خ وتاريخ 17 \ 5 \ 1408 هـ ومشفوعه الخطاب الموجه لسموه من مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي بالرياض حول استحصال قيمة زكاة الفطر ممن يرغب للمهاجرين الأفغان الموجودين في باكستان على أن يشترى بالقيمة طعام من الباكستان ويوزع في الوقت المحدد لإخراجها شرعا، وقد تضمن خطاب مدير مكتب الرابطة المبررات لذلك ونتائج التجربة التي عملت في رمضان عام 1407 هـ والاقتراحات حول التوسع في الموضوع والإعداد له(61/377)
قبل رمضان القادم، وقد طلب سمو الأمير إفادته بالرأي الشرعي في ذلك.
ثم اطبع المجلس على كلام بعض أهل العلم من المذاهب الأربعة في مكان وتوزيع زكاة الفطر حيث نصوا رحمهم الله على أن على المسلم توزيعها في البلد الذي وجبت عليه فيه. قال ابن قدامة في المغني: (فأما زكاة الفطر فإنه يفرقها في البلد الذي وجبت عليه فيه سواء كان ماله فيه أو لم يكن؛ لأنه سبب وجوب الزكاة ففرقت في البلد الذي سببها فيه ". وقال الإمام الشيرازي في المهذب: " وإن وجبت عليه زكاة الفطر وهو في بلد وماله فيه وجب إخراجها إلى الأصناف في البلد لأن مصرفها مصرف سائر الزكوات ". وقال في المدونة الكبرى للإمام مالك: " قلت: أرأيت زكاة الفطر هل يبعث الوالي من يقبضها؟ قال: قال مالك: أرى أن يفرق كل قوم زكاة الفطر في مواضعهم؛ أهل القرى حيث هم في قراهم، وأهل العمود حيث هم، وأهل المدائن في مدائنهم، وقال مالك: لا يدفع أهل القرى إلى المدائن إلا ألا يكون معهم أحد يستوجبها فيدفعها إلى أقرب القرى إليه ممن يستوجبها، وإنما يقسم زكاة الفطر أهل كل قرية في قريتهم إذا كان فيهم مساكين ولا يخرجها عنهم. وقال في بدائع الصنائع: " وأما مكان الأداء وهو الموضوع الذي(61/378)
يستحب فيه إخراج زكاة الفطر، روي عن محمد بن الحسن أنه يؤدي زكاة المال حيث المال، ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو. وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع وقال: يؤدي صدقة الفطر عن نفسه حيث هو وعن عبيده حيث هم " اهـ.
وبعد الاطلاع على ما تقدم والتأمل في المقاصد التي شرعت زكاة الفطر من أجلها وأن منها إغناء الفقراء الموجودين في البلد، وسد حاجتهم حتى يشاركوا إخوانهم الأغنياء في الفرح والسرور في يوم عيد الفطر من رمضان الذي جعله الله يوم فرح وسرور للمسلمين غنيهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم، ولا يمكن للفقير أن يشارك إخوانه الأغنياء في فرحهم وسرورهم في هذا اليوم العظيم إلا إذا كان لديه ما يغنيه ويسد حاجته وحاجة من تلزمه نفقته في هذا اليوم المبارك. ونظرا إلى أن الإذن بنقل زكاة الفطر من البلد الذي وجبت فيه إلى بلاد أخرى بعيدة مع وجود الفقراء في نفس البلد الذي وجبت فيه، أو ما هو قريب منه خروج بها عن ما هو مقصود بها شرعا.
والمملكة مع ما حباها الله به من الخيرات شأنها شأن غيرها من بلاد الله فيها الغني وفيها الفقير وهذه حكمة من الحكم العظيمة التي قدرها الله سبحانه لعمارة الأرض وتسيير مصالح العباد، وكما قال سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1)
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32(61/379)
لذا فإن المجلس يقرر ما يلي:
أولا: يرى المجلس بالإجماع أن المشروع توزيع زكاة الفطر في كل بلد في فقرائه، وأن لا تنقل عنهم إلى غيرهم تحقيقا لمقصد عظيم من المقاصد التي فرضت من أجلها زكاة الفطر وهو إغناء الفقراء الموجودين في البلد في يوم العيد عن الطلب والسعي لكسب الرزق في ذلك اليوم. وما يدعيه البعض من عدم وجود الفقراء الذين تدفع إليهم غير صحيح؛ بل هم موجودون في كل بلد، ولكن عدم معرفتهم ناتج عن عدم بذل الجهد في البحث عنهم والتحري عن أمكنة وجودهم.
ثانيا: يرى المجلس بالإجماع عدم إخراج القيمة في زكاة الفطر وأن تخرج طعاما كما فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى العمل على ذلك؛ لأن زكاة الفطر عبادة وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما تخرج منه وهو الطعام ولاشك أن الفقراء والمساكين في عهد النبي(61/380)
صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين كان منهم من يحتاج إلى كسوة ولوازم أخرى سوى الأكل؛ لكثرتهم وكثرة السنوات التي أخرجت فيها زكاة الفطر، ومع ذلك لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتبر اختلاف نوع الحاجة، ففرض لكل ما يناسب حاجته من طعام أو كساء أو غير ذلك، ولم يعرف ذلك أيضا عن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم؛ بل كان المعروف عن الجميع إخراج زكاة الفطر من الطعام وخير للأمة التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبخلفائه في ذلك.
والفقير الذي يلزمه شيء غير الطعام في إمكانه أن يتصرف فيما يدفع إليه من الطعام حسبما تقتضيه حاجته ومصلحته. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله خياط
اعتذر لظروفه الصحية ... عبد العزيز بن صالح
عبد الرزاق عفيفي ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
متغيب لمرضه
صالح بن غصون ... عبد المجيد بن حسن
راشد بن خنين ... عبد الله بن منيع
صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان
حسن بن جعفر العتمي ... عبد الله البسام
محمد بن صالح العثيمين ... صالح الفوزان
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(61/381)
حديث شريف
عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غيامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان أو حزقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما (1) » .
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/255) .(61/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3)
(سورة الكوثر كاملة)
__________
(1) سورة الكوثر الآية 1
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة الكوثر الآية 3(62/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(62/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(62/3)
المحتويات
الافتتاحية
بعض جوانب عبادة إراقة الدم (الذبح والنحر) لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) 39
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 59
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 79(62/4)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (رحمه الله) 99
البحوث
العمل وأحكامه للدكتور / سليمان بن إبراهيم بن ثنيان 119
الدعوة الإسلامية ومنهجها القرآني للدكتور / محمد بن سعد الشويعر 225
عبادات بدنية ومالية ذات صلة بالعيد للدكتور / محمد بن عبد الله الشمراني 263(62/5)
صفحة فارغة(62/6)
بعض جوانب عبادة إراقة الدم (الذبح والنحر)
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق خلقه من إنسه وجنه لتحقيق عبادته بصرف جميع أنواع العبودية له وحده لا شريك له، كما لم يكن له شريك في خلقهم ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم، يقول الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) فحصر سبحانه مراده من خلق الجن والإنس في تحقيق عبادته، وأداة الحصر هنا (ما، وإلا) كما هو معلوم، ونفى سبحانه أي إرادة له في تحصيل رزق من عباده ونحو ذلك؛ لأنه سبحانه هو الرزاق، وهو سبحانه ذو القوة المتين فتمحضت إرادة ربنا وخالقنا سبحانه من خلقنا في أمر واحد ألا وهو عبادته وحده لا شريك له {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) لأجل ذلك أرسل
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة النساء الآية 36(62/7)
الرسل، وأنزل الكتب {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
والعبادة قد عرفها العلماء بعدة تعاريف كلها راجعة في نهاية الأمر إلى شيء واحد، ومن أوضح تعاريفها: ما ذكره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في رسالته (العبودية) حيث قال: والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
ومن هنا يتبين لنا أن العبادة جنس تحته أنواع، وبعض الأنواع تحتها أفراد، فجنس العبادة منه الباطن ومنه الظاهر، والباطن له أنواع كثيرة من محبة ورجاء وخوف وخشية وقصد واعتقاد وتعظيم ونحو ذلك، والظاهر له أنواع، فمنه القولي ومنه العملي، والقولي له أفراد أعلاها قول لا إله إلا الله، ومن أفراده الصدق وقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة والذكر والدعاء.
والعملي له أفراد من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد، وإراقة الدم، ونحو ذلك.
والعبادة متنوعة باعتبار آخر، فمنها فعل الشيء بالجوارح وملازمة فعله كالصلاة خمس مرات في اليوم.
ومنها ما يكون فيه بذل للمال كالزكاة. ومنها ما يكون فيه حبس للنفس عن مشتهياتها كالصيام، ومنها ما يكون فيه بذل
__________
(1) سورة النحل الآية 36(62/8)
للمال وعمل بالجوارح كالحج، ومنها ما يكون فيه بذل للنفس والمال كالجهاد في سبيل الله.
ومن أنواع العبادة إراقة الدم تعظيما وتقربا لله عز وجل، وذلك هو الذبح أو النحر.
ولعل فاتحة هذا العدد المبارك من مجلة البحوث الإسلامية، تكون حول بعض جوانب هذه العبادة العظيمة التي قرنها الله في كتابه بالصلاة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3) .
وأصل معنى الذبح في اللغة هو الشق، وعرفه بعضهم بأنه إزهاق الروح بإصابة الحلق أو النحر، فيشمل الذبح والنحر.
والذبيحة تسمى أيضا بالنسيكة ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) وفي الجمع بين الصلاة والنحر حكمة عظيمة، وبيان لعظيم منزلة الذبح والنحر في الإسلام وأنها قربة لا يجوز صرفها إلا لله، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " أمره - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عونه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم،
__________
(1) سورة الكوثر الآية 1
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة الكوثر الآية 3
(4) سورة الأنعام الآية 162(62/9)
والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} (1) الآية، والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، إلى أن قال رحمه الله: وأجل العبادات البدنية الصلاة، وأجل العبادات المالية النحر، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص في قوة اليقين وحسن الظن، أمر عجيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر " اهـ.
وإزهاق نفس الحيوان البري المأكول اللحم، شرط لحله إلا الجراد، فإنه مستثنى على القول بأنه حيوان بري؛ فتحل ميتته بلا ذكاة، وأما على القول بأنه حيوان بحري فلا إشكال في حل ميتته.
وإزهاق النفس يسمى بالذكاة.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162(62/10)
والذكاة في اللغة: تمام الشيء، وسمي الذبح أو النحر أو العقر ذكاة؛ لأنه إتمام لزهوق النفس، ومنه قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) أي أدركتموه وفيه حياة فأتممتموه، ثم استعمل في الذبح أو النحر أو العقر، سواء كان بعد جرح سابق أو ابتداء.
والذكاة في الاصطلاح: ذبح أو نحر الحيوان المأكول
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(62/10)
البري، بقطع الحلقوم والمريء أو عقر ممتنع.
ومن هنا يتبين لنا أمور:
الأول: أن الذكاة لا تعمل إلا في الحيوان البري مأكول اللحم دون البحري؛ لأن ميتة البحر حلال. يقول الله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (1) ذكر المفسرون أن (صيد البحر) هو ما أخذ منه حيا، و (طعامه) هو ما قذفه البحر ميتا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عن الجميع، ومن التابعين عكرمة وابن أبي سلمة عبد الرحمن، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري رحم الله الجميع، ذكر ذلك عنهم ابن كثير رحمه الله.
وأيضا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته (2) » رواه الخمسة والشافعي وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم رحمهم الله.
الثاني: أن الذكاة قسمان: اختيارية، واضطرارية. فالاختيارية تكون في الحيوان البري المقدور عليه، وتكون ذكاته بأحد طريقين: إما بالذبح أو بالنحر.
والذبح يكون بقطع الحلقوم والمريء من الحيوان المراد ذكاته، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة وعليه عامتهم، وهو
__________
(1) سورة المائدة الآية 96
(2) سنن الترمذي الطهارة (69) ، سنن النسائي الطهارة (59) ، سنن أبو داود الطهارة (83) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (386) ، مسند أحمد بن حنبل (2/393) ، موطأ مالك الطهارة (43) ، سنن الدارمي الطهارة (729) .(62/11)
أيضا مذهب الشافعية.
وقيل غير ذلك، فمنهم من قال: يكفي أن يقطع ثلاثة من أربعة، والأربعة هي الحلقوم والمريء والودجان، فإذا قطع ثلاثة منها فقد حصلت الذكاة، وهذا هو مذهب الحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: " والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربعة يبيح، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن، فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم، وأبلغ في إنهار الدم " اهـ.
وقد جعله رحمه الله وجها في مذهب الحنابلة كما قاله المرداوي في الإنصاف. وعن الإمام أحمد رواية أنه يحصل بقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية.
أما المالكية فإنهم قالوا: إنه لا يحصل إلا بقطع جميع الحلقوم مع الودجين وإلا لم يحل على الأصح عندهم.
وقد اشترط الإمام أحمد رحمه الله في رواية قطع جميع الأوداج الأربعة لحل الذبيحة.
والصحيح أن قطع الحلقوم والمريء مجزئ، ومبيح للذبيحة لأن به يحصل المقصود من إنهار الدم المسفوح وزهوق نفس الذبيحة، والأفضل قطع ثلاثة من أربعة لأنه أبلغ في إنهار الدم وأسرع في زهوق نفس الذبيحة وإراحتها.
والكمال قطع الأربعة كلها، لتحقق المعاني السابقة على وجه الكمال.(62/12)
أما النحر فهو بطعن الحيوان في لبته وهي الوهدة وهي ما بين أسفل العنق والصدر وهي منفذ إلى جوف الحيوان ومقتل له. والذبح يكون غالبا للغنم والبقر، والنحر للإبل، ويجوز أن ينحر ما حقه الذبح، ويذبح ما حقه النحر. هذه هي الذكاة الاختيارية أو ذكاة الحيوان المقدور عليه - كما هي عبارة غالب الفقهاء -.
أما الذكاة الاضطرارية، أو ذكاة الحيوان الممتنع أو غير المقدور عليه، فتكون بما عبر عنه هنا بالعقر، وهذا هو الأمر الثالث الذي تبين لنا من خلال التعريف.
والممتنع هو ما يعجز عن ذبحه أو نحره، إما لأنه قد ند فلم يقدر عليه، أو لأنه قد تردى في بئر، أو نحوهما من الأسباب، أو كان مما يمتنع عادة وهذا الأخير هو الصيد فإنه متوحش بطبعه.
والحكم فيما سبق كله هو العقر، بمعنى جرح الحيوان في أي موضع أمكن جرحه فيه لقتله، فمتى مات بهذا السبب حل أكله وهذا هو قول أكثر الفقهاء لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير، وكان في القوم خيل يسيرة، فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها، فاصنعوا به هكذا (1) » وفي لفظ: «فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا (2) » متفق عليه. وقد جاء عن
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5498) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1492) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4297) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3075) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) .(62/13)
السلف من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم آثار في هذا المعنى في مصنف ابن أبي شيبة، وفي سنن البيهقي، وغيرها.
هذا ما يتعلق بتعريف الذكاة، ونحن في هذه الكلمة الموجزة سنعرض بإذن الله للذكاة الاختيارية وهي ما يسميها عامة الفقهاء بذكاة الحيوان المقدور عليه.(62/14)
أما الأصل في مشروعية الذكاة عموما، فهو الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى في آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (1) الآية.
وأما السنة فحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «يا رسول الله إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ماذا يصلح لي؟ فقال:. . فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل (2) » .
وأجمع أهل العلم على إباحة الحيوان البري المأكول
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5488) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4266) ، سنن أبو داود الصيد (2855) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) .(62/14)
بذكاته، قال الوزير في الحيوان البري: أجمعوا على أن ما أبيح أكله منه، لا يستباح إلا بالذكاة.
أما الحكمة من مشروعيتها، فإنا نعلم أن الله سبحانه ما شرع لخلقه شيئا إلا لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، والأصل أن العبد يتلقى أوامر الله سبحانه ونواهيه بالقبول والتسليم علم الحكمة أو لم يعلمها، والعلماء يتلمسون الحكم في مشروعية الأحكام ويجتهدون في ذلك، وهذا أمر حسن؛ لأن العبد حين يعلم الحكمة يطمئن قلبه وتستنير بصيرته، ومن الحكم التي ذكرت في مشروعية الذكاة ما يلي:
1 - أن الحرمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح، ولا يزول إلا بالذبح أو النحر، وأن الشرع إنما ورد بإحلال الطيبات خاصة، وبالذبح تطيب الذبيحة. يقول الله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) ويقول أيضا عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) .
2 - ومن الحكم أيضا، أن في ذلك التنفير عن الشرك وأعمال المشركين، وأيضا فيه تمييز مأكول الآدمي عن مأكول السباع تكريما له.
3 - ومن الحكم أيضا إظهار الطاعة لله وتميز المسلم عن غيره بتعظيم شعائر الله، وبذلك تتحقق التقوى للمؤمن
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157(62/15)
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) إلى غير ذلك من الحكم.
__________
(1) سورة الحج الآية 32(62/16)
هذا وإن الذكاة لتفتقر إلى خمسة أشياء: ذابح، وآلة، ومحل، وفعل، وذكر، وهذا بيان لكل واحد منها:
أما الذابح فيشترط له شرطان: الأول: دينه فيشترط أن يكون مسلما أو كتابيا. ودليل حل ذبائح أهل الكتاب قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب " رواه سعيد بن منصور.
والشرط الثاني: عقله، فيعتبر لحل الذبيحة العقل، ليحصل منه القصد، فغير العاقل لا يصح منه القصد.
وعليه فلا تصح ذبيحة غير المسلم والكتابي، سواء كان مجوسيا أو وثنيا أو غيرهما.
ولا تصح ذبيحة من لا يصح منه القصد كالمجنون أو السكران أو الطفل غير المميز، إذا المعتبر في الحقيقة قصد التذكية، والعقل شرط في وجود القصد، يقول ابن قدامة رحمه الله - في ذكر شرطي الذابح -: (. . وعقله وهو أن يكون ذا عقل يعرف الذبح ليقصد، فإن كان لا يعقل كالطفل الذي لا يميز والمجنون والسكران، لم يحل ما ذبحه؛ لأنه لا يصح منه القصد فأشبه ما لو ضرب إنسانا بسيف فقطع عنق شاة) اهـ. ويقول
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(62/16)
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا لم يقصد المذكي الأكل بل قصد مجرد حل يمينه لم تبح الذبيحة) اهـ.
وقد نقل الوزير ابن هبيرة الإجماع على اعتبار ذلك فقال: (أجمعوا على أن الذبائح المعتد بها، ذبيحة المسلم العاقل، والمسلمة العاقلة، القاصدين للتذكية، الذين يتأتى منهم الذبح، وقال: اتفقوا على أن ذكاة المجنون وصيده لا يستباح أكله) اهـ.
وعلى هذا فذكاة المميز أو المرأة أو الأقلف أو الأعمى، وكذلك الحائض والجنب ونحوهم، كلها صحيحة معتبرة.
هذا بعض ما يتعلق بالذابح، أما ما يتعلق بالآلة فإنها يشترط لها شرطان:
أحدهما: أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها.
والثاني: ألا تكون سنا ولا ظفرا.
ودليل ذلك حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قلت «يا رسول الله، إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة (1) » رواه الجماعة.
فما اجتمع فيه الشرطان صح أن يكون آلة للذبح سواء كان حديدا أو حجرا أو قصبا أو خشبا.
أما العظم ففيه خلاف والصحيح أنه لا تجوز التذكية به؛
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4404) .(62/17)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، (1) » إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: «أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة (2) » فعلل تحريم الذبح بالسن بأنه عظم، فلأن يحرم الذبح بالعظم نفسه أولى ولأنه قد ثبت أن العظم طعام إخواننا من الجن، وقد نهينا عن الاستنجاء به، لئلا نقذره عليهم، فكذلك الذبح به فيه تنجيسه عليهم بالدم.
أما ما يتعلق بمحل الذبح، فهو الحلق واللبة، ولا تجوز الذكاة في غيرهما بالإجماع، وهذا في الحيوان المقدور عليه كما تقدم ولأثر عمر رضي الله عنه: " أنه نادى أن النحر في اللبة والحلق لمن قدر " رواه سعيد بن منصور واحتج به الإمام أحمد رحمه الله.
وأما ما يتعلق بالفعل، فالمراد به أن القدر المجزئ في الذبح هو قطع الحلقوم والمريء على الصحيح كما تقدم.
وأما الذكر فهو التسمية على الذبيحة حال ذبحها والتسمية على الذبيحة شرط مع الذكر وتسقط بالسهو والنسيان، على الصحيح. دليل اشتراطها قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3) ودليل إسقاطها بالنسيان قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2488) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) .
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) سورة البقرة الآية 286(62/18)
وفي ذكر اسم الله على الذبيحة حكم عظيمة من ذلك ما قاله ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها، ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح، فإذا أخل به لابس الشيطان الذابح والمذبوح، فأثر خبثا في الحيوان. . .) انتهى. المقصود من كلامه رحمه الله، وصفة التسمية أن يقول الذابح: " بسم الله " وإن زاد " والله أكبر " فهو أفضل؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجزئ غير التسمية، ولا يقوم غيرها من الأذكار مقامها.
ومحلها: حال الذبح، أو قريبا منه.
هذا وينبغي للذابح أن يحد شفرته ويحسن الذبح لذبيحته؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» أخرجه الإمام مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد رحم الله الجميع.
ويكره سلخ الحيوان قبل أن يبرد، لأن فيه تعذيبا له.
وذكاة الجنين هي ذكاة أمه إن خرج ميتا أو متحركا حركة مذبوح لا تستقر بها الروح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه (1) » رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
__________
(1) سنن الترمذي الأطعمة (1476) ، سنن أبو داود الضحايا (2827) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3199) ، مسند أحمد بن حنبل (3/31) .(62/19)
ثم إني أحب أن أشير إلى أن الذبائح أنواع منها المشروع(62/19)
ومنها الممنوع.
والمشروع أنواع، فمنه الواجب والذبائح الواجبة هي:
1 - هدي التمتع والقران: والهدي اسم لما يهدى للحرم، من نعم وغيرها.
وسمي بذلك؛ لأنه يهدى تقربا لله تعالى. وهدي التمتع والقران هو الهدي الواجب، وغيرهما من الهدي يكون تطوعا.
ودليل وجوب هدي التمتع والقران قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) ولا بد أن يكون من بهيمة الأنعام، الإبل أو البقر أو الغنم، وأفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ولا يجزئ فيها إلا ما يجزئ في الأضحية سنا وسلامة من العيوب المؤثرة.
ووقت نحر الهدي هو يوم العاشر من ذي الحجة وليس له تقديمها قبل يوم النحر، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله: «خذوا عني مناسككم (2) » .
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة رضي الله عنهم، يقول ابن القيم رحمه الله: (ولم ينحر هديه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن حل، ولم ينحره قبل يوم النحر، ولا أحد من أصحابه البتة) اهـ.
ويستحب له استسمان الهدي واستحسانها لقول الله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(62/20)
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) قال ابن عباس رضي الله عنهما: " تعظيمها استسمانها واستعظامها واستحسانها ".
__________
(1) سورة الحج الآية 32(62/21)
2 - الثاني من الذبائح الواجبة: دم الإحصار والفوات.
وذلك أن من فاته الوقوف بعرفة بأن طلع عليه الفجر يوم النحر ولما يقف بعرفة بعد، فإن الحج قد فاته، فيتحلل حينئذ بعمرة، ويجب عليه قضاء حجه، وأن يذبح هديا في قضائه، هذا إذا لم يكن قد اشترط في بداية إحرامه، فإن اشترط فلا شيء عليه. والإحصار: هو أن يصد المحرم عن بيت الله فهنا ينحر هديا في محله ثم يتحلل، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(62/21)
3 - والثالث من الذبائح الواجبة فدية الأذى وفدية ترك الواجب، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) والنسك الذبح. ولحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلك آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة (2) » متفق عليه. والوطء في الفرج يلزم به الدم بلا تخيير، فإن كان في عمرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح البخاري المغازي (4191) ، صحيح مسلم الحج (1201) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2973) ، سنن النسائي مناسك الحج (2851) ، سنن أبو داود المناسك (1856) ، سنن ابن ماجه المناسك (3079) ، مسند أحمد بن حنبل (4/241) ، موطأ مالك الحج (956) .(62/21)
قبل تمامها فعليه ذبح شاة، وإن كان في حج قبل التحلل الأول فعليه بدنة، وقد فسد حجه، ويلزمه المضي فيه وقضاؤه من قابل، وإن كان بعد التحلل الأول لزمه شاة.
ومن ترك واجبا فعليه دم بلا تخيير. والدم الواجب بفوات أو بترك واجب كالمتعة، بمعنى أنه إذا لم يجد الدم وجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وكل ما سبق من أنواع الذبائح الواجبة لا يجزئ فيها إلا بهيمة الأنعام، الإبل أو البقر أو الغنم.(62/22)
4 - جزاء الصيد، فيجب على من صاد صيدا في الحرم أو وهو محرم مثل ما أتلف إن كان له مثل، وإلا فالقيمة.
ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (1) الآية، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتاوى الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
__________
(1) سورة المائدة الآية 95(62/22)
5 - الخامس من الذبائح الواجبة: ما لزم بالنذر، فإنه يلزم العبد ما نذره سواء كان هديا أو أضحية أو غيرها ويلزمه ما نذره، وإن لم يكن من بهيمة الأنعام كما لو نذر ذبح أرنب ونحوها.
والدليل على لزوم النذر حديث عائشة رضي الله عنها(62/22)
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) » رواه الجماعة إلا مسلما. والذبح طاعة لله فيلزم بالنذر؛ لحديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ فقالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فقالوا: لا، قال: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم (2) » رواه أبو داود.
هذه جملة من الذبائح الواجبة عرضنا لها باختصار لقصر المقام.
ومن الذبائح ما هو مباح لا واجب ولا مستحب من ذلك شاة اللحم. ودليل مشروعيتها حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شاتك شاة لحم (3) » رواه الشيخان. وكذلك أيضا عموم الآيات ومنها قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (4) ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (5) ، وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (6) {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(2) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .
(3) صحيح البخاري الأضاحي (5556) ، صحيح مسلم الأضاحي (1961) ، سنن الترمذي الأضاحي (1508) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1563) ، سنن أبو داود الضحايا (2801) ، مسند أحمد بن حنبل (4/287) ، سنن الدارمي الأضاحي (1962) .
(4) سورة الأنعام الآية 142
(5) سورة المؤمنون الآية 21
(6) سورة يس الآية 71
(7) سورة يس الآية 72(62/23)
وهذه الآيات مسوقة مساق الامتنان الدال على الإباحة كما هو مقرر في علم الأصول.
وكذلك أيضا غير بهيمة الأنعام مما يحل أكله من الطيور والدجاج ومن غيرها، فالمقدور على تذكيته يذكى، وغير المقدور عليه يكون صيدا، دليل جوازها قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(62/24)
ومن الذبائح ما يكون مستحبا إراقة دمه، وهذا أنواع:
فمنها الأضحية: وهي شعيرة من شعائر الله وأصل مشروعيتها، كانت فداء لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (1) .
ودليل مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) ذكر المفسرون أن المراد بالنحر هنا الأضحية وأن الصلاة هنا هي صلاة العيد.
وأما السنة فحديث أنس رضي الله عنه قال: «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده (3) » رواه الجماعة.
__________
(1) سورة الصافات الآية 107
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) صحيح البخاري الأضاحي (5558) ، صحيح مسلم الأضاحي (1966) ، سنن الترمذي الأضاحي (1494) ، سنن النسائي الضحايا (4415) ، سنن أبو داود الضحايا (2794) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3120) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) ، سنن الدارمي الأضاحي (1945) .(62/24)
وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها وجابر وأبي رافع وأبي سعيد وابن عمر، رضي الله عنهم، وغيرهم في السنن والمسند.
وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها في الجملة فهي سنة مؤكدة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته عليها. ولا يجزئ في الأضحية إلا جذع الضأن وهو ما له ستة أشهر، وثني المعز وهو ما له سنة وكذا ثني البقر وهو ما له سنتان، وثني الإبل وهو ما له خمس سنوات. والشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته وعياله؛ لحديث عطاء بن يسار، قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصاروا كما ترى (1) » رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
ويجوز أن يشترك جماعة في بدنة أو بقرة، وهما تجزيان عن سبعة فلو اشترك فيها سبعة لكل واحد منهم سبع أجزأت؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منهما (2) » أخرجه مسلم وغيره، والشاة أفضل من أن يشترك في بدنة أو بقرة؛ لأن فيها زيادة في العدد، وإراقة الدم في ذلك اليوم مطلوبة مستحبة، وشعيرة ظاهرة.
ولا يجزئ في الأضحية إلا ما كان من بهيمة الأنعام، وكان خاليا من العيوب.
__________
(1) سنن الترمذي الأضاحي (1505) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3147) ، موطأ مالك الضحايا (1050) .
(2) صحيح مسلم الحج (1213) ، مسند أحمد بن حنبل (3/293) .(62/25)
والعيوب التي تؤثر في إجزاء الأضحية هي ما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي (1) » رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه النووي أيضا.
وقد جاء النهي عن التضحية بأعضب القرن والأذن والعضب النصف فأكثر، وكذلك جاء النهي عن التضحية بالمقابلة والمدابرة والشرقاء والخرقاء. فعلى المسلم اجتناب هذا كله وما في معناه، وأن يتقرب إلى الله بالطيب فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
ويستحب استسمان الأضاحي واستحسانها؛ لأن ذلك من تعظيم شعائر الله والله تعالى يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) ، وعن أبي أمامة بن سهل قال: «كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون» أخرجه البخاري. ووقت الذبح يبدأ من بعد صلاة عيد الأضحى فمن ضحى قبله لم تجزئ؛ لحديث البراء بن عازب في تضحية خاله أبي بردة بشاته قبل الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم (3) » وقد سبق.
ويستمر وقت جواز ذبحها ثلاثة أيام بعد يوم النحر، ويجب
__________
(1) سنن الترمذي الأضاحي (1497) ، سنن النسائي الضحايا (4370) ، سنن أبو داود الضحايا (2802) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3144) ، مسند أحمد بن حنبل (4/301) ، موطأ مالك الضحايا (1041) ، سنن الدارمي الأضاحي (1950) .
(2) سورة الحج الآية 32
(3) صحيح البخاري الجمعة (955) ، صحيح مسلم الأضاحي (1961) ، سنن الترمذي الأضاحي (1508) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1563) ، سنن أبو داود الضحايا (2801) ، مسند أحمد بن حنبل (4/287) ، سنن الدارمي الأضاحي (1962) .(62/26)
على من أراد أن يضحي أن يتجنب الأخذ من شعره وأظفاره وبشرته، منذ دخول العشر - عشر ذي الحجة - إن كانت نيته للأضحية منذ بداية العشر، وإلا فيجب عليه الإمساك متى نوى أثناء العشرة لحديث أم سلمة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره (1) » أخرجه الجماعة إلا البخاري. والأصل في الأضحية أنها عن الأحياء ويدخل الأموات فيها تبعا.
ويشرع أن يأكل من الأضحية ويطعم منها ويهدي؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وحثه على ذلك، ولا يجوز أن يعطي الجزار منها شيئا أجرة على جزارته.
ثم إنه ينبغي لكل مسلم أن يذبح أضحيته في بلده ويتولاها بنفسه؛ لأنها شعيرة ظاهرة يجب علينا المحافظة عليها وأن نعلمها أبناءنا، فيرونها وهي تذبح ثم ينظرون توزيعها وإهداءها والأكل منها، وبهذا تبقى هذه الشعيرة بين المسلمين، إذ ليس المقصود الأول من الأضحية الصدقة على الفقراء والمساكين وإنما تحقيق التقوى بإراقة الدم تقربا إلى الله، يقول الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (2) فلا يشرع إخراجها من بلد المضحي بحجة أن هناك من هو أحوج لها، فنفع المحاويج له أبواب أخرى من أبواب البر.
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الأضاحي (1523) ، سنن النسائي الضحايا (4362) ، سنن أبو داود الضحايا (2791) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3150) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) ، سنن الدارمي الأضاحي (1947) .
(2) سورة الحج الآية 37(62/27)
ومن الذبائح المستحبة: العقيقة، وهي الذبيحة عن المولود، شكرا لله على الإنعام به.
وهي سنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها، فعن سلمان بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى (1) » رواه الجماعة إلا مسلما.
وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه (2) » رواه الخمسة، وهو حديث صحيح، لصحة سماع الحسن من سمرة حديث العقيقة هذا.
ووقتها في اليوم السابع من الولادة كما تقدم في الحديث السابق.
وقدرها شاتان عن الغلام وشاة عن الجارية، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة (3) » رواه أحمد والترمذي. ويجزئ فيها ما يجزئ في الأضحية.
__________
(1) صحيح البخاري العقيقة (5471) ، سنن الترمذي الأضاحي (1515) ، سنن النسائي العقيقة (4214) ، سنن أبو داود الضحايا (2839) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3164) ، مسند أحمد بن حنبل (4/214) ، سنن الدارمي الأضاحي (1967) .
(2) صحيح البخاري العقيقة (5472) ، سنن الترمذي الأضاحي (1522) ، سنن النسائي العقيقة (4220) ، سنن أبو داود الضحايا (2837) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3165) ، مسند أحمد بن حنبل (5/17) ، سنن الدارمي الأضاحي (1969) .
(3) سنن الترمذي الأضاحي (1513) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3163) .(62/28)
ومن الذبائح المستحبة: هدي التطوع، وهو ما يهدى لبيت الله تقربا به إلى الله سبحانه في غير تمتع ولا قران، فيشمل ما يهديه الحاج المفرد، وأيضا ما يهديه المعتمر، ويشمل كذلك ما يهديه المسلم من أي مكان فيبعثه إلى الحرم ليذبح هناك.(62/28)
وهو سنة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد كنت أفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيبعث هديه إلى الكعبة، فما يحرم عليه مما يحل للرجال من أهله حتى يرجع الناس (1) » أخرجه البخاري.
وإشعار الهدي وتقليده سنة، ليعرف أنه هدي فلا يتعرض له، ولا بأس أن يركب المهدي هديه إن احتاج إلى ذلك، لكن يكون ذلك بالمعروف.
وسنية الإشعار، وجواز الركوب عند الحاجة، عام في هدي التمتع والقران، وهدي التطوع.
__________
(1) صحيح البخاري الأضاحي (5566) ، صحيح مسلم الحج (1321) ، سنن النسائي مناسك الحج (2783) ، سنن أبو داود المناسك (1757) ، سنن ابن ماجه المناسك (3095) ، مسند أحمد بن حنبل (6/236) ، موطأ مالك الحج (762) ، سنن الدارمي المناسك (1935) .(62/29)
ومن الذبائح المستحبة: الصدقة المطلقة، فمن أراد أن يذبح ذبيحة ويتصدق بلحمها على الفقراء أو يجعلها إفطارا للصوام ونحو ذلك؛ فإن هذا مستحب؛ لعموم أدلة استحباب الصدقة وتفطير الصوام.(62/29)
ومن الذبائح المستحبة، ذبيحة وليمة العرس ودليلها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم ولو بشاة (1) » متفق عليه.
هذه جملة من الذبائح المشروعة وعلى العبد المسلم أن يستشعر إنعام الله عليه بهذه النعمة، وأنه سبحانه سخر له هذه الحيوانات يذبحها وينتفع بلحمها وشحمها وجلدها وغير ذلك، فلم يحرم علينا من الحيوانات مأكولة اللحم إلا الدم المسفوح، في حين أن بني إسرائيل قد شدد الله عليهم لما شددوا على
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2048) .(62/29)
أنفسهم فحرم عليهم الشحوم، يقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (2) . فامتن الله علينا بأن أحل لنا الطيب من المآكل، وما حرمه علينا فإنما هو خبيث، بينما قد حرم على اليهود أنواعا من الطيبات بسبب بغيهم، فعلى المسلم أن يعرف نعمة الله عليه وأن يقوم بواجب شكرها فبالشكر تدوم النعم، يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (3) .
ثم إن من نعم الله أن سخر هذه الحيوانات على كبر حجمها وعظيم خلقها، يأتيها ابن آدم فيذبحها أو ينحرها وهي خاضعة له وبين يديه، وليعتبر المسلم بما كان في مثل خلقها أو أصغر من الحيوانات غير المأكولة كالسباع وقوة بأسها وشدة سطوتها وعدم قدرته عليها، على صغر حجمها نسبة إلى البقر أو الجاموس أو البعير ونحو ذلك، فإذا نظر المسلم إلى هذا علم أن الأمر ليس إلا تسخيرا من الله ومنة منه سبحانه على عباده، يقول سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة الأنعام الآية 146
(3) سورة إبراهيم الآية 7(62/30)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (1) {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فإذا تأمل العبد هذا علم عظيم نعمة الله عليه، وما يجب له سبحانه من حق الشكر بالقلب واللسان والجوارح، ومن أعظم الشكر لهذه النعمة أن يستعملها العبد في مرضاة الله وما يقرب إليه.
وإن من كفران هذه النعمة العظيمة أن تستعمل فيما هو محرم على العبد فعله والذبائح المحرمة على العبد أنواع، فمنها ما اختل فيه شرط من الشروط السابقة، كأن يكون الذابح غير عاقل، أو لم يقصد الذكاة، أو كان مجوسيا أو وثنيا أو كانت الآلة سنا أو ظفرا، أو لم يذكر اسم الله عليها ذاكرا عالما، ونحو ذلك.
__________
(1) سورة يس الآية 71
(2) سورة يس الآية 72(62/31)
ومما يحرم من الذبائح ما ذكر عليه غير اسم الله، وأعظم منها ما ذبح تقربا لغير الله، فإن هذه الذبيحة محرمة ميتة، وهذا الفعل شرك أكبر، لا يغفر الله لصاحبه إن لم يتب يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) . ودليل كونها شرك وكونها محرمة قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) ، والنسك هنا الذبح، فتبين من الآية أن الذبح عبادة لله، كالصلاة، لا يجوز صرفها لغير الله، ولا التقرب بها
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163(62/31)
لسواه، فمن فعل ذلك فقد أشرك بالله، وهذا بحمد الله واضح جلي، كما قال سبحانه في الآية بعدها (لا شريك له) الآية.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » أخرجه مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والله سبحانه وتعالى حين عد ما حرم علينا من المأكول قال: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (2) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ظاهره أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذه ذبيحة كذا. وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة، أو قصد به ذلك أولى فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إلى الله لحرم وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك. وإن كان هؤلاء مرتدين، لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، الأول: أنه مما أهل به لغير الله، والثاني: أنها ذبيحة مرتد. . . " اهـ المقصود من كلامه رحمه الله، وهذا يبين أن الذبح لغير الله شرك، وكذلك
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة البقرة الآية 173(62/32)
الذبح بغير اسم الله؛ لأن الأول عبادة لغير الله، والثاني استعانة بغير الله.
وإن مما تجدر الإشارة إليه، بل ويجب التنبيه عليه ما وقع فيه كثير ممن انتسب للإسلام من الذبح لغير الله من الموتى وغيرهم ممن سموهم بالأولياء والصالحين، فإن هذا من الشرك الأكبر، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية مما يغضب الله عز وجل.
فإن الذبح لغير الله سواء كان وليا أو نبيا أو ملكا لأجل جلب نفع أو دفع ضر، أو طلب الشفاعة والقربى، كل ذلك شرك وصرف لخالص حق الله لمخلوق ضعيف بل ميت، هو من أحوج الخلق لمن يدعو له، ويتصدق عنه، فكيف يدعى هو ويطلب منه، بل وتصرف له النذور والذبائح؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وواجب العلماء والدعاة في كل مكان وزمان أن يبينوا هذا ويصدعوا بالحق، فإنه لا يسعهم أن يسكتوا عن هذا الأمر العظيم، وأي شيء أعظم من الشرك بالله، نسأل الله الهداية للجميع.(62/33)
ومما يحرم من الذبائح ما يذبح عند استقبال معظم من سلطان ونحوه، وقد نقل النووي عن أهل بخارى أن من فعل هذا تقربا فإنهم أفتوا بتحريمه، لأنه مما أهل به لغير الله.
وهناك من الذبائح ما يحرم لا لذاتها بل للمكان الذي تذبح فيه، كالذبح بمكان يعبد فيه غير الله، وإن كان الذابح إنما ذبح لله، والدليل حديث ثابت بن الضحاك المتقدم «وأن رجلا نذر أن يذبح إبلا ببوانة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كان(62/33)
فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ فقالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فقالوا: لا، قال: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم (1) » .
وإنما حرم هذا سدا لذريعة الشرك بالله، وتركا لمشابهة المشركين.
__________
(1) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .(62/34)
ومما يحرم من الذبائح الفرع والعتيرة: والفرع هو أول نتاج الإبل والغنم كان أهل الجاهلية يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب، وقد جاء النهي عنهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا فرع ولا عتيرة (1) » أخرجه البخاري.
هذا ما تيسر لنا إيراده في هذه الكلمة اليسيرة وهي إشارات تحتاج لمزيد بسط وبيان لعل الله أن ييسر لنا ذلك فيما بعد، وإن التأمل في مثل هذا لينبئ عن عظيم شأن هذه الشريعة الإسلامية وجليل قدرها وعنايتها الشديدة بكل ما فيه نفع وصالح العبد المسلم في دينه ودنياه، وأن دين الله سبحانه هو الدين الكامل، وهو الصالح لكل زمان ومكان، إذ إن ما سبق الكلام فيه ما هو إلا جزء مما يتعلق بعبادة من العبادات التي أمرنا بها، ورأينا كيف أن النصوص الشرعية أتت على كل جزئية منها إيضاحا وبيانا، فلله الحمد أن من علينا بهذا الدين القويم وله سبحانه الحمد والشكر أن هدانا إليه وجعلنا من أتباعه وأنصاره، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
__________
(1) صحيح البخاري العقيقة (5473) ، صحيح مسلم الأضاحي (1976) ، سنن الترمذي الأضاحي (1512) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4223) ، سنن أبو داود الضحايا (2831) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3168) ، مسند أحمد بن حنبل (2/279) ، سنن الدارمي الأضاحي (1964) .(62/34)
أسأل الله الكريم بمنه وفضله أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر وإذا أذنب استغفر وإذا ابتلي صبر.
كما أسأله سبحانه أن يثبتنا على دينه ويزيدنا فقها فيه وتمسكا به، وأن يعز دينه ويعلي كلمته وينصر أتباعه، وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(62/35)
صفحة فارغة(62/36)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(62/37)
صفحة فارغة(62/38)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية رحمه الله
استعمال ماء زمزم
لإزالة النجاسة والحدث مكروه
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم س. ز. ك. سلمه الله تعالى آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على كتابك لنا المؤرخ في 16 \ 11 \ 1386 هـ. وقد سألت فيه عن ثلاثة أسئلة (1) :
الأول: ما حكم استعمال ماء زمزم في إزالة النجاسة والغسل من الحدث؟
والجواب: يكره استعماله في إزالة النجاسة تعظيما له، ويجوز أن يزال به الحدث بناء على الأصل.
__________
(1) هذا أحدها وقد وضع السؤلان الآخران في مواقعهما.(62/39)
حكم إدخال اليدين
في الإناء قبل غسلهما
س: إذا أدخل الإنسان يديه في الإناء قبل غسلهما ثلاثا كما في الحديث فهل يفسد الماء؟ . . . إلخ. ج: الحديث صريح بالأمر بغسلهما قبل إدخالهما الإناء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده (1) » رواه مسلم. فلا يحل إدخالهما قبل غسلهما ثلاثا، فإن أدخلهما قبل ذلك فهو عاص آثم مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما المدخلة فيه اليدان فلم يتعرض لحكمه في الحديث، فقال بعض الفقهاء: إنه يفسد بذلك، وهذا المشهور عند متأخري فقهائنا. وقال آخرون: إن الماء لا يفسد بذلك ما دام طهورا لم يتغير بالنجاسة ولا غيرها. وهذا الصواب الذي عليه المحققون.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (162) ، صحيح مسلم الطهارة (278) ، سنن الترمذي الطهارة (24) ، سنن النسائي الطهارة (1) ، سنن أبو داود الطهارة (105) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (393) ، مسند أحمد بن حنبل (2/395) ، موطأ مالك الطهارة (40) ، سنن الدارمي الطهارة (766) .(62/40)
حكم افتتاح الجرائد بالبسملة
وهي تلقى في الشوارع وتداس
بالأرجل وتلقى في الزبالات
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ع. م. المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
كتابك لنا بتاريخ 11 \ 10 \ 1386 هـ وصل: وقد ذكرت فيه(62/40)
استنكارك ما رأيته من كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) في الجرائد وهي ترمى في الشوارع والزبالات وتداس بالأرجل.
والجواب: إن كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) مشروعة في أول كتب العلم والرسائل، فقد جرى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتباته، واستمر على ذلك خلفاؤه وأصحابه من بعده، وسار عليه الناس إلى يومنا هذا، وقد حث الله تعالى عليها في القرآن فقال جل وعلا: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (1) قال الزهري: هي (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وذلك أن الكفار كانوا لا يقرون بها، كما حث على كتابتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى عبد القادر الرهاوي في الأربعين من حديث أبي هريرة مرفوعا: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع (2) » رواه الخطيب في جامعه بنحوه. فيجب تعظيم ما فيه (بسم الله الرحمن الرحيم) ، أو شيء من القرآن أو السنة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (3) ، والحرمات امتثال الأمر من فرائض وسنن، ومما فرضه: احترام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن في سورة النمل بإجماع العلماء. وقال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (4) ،
__________
(1) سورة الفتح الآية 26
(2) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(3) سورة الحج الآية 30
(4) سورة الحج الآية 32(62/41)
والشعائر: كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومن ذلك كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكما يجب تعظيم ذلك فيشرع للإنسان أن يحرقه إذا دعت إليه الحاجة، كما فعل عثمان رضي الله عنه فإنه جمع الناس على مصحف واحد وحرق ما سواه من المصاحف ووافقه الصحابة فكان هذا إجماعا منهم. ومن رأى أحدا يفعل شيئا من الإهانة فيجب الإنكار عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » وسوف نقوم حول ذلك بما يلزم إن شاء الله. والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(62/42)
حكم البول واقفا
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ظ. ن. ق. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن حكم البول قائما، وذكرت أنك تلاقي صعوبة إذا لبست الملابس العسكرية عندما تريد البول؛ لأن الملابس تقيد حركة الرجلين عند الجلوس، وتخشى من تطاير البول على الملابس؟
والجواب: الحمد لله. إذا كان الرجل يستفيد من البول قائما، وأمن على نفسه من أن يرى عورته أحد، وأمن من تطاير رذاذ البول على ملابسه فلا بأس بذلك. والله أعلم. والسلام عليكم.(62/42)
هل يجوز إبقاء الصبي
غير مختون إلى عشر سنوات
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ع رئيس هيئة الأمر بالمعروف بالليث سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على استفتائك البرقي بخصوص الختان والسؤال: هل يجوز إبقاء الصبي غير مختون إلى عشر سنوات؟
والجواب: الحمد لله. الختان واجب على الرجال مكرمة للنساء. والقول بوجوبه على الرجال قول كثير من أهل العلم، قال أبو عبد الله: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يشدد في الختان، وروي عنه: لا حج ولا صلاة. يعني إذا لم يختتن.
وقد استدل العلماء رحمهم الله تعالى على القول بوجوبه بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر واختتن (1) » رواه أحمد وأبو داود، وبما رواه الشيخان من «أن إبراهيم خليل الرحمن اختتن بعدما أتت عليه ثمانون سنة، (2) » وقد وقال الله تعالى مخاطبا نبيه عليه الصلاة والسلام: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (3) .
__________
(1) سنن أبو داود الطهارة (356) ، مسند أحمد بن حنبل (3/415) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3356) ، صحيح مسلم الفضائل (2370) ، مسند أحمد بن حنبل (2/418) .
(3) سورة النحل الآية 123(62/43)
وأما وقت الختان فيجب عند البلوغ، وفعله زمن الصغر أفضل. وبهذا يتضح أنه لا شيء في إبقاء الصبي أغرل مدة عشر سنوات، وأن المبادرة بختنه مستحب ما لم يبلغ، فمتى بلغ وجب ختانه. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.(62/44)
حكم القزع " التواليت "
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ن. ع. ط. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى اطلاعنا على استفتائك الموجه إلينا بخصوص سؤالك عن حكم ما يسمى بالتواليت؟
والجواب: الحمد لله. روى أبو داود عن عبد الله بن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال: احلقه كله أو دعه كله (1) » . قال في شرح الإقناع: فيدخل في القزع حلق مواضع من جوانب الرأس، وأن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعله شمامسة النصارى، وحلق جوانبه وترك وسطه كما يفعله كثير من السفلة، وأن يحلق مقدمه ويترك مؤخره. وسئل أحمد عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس. ومن تشبه بقوم فهو منهم. وبما ذكرنا يظهر القول بعدم جوازه. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
__________
(1) أحمد 2 / 206، والبخاري 7 / 60، ومسلم 3 / 1675 برقم (2120) ، وأبو داود 4 /83 برقم (4193، 4194، 4195) والنسائي 8 / 159.(62/44)
كيفية تسريح الشعر للرجل والمرأة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. م. ي. ت. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابك لنا المؤرخ في 30 \ 3 \ 1387 هـ وصل وقد سألت عن مسألتين:
الأولى: ما كيفية تسريح شعر الرأس بالنسبة للرجال والنساء، وهل ورد شيء من أحاديث نبي الله صلى الله عليه وسلم بكيفية خاصة لتسريحه أو نهي عن بعض التساريح؟
والجواب: أما بالنسبة للرجال فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجعله ضفائر. يدل على ذلك ما رواه الترمذي وابن ماجه في سننهما بسنديهما إلى أم هانئ رضي الله عنها قالت: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وله أربع غدائر تعني عقائص (1) » . رواية ابن ماجه تعني: " ضفائر " وروى البخاري ومسلم وغيرهما بأسانيدهم إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه فسدل ناصيته ثم فرق بعد» . قال ابن القيم في (الهدي) : "والسدل: أن يسدله من
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1781) ، سنن ابن ماجه اللباس (3631) .(62/45)
ورائه ولا يجعله فرقتين. والفرق: أن يجعل شعره فرقتين كل فرقة ذؤابة " انتهى كلام ابن القيم.
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإكرام الشعر فروى أبو داود في سننه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له شعر فليكرمه (1) » . والإكرام الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بينه بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي في سننهم بأسانيدهم إلى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الترجل إلا غبا (2) » وروى مالك في الموطأ والنسائي في السنن بسنديهما إلى أبي قتادة رضي الله عنه قال: «يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وأكرمها (3) » . قال: كان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قول رسول الله: وأكرمها ". ومعنى الترجيل قال في تاج العروس: رجلته ترجيلا سرحته ومشطته. والتسريح: حل الشعر وإرساله قبل المشط، كذا في الصحاح. وقال الأزهري: تسريح الشعر: ترجيله وتخليص بعضه من بعض.
أما بالنسبة للنساء فقال البخاري: " باب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون " ثم ساق بسنده عن أم عطية رضي الله عنها قالت: " ضفرنا شعر بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. تعني: ثلاثة قرون " وقال وكيع: قال سفيان: " ناصيتها وقرنيها " انتهى من البخاري. وهذا التضفير بأمره صلى الله عليه وسلم؛ لما رواه سعيد بن منصور في سننه بسنده عن أم عطية: قالت: قال لنا
__________
(1) سنن أبو داود الترجل (4163) .
(2) سنن الترمذي اللباس (1756) ، سنن النسائي الزينة (5055) ، سنن أبو داود الترجل (4159) .
(3) سنن النسائي الزينة (5235) ، موطأ مالك الجامع (1769) .(62/46)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر (1) » وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أم عطية: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا واجعلن لها ثلاثة قرون (2) » . وفي مصنف عبد الرزاق بسنده عن حفصة قالت: " ضفرنا ثلاثة قرون ناصيتها وقرنيها وألقيناها خلفها ". قال ابن دقيق العيد: فيه استحباب تسريح المرأة وتضفرها.
وأما ما يفعله بعض نساء المسلمين في هذا الزمن من فرق شعر الرأس من جانب وجمعه من ناحية القفا أو جعله فوق الرأس كما تفعله نساء الإفرنج فهذا لا يجوز، لما فيه من التشبه بنساء الكفار. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسنديهما إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (3) » صحح هذا الحديث ابن حبان والحافظ العراقي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إسناده جيد، وقال ابن حجر العسقلاني في إسناده: حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا (4) » أخرجه مسلم. وقد فسر بعض العلماء قوله: " مائلات مميلات " بأنهن يتمشطن المشطة الميلا - وهي مشطة البغايا - ويمشطن غيرهن تلك المشطة وهذه هي مشطة نساء الإفرنج ومن يحذو حذوهن من نساء
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1261) ، صحيح مسلم الجنائز (939) ، سنن الترمذي الجنائز (990) ، سنن النسائي كتاب الجنائز (1893) ، سنن أبو داود الجنائز (3142) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1459) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، موطأ مالك الجنائز (518) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1259) ، صحيح مسلم الجنائز (939) ، سنن الترمذي الجنائز (990) ، سنن أبو داود الجنائز (3145) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1459) ، مسند أحمد بن حنبل (6/407) .
(3) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(4) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .(62/47)
المسلمين.
الثانية: هل أخذ بعض شعر الرأس وترك بعضه جائز للرجال والنساء، وهل هناك أمر أو نهي في هذا الباب عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: أما ما يختص بالرجال فقال ابن القيم في (الهدي) : " كان هديه صلى الله عليه وسلم في شعر الرأس تركه كله أو أخذه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه، ولم يحفظ عنه أنه حلق إلا في نسك " انتهى كلام ابن القيم. والذي يدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن البراء رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يضرب منكبيه (1) » وأخرج الشيخان عنه رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه (2) » وأخرج مسلم وغيره عن حميد الطويل رضي الله عنه قال: «كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة (3) » . وقال في تاج العروس: " الوفرة " ما جاوز شحمة الأذنين. و" الجمة " من شعر الرأس ما سقط على المنكبين. والجمع بين هذه الروايات المختلفة في شعره صلى الله عليه وسلم أنه محمول على اختلاف الأوقات، فإذا ترك تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصر كان إلى أنصاف الأذنين، وبحسب ذلك يطول ويقصر. وأما حلقه كله في النسك فمنه ما وقع له صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3551) ، صحيح مسلم الفضائل (2337) ، سنن الترمذي اللباس (1724) ، سنن النسائي الزينة (5233) ، سنن أبو داود الترجل (4183) ، مسند أحمد بن حنبل (4/290) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3551) ، صحيح مسلم الفضائل (2337) ، سنن الترمذي اللباس (1724) ، سنن النسائي الزينة (5232) ، سنن أبو داود اللباس (4072) ، سنن ابن ماجه اللباس (3599) ، مسند أحمد بن حنبل (4/281) .
(3) سنن الترمذي اللباس (1755) ، سنن أبو داود الترجل (4187) .(62/48)
وأما ما يفعله بعض المسلمين من حلق بعض الرأس وترك بعض ويسمونه " التواليت " فهذا هو القزع الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنواع:
الأول: أن يحلق من رأسه مواضع ويترك مواضع. مأخوذ من تقزع السحاب وهو تقطعه.
الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه.
الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه.
الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره.
الخامس: أن يحلق مؤخره ويترك مقدمه.
السادس: حلق بعضه في أحد جوانب الرأس وترك البقية.
وهذه الأنواع يدل على تحريمها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع (1) » أن يحلق رأس الصبي فيترك بعض شعره. وعنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال: احلقوه كله أو اتركوه كله (2) » رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. وروى الطبراني وغيره عن عمر رضي الله عنه مرفوعا «حلق القفا من غير حجامة مجوسية» وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى غلاما له قرنان أو قصتان فقال. احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود.
وقال المروذي. سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن حلق القفا قال: هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5921) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2120) ، سنن النسائي الزينة (5050) ، سنن أبو داود الترجل (4194) ، سنن ابن ماجه اللباس (3637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/106) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5920) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2120) ، سنن النسائي الزينة (5050) ، سنن أبو داود الترجل (4195) ، سنن ابن ماجه اللباس (3637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .(62/49)
وأما شعر رؤوس النساء فلا يجوز حلقه، لما رواه النسائي في سننه بسنده عن علي رضي الله عنه، ورواه البزار بسنده في مسنده عن عثمان رضي الله عنه، ورواه ابن جرير بسنده عن عكرمة رضي الله عنه قالوا: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها (1) » . والنهي إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي التحريم ما لم يرد له معارض، قال ملا علي قاري في (المرقاة شرح المشكاة) : قوله: " أن تحلق المرأة رأسها " وذلك؛ لأن الذوائب للنساء كاللحى للرجال في الهيئة والجمال.
وأما أخذ شيء من أسفل الضفائر ففي صحيح مسلم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: «دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة، فدعت بإناء قدر الصاع فاغتسلت وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثا، قال: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة (2) » . قال النووي: قال القاضي عياض رحمه الله: المعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب، ولعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤونة رؤوسهن. وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونه فعلنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا في حياته، كذا قاله أيضا غيره وهو متعين، ولا
__________
(1) سنن الترمذي الحج (914) ، سنن النسائي الزينة (5049) .
(2) صحيح البخاري الغسل (251) ، صحيح مسلم الحيض (320) ، سنن النسائي الطهارة (227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/72) .(62/50)
يظن بهن في حياته صلى الله عليه وسلم. وفيه دليل على جواز تخفيف الشعر للنساء. وقال النووي أيضا: قال القاضي عياض: ظاهر الحديث أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل لذي المحرم النظر إليه من ذات المحرم. والسلام عليكم.(62/51)
تحريم حلق اللحى وتعريف اللحية
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم م. ش. ف.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي فيه عن حكم حلق اللحية؟
والجواب: الحمد لله. حلق اللحية حرام؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة والأخبار، ولعموم النصوص الناهية عن التشبه بالكفار. فمن ذلك حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب (1) » وفي رواية: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى (2) » وفيه أحاديث أخرى بهذا المعنى.
واللحية: اسم للشعر النابت على الذقن والخدين. وإعفاؤها: تركها على حالها. وتوفيرها: إبقاؤها وافرة من دون أن تحلق أو تنتف أو يقص منها شيء. حكى ابن حزم الإجماع
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5893) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2763) ، سنن النسائي الطهارة (15) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(62/51)
على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، واستدل بجملة أحاديث، منها حديث ابن عمر السابق، وبحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا (1) » صححه الترمذي. قال في الفروع: وهذه الصيغة عند أصحابنا - يعني الحنابلة - تقتضي التحريم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، لأن مشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل وفي نفس الاعتقادات، فهي تورث محبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى (2) » الحديث، وفي لفظ: «من تشبه بقوم فهو منهم (3) » .
ورد عمر بن الخطاب شهادة من كان ينتف لحيته. وكذلك ردها ابن أبي ليلى قاضي المدينة. قال في (التمهيد) : يحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال.
«وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية (4) » رواه مسلم عن جابر، وفي رواية: " كثيف اللحية ". وفي أخرى: " كث اللحية " والمعنى واحد. رزقنا الله وإياكم اتباع هديه ولزوم سنته. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2761) ، سنن النسائي الزينة (5047) .
(2) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(3) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(4) صحيح مسلم الفضائل (2344) ، سنن النسائي الزينة (5114) ، مسند أحمد بن حنبل (5/104) .(62/52)
حكم التقصير من اللحية والجواب
عن حديث: «كان يأخذ من طولها وعرضها (1) »
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. ع. ع. سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
وصل كتابك الذي تسأل فيه عن سبعة أسئلة:
الأول: ما حكم حلق اللحية؟
والجواب: لا يجوز أن تزال بأي وجه كان؛ لقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) ، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح وغيره: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى (4) » وما جاء في هذا المعنى، والأمر يقتضي الوجوب. وهذا أمر درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم إلى القرن السابع الهجري، ثم بدأ من قلت رغبته في الدين بحلقها نعوذ بالله من كل ما يغضبه.
الثاني: ما حكم التقصير منها؟
والجواب: لا يجوز، لما سبق من الأدلة، وما ثبت في صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «خالفوا
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
(2) سورة التغابن الآية 12
(3) سورة النور الآية 63
(4) صحيح البخاري اللباس (5893) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2763) ، سنن النسائي الطهارة (15) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(62/53)
المجوس (1) » لأنهم يقصرون لحاهم ويطولون الشوارب " وهذا نص في الموضوع.
وحديث الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم: «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (2) » غير صحيح.
وفعل ابن عمر أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض لحيته فما فضل أخذه لا يحتج به، لأنه روى النهي عن التقصير؛ وإذا تعارض رأي الصحابي وروايته فروايته مقدمة على رأيه. هذا هو الصحيح من قولي العلماء في تعارض رأي الصحابي وروايته. الثالث: هل العارضان من اللحية؟
والجواب: نعم. العارضان من اللحية. يدل على ذلك ما رواه أحمد في المسند عن يزيد الفارسي في رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في آخرها: «قد ملأت لحيته ما بين هذه إلى هذه، قد ملأت نحره (3) » . فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا. انتهى.
قال المناوي وغيره قوله: " ما بين هذه وهذه " أي قد ملأت ما بين الأذن، وقوله: " قد ملأت نحره " أي كانت مسترسلة إلى صدره كثة. وروى البخاري في صحيحه في (باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة) من حديث أبي معمر رضي الله عنه قال: «قلنا لخباب: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر. قال: نعم. فقلنا: بم كنتم تعرفون ذلك. قال: باضطراب لحيته (4) » وجه الدلالة أن المأموم إذا رفع
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2762) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/362) .
(4) صحيح البخاري الأذان (746) ، سنن أبو داود الصلاة (801) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (826) ، مسند أحمد بن حنبل (5/112) .(62/54)
بصره إلى الإمام في الصلاة فإنما يرى منه عارضيه فقط، وأما ما على الذقن فمستور عنه بالعنق، وما تركهما صلى الله عليه وسلم إلا لأنهما منها، وقد جاء في لسان العرب وغيره أنهما داخلان في مسماها ".
الرابع: هل حكم حلق العارضين والتقصير منهما كحكم حلق اللحية والتقصير منها؟
والجواب: نعم. لما سبق من الأدلة.
الخامس: هل حلقها كبيرة أو صغيرة؟
والجواب: من حلق لحيته بعد العلم بالحكم مصرا على ذلك ففعله كبيرة، فإن الكبيرة هي ما توعد عليه بغضب أو لعنة أو رتب عليه عقاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة وهو دون الشرك والكفر. وقد سبقت الأدلة الدالة على الأمر بإعفائها وهو يقتضي الوجوب. والأمر بالشيء نهي عن ضده الذي لو فعل لتخلف متعلق مقتضى الأمر. والنهي يقتضي التحريم. وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن إعفاء اللحية وقص الشارب فرض. وقال ابن عبد البر وشيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وغيرهما: إن حلقها حرام، وقد ورد التشديد في النهي عن حلقها. فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مثل بالشعر فليس له عند الله من خلاق» قال الهروي والزمخشري وابن الأثير وابن منظور: " مثل بالشعر" صيره مثلة بأن حلقه من الخدود ونتفه وغيره بالسواد، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه(62/55)
بقوم فهو منهم (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تشبه بغيرنا (2) » وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3) » .
وحلق اللحية فيه تشبه بالمجوس والنصارى واليهود، وفيه تشبه بالنساء، وتغيير لخلق الله، وقد نص الإمام أحمد في رواية المروذي على كراهة أخذ الشعر بالمنقاش من الوجه، وقال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتنمصات (4) » والمراد بالكراهة عند أحمد كراهة التحريم، والدليل على ذلك احتجاجه بحديث اللعن لمن فعل ذلك، واللعن لا يكون إلا على كبائر الإثم. ويلحق بالنتف إزالة الشعر بحلق أو قص ونحوهما.
السادس: هل رتب الشارع عقوبة دنيوية على من حلق لحيته أو أطال شاربه؟
والجواب: حلق اللحية وإطالة الشارب من المعاصي التي لم يقدر الشارع لها جزاء كما حدد في الزنا والسرقة وغير ذلك، وما كان غير محدد فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فهو الذي يتولى تقديره حسب ما تقتضيه المصلحة.
السابع: هل يهجر من حلق لحيته وأطال شاربه؟
والجواب: يهجر بعد العلم بالحكم ونصحه حتى يقلع من الذنب. إلا إذا كان يترتب على الهجر مفسدة أكثر من المصلحة التي تنشأ عن الهجر فلا يهجره؛ لأن هذه المسألة من المسائل التي أطلقها الشارع، وما كان كذلك فإن حكمه يختلف باختلاف
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(2) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5886) ، سنن الترمذي الأدب (2784) ، سنن أبو داود الأدب (4930) ، سنن ابن ماجه النكاح (1904) ، مسند أحمد بن حنبل (1/227) ، سنن الدارمي الاستئذان (2649) .
(4) سنن النسائي كتاب الزينة (5109) .(62/56)
الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، فينظر في المصالح والمفاسد، وما ترجح جانبه فعليه الأخذ به. وعليك بمطالعة قسمي التوحيد والجهاد من " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " فإن أئمة الدعوة رحمة الله عليهم بينوا الكلام على الهجر بيانا شافيا. والسلام عليكم.(62/57)
خضب الشعر بالحناء
والكتم وبالسواد
س: وجدت حديثا في التقويم «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ما لم يخضبها أو ينتفها (1) » ؟
ج: هذا يحمل على أن المراد بالسواد بقرينة فضل الشيب إلا إن خالف فصبغ أو خالف فنتف. ومعناه صحيح " الشيب وقار ". وجنس هذا الفضل له. وجاء المنع من نتف الشيب. والذي يذكر في التقويم لا يعتمد. أهل التقويم يضعون كل ما وجدوا.
س: الكتم الآن يطبخونه؟
ج: في الحديث " بالحنا والكتم " فإذا جمعا صار فيه لون من الحمرة والسواد. والكتم وحده يكون أسودا. الكتم هو " الوسمة " شجر معروف ينبت في شعبان نجد.
س: ما المستحب في الشارب؟
ج: المستحب فيه هو الإطار وهو أن لا يستأصل ذلك. والإطار هو أن يكون أعلى الشفة بارزا فلا يستأصل بالكلية بل
__________
(1) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1635) ، سنن النسائي كتاب الجهاد (3145) .(62/57)
يبقى شيء.
س: ما الحكمة في تقليم الأظافر؟
ج: ليبلغ ماء الطهارة، ولئلا تؤذيه وغيره، ولئلا يكون منظره كمنظر السباع بأظافرها، فإن في إزالتها الجمال والسلامة من أضرارها والنظافة.
س: ما الحكمة في دفن الشعر؟
ج: كقطعة من جسده أو لحمه أو عضو كأنملة أو عضو تام ينكسر أو ينفصل أو يقطع كما لو رئي فيه جذام، ووجه دفنه أنه تبع لجسده، ولعموم قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} (1) {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (2) ، وليسلم من الامتهان بأكل السباع، ولئلا يتوصل السحرة ببعض جسده إلى سحره.
س: ما الحكمة من غسل اليدين بعد النوم؟
ج: اختلف في المسألة فقيل: مظنة النجاسة. وقيل: غير ذلك. ومن أقرب ما قيل فيها: أن الإنسان إذا نام طاف به الشيطان وحرص على أذاه كما جاء في الاستنثار. وأيضا هو يحب أن يضر الإنسان فهو يحرص على قلبه وحواسه من بوله في أذنيه وعلى خياشيمه، ولا يمنع أيضا أنه تعبدي. ومنهم من قال: العلة إدخال اليد في الإناء. وليس كذلك، فلو استعمل الماء فيهما من غير إدخال فالحكم بحاله.
__________
(1) سورة المرسلات الآية 25
(2) سورة المرسلات الآية 26(62/58)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا رحمه الله
الكتب التي بينت أحكام الحج
س: إذا كنت أقيم في منطقة جبلية وأريد أن أحج فأي الكتب تنصحونني بقرائتها كي أحج على بصيرة؟
ج: ننصح بقراءة الكتب التي بينت أحكام الحج مثل عمدة الحديث للشيخ عبد الغني المقدسي، ومثل بلوغ المرام، ومثل المنتقى. هذه موجودة ومهمة، وهناك مناسك فيها كفاية وبركة إذا قرأتها استفدت منها. منها منسك كتبناه في هذا وسميناه (التحقيق والإيضاح لكثير من أحكام الحج والعمرة والزيارة) وهو جيد ونافع ومفيد، وهناك مناسك أخرى لغيرنا من المشايخ والإخوة مثل منسك الشيخ عبد الله بن جاسر وهو جيد ومفيد.
س: الأخت التي رمزت لاسمها ب. ن. ف من الدلم تقول في سؤالها: ما حكم من أخر الحج بدون عذر وهو قادر عليه ومستطيع؟
ج: من قدر على الحج ولم يحج الفريضة وأخره لغير عذر، فقد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة، فالواجب عليه التوبة إلى الله(62/59)
من ذلك والبدار بالحج؛ لقول الله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (2) » ، متفق على صحته، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لما سأله جبرائيل عليه السلام عن الإسلام، قال: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (3) » ، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم (8) ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم (16)
(3) رواه مسلم في (الإيمان) ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) .(62/60)
العمرة واجبة في العمر مرة
س: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله كتب عليكم الحج " فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لو قلتها لوجبت؛ الحج مرة فمن زاد فهو تطوع (1) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن العباس برقم (2637) والدارمي في (المناسك) باب كيف وجوب الحج برقم (1788) .(62/60)
رواه الخمسة إلا الترمذي وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة. ألا يدل على عدم وجوب العمرة؟
ج: الأدلة متنوعة وهذا في الحج. والعمرة لها أدلتها، والصواب أنها واجبة مرة في العمر كالحج وما زاد فهو تطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة رضي الله عنها لما «سألته هل على النساء جهاد؟ قال: نعم. جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لما «سأله جبرائيل عليه السلام عن الإسلام قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر (2) » . ولأدلة أخرى.
__________
(1) رواه ابن ماجه في (المناسك) باب الحج جهاد النساء برقم (2901) .
(2) رواه ابن خزيمة في (المناسك) باب ذكر البيان أن العمرة فرض وأنها من الإسلام برقم (3044) والدارقطني في (الحج) باب المواقيت برقم (2664) .، أخرجه ابن خزيمة والدارقطني بإسناد صحيح(62/61)
من اعتمر مع حجه
فلا يلزمه عمرة أخرى
س: حججت حجة فرض ولم أعتمر معها فهل علي شيء؟ ومن اعتمر مع حجه هل يلزمه الاعتمار مرة أخرى؟(62/61)
ج: إذا حج الإنسان ولم يعتمر سابقا في حياته بعد بلوغه فإنه يعتمر سواء كان قبل الحج أو بعده، أما إذا حج ولم يعتمر فإنه يعتمر بعد الحج إذا كان لم يعتمر سابقا، لأن الله جل وعلا أوجب الحج والعمرة، وقد دل على ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب على المؤمن أن يؤديها، فإن قرن الحج والعمرة فلا بأس، بأن أحرم بهما جميعا أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج فلا بأس ويكفيه ذلك، أما إن حج مفردا بأن أحرم بالحج مفردا من الميقات ثم بقي على إحرامه حتى أكمله، فإنه يأتي بعمرة بعد ذلك من التنعيم أو من الجعرانة أو غيرها من الحل خارج الحرم، فيحرم هناك ثم يدخل فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر هذه هي العمرة، كما فعلت عائشة رضي الله عنها فإنها لما قدمت وهي محرمة بالعمرة أصابها الحيض قرب مكة فلم تتمكن من الطواف بالبيت وتكميل عمرتها، فأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج وأن تكون قارنة ففعلت ذلك وكملت حجها ثم طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتمر؛ لأن صويحباتها قد اعتمرن عمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يذهب بها إلى التنعيم فتحرم بالعمرة من هناك ليلة أربعة عشر، فذهبت إلى التنعيم وأحرمت بعمرة ودخلت وطافت وسعت وقصرت، فهذا دليل على أن من لم يؤد العمرة في حجه يكفيه أن يحرم من التنعيم وأشباهه من الحل، ولا يلزمه الخروج إلى الميقات، أما من اعتمر سابقا وحج سابقا ثم جاء ويسر الله له الحج فإنه لا تلزمه العمرة ويكتفي بالعمرة السابقة؛ لأن العمرة(62/62)
إنما تجب في العمر مرة كالحج سواء، فالحج مرة في العمر والعمرة كذلك لا يجبان جميعا إلا مرة في العمر، فإذا كان قد اعتمر سابقا كفته العمرة السابقة فإذا أحرم بالحج مفردا واستمر في إحرامه ولم يفسخه إلى عمرة، فإنه يكفيه، ولا يلزمه عمرة في حجته الأخيرة، لكن الأفضل له والسنة في حقه إذا جاء محرما بالحج أن يجعله عمرة بأن يفسخ حجه هذا إلى عمرة فيطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، فإذا جاء وقت الحج أحرم بالحج يوم الثامن، هذا هو الأفضل وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع لما جاء بعضهم محرما بالحج وبعضهم محرما بالحج والعمرة وليس معهم هدي، أمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة، أما من كان معه الهدي فيبقى على إحرامه حتى يكمل حجه إن كان مفردا، أو عمرته إن كان معتمرا مع حجه.(62/63)
الحج مع القدرة واجب على الفور
س: هل الحج واجب على الفور أم على التراخي؟
ج: الحج واجب على المكلف على الفور مع القدرة، إذا استطاع. قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، فالحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو واجب مع الاستطاعة، أما العاجز فلا حج عليه، لكن لو استطاع ببدنه وماله وجب عليه،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97(62/63)
وإذا استطاع بماله، ولم يستطع ببدنه لكونه هرما أو مريضا لا يرجى برؤه فإنه يقيم من ينوب عنه ويحج عنه.(62/64)
حكم تأخير الحج إلى ما بعد الزواج
س: إذا كان الشاب قادرا على أن يحج فأخر الحج إلى أن يتزوج أو يكبر في السن هل يأثم؟
ج: إذا بلغ الحلم وهو يستطيع الحج والعمرة وجب عليه أداؤهما؟ لعموم الأدلة ومنها قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) ، ولكن من اشتدت حاجته إلى الزواج وجبت عليه المبادرة به قبل الحج؛ لأنه في هذه الحال لا يسمى مستطيعا، إذا كان لا يستطيع نفقة الزواج والحج جميعا فإنه يبدأ بالزواج حتى يعف نفسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » ، متفق على صحته.
س: سمعت من بعض الناس أن الحج قبل الزواج لا يصح فريضة بل لا بد من تأدية الفريضة بعد الزواج هل هذا صحيح؟
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) رواه البخاري في (النكاح) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' من استطاع منكم الباءة فليتزوج '' برقم (5065) ومسلم في (النكاح) باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم 1400) .(62/64)
ج: هذا القول ليس بصحيح فالحج يجوز قبل الزواج وبعد الزواج، إذا كان قد بلغ الحلم فحجه صحيح ويؤدي عنه الفريضة، أما إذا حج قبل أن يبلغ فيكون نافلة، والبلوغ يحصل بأمور ثلاثة بإكمال خمس عشرة سنة، وبإنبات الشعر الخشن حول الفرج، وبإنزال المني عن شهوة في الليل أو في النهار أو في النوم أو في اليقظة، إذا نظر أو فكر فأنزل المني يكون بذلك قد بلغ الحلم بإنزال المني عن تفكير أو ملامسة أو احتلام، وبإكمال خمس عشرة سنة، وبإنبات الشعر الخشن حول الفرج، هذه الأمور الثلاثة يحصل بها البلوغ للرجل والمرأة جميعا، وتزيد المرأة أمرا رابعا وهو الحيض فإذا حاضت صارت بالغة، فإذا حج بعدها أو بعد أحدها على الوجه الشرعي فحجه صحيح ويؤدي عنه الفريضة ولو لم يتزوج.(62/65)
حكم تكرار الحج للرجال والنساء
س: ما رأيكم في تكرار الحج مع ما يحصل فيه من الزحام واختلاط الرجال بالنساء فهل الأفضل للمرأة ترك الحج إذا كانت قد قضت فرضها، وربما تكون قد حجت مرتين أو أكثر؟
ج: لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء، ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة، بسبب تيسر المواصلات، واتساع الدنيا على الناس، وتوفر الأمن، واختلاط الرجال بالنساء في الطواف وأماكن العبادة، وعدم تحرر الكثير منهن(62/65)
عن أسباب الفتنة - نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن وأسلم لدينهن وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن، وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم، فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد الطيب، ولا سيما إذا كان حجه يترتب عليه حج أتباع له قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج لجهلهم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرمي وغيرهما من العبادات التي يكون فيها ازدحام. والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلين عظيمين أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها حسب الإمكان. والثاني: العناية بدرء المفاسد كلها أو تقليلها، وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام تدور بين هذين الأصلين، وعلى حسب علم العبد بشريعة الله سبحانه وأسرارها ومقاصدها وتحريه لما يرضي الله ويقرب لديه، واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له سبحانه وتسديده إياه في أقواله وأعماله. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر الدين والدنيا إنه سميع قريب.(62/66)
العمرة مشروعة في كل وقت
س: ما هو الأفضل أن يكون بين العمرة والعمرة للرجال والنساء؟
ج: لا نعلم في ذلك حدا محدودا بل تشرع في كل وقت؛(62/66)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (1) » ، متفق على صحته، فكلما تيسر للرجل والمرأة أداء العمرة فذلك خير وعمل صالح، وثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " العمرة في كل شهر". وهذا كله في حق من يقدم إلى مكة من خارجها، أما من كان في مكة فالأفضل له الاشتغال بالطواف والصلاة وسائر القربات، وعدم الخروج إلى خارج الحرم لأداء العمرة إذا كان قد أدى عمرة الإسلام، وقد يقال باستحباب خروجه إلى خارج الحرم لأداء العمرة في الأوقات الفاضلة كرمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة (2) » ، ولكن يجب أن يراعى في حق النساء عنايتهن بالحجاب والبعد عن أسباب الفتنة وطوافهن من وراء الناس وعدم مزاحمة الرجال على الحجر الأسود، فإن كن لا يتقيدن بهذه الأمور الشرعية فينبغي عدم ذهابهن إلى العمرة؛ لأنه يترتب على اعتمارهن مفاسد تضرهن، وتضر المجتمع، وتربو على مصلحة أدائهن العمرة، إذا كن قد أدين عمرة الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم (1773) ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1349) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2804) وابن ماجه في (المناسك) باب العمرة في رمضان برقم (2994) .(62/67)
مدى صحة قول العوام
" من حج فرضه يقضب أرضه "
أو " اترك المجال لغيرك "
س: بعض الشباب تتوق أنفسهم للحج خاصة في مجال الدعوة والتوجيه لإرشاد الحجاج لكن يخذلهم بعض الناس وبعض العوام يقولون: " من حج فرضه يقضب أرضه " أو " اترك المجال لغيرك " فما رأي سماحتكم؟
ج: الأفضل لمن استطاع الحج أن يحج؛ لعموم الأحاديث الدالة على فضل الحج وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فإذا كان الحاج من العلماء الذين يدعون إلى الله سبحانه ويفقهون الناس في دينهم وفي مناسك حجهم كان ذلك أفضل وأعظم أجرا.(62/68)
حكم من نوى الحج كل عام ولم يستطع
س: السائل م. ج. من الرياض يقول في سؤاله: أنوي الحج كل عام ولكن لم أستطع؛ بسبب ظروفي المادية وضيق اليد فهل علي شيء؟
ج: الحج إنما يجب مرة في العمر على من استطاع السبيل إليه من المكلفين من الرجال والنساء؟ لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97(62/68)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «لما سئل عن الإسلام قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «الحج مرة فمن زاد فهو تطوع (2) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وبذلك تعلم أيها السائل أنه ليس عليك حج سوى مرة واحدة ولو كنت غنيا، وما بعدها فهو تطوع، وهكذا العمرة لا تجب على المكلف إلا مرة واحدة إذا استطاع ذلك، وما زاد على ذلك فهو تطوع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لما سئل عن الإسلام قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر (3) » ، أخرجه الدارقطني وصححه ابن خزيمة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «على النساء جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة (4) » ، وفق الله المسلمين جميعا للعلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن العباس برقم (2637) والدارمي في (المناسك) باب كيف وجوب الحج برقم (1788) .
(3) رواه ابن خزيمة في (المناسك) باب ذكر البيان أن العمرة فرض وأنها من الإسلام برقم (3044) والدارقطني في (الحج) باب المواقيت برقم (2664) .
(4) رواه ابن ماجه في (المناسك) باب الحج جهاد النساء برقم (2901) .(62/69)
س: أرجو من سماحتكم توضيح الآية: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) ، هل الأحسن للمقيم بمكة الطواف بالبيت أم الصلاة أثابكم الله؟
ج: الله تعالى أمر أن يطهر بيته للطائفين والعاكفين وهم القائمون المقيمون في هذا البلد، وتطهيره يكون بإبعاد ما لا خير فيه للطائفين والمقيمين وجميع ما يؤذيهم من أعمال أو أقوال أو نجاسة أو قذر وغير ذلك، يجب تطهير بيته للطائفين والراكعين والقائمين والركع السجود، فيكون ما حول البيت كله مطهرا ليس فيه أذى للعاكف ولا الطائف ولا المصلي، يجب أن ينزه من كل ما يؤذي المصلين ويشق عليهم أو يحول بينهم وبين عبادة ربهم جل وعلا، أما تفضيل الصلاة على الطواف أو الطواف على الصلاة فهذا محل نظر، فقد ذكر جمع من أهل العلم أن الغريب الأفضل له أن يكثر الطواف؛ لأنه ليس بمقيم ولا يحصل له الطواف إلا بمكة، أما المقيم بمكة فهو نازل مقيم، وهذا الصلاة أفضل له؛ لأن جنس الصلاة أفضل من جنس الطواف، فإذا أكثر من الصلاة كان أفضل، أما الغريب الذي ليس بمقيم فهذا يستحب له الإكثار من الطواف؛ لأنه ليس بمقيم بل سوف ينزح ويخرج ويبتعد عن مكة، فاغتنامه الطواف أولى، لأن الصلاة يمكنه الإتيان بها في كل مكان يعني كل هذا في النافلة، أعني: طواف النافلة وصلاة النافلة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 125(62/70)
الحج والعمرة
أفضل من الصدقة بنفقتها
س: إذا دخل شهر رمضان المبارك، ذهب كثير من الناس إلى مكة المكرمة بعوائلهم وسكنوا هناك طوال الشهر الكريم، وقد سمعت من أحد الإخوة أنكم يا سماحة الشيخ، ترون أن التصدق بتكاليف العمرة أفضل من أدائها، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحا، فهل من نصيحة لهؤلاء الذين يذهبون سنويا إلى هناك حتى أنها أصبحت مجالا للمفاخرة والمباهاة عند البعض.
ج: ليس ما ذكرته صحيحا، ولم يصدر ذلك مني، والصواب أن الحج والعمرة أفضل من الصدقة بنفقتهما لمن أخلص لله القصد، وأتى بهذا النسك على الوجه المشروع، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (1) » ، متفق على صحته، وقال صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة (2) » ، متفق على صحته أيضا. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم (1773) ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفه برقم (1349) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2804) وابن ماجه في (المناسك) باب العمرة برقم (2994) .(62/71)
الأفضل لمن حج الفريضة
أن يتبرع بنفقة حج التطوع في سبيل الله
س: بالنسبة لمن أدى فريضة الحج وتيسر له أن يحج مرة أخرى هل يجوز له بدلا من الحج للمرة الثانية تلك أن يتبرع بقيمة نفقات الحج للمجاهدين والمسلمين، حيث إن الحج للمرة الثانية تطوع، والتبرع للجهاد فرض؟ أفيدونا جزاكم الله عن المسلمين خير الجزاء.
ج: من حج الفريضة فالأفضل له أن يتبرع بنفقة الحج الثاني للمجاهدين في سبيل الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما «سئل أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قال السائل: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله " قال السائل: ثم أي؟ قال: حج مبرور (1) » ، متفق على صحته. فجعل الحج بعد الجهاد، والمراد به حج النافلة؛ لأن الحج المفروض ركن من أركان الإسلام مع الاستطاعة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا (2) » . ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله في
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب من قال: إن الإيمان هو العمل برقم (26) ومسلم في (الإيمان) باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم (83) .
(2) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير برقم (2843) ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم (1895) .(62/72)
أشد الحاجة إلى المساعدة المادية، والنفقة فيهم أفضل من النفقة في التطوع للحديثين المذكورين وغيرهما.
س: حدث بيني وبين مجموعة من الزملاء جدال حيث إننا قد نوينا أن نعتمر في نهاية شهر رمضان مع العلم أنني وزميل آخر قد سبق وأن اعتمرنا عدة مرات وفي النهاية قرر هذا الزميل أن لا يعتمر وأن يتقدم بتكاليف هذه العمرة صدقة أو جهادا في سبيل الله وقال إن هذا أفضل بكثير من كونه يعتمر بهذا المال.
نرجو من سماحة الشيخ إفادتنا هل من الأفضل أن يعتمر الشخص وإن سبق له واعتمر عدة مرات أم أن يقدم تكاليف هذه العمرة للمجاهدين في سبيل الله؟
ج: الأفضل لمن أدى فريضة الحج والعمرة أن ينفق ما يقابل حج التطوع وعمرة التطوع في مساعدة المجاهدين في سبيل الله؛ لأن الجهاد الشرعي أفضل من حج التطوع وعمرة التطوع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما «سئل أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قيل ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله " قيل ثم أي؟ قال: حج مبرور (1) » ، متفق على صحته، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب من قال: إن الإيمان هو العمل برقم (26) ومسلم في (الإيمان) باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم (83) .(62/73)
تصرف نفقة حج التطوع في
عمارة المسجد إذا كانت الحاجة إليه ماسة
س: ما قولكم عن بر الولد والديه بحجة، وعنده مسجد يحتاج إلى بناء، هل الأفضل أن يتبرع لبناء المسجد أو للحج عن والديه؟
ج: إذا كانت الحاجة ماسة إلى تعمير المسجد فتصرف نفقة الحج تطوعا في عمارة المسجد، لعظم النفع واستمراره وإعانة المسلمين على إقامة الصلاة جماعة.
أما إن كانت الحاجة غير ماسة إلى صرف النفقة - أعني نفقة الحج التطوع - في عمارة المسجد لوجود من يعمره غير صاحب الحج، فحجه تطوعا عن والديه بنفسه وبغيره من الثقات أفضل إن شاء الله، لكن لا يجمعان في حجة واحدة بل يحج لكل واحد وحده.(62/74)
من مات على الإسلام
فله ما أسلف من خير
س: شخص أدى فريضة الحج وبعدها ترك الصلاة والعياذ بالله، ثم تاب وصلى، فهل يلزمه الحج مرة أخرى باعتبار أنه ترك الصلاة وتارك الصلاة كافر. نرجو الإفادة أثابكم الله؟
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل، فإن حجه لا يبطل(62/74)
ولا يلزمه حجة أخرى؛ لأن الأعمال الصالحة إنما تبطل إذا مات صاحبها على الكفر.
أما إذا هداه الله وأسلم ومات على الإسلام فإن له ما أسلف من خير؛ لقول الله عز وجل في سورة البقرة: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام لما سأله عن أعمال صالحة فعلها في الجاهلية، هل تنفعه في الآخرة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما أسلفت من خير (2) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب من تصدق في الشرك ثم أسلم برقم (1436) ومسلم في (الإيمان) باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده برقم (123) .(62/75)
تارك الصلاة لا يصح حجه
س: ما حكم من حج وهو تارك للصلاة سواء كان عامدا أو متهاونا؟ وهل تجزئه عن حجة الإسلام؟
ج: من حج وهو تارك للصلاة فإن كان عن جحد لوجوبها كفر إجماعا ولا يصح حجه، أما إن كان تركها تساهلا وتهاونا فهذا فيه خلاف بين أهل العلم منهم من يرى صحة حجه، ومنهم من لا يرى صحة حجه، والصواب أنه لا يصح حجه أيضا، لقول(62/75)
النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (2) » ، وهذا يعم من جحد وجوبها، ويعم من تركها تهاونا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2621) .
(2) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (82) .(62/76)
حج الصبي لا يجزئه عن حجة الإسلام
س: هل حج الصبي الذي لم يبلغ يغنيه عن حجة الإسلام؟
ج: لا حرج أن يحج الصبي، بحيث يعلم ويحج ويكون له ذلك نافلة، ويؤجر عن حجه، لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى (1) » ، وقد «قالت امرأة للرسول صلى الله عليه وسلم ومعها صبي صغير: " يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال: نعم ولك أجر (2) » ، وقال الصحابة: كنا نلبي عن الصبيان ونرمي عنهم.
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى في الحج في جماع أبواب دخول مكة باب حج الصبي يبلغ والمملوك يعتق والذمي يسلم برقم (9865) .
(2) رواه مسلم في (الحج) باب صحة حج الصبي برقم (1336) .(62/76)
كيفية إحرام الصبي ولوازمه
س: الأخ: م. م. ص. - من بور سعيد - مصر يقول في سؤاله: لو حججت بطفلي الصغير ولبيت عنه ولكننا لم نستطع أن نكمل حجه فهل علينا شيء؟ نرجو التكرم بالإفادة.
ج: يستحب لمن حج بالطفل من أب أو أم أو غيرهما أن يلبي عنه بالحج، وهكذا العمرة، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن امرأة رفعت إليه صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر (1) » أخرجه مسلم في صحيحه. ويكون هذا الحج نافلة للصبي ومتى بلغ وجب عليه حج الفريضة إذا استطاع السبيل لذلك، وهكذا الجارية، وعلى من أحرم عن الصبي أو الجارية أن يطوف به، ويسعى به، ويرمي عنه الجمار، ويذبح عنه هديا إن كان قارنا أو متمتعا، ويطوف به طواف الوداع عند الخروج؛ للحديث المذكور ولما جاء في معناه من الأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم. ومن قصر في ذلك فعليه أن يتمم. فإن كان قد ترك الرمي عنه، أو ترك طواف الوداع، فعليه عن ذلك دم يذبح في مكة للفقراء من مال الذي أحرم عنه، وإن كان لم يطف به طواف الإفاضة أو لم يسع به السعي الواجب فعليه أن يرجع به إلى مكة ويطوف ويسعى، وإذا كان من معه الصبي أو الجارية يخشى أن لا يقوم بالواجب
__________
(1) رواه مسلم في (الحج) باب صحة حج الصبي برقم (1336) .(62/77)
فليترك الإحرام عنه؛ لأن الإحرام عنه ليس واجبا ولكنه مستحب لمن قدر على ذلك. والله ولي التوفيق.(62/78)
أعمال الصبي له
ويؤجر والده على تعليمه
س: هل أعمال الطفل الذي لم يبلغ، من صلاة وحج وتلاوة كلها لوالديه أم تحسب له هو؟
ج: أعمال الصبي الذي لم يبلغ - أعني أعماله الصالحة - أجرها له هو لا لوالده ولا لغيره ولكن يؤجر والده على تعليمه إياه وتوجيهه إلى الخير وإعانته عليه، لما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقالت: «يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر (1) » فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج للصبي وأن أمه مأجورة على حجها به.
وهكذا غير الوالد له أجر على ما يفعله من الخير كتعليم من لديه من الأيتام والأقارب والخدم وغيرهم من الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » . رواه مسلم في صحيحه؛ ولأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، والله سبحانه يثيب على ذلك.
__________
(1) رواه مسلم في (الحج) باب صحة حج الصبي برقم (1336) .
(2) رواه مسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي برقم (1893) .(62/78)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة تبني جماعة أعلنت عن نفسها في إحدى الصحف المحلية عن إدارة مشروع للزواج من متخلفات يقمن بالمملكة بصورة غير مشروعة، ويتم زواجهن بمهور ميسرة جدا لا تتجاوز (1000) ريال للثيب و (1500) للبكر. من هنا نود من سماحتكم تسليط الضوء على النواحي الشرعية لمثل هذا الزواج ومدى جوازه شرعا. علما أن أولياء أمور الزوجات قد لا يوجدون عند كتابة عقود الأنكحة؟
ج: الحمد لله، الله سبحانه وتعالى خلق بني البشر من جنسين ذكر وأنثى وهو سبحانه من حكمته جعل بين الذكر والأنثى الألفة والمودة والرحمة وغريزة التزاوج لحكمة أرادها الله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) ، ويقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة الروم الآية 21(62/79)
وشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين النكاح إحصانا لفروجهم وتكثيرا للأمة ولغير ذلك من المصالح والمنافع التي لا تخفى، وفي شريعة الإسلام السمحاء ضبط أمر الزواج بشروط وضوابط تكفل بتوفيق من الله استمراره وبقاءه وتحقق الفوائد المتوخاة منه، وهي في نفس الوقت شرط لحل عقد النكاح في الإسلام، من ذلك: وجود الولي للمرأة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، باطل، باطل (1) » وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي (2) » وعلى هذا فإن هذا الزواج المنوه عنه في السؤال نكاح باطل لعدم وجود الولي، فيكون بذلك محرما، ثم أيضا إن ولي الأمر قد وضع للناس ضوابط وتعليمات تحقق للناس المصلحة العامة وتدفع عنهم مفاسد وأضرارا قد لا يدركها آحاد الناس ومن ذلك ما كان من تنظيم أمر الزواج من الخارج، ثم أيضا قاموا بتنظيم أمر الإقامة في داخل البلد، ومخالفة هذا التنظيم أمر محرم، ثم أيضا إن مقصود الشارع من الزواج الاستقرار وتحصيل الأبناء، ومثل هذا العمل قد يؤدي إلى ضياع الأبناء والاضطرار إلى الانفصال ونحو ذلك من الأمور المنافية لمقصود الشارع.
إذن هذا الزواج محرم، وباطل من وجوه:
1 - عدم وجود الولي.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1102) ، سنن أبو داود النكاح (2083) ، سنن ابن ماجه النكاح (1879) ، مسند أحمد بن حنبل (6/47) ، سنن الدارمي النكاح (2184) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبو داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2182) .(62/80)
2 - عصيان ولي الأمر بمخالفة الأنظمة التي وضعها لتحقيق مصالح عامة.
3 - في هذا العقد مخالفة لمقصود الشارع من الزواج وهو السكن والاستقرار وتحصيل الأبناء، إذ هذا الأمر إن لم يكن متعذرا في هذا النوع من الزواج فهو متعسر جدا كما يعلم ذلك من له بصيرة في هذه الأمور.
فالواجب تقوى الله، والحرص على اتباع الطرق الشرعية، والحذر من هذه المسالك المضرة على دين المرء ودنياه.(62/81)
س: ما حكم أن يحول الأب بين ابنته الموظفة وبين زواجها رغبة في مرتبها؟
ج: لا يجوز للأب ولا لغيره من أولياء البنات أن يمنعوهن من زواج الأكفاء لمثل هذه الأسباب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم (1) » والله تعالى يقول: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) . فالواجب على أولياء النساء تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه، والحذر من أسباب سخطه سبحانه. وأن يكونوا حريصين على تزويج بناتهم ومن تحت أيديهم من الأكفاء، وألا تغرنهم الحياة الدنيا بزخرفها وزينتها
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1085) .
(2) سورة البقرة الآية 232(62/81)
فإنها متاع قريب وعرض زائل.(62/82)
س: يغادر هذه البلاد في فصل الصيف مئات من الشباب والأسر لقضاء إجازة فصل الصيف خارج المملكة في دول مختلفة، ما هي كلمة سماحتكم لمثل هؤلاء من أولياء الأمور والشباب؟
ج: أغلى ما يملك المسلم وأهم ما يجب أن يحافظ عليه هو دينه، فالواجب على كل مسلم أن يكون حريصا على دينه، فإن كان يرى من نفسه أنه قادر على إظهار دينه، وأنه إذا سافر لتلك الأماكن لن يتأثر بما هم عليه إن كان عندهم نقص أو فساد في العقائد أو الأخلاق، وكان مع هذا ملتزما بشعائر دينه عقيدة وعبادة وأخلاقا، فهذا أرجو ألا يكون في سفره بأسا، فإن زاد على ذلك بأن كان ذا علم يدعو إلى الله على بصيرة، ويبين دين الإسلام لمن هو جاهل به أو مقصر فيه فهذا خير ولعله يؤجر بهذا الفعل، أما إذا ظن أن سفره هذا سيؤثر عليه في عقيدته أو سيضعفه في عبادته أو يفسد عليه أخلاقه ويجر عليه البلاء، فهذا لا يجوز له الخروج والواجب عليه أن يحرص ويحافظ على دينه وأن يتقي الله ربه، وألا يتساهل في هذا الأمر العظيم الخطير، وفقنا الله وإياكم لكل خير وعصمنا وإياكم من مواضع الزلل.(62/82)
س. من الشباب من تضطره ظروفه للإقامة في دول بعيدة عن وطنه للدراسة مثلا فلو أراد تحصين نفسه هل يحل له الزواج المدني كما يحدث في البلاد التي هو فيها؟(62/82)
ج: الأولى أن يتزوج في بلاده فإن هذا أدعى للسكن والاستقرار وهما مقصدان مهمان في النكاح، أما الزواج الذي يكون مقدرا بمدة فهذه متعة محرمة لا يجوز الإقدام عليه، وكذلك الزواج الذي تنتفي فيه بعض شروط النكاح من رضى الزوج والزوجة ووجود الولي ونحو ذلك فهذا النكاح يعتبر باطلا محرما، وعلى الإنسان أن يحصن نفسه بالطرق الشرعية وأن يسلك أسلم المسالك التي توصله إلى نكاح شرعي، الأصل فيه السكن والاستقرار والحرص على إنجاب الأولاد وتربيتهم التربية الصالحة.(62/83)
س: يدور كلام كثير حول تحريم وتحليل زواج المسيار ونود من سماحتكم قولا فصلا في هذا الشأن مع بيان شروطه وواجباته إن كان في حكم الحل؟
ج: شروط النكاح هي تعيين الزوجين ورضاهما والولي والشاهدان فإذا كملت الشروط وأعلن النكاح ولم يتواصوا على كتمانه لا الزوج ولا الزوجة ولا أولياؤهما، وأولم على عرسه مع هذا كله، فإن هذا نكاح صحيح سمه بعد ذلك ما شئت.(62/83)
س. نسمع ونقرأ في أيامنا هذه كثيرا عن عقوق الأبناء والبنات للآباء والأمهات وسوء معاملتهم إلى درجة هجرهم أو إيداعهم في دور للعجزة أو الاعتداء عليهم ضربا أو مثل ما حدث مؤخرا من إقدام مراهق على قتل والده، كيف يخرج المجتمع من هذا المأزق سماحة المفتي حفظكم الله؟(62/83)
ج: الله سبحانه وتعالى قد قرن حق الوالدين بحقه فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) وأكد على وجوب البر بهما حال كبر سنهما وضعف قوتهما: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (2) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (3) بل حث على حسن صحبتهما وإن كانا كافرين بل حتى وإن كانا داعيين إلى الكفر يقول الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (4) وأما سؤالك، كيف يخرج المجتمع من هذا المأزق، فهو العودة بالمجتمع إلى دين الإسلام وتعاليمه السمحة وتحصينه بالإيمان، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وسالك طريق الإصلاح سيعاني وسيلقى مضايقات فالواجب الصبر والاحتساب والمجاهدة في هذا الباب، يقول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (5) وأن يكون الآباء قدوة لأبنائهم في هذا فإذا رآهم أبناؤهم وهم يبرون بوالديهم كان هذا أحرى أن يقوموا هم ببرهم وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الإسراء الآية 24
(4) سورة لقمان الآية 15
(5) سورة العنكبوت الآية 69(62/84)
س: هناك قصص كثيرة حول استغلال بعض ضعاف النفوس(62/84)
والتظاهر بالتقوى والصلاح وادعاء المداواة والعلاج بالقرآن ثم يتضح غير ذلك من أعمال سحرية أو شركية أو شعوذة أو نحوا من ذلك، ما رأي سماحتكم في هذا وكيف يتجنب الناس الوقوع في أيدي مثل هؤلاء؟
ج: العلاج بالقرآن والرقى والأدعية الشرعية أمر مشروع لا شك فيه، وإذا ما استعمل استعمالا شرعيا وقويت الأسباب وضعفت أو انتفت الموانع فإنه بإذن الله مؤثر نافع وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رقى ورقي وأمر بالاسترقاء لأبناء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وصح أيضا أن أبا سعيد الخدري رقى سيد قوم لدغته عقرب بالفاتحة فشفاه الله، وكان قد اشتكى عليه، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وما يدريك أنها رقية؟ قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما (1) » وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) ، ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ، هذا أمر لا شك فيه، لكن الرقى قد ضبطها العلماء بضوابط باستقرائهم للنصوص فمن الضوابط: 1- أن تكون من القرآن أو السنة أو الأدعية الصحيحة التي لا تخالف الشرع.
2 - أن تكون باللغة العربية، وهذا الضابط أطلقه البعض والبعض
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2276) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50) .
(2) سورة الإسراء الآية 82
(3) سورة فصلت الآية 44(62/85)
قيده بمن يحسنها.
3 - أن يعتقد أنها سبب، ولا يعتقد أنها مؤثرة بذاتها حتى لا يتعلق قلبه إلا بالله عز وجل وأنه وحده الشافي سبحانه وأنه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه تبارك وتعالى ومما يدل على أنه لا بد في الرقى موافقة الشرع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه: أرأيت رقى كنا نرتقي بها في الجاهلية، فقال: «اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » والذين اشترطوا كونها بالعربية قالوا: لئلا يكون فيها شيء من الطلاسم والشعوذة، لهذا عبر بعضهم عن هذا الشرط بقوله: أن تكون بكلام مفهوم، والمعنى واحد فالمقصود أن الرقية الجائزة بل والمأمور بها هي ما كان بأدعية شرعية معروفة مفهومة اللفظ والمعنى ولم يعتقد متعاطيها أنها تؤثر بذاتها، أما ما وقع السؤال عنه من استغلال بعض ضعاف النفوس للناس بتظاهرهم بالصلاح والمداواة بالقرآن وهم إنما يقومون بالسحر والشعوذة ويرتكبون أعمالا شركية، فهذا أمر محرم وقد يصل إلى الكفر والواجب على من علم ذلك عنهم أن يبلغ ولاة الأمور، وعلى ولاة الأمر أن يأخذوا على أيدي هؤلاء وأن يقطعوا دابر الفساد، أما عامة الناس فالواجب عليهم الحرص والتحري وعدم الاغترار بالمظاهر، فينظر في الرجل الذي يرقيه والدعاء الذي يقوله، ويسبر حال الرجل فإن ظهر من الرجل ما يرتاب منه فالواجب عليه تركه وعدم الاغترار به، وإن علم أنه يتعاطى السحر أو الشعوذة أو يتعامل مع الجن وجب عليه إبلاغ الجهات المختصة ليقوموا باللازم تجاههم.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(62/86)
س: تتعرض بعض الأراضي البيضاء التي هي في واقع الحال ملك عام إلى سطو واعتداء من بعض الطامعين والمدلسين يستحوذون عليها بطرق ملتوية وغير شرعية وقد يلحقون الضرر بغيرهم وبالملكية العامة ما حكم الشرع في هذا؟
ج: هذه الأراضي المنوه عنها في السؤال تعتبر من الملك العام والتصرف فيها يتبع المصلحة العامة التي يقررها ولي الأمر، وقد نظم ولاة الأمر حفظهم الله هذا، فالواجب التقيد بالتعليمات والحذر من الاعتداء على تلك الأراضي بطرق ملتوية وتحايل على التعليمات، فإن هذا من سرقة الأراضي وغصبها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من غصب قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة (1) » فالواجب الحذر وألا يأخذ المسلم شيئا إلا بحقه، وأن يحرص على براءة ذمته وتخليصها من حقوق الناس.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2453) ، صحيح مسلم المساقاة (1612) ، مسند أحمد بن حنبل (6/252) .(62/87)
س: أعمل في مركز رياضي أهلي، وصاحب المركز وضع بعض السماعات ومكبرات الصوت لتشغيل الموسيقى الغربية وبعض التلفزيونات لبث القنوات الفضائية لترغيب الشباب في التسجيل في المركز، وقد نصحنا بعض المتدربين بوجوب إقفال التسجيل وتغيير القنوات في التلفزيون، لكن البعض الآخر وهم قلة يرغب في الموسيقى. فما الحل في هذه الحالة، خاصة وأن رب العمل حريص على وجود هذا الشيء في المركز؟
ج: ما فعله صاحب هذا المركز من تشغيل الموسيقى، وعرض القنوات الفضائية، والتي قد تحتوي على ما يخالف(62/87)
الشرع، من أمور مخلة بالعقائد والأخلاق، هذا أمر محرم وإعانة على المنكر، وفيه نشر للفاحشة بين المسلمين، فإن الموسيقى والمعازف محرمة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (1) » . . . الحديث وهو صحيح متصل. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ويخشى على من فعل هذا الفعل وأصر عليه أن يدخل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) والمنكرات والمحرمات لا يجوز أن تكون وسيلة لكسب المال، ولا لما يزعم من ترغيب الشباب أو ترويج السلعة فإن هذا متاع الدنيا الزائل وحظ قريب، تعقبه الحسرة والندامة. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند وغيره، أنه قال: «إن التجار يحشرون فجارا يوم القيامة إلا من اتقى وبر وصدق (4) » .
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه (5) » .
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4039) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة النور الآية 19
(4) سنن الترمذي البيوع (1210) ، سنن ابن ماجه التجارات (2146) ، سنن الدارمي البيوع (2538) .
(5) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2417) ، سنن الدارمي المقدمة (537) .(62/88)
والحرص على حل المكسب وطيب المأكل والمشرب، أمر واجب على جميع المسلمين، بل إن خبث المكسب من أسباب رد الدعاء وعدم استجابته، وهذا شر عظيم على ابن آدم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: وقال:، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (3) » أخرجه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(2) سورة المؤمنون الآية 51 (1) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}(62/89)
س: سمعت أحد الدعاة ينهى الآباء عن قولهم عندما يسألون عن أبنائهم لماذا لم يصلوا: " سيصلون عندما يكبرون ويعقلون " أو هكذا من القول. ويقول هذا الداعية: إن هذا من قول المرجئة المبتدعة، فما عقيدة المرجئة؟ جزاكم الله خيرا، وما وصيتكم لولاة الأمور الذين لا يشهد أبناؤهم الصلاة؟
ج: قول بعض أولياء الأبناء إذا ما نصحوا في شأن من يلونهم من الأبناء ليحضوهم على الصلاة. " سيصلون إذا كبروا " ونحو ذلك من الكلام الذي فيه التسويف والإشعار بعدم الاهتمام وعدم المبالاة، كل هذا من الخطأ البين، وإني لأنصح ولاة(62/89)
الأمور بأن يحذروا من ذلك وأن يبذلوا قصارى جهدهم مع أبنائهم ومن تحت أيديهم ليقوموا بحقوق الله، وخصوصا الصلاة فإن أمرها عظيم، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} (1) .
وإنما يكون ذلك بأن يقوم المرء بطاعة الله سبحانه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وكذلك يقوم على أهله وأبنائه بذلك، ومن أهم الأمور أمر الصلاة، وكذلك أيضا قد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته (2) » . . . الحديث. فالأمر عظيم جدا، ولا بد من الوقفة الصادقة مع أنفسنا فإن التفريط قد كثر في الأزمان المتأخرة، وقلت المبالاة بشأن الصلاة فمن الناس من يتهاون بأدائها جماعة مع المصلين، ومنهم من لا يؤديها إلا بعد خروج وقتها، والله يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (3) ، ومنهم من تساهل بها حتى لا يكاد يرى يصليها، والرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» فالمسألة عظيمة جدا، وعلى كل واحد منا أن يتفقد نفسه وأهله وأبناءه ومن تحت يده نسأل الله الهداية للجميع.
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(3) سورة مريم الآية 59(62/90)
أما ما ذكره السائل من أن مثل هذا الكلام من عقيدة المرجئة، فلا يظهر لي الآن وجه ذلك.
وأما المرجئة فهم فرق ضالة يختلف ضلالهم حسب مراتبهم، ومعنى الإرجاء في اللغة: التأخير، وسموا مرجئة؛ لتأخيرهم العمل عن مسمى الإيمان- هذا في الجملة- وإلا فدرجاتهم في الضلال متفاوتة جدا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له يجمع غالب مقالات المرجئة: " والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو- يعني الأشعري - وأكثر أصحابه. و" القول الثاني " من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية، و" الثالث " تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم " ثم ذكر رحمه الله ثلاثة أوجه لغلط المرجئة في الإيمان:
الأول: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص.
الثاني: ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط، دون الأعمال.(62/91)
الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال، وللرد على هذه الشبه يراجع كتاب (الإيمان) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكر الشيخ أيضا رحمه الله سبب ضلال المرجئة في هذا الباب فقال رحمه الله: " وقد عدلت " المرجئة " في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وما تأولوه بفهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس " انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
والكلام عن الإرجاء ومذاهب وأقوال المرجئة يطول جدا وقد يحتمل ذلك كتابا كاملا، لتشعب فرق الإرجاء وتعدد مشاربهم، وأيضا اختلاف مذاهبهم في العقيدة، فالجهمية والأشاعرة والكرامية كلهم مرجئة، ثم هناك غير هؤلاء كمن ينتسب إلى الفقهاء وهم في الغالب من أتباع حماد بن زيد والذي أخذ بقوله أبو حنيفة رحم الله الجميع ثم سار على ذلك جمع من أتباعه، وإن كانوا أخف من أولئك، وأخذهم للإرجاء أقل بكثير من أولئك وهم أقرب إلى مذهب السلف في الإيمان من جميع فرق المرجئة.
والذي يجب أن يعلم هنا أن الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان، وأهله متفاضلون فيه، على هذا دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. يقول الله تعالى:(62/92)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) ، والمراد به هنا الصلاة، فدل على أن العمل ركن في الإيمان، ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (2) » رواه البخاري. فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين النطق، وهو قول لا إله إلا الله، وبين عمل القلوب، وهو الحياء، وبين عمل الجوارح، وهو إماطة الأذى عن الطريق.
وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل ونية، نقل الإجماع غير واحد من الأئمة المعتبرين، كالشافعي رحمه الله، نقله عنه اللالكائي وابن تيمية رحمهما الله وأحالا إلى كتابه (الأم) في كتاب الطهارة عند كلامه عن النية، ونقل الإجماع أيضا الآجري في (الشريعة) وغيرهم، ودليل تفاضل الناس في مسمى الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) ، وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4) ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وعلى هذا سار السلف رضي الله عنهم.
وفق الله الجميع للفقه في دينه والتزام شرعه والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والثبات على ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .
(3) سورة الأنفال الآية 2
(4) سورة الفتح الآية 4(62/93)
س: إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك عقلي معناه، ولم يصدقه، فماذا علي؟ جزاكم الله خيرا، وهل جميع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم محل التصديق أم أن ذلك مقتصر على ما وافق العقل وصدقه؟
ج: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث وجب الإيمان به واعتقاد أنه الحق والعمل بموجبه، إذ هذا مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله وهي من أركان الإسلام، وكذلك أيضا هي من مقتضى الإيمان بالرسل الذي هو ركن في الإيمان، ثم إن ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يكون وحيا من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وليس هو مجرد قول أو فعل صادر منه كما يصدر من سائر البشر يقول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) ، ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (3) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (4) » أخرجه الإمام أحمد رحمه الله، وقد بين الله لعباده المؤمنين شدة هذا الأمر وأنه لا خيار لهم في تصديق خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم والعمل بمقتضاه متى ما ثبت، يقول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (5)
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) سورة النساء الآية 113
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/131) .
(5) سورة الأحزاب الآية 36(62/94)
ثم أيها الأخ الكريم اعلم أنه لا يشترط أن تكون عالما لمعنى كل حديث يردك، فاهما له، وأن يكون عقلك مدركا له مصدقا، كلا، فمعلوم أن النصوص الشرعية منها ما يفهمه غالب الناس، ومنها مما لا يفهمه إلا العلماء، ومنها ما لا يفهمه ويعرف دلالته إلا الراسخون من أهل العلم، فيكون موقفنا هو العمل بالمحكم والوقوف عند المتشابه. والمتشابه: هو ما لا يعلمه إلا الراسخون من أهل العلم، وأما جعل هذا المتشابه أصلا، أو التشكيك في المحكمات بضربها بالمتشابهات فهذا سبيل أهل الغي، يقول الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وأما ما ذكرت من أن هناك من الأحاديث ما يوافق العقل فتصدقه وما لا يوافقه فتسأل عنه هل تصدقه أم لا؟ فهذا السؤال غير وارد أصلا، لأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح بحال، ومتى توهم متوهم أن نصا من النصوص الشرعية الثابتة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7(62/95)
مخالف للعقل فليتهم عقله هو، والشريعة الإسلامية - بحمد الله- تأتي بما تحار فيه العقول ولا تأتي أبدأ بما تحيله العقول كما قرر ذلك المحققون من العلماء، بمعنى أن الشريعة لا تأتي بما تعده العقول السليمة أمرا مستحيلا. هذا لا يمكن أبدا.
فالواجب إذن هو التسليم والانقياد لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم متى ثبتت وألا نردها بأي حجة أيا كانت، فإن الله تعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) . وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ورزق الله الجميع العمل بكتابه وسنة مصطفاه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 65(62/96)
س: يسألني بعض المسلمين من دول أخرى عن مذهبي، فهل أقول أنا محمدي نسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أم أقول أنا سلفي، أم ماذا أقول جزاكم الله خيرا؟
ج: الواجب على كل مسلم أن ينتسب للإسلام فهو الاسم الشرعي الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ... } (1) .
وقد سار السلف على الانتساب إلى أهل السنة والجماعة،
__________
(1) سورة الحج الآية 78(62/96)
ويعنون به اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولزوم جماعة المسلمين الجماعة العلمية والجماعة البدنية. فمتى انتسب المسلم بهذه النسبة مستحضرا هذا المعنى فإنه لا بأس به، وكذلك أيضا الانتساب إلى السلف أو الأثر فيقول سلفي أو أثري، لا على سبيل تزكية النفس وإنما ليتميز عن سائر أهل البدع، فهذا لا بأس به، والذي يجب التنبيه عليه أنه لا ينبغي أن تكون هذه النسبة سببا لأمور غير شرعية كالعصبية الجاهلية التي ليس لها مستند شرعي، فإن اسم المهاجرين والأنصار اسم شرعي وارد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) ويقول سبحانه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (2) . وغير ذلك من الأدلة، ومع هذا فإن هذه النسبة لما خرجت إلى أمور غير مشروعة كانت غير مرضية، فإنه لما تلاحى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحدهما: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم (3) » ..... الحديث. فنفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة التوبة الآية 117
(3) صحيح البخاري المناقب (3518) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2584) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3315) ، مسند أحمد بن حنبل (3/393) .(62/97)
وسماها دعوى الجاهلية.
فالمهم هو تحقيق عبادة الله على بصيرة، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن حقق ذلك والتزم به لم يضره ألا ينتسب لأحد، وإن كان انتسابه إلى أهل السنة والجماعة هو الأفضل؛ اتباعا لآثار السلف وتميزا له عن أهل البدع.(62/98)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في بيان حكم جوائز المسابقات التي يمنحها
مهرجان (تسوق في وطني) وغيرها
مما يشابهها من المسابقات التجارية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على برنامج: (تسوق في وطني) المتضمن منح جوائز تتكون من سيارات وأجهزة حاسب آلي شخصي وأجهزة جوال وجوائز متنوعة في مقابل شراء طالب تلك الجوائز أرقام سحب من لجنة المهرجان ومنحها لعملاء هذه المنافذ مجانا، وهذه الأرقام تكون مؤهلة للسحب على جوائز قيمة بمعدل (300) جائزة يوميا ما بين سيارات وهواتف وأجهزة حاسب آلي وهواتف جوال وخلافها - كما جاء في النشرة التي يوزعها ذلك المهرجان للدعاية - وبتأمل اللجنة لهذا العرض تبين لها أن هذا العمل نوع من القمار وهو الميسر المحرم الذي هو قرين الخمر والأنصاب والأزلام في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(62/99)
وذلك لأن كل مشترك يدفع مبلغا من المال مخاطرة وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا. وهذا هو القمار، ولما في هذا العمل من التلاعب بعقول الناس والتغرير بهم وخداعهم، وإنما تلجأ بعض الشركات والمؤسسات إلى هذه المسابقات لطلب الحصول على الأموال الكبيرة دون مقابل اعتمادا على التغرير والخداع لعامة الناس، وكل معاملة فيها مقامرة أو تغرير أو أكل لأموال الناس بالباطل أو فيها إضرار بأهل السوق الذين لم يعملوا مثل هذا العمل فهي معاملة محرمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (2) .
واللجنة إذ تبين ذلك توصي جميع المسلمين بالابتعاد عن كل معاملة تخالف هذا المنهج الرباني الذي بينه الله لعباده في هذه الآية الكريمة. وفق الله الجميع لمعرفة الحق والعمل به. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح بن فوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 30(62/100)
فتوى رقم (21758) وتاريخ 3 \ 12 \ 1421 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد وردت إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أسئلة كثيرة مسجلة لدى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ومنها: (مسجل برقم 7180 في 11 \ 11 \ 1421هـ ومسجل برقم 7246 وتاريخ 17 \ 11 \ 1421 هـ) وغيرها وكان نص أحدها ما يلي: (انتشرت بين طلاب المدارس في الفترة الأخيرة لعبة تعرف بـ (البوكيمون) هذه اللعبة التي استحوذت على عقول شريحة كبيرة من أبنائنا الطلاب فأسرت قلوبهم وأصبحت شغلهم الشاغل ينفقون ما لديهم من نقود في شراء بطاقاتها - يتراوح سعرها بين 10 و600 ريال بل إن بعضها تصل إلى 2000 أو 3000 ريال للكرت الواحد - يقضون معظم أوقاتهم في متابعة تطوراتها والبحث عن جديدها في كل مكان، ولرواجها ولشدة الإقبال عليها أصبح لها أسواق خاصة وأماكن محدودة لبيعها وشرائها وتبادلها، حتى وصل الأمر لإقامة مباريات لهذه البطاقات يتنافس فيها عدد كبير من الطلاب لكسب المزيد منها، والأدهى من ذلك كله أن عددا ليس بالقليل من الآباء والأمهات أصبح مهتما بتطورات هذه اللعبة ولا يبخل على أبنائه بتقديم الدعم والمساندة، بل أصبحت هذه الكروت تستخدم للثواب والعقاب بعدما اقتنعوا(62/101)
أن هذه اللعبة لها مفعول عجيب في التأثير على أبنائهم، ولإيضاح بعض الحقائق عن هذه اللعبة وما تخفيه من أخطار جسيمة سواء كانت عقدية أو تربوية أو سلوكية تستهدف بشكل مباشر فئة معينة من أبنائنا أحببت أن أبين في هذا التقرير الموجز لمحة عن هذه اللعبة مع التركيز على مخاطرها العقدية المفجعة وأثارها التربوية السلبية محاولا بعون الله أن أضع أمام الغيورين والمهتمين بتربية طلابنا تربية عقدية سليمة بعض ما وصلت إليه من خلال متابعتي لهذه اللعبة بعد أن استفحل أمرها داخل مجتمعنا.
ما هي البوكي؟
نشأتها: لعبة البوكي أو ما يعرف بالبوكيمون قدمت من أقصى بلاد الشرق وتحديدا من اليابان وتعود هذه اللعبة إلى التسعينات عندما تخيل رجل ياباني اسمه (ساتوشي تاجيري) وهو من المهتمين بجمع أنواع الحشرات، تخيل هذا الرجل أن العالم سوف يغزوه عدد هائل من الحشرات والحيوانات الغريبة الأشكال قادمة من الفضاء ومن ثم يبدأ الإنسان بالتقاطها، وهذه الحشرات والوحوش قابلة للتطور والارتقاء نحو الأفضل وفي كل مرحلة يتغير شكلها، فمثلا الحيوان ذو الرأس الواحد قد يتطور ويصبح له ثلاثة رءوس، أو قد يخرج له أيد وأرجل في مرحلة ما، هذه الفكرة راقت لشركة يابانية عملاقة تدعى (ننتندو) حيث تبنت الفكرة فطورتها وجندت لها إمكانيات هائلة، واستقطبت عددا كبيرا من المصممين والرسامين للقيام برسم نماذج لهذه اللعبة، وفرضت رقابة مشددة على عملهم حيث إنها منعت الصحفيين من(62/102)
الدخول إلى الأماكن التي تصمم بها هذه الرسومات (كما حصل ذلك مع إحدى محطات التلفزيون الأمريكية التي أرادت إجراء تقرير عن تصميم هذه الرسومات) . وما لبثت هذه اللعبة حتى انتشرت انتشار النار في الهشيم في معظم أرجاء العالم وحققت الشركة المنتجة أرباحا خيالية بلغت مليارات الدولارات، وأنشئت لها مقرات في كثير من عواصم العالم وأصبح لها مطبوعات ودوريات وأشرطة فيديو وتبنت بث برامجها محطات تلفزيونية عديدة واستحدث لها مواقع عديدة على شبكة المعلومات (الإنترنت) .
طريقة لعب البوكيمون: لقد وضع منتجو البوكيمون قواعد وضوابط محددة لممارسة هذه اللعبة مراعين في ذلك منهج الاستمرارية بحيث يبقى اللاعب يبحث عن الجديد لاهثا بلا نهاية، وهي تأخذ عدة أشكال منها المعقد والتي يستخدم فيها الزهر والأوسمة ولها طاولة معينة وهي تحتاج إلى وقت طويل لتعلم مهاراتها، ومنها ما هو المبسط والتي تتلخص باستحواذ الكرت القوي على الكرت الأقل قوة وما يميز الكرت القوي أنه يحتوي على رموز وإشارات وأرقام معينة ترفع من قيمته.
المحاذير الشرعية في هذه اللعبة:
1 - القمار والميسر: حيث إنها تشتمل على القمار المحرم إذ يتنافس اثنان بعدد من الكروت المختلفة الأثمان لكل كرت منها قيمة متعارف عليها، ويكون أحدهما يملك كرتا قويا يكسب به كروت الشخص الآخر الأقل قوة فإذا لم يرد الطرف الخاسر أن يفقد الكرت فإنه يدفع بدلا عن قيمته وقد يزيد في السعر حسبما(62/103)
يحدده الكاسب، وهذه إحدى صور المقامرة في الجاهلية حيث كان الرجل يقامر غيره على ماله وأهله فأيهما كسب أخذ مال الآخر وحتى أهله بسبب هذه المقامرة وهذا مذكور عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وهذه المقامرة هي ما يقع من الطلاب في مدارسنا من خلال هذه اللعبة حيث يقامر الطالب بكروته ذات القيمة المالية، والكاسب يأخذ كروت صاحب ذات القيمة المالية وإذا أراد الخاسر أن يبقي على كروته وجب عليه أن يدفع مقابلها قيمة مالية ليبقي عليها.
2 - تبنيها لنظرية التطور والارتقاء: لعل أهم ما يجعل المرء يستنكر هذه اللعبة هو أنها تتبنى نظرية النشوء والارتقاء التي نادى بها (داروين) والتي تقوم على تطور المخلوقات والتي ترجع أصل الإنسان إلى سلسلة من الكائنات الحية المتطورة التي كان من آخرها القرد. والعجيب أن كلمة تطور أصبحت كثيرة التردد على ألسنة الأطفال حيث إنك تسمع من الطلاب أن هذا الحيوان الموجود في الكرت قد تطور وأصبح بشكل مختلف ويتابعون تطوره بشغف شديد.
3 - اشتمالها على رموز وشعارات لديانات ومنظمات منحرفة.
إن المتأمل لبعض هذه البطاقات يصدم ويتفطر قلبه مما يراه ويجده من رموز وشعارات وصور جزئية مشوهة ذات مدلولات خطيرة جدا تثبت أن هذه اللعبة لم تنشأ بهدف التسلية والترفيه كما
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(62/104)
يزعم منتجوها ومروجوها، بل إن وراءها أيد خفية ومنظمة تعمل بدقة لنشر أفكارها المنحرفة عبر الكثير من هذه الرموز والشعارات - الموجودة في هذه اللعبة - والتي تستخدمها أكثر الحركات الهدامة في العالم حيث تترك هذه الرمزية مساحة واسعة للمناورة على من يريدون تضليله، حيث يفسرون له الأمور وفق ما يهوى وما يحب لجعلها عالقة في الأذهان وليتعلق بها من يستخدمها وهذا ما حدث فعلا لدى شريحة كبيرة من أبنائنا، ولعلي أورد هنا بعض المقتطفات عما تعطيه المنظمات المنحرفة من أهمية للرموز والرسومات والشعارات فهم يقولون (إن السر ينتقل عبر الكلمة والصورة والكتابة، والكتابة هي شعائر وهي لم تنشر إلا بصورة جزئية مشوهة) ومن هذه الرموز:
أ- النجمة السداسية: حيث قل أن تجد كرتا يخلو من هذه النجمة التي لا يخفى على الجميع ارتباطها بالصهيونية العالمية، كما أنها تمثل شعار دولة إسرائيل ورمزها المقدس، كما أنها الرمز الأول للمنظمات الماسونية في العالم.
ب- الصليب: يوجد في هذه اللعبة العديد من الصلبان المختلفة الأشكال وهو الشعار المقدس لدى النصارى.
ج- المثلثات والزوايا: وهي رموز لها مدلولات هامة عند الكثير من المنظمات المنحرفة كالماسونية.
د- رموز من المعتقد الشنتوي. الشنتوية عقيدة سكان اليابان والتي تقوم على تعدد الآلهة فالشمس والأرض والكثير من الحيوانات والنباتات مقدسة لديهم وهي تأخذ صفة الآلهة، وقد(62/105)
احتوت اللعبة على الكثير من هذه الصور) انتهى.
وقد سأل السائلون عن: حكم تلك اللعبة التي تسمى: البوكيمون.
وحيث إن هذه اللعبة تشتمل على عدد من المحاذير الشرعية التي منها: الشرك بالله باعتقاد تعدد الآلهة، ومنها: الميسر الذي حرمه الله بنص القرآن وجعله قرينا للخمر والأنصاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) ومنها: ترويج شعارات الكفر والدعاية لها وترويج الصور المحرمة، وأكل المال بالباطل.
لهذه المحاذير وغيرها فإن اللجنة الدائمة ترى تحريم هذه اللعبة وتحريم الأموال الحاصلة بسبب اللعب بها لأنها ميسر وهو القمار المحرم، وتحريم بيعها وشرائها، لأن ذلك وسيلة موصلة إلى ما حرم الله ورسوله. وتوصي اللجنة جميع المسلمين بالحذر منها ومنع أولادهم من تعاطيها واللعب بها محافظة على دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... صالح بن فوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(62/106)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عن حكم الجوائز المرتبة على
المسابقات في الألعاب وغيرها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وبعد:
فبناء على كثرة ورود الأسئلة إلى هذه الرئاسة عن حكم الجوائز المرتبة على المسابقات في الألعاب ونحوها ومنها السؤال التالي ونصه:
أقدم لسماحتكم هذا المعروض وذلك لما شاهدته في أحد المواقع الترفيهية وتحديدا في الثمامة حيث يوجد هناك محلات يوجد بها ألعاب بمختلف الأسعار أي ما بين 5 ريالات إلى ما يقارب 200 ريال وقد قام أصحاب هذه المحلات بوضع رسم قيمته 10 ريالات حيث يقوم المشترك برمي كرة لعدة مرات في شبكة وضعت على الحائط وإذا دخلت الكرة في هذه الشبكة لثلاث مرات تأخذ ما قيمته 200 ريال، إذا دخلت مرتين تأخذ ما قيمته 70 ريالا مثلا، وإذا لم تدخل الكرة أو دخلت لمرة واحدة فلا تأخذ شيئا (هذا ملخص) .
أما أنواع هذه الألعاب فهي كالتالي.(62/107)
1 - رمي الكرة في فتحات على الحائط.
2 - رمي الكرة في شبكة على الحائط.
3 - إطلاق رصاص من بندقية وإصابة الهدف.
4 - محاولة المرور من الزنبرك بحديدة دون الملامسة.
5 - اختيار أرقام مدن وممثلين ولاعبين والبحث عن أسمائهم في صناديق مغلقة عن طريق التخمين
6 - رمي كرة صغيرة على صندوق يوجد به أرقام وكل رقم يحمل اسم هدية علما أن بعض الأرقام تحمل اسم (شارع) وكلها تعمل بنفس الطريقة الأولى.
لذا فأملنا في الله ثم في سماحتكم كبير بأن يصدر في ذلك فتوى لتبصير الناس بهذا العمل إن كان حلالا أم حراما وذلك لتعم الفائدة الجميع.
فقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بأن هذه الجوائز المرتبة على هذه الألعاب وعلى مثلها من المسابقات التجارية والإعلامية على اختلافها لا يجوز بذلها ولا أخذها لأنها من الميسر الذي حرمه الله ورسوله وهي من أكل أموال الناس بالباطل، قال صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر (1) » فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أخذ السبق في هذه الثلاث. لأنها من وسائل الجهاد في سبيل الله، ولما حصر النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجوائز عليها دل على أنه لا يجوز أخذها على غيرها من المسابقات، ولأن الأصل في أموال الناس
__________
(1) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2878) ، مسند أحمد بن حنبل (2/474) .(62/108)
تحريم أخذها بغير حق شرعي. وقد صدر مقال من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بتاريخ 15 \ 7 \ 1402 هـ جاء فيه ما نصه:
(قد لوحظ قيام بعض المؤسسات والمحلات التجارية بنشر إعلانات في الصحف وغيرها عن تقديم جوائز لمن يشتري من بضائعهم المعروضة مما يغري الناس بالشراء من هذا المحل دون غيره، أو يشتري سلعا ليس له فيها حاجة طمعا في الحصول على إحدى هذه الجوائز، وحيث إن هذا نوع من القمار المحرم شرعا والمؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولما فيه من الإغراء والتسبب في ترويج سلعته وإكساد سلع الآخرين المماثلة ممن لم يقامر مثل مقامرته، لذلك أحببت تنبيه القراء على أن هذا العمل محرم والجائزة التي تحصل من طريقه محرمة، لكونها من الميسر المحرم شرعا وهو القمار) .
وصدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم (18172) وتاريخ 15 \ 10 \ 1411هـ بتحريم المسابقات التي تنشرها بعض الصحف بغرض ترويجها والدعاية لها، وفتوى رقم (20656) وتاريخ 6 \ 11 \ 1419 هـ بتحريم الجوائز التي توضع داخل المعلبات والبضائع لجلب الزبائن لشراء تلك المعلبات والسلع وصرفهم عن شراء بضائع الآخرين ممن لم يعمل عملهم وأن هذا لا يجوز شرعا بل هو من الميسر الذي حرمه الله، لما فيه من الغرر والجهالة، وصدر قرار من هيئة كبار(62/109)
العلماء برقم (162) وتاريخ 26 \ 2 \ 1410 هـ في حكم المسابقات التي تقيمها بعض الشركات وتعلن عنها في وسائل الإعلام لطلب الحصول على الأموال الكثيرة دون مقابل اعتمادا على التغرير والخداع لعامة الناس.
وقد رأى المجلس أن هذا من أكل أموال الناس بالباطل لأن كل مشترك يدفع مبلغا من المال مخاطرة وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا، وهذا هو القمار، وأن جميع هذه المسابقات التي من هذا النوع من الميسر وهو محرم شرعا.
فعلى المسلمين الذين يدفعون قليلا من المال للحصول على أكثر منه، وعلى هؤلاء الذين يلجأون إلى هذه الحيل المحرمة لترويج سلعهم وصحفهم وغيرها عليهم التوبة إلى الله والتزام الطريق المشروع للكسب وطلب الرزق.
وفق الله الجميع لمعرفة الحق والعمل به إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... صالح بن فوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ(62/110)
من الفتوى رقم 11257
السؤال الأول: سمعنا خلافا في شحوم الإبل وأحشائها ومصرانها ففيه من يقول: إنها تلحق بلحومها ولا دليل على الاستثناء، وفيه من يقول: إن الحديث ينص على اللحوم دون غيرها ولا وضوء عن الشحوم والأحشاء. فما هو الصحيح في ذلك، وهل ولد الناقة إذا ولد وذبح قبل أن يرضع اللبن هل يلحق باللحوم أم بالأحشاء والمصارين؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا ينتقض الوضوء إلا باللحم حسب ما جاء في الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «توضئوا من لحوم الإبل (1) » ويلحق بذلك الولد الصغير من الإبل وإن لم يشرب اللبن لعموم الحديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (497) .(62/111)
من الفتوى رقم 10676
السؤال الأول: ما حكم الوضوء من ألبان الإبل؟ وقد وردت أحاديث في مسند الإمام أحمد ومسند ابن ماجه حول الوضوء منه - الفتح الرباني الجزء الثاني ص 94 - 95.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا ينتقض الوضوء بشرب ألبان الإبل على الصحيح من قول العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(62/112)
من الفتوى رقم 9584
السؤال الثالث: هل يكون لحم البقر من ضمن لحم الجزور أو لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(62/112)
ليس حكم لحم البقر مثل حكم لحم الجزور من جهة نقض الوضوء بأكله بل هذا الحكم خاص بلحم الإبل دون غيرها من الحيوانات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(62/113)
فتوى رقم 4279
س: أنا بعد التبول - أعزكم الله - وتمام الاستنجاء من البول أشعر بعد فترة قصيرة بنزول بعض قطرات البول، وما كنت أفعله هو أنني أغير ملابسي الداخلية بملابس أخرى مع ما في ذلك من العناء. أفعل ذلك كل مرة أتبول فيها. وما أريده أن تتكرموا وترشدوني إلى ما يجب فعله؟ ولكم من الله الثواب.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد.
إذا كان الواقع كما ذكرت فإن كنت تعرف أن القطرات التي تخرج بعد التبول بزمن قليل تنقطع بعده، فيجب عليك ألا تستنجي أو تستجمر حتى تنقطع. أما إن كان الفصل طويلا(62/113)
فالواجب عليك إعادة الاستنجاء والوضوء وغسل ما أصاب الملابس من ذلك، وينبغي لك ألا تعمل بالشك، لأن الشيطان قد يخيل لك أنه نزل شيء من البول. والواقع ليس كذلك، فلا تعد الاستنجاء إلا بعد التيقن من نزول شيء من البول ويشرع لك رش ما حول الفرج بالماء بعد الفراغ من الوضوء حتى تحمل الشك على ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(62/114)
من الفتوى رقم 4900
السؤال الثالث: أشعر أنا غالبا بعد الوضوء أو في أثناء الصلاة بخروج قطرة من ذكري فلا أدري هل هو بول أو شيء آخر وهل الصلاة والوضوء باطلة وإذا شعرت بذلك فهل أخرج وأعيد الصلاة أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد.
إذا كان الواقع ما ذكرت فلا تخرج من صلاتك من أجل(62/114)
ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى إليه بعض الناس أن الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » متفق على صحته، ولأن هذا من الشيطان يريد أن يفسد عليك صلاتك ووضوءك فلا تلتفت إليه حتى تعلم يقينا أنه خرج منك شيء كما دل عليه الحديث المذكور، وعليك أن تعيد الوضوء والصلاة إذا علمت أنه خرج منك شيء في الصلاة سواء كنت إماما أو منفردا أو مأموما.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (137) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن النسائي الطهارة (160) ، سنن أبو داود الطهارة (176) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (513) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) .(62/115)
من الفتوى رقم 6895
السؤال الثالث: إذا توضأت لصلاة المغرب مثلا وصليتها ثم جاءت صلاة العشاء وأريد أن أصلي العشاء بنفس الوضوء ولكن لا أدري عما إذا كنت قد نقضت الوضوء أم لا ماذا يجب علي فعله؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(62/115)
إذا شكيت في الحدث بعد الطهارة فاطرح الشك وابن على الطهارة فإن اليقين لا يزول بالشك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(62/116)
من الفتوى رقم 7789
السؤال الثاني: إنني إذا ذهبت لأتوضأ وبعد انتهائي من الوضوء أحس بأنه قد خرج مني شيء مثل بول الشراب الماء - أعزكم الله - ولكنني أعود مرة أخرى فأتطهر - أستنجي - وبعد ذلك أذهب لأداء الصلاة في المسجد أو في البيت وعندما أشرع في الصلاة أحس بذلك الشيء فأشك في عدم صحة صلاتي هل يجب علي أن أعيد الصلاة إذا حسيت بذلك؟ أم هل علي كفارة في ذلك؟ أفيدونا أثابكم الله.
ج. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله(62/116)
وصحبه، وبعد:
إذا توضأت فالأصل الطهارة وهذا الأصل متيقن ولا تلتفت إلى ما يعارض ذلك من شك أو توهم بأنه خرج منك ما ينقض وضوءك؛ لأن ذلك من الشيطان لكن لو تيقنت أنه خرج منك شيء ينقض الوضوء فإنك تتوضأ ولا فرق في ذلك بين الذي يكون قبل الصلاة أو في أثناء الصلاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(62/117)
من الفتوى رقم 7632
السؤال الثاني عشر: إذا قام الإنسان من النوم وتطهر وصلى ثم عاد إلى فراشه لينام ووجد في فراشه ما يدعو للشك بأنه بال في فراشه فماذا يفعل وهو قد صلى بملابسه ولكنه مجرد شك؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الأصل الطهارة ولا عبرة بالشك الطارئ.(62/117)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(62/118)
من الفتوى رقم 8885
السؤال الثاني: يصلي رجل فقام ذكره ولم يخرج شيء هل ينقض الوضوء؟ فإن كان ينقض وهو لم يتم صلاته هل يقطع صلاته أم يختم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا ينتقض الوضوء بالانتشار للذكر إذا لم يخرج منه شيء لأن الانتشار ليس من نواقض الوضوء، والصلاة صحيحة فيتمها، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ(62/118)
العمل وأحكامه
للدكتور: سليمان بن إبراهيم بن ثنيان
الافتتاحية:
الحمد لله المبدئ المعيد، القائم على كل نفس بما كسبت وهو الحميد المجيد، يحيي ويميت وإليه المصير، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويفعل ما يريد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعا إلى صراط ربه المستقيم، وجاهد في سبيله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه افتتاحية لبحث (العمل وأحكامه) أبين فيها بإيجاز الأمور الآتية:
أ- موضوع البحث.
ب- سبب بحث هذا الموضوع.
ج- منهجي في هذا البحث.
د- مخطط البحث.
أ- موضوع البحث:
لا يتصور أحد أن تقوم حياة من غير عمل، فمنذ خلق الله(62/119)
آدم وأنزله إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة وحياة الناس لا تقوم إلا على العمل، والعمل يختلف سعة وتنوعا من عصر إلى عصر حسب اختلاف أحوال الناس واحتياجاتهم وقدراتهم. وفي عصرنا الحاضر بلغ العمل شأنا لم يبلغه من قبل، من حيث سعة مجالاته، وتطور آلاته، واختلاف مقاصده وخدماته، وأصبحت الأمم تقاس بكفاءة عمالها ورقي أعمالها. وسأبحث العمل هنا بأنواعه المختلفة وحاجة المسلمين إليه بما يضمن الكفايات ويدفع الضرورات، واختلاف العامل المسلم في عمله عن العامل الكافر، في قدراته، وإنتاجه، وأهدافه. وكيف يضمن نمو العمل واستمراره بتوسعة مجالاته، وتطوير آلاته ومعداته، وعلاج معوقاته.
وأخيرا أبين أحكامه، ما كان منها واجبا وما كان منها مندوبا إليه، وما كان منها مباحا، وما كان منه مكروها، وما كان منه محرما. كما أبين دعوى ترخص العمال في شيء من الفرائض بسبب العمل، وحظ هذا القول من الصحة والبطلان.(62/120)
ب- سبب بحث هذا الموضوع:
يجهل كثير من المسلمين حقيقة العمل وأحكامه، وما يترتب على تركه من مفاسد لا حدود لها، وما يقوم على مزاولته من مصالح عظيمة عاجلة وآجلة، لذا تجنب كثير من المسلمين العمل وأخلدوا إلى الراحة والترف، واستعانوا على أعمالهم بعمالات مستوردة، أكثرها وأهمها من الكفار، على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، فأفسدوا حياة المسلمين. فأردت هنا أن أبين حقيقة العمل وأحكامه، وما يترتب على تركه من مفاسد وآثار(62/120)
وخيمة، وما ينتج عن عمل المسلمين من مصالح دينية ودنيوية عاجلة وآجلة، فكان هذا البحث.(62/121)
ج- منهج هذا البحث:
1 - سأقوم في هذا البحث بدراسة واسعة لواقع العمل والعمال في العالم عموما، وفي هذا العصر، وعند المسلمين على وجه الخصوص، لأستخلص أهم الحقائق في هذا الشأن. ولن أعتمد على ما كتبه الكتاب في ذلك من آراء ونظريات إلا في الحقائق المسلمة، وذلك أن كثيرا منهم ينظر في أفق ضيق، أو فكر شاطح، أو لفئة محدودة، أو ظروف معينة، لا يصح تعميمها واعتبارها عند غير المسلمين، فضلا عن المسلمين.
لذا سأنزل إلى ميدان العمل لأقف على مشاكله، ومعاناته بنفسي، لأتصور الداء، فأعرف الدواء، لتحسينه وتطويره، وضمان قدرته، واستمراره، ولرفع كفاءات وسائله الآلية والبشرية، وربط ذلك كله بضوابط الشرع، ووزنه بميزان الحق في العمل والعمال، بما يرد البأس والبغي والفساد عن المسلمين، ويبقي على عزتهم ورفعتهم فوق العالمين.
2 - لم أطلع على كتب فقهية تحدثت عن العمل بصفة شاملة متخصصة، وإنما أكثر من تحدث عنه هم أهل الاقتصاد والاجتماع، وبنظرة ضيقة في الغالب، وخاصة فيما يخص المسلمين، لذا فإنني لن أرجع إلى كتاب بعينه في أي مسألة وإنما أطلع على رأي هذا ورأي هذا، ثم أناقش الحصيلة العامة(62/121)
وأصقلها بالدراسة الناقدة، لأخرج بأسلمها في نظري. وكثيرا ما آخذ المسألة من الفقه العام، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقواعد الشرع العامة بعد تطبيقها على واقع العمل وأثره في الحياة، وأهداف الأمم في العمل والعمال، وما حققوه بذلك من نصر أو خذلان.
3 - أعتني بدراسة حقائق المسائل قبل إثباتها، وذلك بعرضها على الفكر المرتبط بحقيقة وواقع العمل والعمال. مع المناقشة الجادة لأهم المسائل، ليخرج هذا البحث أساسا ومرجعا علميا لمن يجزئه، ليطوره، ويبسط مسائله في المستقبل إن شاء الله.
4 - لا أثبت كثيرا من المراجع التي أطلع عليها ولا أحيل على واحد منها، حيث إنني لا أستفيد المسألة من أي كتاب على استقلال، وإنما أستفيد جزئياتها في الغالب من كتب ومقالات ووجهات نظر عدة، ومن فقهي الخاص في المسألة. ولا أثبت شيئا مما أثبته حتى أفحصه وأعرضه على إمكانية التطبيق، إن كان مما يطبق مثله، وهو الغالب.
5 - أذكر الأدلة أحيانا مفصلة، وأحيانا مجملة، حسب ما تقتضيه المسألة، وأحيانا لا أذكر الدليل، وذلك إذا كانت المسألة واضحة، والدليل ليس بنصي، وليس بواحد، وإنما أدلة متشعبة يحتاج ذكرها إلى زيادة صفحات هذا البحث، وهو خلاف منهجه.
6 - أسعى لاختصار هذا البحث قدر المستطاع، حيث إن موضوعه بحر لا ساحل له لمن يرضي القلم.(62/122)
7 - أوثق ما يلزم توثيقه وهو ما ليس من ثمرات دراستي وغالب المسائل هي من حصيلة دراستي لموضوع البحث وثمراته، وليس من كتاب معين كما أسلفت ذكره.
8 - أجعل النصوص، وما أنقله حرفيا بين قوسين صغيرين مزدوجين " " وأجعل له رقما آخر الكلام، وأهمش عليه بذكر اسم الكتاب، والجزء والصفحة. وإذا صغت معناه بعبارتي، أو كان لأحد أثر في بعض أجزاء المسألة وضعت رقما عند آخر الكلام وهمشت عليه بعبارة "ينظر" مع ذكر اسم الكتاب، والجزء، والصفحة.
9 - أبين مواضع الآيات التي ترد في البحث، فأذكر اسم السورة، ورقم الآية.
10 - أعزو الأحاديث إلى مصادرها، وأخرج ما يحتاج منها إلى تخريج، فإن ذكرها البخاري ومسلم، أو أحدهما أكتفي به في الغالب، وإن لم يذكرها أحدهما، فإنني أتتبع من ذكرها ما تيسر ذلك، وأذكر درجة الحديث إن أمكن.
11 - إذا تكرر ذكر الحديث أو غيره، فإنني أنبه على رقم الصفحة التي سبق ذكره فيها.
12 - أبين معاني الكلمات التي قد تحتاج إلى بيان من مراجعها الأصلية.
د- مخطط البحث:
يتكون هذا البحث في الجملة من افتتاحية، وتمهيد، وبابين، وخاتمة.(62/123)
التمهيد: أهمية العمل عند المسلمين:
تتباهى الأمم في إتقان عملها ورفعة كفاءة عمالها، وتبذل الجهود الواسعة. تلو الجهود لدفع مستوى القدرات العمالية لتصل بها إلى أعلى الدرجات في مقاييس التقنية والهندسة، طلبا للتميز في إنتاجها، وحسن السمعة والرفعة لها لدى الآخرين. وإذا كان الأمر كذلك لدى الأمم الكافرة، فالأمر عند المسلمين أهم وأخطر، حيث إن ثمرات العمل لديهم لا تقف عند حد مصالح المعاش والرفاه في الحياة الدنيا، بل تتعداه إلى طلب ثمرات الدار الآخرة ونعيمها. يؤكد هذا الأمر أنه قد لا يكون للمسلم الخيار في العمل وعدمه، حيث يتعين عليه العمل أحيانا لأسباب ثابتة أو طارئة يبينها ما يأتي:
أولا: أمة المسلمين أمة واحدة دون الناس، وعلى الأمة الواحدة أن تنتج ما يسد جميع احتياجاتها في سلمها وحربها.
ثانيا: تقاتل الشعوب الكافرة كافة المسلمين كافة قتالا لا ينفك أبد الآبدين إلا أن يخرج المسلمون من دينهم، حسدا على ما آتاهم الله من فضله، فعلى المسلمين أن يقاتلوهم كافة كما أمر الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (1) ، وكما يخبر سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 217(62/124)
وقتال المشركين كافة يحتاج إلى عدة وعتاد، ولن تكون عدة وعتاد إلا بعمل جاد.
ثالثا: يأكل المسلم ويشرب ويلبس بموجب ضوابط شرعية لا يجوز تخطيها، وبناء عليه فعلى المسلم أن يصنع طعامه وشرابه ولباسه بنفسه ليحتكم في مركباته وفقا لما يحل ويحرم.
رابعا: إذا لم يعمل المسلم فسيضطر إلى استعمال غيره ممن لا يصح استعمالهم، فيكون بهم ضياع الدين، والدنيا، والأمة.
خامسا: العمل لدى المسلمين ضرورة لتقوية الأبدان من أجل الدربة على التحمل والصبر، ومجابهة الأعداء وتحمل شدائد الدهر، وإقامة أمر الله على وجه الأرض.
وبهذا يتبين عظيم شأن العمل، وأهميته عند المسلمين.
وحياة المسلم وحده يمكن أن تكون كلها عمل، ولا يقع فيها فراغ قط، لأنه لا حدود للعمل في الإسلام، حيث يكون العمل بالأركان، ويكون باللسان، ويكون بالفكر والعقل والجنان، ويكون بالبنان، وقد يكون بالراحة التي يطلب بها المسلم التقوي على أمر الله. هذا هو الأصل في حياة المسلم وما ينبغي أن يكون عليه، وإن لم يكن الأمر كذلك في واقع الناس.
وقد اهتم علماء المسلمين فأفردوا أبوابا فقهية خاصة لبعض أبوابه وفصلوا القول فيها كالبيع، والإجارة، والسلم، والاستصناع، والزراعة وسائر المهن، إلا أن العمل في عصرنا(62/125)
الحاضر قد تطور تطورا عظيما، وتعقدت أموره، وكثرت إشكالاته، وأصبح له شأن عظيم في حياة الناس، فتعين إدخال باب العمل ضمن أبواب الفقه ليدرسه الناس، فيعرفوا حقيقته، ومما هو منه حلال وما هو حرام. وهذا ميدان واسع عظيم يحتاج إلى تضافر الجهود لوضع الضوابط الفقهية العامة، وتفصيل كثير من الجزئيات بما يضمن معرفة حلاله من حرامه، ورفع الهمة لدى المسلمين، في تحقيق العزة والكرامة بالاستغناء عن الآخرين. والله المستعان.(62/126)
الباب الأول: حقيقة العمل، وضمان كفايته واستمراره بقدرة عالية عند المسلمين:
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: دواعي العمل عند المسلمين.
الفصل الثاني: الموازنة في العمل بما يضمن جميع الكفايات.
الفصل الثالث: ضمان استمرار العمل ونحوه.
الفصل الرابع: رفع قدرات أدوات الإنتاج الآلية والبشرية.
الفصل الأول: دواعي العمل عند المسلمين:
ما هو العمل الذي نريد أن نتحدث عنه، وإذا كان العمل مشروعا في الإسلام، فما الحكمة من مشروعيته، وما الذي يترتب على مخالفة الشرع بتركه، وما الثمرة التي يرجوها المسلم من العمل؟ هذا ما أبينه في المباحث الخمسة الآتية:(62/126)
المبحث الأول: المراد بالعمل.
المبحث الثاني: مشروعية العمل.
المبحث الثالث: حكمة مشروعية العمل.
المبحث الرابع: مفاسد ترك العمل عند المسلمين.
المبحث الخامس: ثمرات عمل المسلم.
المبحث الأول: المراد بالعمل:
العمل في اللغة: عمل يعمل عملا، فهو عامل. فالعين، والميم، واللام أصل واحد صحيح عام في كل فعل يفعل. والعمالة: أجر ما عمل. والمعاملة: مصدر الفعل. والعملة: القوم يعملون بأيديهم ضروبا من العمل، حفرا، أو طيا، أو غيره (1) .
العمل في الاصطلاح: لم أطلع على تعريف مرض للعمل، فكل ما اطلعت عليه إما عام لا معنى له، أو خاص لا يؤدي الغرض (2) والعمل ميدان واسع متشعب متعدد الأغراض، يصعب حصره في تعريف جامع مانع. ولعل أحسن ما يقال فيه: "إنه كل ما يزاوله الإنسان من أنشطة صناعية، أو مهنية، أو زراعية، أو تجارية، أو غيرها بغية أي هدف".
ولا حدود لمعنى العمل، فقد يطلق العمل ويراد به ما
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (4 \ 145) .
(2) ينظر. (هموم العمل والعمال) لعزت بن عبد العظيم الطويل، ص (7) . ومجلة الأصالة العدد (91) ص (52) . .(62/127)
يزاوله الإنسان من أفعال يدوية صغيرة أو كبيرة، قال الله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (1) ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (2) .
وقد يطلق العمل ويراد به فعل الصالحات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3) ، وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (4) .
وقد يقيد بالعمل الصالح وهو أكثر ما ورد في القرآن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (5) . وقد يقيد بالعمل السيئ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) وبهذا يتبين أن العمل عام شامل لكل ما يفعله الإنسان ويأتيه بأي قصد أو غرض.
وإذا كان العمل على هذه الدرجة من الأهمية، والخطورة، والشمولية، فإنه لا يصح إهماله من الفقهاء بحال، بل يتعين عليهم دراسته ومعرفة أسراره، وخيره، وشره، ووضع الحلول لمشكلاته الخاصة وفقا لما يحل وما يحرم، وما ينبغي فعله، وما ينبغي
__________
(1) سورة سبأ الآية 13
(2) سورة الصافات الآية 96
(3) سورة التوبة الآية 105
(4) سورة سبأ الآية 13
(5) سورة الرعد الآية 29
(6) سورة الأعراف الآية 153(62/128)
تركه، وما يجب تقديمه، وما لا يضر تأخيره، إلى غير ذلك.
ولا يقول أحد إن العمل لا يدخل في الأبواب الفقهية، فلا ريب أنه من أهمها وأعظمها شأنا حيث إنه باب واسع، يلجه كل الناس، وعلى الفقهاء أن يطلعوا على ما يأتيه الإنسان لبيان حكمه الشرعي، مهما كان الأمر تافها، فكيف بهذا الباب العظيم، وقد تكفل الشرع الحكيم بالبيان والتفصيل لكل شيء في حياة الناس. وأقف في هذا البحث عند العمل بمعناه الخاص، وهو ما يتعلق بالعمل الإنتاجي، سواء كان ماديا أو فكريا، مما لم يتكلم عنه الفقهاء في باب فقهي مستقل.(62/129)
المبحث الثاني: مشروعية العمل:
دل الكتاب، والسنة، والإجماع على مشروعية العمل.
أولا: من الكتاب:
1 - قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (1) .
وجه الاستدلال من الآية: أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بإعداد أقصى ما يستطيعونه من القوة؛ لإرهاب الكفار والمشركين، أعداء الله وأعداء المسلمين، وإرعاب المتربصين من المنافقين،
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(62/129)
ورغب سبحانه في الإنفاق في سبيله ببيان أن كل نفقة في ذلك مخلوفة لا تضيع (1) .
وإعداد القوة، والنفقة في سبيله تحتاج إلى عمل، فلا قوة ولا مال من غير عمل في ميادين الحياة.
2 - قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وجه الاستدلال من الآية: أباح الله لنا الابتغاء من فضله، ولا يكون ذلك إلا بالعمل على اختلاف أنواعه.
3 - قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (3) .
وجه الاستدلال من الآية: علم الله تعالى نبيه داود عليه السلام صناعة الدروع التي يتقي بها الإنسان بأس عدوه حين القتال. وإذا شرع الله تعالى ذلك لنبيه، وامتن به على عباده فقد شرع لعباده صناعة كل ما يلزمهم لاتقاء شر أعدائهم.
4 - قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (4) .
__________
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2 \ 321) . .
(2) سورة الجمعة الآية 10
(3) سورة الأنبياء الآية 80
(4) سورة سبأ الآية 13(62/130)
وجه الاستدلال من الآية: دل امتنان الله تعالى على سليمان بتسخير الجن له ليعملوا له ما يشاء من الأعمال المعمارية والصناعية على مشروعية هذه الأعمال ونحوها للعباد (1) .
5 - قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) .
وجه الاستدلال من الآية: في هذه الآية الأمر بالعمل مطلقا، فهي شاملة للأعمال الصالحة الخالصة من العبادات، كالصلاة والصيام وغيرها، كما تشمل الأعمال التي لا تقوم بعض العبادات إلا بها، كالصناعات اللازمة للجهاد في سبيل الله، وكسائر الأعمال المباحة التي تدر المال الذي ينفق منه في عموم سبيل الله.
بهذا القدر من الآيات نكتفي عن ذكر آيات كثيرة أخرى، كلها تدل على مشروعية العمل في الإسلام.
ثانيا: من السنة:
وردت أحاديث كثيرة وآثار تحث على العمل، وتبشر العاملين بخير، وتحذر من ترك العمل، وتذم العاطلين. فمن هذه الأحاديث:
1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
__________
(1) انظر: تفسير الآية والمعاني الواردة فيها في تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3 \ 528) .
(2) سورة التوبة الآية 105(62/131)
«سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطيب الكسب، فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (1) » . .
وجه الاستدلال من الحديث: يدل هذا الحديث على مشروعية العمل، حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم عمل الرجل بيده، وهو أصل العمل أطيب الكسب الذي يرضي الله تعالى.
2 - حديث المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: «أن داود كان لا يأكل إلا من عمل يده (2) » . .
وجه الاستدلال من الحديث: يثني النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باليد، ويبين أن الطعام الناتج عن عمل اليد هو خير طعام على الإطلاق. وأن داود نبي الله عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده. وهذا حث عظيم على العمل.
__________
(1) أخرجه الذهبي في السير موصولا عن ابن عمر (18 \ 376) وللحديث شواهد كثيرة جدا توثقه، منها. حديث رافع بن خديج عند أحمد (4 \ 141) والطبراني في الكبير (4411) وحديث البراء بن عازب عند البزار، وحديث أبي هريرة عند أحمد (2 \ 334) وغيره كثير بمعان متقاربة وألفاظ مختلفة
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب البيوع) باب كسب الرجل وعمله بيده (3 \ 9)(62/132)
3 - حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه (1) » . .
وجه الاستدلال من الحديث: يحث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل، على أي عمل حتى ولو جلب حزمة من الحطب يستغني بها عن الناس، ولا شك أن العمل فيما فوق ذلك أولى وأفضل كما يفهم من الحديث.
4 - حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (2) » . .
وجه الاستدلال من الحديث: بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالقوة في الآية الرمي، وهذا البيان ليس من باب الحصر وإنما هو من باب ذكر الأخص الأعلى. ومعلوم أن القدرة على الرمي بما يعلي كلمة الله تختلف باختلاف قوة العدو. ولا قوة إلا بعمل صناعي واسع النطاق، حسب الحاجة
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة) باب (50) الاستعفاف عن المسألة (2 \ 129)
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة) باب (52) فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه (3 \ 1522)(62/133)
لدحر العدو وإذلاله، وحفظ ديار المسلمين وإعلاء كلمتهم. وهو عمل مستمر لا يتوقف أبدا، لضمان القدرة القتالية المستمرة، وإعداد الجيل بعد الجيل، ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الإعداد المستمر، كما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى (1) » . .
5 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز (2) »
وجه الاستدلال من الحديث: في هذا الحديث حث عظيم على قوة المؤمن في كل شيء، فالقوة في الحديث مطلقة فتشمل قوة الإيمان، والعمل الصالح على اختلافه، وقوة البدن وقوة المال، وسائر القوى. فهذا المؤمن القوي ينتج عنه خير كثير في كل الميادين، والمؤمن الضعيف لا ينتج عنه شيء إلا الضعف والقلة، ولا تقوم به دنيا ولا دين. وفيما يقص الله تعالى علينا أن بنت شعيب عليه السلام رغبت أباها في موسى عليه السلام
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة) باب (52) فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه (3 \ 1522)
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب القدر) باب (81) في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير له (4 \ 2052) والإمام أحمد في مسنده 2 \ 366، وابن ماجة 11 \ 30، وغيرهم.(62/134)
بقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (1) ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وخير الصدقة عن ظهر غنى (2) » . . فالحديث دعوة وحث على العمل على اختلاف أنواعه وأهدافه، فلا قوة إلا بعمل.
هذا طرف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية إلى العمل، وطلب الرزق، والاستغناء عن الناس. وقد ثبت أن جميع الأنبياء كان لهم حرف.
أما من الآثار فهناك آثار كثيرة جدا تحض على العمل، وممارسة الحياة، وتنهى عن الكسل والاعتماد على الآخرين، نذكر طرفا يسيرا منها:
1 - روى معاوية بن قرة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي ناسا من أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله" (3) .
2 - حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم، وكان يكون لهم
__________
(1) سورة القصص الآية 26
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري (3 \ 294)
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1 \ 106 \ 2) ، ونقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (414) .(62/135)
أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم" (1) .
ففي الأثر الأول ينكر عمر رضي الله عنه ترك العمل، ويأمر بفعل الأسباب. وفي الأثر الثاني تخبر عائشة رضي الله عنها أن الصحابة رضي الله عنهم يرون العمل، ويعملون بأنفسهم، وليست الأعمال السهلة وإنما تلك التي تعرق لها الأبدان، فتثور منها الرائحة لقوة العمل.
3 - ومن آثار السلف الكثيرة الداعية إلى العمل نكتفي بأثر الإمام أحمد وابن عيينة حول وجوب العمل، قال الخلال: أخبرني محمد بن علي حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل أنه سأله أباه رحمه الله عن التوكل، فقال: "التوكل حسن، ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني نفسه وعياله، ولا يترك العمل" قال: وسئل أبي رحمه الله وأنا أشاهد عن قوم لا يعملون، ويقولون: نحن متوكلون. فقال: "هؤلاء مبتدعة" وروى أبو بكر المروزي قال لأبي عبد الله رحمه الله: إن ابن عيينة كان يقول: "هم مبتدعة" فقال أبو عبد الله - أحمد بن حنبل -: "هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا".
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب البيوع) باب (15) كسب الرجل وعمله بيده (3 \ 8) .(62/136)
ثالثا: الإجماع:
مما سبق من الآيات، والأحاديث التي تدعو إلى العمل، وما ثبت من عمل جميع الأنبياء، والخلفاء الراشدين، والصحابة، والسلف الصالح، يتبين لنا الإجماع على مشروعية العمل.(62/137)
المبحث الثالث: حكمة مشروعية العمل:
لمشروعية العمل عند المسلمين حكم لا يتطاول أحد من الناس لحصرها، نذكر طرفا يسيرا منها:
1 - إقامة دين الله على وجه الأرض: أمر الله تعالى عباده أن يكونوا قوامين له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} (1) . والقوامة لله هي إقامة دينه، وإقامة الدين تحتاج إلى قوة، والقوة لا تكون إلا بعمل وسعي حثيث ينتجها في شتى ميادين الحياة.
2 - عزة المسلمين: لا عزة للمسلمين إلا بقوة، ولا قوة إلا بالعمل. فإذا وجد المؤمن القوي، والصانع الماهر، والزارع البارع، والمحترف الحاذق، والتاجر الذكي الفطن، قام أمر المسلمين بجد وصلاح، وقامت صناعتهم المنتجة لكل آلة وكساء وسلاح، وقامت زراعتهم المنتجة لكل طعام وشراب، وسد المحترفون حاجات الناس في دقائق الصنائع، وسوق التجار المنتجات بفطنة وأمانة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 8(62/137)
وبذلك لا تهون الأمة ولا تذل ولا تخضع: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (1) ، فالعمل عزة، وقوام حياة.
3 - دفع المفاسد عن المسلمين: إذا لم يعمل المسلم لنفسه، فسيعمل له الكافر، وإذا عمل له الكافر، فسيطلع على أسراره، ويعرف مدخراته ومخزوناته، ويسبر قدراته، وهو العدو.
فكيف بك إذا دخل عدوك دارك، وهتك أستارك، وباح بأسرارك. وهل تأمن عدوك على مالك؟ {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (2) .
4 - دفع مفاسد الفراغ: ما حل الفراغ بأمة إلا حل بها الفساد واله وان والضعف، وأقعدها عن كثير من الواجبات. ذلك أن الفراغ مفتاح لكل سوء، فالإنسان إذا فرغ انصرف إلى اللهو، والشهوات والملذات، وغاب عنه كل خير. وقليل من الناس من يستغل الفراغ فيما ينفع: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} (3) {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (4) ومشروعية العمل دفع لهذا الفساد، وسد لبابه.
5 - عمارة الأرض: من حكمة الله تعالى في مشروعية العمل للمسلمين، عمارة الأرض، التي هيأ الله تعالى عمارتها، بما أودع فيها من أسباب العمار: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (5)
__________
(1) سورة محمد الآية 35
(2) سورة النساء الآية 101
(3) سورة الشرح الآية 7
(4) سورة الشرح الآية 8
(5) سورة هود الآية 61(62/138)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} (1) . وعمارة الأرض وفق ما أمر الله تعالى لا يكون إلا من المسلمين الصادقين، فغيرهم يفسدون فيها ولا يصلحون: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (3) {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (4) . فشرع الله تعالى العمل لعمارة الأرض وفق ما أمر.
__________
(1) سورة الحج الآية 65
(2) سورة البقرة الآية 205
(3) سورة الشعراء الآية 151
(4) سورة الشعراء الآية 152(62/139)
المبحث الرابع: مفاسد ترك العمل عند المسلمين:
يؤدي ترك العمل عند المسلمين إلى مفاسد لا حدود لها، في دينهم ودنياهم، من هذه المفاسد:
1 - اختلال الدين والعقيدة: عندما يترك المسلمون العمل فسيضطرون إلى استعمال فئات مختلفة، من أجناس متعددة، ذات ملل وأديان شتى، لتعمل لديهم. وقد ثبت أن كثيرا من أولئك القادمين هم جنود مجندة من قبل منظمات وهيئات ودول تكن العداء لله للمسلمين، ليعملوا على إفساد دين الإسلام، وليتجسسوا على أهله، ليعرفوا أسرارهم ومواطن القوة والضعف فيهم، وذلك طبق خطط وطرق محكمة تصنعها لهم تلك الهيئات والمنظمات الموجهة لهم.(62/139)
وإن من أنصع الأمثلة والأدلة على ذلك ما تفعله كثير من الخادمات غير المسلمات من أفعال شنيعة منكرة في بيوت من يخدمونهم ويربون أطفالهم، حوادث فظيعة تهز الجبال، تطالعنا ليل نهار، وما لا يعلم أعظم وأشنع. ومن أمثلة ذلك كذلك ما يروج له وينشره بعض المتمكنين من العاملين التابعين لهذه المنظمات، من دعوة إلى التحلل والفجور، بل وإلى إظهار دينهم والدعوة إليه. وإن مما يراه الجميع ما يرسمه أولئك العمال الكفار من رسوم صليبية وإلحادية على ما ينتجونه للمسلمين من أعمال، كالسجاد، والأثاث، والمباني. وهذا خلل في الدين ينتج عن ترك العمل عند المسلمين.
2 - هيمنة أعداء المسلمين: إذا لم يعمل المسلمون ويملكوا الآلات والمعدات على اختلاف أنواعها اللازمة لميادين الحياة كافة، فسيطلبونها من أعدائهم، وأعداؤهم لن يوافقوا على إمدادهم بكل ما يطلبون، وما يوافقون عليه سيكون بشروط مذلة مخزية. فلن يسمح العدو إلا بآلات دون آلات. فمثلا الآلات الضخمة المتطورة التي تنتج الآلات لن يسمحوا بها بحال، ولن يبوحوا بسر تصنيعها، لكي يبقى المسلمون في حاجة مستمرة لهم، وليضمنوا استمرارية استهلاك ما تنتجه مصانعهم من آلات ومعدات، ولكي تتم الهيمنة على المسلمين فيما ينتجون ويستهلكون. وإن مما يشاهده الناس اليوم ويعرفه الجميع أن الكفار يحجبون عن المسلمين سر أي تصنيع غير استهلاكي، فضلا عن إمدادهم به، أو بما يلزم له، فلا يأذنون للمسلمين إلا بآلات(62/140)
استهلاكية تروج مصانعهم وتجارتهم، أو بما يصون تلك الآلات، لكي تستمر عملية الاستغلال والاحتكار والهيمنة. ولا ذنب للكفار في ذلك، وإنما الذنب على المسلمين الذين تركوا العمل، وأخلدوا إلى أعدائهم.
3 - شيوع الجريمة في المسلمين: للجريمة أسباب متعددة، منها الفراغ، ومنها الحاجة، ومنها حب الانتقام، ومنها غير ذلك، وإذا لم يعمل المسلمون فسيتيه شبابهم في فراغ قاتل يتولد عنه التفكير في كل جريمة، وخاصة إذا احتاج الشباب في عصر هيمنة الإعلام العالمي الداعي إلى كل جريمة وفجور، والقاضي على كل فضيلة. هذا من جانب المسلمين. أما من جانب العمالة الكافرة على اختلاف اعتقاداتها، ومذاهبها، فإنها تحمل معها كل وسائل ومغريات الجريمة، من السرقات، والسحر، والزنا، واللواط، وغيره، مما اعتادوه في بلادهم. وبدافع من حب الانتقام ممن قد يوغر صدورهم من المسلمين، أو بدافع من الطمع في المال، أو غيره، يرتكبون في حقه أبشع الجرائم. وهذه من مفاسد ترك العمل العظيمة.
4 - ضعف اقتصاد المسلمين: يصيب اقتصاد المسلمين الضعف الشديد بترك المسلمين العمل من جانبين:
الجانب الأول: تعطيل إنتاجية الفرد المسلم: وذلك أن الفرد المسلم يحتاج إلى نفقات معيشية، وصحية، واجتماعية، وغيرها، وهو لا ينتج ما يقابل ذلك، فيكون الفرد عالة وحملا ثقيلا على اقتصاد الأمة.(62/141)
الجانب الثاني: استنزاف العملة الحية خارج بلاد المسلمين: وذلك بما تكسبه العمالة الكافرة من أموال طائلة ضخمة بشتى أنواع العمل، وإخراج هذه الأموال من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار. وهذا توهين لاقتصاد المسلمين. هذا من حيث العموم، أما من حيث الخصوص فإن القدرة الإنتاجية للعامل المسلم لا تقاس بالقدرة الإنتاجية للعامل الكافر، لعدة أسباب وعوامل مؤثرة هي في الأصل كذلك، وإن لم تكن في الواقع كذلك. ولا نحتج بالواقع على الأصل.
5 - ضعف الأبدان، وانحطاط المعنويات: يحتاج البدن إلى ما يقويه وينميه، وأحسن ما يكون ذلك بالعمل، حيث إن العمل يضطر الإنسان في الغالب إلى تقوية عموم بدنه، شاء أم أبى، وفي كل الظروف، بينما حصول ذلك بغير العمل لا يتحقق إلا في أحوال نادرة لا وزن لها، ولفئات في المجتمع محدودة لا أثر لها لأن تقوية الأبدان بغير العمل يخضع لظروف معينة لا تحصل إلا في النادر، كالاختيار، والنشاط، والرغبة، والإمكانيات، ولذا لا تحصل بغير العمل إلا لأناس هم من الندرة بمكان، نسبة لمن تحصل لهم بالعمل، وتقوية أبدان المسلمين غاية في الأهمية، حيث يصح به المسلم، وينشط عقله وفكره، ويكون قادرا على تحمل أعباء الحياة على اختلاف تقلباتها، وقادرا على رد كيد الكائدين عن أمة المسلمين. فبترك المسلمين العمل تنحط قواهم، وتتعطل عقولهم، وتتبلد أفكارهم، وتتسلط عليهم أعداؤهم، وتحل بهم ألوان الأمراض والآفات.(62/142)
كما تنهار المعنويات وتحل بهم الهموم والغموم، ويحس أحدهم بمرارة التفاهة، والبعد عن التأثير في الحياة، ويستقر في نفسه الذل والهوان، بما يراه من انتصارات الكفار، واستسلام وخنوع أهل الإسلام.(62/143)
المبحث الخامس: ثمرات عمل المسلم:
لعمل المسلم ثمرات لا تقارن بثمرات عمل الكافر، وذلك لمضاعفة أجور المسلم عند الاحتساب. حيث إن عمل المسلم على قسمين: عمل عبادة محضة. وعمل عادة وعبادة، وهذا ما أزيده بيانا في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: العبادة المحضة:
أجل وأعظم عمل يعمله المسلم هو العبادة الخالصة لله تعالى، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وغيره من العبادات المحضة. ويجني المسلم ثمرات هذه الأعمال الصالحة الخالصة مرتين: مرة عاجلة في دنياه، وأخرى آجلة في أخراه. فالعاجلة هي ما يجده المسلم من طيب العيش في الحياة الدنيا بسبب هذه الأعمال الصالحة، كما أخبر الله تعالى بقوله. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . ومن ذهاب الخوف عنه والحزن، وتبشيره بالنعيم المقيم قبل مغادرته الحياة الدنيا، كما قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (3) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) .
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة يونس الآية 62
(3) سورة يونس الآية 63
(4) سورة يونس الآية 64(62/143)
وتبشيره بالنعيم قد يكون بالرؤيا الصالحة يراها أو ترى له، أو بشرى الملائكة له بالجنة والمغفرة عند احتضاره (1) ، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (2) ويجني المسلم ثمار عمله الصالح مرة أخرى في الآخرة. وهي الثمرة العظمى التي ينتظرها المنتظرون، ويتنافس فيها المتنافسون. تلك الثمرة هي جنات النعيم، جنات تجري من تحتها الأنهار: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) ، لهم في هذه الجنات ما يشتهون، ولهم فيها ما يدعون، ولهم فيها من قرة الأعين ما لا يعلمه إلا رب العالمين: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ، نسأل الله من فضله.
__________
(1) ينظر. (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (2 \ 423، 424) .
(2) سورة فصلت الآية 30
(3) سورة الحديد الآية 12
(4) سورة السجدة الآية 17(62/144)
المطلب الثاني: عمل العادة والعبادة:
كل عمل ليس عبادة محضة فهو عمل عادة، أو عمل عادة وعبادة. فالعادة قد تكون محرمة، وقد تكون مباحة. فإن كانت(62/144)
محرمة فيأثم فاعلها، وإن كانت مباحة؛ أي مشروعة، فهذا ما نحن بصدده في هذا المطلب.
فعمل العادات المباحة من حيث نية فاعلها على قسمين:
ما لا يأثم فاعلها ولا يؤجر. وما يؤجر فاعلها مرتين.
فالأعمال التي لا يأثم فاعلها ولا يؤجر: هو كل عمل عادة محضة مباحة مجردة عن نية الخير والشر، كصناعة المباحات بقصد الربح المجرد، وكسائر المتاجرات المباحة بنية الربح وحده، من غير استصحاب الاحتساب، ونية نفع المسلمين واستغنائهم، ونحو ذلك. فهذه الأعمال ونحوها لا يأثم فاعلها ولا يؤجر. وهي أكثر ما يأتيه الإنسان.
والأعمال التي يؤجر فاعلها مرتين: هي كل عمل مباح يفعله المسلم بقصد الربح والأجر معا، كالزراعة بنية الربح، والصدقة، وكالصناعة بقصد الربح، وتجهيز جيوش المسلمين، وكالكتابة بنية الربح، وتعليم الناس، أو الربح، وتحذير المسلمين من أخطار وأضرار يجهلونها، وكالتجارة للربح، وضرب المثل فيها باتباع الحلال واجتناب الحرام، وغير ذلك.
فكل عمل مباح يفعله المسلم ويجتهد فيه أن يكون وفق شرع الله، ويقصد به نفع المسلمين في أي جانب، فهذا يؤتى أجره مرتين أجره العاجل، وأجره الآجل، وهذا النوع من الأعمال هو من الندرة بمكان نسبة إلى سائر الأعمال.
ومن المعلوم أن قصد العبادة في العادة لا يحتاج في الغالب(62/145)
إلى زيادة عمل، وإنما إلى مجرد احتساب ونية. وبالغفلة والانغماس في معمعة الحياة يفوت هذا الفضل العظيم على كثير من الناس. وبهذا يتبين لنا أن أعمال المسلم قد تكون كلها عبادة، رغم أنه لا يحتاج في كثير منها إلا إلى مجرد النية والقصد، فيفوز بخيري الدنيا والآخرة، طيبة عيش في الدنيا، وطمأنينة قلب، وفي الآخرة خلود في جنات النعيم، ورضا رب العالمين.(62/146)
الفصل الثاني: الموازنة في العمل بما يضمن جميع الكفايات:
تختلف نظرة المسلمين إلى العمل عن نظرة غيرهم إليه، فالمسلمون ينظرون إلى العمل على أنه وسيلة لا غاية، لذا يختارون من أنواعه ما هم بحاجة إليه دون إفراط ولا تفريط. وما يحتاجون إليه من الأعمال بكثرة أو قلة يحدده ويوفره لهم ولي أمرهم القائم على مصالحهم، بالتشاور مع أهل الحل والعقد منهم، حسب ما تقتضيه المصلحة العامة من سد حاجاتهم، وتشغيل أفرادهم، وقيام مصالحهم.
وهذا ما أبينه في المباحث الثلاثة الآتية:
المبحث الأول: العمل عند المسلمين وسيلة لا غاية:
إذا كان الكافر يحمل لدنياه، فإن المسلم يعمل في دنياه، ليكسب في دنياه، ويؤجر في أخراه. فالعمل الدنيوي لديه وسيلة لا غاية، وإن كان يسد به كثيرا من حاجاته، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 32(62/146)
والمسلم يعمل في دنياه ليس طلبا لغاية فيها، وإنما وسيلة لتحقيق الغاية العظمى التي من أجلها خلقه الله، وسخر له كل شيء وهي عبادة الله، التي لا تقوم إلا بالعمل الدنيوي على اختلاف أنواعه.
وبهذه النظرة يضبط المسلم عمله بميزان القرب والبعد من هذه الآية، فليس عند المسلمين تفريق بين الأعمال إلا بهذا الميزان.
فقد يترك المسلم عملا يدر عليه كنوز الأموال، ليقوم بعمل آخر لا يدر عليه شيئا، بل يطلب منه إنفاق الأموال وراء الأموال، دون أن يعود عليه بأي مردود، إلا ما يقربه من غاية الوجود. هذا هو منهج المسلمين في العمل، أو هو الأصل في منهجهم، وهو الميزان الحق في كل عمل. وإذا كان العمل عند المسلمين وسيلة لا غاية فما الفرق وما الأثر؟ .
إذا كان العمل عند المسلمين وسيلة لا غاية فإن الإنسان يأمن غوائل البغي والاستغلال والظلم في جانب العمل والعاملين في شتى الميادين. كما يأمن اختلال التوازن في إنتاج الحاجيات الناتج عن اندفاع طلاب المال وراء إنتاج الكم الهائل من الملهيات، والمغريات من الكماليات، وسائر الشهوات، لابتزاز أموال الناس على حساب الحاجيات، بل وعلى حساب الضروريات، وكما يأمن الإنسان الغش والخداع في كل المنتجات، وباختصار ينعم الجميع بعدل رب العالمين.(62/147)
المبحث الثاني: أنواع العمل، وأفضل الأعمال:
يختلف العمل في نوعه اختلافا واسعا، فلا حصر لاشتغالات الإنسان. فمن الأعمال ما هو جد ومنها ما هو عبث {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (1) ومنها ما هو فردي ومنها ما هو جماعي، ومنها ما هو بدني، ومنها ما هو فكري، ومنها ما هو يدوي، ومنها ما هو آلي، ومنها ما هو خطير، ومنها ما هو يسير، ومنها ما هو غير ذلك. ورغم تشعب العمل في أنواعه، فإنه يمكننا حصر أهم أنواع العمل، وهي التي تعمل في كل نوع منها أعداد كبيرة من الناس، يمكننا حصرها في أنواع ستة:
1 - العمل الزراعي.
2 - العمل الصناعي.
3 - العمل التجاري.
4 - العمل على الخدمة العامة.
5 - العمل في تنمية الحيوان.
6 - العمل الحرفي.
وسأتكلم عن كل واحد من هذه الأنواع الستة بشيء من التفصيل غير المستطرد.
النوع الأول: العمل الزراعي: العمل الزراعي من أقدم وأوسع اشتغالات الإنسان الباحث عن الرزق. والزراعة تعامل مع الأرض التي هي أقرب وألصق ما يكون بالإنسان. وقد أودع الله
__________
(1) سورة الشعراء الآية 128(62/148)
تعالى في الأرض لعباده كثيرا من المعايش والخيرات، وأنزل لهم من السماء ماء فسلكه في الأرض ينابيع، وأنهارا، وآبارا؛ لينبت لهم به الزرع ومن كل الثمرات. فاستغلت أعداد هائلة من الناس هذه المسخرات، فحرثوا الأرض وعمروها وبذروها، فأنتجت لهم بإذن الله تعالى ألوانا شتى من الحبوب، والثمار، والفواكه، والخضروات، والأعلاف، فأكل الناس والأنعام، قال الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (1) {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (2) {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} (3) {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (4) {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} (5) {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} (6) {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} (7) {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (8) {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (9) .
وإن من خصائص العمل الزراعي أنه لا يتوقف أبدا مهما كانت الظروف والأحوال، نظرا لسعة مجاله، ويسر أعماله، وقرب ثمراته، ولا يسابق ميدان الزراعة الفسيح ميدان في سد حاجة الناس واشتغالاتهم. وقد وردت آيات كثيرة في الزراعة تذكر الناس بنعمة الله عليهم؟ ليحمدوه على هذه النعمة، من ذلك قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (10) {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (11) ، وقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (12) {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (13) {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (14) {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (15) {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} (16) {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} (17) وقوله تعالى. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} (18) {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (19) {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (20) ،
__________
(1) سورة عبس الآية 24
(2) سورة عبس الآية 25
(3) سورة عبس الآية 26
(4) سورة عبس الآية 27
(5) سورة عبس الآية 28
(6) سورة عبس الآية 29
(7) سورة عبس الآية 30
(8) سورة عبس الآية 31
(9) سورة عبس الآية 32
(10) سورة الواقعة الآية 63
(11) سورة الواقعة الآية 64
(12) سورة القلم الآية 17
(13) سورة القلم الآية 18
(14) سورة القلم الآية 19
(15) سورة القلم الآية 20
(16) سورة القلم الآية 21
(17) سورة القلم الآية 22
(18) سورة الكهف الآية 32
(19) سورة الكهف الآية 33
(20) سورة الكهف الآية 34(62/149)
وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (1) . وآيات أخرى كثيرة تتحدث عن نعمة الله في إنبات الزرع، وإنزال المطر، وإخراج الثمرات المختلفة من الأرض.
كما جاءت أحاديث كثيرة من السنة تثني على الزراعة وتبشر الزارعين بالأجر على ما يخسرونه في مزارعهم وثمارهم، من ذلك:
1 - حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة (2) » .
2 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة (3) » .
__________
(1) سورة النمل الآية 60
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الحرث والمزارعة) باب (1) فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (3 \ 66) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب المساقاة) باب (2) فضل الغرس والزرع، حديث (1552) .(62/150)
3 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها (1) » . وغير ذلك من الأحاديث الحاثة على الزرع والغرس.
وقد يلتبس على بعض الناس ما جاء من أحاديث تذم الزراعة، كحديث أبي أمامة الباهلي حين رأى سكة (2) . وشيئا من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل (3) » . وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (4) » .
فلا تعارض بين ما سبق ذكره من أحاديث الحث على الزراعة وبين هذين الحديثين وأمثالهما مما يبدو أنه ذم للزراعة. فالزراعة مذمومة إذا انصرف الناس إليها طلبا للترف والنعيم وتركوا الفروسية والجهاد في سبيل الله (5) . وقد صرح في الحديث
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (97) وأحمد في مسنده (3 \ 183) .
(2) سكة: حديدة تحرث بها الأرض. (مختار الصحاح) للرازي (230) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الحرث والمزارعة) باب (2) ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به (3 \ 66) .
(4) أخرجه أبو داود (بذل المجهود) باب في النهي عن العينة (15 \ 137) .
(5) في مأساة الأندلس خير مثال لذلك.(62/151)
الأخير بربط الذم بالرضا بالزراعة، وترك الجهاد. فالزراعة ليست مذمومة مطلقا، وإنما إذا أدت إلى ترك الواجبات من فروسية ورماية وتصنيع للسلاح، وترك للجهاد. وإذا لم تؤد إلى ذلك فهي محمودة، ومن أفضل الاشتغالات.(62/152)
النوع الثاني: العمل الصناعي: العمل الصناعي ميدان واسع من ميادين عمل الإنسان. وإذا كانت الزراعة هي سيدة الاشتغالات في الحياة، فقد تطغى عليها الصناعة في بعض العصور والأزمان، التي تتطور فيها حياة الإنسان نحو الترف والإسراف تطورا يتطلب كثيرا من الصناعات غير الضرورية، وغير الحاجية في مختلف المغريات. والصناعة تتطلب أعدادا كبيرة من العاملين، في عموم الأزمان واختلاف الأحوال، لتلبية حاجة الإنسان. فهي مصدر رزق كثير من الناس.
والصناعة من أساسيات الحياة عند المسلمين، فلا حياة لهم كريمة إلا بالصناعة، حيث يستغنون بها عن عدوهم، فيما يسدون به حاجاتهم، ويقاتلون أعداءهم، ويحمون ديارهم وأموالهم، ويرتزق بها أفرادهم، ويستثمر أصحاب الأعمال أموالهم. ويختلف العمل الصناعي عن العمل الزراعي، حيث يحتاج العامل في الصناعة إلى كثير من علوم التقنية، والخبرات، والمهارات، ومختلف التدريبات. يبدأ التأسيس لذلك في مراحل التعليم الأولى، تأسيسا عمليا تطبيقيا لا نظريا، وبوسائل تفي بالغرض. وهذا ما يفتقر إليه التعليم في غالب ديار المسلمين، وهو ما يشكو منه المتخرجون من دراسات التقنية، والهندسة، والمختبرات، ونحوها.(62/152)
أما عن مجالات العمل في الصناعة وأنواع الصناعات، فهي تفوق الحصر. فهذه الصناعات النفطية، على اختلاف مجالاتها العظيمة. وصناعة الحديد والصلب، بمختلف أهدافها ودرجاتها.
والصناعات الحربية، من أدناها إلى أعلاها. وصناعة وسائل النقل، الجوية والبرية والبحرية. وصناعة الاتصالات، السلكية وغير السلكية. والصناعات الكهربائية، دقيقها وجليلها.
وصناعة المواد الغذائية، على اختلاف منتجاتها. وصناعة الأثاث، الخشبي وغير الخشبي. وصناعة المعدات، الثقيلة والخفيفة، على اختلاف أغراضها. وصناعة الورق، على اختلاف درجاتها ومقاساتها. وإلى غير ذلك مما لا حصر له من الصناعات.
ويختلف العامل الصناعي عن العامل الزراعي اختلافا كبيرا. حيث يتعرض العامل الصناعي لمؤثرات نفسية واجتماعية تصيبه أحيانا بالكابة والانطواء؟ وذلك لأسباب عديدة أذكر منها:
1 - ضياع الهدف والغاية من العمل عند كثير من ضعيفي الإيمان من العاملين.
2 - قلة ثقافة العمال الصناعيين، مما يطبع علاقة بعضهم ببعض بالجفاء والغلظة.
3 - بخس حقوق كثير منهم، وعدم تقدير جهود المخلصين والمتفوقين.
4 - جمود العمل وتكرره لفترات طويلة دون تغيير.
5 - طول ساعات العمل، وعدم تخليلها بما يروح عن النفس.(62/153)
6 - قلة أجور كثير من العاملين، وعدم تحقيق الزيادات الدورية المشجعة، مع ارتفاع المعيشة المستمر.
7 - سوء تعامل بعض الرؤساء مع العاملين، واستعلاؤهم عليهم.
8 - سوء أحوال بعض المصانع، من الضجيج المؤذي، ورداءة الإنارة والتهوية.
9 - انعدام رفع معنويات العاملين في المصانع، مع استغلال أوقاتهم واستنفاذ طاقاتهم.
هذا كله وغيره قد يصيب العامل الصناعي بآثار نفسية واجتماعية قاضية. وهو ما يحدث في الكثير من المصانع غير الإسلامية، أما المصنع الإسلامي الذي يطبق حكم الله على العاملين، فالعامل فيه في مأمن من ذلك. وهذا يبين الفرق الهائل بين مصانع المسلمين، ومصانع غيرهم.
وقد دل الكتاب والسنة على مشروعية الصناعة:
فمن القرآن قول الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (2) ، وقوله تعالى. {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (3) وغير ذلك من
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 80
(2) سورة سبأ الآية 13
(3) سورة هود الآية 37(62/154)
الآيات الكثيرة الدالة على مشروعية الصناعة، وامتنان الله على عباده بتعليمهم ذلك.
ومن السنة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرماية وحثه عليها، والرماية لا تكون إلا بالصناعة، من ذلك ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه السابق: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا (2) » أو "قد عصى". ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به. وقال: ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا (3) » .
فقد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين صانع السهم المحتسب وبين المجاهد الذي يطلق السهم في الأجر، وهذا
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة) باب (52) فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه (3 \ 1522) .
(2) نفس موضع الحديث السابق في صحيح مسلم.
(3) أخرجه الترمذي في سننه (كتاب فضائل الجهاد) باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (4 \ 174) والنسائي في سننه (كتاب الجهاد) ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل (6 \ 28) وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح.(62/155)
فضل عظيم وتشريف للصناعة المحتسبة. وكان كثير من الأنبياء والصالحين أصحاب صناعة، فالصنعة أمان من الفقر، كما يقول أصحاب الخبرة (1) .
مسألة: يجب ألا يتعارض أي عمل في الصناعة أو غيرها، مع ما افترضه الله على عباده، فلا يصح أن يزاحم العمل أداء الصلوات جماعة بحال. فلا تكيف الصلاة حسب العمل، وإنما يكيف العمل حسب الصلاة، وكذلك لا بد أن يتناسب العمل مع الصيام، والحج، حسب ما يبرئ ذمة العاملين، ودون أن يضر بالعمل. هذا هو المصنع الإسلامي المتميز عن غيره، بالبركة، والسلامة، وحسن الإنتاج.
__________
(1) ينظر. سلسلة الإسلام والعلوم الإنسانية، هموم العمل والعمال لعزة عبد العظيم الطويل، ص (17) .(62/156)
النوع الثالث: العمل التجاري:
العمل التجاري معنى واسع في طلب الرزق واشتغالات الناس. والعمل معلوم المعنى لا يحتاج إلى بيان. وأما التجارة فقد تحتاج إلى بعض التحديد والإيضاح: فمن حيث اللغة: يقال: تجر واتجر يتجر تجرا وتجارة، فهو تاجر. والتاجر هو الذي يبيع ويشتري. والتجارة: تقليب المال لغرض الربح (1) . وتعريفها في الاصطلاح العام هو قريب من التعريف اللغوي: فهي البيع والشراء، وتقليب الأموال، بقصد الربح.
__________
(1) تاج العروس فصل التاء من باب الراء (3 \ 66) .(62/156)
وتنقسم التجارة من حيث القصد والنية إلى ثلاثة أقسام:
1 - تجارة آجلة.
2 - تجارة عاجلة وآجلة.
3 - تجارة عاجلة.
1 - التجارة الآجلة: هي خير التجارات، وهي التجارة التي لن تبور، تجارة مع الله رب العالمين، بإنفاق الأوقات والجهود والأموال في سبيله، بغية رضاه، وهي التي وصفها الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (1) ، وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3)
2 - التجارة العاجلة والآجلة: هي الاتجار بقصد الدنيا والآخرة. وهي التي يتجر فيها المرء، ويحتسب في تجارته الخير، فيطلب الحلال دون الحرام، ويتقيد بأحكام الشرع، رجاء ثواب الله، وخوفا من عقابه، وينصر دين الله بتجارته، فلهذا ربحه في الدنيا، وأجره في الآخرة.
3 - التجارة العاجلة: هي التي لا يقصد صاحبها إلا الربح الدنيوي، وهو في غفلة تامة عن الآخرة، فلا يميز بين تجارة تضر
__________
(1) سورة فاطر الآية 29
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11(62/157)
بالمسلمين أو تنفعهم. فهذه أخسر التجارات.
أدلة مشروعية العمل التجاري:
دل الكتاب والسنة على مشروعية العمل التجاري.
فمن الكتاب: قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} (1) ، وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) .
ومن السنة: 1 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الأمين الصدوق المسلم، مع الشهداء يوم القيامة (3) » .
2 - حديث أبي موسى الأشعري حين استأذن على عمر، فلم يؤذن له، فرجع بعد الثالثة، فطلبه عمر، وطلب منه البينة على فعله، فشهد له أبو سعيد الخدري، فقال عمر: "أخفي علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق" يعني الخروج إلى التجارة (4) . وأحاديث أخر تدل على أعمال التجارة من بيوع وإجارة وغيرها.
وأما عن أنواع التجارة، وفروعها فهذا ما لا يدخل تحت
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة النساء الآية 29
(3) أخرجه ابن ماجة، كتاب التجارة (2 \ 724) . وجاء في الزوائد أن فيه جوشن القشيري وهو ضعيف. وله أصل عند الترمذي.
(4) أخرجه البخاري (كتاب البيوع) باب الخروج في التجارة (4 \ 6، 7) .(62/158)
حصر. فكل عمل يدخل تحت التعريف السابق، فهو من باب التجارة. وفي التجارة النشطة الأمينة مصلحة عظيمة للمسلمين، حيث تروج بضائع المصانع، والمزارع، ويزيد الإنتاج، وتنعش الأسواق، ويرتفع دخل الفرد، وتتقوى المرافق، وتسد الاحتياجات. والأصل في التاجر المسلم أن يتقي الله، ويذكر أنه مسلم قبل أن يكون تاجرا، وأن يجنب تجارته الحرام، وكل ما يضر بالمسلمين في دينهم، أو أخلاقهم، أو عاداتهم، أو اقتصادهم، وأن لا يؤتى الإسلام من قبله. والتاجر من أقدر الناس على النفع والإصلاح، أو الإضرار والإفساد.(62/159)
النوع الرابع: العمل في الخدمة العامة:
المراد بالخدمة العامة كل من يأخذ أجر عمله من بيت مال المسلمين، بداية من ولي أمر المسلمين إلى أدنى مستخدم فيهم، وهي ما يعرف بالوظائف العامة. وهذا قطاع عظيم من قطاعات الأمة، وهم الذين يقومون بكل ما يلزم الدولة الإسلامية من مهام، واحتياجات في سياستها، وعلاقاتها، وقضائها، واقتصادها، واجتماعها، وتعليمها، وإعلامها، وسائر خدماتها. وعلى هذه الفئة من الناس تقوم مسئولية عظيمة أمام الله تعالى، في بذل الجهد والنصح والأمانة، وأداء ما يوكل إليهم من أعمال بإخلاص وصدق ونزاهة. ويلجأ إلى هذا النوع من العمل أعداد كبيرة من الناس، طلبا للراحة، أو الشهرة، أو خوفا من الفشل في العمل الخاص. وقليل منهم من يدفعه إلى ذلك الإخلاص، وحب نفع المسلمين. والخدمة العامة سواء كانت مدنية أو عسكرية هي من(62/159)
ضرورات حياة المسلمين، حيث لا قيام لوحدتهم ولا تصريف لشؤونهم إلا بها. ويجب أن يختار لها الأصلح فالأصلح من الناس، لكي تحفظ الحقوق، وتتالف القلوب، ويسود الوئام، ويندحر الظلم، وتموت الرشوة، وتنتهي الانحرافات في كل القطاعات، فالعاملون في هذا الميدان هم الموجهون المدبرون المسيرون لأمور الأمة، وبهم تعلو الأمة أو تنحط. وبهذا النوع من العمل ترتبط جميع أنواع العمل الأخرى في التوجيه، والتنظيم، والمراقبة، والمتابعة لضمان الكفاية والتكامل في جميع الاحتياجات والمتطلبات، ولضمان الاستمرار، وحسن الإنتاج، وسلامة الحقوق. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المدبر لشؤون الأمة، ينصب الأمراء، والقضاة، والقادة، وكل من يحتاج إليه في شأن من الشؤون. وكذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. ورغم اختيارهم للأمثل في كل شأن إلا أنهم كانوا لا يعتمدون على من يولونه، بل كانوا يتابعونه ويراقبونه في أداء الأمانات وقضاء الحاجات.(62/160)
النوع الخامس: العمل في تنمية الحيوان:
يقصد بتنمية الحيوان كل ما يؤدي إلى زيادة الحيوان على اختلاف أنواعه، سواء كان بريا أو بحريا، وسواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل. فالحيوان ينمى لعدة أهداف، منها: أكل لحمه، وشرب لبنه، وغزل شعره، وتصنيع جلده، واستعماله في الحمل والحرث، والقتال، والزينة، وغير ذلك إلا أن أهم ما يراد بالحيوان هنا هو مأكول اللحم، مشروب اللبن(62/160)
والعمل في تنمية الحيوان من أهم الأعمال عند المسلمين، ذلك أن المسلمين بحاجة إلى الاكتفاء الذاتي في اللحوم، ومشتقاتها حتى لا يضطروا إلى اللحوم من غير بلاد المسلمين، التي لا يعرف أهلها حلالا ولا حراما، ولا يعرفون ذبحا شرعيا، فيبتلى المسلمون بأكل ما لم يذبح شرعا، وهو ميتة، وأكل ما لا يحل من الحيوانات. والصواب في هذه المسألة أن يتعاون المسلمون في تنمية بهيمة الأنعام، وغيرها من مصادر اللحوم الحلال، ليستغنوا بها عن الكفار. وبلاد المسلمين غنية ومليئة بالخيرات، والمراعي، والأعلاف، وما يحتاجون إلا إلى توزيع الثروة الحيوانية فيها بما يضمن التكامل في هذا المجال.
وقد امتن الله تعالى على عباده بتسخيره لهم كثيرا من الحيوانات، التي ينتفعون بها شتى الانتفاعات، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (1) {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (2) {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (3) ، وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (4) {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (5) {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (6) {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (7) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة يس الآية 71
(2) سورة يس الآية 72
(3) سورة يس الآية 73
(4) سورة النحل الآية 5
(5) سورة النحل الآية 6
(6) سورة النحل الآية 7
(7) سورة النحل الآية 8(62/161)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) . وآيات كثيرة تدل على تفضل الله على عباده بما سخر لهم من الحيوانات البرية والبحرية، كما تدل عليه أحاديث كثيرة من السنة.
ويدخل في الثروة الحيوانية الأسماك، والدواجن، والطيور، والصيد كافة، على اختلاف أنواعه. والعمل في تنمية الحيوان ميدان فسيح لطلب الرزق من الله رب العالمين.
__________
(1) سورة النحل الآية 80(62/162)
النوع السادس: العمل الحرفي:
حرف واحترف: أي كسب. والحرفة: الكسب، والمحترف: المكتسب، أو الصانع، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: "لحرفة أحدهم أشد علي من عيلته".
فالعمل الحرفي: هو العمل التكسبي، ويشمل جميع الأعمال التي يتعلمها الإنسان بقصد التكسب، فيعمل بها ويقدمها للناس، مثل أعمال البناء، والنجارة، والحدادة، والسباكة، والأعمال الكهربائية، والخرازة، والحجامة، والسقاية، والخياطة، والصباغة، والطبخ، والخبز، وإصلاح السيارات والمعدات، والنقل، والدهان، والرسم والكتابة، والطب، والصيدلة، وكثير من الحرف الأخرى. لهذه الحرف وغيرها شأن عظيم في حياة الناس، حيث يسد أصحاب الحرف حاجات الناس في مثل هذه(62/162)
الأعمال التي لا يستطيع أحد من الناس تعلمها جميعا والقيام بها، كما أنه لا يستطيع أكثر الناس الاستغناء عنها.
ولكن ينبغي أن لا يزاول هذه الحرف إلا من يتقنها. وينبغي للمكتب الخاص بالحرف أن لا يأذن لأحد بمزاولة أي حرفة يدعيها، ويريد العمل بها حتى يختبره ويعرف قدرته، ومهارته، فيأذن له، أو يمنعه حتى يتقن حرفته، وذلك حفظا لحقوق الناس وأموالهم، ودفعا لأصحاب الحرف إلى التنافس في إتقان حرفهم، بدلا من التنافس في التعهد بالقيام بحرف لا يتقنونها، فيفسدوها على أصحابها، فتحدث النزاعات، وتضيع الأموال بغير حق.
إن العمل الحرفي لهو أشرف الأعمال، حيث إنه عمل باليد، والعمل باليد أطيب الأعمال، وكسبه أطيب المكاسب، كما جاء في حديث المقدام رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده (1) » . والعمل الحرفي من أوسع ميادين العمل، وطلب الرزق، لذا تعمل فيه أعداد هائلة من الناس نظرا لكثرة مجالاته، ووفر عطائه، ويسر ارتباطه، ومحدودية مسئوليته، ومتعة إنتاجه، وتحصيله السريع. ويجب تعليم وتدريب أعداد كبيرة من أبناء
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب البيوع) باب كسب الرجل وعمله بيده (3 \ 9) . وينظر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (4 \ 304) .(62/163)
المسلمين على هذه الحرف، تعليما تطبيقيا، وتدريبا عمليا ليقوموا بحرف المسلمين بكفاءة عالية، وتقنية واسعة، فيكتفوا بهم عن الأيدي الكافرة المعادية.
هذه هي أهم أنواع العمل الستة، وفيها سعة عظيمة لكل طالب رزق، وراغب في العمل من أبناء المسلمين، لا تضيق عن أحد منهم. وفي إقامة هذه الأنواع من العمل بكفاءة وقدرة عالية، رفعة، وعزة للمسلمين، ودحر لأعداء الدين.
مسألة: أي أنواع العمل أفضل: اختلف العلماء في أي أنواع العمل أفضل؟ وإن اتفقوا على فضل كل عمل مشروع. فمن العلماء من فضل الزراعة، لما ورد فيها من نصوص تحث عليها، وتبين فضلها. ومنهم من قال: "إن الحرف الصناعية أفضل، لأنها عمل يد خالص. ومنهم من قال: إن أفضل الأعمال هي التجارة المبرورة، حيث إن التجارة تغري أصحابها بتجاوز الحلال في طلبها، فإذا قاوم المسلم هذا الإغراء، وبر في تجارته، فهو أفضل عمل. ومنهم من جعل أفضل الأعمال والاكتساب ما يأخذه المسلم من أيدي الكفار في الجهاد في سبيل الله (1) . ولعل أفضل الأعماق والمكاسب هي ما كانت في قضاء حاجة الأمة الشديدة في أي عصر من العصور، لأن في سد حاجات الأمة استغناء عن أعدائها، الذين لا يقضون حاجتها إلا
__________
(1) ينظر: فتح الباري - شرح صحيح البخاري - لابن حجر (4 \ 304) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (10 \ 213) .(62/164)
بإذلالها وإخضاعها.
فقد يكون العمل الصناعي أفضل الأعمال، إذا كان بالمسلمين حاجة للصناعة لإنتاج الأسلحة، والآلات اللازمة للحرب، لقهر العدو. وقد تكون الزراعة في زمن من الأزمان أفضل الأعمال، وذلك إذا احتاج المسلمون للمؤونة والطعام. وقد تكون التجارة، أو الحرف المختلفة، أو تنمية الحيوان، أفضل الأعمال، إذا كان بالمسلمين حاجة إلى واحدة منها. ولكن إذا قام أمر الله تعالى، وكان بالمسلمين قوة وسيطرة على الأعداء، وليس بهم حاجة خاصة لنوع من هذه الأعمال، فهنا لعل الزراعة تكون أفضل الأعمال، لتعدد أوجه الخير فيها. والله أعلم.(62/165)
المبحث الثالث: إيجاد العمل ووفاؤه باحتياجات الأمة:
يجب إيجاد الأعمال التي تستوعب قدرات الناس وإمكاناتهم، وتفي باحتياجاتهم، وقوام حياتهم، ويتبين هذا في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: إيجاد الأعمال.
المطلب الثاني: وفاء العمل بالاحتياجات.
المطلب الأول: إيجاد الأعمال:
الأصل في الأعمال أن توجد من غير إيجاد، فتحقيق المصالح والأغراض، يتطلب عمالا يقومون بها، ولا تحدث الأشياء بغرض أن يقوم الناس بأعمالها. إلا أنه قد تخالف هذه القاعدة وهذا(62/165)
الأصل؛ لأسباب مختلفة، فقد يحتاج إلى إحداث أعمال للعمال العاطلين، وقد يحتاج إلى إيجاد عمال يقومون بالعمل المتعطل. فلمجالات العمل مع العاملين ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تستوي مجالات العمل مع الأيدي العاملة.
الحالة الثانية: أن تكون مجالات العمل أكثر من الأيدي العاملة.
الحالة الثالثة: أن تكون مجالات العمل أقل من الأيدي العاملة.
فأما الحالة الأولى: فإن كان العمل قائما بجميع الاحتياجات، فلا يحتاج إلى إحداث شيء، وإن لم يكن كذلك، لزم إيجاد ما يسد الحاجات كلها، وإيجاد عمال يقومون بها.
وأما الحالة الثانية: فيجب إيجاد العمال المسلمين الذين يقومون بالأعمال المعطلة أو التي ينقصها بعض العاملين. فتعلم وتدرب أعداد من الناس للقيام بمختلف الأعمال والمهمات حسب الحاجة، ولا توكل هذه الأعمال إلى غير المسلمين، لأنه خلاف ما تقتضيه المصلحة. وإنه لينبغي تقدير التوازن بين العمل والعاملين في التخطيط العام وإعداد العدة لذلك، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى. ولا تكفي النظرة القريبة في هذا الشأن، فلا بد من بعد النظر مع حسن التقدير.
أما الحالة الثالثة: وهي ما يعرف بالبطالة، وهي ما(62/166)
استعصى على الأمم الكافرة على مر العصور، فالمسلمون في مأمن من ذلك، وما تضعه الأمم الكافرة لهذه المسألة من حلول، فهي غير معتبرة عند المسلمين، فعندهم الحل الأمثل الأقوم، الذي لا يتصور معه بطالة ولا حاجة، ألا وهو منهج الحياة العظيم عند المسلمين، القائم على شرع رب العالمين، والذي يمكن تلخيص أهم جنباته المتميزة فيما يأتي:
1 - يسر حياة المسلمين، وقلة عموم تكلفتها، باجتنابهم المحرمات، من خمور، وترف وزيف الحياة.
2 - اجتناب المسلمين كل ما من شأنه التضييق على الناس، واستغلال حاجتهم وفقرهم، من أنواع الظلم المحرم، كالربا، والقمار، والغش، والمخادعات، والمماطلة، وتعطيل الحقوق، وغير ذلك.
3 - المراقبة الذاتية للعامل المسلم، حيث إنه يعلم أن الله مطلع على عمله، وهذا ينتج عنه المحافظة على أموال المسلمين وممتلكاتهم خوفا من الله تعالى، وطلبا لرضاه، كما ينتج عنه الإخلاص في العمل، والصبر، والسلوى، مما يغني حياة العامل المسلم، ويزيد في نشاطه، وقوته، ويرفع معنوياته.
4 - محبة المسلمين بعضهم لبعض، تدعوهم إلى التعاون في إيجاد الأعمال، وإرشاد إخوانهم، وأخذهم بأيديهم، وتذليل ما يواجههم من إشكالات، مما تطيب به النفوس، وتذل به الصعاب.(62/167)
5 - سعة أبواب الرزق عند المسلمين، فعندهم من أبواب الرزق ما ليس عند غيرهم، من ذلك مثلا الجهاد في سبيل الله، وما يعود به علي المسلمين من أموال ومكاسب عظيمة، وهي ما يسمى بالفيء. وهو باب عظيم من أبواب الرزق الذي شرعه الله للمسلمين، وكان من أوسع أبواب الرزق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والسلف الصالح.
6 - إذا عجز المسلم عن العمل أو أقعده الفقر، فهناك أبواب للإنفاق عليه لا تسد أبدا، من ذلك:
أ- الصدقات الواجبة كالزكاة، والصدقات المستحبة. على اختلاف أنواعها.
ب- النفقات الواجبة على من يجب الإنفاق عليه من الأقرباء وغيرهم من أصحاب الحقوق.
ج- الكفارات، والنذور، وغيرها مما يغني فقراء المسلمين.
د- بيت مال المسلمين، الذي يكون من وراء ذلك كله، ويعول من لا عائل له، فإذا عجز المسلم عن العمل، ولم تسد حاجته بالإنفاقات السابقة، فبيت مال المسلمين كفيل له بضمان حياة كريمة.
هذا هو المنهج العظيم المتميز الذي لم ولن يدانيه منهج، فهو المأمن من الوقوع في البطالة والعوز. ولا يقال: إنه لا وجود له في حياة المسلمين، فليس فعل الناس حجة على شرع الله، فإذا طبق شرع الله بكامله، وبصر الناس بالحق وأخذوا به،(62/168)
فسيكون الأمر كذلك. ولو ذاق الناس طعم حياة المسلمين الحقيقية، لفروا إليها، ولعضوا عليها بنواجذهم. فلا حل لإشكالات العمل، ولا إيجاد له، ولا منع للبطالة، إلا بحكم الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(62/169)
المطلب الثاني: وفاء العمل بالاحتياجات:
العمل ووفاؤه بالاحتياجات مسألة يصعب تقديرها، فضلا عن تحديدها. فاحتياجات الأمة تختلف باختلاف طموحها واختلاف مسؤلياتها. كما تختلف باختلاف العصور والأحوال فإذا كانت تطلعات القائمين على الأمة عالية، ومسؤلياتهم كبيرة تطلب ذلك احتياجات واسعة، لا يفي بها إلا أعمال واسعة. وإذ كانت الهمم دون ذلك، فالاحتياجات والعمل اللازم لها دون ذلك، كما أنه قد تكون الاحتياجات في بعض العصور عالية وفي بعضها الآخر دون ذلك. فالاحتياجات كثرة وقلة ونوعا وقوة العمل وتنوعه، حسب معطيات كل عصر ومتطلباته.
وقد ينشط ولي أمر المسلمين في زمن من الأزمان للجهاد(62/169)
في سبيل الله، فترتفع الاحتياجات الحربية، مما يتطلب التوسع في الأعمال الصناعية اللازمة لذلك. وقد تكون الحاجة إلى الزراعة، أو إلى الثروة الحيوانية، أو إلى غير ذلك أشد، فيلزم عمل يفي بهذه الحاجة، أو تلك.
وهكذا تختلف الاحتياجات باختلاف الأحوال وتقلب الظروف. وقد تكون الاحتياجات في جانب وقد تكون في كل الجوانب، فيجب إعداد العمل والعاملين بقدر وكيفية تفي بالاحتياجات حسب القدر والنوع، شاملة كانت أو في أحد الجوانب.
وباختصار شديد، فإنه يجب إعداد العمل والعاملين بما يفي بالاحتياجات على اختلاف تطلعات الأمة ومسؤلياتها، وما تواجهه من ظروف ثابتة أو طارئة في سلمها وحربها، وفي كل المجالات الحيوية، من زراعية، وصناعية، وتجارية، وثروة حيوانية، وحرف مهنية، وخدمة عامة، وغيرها. ولا عذر لجيل من الأجيال في عدم قضاء حاجاتهم بأنفسهم وبأيديهم. ولا يترك الأمر في ذلك لرغبات الناس، واجتهاداتهم في اختيار الأعمال العامة، بل لا بد من تخطيط علمي دقيق شامل لذلك علما وعملا وعمالا، مبني على المعطيات والمتطلبات، وإقرار كل ما يلزم للقدرة على تنفيذه، وتذليل كل الصعاب المحسوبة وغير المحسوبة التي قد تقف في وجهه. كل ذلك مع ملاحظة واعتبار التميز العظيم لأمة المسلمين، وعدم الغفلة عنه عند التخطيط، أو التنفيذ، أو المراقبة والمتابعة. والله أعلم.(62/170)
الفصل الثالث: ضمان استمرار العمل ونموه:
ضمان العمل واستمراره، واطراد نموه وتوسعه، أمر حيوي ضروري لانتعاش اقتصاد المسلمين، وارتفاع مستوى معيشة الفرد المسلم، وهذا الأمر مرتبط بعدة أمور.
منها تكثير مجالات العمل وتنميتها. وتذليل معوقات العمل، ومحاربة البطالة. وتوفير المواد اللازمة لمختلف الأعمال، والصناعات، والتوسع فيها. وتحسن نوعية الإنتاج والرقي بها إلى درجة الإتقان. وهذا ما أبينه في المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول: تكثير مجالات العمل، وتنميتها.
المبحث الثاني: تذليل معوقات العمل، ومحاربة البطالة.
المبحث الثالث: توفير المواد اللازمة لمختلف الأعمال، والصناعات، والتوسع فيها.
المبحث الرابع: تحسين نوعية الإنتاج.
المبحث الأول: تكثير مجالات العمل وتنميتها:
من الأمور الهامة في ضمان استمرار العمل، وتطوره، السعي المستمر في البحث عن مجالات عمل جديدة، تستوعب أجيال الحاضر والمستقبل، وتتوسع في قضاء حاجات الأمة والتزاماتها.
والبحث عن مجالات عمل جديدة يقتضي دراسة محققة في عموم احيتاجات المسلمين، ومصالحهم الحاضرة والمستقبلة.
وبالدراسة المحققة من أهل الاختصاص تتبين لنا نواقص العمل في بعض جوانب الحياة، أو الحاجة إلى تنميته وتطوره، أو تتبين لنا الحاجة إلى إحداث إنشاءات جديدة لم تخطر في البال من(62/171)
قبل، أو غير ذلك مما تستدعي إقامته أعدادا كبيرة من العاملين. إذا تبين لنا ذلك، وفحصنا الفكرة، واستقرت، وتبينت الحاجة إليها، فقد تمت الخطوة الأولى في إقرار هذا العمل.
وننتقل إلى الخطوة الثانية، وهي دراسة إيجابياته وسلبياته الدينية، والأخلاقية، والاقتصادية، والعقبات التي قد تحول دون إنجازه. فإذا لم توجد سلبيات في الدين، ولا في الأخلاق، وغلبت إيجابياته الاقتصادية سلبياته، وانتفت موانع إقامة هذا العمل، فقد تمت الخطوة الثانية في إقراره.
وننتقل إلى الخطوة الثالثة، وهي إمكان تمويل هذا العمل الجديد، وتشغيله آليا وبشريا من غير ضرر ولا فساد، فإذا تحققنا من إمكان ذلك، انتقلنا إلى الخطوة الأخيرة وهي إقراره وتنفيذه، وتقوم الجهة التي يتبعها هذا العمل الجيد بتنفيذه، سواء كانت جهة خاصة، وهي جهة رجال التجارة والأعمال، أو عامة وهي جهة بيت مال المسلمين. وتوكل متابعة تنفيذه إلى جهاز المراقبة العامة، حسب الدراسات الدقيقة والتصورات المحققة السابقة.
وقد يكون هذا العمل في الميدان الزراعي، أو الصناعي، أو التجاري، أو الثروة الحيوانية، أو الحرف، أو غير ذلك.
ولضمان تنمية العمل واستمراره يقوم المختصون في جميع الأعمال دائما، بمراقبة، وفحص، وتقويم أدوات الإنتاج، وقدرتها على الاستمرار في العطاء، ووضع احتمالات، وتحديدات لاستهلاكها، ووجوب استبدالها. كما يجب توفير احتياطي الآلات، والأدوات وجميع الاحتياجات، بحيث لا تتعطل عن العمل ساعة واحدة.(62/172)
فليس هناك ضرر على الإنتاج مثل تعطله بسبب تعطل المعدات، أو نقص في الاحتياجات.
وبهذه الصيانة المستمرة والمراقبة والمتابعة، وإعداد الاحتياطات، يكثر العمل ويستمر، وينمو ويتطور، بإذن الله تعالى.(62/173)
المبحث الثاني: تذليل معوقات العمل ومحاربة البطالة:
معوقات العمل، والبطالة أعتى تحديين يواجهان الأمم السابقة واللاحقة، وتذليلهما من أهم أسباب استمرار العمل ونموه. وهذا ما أبينه في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: تذليل معوقات العمل.
المطلب الثاني: محاربة البطالة.
المطلب الأول: تذليل معوقات العمل:
المعوقات التي قد تقف في وجه العمل فتمنع استمراره ونموه، وتطوره كثيرة مختلفة باختلاف نوع العمل، والقائمين عليه، وأمور أخرى يصعب حصرها، إلا أنه يمكننا حصر أهم المعوقات في أمور أربعة:
1 - معوقات بشرية.
2 - معوقات نفسية.
3 - معوقات آلية.
4 - معوقات مالية.
أولا: المعوقات البشرية: تحول العقبات البشرية دون إنجاز كثير من المنتجات، وتعقد كثيرا التطلعات، وتفشل بها(62/173)
أخطر التخطيطات. والمعوقات البشرية على نوعين:
أ- عجز في التقنية وفنيات العمل.
ب- عجز في عدد العاملين.
أ- العجز في التقنية والفنيات: هو أشد وأخطر العقبات التي يحتاج تذليلها إلى وقت طويل، وقد تمضي الأجيال وراء الأجيال دون أن تذلل هذه العقبة.
إلا أنه إذا وجدت نواة لخبراء التقنية والفنيات، وأمكن أن يطمئن إليهم في التعليم والتدريب المتقن، ووجد رجال صادقون جادون في إدارة هذه الأعمال، والقوامة عليها، فقد يسهل الأمر ولا يطول تذليل هذه العقبة. والسبيل إلى ذلك استخدام ثنائية عمل الخبراء والفنيين جمعا بين العمل والتدريب، وهو ما أسميه منهج مضاعفة الكفاءات، فيلحق بكل فني، وبكل خبير، مجموعة محدودة من أصحاب الذكاء والفطنة، ليرافقوه مدة معينة قد تطول وقد تقصر حسب المهمة المطلوبة منهم، فيتخرجوا على يديه تدريسا نظريا إن أمكن، وتدريبا عمليا، وممارسة فعلية تحت إشراف وتوجيه هذا الخبير أو ذاك الفني.
ويكون مسئولا عن تحصيلهم المتقن، وقدرتهم التامة على الممارسة الفعلية، والقيام بمهمة العمل الذي يتدربون عليه بإتقان وأمان، ويشجع الخبراء والفنيون بطريقة تدفع بهم إلى التنافس والتعاون فيما بينهم.
وهذا من أنفع السبل في توفير خبراء التقنية والفنيات، وسوف يوجد بين هؤلاء الأذكياء المهرة من يفوق معلمه(62/174)
بدرجات، وبهذا نستطيع مضاعفة أعداد المختصين من خبراء وفنيين إلى أي قدر نريد، حيث إن كل متخرج يمكن أن يلزم بتعليم وتدريب مثل ذلك، وهكذا كل من يتخرج بعد ذلك. أما إذا لم تكن نواة من الخبراء والفنيين فالإشكال أكبر والخطب أعظم، ولا يمكننا التغلب على هذا النقص التقني إلا بعد زمن طويل من التعليم والتدريب التقني الجاد لأعداد كبيرة من الناس وفي مختلف المجالات، ليخرج من بينهم المهرة الذين يترقون في التقنيات، فيكونوا نواة لمختلف الصناعات، فيعملون، ويعلمون ويؤسسون قاعدة متينة في الهندسة والفنيات.
وقد يظن بعض الناس أن المسلمين غير قادرين على الصناعات المعقدة، ومنافسة العالم في التطور الصناعي، كما يوحيه الغرب من يهود ونصارى إلى أوليائهم في ديار المسلمين، ليوهنوا المسلمين، ويقعدوهم، ويصيبوهم باليأس والقنوط.
والحق أن هذا محض الباطل، فأذكى الناس هم المسلمون، بشهادة العالم، وخاصة العرب منهم. ولقد حضرت عدة محاضرات علمية فيزيائية في جامعة برلين الهندسية لأكبر أستاذ فيزياء في ألمانيا، وكان عدد الحضور من طلبة الفيزياء الألمان والأجانب يفوق ثلاثة آلاف طالب، ورأيت أنه لا أحد يستطيع أن يرد خطأ هذا الأستاذ الكبير إذا أخطأ في تحليل أعقد المسائل الفيزيائية إلا طالب أردني. ولا يرد الأستاذ الرأي إذا استعصت عليه بعض المسائل إلا لهذا الطالب الأردني. وقد نال أخوه في جامعة برلين الحرة ما لم ينل منذ خمس وعشرين سنة.(62/175)
ومن المشهور في ألمانيا أن أخطر العمليات الجراحية لا يقوم بها إلا أطباء جراحون عراقيون. وتعتمد أمريكا في تفوقها في علوم الطيران الحربي والمدني على عقول عربية، أو ذات أصل عربي، من المصريين، والشاميين.
إذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على المسلمين أن يفتحوا أبوابهم ويحتضنوا أبناءهم من أصحاب الكفاءات النادرة والعقول المتميزة، وأن يغروهم ويهيئوا لهم كل ما يحتاجون إليه، ليكونوا سلاحا في أيديهم ضد أعدائهم، لا سلاحا في أيدي أعدائهم ضدهم.
ب- العجز في عدد العاملين: لا يمثل العجز في عدد العاملين إشكالا ذا شأن، حيث يمكن التغلب عليه بجذب أعداد كبيرة من الناس إلى الدخول في الإعداد لهذه الأعمال. ولا يجوز اللجوء إلى الأيدي العاملة الكافرة بأي حال. فالمسلمون أولى بالمعروف والإحسان، وأبعد عن الغش والخيانة، وتضليل الصناعة، مهما ادعى المدعون الذين لا يفرقون بين مسلم وكافر.(62/176)
ثانيا: المعوقات النفسية: المعوقات النفسية، هي انحطاط نفسيات ومعنويات العاملين، مما ينعكس على الإنتاج كما ونوعا، حيث لا يبالي العامل كيف يعمل، ولا يعطي إلا القليل من قدرته، وطاقته، لسوء حالته النفسية. ولسوء الحالة النفسية أسباب كثيرة أجدول أهمها باختصار فيما يأتي، مع ذكر العلاج:(62/176)
م ... المعوق عن العمل ... العلاج
1- ... ضعف إيمان بعض العاملين فلا يجد للعمل جدوى ... إلقاء الدروس والمحاضرات بين الحين والحين، وفي المناسبات لتذكر العمال، وتبين لهم ثمرة عملهم في الدنيا والآخرة.
2- ... عموم انحطاط معنويات العمال المسلمين في كثير من الأزمنة لما يرونه من خذلان. ... إلقاء المحاضرات التي ترفع المعنويات وتبين لهم أنه مهما حصل من خذلان فالمسلمون هم الأعلون: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) سورة آل عمران الآية 139.
وأنه ينبغي للمسلم ألا يستسلم أبدا، وأن أجره ثابت في الدنيا والآخرة إذا عمل، سواء انتصر المسلمون أو لم ينتصروا
3- ... استمرار العامل في نفس العمل زمنا طويلا دون تغيير. ... تنقل العامل غير المختص بين عدة أعمال.
4 - ... تميز العامل ونشاطه دون تقدير. ... يكافأ العامل، وينفل بما يحس معه بثمرة جهده.
5 - ... عدم ترويح العمال وتنشيطهم. ... تنشيط العمال، والترويح عنهم بما يذهب السأم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 139(62/177)
6 - ... قلة الأجور، وعدم الزيادة الدورية. ... إعطاء العامل ما يستحقه من أجر وزيادة راتبه دوريا.
7 - ... تعالى بعض الرؤساء على العمال. ... اختيار رؤساء لديهم حكمة في تنشيط وتقدير ورفع معنويات العاملين.
8 - ... سوء حالة المصنع أو مكان العمل من الضجيج وسوء التهوية والإنارة. ... تخفيف واختزال ضجيج المصانع وأماكن العمل قدر المستطاع، وتحسين الإضاءة، وتجدد الهواء، وضبط درجة الحرارة المناسبة.
9- ... انعزال كثير من العاملين عن المجتمع. ... دعوتهم إلى بعض الاحتفالات واللقاءات.
10- ... تواجه كثيرا من العمال إشكالات عائلية، أو اقتصادية، أو غيرها. ... النظر من قبل المختصين في إشكالاتهم، وتوضع لها الحلول، ويساعدون في ذلك.
11 - ... يعاني بعض العاملين من المرض. ... تشخيص مرضه، وعلاجه قدر المستطاع إن أمكن.
12 - ... منع بعض العمال من الإجازة السنوية. ... التنسيق بحيث يأخذ كل عامل إجازته السنوية.(62/178)
هذا قدر نكتفي به من المعوقات النفسية وعلاجها.(62/179)
ثالثا: المعوقات الآلية: كثيرا ما يكون تعويق العمل بسبب الآلات، لقدمها، وعجزها عن الوفاء باللازم، مع عدم القدرة على استبدالها بآلات جديدة، لعدم القدرة على تصنيعها، ومنع بيعها للمسلمين من قبل أعدائهم، وهذا الأخير هو الحاصل في أغلب الأزمان، فأعداء الإسلام لا يبيعون للمسلمين إلا محدود الفائدة والنفع. وفي هذا عبرة لمن يعتبر ودرس عظيم للمسلمين، وهو أنه لا يمكن أن يقوم عمل يعتمد فيه على الكفار في تجهيز آلاته ومعداته، أو في إدارته وفنييه وخبرائه.
وإنه لمن العجب العجاب أن يعجز المسلمون عن التصنيع المكافئ المقارع لصناعات الكفار، رغم قدراتهم الهائلة، وأعدادهم العظيمة، وأموالهم الطائلة، وخامات التصنيع الوافرة، ورجالهم المهرة إن في الأمر سرا يجب كشفه، وإبطال فعله، ورد الحق إلى نصابه، وإعطاء الأمر أهله، والمسلمون أهل العدل والحق، والريادة والقيادة.
وإذا لم يمكن استبدال الآلات القديمة بجديدة، فلا أقل من أن تصان وتطور وتحسن، لتؤدي الغرض حتى يستطيع المسلمون إيجاد المصانع التي تصنع آلات التصنيع، وترفع رأس المسلمين، فيردوا كيد الكائدين.(62/179)
رابعا: المعوقات المالية: المعوقات المالية هي العقبة الكؤود التي تحول دون إقامة واستمرار كثير من الأعمال.(62/179)
والمعوقات المالية، إما أن تكون في عدم القدرة المالية على توفير المواد الخام، وسائر ما يلزم من مستهلكات، أو عدم القدرة على دفع أجور الخبراء والفنيين، والإداريين، والعمال، أو في عدم القدرة على شراء ما يلزم العمل من آلات ومعدات لضمان إنتاجه واستمراره، أو في عدم القدرة على بسط الأعمال اللازمة لنموه وبلوغ قمة الإنتاج المقررة، أو غير ذلك.
ولا ينبغي ولا يصح أن يكون التمويل عقبة دون تحقيق أي جانب من المذكورات السابقة، أو غيرها عند المسلمين. حيث إن ديار المسلمين أغنى الديار، ومخزوناتها الأرضية أفضل المخزونات، واقتصادها أقوى الاقتصادات؛ لتميزه بثراء الموارد وقلة الإنفاق.
وإنه على ولاة أمور المسلمين أن يتقوا الله ويوظفوا هذه الأموال في ما ينفع الناس، وأن يبنوا قاعدة صناعية متينة، يقوم عليها أبناء المسلمين، تتحطم على صخرتها أطماع الأعداء، وترتفع بها هيبة الأمة، ويعلو شأنها، وتتحرر من أغلال أعدائها. وليس هذا العز ببعيد المنال إن صدقوا الله ونصروه، فلله الأمر كله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) .
__________
(1) سورة محمد الآية 7(62/180)
المطلب الثاني: محاربة البطالة:
تقلق البطالة الأمم الكافرة أيما قلق، حتى قد تسقط بها الحكومات، وترفع في محاربتها ألوية المتنافسين في الأحزاب(62/180)
والانتخابات، وتوضع لها الحلول وراء الحلول من المهتمين بالعمل والعمال والاقتصاد.
والأمر عندنا على خلاف ذلك، فالأصل وفق شرع الله أن لا توجد بطالة بحال؛ وذلك لسعة أبواب الرزق والعمل التي امتن الله بها على المسلمين، وكثرة أعمالهم الدينية والدنيوية التي يطلبون بها الأجور، ولمنهج حياتهم واقتصادهم المتميز، وحسن عملهم وتعاملهم. فلا بطالة في الإسلام.
هذه هي الحقيقة، وهي الحق، إذا طبق شرع الله من غير التفات إلى ما سواه. أما إذا لم يطبق شرع الله، فهناك يختل الميزان، ولا أمن ولا أمان، وقد يحل بالناس من النقائص، والمصائب والحاجات، والمخاوف ما لا يعلمه إلا الله. فعلاج البطالة الوحيد هو تطبيق شرع الله، وكل العلاجات والمحاولات عداه محاولات يأس، وخسارة، وبوار، ومضيعة للجهد والمال.
فالسبب الوحيد للبطالة عند المسلمين إن وجدت، هو الخلل في تطبيق شرع الله، ففيه يجب النظر والبحث والإصلاح. فإن استدرك الأمر في حينه صلحت الحال وأمنا من البطالة، وآثارها المدمرة.(62/181)
المبحث الثالث: توفير المواد اللازمة لمختلف الأعمال والصناعات والتوسع فيها:
من أهم أسباب استمرار العمل ونموه، توفير المواد المختلفة اللازمة لجميع الأعمال والمصانع المختلفة. وهذه المواد تختلف باختلاف المعمل أو المصنع، فقد يكون المعمل أو(62/181)
المصنع زراعيا، فله حينئذ مواده الخاصة اللازمة لطبيعة إنتاجه، كأعمال الزراعة الكثيرة من تسميدات، وتطهيرات، وإصلاحات، وغيرها. وكمصانع تعبئة المواد الغذائية وحفظها، والتصنيعات الأخرى. وقد يكون صناعيا كأنواع صناعات المنتوجات النفطية، وصناعات الحديد، وصناعات المعدات المختلفة. وقد يكون في الثروة الحيوانية، كتعبئة اللحوم وحفظها، أو غير ذلك. كل هذه الأعمال، والمصانع، وغيرها، تحتاج إلى توفير ما يلزمها من مواد ضرورية لعملها وإنتاجها.
وتوفير المواد للمصانع والمعامل ليس بالأمر السهل، ولكنها لا تنشأ منشأة أصلا في أي ميدان إلا وقد خطط مسبقا لكيفية الحصول المستمر على ما يلزمها من مواد. ولا يتجاوز بحال عن تعطل المعمل أو المصنع بسبب عدم توفر المواد.
فهذه خسارة عظيمة تقضي على أسباب نجاح هذا المعمل، أو هذا المصنع. وكما ذكرت من قبل أنه يجب السعي الجاد في التوسع في المصانع والمعامل ليتناسب إنتاجها مع الزيادة المطردة في أعداد السكان. ومن ثم فلا بد من التوسع في توفير المواد اللازمة لها، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى نقاش. وبلاد المسلمين غنية بأنواع المواد اللازمة للمصانع والمعامل على اختلاف أغراضها، وقدراتها.(62/182)
المبحث الرابع: تحسن نوعية الإنتاج:
تحسن نوعية الإنتاج والرقي بها إلى أعلى درجات المواصفات أمر مهم وضروري لتصنيعات المسلمين، لأنهم بذلك(62/182)
يثبتون أنهم أعلى الناس، وأقدرهم، وأنصحهم للناس، فتثبت بذلك هيبتهم، واحترامهم، ومن ثم احترام دينهم وعقيدتهم، فتدخل أعداد من الكفار في دين الإسلام.
فالصناعة المتقنة طريق عظيم من طرق الدعوة، وخاصة دعوة أولئك الذين لا يعجبهم شيء كما تعجبهم القوة والإتقان. ثم إن تحسين نوعية الإنتاج ضمان لاستمرار العمل، وقدرته على المنافسة وسد جميع الاحتياجات، فإنه إذا علت نوعية الإنتاج كسبت معاملنا ومصانعنا ثقة الناس، وأقبلوا عليها، فراج الإنتاج، وانهالت الأموال، فطورت الآلات، وحسنت أوضاع العمال، وشجعت المهارات، والكفاءات، واستغنت الأمة بمصانعها، ومعاملها، وكفاءاتها، وإنتاجها، عن استجداء الأعداء.(62/183)
الفصل الرابع: رفع قدرات أدوات الإنتاج الآلية والبشرية:
أي مصنع وأي معمل لا يسعى سعيا جادا مستمرا في تطويره، ورفع قدرات مقوماته البشرية والآلية، لا يمكن أن يكتب له البقاء والنجاح. فطبيعة البشر الكسل والتبلد والجمود، إن لم تكن مغريات وحوافز تحرك ساكنهم، وتدفع واقفهم ومتراجعهم إلى الأمام، ووسائل ترفع كفاءاتهم، وتصلح وتطور معداتهم.
وفوق ذلك كله متابعة لا تعرف الكلل والملل، واهتمام فطن بالعمال والعمل، وحرص، وصبر، وحكمة، في جمع أعضاء العمل ووحداته، لتكون وحدة واحدة متكاملة، كل جزء فيها يعمل بأعلى قدراته. هذا ما أبينه في المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول: وسائل رفع الكفاءات العمالية.(62/183)
المبحث الثاني: الصبر على العمل، وحوافزه، ومغرياته.
المبحث الثالث: ضمان الإنتاج الكامل لكل عامل.
المبحث الرابع: تطوير ورفع قدرات معدلات الإنتاج.
المبحث الأول: وسائل رفع الكفاءات العمالية:
نحتاج في رفع كفاءات عمال المسلمين إلى وسائل معينة لازمة، منها:
1 - تعليم العمال.
2 - تدريبهم المستمر.
3 - تثقيفهم تقنيا.
4 - زرع بذور المحبة والوئام بين العاملين.
1 - تعليم العمال: يتفاوت تعليم العمال تفاوتا كبيرا، فمنهم الذكي ومنهم الغبي، ومنهم الماهر ومنهم الأخرق، ومنهم المتعلم ومنهم العامي، ومنهم من يتطلب عمله كفاءة عالية، ومنهم من لا يتطلب عمله ذلك. فنحتاج إلى تصنيفهم في التعليم المستمر إلى فئات ومجموعات حسب مكانتهم العلمية، وقدراتهم العقلية، ونوع أعمالهم.
فمن تقاربت عقولهم، وعلومهم، وتشابهت أعمالهم، يكون في مجموعة واحدة، من أعلى الدرجات إلى أدناها. ويتناسب عدد الأشخاص في كل مجموعة مع علو عقولهم، وعلومهم، واختصاص أعمالهم، تناسبا عكسيا، فكلما زاد الذكاء، والعلم. وتميز الاختصاص قل العدد. وكلما قل ذلك، زاد العدد. فقد تكون المجموعة من اثنين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو أربعين، أو غير ذلك، حسب ما ذكرت.(62/184)
أما ماذا يعلمون؟ فيخضع لطبيعة عملهم، وما يطلب منهم تحقيقه، وما يعلمون وما يجهلون. فيزودون من العلوم والهندسة وخصائص التقنيات والفنيات بما تنمو به عقولهم، وتعلو به قدراتهم، حسب اختصاص كل مجموعة، وقدراتها العقلية، بما يضمن الإدراك والإفادة منه في رفع مستوى الإنتاج، وإنهاء كثير من الإشكالات الفنية والتقنية التي تواجه العاملين.
وإنه لمن الأهمية بمكان فيما يعلم أن تلقى عليهم دروس ومحاضرات تبين حقيقة العمل وأهميته في الإسلام، ترسم أهدافه، وتعرض ثمراته العاجلة والآجلة، لترتفع المعنويات، وتعلو الهمم، وتنجلي السامة والكابة، وبذلك يتميز العامل المسلم بنشاطه وتطلعاته عن العامل الكافر.
وليس هذا التعليم بالأساس الذي يقوم عليه العمل، وإنما هو زيادة عن حد الكفاية، لرفع الكفاءة، والقدرة، وشحذ الهمة، لنرقى بالعمل إلى أعلى الدرجات عند المسلمين.
2 - التدريب المستمر: أريد بالتدريب هنا تطبيق ما علم من أفكار وعلوم، وتقنيات، وفنيات في التعليم السابق، لنرقى في سلم الإتقان الذي لا نهاية له. فكل ما علمناه للعاملين سابقا نطبقه لهم حاضرا، ليكون عمل بعد علم، فخير العاملين هم العالمون.
3 - تثقيف العمال تقنيا: المراد بالتثقيف التقني هنا هو إلمام العامل بجميع أجهزة وآلات المصنع أو المعمل الذي يعمل فيه، وبالمهمة الفنية لكل جهاز، وآلة؛ ليربط بين عمل أجهزة الإنتاج، للإحاطة العامة بمراحل الإنتاج. وهذا أمر مهم للغاية؛(62/185)
ليدرك العامل الفني موقعه في الإنتاج، ويحس بأثره وأهميته، ودوره في العملية الإنتاجية، فترتفع معنوياته، فيسعى لإتقان عمله الخاص بتميز.
ومن زيادة الثقافة في التقنية الإطلاع على بعض الأجهزة المتطورة التي يمكن أن يزود بها المصنع أو المعمل يوما من الأيام؛ لتطوير قدراته وتحسين إنتاجه. فالتثقيف التقنوي علامة على علو قدر المصنع أو المعمل وحيويته. وقد يكون التثقيف التقنوي مقصورا على بعض النبهاء، من مدراء، وخبراء، وفنيين.
4 - زرع بذور المحبة والوئام بين العاملين: بالمحبة والتسامح، والرضا، والألفة، والاحترام، والتقدير، المتبادل بين جميع العاملين، تعلو الهمم، وتطيب النفوس ويسود الوئام والوفاق، ويسعد العاملون بأعمالهم، التي يتمتعون بإنجازها.
فتتفتح القرائح، وينشط الذهن، ويبدع العقل. فتنهض القدرات، وتتحرك الكفاءات، وتصان الآلات والمعدات. وتجد الأيدي البشرية العاملة في توحيد القدرات الآلية، لإخراج أبدع عمل محكم، وإنتاج متقن.(62/186)
المبحث الثاني: الصبر على العمل وحوافزه ومغرياته:
خلق الإنسان كسولا جبلة، يميل إلى الدعة والراحة، ولا ينهض به إلا الهمة والعزيمة، فمن لا همة له ولا عزيمة، فلا حيوية له، فتراه يعيش راكدا أشبه ما يكون بالأموات، أو أبلد الحيوانات، يلعق الشهوات والملذات في نهم كما تلعقها أدنى الحشرات. وقد جعل الله لهذا الإنسان ما يحرك ركوده، ويوقظ(62/186)
نائم همته، إما خوفا وفزعا من النار، أو رجاء وطمعا في الجنة، ومن لا تحركه جنة ولا نار، فهم أموات غير أحياء. هذا هو الأصل في الإنسان.
وقد يتحرك الإنسان وينشط بدافع ضرورات الحياة من مأكل، ومشرب، ومسكن، ومركب، وملبس. لكنها حركة ظاهرة شكلية لا تلبث أن تموت.
وقد يتحرك الإنسان حركة داخلية حية عميقة، هي حركة الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي أعلى الحركات، وأعظم علامات الحياة، حركة ذات همة وعزيمة، لا تخمد ولا تطفأ ما بقي في الإنسان أثر من حياة.
والعمل أي عمل يحتاج إلى صبر وتحمل لا يفتر، فهو معي ومرهق في الظروف المعتادة، فضلا عن ظروف الإنسان الكثيرة غير المعتادة. فإذا لم يكن الإنسان ذا همة عالية، وعزيمة صادقة، وإيمان قوي، ويقين ثابت بأن عمله لله، فقد يفقد الصبر والتحمل يوما من الأيام، فتخور عزيمته، وينفذ صبره، ويضعف جهده؛ لذا يجب تقوية إيمان العاملين بكل وسيلة، ورفع هممهم باحتساب العمل لله، لتقوى عزائمهم، ويقدروا على الصبر والتحمل.
كما أنه من الضروري لرفع قدرات العاملين أن نجعل لهم حوافز ومغريات تشد من أزرهم، وتدفع بهم إلى العمل بصبر وتحمل، ورغبة. وحوافز العمل ومغرياته كثيرة، ومختلفة باختلاف رغبات وتطلعات ونفسيات العاملين. وهذا الاختلاف في الرغبات والتطلعات والنفسيات، وغيرها، يستفيد منها مدير(62/187)
المصنع أو المعمل باستغلالها للدخول إلى نفسية العامل وانتشاله من الوهدة، ودفعه ليعمل بكل قوته وجهده.
أما الحوافز والمغريات العامة، فمنها ما هو مادي، ومنها ما هو معنوي:
أ- الحوافز والمغريات المادية: الحوافز والمغريات المادية، وهي أقل شأنا من المعنوية، ونذكر منها:
1 - المكافآت المالية المعينة لأنشطة معينة.
2 - رفع المرتب الشهري بناء على إنجازات معينة.
3 - تقديم بعض الهدايا للمتفوقين.
4 - إسهام المصنع أو الشركة أو المعمل في دفع بعض أجرة السكن، أو تأثيث بيت العامل المتقن لعمله.
5 - منح المتفوق في عمله سيارة يتنقل عليها، أو غير ذلك من الحوافز، حسب ما يناسب درجة التفوق.
ب- الحوافز والمغريات المعنوية: الحوافز والمغريات المعنوية ذات أثر أكبر، وبقاء أطول من المادية. فالمعنويات يسعد بها كثير من الناس وينشطون لها، ويطول بقاء أثرها في النفوس، فهي كلما خبت هبت. وهذا طرف من الحوافز والمغريات المعنوية:
1 - إسناد بعض المسئوليات في العمل إلى بعض المتميزين في العمل، تقديرا لهمتهم، وجهدهم.
2 - دعوة بعض المتميزين إلى الاجتماعات الخاصة بمناقشة إشكالات العمل، والاهتمام بآرائهم، واقتراحاتهم.(62/188)
3 - تزويد موقع عمل المتميز بما يرفع قدره، كتحسين التكييف الهوائي، وزيادة الإضاءة، ووضع أجهزة خدمة متميزة.
4 - يوكل إلى المتميز تمثيل الشركة أو المصنع، أو غيره في بعض المناسبات.
5 - استقباله من مدير المصنع أو المعمل، وشكره على جهوده القيمة، وإكرامه، وتشجيعه.
6 - إذا أبدع في اختراع، أو حل إشكال فني ذي بال، يخبر عنه في وسائل الإعلام، بما يناسب ذلك.
7 - دعوته إلى الحفلات والمناسبات الخاصة.
هذا وكثير غير ذلك مما يناسب كل واحد على انفراد، فإن لم يتيسر شيء من هذه الحوافز والمغريات، فلا أقل من حفظ حقوق الجميع، كل بحسب جهده. والله أعلم.(62/189)
المبحث الثالث: ضمان الإنتاج الكامل لكل عامل:
ضمان الإنتاج الكامل لكل عامل، مسألة تئن من تعصيها الأمم. فتحقيقها يحتاج إلى قدرة هائلة في توزيع العمال على الأعمال حين التخطيط، بتكافؤ وانسجام، من غير زيادة ولا نقصان.
والقيام بذلك يحتاج إلى إحاطة تامة بقدر العمل، وبقدر ما يحتاجه كل عمل من عمال مجتمعين أو متفرقين. والإحاطة التامة التي يجري بموجبها التقدير الدقيق، بحيث لا يزيد عمل على عامل ولا ينقص، أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن في ضرب المستحيلات.
وضمان الإنتاج الكامل لكل عامل أمر شديد الخطورة(62/189)
والأهمية في جميع ميادين العمل العامة والخاصة؛ لذا يجب فعل كل الأسباب لتحقيقه وضمانه، للاستفادة من طاقات المسلمين المهدرة. فإن أعدادا هائلة من عمال المسلمين لا ينجزون إلا النزر اليسير من واجباتهم. وإن أعدادا أخرى كبيرة من العاملين لا يكلفون إلا بأعمال لا تساوي شيئا بالنسبة لقدراتهم وطاقاتهم، وخاصة أولئك الذين يعملون في المؤسسات والأجهزة الحكومية.
وأسباب ذلك كثيرة، منها: العجز في التخطيط، وسوء التقدير، وعدم المساءلة والمحاسبة على ذلك كله، وغير ذلك من الأسباب التي لا يتسع المقام لذكرها.
إن تعطيل جزء كبير من القوى البشرية بهذه الطريقة لهو من مصائب المسلمين العظمى، حيث إن له آثارا سيئة بعيدة المدى، من أعظمها وأشنعها ظاهرة عدم جدية العمل عند المسلمين، على خلاف الحق والحقيقة التي يجب أن تقوم، فلا ينبغي أن يكون أحد أشد جدية وحرصا في العمل من المسلمين، الذين يعملون لأمر الله رب العالمين.
وإنه لتصحيح هذا الوضع الشاذ الخطير ينبغي أن نبدأ بإعادة النظر في حقيقة التخطيط العام، والخاص، فنحسنهما، ونحسن التقدير. ونعيد التخطيط، والتوزيع والغربلة لكل ما سبق تخطيطه، لنضمن النتاج الكامل لكل عامل. علاوة على متابعة نظام (التعقب، والعقاب، والثواب) الجاد الأمين. وتدخل تحت هذا الأمر جميع قوى الأمة العاملة، من أكبر المسئولين، والمدراء، والخبراء، والفنيين، وسائر الموظفين، والعمال العاديين. والله يسدد الجميع.(62/190)
المبحث الرابع: تطوير ورفع قدرات آلات الإنتاج:
لا ريب أنه لا حدود لتطوير ورفع آلات الإنتاج، لتبلغ أعلى درجات التصنيع، وهي درجة تصنيع آلات التصنيع، وهي ما يسمى بالصناعة الثقيلة. وهي السر العظيم الذي تحتكره اليوم الأمم الكافرة، وتتكتم عليه.
وإنه لمن هموم المسلمين وغمومهم أن لا يملكوا آلات الإنتاج المتطورة، وأن يلهثوا أبدا وراء الصناعات الغربية أو الشرقية، ليدفعوا لهم أموالهم الطائلة مقابل أن يحصلوا منهم على معدات قد انتهى زمنها، وضاق بها أصحابها، ويتمنون الخلاص منها بأي سبيل. معدات لا تفي بالاحتياجات، ولا تحقق أدنى الانتصارات. ورغم ذلك لا تعطى للمسلمين إلا بعد تكبيلهم بشروط، وأي شروط؟ شروط تضمن الذل، واستمرار التخلف، والتبعية. وإن المسلمين بأموالهم الضاربة، وقدراتهم الواسعة، وخيرات بلادهم الوافرة، ودوافع العمل وأهدافه السامية، لأولى الناس بامتلاك أقدر المعدات وأعلاها، تأسيسا وتطويرا.
ولا عذر لهم بوجه، ولا حجة لهم في القعود دون هذا الواجب، الذي يتعين على أهل القوامة منهم أن يتبنوه بقوة، ويفرضوه في كل حين. فالمسلمون يملكون - يقينا - مقومات الصناعة الثقيلة، على اختلاف أنواعها وأغراضها، وما ينقصهم سوى الجد والعزيمة، ووحدة الكلمة.
ولو لم يملك المسلمون إلا المال وحده لانفتح لهم به ألف طريق بإذن الله تعالى لتملك سر الصناعة المصنعة لآلات التصنيع (الصناعة الثقيلة) التي بها ترتفع الرؤوس، ويدحر الباطل، ويحق الحق.(62/191)
الباب الثاني: أحكام العمل:
من الأعمال ما هو واجب، ومنها ما هو مندوب إليه، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو محرم. ثم هل يكون العمل سببا في ترخص بعض العاملين في بعض الفرائض؟ هذا ما أتكلم عنه في تمهيد، وستة فصول:
التمهيد: هل يلزم العلماء بيان أحكام كل شيء.
الفصل الأول: العمل الواجب.
الفصل الثاني: العمل المندوب إليه.
الفصل الثالث: العمل المباح.
الفصل الرابع: العمل المكروه.
الفصل الخامس: العمل المحرم.
الفصل السادس: هل يترخص العاملون بالعمل في شيء من الفرائض.
التمهيد: هل يلزم العلماء بيان أحكام كل شيء:
ليس هناك قضية ولا مسألة صغيرة ولا كبيرة في أمر دين أو دنيا، إلا ولها حكم في شرع الله، فشرع الله محيط بأحكام الحوادث إلى أن تقوم الساعة (1) . وقد بذل العلماء جهودا عظيمة لاستخراج هذه الأحكام من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعموم أدلة الأحكام، ومقاصد الشرع. فعرض الفقهاء المسائل والقضايا الواقعة، وبينوا أحكامها تعميما وتخصيصا.
__________
(1) ينظر: إعلام الموقعين لابن القيم (1 \ 337) .(62/192)
ووضعوا مسائل وقضايا متصورة وغير واقعة، وبينوا أحكامها بأدلة الشرع النصية، وغير النصية، من قياس، وقواعد عامة، وغيرها. وعلماء كل عصر مسؤولون عن دراسة ما يجد في عصرهم من مسائل وأحداث، وبيان أحكامها الشرعية، وفقا لهذه الدراسة وما نتج عنها من تصور. ولا يعذرون في عدم التفقه في مسائل عصرهم أيا كانت هذه المسائل: مالية، أو اجتماعية، أو تعليمية، أو إعلامية، أو سياسية، أو غيرها.
ولا يصح ولا يتصور أن يقول أحد: إنه قد تستعصي على الفقهاء بعض المسائل؛ ذلك أنه ما من مسألة يجتمع لها الناس، فيدرسونها، ويعرفون حقيقة أمرها إلا وسيجدون حكمها في كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو القياس الصحيح، أو قواعد الشريعة العامة ومبادئها. فأحكام الشرع محيطة بلا ريب بقضايا كل عصر وأحداثه إحاطة عمومية وتفصيلية، على مر العصور، والدهور، وتجدد الأحداث.
على أنه لا يجوز أن تحمل النصوص، وسائر أدلة الأحكام فوق ما تحتمله، لإقرار حكم في مسألة حادثة، بحيث يتوسع في دلالتها بغير دليل ظاهر، كما أنه لا يجوز أن تضيق دلالتها، فيحجر على بعضها؛ نصرة لمذهب معين، أو رأي معين، أو مصلحة خاصة.
وإنما يجب التعامل مع النصوص ودلائل الأحكام الشرعية بمقتضى الفهم الصحيح المجرد عن أي هدف أو غرض، غير هدف وغرض معرفة حكم الله في المسألة. والخطأ محتمل في آراء العلماء واجتهاداتهم، ولكنه منتف تماما عن أدلة الشرع. فقد يستدل بعض العلماء(62/193)
لمسألة أو حادثة بدليل شرعي وهو لا يدل عليها، وذلك لأسباب كثيرة بعضها مشروع، فهو معذور في خطئه، وبعضها غير مشروع، فهو غير معذور (1) فالاستدلال بالأدلة الشرعية يحتاج إلى التجرد التام عن أي رغبة في إثبات الحكم أو نفيه، كما يحتاج إلى فقه في النصوص والأدلة الشرعية، إلى فقه جامع غير مبتور، كما يحتاج إلى فقه المسألة التي يراد بيان حكمها، ودراستها من كل جانب؛ ليكون الحكم صادرا عن تصور صحيح متقن.
ويلزم العلماء بيان أحكام الأشياء التي تحتاج إلى بيان، وتبليغها للناس بوسائل التبليغ: من إعلام، وتعليم، ودروس، ومحاضرات، ودورات، وخطب، ومواعظ، وكتب، ونشرات - وليس المقصود الإحاطة بدقائق الأشياء- وإنما ما جاء من أحداث يجهل الناس أحكامها، ويتعاملون معها على جهل وتخرص.
ومن هذه الأمور التي تطورت في العصر الحديث واحتاجت إلى بيان أحكامها المختلفة: العمل. والعمل لا حدود لأنواعه، ويدخله أكثر الناس على جهل بأحكامه، سواء كان يدويا أو غير يدوي، ويعتقدون أن مجرد سكوت العلماء عن أحكام هذه الأعمال إباحة لها، وهو خطأ فادح. فإن من الأعمال ما هو واجب، ومنها ما هو مندوب إليه، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو محرم، ولو سكت عنه العلماء. وهذا ما أسعى لبيانه ما استطعت، إسهاما مني، وخطوة أولى على الطريق، يتبعها- إن شاء الله-
__________
(1) ينظر: رفع الملام عن الأئمه الأعلام لابن تيمية (27، 28) .(62/194)
خطوات ممن هو أعلم مني وأفقه، حتى يقوم صرح الأحكام الشرعية لمختلف الأعمال، بدقة وإتقان، ويكون الناس على بصيرة في ما يأتونه من أعمال. وأسأل الله الهدى والبصيرة والسداد.(62/195)
الفصل الأول: العمل الواجب:
متى يجب العمل؟ هذه مسألة صعبة تحتاج إلى تقدير سبب الوجوب تقديرا صحيحا، صادرا عن علم بما يحققه هذا العمل من مصالح حيوية، وما يترتب على تركه من مفاسد وأخطار وأضرار تلحق بالأمة.
والعمل منه ما هو فرض عين على كل قادر عليه من الناس، ومنه ما هو من فروض الكفايات، ومنه ما هو فرض عين على أشخاص بأعيانهم؛ بسبب تميزهم بأمر يحتاجه المسلمون. فالعمل الواجب على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: العمل الواجب على كل قادر عليه من الناس: هذا هو أوسع الأعمال الواجبة، وهو العمل من أجل طلب المعاش. وهو واجب على كل قادر عليه؛ لأن تحصيل المعاش ضمان لبقاء الحياة، وإبقاء الحياة واجب على كل أحد.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في الوعيد والذم لقاتل نفسه، من ذلك:
1 - حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الجنائز) باب (37) ترك الصلاة على القاتل نفسه (2 \ 11) . والنسائي في سننه - كتاب الجنائز (4 \ 66) .(62/195)
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا (1) » .
ثم إن ما افترضه الله على عباده لا يقوم إلا بالحياة التي قوامها المعاش، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
__________
(1) أخرجه النسائي (كتاب الجنائز باب (37) ترك الصلاة على من قتل نفسه (4 \ 66) .(62/196)
الضرب الثاني: أعمال الواجب الكفائي: وهي الأعمال التي إذا قام بها بعض الناس سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم بها أحد أثم الجميع. والمراد بالجميع ليس جميع أفراد الأمة، وإنما أهل الاختصاص في كل عمل، إن كان له أهل اختصاص، أي من لديه أهلية للقيام بهذا العمل (1) ، وعلم بتعطله. فإن لم يكن لهذا العمل أهل اختصاص ولم يقم به أحد أثم الجميع الذين يعلمون بتعطله، ويمكنهم أن يقوموا به فلم يفعلوا.
وفروض الكفايات كثيرة، منها ما هو خاص بالعبادات، ومنها ما هو خاص بمتطلبات الحياة، ومنها ما هو من المشتركات. فمن الواجبات الكفائية:
1 - الزراعة التي تحتاجها الأمة في المعاش: فيجب أن تقوم فئة من الناس بالزراعة، بما يسد حاجة المسلمين، فإن لم
__________
(1) تنظر: الموافقات للشاطبي (1 \ 176) .(62/196)
يقم بهذا المقدار أحد، أثم القادرون العالمون بالحال.
2 - الصناعة: لا تستغني الأمة عن الصناعة في أي حال، فبها تسد الحاجات، وتدفع الأضرار، ويرفع لواء الجهاد في سبيل الله. فإن لم يقم بالصناعة من يفي بهذه الالتزامات أثم كل قادر، عالم بالحال، وكذلك أهل الحل والعقد من المسلمين.
3 - التجارة: لا بد لتجارة المسلمين من ترويج، وتنشيط؛ لتقوم بدورها في خدمة الناس على الوجه الصحيح، الموافق لشرع الله. فإذا لم يقم أحد بالتجارة، وتعطلت مصالح الناس، أثم كل قادر على التجارة، عالم بتعطيلها.
4 - ولاية أمر المسلمين ورعاية مصالحهم: هذا واجب لا يقوم الأمر إلا به، فإذا لم يتول أحد أمر المسلمين، ولم يرع أحد مصالحهم، أثم أهل الحل والعقد من المسلمين.
5 - طلب العلم والتفقه في الدين: يجب على بعض الناس أن يتعلموا العلم، ويتفقهوا فيه؛ ليعلموا الناس دينهم، ويقضوا بينهم، ويفتوهم في مسائلهم. فإذا تعطل هذا الأمر، أثم كل قادر على ذلك.
6 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: على القادرين من أهل العلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يفعل أحد ذلك، أثم كل قادر عليه، وأهل الحل والعقد فيهم.
7 - الجهاد في سبيل الله: الجهاد في سبيل الله إحدى فرائض الله التي يجب أن تقوم أبدا ولا تتعطل، فإذا تعطلت في(62/197)
أحد الأزمان أثم كل قادر على الجهاد إذا أمكنه فلم يفعل، كما يأثم كل من تسبب في تعطيله.
8 - خدمة المسلمين في مختلف الشؤون: هذه من الواجبات التي لا تقوم أمور المسلمين إلا بها. فإذا لم يقم عدد كاف من الناس بالخدمات العامة، وتعطلت مصالح الناس، أثم كل قادر على الخدمة (الوظيفة) إذا دعي إليها فأباها. إلى غير ذلك من الواجبات الكفائية.
أدلة هذا الضرب: يدل على هذا الضرب أدلة كثيرة منها:
1 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1) .
2 - قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) .
ففي الآيتين وما ماثلهما من الآيات دلالة على أنه لا يمكن أن يوجه الناس جميعا لأداء عمل معين، بل إذا قام به من يحصل به المطلوب سقط الواجب عن بقية القادرين عليه. ويدل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يندب لكل مهمة أقدر الناس عليها، في الولايات، والجهاد، وسائر المهمات. وكذلك فعل أصحابه من بعده.
__________
(1) سورة التوبة الآية 122
(2) سورة آل عمران الآية 104(62/198)
الضرب الثالث: العمل الواجب على أشخاص بأعيانهم:
يتعين العمل على أشخاص بأعيانهم؛ لتميزهم بقدرات وكفاءات خاصة، لا يستغنى عنها، ولا تتوفر في الآخرين، مما يحتاج الناس إليه في مختلف الشؤون.
فالفقية العالم الذي لا يقوم أحد مقامه في فقه المسائل والأحداث، يتعين عليه تولي بيان الأحكام والفتيا فيما ينتاب الأمة في عصره من أحداث وقضايا. وصاحب الرأي والبصيرة في السياسة والعلاقات ومكر الأعداء، يتعين عليه العمل على كشف أسرار الأعداء، وتخطيطاتهم، ومكرهم، وطريقة التصدي لهم.
والخبير بأسرار التصنيع المتمكن من التقنية، يتعين عليه إعمال كل ما يستطيع في خدمة التصنيع، وتطويره، ليسد حاجة المسلمين، ويحمي ديارهم، وأموالهم، وأعراضهم.
والخبير المتميز في الزراعة، يجب عليه العمل ويتعين، ليرفع من قدرات مزارع المسلمين. والطبيب النابغ في أي جانب من جوانب الطب، يتعين عليه العمل في مجال نبوغه؟ لعلاج مرضى المسلمين، وكشف أدوائهم. والتاجر الماهر الأمين، يتعين عليه العمل، لفتح أبواب رائجة لتجارة المسلمين، ترويجا لبضائعهم، وتنشيطا لاقتصادهم. وهكذا كل صاحب كفاءة متميزة يتعين عليه العمل بكفاءته؛ لخدمة أمة المسلمين.
أدلة هذا الضرب: يدل على تعين العمل على أشخاص بأعيانهم: الكتاب، والسنة، والعقل.
أما من الكتاب: فقد دلت آيات كثيرة على ذلك منها.(62/199)
1 - قوله تعالى. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) .
وجه الاستدلال بالآية: يتوعد الله الذين يكتمون العلم بلعن من الله وفي اللاعنين، وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتبليغه، وبيان الأحكام الشرعية التي يحتاجها الناس في دينهم ودنياهم.
وما يحتاجه الناس من كل مختص بخبرة خاصة أو قدرة خاصة، هو كذلك، أي أنه يجب عليه أن يبذل هذه الخبرة أو القدرة الخاصة لنفع المسلمين، وإلا فقد كتم علما علمه الله إياه بغير حق.
2 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (2) {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (3) .
وجه الاستدلال بالآية: ذم الله تعالى وتوعد المختال الفخور، الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل، ويكتم ما آتاه الله من فضله. فالعالم المتمكن في شرع الله، والمهندس الماهر، والطبيب الحاذق، وصاحب الرأي والمشورة، والخبير بأسرار التصنيع، وصاحب الكنوز والأموال، وما ماثلهم من المتميزين في مختلف المجالات، هم من أولئك الذين آتاهم الله من فضله، وتوعدهم إن لم يعملوا به، فتعين عليهم العمل، فإن هم عملوا ولم يكتموا ولم يبخلوا ولم يختالوا ولم يفخروا بما آتاهم الله من
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة النساء الآية 36
(3) سورة النساء الآية 37(62/200)
فضله، بل أظهروه وبذلوه ونصروا به أمر الله، حمدا له على فضله، فقد أدوا واجبهم المتعين عليهم، وإلا فلا.
ومن السنة:
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (1) » .
وجه الاستدلال بالحديث: توعد الله كاتم العلم بعد سؤاله بلجام من نار يوم القيامة. وصاحب الخبرة والقدرة الخاصة في أي جانب من جوانب حياة المسلمين، إذا دعي لأدائها فأبى، فقد كتم علما آتاه الله إياه، والمسلمون في أشد الحاجة إليه، فيكون ممن توعده الله بالعذاب. وأمور الدنيا تقيم أمور الآخرة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجب على أولئك المختصين العمل باختصاصاتهم.
2 - حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (2) » .
وجه الاستدلال بالحديث: أمر رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه أبو داود (بذل المجهود في حل أبي داود) (كتاب العلم) باب كراهية منع العلم. (15 \ 344) ، وأخرجه الترمذي في سننه (كتاب العلم) باب ما جاء في كتمان العلم (5 \ 29) وقال عنه: حديث حسن. وله طرق أخرى عن جابر، وابن عمرو.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب السلام) باب (21) أستحباب الرقية من العين، والنملة، والحمة، والنظرة (4 \ 1726) .(62/201)
وسلم أن ينفع المسلم أخاه المسلم، وصاحب الخبرة والقدرة المختص، لا ينفع مسلما واحدا، وإنما ينفع جميع المسلمين بخبراته وقدراته، بل قد يدفع عنهم أضرارا بالغة، وأخطارا جسيمة، بعلمه وخبرته وقدرته المتميزة، فالأمر متجه إليه من باب أولى أن يعمل بعلمه.
دليل العقل: بالنظر المتمعن، والفكر المتبصر في توظيف قدرات الإنسان الخاصة، فيما يعود عليه بالنفع، لا يجد الإنسان خيرا من أن يضعها فيما يقيم أمر الله، حيث يعود عليه ذلك بالنفع العظيم في الدنيا والآخرة، إذا هو احتسب الخير بذلك.
فالنظر الصائب يقتضي وجوب العمل وتعينه على أصحاب القدرات الخاصة، والكفاءات المتميزة؛ استثمارا لها في أفضل وآمن مجالات الاستثمارات.(62/202)
الفصل الثاني: العمل المندوب إليه:
للندب معان متعددة في اللغة، من هذه المعاني: ندب يندب ندبا، وندبه لأمر فانتدب له: إذا دعاه له فأجاب (1) . وعند الأصوليين له تعاريف كثيرة من أنسبها قولهم: "هو ما في فعله ثواب ولا عقاب في تركه" (2) . وقولهم: "هو الفعل المقتضى شرعا من غير لوم على تركه" (3) .
__________
(1) ينظر. مختار الصحاح للرازي (475) .
(2) روضة الناظر لابن قدامة (1 \ 113) .
(3) البرهان للجويني (1 \ 310) .(62/202)
والعمل المندوب إليه الذي نحن بصدده مجاله واسع، ولا يمكن حصره أو تحديده، إلا أنه يمكن وضع قواعد عامة وضوابط لبعض هذه المندوبات، فمن ذلك مثلا:
ا- كل عمل مشروع في أي جانب من جوانب الحياة ينتفع المسلمون به، وليس بواجب، فهو مندوب إليه. فالتوسع في مجالات الزراعة، أو تطوير آلاتها ومعداتها مما ينتفع الناس دون الضرورة والحاجة، عمل مندوب إليه، وكذلك في مجالات الصناعة، وغيرها من الأعمال التي يجب فيها حد الكفاية.
2 - الزيادة في جودة المنتوجات، وإتقانها، مما يرغب الناس فيها، ويروجها، ويزيد من نفعها، عمل مندوب إليه.
3 - كل عمل واجب في كله، فهو مندوب في جزئه فالزراعة، والصناعة، وإنماء الثروة الحيوانية، والتجارة، وسائر الحرف، وغيرها مما لا تقوم حياة الأمة إلا به، واجب في كله مندوب إليه في جزئه. أي أن عموم الزراعة ونحوها مما تقوم به الضرورات والحاجات، يجب العمل على قيام كله، ويندب إلى إقامة جزء منه لا يعتمد عليه قيام الكل (1) .
4 - كل عمل مكمل للواجب، تكميلا ليس لازما، فهو مندوب إليه، وكذلك كل مزين له.
5 - كل عمل لا يقوم المندوب إليه إلا به، فهو مندوب إليه.
__________
(1) ينظر: الموافقات للشاطبي (1 \ 132، 133) .(62/203)
6 - كل عمل فيه إعانة لأحد المسلمين، في أي جانب، دون ضرر على الآخرين، فهو مندوب إليه.
7 - كل عمل فيه رفع حرج عن بعض المسلمين، فهو مندوب إليه.
8 - كل عمل فيه مصلحة لذي القربى، فهو مندوب إليه. وكل ما شابه ذلك فهو كذلك.(62/204)
الفصل الثالث: العمل المباح:
المباح عند أهل اللغة ضد المحظور عليه، فأمره واسع غير مضيق (1) . والمباح عند الأصوليين " هو ما رفع الحرج عن فعله وتركه " (2) .
والعمل المباح هو أوسع الأعمال على الإطلاق، فالأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على منعه؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) والعمل داخل في عموم الإباحات، وما كان منه واجبا، أو مندوبا إليه، أو مكروها، أو محرما، فذلك لعلة جعلته كذلك. وقد يتحول العمل المباح في أصله إلى أحد الأحكام الأربعة الأخرى، وهي: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم، لسبب أو آخر. وقد يكون العمل
__________
(1) ينظر: معجم مقايس اللغة لابن فارس (1 \ 315)
(2) ينظر: المستصفي للغزالي (1 \ 75) .
(3) سورة البقرة الآية 29(62/204)
مباحا في جزئه، واجبا، أو مندوبا إليه، أو مكروها، أو محرما في كله (1) .
وبناء على ما تقدم فإن الأعمال المباحة لا تحد، ولا تحصى، ولا تعد، وأكثر ما في الأمر أن نضرب لها بعض الأمثلة العامة، فمن الأعمال المباحة مثلا:
1 - كل عمل ليس فيه مضرة على المسلمين ولا إساءة ولا فساد، فهو عمل مباح، سواء كان من المحسوسات أو الفكريات.
2 - كل عمل ينتج ما يزيد على حاجة المسلمين، من غير نفع حاضر، ولا تحسب لحاجة أو نفع مستقبل، وليس فيه ضرر عام ولا خاص، فهو من المباحات.
3 - كل عمل ليس في الضرورات، ولا الحاجيات، ولا التكميلات، ولا التحسينات، فهو مباح ما لم تكن فيه مضرة على أحد، أو مفسدة.
3 - كل عمل آلي أو فكري، فيه منفعة تخص صاحبها وحده ولا تتعداه، وليس فيه مضرة عامة ولا خاصة، فهو مباح.
وكل ما ماثل ذلك فهو كذلك.
مسألة: ينبغي أن يلاحظ أن الأعمال المباحة في زمن، أو في حال، قد تتحول بسرعة، ودون أن يشعر صاحبها، إلى أحد الأحكام الأخرى، فقد ترقى إلى المندوبات، أو إلى الواجبات.
__________
(1) ينظر: الموافقات للشاطبي (1 \ 130- 136) .(62/205)
وقد تسقط إلى المكروهات، أو المحرمات فيجب على صاحب العمل أن يتابع مسيرة عمله وما يترتب على هذا العمل من خير وشر، ويحذر كل الحذر من الغفلة عن ذلك، حتى لا تسقط أعماله في المكروهات أو المحرمات، وهو لا يشعر.(62/206)
الفصل الرابع: العمل المكروه:
الكره (بضم الكاف وفتحها) لغتان، بمعنى (الإباء) .
يقال: كره يكره كرها (بالفتح والضم) وكراهة، وكراهية (بالتخفيف والتشديد) وهو ضد الرضا والمحبة.
وعند الأصوليين، المكروه هو: "ما زجر الشارع عنه ولم يلم على الإقدام عليه" (1) . وقيل هو: "ما تركه خير من فعله (2) وعند الفقهاء هو: "ما يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله " (3) .
ويصعب حصر العمل المكروه وبيان أعيانه، كما يصعب أحيانا تميزه من المباح، وخاصة من أولئك الذين ليس لهم دراية في الفقه من أصحاب الأعمال، ولا يعرضون أعمالهم على الفقهاء؛ لذا سوف أجتهد في وضع بعض الضوابط والمعايير
__________
(1) البرهان للجويني (1 \ 313)
(2) روضة الناظر لابن قدامة (1 \ 123) .
(3) الروض المربع بحاشية ابن قاسم (1 \ 63) .(62/206)
العامة لأنواع من المكروهات فيما يأتي:
ا- يكره من الأعمال كل ما يتعارض مع الأخلاق، والقيم، والعادات الحسنة.
2 - يكره من الأعمال كل ما يتعارض مع المندوبات.
3 - يكره من الأعمال كل عمل يبدد ثروات المسلمين، دون فوائد محققة.
4 - يكره من الأعمال كل عمل قد يؤدي إلى التحلل، أو الترف.
5 - يكره من الأعمال كل ما يعيق الأعمال الواجبة.
6 - يكره من الأعمال ما يؤدي إلى المكروهات.
7 - يكره من الأعمال ما يضيق على الناس معاشهم، أو يحتكر مصدر أرزاقهم.
8 - يكره من الأعمال كل عمل يستغل صاحبه حاجة الناس، وعجزهم.
9 - يكره من الأعمال كل عمل قد يثير النعرات، أو الحزبيات والتعصبات.
10 - يكره من الأعمال كل عمل يشارك الكفار في إنجازه، من غير ضرورة.
11 - يكره من الأعمال كل عمل يضر بالناس في دينهم أو دنياهم أكثر مما ينفعهم.
12 - يكره من الأعمال ما يضيع على الناس أوقاتهم وحياتهم دون جدوى.(62/207)
13 - يكره من الأعمال كل عمل يغرر بالناس ويغويهم، ويشغلهم فيما لا يعنيهم.
وقس على ذلك كل ما ماثله.(62/208)
الفصل الخامس: الأعمال المحرمة:
التحريم ضد التحليل. يقال: حرم يحرم حرمة، وتحريما، وهو المنع والتشديد، ومنه قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (1) وأحرمه الشيء إذا منعه إياه (2) ، وعند الأصوليين التحريم هو: " ما زجر الشارع عنه ولام عليه" (3) وقيل هو: " الخطاب المقتضي للترك اقتضاء جازما" (4) .
والأعمال المحرمة كثيرة، وقد تعم جوانب متعددة من تصرفات الإنسان المادية والفكرية. فمن أمثلة الأعمال المادية المحرمة ما يكون في الزراعة، كزراعة المخدرات، وما يقصد بزراعته صناعة الخمور، ورش الخضروات بالمبيدات وتقديمها للناس قبل مضي المدة المقررة لذهاب أثر المبيد، والإسراف في تنشيط الزراعة بالكميائيات، من غير مراعاة للحد الأعلى المباح لاستعماله، حيث إنه غش ينتج عنه أمراض خطيرة لكثير من الناس.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 95
(2) ينظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2 \ 45) ، ومختار الصحاح للرازي (106) .
(3) البرهان للجويني (1 \ 313) .
(4) مختصر صفوة البيان (شرح منهاج الأصول) للبيضاوي (1 \ 9) .(62/208)
وما يكون في الصناعة، كصناعة المخدرات، وسائر المطعومات المحرمات، وصناعة السلاح لتغذى فيه فتنة بين المسلمين، وصناعة الآلات المحرمات، كأقراص استقبال بث الأقمار الصناعية، الداعية إلى الفجور والانحراف.
وصناعة التماثيل، ورسوم ذات الأرواح، والرسوم المتحركة المعدة للعرض في الأجهزة المرئية (أفلام كرتون) . وصناعة الأجهزة الضارة، أو المستخدمة في تضليل المسلمين. والغش في التصنيع على اختلاف أنواعه: من بخس المادة المطلوبة، أو استبدالها بما دونها، أو خلطها بغيرها، وغير ذلك مما يضعف الآلة المصنعة، أو يحد من قدرتها المطلوبة.
ومما يحرم، عمل المختصين المتميزين من المسلمين لدى الكفار، سواء في الصناعات العسكرية أو المدنية، أمكنهم العمل لدى المسلمين أو لم يمكنهم؛ لأنهم بعملهم المتميز ينصرون الكفار ويخذلون المسلمين. ونحو ذلك من الأعمال الصناعية المحرمة التي يفوت حصرها.
ومن الأعمال المحرمة ما يكون في التجارة، كتجارة تفسد على المسلمين دينهم، أو دنياهم، ومعرفة ذلك من مسئولية التاجر، فلا يحل له أن يتاجر إلا بحدود ما يعرف حله. فتجارة الربا من أعظم المحرمات، التي يجب على التاجر معرفة تجنبها.
وكذلك تجارة المخدرات والخمور. كما يحرم الاتجار بالكف، والمجلات، والصحف الخليعة، أو الداعية إلى بدع وخرافات، أو الناشرة لآراء الكفر والإلحاد. وعموما فكل تجارة تعز الكفار(62/209)
وتخذل المسلمين في دينهم أو دنياهم فهي محرمة.
وفي الأعمال الفكرية: يحرم كل عمل فكري يضر بالمسلمين في دينهم، أو أخلاقهم، أو قيمهم وعاداتهم، من تأليف كتب في ذلك، أو مقالات في صحف سيارة، أو مجلات دورية، أو نشرات، أو محاضرات، أو ندوات، أو لقاءات عبر وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة، أو مؤتمرات، أو غير ذلك من بث الأفكار والآراء والدعوات الجانحة عن الحق، كل ذلك من أعظم المحرمات، فليس هناك أضر بالدين والأخلاق والقيم، من نشر أفكار المبطلين في هذه المجالات بصورة شيقة، وعرض مغر.
ومن عموم المحرمات في الأعمال تلك التي لا تبالي بشعائر الدين، فلا تأخذ مثلا لأوقات الصلوات المفروضة اعتبارا، من حيث صلاة العاملين جماعة، وتفريغهم محل صلاة. من أعظم المنكرات في الأعمال أن لا يعبأ كثير من أرباب الصناعات والأعمال الكبيرة بشعائر المسلمين وقيمهم وعاداتهم، كما يحدث في المواصلات البرية والبحرية والجوية في غالب بلاد المسلمين، حيث لا يعبأون بتعارض أوقات الرحلات مع كثير من العبادات من صلاة، وصيام، وغيره. ولا يعدون مراكبهم بما يخدم المسلمين، ويأخذ شعائرهم بعين الاعتبار، فلا يهيئون أماكن لأداء الصلاة المكتوبة في هذه المركبات، رغم بقاء الراكب فيها لعدة أوقات من الصلوات المكتوبات، وكذلك عدم مراعاة وقت الفطور والسحور في رمضان، وغير ذلك"مما يتحتم على وسائل المواصلات الإسلامية المختلفة تهيئة وتوفيره للمسافرين المسلمين.(62/210)
الأدلة الشاملة لكل ما سبق ذكره، وغيره من الأعمال المحرمة: دل الكتاب، والسنة، وقواعد الشرع العامة وكلياته على تحريم ما ذكر، وما يماثله من المحرمات في الأعمال.
فمن الكتاب:
1 - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} (1) . فهذا أمر من الله تعالى عام؛ لإقامة كل ما أمر الله به، واجتناب كل ما نهى عنه، فكل عمل يخالف هذه الآية فهو محرم.
2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) ، فهذه الآية تحرم كل عمل فيه خيانة لدين الله، على اختلاف أنواع الخيانات كما تحرم الخيانة في الأمانات على اختلاف أنواعها.
3 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) ، وهذه الآية تحرم جميع الأعمال الموالية للكفار.
4 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) . تحرم هذه الآية كل عمل يقوم على الغناء والمزامير، وكل عمل يضل
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
(2) سورة الأنفال الآية 27
(3) سورة المائدة الآية 51
(4) سورة لقمان الآية 6(62/211)
الناس ويغويهم، ويضيع أوقاتهم.
5 - قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (1) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) ، تبين هذه الآيات أعمال فئة من الناس، تدعي الدين والصلاح، حتى إذا تمكنت من الأمر عاثت في الأرض فسادا، فقتلت، وسلبت، وأفسدت، وإذا ذكرت بالله هاجت وثارت وانتصرت لنفسها.
6 - قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) ، يقسم الله تعالى بالزمان الذي تقع فيه أعمال بني آدم أن الإنسان في خسر إلا الذين آمنوا بالله وعملوا أعمالا صالحة، وتواصوا بإقامة الحق وبالصبر عليه.
7 - قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) ، ينهى الله تعالى في هذه الآية عن أكل أموال الناس بالباطل، وتلفيق الحجج الباطلة لغلبة أصحاب الحق، ومن ذلك كل عمل فيه غش أو خيانة، أو استغلال لحاجة الناس.
__________
(1) سورة البقرة الآية 204
(2) سورة البقرة الآية 205
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة البقرة الآية 188(62/212)
8 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) ، في هاتين الآيتين يأمر الله عباده المؤمنين بترك الربا ويربط ذلك بالإيمان، وينذرهم بالحرب من الله ورسوله. وفيه الدلالة على التحريم القاطع للربا. فكل عمل يدخله الربا فهو محرم وممقوت.
9 - قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (3) ، يذم الله تعالى الذين تلهيهم أعمال التجارة عن فرائض الله بثنائه على ضدهم.
10 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) ، يأمر الله تعالى عباده في هذه الآية بتقواه والعمل المقرب منه، من جهاد في سبيله، وإقامة أمره، والانتهاء عن نهيه، والنصح لهذا الدين.
11 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (5) ، يأمر الله في هذه الآية بتقواه وبالصدق، فيحرم الكذب في الأقوال والأعمال.
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة النور الآية 37
(4) سورة المائدة الآية 35
(5) سورة التوبة الآية 119(62/213)
12 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) ينهى الله تعالى في هذه الآية عن اتباع خطوات الشيطان، حيث إنه يأمر بالفحشاء والمنكر. وكل عمل يخالف نصوص الشرع أو قواعده، فهو اتباع لخطوات الشيطان، فهو محرم.
فهذه الآيات وما يماثلها تدل على تحريم الأعمال السابقة الذكر، وغيرها من الأعمال المخالفة لشرع الله تعالى.
ومن السنة:
1 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من غشنا فليس منا (2) » وفي رواية: «من غش فليس مني (3) » ، ففي هذا الحديث تحريم الغش على اختلاف أنواعه، فكل عمل دخله الغش فهو محرم.
2 - حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في البيعين: «فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (4) » ، أخبر -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن الغش في الأعمال من
__________
(1) سورة النور الآية 21
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب (43) قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: '' من غشنا فليس منا '' (1 \ 99) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب (43) قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: '' من غشنا فليس منا '' (1 \ 99) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب البيع) باب (22) ما يمحق الكذب والكتمان في البيع (3 \ 11) .(62/214)
بيع ونحوه، بالكذب وكتم العيوب، سبب لمحق البركة. وهو عقاب لا يكون إلا على فعل محرم.
3 - حديث عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان (1) » ، في هذا الحديث تحريم العمل على تفريق الأمة، سواء كان ذلك بالمزاولة الفعلية أو الفكرية.
4 - حديث أبي رقمة تميم بن أوس الداري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم (2) » ، في هذا الحديث أن النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم هي عماد الدين، ومن خانهم فلم ينصح لهم في أي أمر من أمورهم، أو عمل من أعمالهم، فقد أخل بدينه، والإخلال بالدين من أعظم المحرمات.
5 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة باب (14) حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع (3 \ 1479) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) باب (3) ببان أن الدين النصيحة (1 \ 74) .(62/215)
المسلم (1) » في هذا الحديث العظيم تحريم أي نوع من أنواع الخيانة والخذلان للمسلمين وتحريم الكذب عليهم، سواء كان ذلك في الأعمال الجليلة أو اليسيرة.
ونكتفي بذكر هذا القدر اليسير من الأحاديث الكثيرة، التي كلها تدل على تحريم الأعمال المنكرة التي سبق ذكرها، وما ماثلها مما يضر بالمسلمين في دينهم أو دنياهم.
أما القواعد العامة: فإن قواعد الشريعة العامة وكلياتها تدل على تحريم أي عمل يضر بالمسلمين في دينهم أو دنياهم، وما ذكرته آنفا، وما ماثله من الأعمال الضارة بالمسلمين مما لم أذكره هو محرم وفقا لذلك.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (كتاب؟ البر والصلة) باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (4 \ 325) ، وقال عنه. هذا حديث حسن غريب.(62/216)
الفصل السادس: هل يترخص العمال في شيء من الفرائض بسبب العمل؟ .
لم ترد رخص الشرع في شيء من الفرائض إلا في أحوال معينة كالسفر، والمرض، والخوف، والعجز بالكبر، وشدة البرد والرياح، أو ظلمة الليل والمطر والزلق. أما الترخص بسبب العمل في أي فرض من الفروض، بأي لون من ألوان الترخص، فلا أصل له، ولم يقل به أحد من علماء السلف أو الخلف، وإنما ظهرت في الآونة الأخيرة دعوة إلى ذلك من جهلة لم يعرفوا الشرع، ولا أحكامه، فهو قول على الله بغير علم، وكذب وافتراء(62/216)
عليه بمجرد الهوى، فهو قول باطل من أصله كسائر دعوات الضلال الباطلة في مختلف العصور.
وهذا الرأي لا يستحق العرض، ولا المناقشة، ولا النظر فيه، لسقوطه، وعدم اعتباره، وقد كبته الله والحمد لله. ولكن حيث إن الكلام هنا عن العمل والعمال في عصرنا الذي عم فيه الجهل بأحكام الشرع، وقل من يسأل عنها فضلا عن أن يتعلمها، وقد تلتبس هذه الدعوى على بعض الناس فيظنونها يوما من الأيام حقا يقوم على أدلة شرعية، وذلك لبعد كثير من الناس عن الحق، وعن أدلة الشرع، وعدم قدرتهم على البحث للتحقق من صحة هذا القول أو فساده. لهذا كله ذكرت هذه المسألة من باب الحيطة، ودفع الالتباس عن الناس، وحتى الجهاد الذي هو من ألزم الأعمال للإسلام لم يبح الله ترك الصلاة فيه، بل نظمت صلاة الخوف لتؤدى على وجهها. ونصوص الكتاب والسنة صريحة في رد هذا القول وإبطاله.
فمن الكتاب:
1 - قول الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (1) .
2 - وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) ففي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة الأنعام الآية 144(62/217)
هاتين الآيتين رد لكل قول أو فعل لا يعتمد على دليل من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو قواعد الشرع. ومن ذلك القول بترخص العمال في شيء من الفرائض بسبب العمل.
3 - قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (1) {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وصف الله تعالى من يقول على الله بغير علم أنه كاذب مفتر خائب مقبل على عذاب أليم. ومن يقول بترخص العمال قائل على الله بغير علم، فهو كذلك.
4 - قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (3) من يقول بترخص العمال في شيء من الفرائض بسبب العمل لا يعتمد في قوله هذا على أي دليل شرعي، فهو قائل على الله بغير علم، ومشرع بمجرد الهوى والمصالح الدنيوية، فهو كمن جعل هواه مصدر تشريع مع الله، تعالى الله علوا كبيرا.
ومن السنة: تدل أحاديث كثيرة على تحريم الابتداع في الدين، والقول على الله بغير علم، نقتصر منها على حديث واحد، عظيم جامع، في إبطال كل قول أو عمل لا يعتمد على أصل شرعي، وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما
__________
(1) سورة النحل الآية 116
(2) سورة النحل الآية 117
(3) سورة الشورى الآية 21(62/218)
ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، والقول بترخيص العمال في شيء من الفرائض بسبب العمل قول محدث، ليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه، فهو باطل.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الصلح) (53) باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، وأخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الأقضية) باب (8) نقص الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.
(2) صحيح مسلم (كتاب الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.(62/219)
الخاتمة:
الحمد لله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، له الحمد في الأولى والآخرة، لا نحصي ثناء عليه، اللهم لك الحمد على ما قدرت، ولك الحمد على ما علمت، ولك الحمد على ما يسرت، ولك الحمد على ما أتممت. أسألك ربي الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد. وأسألك علما نافعا، ولسانا صادقا، وقلبا شاكرا، وإيمانا خالصا، وأسألك ربي كما وفقتني لإتمام هذا البحث أن تتقبله مني، وأن تنفعني به وإخواني، وأن تجعله بغية وجهك الكريم، وأن توفق من هو أعلم مني وأقدر لإتمام نقصه، وتفصيل مجمله، وبسط مشكله، خدمة للإسلام والمسلمين. وأصلي وأسلم على رسول الله الأمين المرسل رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:(62/219)
فهذه أهم ما توصلت إليه من نتائج في هذا البحث:
ا- يتعين على المسلمين العمل لسد حاجاتهم، والقدرة على قتال أعدائهم، وصناعة طعامهم وشرابهم، ومنع العمالة الكافرة، التي تفسد دينهم ودنياهم. وتعويدهم على الصبر وتحمل الشدائد.
2 - العمل هو كل ما يزاوله الإنسان من أنشطة صناعية، أو مهنية، أو زراعية، أو تجارية، أو غيرها، بغية أي هدف.
3 - دل الكتاب، والسنة، والإجماع على مشروعية العمل.
4 - لمشروعية العمل عند المسلمين حكم كثيرة، أهمها: إقامة دين الله على وجه الأرض، وعزة المسلمين، ورفع المفاسد عنهم، وعمارة الأرض وفق أمر الله تعالى.
5 - ترك المسلمين العمل يؤدي إلى مفاسد عظيمة، من أخطرها: اختلال الدين والعقيدة، وهيمنة أعداء الإسلام، وشيوع الفاحشة في المسلمين، وضعف اقتصادهم، وأبدانهم، وانحطاط معنوياتهم.
6 - لعمل المسلم ثمرات عاجلة وآجلة، فعمله لا يخلو من الخير العاجل والآجل إذا هو احتسب. فإما أن يكون عمله عبادة محضة، أو عادة وعبادة إذا هو احتسب، وفي كل منهما خير دنيوي عاجل، وأخروي آجل.
7 - العمل عند المسلمين وسيلة لا غاية، حيث إنه يطلب(62/220)
بعمله الدنيوي تحقيق الغاية العظمى التي من أجلها خلقه الله، وهي عبادة الله تعالى.
8 - العمل أنواع متعددة منها: الزراعي، والصناعي، والتجاري، والخدمة العامة، وتنمية الحيوان، والمهن الحرفية، وغيرها. واختلف العلماء في أفضل الأعمال، ولعل أفضلها ما بالناس حاجة شديدة إليه.
9 - يلزم من يقوم على أمر المسلمين إيجاد العمل للمسلمين، وإيجاد العمال الذين يقومون بكل عمل لازم. والأصل عند المسلمين أن لا توجد بطالة كما هي عند الكافرين، وذلك لسعة أبواب الرزق عند المسلمين، ولسعة أبواب الإنفاق على المسلم.
10 - يجب وفاء العمل باحتياجات الأمة في كل عصر وظرف، واحتياجات الأمة تختلف باختلاف العصور وتقلب الأحوال، وهمم ولاة أمور المسلمين، والاحتياجات المعيشية.
11 - لإنعاش اقتصاد المسلمين، ورفع مستوى معيشة الفرد المسلم، لا بد من ضمان استمرار العمل، وتنميته.
12 - تكثير مجالات العمل وتطويرها من أسباب استمرار العمل، ونموه.
13 - لضمان استمرار العمل، وتنميته يجب تذليل جميع معوقات العمل، البشرية، والنفسية، والآلية، والمالية، وإيجاد عمل لكل طالب عمل.(62/221)
14 - يلزم توفير المواد الأساسية لمختلف الأعمال، والتوسع فيها، وتحسينها؛ لكي يستمر العمل، وينمو.
15 -من الأمور الهامة في استمرار العمل، السعي المستمر في تحسين نوعية الإنتاج، والرقي به إلى أعلى الدرجات.
16 - رفع قدرات أدوات الإنتاج الآلية والبشرية أمر ضروري، لقيام العمل باحتياجات المسلمين.
17 - لرفع قدرات أدوات الإنتاج، يجب الأخذ بوسائل رفع الكفاءات العمالية. من تعليم، وتدريب، وتثقيف تقني، وإيجاد المحبة والألفة بين العاملين.
18 - للصبر على العمل وتحمل عنائه ومشقته لا بد من حوافز ومغريات مادية ومعنوية للعاملين.
19 - لتحقيق رفع قدرات وأدوات الإنتاج، يلزم تحقيق المسألة الهامة في ميدان العمل، وهي: " ضمان الإنتاج الكامل لكل عامل " وهو ما يحصل بالتخطيط الدقيق، والتقدير السليم للاحتياجات والقدرات، والتوازن في توزيع الأعمال، والمتابعة والمراقبة، والإدارة الحية، والأخذ بطريقة العقاب والثواب، وغير ذلك من مقومات العمل.
20 - تطوير آلات الإنتاج أمر هام في رفع قدراتها على الإنتاج، وهو ما يحصل بإيجاد الآلات القادرة على تصنيع أدوات الإنتاج وهو ما يعرف بالصناعة الثقيلة. والمسلمون قادرون على امتلاكها، لو صلحت النيات، وقامت الهمم.(62/222)
21 - يلزم علماء المسلمين بيان أحكام جميع المسائل والأمور الحادثة، فليس هناك مسألة أو قضية صغيرة أو كبيرة إلا ولها حكم في شرع الله. فعلى كل جيل أن يبين أحكام الأمور الحادثة في عصره، وأن يبلغها للناس بوسائل التبليغ المتاحة له.
22 - من الأعمال ما هو واجب، والواجب في الأعمال قد يكون على جميع القادرين عليه، وهو العمل من أجل المعاش، وقد يكون كفائيا، وهو العمل الذي إذا قام به بعض الناس من أهل الاختصاص سقط الإثم عن بقية أهل الاختصاص، وإن لم يكن له أهل اختصاص أثم الجميع. وقد يكون العمل الواجب عينيا وهو العمل الذي يتعين على أشخاص بأعينهم؛ لتميزهم بقدرات وكفاءات خاصة يحتاج المسلمون إليها.
23 - من الأعمال ما هو مندوب إليه. وهو واسع ولا يمكن حصره، ولكن يمكن وضع قواعد عامة، وضوابط لبعض أحواله. مثل: كل عمل نافع للمسلمين وليس بواجب، فهو مندوب إليه.
24 - من الأعمال ما هو مباح، وهو أوسع الأعمال، فهو الأصل، وما خرج من هذا الأصل إلى الوجوب أو الندب أو الكراهة أو التحريم، فقد خرج من هذا الأصل بعلة.
25 - من الأعمال ما هو مكروه، ويصعب حصر هذه الأعمال، ولكن يمكن وضع بعض المعايير والضوابط لأنواع من المكروهات، مثل: كل عمل يتعارض مع الأخلاق والقيم والعادات الحسنة فهو مكروه.(62/223)
26 - من الأعمال ما هو محرم، والأعمال المحرمة كثيرة، مادية، وفكرية. فمن الماديات ما يكون في الزراعة، والصناعة، والتجارة، وغيرها، ومن الفكريات، كل عمل فكري يضر بالمسلمين أو أي جانب من حياتهم، سواء كان ذلك عن طريق الكتب، أو المجلات، أو المحاضرات، أو غير ذلك.
27 - لا يترخص العمال في شيء من فرائض الله بسبب العمل، ودعوى الترخص باطلة لا أصل لها.
دعوة ووصية: يعلم إخواني من طلبة العلم والمهتمين بأمور المسلمين ما للعمل من شأن وخطورة في حياة الناس، وما يؤدي إليه تركه من مفاسد عظيمة لا تحصى، وما ينتج عن إقامته على الوجه الشرعي من مصالح وعزة، ورفعة للإسلام والمسلمين.
لذا فإنني أدعو إخواني من طلبة العلم من أهل الدراية والفكر، وأوصيهم بأن يهتموا بالعمل، وأن يدرسوا حقيقة أمره في كل جانب، ليضعوا الحلول المناسبة لمشكلاته، وليقيموا أمره، ويحموه من تطرق الآفات القاضية عليه وعلى أهله، وليبينوا حلاله من حرامه، فطلبة العلم هم أقدر الناس على ذلك، وعليهم تقع المسؤولية.
كما أوجه الدعوة إلى جامعات المسلمين كافة، كل بحسب اختصاصه، بأن يهتموا بأمر العمل عند المسلمين، وأن يخصوه بدراسة جادة متميزة، وأن يكلفوا من لديه القدرة ببحث مسائله وجزئياته، تحقيقا، ونقدا، وتطويرا، وتحليلا، وتحريما؛ ليعلم الناس حقيقة أمره، وعظيم خطره وشأنه، فيأخذوه بعين الجد والحزم. والله المستعان على ذلك.(62/224)
الدعوة الإسلامية ومنهجها القرآني
للدكتور: محمد بن سعد الشويعر
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل الإسلام دين دعوة منذ أظهره الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أمره ربه بالدعوة إليه، وإبانة الحق للأمم جميعها على وجه الأرض في مثل هذا القول الكريم: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (1) {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (2) . فقد كان رسولا إلى الثقلين: الجن والإنس يبلغهم أمر الله، لاتباع دينه الحق وليعرفوا مهمتهم في الحياة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (4) . يدعوهم إلى ذلك الدين الذي لا يقبل الله من الخلق سواه، وبه أرسل الله سبحانه جميع الرسل، من أولهم إلى آخرهم، ثم كان الدعاة المصلحون سائرين على نهجهم بالإصلاح والدعوة
__________
(1) سورة الشورى الآية 14
(2) سورة الشورى الآية 15
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الذاريات الآية 57(62/225)
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) . وعلى آله وصحبه الكرام، الذين امتثلوا لأمر الله، في تحمل رسالة الدعوة ونشر الدين الحق، في عبادة الله {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (4) . ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة الزخرف الآية 43
(4) سورة الزخرف الآية 44(62/226)
المنهج القرآني:
فإن منهج القرآن الكريم في الدعوة إلى الله، واتباع دينه الحق، هو ما يجب أن يتربى عليه الدعاة إلى دين الله، في الخلق والعمل، وإخلاص النية لله جل وعلا، مثلما تأدب بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يكن فظا غليظ القلب، ولا فاحشا متفحشا، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: «خلقه القرآن (1) » رواه مسلم مطولا. ولما سأله أبو بكر -رضي الله عنه- بقوله: بأبي أنت وأمي يا رسول الله من أدبك؟ -أي علمك- أجابه الرسول الكريم بقوله: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فكان المنهج
__________
(1) صحيح مسلم 746، ورواه أحمد 6 \ 52(62/226)
القرآني في تهيئة النفوس لتحمل الدعوة، والقيام بأعبائها، منذ أنزل الله كتابه الكريم على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وتعهد الله سبحانه بحفظه عن التبديل والتحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . هذا المنهج الذي أبانه الله لعباده، ووصى النبي به أمته عندما اقترب أجله بعدما طلبوا منه -عليه الصلاة والسلام- الوصية بما يعملون بعد أن يفرق الموت بينهم، فقال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله (2) » هذا المنهج موجود في كتاب الله جل وعلا، حيث يخاطب العقول في كل زمان ومكان بما يتلاءم مع المدارك، ويقرب المحسوس في كل بيئة إلى العقول الصافية، لتدرك عظمة الله سبحانه، وما يجب على المخلوق تجاه خالقه، وتعرف ما على المخلوق من تبعات في تأدية هذا الواجب: قولية وفعلية واعتقادية.
فقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته الجامعة الوافية في حجة الوداع أمته بأمور كثيرة في مقدمتها: كتاب الله حيث قال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت (3) » فأشهد الله على
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وينظر جامع الأصول لابن الأثير ج1 الكتاب الثاني، الاعتصام بالكتاب والسنة ص277.
(3) جامع الأصول لابن الأثير ج3 ص465، وتراجع خطبته -صلى الله عليه وسلم- كاملة عند ابن الأثير، وعند البخاري، وعند مسلم.(62/227)
ذلك ثلاث مرات.
ويتمثل ذلك المنهج في أمور كثيرة يدركها من تدبر هذا القرآن الكريم، وتمعن في سمو الأخلاق التي يدعو إليها، وعمق المعاني التي تبرز من دلالة لفظه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1) .
منها:
1 - تهيئة الشخصية الداعية، والتي تتحمل عبء التبليغ، لمواجهة الأجناس البشرية المتباينة في طباعها وغاياتها، والمختلفة في المدارك والنوايا؛ من حيث المثالية في العمل {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) . والصدق في العمل والقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3) . والشمولية في الفهم والإدراك، مع الحلم والصبر وقوة التحمل في هذا العمل، وعدم التسرع في طلب النتيجة {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (4) .
2 - احتواء الناس المدعوين إلى عبادة الله وحده، وإلانة الجانب لهم، وعدم التفرقة وفق النظرة الاجتماعية في تحديد
__________
(1) سورة محمد الآية 24
(2) سورة الصف الآية 3
(3) سورة التوبة الآية 119
(4) سورة الأحقاف الآية 35(62/228)
التبعية بالمقاييس المادية، وتحين الفرص الملائمة للدعوة في مخاطبة الناس بها: حسيا واجتماعيا وعاطفيا {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (1) {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (2) {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (3) {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} (4) {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} (5) {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} (6) {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} (7) {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} (8) {وَهُوَ يَخْشَى} (9) {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (10) .
3 - سعة أفق وعلم الداعي إلى الله، ورحابة صدره، وإدراكه ما يعتمل في المجتمع الذي يدعو فيه، من عادات وتقاليد ألفها المجتمع، وأمور سرت عند أبنائه وتوظيف القدرة بالعلم والحجة في التغلب على معضلات ذلك المجتمع، بما يريح القلوب، ويقضي على مشكلات متفشية عندهم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (11) . ويبرز ذلك في الآيات الكريمات التي تأتي في سير الأنبياء كلهم مع أممهم، وما يجعل الله لكل نبي من الآيات التي تظهر عظمة الخالق سبحانه، حتى تلين القلوب، وتستجيب الأفئدة، ويحق الجزاء على المعاند بإقامة الحجة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (12) . وطباع البشر والمؤثرات فيهم متماثلة.
4 - احتواء المشكلات المعقدة التي تجعل الناس شيعا
__________
(1) سورة عبس الآية 1
(2) سورة عبس الآية 2
(3) سورة عبس الآية 3
(4) سورة عبس الآية 4
(5) سورة عبس الآية 5
(6) سورة عبس الآية 6
(7) سورة عبس الآية 7
(8) سورة عبس الآية 8
(9) سورة عبس الآية 9
(10) سورة عبس الآية 10
(11) سورة الملك الآية 30
(12) سورة فصلت الآية 53(62/229)
وأحزابا، وطريقة توجيههم إلى المنهج السليم في تأليف القلوب، والتغلب على المعضلات المعترضة في البيئة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
5- وأن يختار الداعي إلى الله الوقت المناسب لدعوته، والاختصار في القول، وعدم التنفير أو إلزام المدعوين بالاستجابة عاجلا أو آجلا، بل يدع الكلمات الدعوية تترك أثرها في عقول المدعوين، والتعمق في الدلالة وبعد المعنى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2) .
6 - إدراك الداعي بأنه يدعو لله لا لنفسه، وأن دعوته عالمية لا إقليمية {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3) . ويقول سبحانه لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (4) . فدين الله للبشرية جمعاء، ولا فرق بينهم باختلاف أجناسهم وديارهم، ولا إكراه فيه، فمن بلغته الدعوة، وعرفه الداعي ما يلزم معرفته، أمرا للعمل، ونهيا للترك، فقد أدى الداعي إلى الله دوره: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} (5) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الكهف الآية 29
(3) سورة المائدة الآية 66
(4) سورة المائدة الآية 67
(5) سورة الشورى الآية 48(62/230)
7 - تكون المجتمع القادر على الدعوة العامة في المجتمعات الأخرى" بالمثالية في العمل، والصدق في القول وكف الأذى وحب المساعدة وحسن التعامل، وبالأمانة وإعطاء الحقوق لمستحقيها، وبالوفاء بالوعد وبراءة الذمة، والشعور بالرقابة الذاتية، دون اللجوء إلى السلطة الإدارية، أو الشدة في الدعوة {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1) .
وغير هذا من أمور كثيرة يلمس أثرها كل من يتلو كتاب الله، ويتمعن في عمق معانيه التي تظهر للإنسان بحسب المواقف، وإلا فإن شمول آيات الله الكريمات في كتابه العزيز تتبدى آثارها الدعوية في قلوب المدعوين وعلى ألسنة الدعاة بحسب ما يجعله الله في قلوبهم من فكر ناضج وفهم دقيق.
وقد أجمل الشيخ دروزة تلك الأمور التي احتواها منهج القرآن الدعوي وما تحتاجها البشرية في تسيير حياتها فضلا عن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 35(62/231)
سعادتها في الآخرة بقوله: احتوى دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده، وعدم الخضوع لأي قوة من قوى الكون غيره، وتنزيهه عن كل نقض وشائبة، وإلى جماع مكارم الأخلاق والفضائل، وأسباب سعادة الدارين، والتصديق بنبوة أنبياء الله، والكتب المنزلة عليهم، وتقرير كون هذه الدعوة التي احتواها هي الدين الحق، الذي ارتضاه الله للناس جميعا، منذ بعث الله رسوله محمدا -عليه السلام- بالهدى ودين الحق، الذي فيه إظهاره على الدين كله، يقيم البشر في ظله دعائم مجتمعهم، ويسيرون في مختلف شئونهم وفق تعاليمه ومبادئه، وتلقيناته القائمة على أسس الحق، والعدل والمساواة، والإحسان والتعاون، ورفع الإصر والأغلال، وحل الطيبات، وتحريم الخبائث والفواحش والمنكرات، وتوطيد السلم العام بين الناس كافة، إخوانا متحابين، لا يظلم بعضهم بعضا، ولا يبغي بعضهم على بعض، ولا تبذ فيه طائفة، ولا تحرم فيه فئة، ولا تتعالى فيه طبقة على طبقة، مع إيجاب التناصر على الباغي، حتى يفيء إلى حكم الله والحق، ومع الدعوة إلى التمرد على كل ضار، والإقبال على كل نافع صالح بقطع النظر عن قدمه وجدته، ومع تقرير كون الله إنما يريد للناس اليسر، ولا يريد بهم العسر، ولم يجعل عليهم في الدين حرجا، وبأسلوب قضي له بالخلود، من حيث البرهنة على صدق الدعوة وأهدافها، بتوجيه الخطاب للعقول والقلوب، وإدارته حسب أفهام الناس ومداركهم في هذا النطاق، حسب(62/232)
اختلافهم وتفاوتهم في العقل والسعة والثقافة والأفق (1) ذلك أن كتاب الله الكريم، قد اشتمل على كل شيء يتعلق بالإنسان، ويشبع رغباته: الفكرية والمعيشية، والطبية، وسائر العلوم التي يبحث فيها الإنسان، وتتسابق إليها عقول البشر قديما وحديثا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) .
فلا يعترض الإنسان مشكلة، ولا تمر به تجربة علمية إلا ويجد في المنهج القرآني ما يدعو إلى أن يقف متمهلا أمام سبق القرآن، وإحاطته بما أودع الله فيه من علم، إذ فتحت هذه الآية {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (3) . أمام الأطباء آفاقا علمية، وجذبت كثيرا منهم إلى نور الحق، فعرفوا السبيل الموصل إلى دين الله الحق الذي وقر في قلوبهم، فأسلموا لله ببراهين محسوسة برزت أمامهم، وفق عملهم، وما اعترضهم من صعوبات في مهنتهم، كما أن الآية: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4) . استفاد من توظيفها كثير من الدعاة في المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن مع الحكمة وراء كل أمر محرم في شريعة الإسلام، وأثره على الفرد والجماعة، خاصة بعد أن ظهرت أمراض عديدة في المجتمعات التي أحلت ما حرم الله: كالإيدز والهربز،
__________
(1) التفسير الحديث لمحمد عزة دروزه (1305 - 1404 هـ) ج1، ص32.
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة الذاريات الآية 21
(4) سورة الأعراف الآية 157(62/233)
والأمراض النفسية، وغير ذلك، مما ينفذ أثره إلى العقول بفطنة الداعي إلى الله، وإدراكه ما وراء الأمر والنهي في كتاب الله من مصالح ترجى، ومصائب تجتنب.
وفي سير من أسلموا، وإخبارهم عن سبب دخولهم في دين الإسلام الحق، نجد المسلم: أحمد سامي عبد الله، الذي حكى قصة إسلامه، وما لقي من أهله وقرابته، وأبناء ملته السابقة، وهو يكتم إيمانه بالله الواحد الأحد، قبل أن يحكموا تآمرهم ويجمعوا على قتله، يردد هذه الآية الكريمة، ليجعلها نبراسا يعين على التحمل في سبيل دينه الإسلام الذي اعتنقه، وعض عليه بالنواجذ، لأن مدلولها دخل سويداء قلبه، وما تدل عليه قد عايشه من أهله وذوي قرابته: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1)
__________
(1) سورة لقمان الآية 15(62/234)
مكانة الدعوة:
الدعوة إلى الله سبحانه لما كانت هي أعظم الأعمال البشرية، وأكبرها نفعا، وهي مهمة أنبياء الله ورسله المأمورين بتبليغ أممهم دين الله جل وعلا، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإبانة ما يجب عليهم العمل به في حياتهم الدنيا، وما يلزمهم في علاقتهم بالله سبحانه تعبدا وعقيدة، وما تستقيم بهم(62/234)
أحوالهم الشخصية والاجتماعية وسائر أمورهم في حياتهم. فإن ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لمن بعدهم، ليس بالدرهم ولا الدينار، وإنما بالعلم، والعلم من أداء حقه مواصلة الدعوة إلى دين الله، والتأسي بهم في الطريق الدعوي، الذي أبانه الله سبحانه عنهم في القرآن الكريم، فيتحمل أهل التقى وذوو المعرفه من أتباعهم على الحق عبء الدعوة إلى الله سبحانه على بصيرة، متأسين بطبائعهم في الإخلاص والصبر، ومجادلة من عنده معرفة أو شبهة بالتي هي أحسن يقول سبحانه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في توجيه تعليمي حتى يبين للناس مهمته، ومهمة من يتبعه على طريقة الدعوة، التي أمر بتبليغها وأنه هو القدوة في العمل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) وما يقص الله علينا من أخبار الأنبياء في الدعوة إلى الله مع قرابتهم وأهلهم هي منهج دعوي، ترسم خطاه المهتمون بالدعوة في كل عصر، في القدوة والعمل، فقد قال سبحانه بعد الرد على شبه بني إسرائيل في عيسى عليه السلام: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
قال ابن الجوزي في تفسيره، عند مروره بهذه الآية: قل يا محمد للمشركين: هذه
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة آل عمران الآية 62(62/235)
الدعوة التي أدعو إليها والطريق التي أنا عليها (سبيلي) أي: سنتي ومنهاجي، والسبيل تذكر وتؤنث {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) يعني: على يقين. قال ابن الأنباري: وكل مسلم لا يخلو من الدعاء إلى الله عز وجل؛ لأنه إذا تلا القرآن، فقد دعا إلى الله بما فيه (2) ؛ لأن في القرآن الهدى والنور، والبصيرة لمن يتدبر ويتمعن. فقد أنذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشيرته الأقربين، بعدما أمره الله بذلك، فوجه الدعوة إلى ابنته فاطمة، وعمه العباس، وسمى غيرهما من بني عبد المطلب، وبني عبد مناف: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (3) {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (5) ، ودعاهم بعدما جمعهم إلى دين الله، وقال: «لا أغني عنكم من الله شيئا (6) » . .
وهذا إبراهيم -عليه السلام- يستغفر لأبيه حتى نهي، ويدعو أباه إلى دين الله الحق، لعله يسلم من غواية الشيطان {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (7) {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (8) {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (9) {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} (10) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) زاد المسير في علم التفسير4: 295.
(3) سورة الشعراء الآية 214
(4) سورة الشعراء الآية 215
(5) سورة الشعراء الآية 216
(6) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (206) ، سنن النسائي الوصايا (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .
(7) سورة مريم الآية 41
(8) سورة مريم الآية 42
(9) سورة مريم الآية 43
(10) سورة مريم الآية 44(62/236)
ونوح عليه السلام لم يستطع إنقاذ ابنه من الغرق؛ لأنه عمل غير صالح تراجع. ولوط عليه السلام كانت زوجته مع القوم الفاسقين، فأصابها ما أصابهم من العذاب تراجع. وابنا آدم غلبت على أحدهما الشقاوة، وحق عليه قدر الله سبحانه فأقدم على أول ذنب عصي الله به على وجه الأرض بسفك الدم الحرام عندما قتل أخاه حسدا على أن تقبل الله منه، قربانه- صدقته- لأنها من جيد ماله، وهو لم تقبل منه، لأنه اختار الرديء، والله سبحانه يتقبل من المتقين ومن هذه النماذج، التي مرت بأنبياء الله، واهتمامهم بالدعوة إلى الله بدءا بالأقرب من ولد وأهل وعشيرة، وقوم، وغيرهم، الأقرب فالأقرب، يبين الله سبحانه للعباد في القرآن الكريم الذي جاء فيه نبأ الأولين والآخرين من أفراد وأمم، وما كانت حالهم عليه، وحال دعوتهم إلى دين الله، وفق المنهج التعليمي لمناهج الدعوة: بأنها أمر إلزامي على كل قادر عليها، عالم فيما يدعو إليه، عالم فيما ينهى عنه، لأن الذمة لا تبرأ إلا بأداء هذه الأمانة بصدق وإخلاص، وأن تكون هذه الدعوة، بالرفق واللين، مع الحلم والصبر، واستيعاب ما عند المدعوين من شبهات وشكوك، بما يحرك الضمائر، ويلامس أوتار القلوب(62/237)
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) . ليستجيب من أراد الله له الهداية، ولتقوم الحجة على من كابر وعاند، فالدعوة إلى الله هي نبراس الأمم كلها، يسترشد المهتم بالتبليغ حماسته لأمر الله بما في القرآن الكريم من مسالك تيسر المعرفة، وتبصر بما خفي على الإنسان: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (2) {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (3) . .
__________
(1) سورة يس الآية 70
(2) سورة الروم الآية 9
(3) سورة الروم الآية 10(62/238)
مراحل الدعوة:
إن المتمعن في كتاب الله الكريم، يظهر أمامه عالمية الدعوة إلى الله سبحانه، وأنها لا تتقيد بأمة من الأمم، ولا بزمن من الأزمان، وإنما تتلاءم مع كل أمة من الأمم مهما كانت لغتها وأفكار أبنائها، بل تتأكد عندما تبتعد الأمة: أفرادا أو جماعات عن الطريق السوي. وعندما يكثر الخبث، مهما كانت الأفكار والمؤثرات، ومهما كانت الأمور المتنازع فيها في تلك الأمة، ما دام الميلان عن طريق الحق قد تحركت ناره الكامنة تحت الرماد، فيتعين التصدي لذلك، وفق الأسلوب الذي يبين من التتبع لآيات القرآن الكريم في طريقة العرض والمحاورة، والتبليغ والبرهان.(62/238)
فمن منهج القرآن الكريم في الدعوة مخاطبة العقول، وتلمس المداخل لأذهان الناس، بما يتفاعل مع الفهم السليم، حيث يكثر في القرآن الكريم مخاطبة العقل والتنويه بالقلب واللب، والدعوة للتفكر، " والتبصر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله في هذا الكون، حتى يتحرك الإحساس، ويربط الإنسان المعقول بالمحسوس: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) الآيات. فيقص الله علينا حكاية كل نبي مع قومه، وما حصل للأمم السابقة ليأخذ من يعي العبرة بما وصلوا إليه، وأنهم لم يستقيموا على حال بعد ابتعادهم ومعصيتهم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (2) {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (3) .
ومدخل أنبياء الله للدعوة إلى الله مع أممهم، بنوعين:
دعوتهم إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له سبحانه وحده، ومعجزات يعطيها الله لكل واحد منهم، أكبر وأمكن مما هو سائد في مجتمع كل أمة من الأمم.
فموسى عليه السلام لما أرسله ربه إلى فرعون وقومه، كان
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة الروم الآية 9
(3) سورة الروم الآية 10(62/239)
السائد عندهم السحر، والتمويه على الناس، بما هو خارق العادة عندهم. فكانت المعجزة التي مكنها الله لموسى آيات تغلبت على أعظم ما جاء به سحرة فرعون. فأبطل الله سحرهم بالعصا التي أمر موسى بإلقائها، فإذا هي حية تسعى، تلتهم ما عمله السحرة: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (1) {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (2) {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (3) . فكان إيمان السحرة عن قناعة بعدما بان لهم الحق بما مكن الله لموسى، من هذه المعجزة، إلى جانب المعجزات الأخرى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (4) {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (5) وعيسى ابن مريم -عليه السلام- بعثه الله إلى قوم لديهم اهتمام بالأمور الطبية، فكانت المعجزة التي مكنها الله لنبيه عيسى -عليه السلام- أمورا أذهلت أمهر أطبائهم، وهي من مخاطبة عقولهم بما يفوق قدراتهم، كمدخل من مداخل الدعوة إلى الله والتعريف بما يجب اتباعه من الحق. فكان عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بقدرة الله مما تغلب على عقولهم، وتجاوز قدراتهم، ووقفوا أمام ما مكن الله لعيسى -عليه السلام- حائرين، حتى يعلموا أن ما جاءهم به، إنما هو حق من
__________
(1) سورة طه الآية 68
(2) سورة طه الآية 69
(3) سورة طه الآية 70
(4) سورة النمل الآية 12
(5) سورة النمل الآية 13(62/240)
عند الله {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1) . وتأتي الآيات البينات، ومجادلة أهل الكتاب، في إيضاح للخوارق التي اكتنفت قصة النبي الكريم عيسى ابن مريم -عليه السلام- مما هو فوق المعهود في أذهان الناس، حيث ولد من أم بدون أب، وكلم الناس في المهد. فغلا فيه أهل الكتاب بالتثليث؛ فمنهم من اعتبره إلها، ومنهم من اعتبره ابنا لله، ومنهم من جعله ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فكان من منهج القرآن الكريم، مما قص الله في أكثر من موقع، مدخلا مقنعا للدعوة إلى طريق الحق بالبيان الواضح والقرآن التي تخاطب آياته العقول بأن عيسى ما هو إلا رسول من الرسل، وأمه صديقة، خلقه بكلمة كن فكان، وبقدرة الله التي لا تخضع للمقاييس البشرية، فآدم خلقه الله من دون أم ولا أب، وحواء خلقها الله من ضلع آدم، وعيسى ابن مريم خلقه من أم بدون أب، والله سبحانه يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد يمتحن بذلك عقول عباده، ومدى استجابتهم لأمره
__________
(1) سورة المائدة الآية 110(62/241)
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (2) .
وقصة عيسى وموسى مع قوميهما من أهل الكتاب، وما فيهما من الآيات النيرة، والمعجزات الفائقة لقدرات البشر، والبينات التي تخاطب العقول لكي تتدبر، والأفئدة لترعوي إلى الحق، هي مما يحسن بالداعي إلى الله على بصيرة أن يجادل بها أصحاب هاتين الملتين اللتين هما من أكثر أمم الأرض اليوم، الذين يستندون على كتب مقدسة، لكنها محرفة، ومصروف مضمونها عن الدرب الصحيح، بحيث بين الله في القرآن الكريم تكفير بعضهم لبعض {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (3) .
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (5) {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 59
(2) سورة آل عمران الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 113
(4) سورة البقرة الآية 135
(5) سورة البقرة الآية 136
(6) سورة البقرة الآية 137(62/242)
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- الذي نشأ فقيرا يتيما بعثه الله إلى أمة بليغة في لغتها، غنية في تجارتها فوقف في دعوته لهم إلى دين الله ثابتا لا يتزعزع، قويا لا يلين لباطلهم، فكان من معجزاته، ما أمره الله أن يتحدى به قريشا، بأن يأتوا بسورة تماثل سور القرآن، أو آية من آياته: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2) .
ولما جاء أمر الله لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ رسالة ربه، لينذر الناس، ويدعوهم إلى نبذ الآلهة التي يصرفون العبادة لها من دون الله جاءه ذلك الأمر للتبليغ على مراحل تتدرج بحسب وضع المجتمع الموجهة إليه الدعوة، وبحسب القدرة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتحمل والحماية له وللقلة المستجيبة لهذه الدعوة، وهم الفئة المستضعفة في المجتمع ذلك الوقت، فصبر على ذلك ثلاثة وعشرين عاما، حتى اتسعت دائرة الدعوة وعظم أمرها، ودخل الناس في دين الله أفواجا. فقد بدأت النبوة بأول ما نزل من القرآن الكريم، وهي:
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 24(62/243)
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (3) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (4) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (5) . والتعريف للنبوة والرسالة: أن النبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه فكل رسول يعتبر نبيا. ثم كانت الرسالة بالمدثر وتلتها سورة المزمل.
وكانت الدعوة سرا، خوفا من أذى قريش، حتى أنزل الله سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (6) {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (7) {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (8) . وكان التوجيه الرباني في القرآن الكريم للنبي -صلى الله عليه وسلم-: التحمل والصبر في تبليغ الدعوة إلى الله {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (9) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (10) . والصبر الذي تكرر الأمر به لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم كثير يمتثله أصحابه، وكل الدعاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهو من مجاهدة النفس، وتوطينها بالقدرة على التحمل، في سبيل ما يدعى إليه. ثم جاءت المرحلة الأعلى عندما قويت شوكة المسلمين، وكثر عددهم، وكان لهم دار منعة بعد هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فكانت الآية
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2
(3) سورة العلق الآية 3
(4) سورة العلق الآية 4
(5) سورة العلق الآية 5
(6) سورة الحجر الآية 94
(7) سورة الحجر الآية 95
(8) سورة الحجر الآية 96
(9) سورة النحل الآية 127
(10) سورة النحل الآية 128(62/244)
الكريمة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) . أمرا بإظهار دينهم، ذلك أن أعداء الله تجمعوا، وأرادوا القضاء على المسلمين، واستئصالهم، انتصارا لباطلهم، وتعصبا للحق، وخوفا من اتساع نطاق الدعوة، بعد أن تكاثر عدد المسلمين في المدينة بعد الهجرة.
ثم جاءت الآيات في كتاب الله للوقوف أمام قوة الكافرين بقوة مؤيدة من الله آمرة بالجهاد لنشر الدعوة بالقوة، والتصدي لقوات الأعداء، فقال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (3) . ونزلت سورة محمد -التي يسميها بعضهم سورة القتال- وفيها الأمر بمجاهدة الكفار، لقمع شوكتهم، والقضاء على رؤوس الفتنة المتصدية للدعوة إلى دين الله الحق، الذين يريدون إطفاء نور الله وإسكات صوت الحق، يقول سبحانه:
__________
(1) سورة الحج الآية 39
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 78(62/245)
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} (1) {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (2) {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (3) {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (4) .
ومن المراحل التي يجب أن يأخذ بها المسلم في الدعوة إلى الله ترسم منهجها القرآني، بحسب ما بلغ بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو -صلى الله عليه وسلم- لم يطلب من أهل مكة زعامة ولا رئاسة، ولم يأت لأخذ أموالهم، ولكن دعاهم إلى الله «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (5) » وأن يكون الداعي إلى الله صادقا في دعوته، محتسبا الأجر من الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (6) . متحينا الفرصة المناسبة للجهر بدعوته، مبينا باختصار ما يدعو إليه وما ينهى عنه: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} (7) .
وأن يلين الجانب مع المدعو، ويحلم عليه، حتى يستميل قلبه، ليأنس إليه ويصغي لما يدعى إليه، ويتبصر في فوائده وآثاره، لعل الله أن يلين قلبه، ويفتح ذهنه {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (8) .
__________
(1) سورة محمد الآية 3
(2) سورة محمد الآية 4
(3) سورة محمد الآية 5
(4) سورة محمد الآية 6
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/492) .
(6) سورة الأنفال الآية 64
(7) سورة الرعد الآية 40
(8) سورة النحل الآية 37(62/246)
فالداعي إلى الله مبشر غير منفر، وميسر وليس بمعسر، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (1) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2) . وفي هذا المعنى يؤكد -صلى الله عليه وسلم- على أمته بقوله «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا (3) » ؛ لأن الكلمة إذا صدرت من القلب دخلت القلب، وإذا صدرت من اللسان لم تتجاوز الآذان، فيوجه الله جل وعلا حامل لواء الدعوة نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم -وأمته له تبع- إلى حسن الخلق في الدعوة، حتى يقترب الناس منه، ويصغوا إلى ما يدعوهم إليه، فيقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (4) . ويقول الله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام- لما بعثهما إلى فرعون الطاغية، الذي استكبر وتجبر، ودعا الناس إلى اعتباره إلها يعبد من دون الله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) .
ولما كان الخوف ممن هو أقدر من الإنسان، وأمكن في القوة المادية من السمات البشرية، فقد أظهر ذلك موسى وهارون -عليهما السلام- لربهما، وهو سبحانه أعلم بذلك منهما في قولهما: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} (6) فأزال عنهما ما كان يراودهما من ذلك الخوف، في ذلك الحوار القرآني البليغ؛
__________
(1) سورة الشرح الآية 5
(2) سورة الشرح الآية 6
(3) أخرجه مسلم في الجهاد، وينظر جامع الأصول2 \ 596.
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة طه الآية 44
(6) سورة طه الآية 45(62/247)
لأنه جل وعلا معهما بعنايته ورعايته وتأييده، يسمع ويرى. ومن كان الله معه فلا خوف عليه، وما عليه إلا أن يمتثل أمر الله، ويبلغ دعوته التي أنيطت به، ويتحمل في سبيل ذلك ما يعترضه طيعا ومحتسبا.
فأمرهما جل وعلا بامتثال أمره، وعدم الخوف، وأداء الدعوة إلى الله على وجهها، لتبرأ الذمة، وتقوم الحجة، فقال سبحانه: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1) {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (2) {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (3) .
وإذا كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد روي عنه قوله: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " فإنه قد أدرك هذا المعنى من منهج القرآن الكريم التعليمي في الدعوة، وتلمس مداخلها، وتحين الفرص المناسبة لها. وفيما سار عليه كل رسول في دعوة قومه، حيث يسخر الله -كما نجد ذلك مبسوطا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم- لكل واحد منهم في دعوته إلى الله ما يتفاعل مع قدرات عقولهم، وإتيانه لهم بما هو أكبر مما يشغل أذهانهم، وبما ظهر في مجتمعهم لعلهم يدركون السر العظيم وراء ما يدعون إليه، ليعرفوا حق الله فيما دعتهم رسلهم إليه {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (4) .
__________
(1) سورة طه الآية 46
(2) سورة طه الآية 47
(3) سورة طه الآية 48
(4) سورة الأنعام الآية 4(62/248)
فالدعوة إلى الله، في مراحلها وفرصها، وفي حكمة الداعي وطريقته في الدعوة، محورها المنهج القرآني الكريم، حيث يظهر أمام المتأمل في كتاب الله، أن كل آية تعني منهجا تعليميا، وكل دلالة من النص القرآني المجيد، يستفاد منه طريق من طرق الدعوة إلى الله {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) . .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 52(62/249)
شمولية الدعوة:
إن الآيات العديدة في كتاب الله قد أحاطت بمتطلبات الإنسان في هذه الحياة، واحتوت على الحلول لكل مشكلة من مشكلات الحياة البسيطة والمعقدة، ليجد الإنسان في أي موقع من الأرض وبأي زمن من الأزمنة الحل الطري لكل ما يعترضه، والبرهان القاطع على أن هذا القرآن حق من عند الله، ويدعو إلى معرفة الله معرفة حقيقية، حتى تؤدى له العبادة الخالصة على وجهها الذي يرضيه سبحانه، وحسبما أمر {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) . فهي دعوة للعالم أجمع إنسهم وجنهم، وذكورهم وإناثهم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
__________
(1) سورة البينة الآية 5(62/249)
وهذا منهج دعوي، ينفذ للعقول المختلفة، من المداخل التي تهم الجميع، ويجد فيه كل شخص الجواب الشافي لما يتساءل عنه: مستنيرا أو مشككا.
يقول الشيخ محمد دروزه في تفسيره: " لقد احتوى القرآن الكريم حلولا للمشكلات المعقدة، التي كانت تجعل الناس شيعا وأحزابا، وفرقا وأضدادا، وإهابة بالغلاة والمفرطين للارعواء عن غلوهم وإفراطهم، وإرشادا للحائرين والمترددين للانتهاء من حيرتهم وترددهم بأسلوب وجه فيه الخطاب إلى العقول والقلوب معا فيه كل القوة وكل النفوذ، وكل الإقناع لمن لم تخبث طويته، ويجعل إلهه هواه، وتعمد العناد والمكابرة والاستكبار عن قصد وتصميم.
ثم احتوى تنظيما للمناسبات، بين مختلف الفئات من الناس، وخاصة بين المستجيبين للدعوة -المسلمين- وغيرهم على أساس المسالمة والحرية، والحق والعدل، والتزام حدود ذلك بالتقابل، وكف الأذى، وعدم الصد والتعطيل والدس، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، إلا الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا ومقابلة العدوان بمثله، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله ".(62/250)
ذلك أن القرآن يأمر بالدعوة، وأن تكون بالإقناع، حيث يخاطب العقول، ويدعوها للتعقل والتفكر والتبصر، فيما حولها من آيات وعبر، وينهى عن الإكراه، وقسر الناس على الدين، إلا من عرف وعاند، وتصدى للدعوة، يقول سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) . كما أن الدعوة ليست ملزمة لكل من استمعها أن يستجيب، بل الهداية هبة من الله يمن بها على من يشاء من عباده يقول سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) . ويقول تعالى في أمره لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بمخاطبة الكفار: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (3) {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (4) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (5) {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} (6) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (7) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (8) . وإن من أسباب لين القلب للدعوة، وتقارب النفوس للتآلف والتمعن في المصالح المرتقبة، وراء معرفة ما تنطوي عليه تعاليم الإسلام، وعلاجه لمعضلات المجتمعات المتباينة -أن تفتح القلوب للراغبين، وأن تعرض أمامهم بضاعة الإسلام بأسلوب شيق وهادئ.
وما ذلك إلا أن مخاطبة العقول يحتاج إلى مهارة في
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة القصص الآية 56
(3) سورة الكافرون الآية 1
(4) سورة الكافرون الآية 2
(5) سورة الكافرون الآية 3
(6) سورة الكافرون الآية 4
(7) سورة الكافرون الآية 5
(8) سورة الكافرون الآية 6(62/251)
الإلقاء، وانفتاح صدر أمام المسترشد والراغب في البحث {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
يقول أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: كان الإسلام منذ بدء ظهوره دين دعوة، من الناحية النظرية، أو الناحية التطبيقية، وقد كانت حياة محمد تمثل هذه التعاليم ذاتها، وكان النبي نفسه يقوم على رأس طبقات متعاقبة من الدعاة المسلمين الذين وفقوا إلى إيجاد سبيل إلى قلوب الكفار، على أنه ينبغي ألا نلتمس الأدلة على روح الدعوة الإسلامية في قسوة المضطهد، أو عسف المتعصب، ولا حتى في مآثر المحارب المسلم، ذلك البطل الأسطوري الذي حمل السيف في إحدى يديه، وحمل القرآن في اليد الأخرى، وإنما نلتمسها في تلك الأعمال الوديعة الهادئة التي قام بها الدعاة، وأصحاب المهن، الذين حملوا عقيدتهم إلى كل صقع من الأرض، على أن هؤلاء الدعاة لم يلجأوا إلى اتخاذ مثل هذه الأساليب السليمة في نشر هذا الدين، عن طريق الدعوة والإقناع بخلاف ما زعم بعضهم حينما جعلت الظروف القوة والعنف أمرا مستحيلا يتنافى مع الأساليب السياسية، فقد جاء القرآن مشددا في الحض على هذه الطريقة السليمة، في غير آية، مثال ذلك: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (2) {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} (3) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة المزمل الآية 10
(3) سورة المزمل الآية 11(62/252)
وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) . . .
وبعد أن أورد عدة آيات استشهد بها على نهج الدعوة في القرآن الكريم. قال: وإن الغرض مما سنذكره في الصفحات التالية، هو بيان كيف تحقق هذا المثل الأعلى في التاريخ، وكيف كان أئمة الإسلام يطبقون نشاط الدعوة، وهذا الكتاب وضعناه لدراسة: تاريخ الدعوة الإسلامية في أنحاء العالم (2) .
وكلامه هذا يعني فهم المسلمين لمنهج القرآن الكريم في الدعوة، ونورد هنا مثالين من النماذج الكثيرة في كيفية الوصول لأعماق القلوب، بمفهوم الدلالة القرآنية، على المعنى الذي يشغل ذهن غير المسلم لينجذب بذلك إلى الإسلام، من باب مخاطبة الناس بما يعرفون:
كان أحد علماء الجيولوجيا في جامعة أكسفورد بإنجلترا يواصل بحثه في المختبر على عينات من الصخور، ووقف حائرا أمام تلون صخور جاءت من مكان واحد، وصار عدة أيام يجري التجارب لعله يهتدي إلى سر هذا التلون، وله مساعد مسلم من الهند، فلما رآه قد زادت به الحيرة، صار يتمتم بآيتين من كتاب الله عدة مرات، فسأله ذلك العالم عما يقول فترجم معناهما وهما
__________
(1) سورة الجاثية الآية 14
(2) انظر كتابه هذا ص28-30.(62/253)
قول الله في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (1) {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (2) . فما كان منه إلا أن طلب إعادة الترجمة عدة مرات وهو يتأمل، ثم قال: وجدت الحل في حكمة الله، كما هي ماثلة أمامنا في النباتات والإنسان وغيره من المخلوقات المختلفة بلونها.
وكان هذا دافعا قويا لإسلامه ولتعمقه في فهم معاني القرآن الكريم العميقة.
أما الثاني: فقد كان بحارا، ومعه مساعد له من الجزيرة العربية، وفي إحدى الرحلات طغى عليهم موج البحر وتلاطمت أمواجه، ونال منه الجهد وهو ممسك بعجلة القيادة، والموج يعلوهم تارة وينخفض أخرى، والظلمات تحيط بهم من كل جانب، مع مطر شديد وريح عاصف، فطلب من هذا العربي أن يساعده ويمسك بعجلة القيادة بقدر ما يستطيع، حتى يتفادى كارثة كادت تحيق بهم، فجاء عنده، وبدأ في تدبير الأمر مع عجلة القيادة وهو يدعو ربه، ويقرأ قول الله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 27
(2) سورة فاطر الآية 28
(3) سورة النور الآية 40(62/254)
وما زال هذا المسلم يرددها وهو يدعو ربه، حتى خفت الأمواج، وسكن الريح والمطر، فسأله الربان ماذا كنت تقول، فأخبره بأنه كان يقرأ آية في كتاب الله القرآن. فطلب الربان إخباره عنها فأخبره بمعناها فقال: هل كان محمد ربان سفينة، أو قد ركب البحر؟ فلما أجابه بالنفي، قال: ما قيل لنا: بأن القرآن من تأليف محمد فهو غير صحيح، من الآن عرفت أنه من قوة فوق قدرة البشر، لقد كنت أعيش في البحر بحارا سنين طويلة ولم يمر علي مثل هذه الليلة وهأنذا أرى الواقع العجيب، في معنى ما ذكرت من القرآن، فأريد أن أتعلم الإسلام الذي يدلنا على أمور لا يدركها حتى المختصون في مجالها، وتعلم الإسلام وهداه الله إليه فأسلم عن علم ويقين.
ولذا فإن كثيرا ممن أسلموا في ديار الغرب كان دخولهم عن طريق القناعة العلمية، بما ثبت لديهم من منهج القرآن في التعليم، والنفاذ إلى أعماق القلوب، بما هو محسوس ومقنع.
يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (1) {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (2) {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) . .
__________
(1) سورة ص الآية 27
(2) سورة ص الآية 28
(3) سورة ص الآية 29(62/255)
الخاتمة:
إن أساس منهج الدعوة إلى الله، وشموليتها لكل إحساس يخطر ببال ابن آدم على وجه الأرض، وبأي لغة يتحدث، متوفر في كتاب الله جل وعلا، لأن فيه الهدي والنور، وفيه الكمال، وراحة البال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) . فما ترك خيرا فيه مصلحة للثقلين - الجن والإنس - إلا وأرشد إليه، وما ترك شرا إلا وحذر الناس منه، سواء في أمور الدنيا، أو لما فيه السعادة الأخروية، سواء بالعبارة الواضحة أو بالمثل الذي يقرب الأمر المراد إلى الأذهان لتتفكر وتدرك حكمة الله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (2) . {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3) .
ولأن اللغة العربية، هي أبلغ اللغات البشرية، ومعانيها لا تحتمل دلالات متباينة، فقد خص الله هذه اللغة بمميزات عديدة ومنها: أنها لغة أهل الجنة، ونزل بها القرآن الكريم، ومعانيها ودلالة لفظها تصل إلى أعماق القلوب، وقد دخل بسبب ذلك
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة العنكبوت الآية 43
(3) سورة الرعد الآية 4(62/256)
كثير ممن أراد الله هدايتهم.
نموذج ذلك الطبيب الفرنسي، موريس بو كاي الذي جعل من نفسه داعية للنصرانية، لكل من يأتي إليه للعلاج، مستغلا بعض الحجج والشبهات، التي تثار ضد الإسلام، ومشككا في دلالة بعض المعاني في آيات القرآن الكريم، وأنه ليس من كلام الله صارفا لها عن دلالتها. مستغلا حالتي الجهل عند البعض، والضعف بالمرض لمن يأتونه للعلاج.
وقد هداه الله للإسلام بفضل الله ثم بحكمة وفهم الملك فيصل رحمه الله عندما أراد طرح شبهاته عليه، وكان لسان حاله يقول: إذا شكك الملك فيصل في بعض ما أقول له، فهذا أكبر: نصر للتبشير، وبعد علاجه له بدأ يطرح شبهاته المعتادة مستدلا بأن القرآن جاء فيه كذا وكذا، وأنه من كلام البشر وليس من كلام الله. وبهدوء الملك فيصل رحمه الله سأله بدل أن يكون مسئولا:
هل قرأت القرآن باللغة التي نزل بها وهي اللغة العربية؟ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) . ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2) . فرد عليه بأنني قرأته مترجما إلى اللغات الأوروبية، قال له الملك فيصل: لم تقرأه ولم تفهمه، اقرأه باللغة التي نزل بها ثم ناقشني بعد ذلك؛ لأنك لم تقرأ كلام الله
__________
(1) سورة يوسف الآية 2
(2) سورة النحل الآية 103(62/257)
وإنما قرأت كلام المترجم. ذهب لتعلم العربية بجد، ساعة يوميا لمدة عامين، ثم قرأه باللغة العربية بعد إجادتها فلم يسعه إلا الإسلام، وتغير فهمه للقرآن أخذا من الآية الكريمة: {الم} (1) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ،} (2) . وألف كتابه: (التوراة والإنجيل والقرآن في نظر العلم العصري) الذي بين فيه أن القرآن العظيم هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع المثقف ثقافة عصرية أن يعتقد أنه حق منزل من الله تعالى، ليس فيه حرف زائد ولا ناقص.
فكل آية من كتاب الله الكريم تشتمل على الدعوة والحكمة والعظة.
ومنهج الدعوة في كل آية ينبني أساسا على الإقرار بوحدانية الله، وإخلاص العمل له، والتصديق بأن القرآن حق من الله، والإيمان بالرسل كلهم؛ لأن دين الله واحد {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (3) . والقرآن كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: فيه نبأ
__________
(1) سورة البقرة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 2
(3) سورة الشورى الآية 13(62/258)
ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وهو المعجزة الخالدة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يخاطب العقول على اختلاف مستوياتها، بحجج وبراهين، لتعود إلى الحق، ببراهينه العقلية، وتتبصر في عمق ما يدل عليه بحججه اليقينية.
وإن استقصاء ما في آي الذكر الحكيم في القرآن العظيم من دلائل منهجية لكل أمر لمما يعود الناس المنهج السليم للدعوة الإسلامية، مقرونا بالشواهد والوقائع، وبسط ذلك يقتضي تأليفا مطولا يضيق به وقت المؤتمرات المعدة لإبراز هذا الجانب في مكانة الدعوة الإسلامية.
ولكن أبرز ما يجب على كل مسلم الاهتمام بكتاب الله، والرجوع إليه في كل أمر وتطبيقه في العمل، ومخاطبة الآخرين في الدعوة إلى الله، على منهجه المرسوم، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، سواء كانوا أهل كتاب أو غيرهم من أصحاب المعتقدات، واستمالة قلوبهم بما يؤثر فيها، وتقريب المقارنات بين حالة وحالة بالمثل المضروب، والشاهد المحسوس استيحاء من منهج القرآن، مع نبذ الخلافات، أو العمل خلاف ما يدعو إليه القرآن، والامتثال لأمر الله وأمر رسوله وتحكيمهما في كل أمر يكون فيه خلاف: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) . ذلك أن الدعوة يختلف
__________
(1) سورة النساء الآية 65(62/259)
منهجها في القرآن الكريم بين مدعو ومدعو.
فالجاهل يدعا بالرفق واللين، ليوضح له الحق بدلائله وبراهينه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) . وصاحب الشبهات إذا كان عنده جزء من علم يحاور باللين والرفق ومخاطبة عقله بالأدلة، وفهمه بالبراهين {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) . وعدم الغضب عند المحاورة معهم، أو تسفيه آرائهم، وشتم ما يعبدون حتى لا تأخذهم الحمية الجاهلية، فيكيلوا الصاع صاعين: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3) .
وأن يكون الداعي إلى الحق واسع الصدر، متحملا ما يبدر من تصرفات المدعو، مقربا إليه الأمر المدعو إليه، بما يحفز للتأثير في أحاسيسه، حتى يلين في الاستماع، ولو بعد زمن: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (4) .
أما إذا كان المجادل لديه علم، ولكنه يجادل بالباطل لا للاسترشاد والبحث عن الحقيقة، ويكابر في تلبيس الحق الذي بلغ به، كما هي الحال مع نصارى نجران، الذين حكى الله
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة الأنعام الآية 108
(4) سورة آل عمران الآية 159(62/260)
شبهاتهم في سورة آل عمران وعنادهم، فكانت الدعوة للمباهلة هي الفاصلة {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (1) .
وهكذا نجد أن منهج القرآن في إبانة الحق مع المدعوين بأن يأتي مع كل حادثة حديث، ولكل مقام مقال يتلاءم معه، بحسب حالة القلوب ورغبات النفوس: لينا وتأثيرا أو شدة وتعنيفا.
وما أحكم ما قال الأول:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 61(62/261)
صفحة فارغة(62/262)
عبادات بدنية ومالية
ذات صلة بالعيد في الإسلام
للدكتور: محمد بن عبد الله بن بطيح الشمراني (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن العيد في الإسلام هو من المناسبات التي يجب أن تكون خالصة لله عز وجل، فالمسلم يقوم فيه بعبادات بدنية ومالية لخالقه سبحانه وتعالى. هذه العبادات تعود عليه كلما عاد العيد في كل عام جديد بفرح وغبطة وسعادة وهناء، فهي مما يجدد صلة المسلم بربه، وتكون له مبعث انبساط وانشراح.
فصلاة العيد التي يؤديها المسلمون يوم العيد تكون صلة بين العبد ومولاه، كغيرها من الصلوات، وله فيها راحة في
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية -جامعة الملك سعود. .(62/263)
الدنيا، وجائزة له في الآخرة، حيث يخرج المسلمون رجالا ونساء، كبارا وصغارا لأدائها، ومشاهدتها، فيرجعون من مصلياتهم بذنب مغفور وتجارة لن تبور.
فهذه زكاة الفطر التي هي فرض عين على المسلمين، يؤديها كل قادر عليها تكون طهرة لصائم رمضان من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين لإغنائهم بها عن المسألة في يوم العيد، فيشاركون إخوانهم المسلمين في فعل الطاعات، وإشباع الجوانب المادية لدى الإنسان بالتوسع في أكل المباحات، وممارسة بعض الهوايات من الألعاب المباحة، ولبس الجديد من الثياب ومس الطيب غير منشغلين إلا بما ينشغل به بقية إخوانهم المسلمين في عيدهم السعيد.
فالناظر في زكاة الفطر وآثارها الاجتماعية على مجتمعات المسلمين، ومعالجتها لمشكلة الفقر مع بقية الصدقات عند المسلمين، يتجلى له النظام الاجتماعي التكافلي في الإسلام، وواقعية هذا النظام، وأنه يعالج مشكلة الفقر معالجة جذرية لا يسمو إليها أي نظام بشري مهما بدا للناس حسنه وكماله.
وهذه أيضا الأنساك من الأنعام تذبح في يوم عيد الأضحى المبارك، يتقرب بها المضحي إلى الله تعالى فيقع الدم منها عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فيأكل منها ويطعم أهل بيته، ويهدي أصدقاءه ويتصدق على الفقراء، وتكون له مطية يوم القيامة. ولما كانت معرفة العيد والأحكام المتصلة به من الأهمية بمكان للمسلم، وبخاصة بعد أن وقع الابتداع فيها من بعض(62/264)
المسلمين نتيجة لجهلهم بها، ونظرا لعظم العبادات البدنية والمالية المشروعة يوم العيد، أحببت أن أتكلم عنها، وأن أفرد لها بحثا مستقلا ووسمته بـ (عبادات بدنية ومالية ذات صلة بالعيد في الإسلام) وجعلته في تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، وكل فصل ينتظم عددا من المباحث. فالتمهيد: في تعريف العيد والحكمة من تشريعه، والفصل الأول: في صلاة العيد، والثاني: في زكاة الفطر، والثالث: في الأضحية. أما الخاتمة ففيها تلخيص لأهم ما توصلت إليه من نتائج.
والله أسأل أن يكون نافعا في بابه جامعا لمسائله، وموضحا لأحكامه، إنه أكرم مسؤول، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام.(62/265)
تمهيد في تعريف العيد والحكمة من تشريعه في الإسلام:
العيد: كل يوم مجمع، واشتقاقه من عاد يعود؛ لأنه يعود كل عام، وقيل: سمي عيدا لأنهم قد اعتادوه. والياء في العيد أصلها الواو، لكنها قلبت ياء لكسرة العين، وهو يجمع على أعياد (1) .
وقد شرع في السنة الثانية من هجرة المصطفى (2) . -صلى الله عليه وسلم- حيث إنه عندما هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وجد أن للأنصار في أيام
__________
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ص719
(2) الخرشي، على مختصر خليل، ج2، ص98(62/265)
جاهليتهم عيدين، أحدهما: يسمى عيد النيروز، والثاني: عيد المهرجان (1) ، فنهاهم عن إقامتهما، وأخبرهم أن الله تعالى قد شرع لهم عيدين خيرا منهما، وهما عيد الفطر، وعيد الأضحى، ففي الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: «كان لأهل المدينة يومان في السنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم الأضحى (2) » .
والعيد من شعائر الإسلام الكبرى (3) ، فيجب على المسلمين إحياؤه وإظهاره بما يتناسب مع مقاصده والحكمة من تشريعه، فهو يجمع بين عادات كريمة جبل الإنسان عليها، وعبادات عظيمة تعبد الله تعالى بها المسلم في يوم العيد، ومما شرع له فيه كذلك القيام ببعض الشعائر التعبدية من صلاة وذكر وصدقة وفطر وذبح ونسك، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر
__________
(1) الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، توحيد الأعياد الإسلامية، ص25، 21، والمقريزي في الخطط، ج1، ص493، 494
(2) أخرجه الإمام أحمد، ج3، ص103، والنسائي، ج3، ص179 في كتاب (العيدين) الباب رقم1، وهو حديث صحيح، الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد، ج2، الحديث رقم 12827، مؤسسة الرسالة، بيروت
(3) ابن قدامة المقدسي المغني، ج3، ص254
(4) سورة الكوثر الآية 2(62/266)
أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى (1) » .
بل وفي يوم العيد تؤدى صلاة العيد، والصلاة من أعظم ما يتقرب به العبد إلى مولاه، وكذلك تؤدى زكاة الفطر التي هي طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وتذبح فيه كذلك الأنساك التي يقع الدم منها بمكان عند الله قبل أن يقع على الأرض، ويأكل المضحي منها وأهل بيته، ويهدي إلى الأصدقاء، ويطعم الفقراء. ولذلك فإنه بالزكاة والأضاحي تتجلى لنا صورة من صور النظام التكافلي عند المسلمين الذي سبقت الإشارة إليه والذي لا يحققه، ولا يرقى إليه أي نظام تكافلي عند غير المسلمين مهما كان حسنه وكماله، لاختلاف المصدر والباعث لكل منهما.
__________
(1) أخرجه البخاري، ج2، ص138 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر، ومسلم ج ا، ص 677 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر على المسلمين.(62/267)
الفصل الأول في صلاة العيد: وفيه توطئة واثنا عشر مبحثا:
التوطئة في حكمة مشروعية صلاة العيد:
الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى. يدل على ذلك أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، حيث تأتي بعد الشهادتين، وهي راحة المسلم، فقد ورد(62/267)
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لبلال -رضي الله عنه- في شأنها: «أرحنا بها يا بلال (1) » .
وصلاة العيد من جنس الصلاة، وهي تزيد على غيرها في أن المسلمين يخرجون لها جميعا، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، حتى الحيض من النساء ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ففي الحديث المتفق عليه الذي روته أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى. العواتق والحيض وذوات الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها من جلبابها (2) » .
والحكم التي شرعت لها صلاة العيد عظيمة وكثيرة، وأعظمها أن الله تعالى تعبدنا بها، إلا أن لها مع ذلك حكما أخرى؛ لأن جميع المسلمين الذكور منهم والإناث، الصغار والكبار، مأمورون بالخروج إليها مهللين ومكبرين لينالوا الخير منها ودعوة المسلمين، ويتم التعارف والتواصل والتناصح والتزاور والتهاني، فيتحقق بهذا الاجتماع من المصالح الدينية والدنيوية الشيء الكثير (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج5، ص 371.
(2) أخرجه البخاري، ج2، ص 8 في كتاب (العيدين) باب خروج النساء إلى المصلى، ومسلم، ج1، ص 606 في كتاب (صلاة العيدين) باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، وشهود الخطبة، واللفظ له.
(3) عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام، تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، ج1، ص 323.(62/268)
ولو تأملنا فقط فيما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى صلاة العيد من طريق، والعودة من طريق آخر لاتضحت لنا حكم عظيمة من مشروعية هذه الصلاة، فمما ذكره العلماء عن ذلك قولهم: ليسلم على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركته أهل الطريقين، وقيل: ليقضي حاجة من له حاجة منهما، وقيل. ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق، وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام، وأهله، وقيام شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع، فإن الذاهب إلى المسجد والمصلى إحدى خطواته ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله، والصحيح أنه لذلك كله، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها (1) .
المبحث الأول: حكم صلاة العيد:
الأصل في صلاة العيد الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) فقد قيل في تفسيرها: إنه أمر بالصلاة على العموم، ففيه المكتوبات بشروطها والنوافل، وقيل: إن المراد به صلاة العيد، فالصلاة أولا ثم النحر ثانيا (3) فهذا النص يشمل صلاة العيد سواء كانت هي المخصوصة بالنص أو كان النص عاما لجميع الصلوات المكتوبات، ومنها النوافل.
__________
(1) ابن القيم، زاد المعاد، ج1، ص123، وانظر في ذلك أيضا ابن قدامة المقدسي، في المغني، ج 3، ص283، 284. .
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) ابن عطية، تفسير ابن عطية، ج15، ص584.(62/269)
وأما السنة فقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: «شهدت العيد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة (1) » .
كما أجمع المسلمون على صلاة العيدين (2) وقد اختلفت المذاهب الفقهية في حكمها، فقال الحنفية: إنها واجبة بدليل قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) . فقد قيل في تفسيرها: إنها صلاة العيد، ولأن مطلق الأمر للوجوب. وكذلك لقوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (4) . وقد قيل: إن المراد منه أيضا صلاة العيد. ثم إنها من شعائر الإسلام فلو كانت سنة، فربما اجتمع الناس على تركها فيفوت ما هو من شعائر الإسلام، فكانت واجبة صيانة لما هو من شعائر الإسلام (5) وقال المالكية: إنها سنة مؤكدة، واستدلوا على سنيتها بمواظبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها (6) وقال الشافعية: إنها سنة، واستدلوا على ذلك «بأن
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري، ج2، ص5، كتاب (العيدين) باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم ج1، ص 602، كتاب (صلاة العيدين) الحديث رقم1
(2) انظر: ابن قدامة في المغني، ج3، والكشناوي في أسهل المدارك، ج1، ص334.
(3) سورة الكوثر الآية 2
(4) سورة الحج الآية 37
(5) الكاساني، بدائع الصنائع، ج1، ص275، والشيخ نظام، الفتاوى الهندية، ج1، ص149.
(6) الكشناوي، أسهل المدارك، ج1، ص334، والقرطبي، الكافي، ج1، ص 163(62/270)
رجلا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع (1) » . . . " متفق عليه. ولأنها صلاة مؤقته لا تشرع لها الإقامة، فلم تجب بالشرع كصلاة الضحى (2) .
وقال الحنابلة: إنها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، واحتجوا لقولهم بعدم مشروعيتها على الأعيان. كما يرى الحنفية بأنها صلاة لا يشرع لها أذان ولا إقامة، فهي ليست واجبة عينا كصلاة الجنازة، واحتجوا على المالكية والشافعية الذين يرون أنها سنة، وأنها لو كانت واجبة لشملها خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- السابق، وأيضا لوجبت خطبتها، ووجب استماعها كالجمعة، لأن قول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وأن مداومة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على فعلها دليل على وجوبها، وأنها من أعلام الدين الظاهرة، فكانت واجبة كالجمعة، وأنها لو لم تكن كذلك لما وجب قتال تاركها كما هو في سائر السنن؛ لأن القتال عقوبة والعقوبة لا تتوجه إلى تارك مندوب. أما حديث الأعرابي المذكور فإنه لا حجة لهم فيه؛ لأن الأعراب غير ملزمين بالجمعة لعدم الاستيطان، فإذا كان الأمر
__________
(1) أخرجه البخاري، ج1، ص17، كتاب (الإيمان) باب: الزكاة من الإسلام، ومسلم، ج1، ص40، كتاب (الإيمان) باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام
(2) الشافعي، الأم، ج1، ص230، والشيرازي، المهذب، ج1، ص163.
(3) سورة الكوثر الآية 2(62/271)
كذلك فالعيد من باب أولى (1) .
وما ذهب إليه الحنابلة بأنها فرض كفاية فإذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين أولى بالصواب، لقوة دليلهم كما يظهر لي، والله أعلم.
__________
(1) ابن قدامة، المغني، ج3، ص253، وما بعدها.(62/272)
المبحث الثاني: تحديد أماكن إقامة صلاة العيد:
أداء صلاة العيد في المصلى خارج البلد غير بعيد منه، حتى لا يشق على المصلين أفضل من فعلها في المسجد، ما عدا مكة المشرفة، فإن أداءها في المسجد الحرام أفضل، وذلك لخصوصية المسجد الحرام، حيث إن الصلاة فيه خير من مائة ألف صلاة في غيره، ثم إنه لم ينقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أحد من الذين تولوا على مكة أنهم كانوا يؤدون صلاة العيد خارج المسجد الحرام، يضاف إلى ذلك طبيعة مكة المكرمة حيث إنها جبال وأودية يشق على الناس أن يخرجوا للصلاة في الجبانة (1) .
فالأصل في صلاة العيد أن تصلى خارج البلدة لفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما لم يكن هناك عذر من مطر أو برد شديد، يخشى على الناس منه، أو خوف عدو أو نحو ذلك، لهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يصلي العيد في المصلى الذي على باب المدينة الشرقي (2) ، ولم يرو عنه أنه صلاها في مسجده إلا مرة واحدة في
__________
(1) انظر: الشيخ محمد بن عثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع ج5، ص162. .
(2) انظر: ابن القيم في زاد المعاد، ج ا، ص 441.(62/272)
يوم مطير، فقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: «أصاب الناس مطر في يوم عيد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بهم في المسجد (1) » وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف (2) »
وهذا قول أهل العلم، ولم يرو لهم مخالف إلا ما روي عن الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه قال: إذا كان مسجد البلد واسعا فالصلاة فيه أولى من الصلاة خارجه، لأنه خير البقاع وأطهرها، ولأن أهل مكة يصلون في المسجد الحرام (3) . . .
وقد احتج عليه بأنه فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يخرج إلى المصلى ولم ينقل عنه أنه صلى في مسجده إلا مرة واحدة لعذر، ولا يمكن أن يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأفضل مع قربه، ويتكلف الأبعد
__________
(1) أخرجه أبو داود، ج1، ص686 في كتاب (الصلاة) باب: يصلى بالناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر، وابن ماجه، ج 1، ص416، في كتاب (إقامة الصلاة والسنة فيها) باب: ما جاء في صلاة العيد في المسجد إذا كان مطر.
(2) أخرجه البخاري، ج2، ص4، في كتاب (العيدين) باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر، ومسلم، ج1، ص605، في كتاب (صلاة العيدين) الحديث رقم 889.
(3) الشيرازي، المهذب، ج1، ص 164(62/273)
مع نقصه، وهو القدوة لأمته وفعله تشريع.
واحتج عليه كذلك بإجماع المسلمين، حيث إن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد فيه مع سعة المسجد وضيقه، وبما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قيل له: قد اجتمع في المسجد ضعفاء الناس وعميانهم، فلو صليت بهم في المسجد؟ فقال: أخالف السنة إذا، ولكن نخرج إلى الصلاة واستخلف من يصلي بهم في المسجد أربعا (1) .
وهذا الأثر في سنن البيهقي، ونصه عن هزيل أن عليا أمر رجلا أن يصلي بضعفة الناس في المسجد يوم فطر أو يوم أضحى وأمره أن يصلي أربعا فهذا الأثر لم يرد فيه جملة (أخالف السنة إذا) ولكن روي في أثر آخر عنه -رضي الله عنه- أنه قال: من السنة أن يمشي الرجل إلى المصلى، وقال: الخروج يوم العيدين من السنة ولا يخرج إلى المسجد إلا ضعيف أو مريض، زاد معاوية: لكن اخرجوا إلى المصلى ولا تحبسوا النساء (2) .
__________
(1) انظر: ابن قدامة، المرجع السابق، ج3، 260.
(2) انظر: المرجع السابق الكتاب، والباب، ص 311(62/274)
وتحديد أماكن مصليات العيد موكول أمره إلى ولاة الأمر، فهم المسؤولون عن تحديد هذه المصليات؛ اقتفاء لفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، فهم أدرى بما يحتاج إليه المصلون من مصليات، وبما هو أنفع لهم، ولا يشق عليهم، لأن الإكثار منها بما لا حاجة إليه من الأمور المكروهة (1) ، ولأنه كلما كثر تجمع المسلمين في مصلى واحد كان أفضل، لأن الكثرة من شعار العيد ومظاهره.
لكن صلاة العيد خارج البلد مقيدة بما لا يشق على المصلين، فمتى تبين أن الخروج فيه مشقة عليهم كانت الصلاة في الجوامع أفضل من الصلاة في الجبانة (2) ، فعلى ولاة الأمر أن يعينوا الجوامع المناسبة لصلاة العيدين داخل المدينة، رفعا للحرج عن الناس وعدم تكليفهم ما لا يطيقون؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث السواك: «لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (4) » ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به (5) » .
__________
(1) انظر: محمد الشربيني الخطيب، المرجع السابق، ج 2، ص 386.
(2) أي الصحراء، انظر. الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص1184
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) أخرجه البخاري، ج1، ص214، في كتاب (الجمعة) باب: السواك يوم الجمعة، ومسلم، ج1، ص220، في كتاب (الطهارة) باب: السواك.
(5) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1458، في كتاب (الإمارة) باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم.(62/275)
ويمكن تصور هذه المسألة في ضوء ما هو حاصل الآن في المدن من اتساعها وكثرة عدد سكانها، وازدحام الطرقات فيها بالسيارات، وصعوبة الخروج منها في وقت واحد، والدخول إليها كذلك. فلو لم تفتح الجوامع للناس لأداء صلاة العيدين فيها بدلا من المصليات خارجها، لتعذر على كثير من المصلين أداء هذه الصلاة، والله تعالى أعلم.(62/276)
المبحث الثالث: ما يشترط لصلاة العيد:
لم تختلف أقوال أهل العلم كثيرا حول ما يشترط لصلاة العيد، فقد تقاربت أقوالهم في ذلك. فقد قال المالكية: إن كل من تلزمه صلاة الجمعة تلزمه صلاة العيد، فتلزم عندهم كل مسلم حر بالغ عاقل مستوطن قادر على السعي إليها من أهل القرى والأمصار، وأن يحضرها عشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: خمسون، وقيل: ثلاثة سوى الإمام (1) وقال الحنفية: يشترط لها ما يشترط للجمعة من المصر والجماعة والوقت والذكورة، والعقل والبلوغ والحرية، وصحة البدن، والإقامة (2) . وقال الشافعية: إن من لزمته الجمعة فرضا لزمه العيد كفاية، أي أن من خوطب بالجمعة خوطب بالعيدين. فهي
__________
(1) القرطبي، الكافي، ج1، ص248، وما بعدها، وحاشية الشيخ علي العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل، ج1، ص98.
(2) الكاساني، بدائع الصنائع، ج1، ص175(62/276)
تلزم كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مستوطن، قادر على المشي إليها غير معذور، وأن يحضرها أربعون (1) .
وقال الحنابلة: يشترط لها ما يشترط لصلاة الجمعة، وهي سبعة شروط: الاستيطان، والذكورة، والبلوغ، والعقل، والإسلام، وأن تكون في مصر، وأن يحضرها أربعون، فهي لا تقام إلا حيث تقام الجمعة، وهذا مذهب أبي حنيفة، كما سبق ذكره، إلا أنه لا يرى ذلك إلا في مصر لما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع (2) » . .
بينما يرى الحنابلة أنها تقام في القرى والأمصار، متى وجد الأربعون، وهذه رواية في المذهب، والثانية: أنها تصح من المسافر والمنفرد والعبد والنساء (3) . مما يفهم منه أن عدد الأربعين ليس بشرط لصحة صلاة العيد، وإنما هو شرط لوجوبها على الكفاية فحسب.
ومما تجدر الإشارة إليه أن القياس هو الدليل على اشتراط عدد الأربعين لصحة صلاة العيد عند من يشترط ذلك. وعليه فإنه يظهر لي -والله أعلم- جواز انعقادها بأقل الجمع، وهو الثلاثة، وأنها تصح من المسافر والمنفرد والعبد والمرأة متى صلوها على الصفة التي وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة وأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وداوم عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى توفاه الله تعالى.
__________
(1) النووي، المجموع، ج5، ص3، وانظر المرجع نفسه، ج4، ص483. .
(2) أخرجه عبد الرزاق، ج3، ص301، كتاب (العيدين) .
(3) ابن قدامة، المغني، ج3، ص 202، وما بعدها، ص287(62/277)
المبحث الرابع: الخروج لصلاة العيد:
صلاة العيدين كغيرها من الصلوات في استحباب التهيؤ والاستعداد لها والتبكير، فللمبكر من الأجر ما ليس لمن يأتيها متأخرا. فهذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول عمن بكر لصلاة الجمعة: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر (1) »
وللمبكر للصلاة ثواب عظيم بدليل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا ألا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا (2) »
وقد كان السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- يبكرون بالخروج إلى صلاة العيدين، لإدراكهم ثوابه العظيم، فهذا يزيد بن عبيد يقول: " صليت مع سلمة بن الأكوع في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، ثم خرج فخرجت معه حتى أتينا المصلى فجلس وجلست
__________
(1) أخرجه مسلم، ص582، في كتاب (الجمعة) باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، واللفظ له، والبخاري، ج1، ص158، 159 في كتاب (الأذان) باب: فضل صلاة الجماعة. .
(2) أخرجه البخاري، ج 1، ص159، في كتاب (الأذان) باب: فصل التهجير. .(62/278)
حتى جاء الإمام " (1) وروى مالك -رحمه الله تعالى- عن سعيد بن المسيب أنه كان يغدو إلى المصلى بعد أن يصلي صلاة الصبح قبل طلوع الشمس.
ومن السنة التعجيل بصلاة عيد الأضحى وعدم الأكل قبلها، ليتسع الوقت لذبح الأضحية، والأكل منها، وتأخير صلاة الفطر ليتسع الوقت كذلك لإخراج زكاة الفطر، وتناول تمرات تؤكل وترا قبل الذهاب إلى الصلاة، فقد روي عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات- قال أنس -: يأكلهن وترا (2) » .
وعن ابن بريدة عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي (3) » .
__________
(1) أبو بكر القريابي، أحكام العيدين، ص 104.،
(2) أخرجه البخاري، ج2، ص3، في كتاب (العيدين) باب: الأكل يوم الفطر قبل الخروج.
(3) أخرجه الترمذي: ج2، ص426، في كتاب (أبواب الصلاة) باب: ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج، والإمام أحمد ج5، ص52، وابن ماجه ج5، ص558، في كتاب (الصيام) باب في الأكل يوم الفطر قبل أن يخرج.(62/279)
وصلاة العيدين من شعائر العيد، ولذلك حث عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورغب المسلمين في الخروج إليها رجالا ونساء، كبارا وصغارا حتى العواتق من النساء والحيض وذوات الخدور؛ ليشهدوا الخير، ودعوة المسلمين. قالت أم عطية -رضي الله عنها-: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها (1) »
ويستحب أن يخرج إليها المسلمون مشيا على الأقدام لما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: «من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيا، وأن تأكل قبل أن تخرج (2) » ، ولما روي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى العيد ماشيا، ويرجع ماشيا (3) » وأن يمشي إليها بسكينة ووقار للحديث المتفق عليه الذي رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- حيث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم، ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار، صل ما أدركت
__________
(1) سبق تخريجه. .
(2) أخرجه الترمذي، ج2، ص410، في كتاب (أبواب الصلاة) باب: ما جاء في المشي يوم العيد.
(3) أخرجه ابن ماجه، ج1، ص411، في كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في الخروج إلى الصلاة ماشيا.(62/280)
واقض ما سبقك (1) » . .
غير أنه لو ركب فلا بأس بذلك وعلى وجه الخصوص إذا كان من أهل الأعذار أو كان المصلى بعيدا يخشى أن تفوته الصلاة أو بعض منها إذا ذهب إليها ماشيا.
ومن السنة أنه إذا خرج من طريق رجع من طريق آخر، لما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد في طريق رجع من غيره (2) » ، ولما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا خرج إلى العيدين سلك على دار سعيد بن أبي العاص، ثم على أصحاب الفساطيط، ثم انصرف في الطريق الآخر. . .
واختلف في تفسير الحكمة من ذهاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طريق وعودته من طريق آخر، فقيل: إنه من أجل السلام على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركته أهل الطريقين، وقيل: إنه من أجل حاجة المحتاج من أهل الطريقين، وقيل: إنه من أجل إظهار شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق، وقيل: إن المقصود من ذلك هو إغاظة المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله وقيام
__________
(1) أخرجه البخاري، ج1، ص218، في كتاب (الجمعة) باب: المشي إلى الجمعة، ومسلم، ج1، ص421، في كتاب (المساجد) باب. استحباب إتيان الصلاة بوقار واللفظ له
(2) أخرجه الترمذي، ج2، ص424، في كتاب (أبواب الصلاة) باب: ما جاء في خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العيد.(62/281)
شعائره، وقيل: بل من أجل طلب زيادة الحسنات وحط الخطيئات؛ لأنه بكل خطوة يخطوها المسلم إلى المسجد أو المصلى ترفع له بها درجة وتحط بها عنه خطيئة، ويشهد لذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة (1) » . .
هذه التفسيرات لحكمة خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طريق وعودته من طريق آخر تفسيرات مقصودة أصلا في الإسلام الذي يسعى دائما وأبدا لتحقيقها في واقع المسلمين في كل زمان ومكان، فما المانع أن تكون جميعها مرادة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا سيما أنه القدوة الحسنة لأمته؟ هذا ما أظنه أنه مراد لصاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى أعلم.
ولا شك أن خروج المسلمين وشهودهم صلاة العيد على الوجه الذي أراده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مظهر من مظاهر العيد عند المسلمين، ومن دينهم الذي ارتضاه الله لهم، ولذلك فإنه إذا غم العيد عليهم فلم ينكشف لهم إلا بعد خروج وقت الصلاة لزمهم الإفطار وجوبا إذا كانوا صواما، والخروج إلى المصلى من غد،
__________
(1) أخرجه مسلم، ج1، ص462 في كتاب (المساجد) باب: المشي إلى الصلاة، واللفظ له، والبخاري، ج1، ص158، في كتاب (الأذان) باب: فضل صلاة الجماعة(62/282)
لما روي عن أبي عمير بن أنس بن مالك -رضي الله عنهما- عن عمومة له من الصحابة «أن ركبا جاءوا فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم (1) » . والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد، ج5، ص57، وأبو داود، ج2، ص754، في كتاب (الصوم) باب: شهادة رجلين على رؤية هلال شوال، وأحمد، ج4، ص314(62/283)
المبحث الخامس: وقت أداء صلاة العيد:
أما عن وقت أداء صلاة العيد فهو من حيث ترتفع الشمس قيد رمح حتى قائم الظهيرة، وذلك ما بين وقتي النهي عن صلاة النافلة. وهذا قول الجمهور: المالكية (1) ، والحنفية (2) ، والحنابلة (3) ؛ لما رواه عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب (4) » ولما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا
__________
(1) القرطبي، الكافي، ج1، ص264
(2) الكاساني، بدائع الصنائع، ج1، ص176.
(3) ابن قدامة، المغني، ج3، ص266.
(4) أخرجه مسلم، ج1، ص568، كتاب (صلاة المسافرين) .،(62/283)
بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان (1) »
وقال الشافعية: إن وقتها ما بين طلوع الشمس إلى أن تزول (2) ، واستدلوا على ذلك بما رواه يزيد بن خمير الرحبي قال: خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام فقال: «إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح (3) »
والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور، لأن الوقت الذي ذكره الشافعية وقت نهي، وخلاف الأولى، كما يتضح من أدلة الجمهور؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يصل العيد إلا بعد أن ترتفع الشمس، وكذلك الأمة من بعده، بدليل أنه الوقت المجمع على أفضليته، ولا يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا ما هو الأفضل والأولى. أما حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- فإنه يوحي بأن سبب إنكاره تأخر الإمام عن الوقت المجمع عليه وليس عن وقت الشروق، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري، ج4، ص92، كتاب بدء الخلق واللفظ له، ومسلم، ج1، ص567، كتاب (صلاة المسافرين) . .
(2) الشيرازي، مرجع سابق، ج1، ص164
(3) أي صلاة الضحى. أخرجه أبو داود، ج1، ص675، كتاب (الصلاة) وابن ماجه، ج، ص418، كتاب (إقامة الصلاة) . .(62/284)
وهذا الوقت الذي ذكر لصلاة العيدين -الفطر والأضحى- هو وقت توقيفي وهو من ارتفاع الشمس قيد رمح أو رمحين إلى الزوال إلا أنه قد يغم على الناس في عيد الفطر المبارك، فلا يعلمون بدخول شهر شوال إلا بعد زوال الشمس من اليوم الأول منه، ففي هذه الحالة يلزمهم الإفطار وجوبا، وتأخير صلاة العيد إلى اليوم الثاني، لخروج وقتها لفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فقد روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أن ركبا جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم (1) » . وفي رواية ابن ماجه قال: حدثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: «أغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد (2) »
__________
(1) أخرجه أبو داود ج1، ص864، (كتاب الصلاة) باب: إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه يخرج من الغد، والنسائي ج 3، ص 180، كتاب (صلاة العيدين) باب: الخروج إلى العيدين من الغد
(2) أخرجه ابن ماجه، ج1، ص529، كتاب (الصيام) باب: ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال. .(62/285)
المبحث السادس: إمامة الناس في صلاة العيد:
الأم بالفتح: القصد، فأمه يؤمه أما إذا قصده، وأم القوم، وأم بهم تقدمهم، وهي الإمامة، والإمام كل من ائتم به قوم كانوا.(62/285)
على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين. قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (1) . وإمام كل شيء قيمه والمصلح له، وأم القوم في الصلاة، أي تقدمهم فاقتدوا به في صلاتهم (2) .
فالإمامة مشتقة من الأم، وهو القصد، وتطلق على الخلافة، وما يقوم مقامها من الملك والرئاسة، وعلى إمامة الناس في الصلاة، وكذلك على العالم المقتدى به (3) ، ولذلك فهي ذات شأن عظيم وقدر كبير في الإسلام. وتعرف في الصلاة بأنها: ربط صلاة المؤتم بالإمام (4) وعليه لا يعتبر الإمام إماما ما لم يربط المؤتم صلاته بصلاته، ويدل عليه الحديث المتفق عليه: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائما فصلوا قياما (5) » . . . ".
وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يؤم الناس في الصلاة والجهاد وغيرهما، وكذلك الأمراء الذين استعملهم -صلى الله عليه وسلم- على البلدان والغزوات كانوا يؤمون الناس في الصلوات، وقد جرت
__________
(1) سورة الإسراء الآية 71
(2) ابن منظور، المرجع السابق، ج 1، ص 132، 133.
(3) عبد المحسن المنيف، في أحكام الإمامة الائتمام في الصلاة، ص 62.
(4) انظر الدر المختار، المطبوع على حاشية ابن عابدين ج1، ص 549.
(5) أخرجه البخاري، ج1، ص100، في كتاب (الصلاة) باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، ومسلم ج1، ص 303 في كتاب (الصلاة) باب: التشهد في الصلاة.(62/286)
بذلك السنة في عهد الخلفاء الراشدين، ومن اقتدى بهم من ولاة الأمور في الدولة الأموية والعباسية في أن من يتولى أمور المسلمين في الجهاد وغيره، هو الذي يؤمهم في الصلاة (1) .
وقد اقتضى اتساع الدولة الإسلامية ودخول الناس في دين الله أفواجا تعددا في الوظائف وزيادة في الترتيب. ومن ذلك حاجة المسلمين إلى من يؤمهم في الصلوات، فتعين على ولي الأمر أو من يفوضه بتعيين أئمة للناس للصلاة بهم، وخاصة بعد أن قل العلم الشرعي عند كثير ممن يتولون الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- شروطا لأحق الناس بالإمامة بناء على قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما (2) » «ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» .
وقد جاء في الحديث كما نرى أن أحق الناس بالإمامة الأقرأ ثم الأفقه، ثم الأسبق هجرة ثم الأقدم إسلاما، لكنه وقع خلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى- في الأقرأ والأفقه، هل الأقرأ هو المقدم على الأفقه، لأنه سبقه في الترتيب أم أن الأفقه أحق
__________
(1) انظر ابن تيمية في الفتاوى، ج35، ص34
(2) أخرجه مسلم، ج1، ص464 في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) .(62/287)
باعتباره أفهم وأعلم بأحكام الصلاة وغيرها وقد علل الحنفية تقديم الأفقه على الأقرأ، وهم ممن يقدمونه بأن القراءة يحتاج إليها في ركن واحد، والعلم يحتاج إليه في جميع الصلاة، والخطأ المفسد للصلاة في القراءة لا يعرف إلا بالعلم (1) . فإذا كان هناك من يقدم الأفقه مطلقا على الأقرأ، وأنه أحق بالإمامة في جميع الصلوات، فإن تقديمه يتأكد في صلاة الجمعة والعيدين، لاشتمالهما على خطب تحتاج إلى الفقه في أحكام الدين، بما في ذلك أحكام الصلوات. ولذلك لا بد في صلاة العيدين أن يتطرق الخطيب في خطبته إلى تعليم الناس أحكام الزكاة في خطبتي صلاة الفطر، وأحكام الأضحية في خطبتي صلاة الأضحى، إلى جانب ما يعالج من مواضيع أخرى، وكل من ليس عنده فقه لا يمكن أن يحسن الحديث عن مثل هذه المواضيع.
ويؤيد تقديم الأفقه على الأقرأ قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «مروا أبا بكر فليصل بالناس (2) » ، مع أنه لم يكن -رضي الله عنه- أقرأ الصحابة، وإنما كان أعلمهم. فقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه
__________
(1) السرخسي في المبسوط، ج1، ص41
(2) أخرجه البخاري، ج1، ص165، في كتاب (الصلاة) باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما.(62/288)
قال: «أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب (1) » . . . وقال: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب (2) » . والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري، ج1، ص165، في كتاب (الصلاة) باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري، ج1، ص165، في كتاب (الصلاة) باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما.(62/289)
المبحث السابع: صفة صلاة العيد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: قدر صلاة العيد:
أما عن قدر صلاة العيد، فلا خلاف بين أهل العلم أنها ركعتان مع الإمام. فقد ثبت بالتواتر أنه -صلى الله عليه وسلم- صلاها ركعتين، وكذلك الأئمة من بعده إلى يومنا هذا. وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان. تمام غير قصر على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- (1) » وهي تؤدى على الصفة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤديها بها،
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، ج1، ص 338، كتاب (إقامة الصلاة) باب: تقصير الصلاة في السفر، والنسائي، ج 3، ص 118، كتاب: تقصير الصلاة في السفر، والإمام أحمد ج1، ص37.(62/289)
وهي كسائر الصلوات، وذلك أنه في غداة يوم العيد يندب للمسلمين التنظف والتطهر والتطيب، ولبس أحسن ما يجدون، ثم التوجه إلى مصلى العيد جاهرين بالتكبير والتهليل والتحميد؛ لما روى ابن عباس والفاكه بن سعد «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى (1) » ولما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك (2) » ، فقد علل هذه الأشياء بكون الجمعة عيدا، وذلك أنه يوم يجتمع فيه الناس للصلاة، فاستحب فيه الغسل كيوم الجمعة (3) .
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: وجد عمر بن الخطاب حلة من إستبرق تباع بالسوق، فأخذها فأتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد وللوفد. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما هذه لباس من لا خلاق له (4) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد، ج4، ص 78 وابن ماجه، ج1، ص417، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في الاغتسال في يوم العيد.،
(2) أخرجه ابن ماجه، ج1، ص349، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في الزينة يوم الجمعة.
(3) ابن قدامة، المغني ج 3، ص 257
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري ج2، ص2، كتاب (العيدين) باب: في العيدين والتجمل فيه، ومسلم ج2، ص1639، كتاب (اللباس والزينة) باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة.(62/290)
ويستفاد من هذا الحديث أن التجمل والتزين لمثل هذه المناسبات كان مشهورا، ومطلوبا أيضا (1) ، ولا غرابة في ذلك، فإن الله تعالى قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2) . ويؤيده ما رواه جابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس بردة حبرة في كل عيد (3) » .
وإذا حل وقت الصلاة وجاء الإمام تقدم وصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة لما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة (4) » . .
ولما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة (5) »
وليس في هذا خلاف بين أهل العلم. إلا ما روي عن
__________
(1) ابن قدامة المقدسي، مرجع سابق، ج3، ص257.
(2) سورة الأعراف الآية 31
(3) أخرجهما البيهقي ج3، ص280، كتاب (صلاة العيدين) باب: الزينة للعيد.
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري، ج2، ص5، كتاب (العيدين) باب: المشي والركوب إلى العيد، والصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة '' ومسلم، ج1، ص603 كتاب (صلاة العيدين) باب رقم 4
(5) أخرجه مسلم، ج 1، ص604، كتاب (صلاة العيدين) باب رقم 7.(62/291)
الشافعية أنه ينادى لها " الصلاة جامعة " لما روي عن الزهري أنه كان ينادي به (1) ، ولكن هذا على خلاف السنة؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أحد من خلفائه، وسنته أولى بالاتباع، والأحاديث السابقة شاهدة على ما ذكر، والله أعلم.
__________
(1) الشيرازي، المهذب، ج1، ص166(62/292)
المطلب الثاني: التكبير في صلاة العيد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في عدد التكبيرات في صلاة العيد:
يكبر في الركعة الأولى: سبع تكبيرات بتكبيرة الإحرام، وفي الثانية: خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام، وذلك قبل الشروع في القراءة، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (1) ؛ لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الأولى وخمسا في الأخرى ولم يصل قبلها، ولا بعدها، قال أبي: وأنا أذهب إلى هذا (2) » ولما أخرجه أبو داود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى: سبع تكبيرات، وفي الثانية: خمسا (3) » ، وأيضا أخرجه ابن ماجه
__________
(1) الكشناوي، أسهل المدارك، ج1، ص334، وابن قدامة، المغني، ج3 ص271
(2) أخرجه الإمام أحمد، ج1، ص180، وابن ماجه، ج1، ص407. كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين.،
(3) أخرجه أبو داود، ج1، ص680، كتاب (الصلاة) باب: التكبير في العيدين.(62/292)
وزاد فيه: «سوى تكبيرتي الركوع (1) » ، ولما رواه كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين، في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة (2) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التكبير في العيدين سبعا قبل القراءة وخمسا بعد القراءة (3) » ، وعن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه قال: " شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة " وقال مالك: " وهو الأمر عندنا ".
ومن مجمل هذه الآثار يتضح أن التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين هي اثنتا عشرة تكبيرة، سبعا في الركعة الأولى، وخمسا في الركعة الثانية، وكلها قبل القراءة. وقد خالف في
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، ج1، ص407، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء كم يكبر الإمام في العيدين.
(2) أخرجه الترمذي، ج2، ص416، أبواب: الصلاة، باب: ما جاء في التكبير في العيدين
(3) أخرجه الإمام أحمد، ج2، ص357، وابن أبي شيبة، ج2، ص173، والإمام مالك في الموطأ، ج1، ص180، كتاب العيدين، باب: ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيدين وعبد الرزاق، ج3، ص292، باب: التكبير في الصلاة يوم العيد.(62/293)
ذلك الحنفية والشافعية، فقال الحنفية: إنه يكبر في الأولى للافتتاح، وثلاثا بعدها ثم يقرأ الفاتحة وسورة، ويكبر تكبيرة يركع بها ثم يبتدئ في الركعة الثانية بالقراءة، ثم يكبر ثلاثا بعدها، ويكبر رابعة يركع بها (1) . . واستدلوا لقولهم هذا بما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " في التكبير في العيدين تسع تكبيرات، في الركعة الأولى خمسا قبل القراءة، وفي الركعة الثانية يبدأ بالقراءة، ثم يكبر أربعا مع تكبيرة الركوع " قال الترمذي: " وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وهو قول أهل الكوفة، وبه يقول سفيان الثوري " (2) ، وبما رواه علقمة والأسود بن يزيد قال: " كان ابن مسعود جالسا وعنده حذيفة وأبو موسى الأشعري فسألهما سعيد بن العاص عن التكبير في الصلاة يوم الفطر والأضحى؟ فجعل هذا يقول: سل هذا؟ وهذا يقول: سل هذا؟ فقال له حذيفة: سل هذا؟ - لعبد الله بن مسعود - فسأله؟ فقال ابن مسعود: يكبر أربعا ثم يقرأ، ثم يكبر فيركع، ثم يقوم في الثانية فيقرأ ثم يكبر بعد القراءة " (3) .
وقال الشافعي: يكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وسوى تكبيرة الركوع، وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة
__________
(1) ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج2، ص74
(2) أخرجه الترمذي، ج2، ص417، كتاب (أبواب الصلاة) ، باب: ما جاء في التكبير في العيدين.
(3) أخرجه عبد الرزاق ج3، ص293، 294، باب: التكبير في صلاة يوم العيد.(62/294)
القيام من السجود، والهوي إلى الركوع (1) ، وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما روي عن عروة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الاستفتاح (2) » . .
وأيضا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في الفطر في الأولى سبعا، وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة الصلاة (3) »
ويظهر لي، والله أعلم أن الراجح من الأقوال في التكبير في العيدين هو قول المالكية والحنابلة، وذلك لصحة أحد الأحاديث التي استشهدوا بها، وهو الحديث المروي عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن أبي هريرة حيث قال عنه البخاري: إنه حديث صحيح عندما سأله الترمذي عن حديث آخر رواه الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر فقال: الفرج بن فضالة ذاهب الحديث، والصحيح ما رواه مالك وغيره من الحفاظ عن نافع عن أبي هريرة فعله. أما بقية الأحاديث في هذا الخصوص فلا تسلم من مقال قال الحاكم عن طرقها: " الطرق إلى عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة فاسدة "
__________
(1) النووي، المجموع، ج5، ص17
(2) أخرجه الدارقطني، ج2، ص46، كتاب (العيدين)
(3) أخرجه الدارقطني، ج2، ص48، والإمام أحمد، ج1، ص180، وابن ماجه. ج1، ص407، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين، دون جملة (سوى تكبيرة الصلاة) .(62/295)
المسألة الثانية: استحباب رفع اليدين مع كل تكبيرة:
ويستحب أن يرفع يديه مع كل تكبيرة من تكبيرات صلاة العيدين، كما يرفعهما مع تكبيرة الإحرام، وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة. واستدلوا على ذلك بما رواه عمر بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أبو قتادة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ويقر كل عضو منه في موضعه، ثم يقرأ ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه "، وبما رواه بكر بن سوادة: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيدين ".
وقال المالكية: لا يرفع يديه مع التكبيرات الزوائد في العيدين، وإن الرفع مختص فقط برفعهما مع تكبيرة الإحرام،(62/296)
وذلك أنها تكبيرات تفعل في أثناء الصلاة فأشبهت تكبيرات السجود (1) .
ويظهر لي - والله أعلم - أن قول الجمهور هو الراجح في هذه المسألة، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه مع تكبير الركوع والرفع منه، وهو تكبير يحدث أثناء الصلاة، ولأن صلاة العيد تشبه الصلوات المفروضة وغير المفروضة في كيفيتها، فالتكبير هنا كالتكبير هناك، وهكذا، ثم إن التكبير هنا يخالف التكبر في السجود؛ لأنه يحدث أثناء القيام، فهو بمنزلة تكبيرة الافتتاح، كما قال ابن قدامة رحمه الله تعالى (2)
__________
(1) الكشناوي، أسهل المدارك، ج1، ص264، وابن قدامة، المغني، ج3، ص273.
(2) ابن قدامة، المغني، ج3، ص273. .(62/297)
المسألة الثالثة: صفة التكبير:
وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر ست مرات في الركعة الأولى على الرأي الراجح الذي سبق ذكره، وذلك بعد تكبيرة الإحرام، ودعاء الاستفتاح، وقبل القراءة، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة القيام للركعة الثانية، وقبل القراءة ثم يتعوذ ويشرع في القراءة.
ويستحب أن يحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد تكبيرة الإحرام، ثم يفعل ذلك بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة(62/297)
وأصيلا، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، وإن قال غير ذلك جاز (1) .
أما الحنفية والمالكية فقالوا: ليس بين التكبيرات الزوائد في صلاة العيد أي ذكر مسنون، بل يكبر تكبيرا متواليا لا ذكر بينه؛ لأنه لو كان بينه ذكر مشروع لنقل كما نقل التكبير، ثم قالوا: إنه ذكر من جنس مسنون فلزم أن يتوالى كما يتوالى التسبيح في الركوع والسجود إلا أنهم قالوا: بالسكوت بين كل تكبيرتين فقال المالكية: يكبر تكبيرات ولاء إلا قدر تكبير المؤتم، وقال الحنفية: يسكت بقدر ثلاث تسبيحات (2) .
وقد احتج الشافعية والحنابلة على المخالفين لهم في هذا بما رواه علقمة أن ابن مسعود وأبا موسى، وحذيفة خرج إليهم الوليد بن عقبة قبل العيد فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه فقال عبد الله: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تقرأ وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر، وتفعل مثل ذلك،
__________
(1) الشافعي، الأم، ج1، ص277، وابن قدامة، المغني، ج3، ص273، وما بعدها.
(2) الكاساني، بدائع الصنائع، ج1، ص277، والخرشي على مختصر خليل، ج2، ص 100.(62/298)
ثم تكبر، وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر، وتفعل مثل ذلك(62/299)
المسألة الرابعة: حكم التكبير:
والتكبير والذكر سنة وليس واجبا، وعليه فإنه في حالة ترك أي منها عمدا أو سهوا لا تبطل الصلاة بتركه، فإذا نسي التكبير حتى شرع في القراءة لا يلزمه أن يعود ليأتي به عند الحنابلة، وهو أحد قولي الشافعي، لأنه ذكر مسنون فلم يعد إليه بعد القراءة كدعاء الاستفتاح. وهناك وجه آخر عند الحنابلة، وهو القول الثاني عند الشافعي، وقول مالك: إنه يعود إليه، لأنه ذكره في محله فيأتي به كما لو كان قبل الشروع في القراءة، وذلك لأن محله القيام وقد ذكره فيه، فيقطع القراءة ويكبر ثم يستأنف القراءة من جديد، لكونه قطعها متعمدا بذكر طويل، ويسجد لسهوه.
أما إذا كان المنسي شيئا يسيرا، فإنه يحتمل أن يبني لقصر الفصل أشبه ما لو قطعها بقول آمين، ويحتمل أن يبتدئ القراءة، لأن محل التكبير قبلها، وهي بعده فيستأنف ليأتي بها بعده.
أما الذي يذكر التكبير بعد القراءة ثم أتى به فإنه لا يلزمه إعادة القراءة لكونها وقعت موقعها، وإن لم يذكره إلا بعد الركوع سقط، لأنه فات محله.
وكذلك المسبوق إذا أدرك الركوع لم يلزمه التكبير فيه إلا عند الإمام أبي حنيفة حيث قال: يكبر، لأن للركوع حكم القيام(62/299)
بدليل أن مدركه يدرك الركعة فكان محلها قائما فيأتي بها، ورد على ذلك بأنه ذكر مسنون في حال القيام، وقد فات فلا يأتي به من الركوع، أشبه دعاء الاستفتاح وقراءة السورة والقنوت، أما كونه أدرك الركعة بإدراكه ركوعها فإنما ذلك لإدراكه معظمها، ولم يفته إلا القيام، وقد حصل منه ما يجزئ في تكبيرة الإحرام.
وأيضا المسبوق إذا لم يدرك الإمام إلا بعد الانتهاء من التكبير فإنه يكبر، لأنه أدرك محله، ويحتمل ألا يكبر، لأنه مأمور بالإنصات إلى قراءة الإمام، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وإذا لم يسمعها فإنه يكبر. .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 204(62/300)
المبحث الثامن: ما يقرأ به في صلاة العيد:
ويشرع له إذا فرغ من التكبير أن يقرأ الفاتحة وسورة معها، أو ما تيسر له من القرآن، وذلك في كل ركعة، ويجهر بالقراءة، وهذا لا خلاف فيه إلا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا قرأ في العيدين أسمع من يليه، ولا يجهر ذلك الجهر (1) .
أما قراءة الفاتحة، فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة، ج 2، ص 180، كتاب (الصلوات) باب: رفع الصوت بالقراءة في العيدين.(62/300)
«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (1) » . . وأما ما تيسر له من القرآن؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم للرجل المسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (2) » .
ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد قراءة الفاتحة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (3) وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (4) وهذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وروي كذلك عن أبي حنيفة (5) ، «لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في العيدين: و (8) » . وفي الراوية الثانية عند الإمام أحمد وقول الشافعية: أنه يقرأ بعد
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري، ج 1، ص 184، كتاب (الأذان) باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم ج 1، ص 295، كتاب (الصلاة) باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري، ج 1، ص 184، كتاب (الأذان) باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم ج 1، ص 298، كتاب (الصلاة) باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(3) سورة الأعلى الآية 1
(4) سورة الغاشية الآية 1
(5) ابن قدامة، المغني، ج 3، ص 269، وابن الهمام، شرح فتح القدير، ج 2، ص 77.
(6) أخرجه أبو داود، ج 1، ص 670، كتاب (الصلاة) باب: ما يقرأ به في الجمعة، والترمذي، ج 2، ص 413، كتاب (أبواب الصلاة) باب ما جاء في القراءة في العيدين، والنسائي، ج 3، ص 184، كتاب (صلاة العيدين) باب: القراءة في العيدين، وابن ماجه، ج 1، ص 408، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في القراءة في صلاة العيدين، والإماء أحمد، ج 5، ص 7، وأبن أبي شيبة، ج 2، ص 176، 177، وعبد الرزاق، ج 3، ص 298، باب: القراءة في صلاة يوم العيد.
(7) سورة الأعلى الآية 1 (6) {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
(8) سورة الغاشية الآية 1 (7) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}(62/301)
الفاتحة سورة (ق) وسورة القمر اقتربت الساعة وانشق القمر (1) ، لما رواه عبيد الله بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بسورة (ق) والقرآن والمجيد، وسورة القمر (2) » . وفي الرواية الثالثة عند الحنابلة وقول الحنفية: إنه ليس هناك سورة متعينة للاستحباب دون غيرها في صلاة العيدين، فأي سورة قرأ جاز ذلك (3) . ويتأيد هذا القول بالحديثين السابقين، وذلك أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: «أنه قرأ سبح اسم ربك الأعلى، والغاشية (4) » وفي الحديث الثاني: «أنه قرأ (ق) واقتربت الساعة (5) » . وهذا يدل على عدم تعين سورة بذاتها في صلاة العيدين، وعليه فإنه يستحب لمن يؤم الناس في صلاة العيدين أن يتخير مما قرأ به الرسول صلى الله عليه وسلم في العيدين ما يناسب موضوع الخطبة ويدل عليها سواء كانت سورة أو بعض آيات من سورة، والله تعالى أعلم.
__________
(1) الزركشي، شرح الزركشي، ج 2، ص 221، والنووي، المجموع، ج 5، ص 16.
(2) أخرجه مسلم، ج 1، ص 607، كتاب (الصلاة) باب: ما يقرأ به في صلاة العيد، وأبو داود، ج 1، ص 683، كتاب (الصلاة) باب ما يقرأ في الأضحى والفطر، والنسائي، ج 2 ص 415، أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في العيدين، وابن ماجه، ج 1، ص 408، كتاب (إقامة الصلاة) باب ما جاء في القراءة في العيدين.
(3) الزركشي، شرح الزركشي، ج 2، ص 221، والسرخسي، المبسوط، ج 2 ص 40.
(4) صحيح مسلم كتاب الصلاة (398) ، سنن النسائي الافتتاح (917) ، سنن أبو داود الصلاة (828) ، مسند أحمد بن حنبل (4/426) .
(5) صحيح مسلم صلاة العيدين (891) ، سنن الترمذي الجمعة (534) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1567) ، سنن أبو داود الصلاة (1154) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1282) ، مسند أحمد بن حنبل (5/219) ، موطأ مالك النداء للصلاة (433) .(62/302)
المبحث التاسع: خطبتا صلاة العيد:
يتم وعظ المسلمين وتذكيرهم بما يهمهم في عيدهم عن طريق خطبتي صلاة العيد، وصفتهما: أن الإمام إذا فرغ من الصلاة على الصفة التي سبق ذكرها يصعد المنبر، ويقبل على الناس ويسلم عليهم ويردوا عليه السلام، ثم يخطب بالمصلين خطبتين يفصل بينهما بجلسة خفيفة، كما هو الحال في خطبتي صلاة الجمعة، لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة (1) » وما روي كذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة (2) » . .
وليس في ذلك خلاف بين المسلمين إلا ما روي عن مروان بن عبد الملك من خلفاء بني أمية أنه قدم الخطبة قبل الصلاة، فأنكر عليه ذلك. فقد روي عن طارق بن شهاب أنه قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة، مروان فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (962) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (884) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1569) ، سنن أبو داود الصلاة (1142) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1273) ، مسند أحمد بن حنبل (1/368) ، سنن الدارمي الصلاة (1610) .
(2) أخرجهما البخاري، ج 1، ص 5، كتاب (العيدين) باب الخطبة بعد العيد، ومسلم، ج 1، ص 602 - 605، كتاب (العيدين) الحديث رقم 884 و 888(62/303)
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » .
والخطبتان في العيد هما تذكير وتعليم للمسلمين لما يحتاجون إليه في ذلك الوقت، فتكون عن قضايا ساعتهم، ومن ضمن تلك القضايا قضيتا أحكام زكاة الفطر، والأضحية، لأن ذلك من قضايا الساعة بالنسبة لهم، بل والمسلمين في كل عيد، ولا سيما أحكام الأضحية، لأن صلاة عيد الأضحى وخطبتيه تسبق ذبح الأضحية.
أما زكاة الفطر فإن المفروض أن تؤدى قبل صلاة العيد (2) ، ولذلك فإن ذكر الإمام لها في خطبتي صلاة عيد الفطر أقل أهمية من التعرض لأحكام الأضحية في عيد الأضحى، ولكن لا بأس من ذكر ما يتوقع الإمام حصول الخطأ فيه من أحكام زكاة الفطر دون أن يغرق في ذلك لكي لا يصرف قدرا من الخطبتين فيما هو دون الأولى بحيث يستطيع المخطئ أن يتدارك خطأه، وقضايا المسلمين العامة والكبرى أولى باهتمام الإمام، وأحق بالحديث من غيرها.
ويستحب كذلك أن يكثر الإمام من التكبير أثناء الخطبتين،
__________
(1) أخرجه مسلم، ج 1، ص 69، كتاب (الإيمان) باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، باب: ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، والنسائي، ج 8، ص 111، كتاب (الإيمان) باب تفاضل أهل الإيمان، وابن ماجه، ج 1، ص 406، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في صلاة العيدين، والإمام أحمد ج 3، ص 10.
(2) أخرجه ابن ماجه ج 1، ص 585، كتاب (الزكاة) باب: صدقة الفطر.(62/304)
ويكبر الناس بتكبيره، لما «روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين (1) » .
وحضور الخطبتين والاستماع إليهما مستحب وليس واجبا؛ لما رواه عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قال: " إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب (2) » . .
والسنة أن يخطب قائما؛ لما أخرجه ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائما، ثم قعد قعدة ثم قام (3) » ، وقد أخرج هذا الحديث النسائي وليس فيه: «في يوم فطر أو أضحى (4) » . .
ويجوز أن يخطب جالسا أو راكبا على راحلته حسب ما يقتضيه الحال في وقته، لأنها غير واجبة فأشبهت صلاة النافلة، ولما رواه أبو كاهل قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عيد
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، ج 1، ص 409، كتاب (إقامة الصلاة) باب: ما جاء في الخطبة يوم العيد.
(2) أخرجه أبو داود، ج 1، ص 683، كتاب (الصلاة) باب: الجلوس في الخطبة، والنسائي، ج 3، ص 185، كتاب (صلاة العيدين) باب التخيير بين الجلوس في الخطبة في العيدين، وابن ماجه، ج 1، ص 410، كتاب (إقامة الصلاة) باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد العيد
(3) أخرجه ابن ماجه، ج 1، ص 409، كتاب (إقامة الصلاة) باب ما جاء في الخطبة في العيدين.
(4) أخرجه النسائي، ج 3، ص 186، كتاب (العيدين) باب: قيام الإمام في الخطبة(62/305)
على ناقة خرماء وحبشي ممسك بخطامها (1) » ، وروي كذلك عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أنهم فعلوا مثل ذلك (2) . .
__________
(1) '' أخرجه البيهقي، ج 3، ص 298، كتاب (الصلاة) باب: يخطب قائما مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم.
(2) البيهقي، ج 3، ص 298 المرجع السابق(62/306)
المبحث العاشر: التنفل قبل صلاة العيد وبعدها:
اختلف في التنفل قبل صلاة العيد، وبعدها في موضعها، فقال الحنفية: لا نفل قبل صلاة العيد، ويجوز بعدها (1) ، واستدلوا على ذلك بما روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى أناسا في يوم عيد يصلون قبل صلاة الإمام فأنكر عليهم ذلك (2) وبما رواه ثعلبة بن زهدم أن عليا استخلف أبا مسعود على الناس فخرج يوم عيد فقال: يا أيها الناس إنها ليس من السنة أن يصلى قبل الإمام (3) . . وقال الشافعية: يكره التنفل للإمام، لأن الوقت وقت صلاة العيد، فلا ينبغي له أن يتشاغل عنها بغيرها، ولا يكره للمأموم، لكونه وقتا لم ينه عن الصلاة فيه (4) . وقال المالكية
__________
(1) السرخسي في المبسوط، ج 2، ص 40
(2) أخرجه عبد الرزاق، ج 3، ص 276، كتاب (صلاة العيدين) باب الصلاة قبل خروج الإمام وبعد الخطبة.،
(3) أخرجه النسائي، ج 2، ص 178، كتاب (الصلوات) باب ما كان يصلي قبل العيد ولا بعده
(4) النووي، المجموع، ج 5، ص 24، وابن قدامة، المغني، ج 3، ص 281.(62/306)
والحنابلة: لا نفل قبل الصلاة ولا بعدها في موضعها (1) ، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلها، وبعدها (2) » ، واستثنوا من ذلك إذا صلى في المسجد فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس (3) » ، وهذا ما يظهر أنه الأرجح لقوة الدليل، والله أعلم.
أما بعد انقضاء صلاة العيد فليس هناك ما يمنع التنفل، ولكن ليس في المصلى، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين (4) »
__________
(1) الخرشي، الخرشي على مختصر سيد خليل، ج 2، ص 104، وابن قدامة، المغني، ج 3، ص 280.
(2) أخرجه البخاري، ج 2، ص 5، كتاب (العيدين) باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم، ج 1، ص 606، كتاب (صلاة العيدين) باب: ترك الصلاة قبل العيد وبعدها.
(3) أخرجه البخاري، ج 1، ص 114، كتاب (الصلاة) باب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، ومسلم، ج 1، ص 495، كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين.
(4) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1293) ، مسند أحمد بن حنبل (3/28) .(62/307)
المبحث الحادي عشر: حكم من فاتته صلاة العيد:
سبق القول أن الراجح في حكم صلاة العيد أنها فرض كفاية إذا قام بها من تحصل الكفاية بهم سقطت عن الباقين، ولذلك فإن(62/307)
من فاتته صلاة العيد فهو بالخيار إن شاء صلاها قضاء، وإن شاء لم يصلها، وهذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم، ولكنهم اختلفوا فيمن أراد أن يصليها، هل يصليها أربعا - سواء كانت بسلام واحد أو بسلامين - لكونها قضاء عن صلاة العيد، كمن فاتته صلاة الجمعة، أو يصليها ركعتين كصلاة التطوع أو على صفة صلاة العيد بتكبير، وقد روي القول الأول عن جماعة من السلف منهم: علي وابن مسعود والثوري والشعبي، حيث روى الشعبي، قال: قال أبو عبد الله: من فاته العيدان فليصل أربعا (1) وعن هذيل أن عليا أمر رجلا يصلي بضعفة الناس يوم العيد أربعا كصلاة الهجير، وهذا هو المذهب عند الحنابلة (2) ، وقول الحنفية (3) .
وروي القول الثاني عن الأوزاعي رحمه الله تعالى، لأنها صلاة غير واجبة، وإنما هي تطوع فتكون ركعتين (4) . . وقال بالقول الثاني كثير من أهل العلم منهم: النخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، والإمام أحمد في قول عنه، وحجتهم ما
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق، ج 3، ص 300، باب: من صلاها غير متوضئ، ومن فاته العيدان.،
(2) المرداوي، الإنصاف، ج 1، ص 423.
(3) الكاساني، بدائع الصنائع، ج 1، ص 279
(4) ابن قدامة، المغني، ج 3، ص 285(62/308)
روي عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد، وروي عنه أيضا أنه إذا كان بمنزله بالزاوية فلم يشهد العيد بالبصرة جمع مواليه، وولده ثم يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فيصلي بهم كصلاة أهل البصرة ركعتين ويكبر كتكبيرهم.
وأيضا لكونها قضاء لصلاة، فكانت على صفتها، والمصلي بالخيار إن شاء صلاها جماعة، وإن شاء صلاها منفردا (1) . . وصلاة الجماعة أولى، لما فيها من الفضل وزيادة الدرجات، لما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة (2) » والله تعالى أعلم.
__________
(1) ابن قدامة، المغني، ج 3، ص 285
(2) أخرجه البخاري ج 1، ص 158، كتاب (الأذان) باب: فضل صلاة الجماعة، ومسلم ج 1، ص 450، كتاب (المساجد) باب فضل صلاة الجماعة.،(62/309)
المبحث الثاني عشر: صلاة العيد بالنسبة للحاج والمعتمر:
يتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن صلاة العيد لا تلزم الحاج الآفاقي والمعتمر الآفاقي، أي الذي يأتي من خارج مكة، ومن مسافة تقصر فيها الصلاة الرباعية، لأنه يعتبر في حكم المسافر، والمسافر يجوز له قصر الصلاة الرباعية والجمع بين صلاتي الظهر(62/309)
والعصر، وكذلك بين صلاتي المغرب والعشاء، جمع تقديم أو تأخير؛ لقول الله تعالى في حقه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) ولما روي عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (2) » .
ولما روي عن حفص بن عاصم عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة. قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناسا قياما فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي، «يا ابن أخي إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله: (4) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 101
(2) أخرجه مسلم، ج 1، ص 478، في كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب صلاة المسافرين وقصرها.
(3) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) ، مسند أحمد بن حنبل (2/56) .
(4) سورة الأحزاب الآية 21 (3) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(62/310)
وعليه فإن أحكام السفر تثبت لكل حاج ومعتمر جاء من مسافة لا تقل عن ثمانية وأربعين ميلا عن مكة، ومنها أن صلاة العيد غير لازمة له، وكذلك صلاة الجمع والجماعات.
أما الحاج أو المعتمر الذي لا تنطبق عليه أحكام السفر، فتلزمه صلاة العيد سواء كان من مكة أو من مسافة تقل عن ثمانية وأربعين ميلا، لأنه لا يعد مسافرا، ولا يعاني من مشقة السفر التي من أجلها شرعت هذه الرخصة، وهذا قول بعض أهل العلم (1) ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» وفي رواية أخرى: «أتموا فإنا قوم سفر (2) » .
وقال الإمام مالك وبعض أهل العلم: إنه يجوز لهم القصر كما جاز لهم الجمع بعرفات ومزدلفة، فلا تلزمهم بناء على هذا القول صلاة العيد، لكنهم أجيبوا على ذلك بأنهم قوم غير سفر بعيد لا يجوز لهم القصر قياسا على غيرهم ممن لم يكونوا في عرفات ومزدلفة، وكذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث
__________
(1) انظر محمد الشربيني الخطيب، المرجع السابق، ج 1، ص 272، وابن قدامة في المغني، ج 5، ص 262، 263
(2) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) .(62/311)
السابق: «يا أهل مكة أتموا الصلاة (1) » .
وكذلك لا يجوز لهم الجمع بين صلاتي الظهر والعصر كما جاز للمسافرين في السفر البعيد، ولا الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء عدا في يوم الوقفة بعرفة، فيجوز لهم أن يجمعوا بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم، ويجوز لهم أيضا أن يجمعوا بين المغرب والعشاء إذا دفعوا من عرفات إلى مزدلفة جمع تأخير، لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن حضره من مكيين وغيرهم، وهذا قول الجمهور.
وقال قوم آخرون: لا يجوز الجمع إلا لمن يبعد موطنه عن مكة ثمانية وأربعين ميلا فأكثر لأن الثمانية والأربعين ميلا هي أقل مسافة تقصر فيها الصلاة. وقد أجيبوا على ذلك بجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات ومزدلفة، ومن حضره من المكيين وغيرهم، ولو لم يكن الجمع جائزا لهم لأمرهم بتركه، كما أمرهم بالإتمام، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهذا كذلك فعل عثمان رضي الله عنه بعد أن اتخذ أهلا بمكة، فقد أتم في غير عرفات ومزدلفة الصلاة، وجمع وقصر في عرفات ومزدلفة، وكذلك فعل عبد الله بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز عندما كان واليا على مكة (2) .
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (349) .
(2) ابن قدامة، المرجع السابق، ج هـ، ص 262، 263.(62/312)
بل إن ابن تيمية رحمه الله تعالى ذهب إلى القول بجواز القصر والجمع لأهل مكة حتى في أيام منى، كغيرهم من الحجاج، فقد قال: " وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة، ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة، ومنى، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: «أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر (1) » ومن حكى ذلك عن النبي فقد أخطأ، ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة. أما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلا خارج مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم: «أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر (2) » ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا بزمان " (3) .
فعلى القول: إنه لا يجوز للحاج الذي لا تنطبق عليه أحكام السفر قصر الصلاة الرباعية في غير عرفات والمزدلفة تكون صلاة العيد لازمة له، وعلى القول إنه يجوز له القصر بمنى كما جاز لبقية الحجاج الذين جاءوا من مسافة قصر فأبعد تكون صلاة العيد غير ملازمة له، وهذا القول الأخير أميل إلى ترجيحه؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحجاج المكيين الذين كانوا معه بإتمام الصلاة لا في منى ولا
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) .
(3) الفتاوى ج 26، ص 130، 131.(62/313)
في غيرها من بقية المشاعر، والله تعالى أعلم.(62/314)
الفصل الثاني في زكاة الفطر: وفيه تمهيد وعشرة مباحث:
التمهيد في الحكمة من مشروعية زكاة الفطر:
أمر الزكاة عظيم وأثرها الاجتماعي على الأمة المسلمة كبير، فهي وسيلة عملية فعالة في سد حاجة المحتاج وعلاج لمشكلة الفقر في المجتمع المسلم بشكل يكاد يكون جذريا، وبطريقة ميسرة كل التيسير في حين نرى عجز الأنظمة الأرضية التي وضعها المصلحون والمفكرون في شعوب العالم عن علاج هذه المشكلة، كما عالجها الإسلام، وتحقق الأخوة الإيمانية الصادقة التي لا تتحقق عند غير المسلمين، وتظهر نظاما تكافليا ربانيا ليس له على وجه الأرض ند ولا نظير، حيث يعطف فيه الغني على الفقير، ويحترم الفقير الغني، وتبنى فيه العلاقة على أساس المودة والرحمة، ولا وجود فيه للأمراض الفتاكة كالحسد والبغض والكراهية، لأن كل واحد فيه أدى ما يجب عليه عن طواعية ورضا نفس " (1) .
هذه الزكاة التي يعطيها الغني الفقير فتسد حاجته، وتغنيه عن ذل المسألة لم تكن عملا تطوعيا، ليشعر معها الغني بفضله وعلو يده والمنة على من أعطاه، ولا الفقير يرى أن هذا العطاء إحسان وتكرم ممن أعطاه، فيشعر بالذل والمسكنة والدونية أمام
__________
(1) الدكتور عبد الله الطيار، في كتاب (الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة) ص 8. .(62/314)
المعطي، وإنما هي حق مفروض له: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) ، فرضه الله تعالى للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء التي جعلهم مستخلفين فيها، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (4) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان (5) » .
فالزكاة أحد مباني الإسلام ودعائمه العظام التي لا يمكن أن يكون الإنسان مسلما إلا بالإيمان بوجوبها وأدائها إلى مستحقيها. قال الدكتور محمد عمر شابرا: " لقد تضمن الإسلام في بنية معتقداته ترتيبا للمساعدة الاجتماعية يساهم فيه كل فرد حسب قدرته، وذلك لتحقيق ما يتوخاه الإسلام من أخوة حيث يتمتع كل فرد بالكرامة والرعاية من جراء كونه خليفة وعضوا في الأمة " (6) .
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) أخرجه البخاري، ج 1، ص 8 في كتاب (الإيمان) باب: قول النبي صلي الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، ومسلم ج 1، ص 33 في كتاب (الإيمان) باب: أركان الإسلام ودعائمه العظام.
(6) في كتابه (الإسلام والتحدي الاقتصادي) ص 330 طبعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1416 هـ.(62/315)
فلا شك أن الأصل منها هو مواساة الأغنياء للفقراء والمساكين في يوم عيدهم العظيم وكفهم عن المسألة فيه بإغنائهم بهذه الصدقة، فيتفرغ الجميع للاحتفال بهذه المناسبة الكبيرة، تعمهم السعادة والفرح والسرور وتجمعهم المحبة والإخاء في الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) بالإضافة إلى أن هذه الصدقة تطهر وتغسل وتمحص الذنوب التي تكون قد لحقت بالصائم خلال صومه، بسبب اللغو والفحش، فتعوض وتكمل ما يكون قد نقص من أجره، فيخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، إضافة إلى أن أداء الزكاة فيه اعتراف بفضل الله تعالى ونعمه الكثيرة، ومنها نعمة توفيقه سبحانه للصائمين على إكمالهم صيام وقيام شهر رمضان المبارك، ثم إنها فوق ذلك كله امتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي مما تعبد الله بها الإنسان. وهذا يظهر من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات (2) » .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) أخرجه أبو داود، ج 2، ص 262 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر، وابن ماجه ج 1، ص 585 في كتاب (الزكاة) باب: صدقة الفطر.(62/316)
المبحث الأول: تعريف زكاة الفطر:
الزكاة: وتعني النماء والزيادة والبركة والصلاح والمدح والريع، من زكا يزكو زكاة وزكاء.
والفطر من: فطر الشيء فطرا فانفطر، وفطره: شقه وتفطر(62/316)
الشيء تشقق، فأصل الفطر: الشق، ومنه قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (1) ، أي: انشقت، ومن ذلك أخذ فطر الصائم، فهو اسم مصدر (2) . فكأن الصائم إذا فتح فاه للطعام قد شقه، وقد أضيفت الزكاة إلى الفطر، لأنه سبب في وجوبها (3) . حيث إنها تجب بالفطر من شهر رمضان (4) .
وقد عرفت في الاصطلاح تعريفات منها أنها: " صدقة تجب بالفطر من رمضان " (5) . ومنها أنها: " صدقة يخرجها المسلم قبل صلاة عيد الفطر شكرا لله تعالى على نعمة التوفيق لصيام رمضان وقيامه يختم بها المسلم عمل رمضان " (6) . ومنها أنها الحصة المقدرة من المال التي فرضها الله للمستحقين، كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصة (7) .
وتسمى كذلك فطرة، لأن الفطرة الخلقة، كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (8) ، أي: الجبلة التي جبلوا عليها، ويقصد بها هنا الصدقة عن البدن والنفس (9) .
__________
(1) سورة الانفطار الآية 1
(2) ابن منظور، المرجع السابق، ج 5، ص 3432، 3433، وج 3، ص 1849.
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية، ج 23، ص 335.
(4) ابن قدامة المقدسي، المرجع السابق، ج 4، ص 282.
(5) الموسوعة الفقهية، المرجع السابق، ج 3، ص 335.
(6) د. عبد الله الطيار، المرجع السابق، ص 125.
(7) يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، ج 1، ص 37.
(8) سورة الروم الآية 30
(9) ابن قدامة، المرجع السابق، ج 4، ص 282، 283.(62/317)
وبذلك يتضح التقاء المعنى الاصطلاحي مع المعنى اللغوي حيث إن كلا منهما يعني: النمو والزيادة والبركة والطهارة والصلاح والمدح، ويدل على ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 103(62/318)
المبحث الثاني: حكم زكاة الفطر:
اختلف العلماء في الحكم التكليفي لهذه الزكاة فقال بعضهم: إنها فرض. وقد ادعى ابن المنذر رحمه الله تعالى إجماع أهل العلم على ذلك (1) . واستدل له بأحاديث منها الحديث المتفق عليه، وهو قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى (2) » ، ومنها الحديث المتفق كذلك عليه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير (3) » . قال ابن عمر: فجعل الناس عدله مدين من حنطة ". وقال
__________
(1) ابن قدامة، المرجع السابق، ج 4، ص 281.
(2) أخرجه البخاري، ج 2، ص 138 في كتاب (الزكاة) باب: فرض الزكاة، ومسلم ج 1، ص 677 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر على المسلمين.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن الترمذي الزكاة (675) ، سنن النسائي الزكاة (2504) ، سنن أبو داود الزكاة (1611) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/66) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .(62/318)
بعضهم: إنها سنة مؤكدة، وممن قال بذلك أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية (1) .
بل ذهب متأخرو المالكية إلى أنها سنة، وقال آخرون: إنها منسوخة بزكاة الأموال (2) ، بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يؤمروا بها ولم ينهوا عنها (3) . أما الجمهور فيقولون: إنها واجبة (4) .
وقد أول الحنفية كلمة " فرض " الواردة في الحديث إلى أن المقصود بها التقدير، لأن الفرض عندهم لا يثبت إلا بدليل مقطوع به، والزكاة هنا لم تثبت إلا بدليل فيه شبهة العدم وهو خبر الواحد (5) .
وقد انتصر ابن قدامة رحمه الله تعالى لمن قال: إنها فرض بقوله (6) : " وقال بعض أصحابنا: وهل تسمى فرضا مع القول
__________
(1) د. عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتاب (الصيام ورمضان) ص 335.
(2) ابن رشد، المرجع السابق، ج 1، ص 236.
(3) ابن رشد القرطبي، المرجع السابق، ج 1، ص 236.
(4) انظر. المراجع السابقة. .
(5) انظر: الكاساني، المرجع السابق، ج 2، ص 69 والسرخسي، المرجع السابق، ج 2، ص 101.
(6) في المغني، المرجع السابق، ج 4، ص 283.(62/319)
بوجوبها؟ على روايتين والصحيح أنها فرض، لقول ابن عمر: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر (1) » ولإجماع العلماء على أنها فرض، ولأن الفرض إن كان الواجب فهي واجبة، وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة مجمع عليها ". والذي يظهر لي من هذا أن القول الذي رجحه ابن قدامة أولى بالصواب، وذلك لورود كلمة فرض في حديث ابن عمر السابق، وحديث ابن عباس أيضا ثم إنه ليس هناك وجه لتأويل كلمة فرض إلى كلمة قدر بحجة أن الفرض لا يثبت إلا بدليل مقطوع به، وأن الزكاة ثابتة بدليل فيه شبهة العدم وهو خبر الواحد، لأن ما ذكروه لا يسلم لهم، حيث إن أكثر أهل العلم يثبت عندهم الفرض بخبر الواحد، كما هو الحال في ثبوت دخول شهر رمضان المبارك بشهادة الواحد، وهو فرض، ثم إن كلمة " قدر " لا يستقيم لهم معناها في نظري، إذ كيف نقول: قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر بكذا وكذا، ونحن لم نعلم بحكمها بعد، فالحكم أولا ثم التقدير ثانيا، أو الحكم والتقدير معا، وهو ما حصل هنا في زكاة الفطر، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن الترمذي الزكاة (675) ، سنن النسائي الزكاة (2504) ، سنن أبو داود الزكاة (1611) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .(62/320)
المبحث الثالث: في شروط وجوب أداء زكاة الفطر:
لوجوب أداء زكاة الفطر شروط ثلاثة، وهي الإسلام والحرية والقدرة على الإخراج. وقد اختلف العلماء في بعض هذه الشروط، وإليك بيان ذلك.
الشرط الأول: الإسلام.
وهذا الشرط محل اتفاق بين العلماء إلا ما روي عن الشافعية صحيح عندهم، أنه يجب على الكافر أداء زكاة(62/320)
الفطر عن أقاربه المسلمين. وقد علل العلماء عدم وجوب زكاة الفطر على الكافر بأنها قربة من القرب، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، والكافر ليس من أهل القرب ولا تقبل منه. وهذا هو الصحيح، لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (1) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) .
أما ما ذهب إليه الشافعية من أنه يجب على الكافر أن يؤدي زكاة الفطر عن أقاربه المسلمين، فإن ذلك ليس بسديد؛ لأنه لا علاقة البتة بين الكافر والمسلم، ولا قرابة ولا توارث، لقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام وابنه: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (3) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (4) وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 23
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة هود الآية 45
(4) سورة هود الآية 46
(5) سورة التوبة الآية 71(62/321)
الشرط الثاني: الحرية:
كذلك قال جمهور العلماء: إن زكاة الفطر لا تجب إلا على من كان حرا مسلما، لأن غير الحر لا يملك ولا يملك، وقد خالف في ذلك الحنابلة، فالمذهب عندهم أنها تجب على الرقيق كما تجب على الأحرار، لعموم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (1) » . وفي لفظ آخر: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على الصغير والكبير والحر والمملوك (2) » .
وهذا حديث متفق على صحته، وليس له ما يدفعه، وبناء عليه تجب زكاة الفطر على العبد صغيرا كان أو كبيرا، كما تجب
__________
(1) أخرجه البخاري، ج 2، ص 138 في كتاب (الزكاة) باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم ج 1، ص 677 في كتاب (الزكاة) باب زكاة الفطر على المسلمين.
(2) أخرجه البخاري، ج 2، ص 140 في كتاب (الزكاة) باب: صدقة الفطر على الصغير والكبير من المسلمين، ومسلم، ج 1، ص 677 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر على المسلمين.(62/322)
على الحر لأنها على الأبدان، يقوم بدفعها عنه سيده، لكونه صاحب ولاية عليه مثله كولده الصغير، والله تعالى أعلم.
الشرط الثالث: القدرة على إخراج زكاة الفطر:
وهذا الشرط محل اتفاق بين أهل العلم في أنه لا بد من توافر القدرة فيمن يجب عليه إخراج زكاة الفطر لأن غير القادر مرفوع عنه الحرج بمثل قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، لكنهم اختلفوا في معنى هذه القدرة، فقال المالكية والشافعية والحنابلة إنه لا يشترط ملك النصاب في وجوب أداء زكاة الفطر، غير أنه يشترط له الغنى، وقالوا: إن من يملك قوت يومه وليلته فهو غني، ولذلك فإن من ملك ما يزيد على قوت يومه وليلته وجب عليه إخراج زكاة الفطر.
لكن الحنابلة والشافعية قالوا: على شرط أن يكون ذلك فاضلا عن مسكنه وخادمه، وما يحتاج إليه. أما المالكية فقالوا: إنه إذا كان قادرا على المقدار الذي عليه حتى ولو كان أقل من الصاع فإنه يجب عليه دفعه، بل قالوا إنه إذا كان باستطاعته أن يقترض وهو يرجو القضاء، لوجب عليه أن يقترض، وإذا كان لا يرجو القضاء فلا يجب عليه (2) . وقد استدل هؤلاء جميعا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) انظر الموسوعة الفقهية، المرجع السابق، ج 23، ص 337، وابن قدامة، المرجع السابق، ج 4، ص 307.(62/323)
يستكثر من النار " قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: " قدر ما يغديه ويعشيه (1) » .
وقال الحنفية: يشترط لها ملك النصاب، فلا تجب إلا على من ملك نصابا من أي مال كان، سواء كان ذهبا أو فضة أو عروض تجارة أو سوائم، فمن كان عنده نصاب من أي من هذه الأموال فاضل عن حوائجه الأصلية من ملبس ومأكل ومسكن ومركب وسلاح وجبت عليه زكاة الفطر. وعللوا عدم وجوبها على من يملك أقل من ذلك أنه ممن تجوز عليهم الصدقة، فلا يجتمع جواز الصدقة عليه مع وجوبها عليه. واستدلوا على هذا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول (2) » .
ووجه استدلالهم بالحديث أنه ذكر فيه كلمة ظهر، وهي كناية عن القوة فكأن المال بالنسبة للغني بمكان الظهر الذي يعتمد عليه ويستند، ولذلك فلا تجب الزكاة إلا على من كانت له قوة من غنى، وحده عندهم ملك النصاب، كما قالوا عن حديث ابن عمر السابق: إنه منسوخ بهذا الحديث
__________
(1) أخرجه أبو داود، ج 2، ص 281 في كتاب (الزكاة) باب: من يعطى الصدقة، وهو غني.
(2) أخرجه الإمام أحمد ج 2، ص 230.(62/324)
المبحث الرابع: من تجب عليهم زكاة الفطر:
اختلفت المذاهب الفقهية في هذه المسألة اختلافا بينا. فقد ذهب الحنفية إلى القول: إنه يجب على الرجل إذا كان غنيا أن يؤديها عن نفسه، وعن كل من له ولاية عليه، وهم ابنه الصغير وبنته الصغيرة وابنه الكبير إذا كان مجنونا، لأن هؤلاء جميعا له حق التصرف في أموالهم بما يعود عليهم بالنفع بدون إذنهم. هذا في حالة كونهم فقراء. أما في حالة كونهم أغنياء فإنه يخرجها من أموالهم، لأن زكاة الفطر ليست عبادة محضة عند أبي حنيفة، وإنما فيها معنى المؤنة بدليل وجوبها على الغير بسبب الغير، فأشبهت النفقة، ونفقته في ماله إذا كان الحر له مال. كما وجبت في مال الأب لأقاربه إذا كانوا فقراء. وقد خالف في ذلك محمد بن الحسن وزفر وقالا: إنها عبادة محضة تجب في مال الأب، لأنها لا تصح من غير المكلفين.
ولا يرى الحنفية أن يخرجها الأب عن بنيه الكبار ووالديه وأقاربه وزوجته سواء كانوا أغنياء أو فقراء لأنه وإن كانت تلزمه نفقتهم إذا كانوا فقراء، فإن ولايته عليهم قاصرة بدليل أنه لا يجوز له التصرف في أموالهم إذا كان لهم مال إلا بإذنهم.
وذهب المالكية إلى أن الرجل يؤديها عن نفسه وعن من تجب عليه نفقته وهم الوالدان الفقيران، وأولاده الفقراء ذكورا أو(62/325)
إناثا، والزوجة أو الزوجات ولو كن ذوات مال، وكذلك زوجة والده الفقير. وقد استدلوا على هذا بما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون (1) » . ويستنتج من ذلك أن المالكية لا يرون أن يؤدي المرء زكاة الفطر عن أولاده الأغنياء سواء صغارا أو كبارا، ولا عن والديه الغنيين كذلك.
ويتفق الشافعية والحنابلة مع المالكية في أن المرء يؤدي الزكاة عن نفسه وعن كل من تجب عليه نفقته شرعا مع اختلاف يسير في التفاصيل. فقد قال الشافعية: إن الرجل يؤديها عن نفسه، وعن من تجب عليه نفقته من المسلمين لقرابة أو زوجية أو ملك، فيؤديها عن أصوله وإن علوا كجده وجدته، وفروعه وإن نزلوا ذكورا أو إناثا إذا كانوا فقراء، كما يؤديها عن زوجته، وكذلك مطلقته طلاقا غير بائن، ولا تلزمه زكاة البائن إلا إذا كانت حامل، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني، ج 2، ص 141 في كتاب (زكاة الفطر) الحديث رقم 12.
(2) سورة الطلاق الآية 6(62/326)
ويؤديها أيضا عن خادمه إذا كانت نفقته غير مقدرة. أما إذا كانت مقدرة باليوم أو الشهر أو السنة فلا يخرجها عنه، لأنه والأجير لا تجب عليه نفقته.
وقال الحنابلة: يجب على المرء أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه أولا، ثم عن كل من تجب عليه نفقته من المسلمين، فإذا لم يكن عنده ما يكفي الجميع بدأ بنفسه أولا ثم بزوجته، فأمه، ثم الأقرب فالأقرب على ترتيبهم في الميراث، فالوالد مثلا مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب وهكذا.(62/327)
المبحث الخامس سبب وجوب زكاة الفطر ووقته:
يتضح من تسمية هذه الزكاة زكاة الفطر أن سبب وجوبها الفطر من رمضان، وذلك من باب إضافة الشيء إلى سببه (1) .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في وقت الوجوب. فذهب الحنفية والمالكية في قول إلى أن وقت الوجوب هو طلوع فجر يوم العيد، واستدلوا على ذلك بما
__________
(1) الزركشي، المرجع السابق، ج 2، ص 525.(62/327)
رواه نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة (1) » .
ووجه استدلالهم بالحديث هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن تؤدى صدقة الفطر قبل الذهاب إلى مصلى العيد، وهذا يبين أن وقت وجوبها هو يوم الفطر، ثم إن تسميتها بزكاة الفطر يدل كذلك على أن وجوبها يكون بطلوع فجر يوم الفطر، لأن الفطر لا يكون إلا بطلوع فجر ذلك اليوم، ولأن ما قبله لا يسمى فطرا، ولا يعتبر الإنسان مفطرا من صومه إلا بطلوع فجر يوم الفطر (2) .
وذهب المالكية في القول الآخر، والشافعية في الراجح، والحنابلة إلى أن وقت وجوب زكاة الفطر هو بغروب شمس آخر يوم من رمضان.
وتظهر فائدة هذا الخلاف فيمن مات أو ولد أو أسلم بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان حيث قال الحنفية والمالكية في قول: إن من مات قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان لا
__________
(1) أخرجه البخاري، ج 2، ص 139، في كتاب (الزكاة) باب: الصدقة قبل العيد، ومسلم ج 1، ص 679 في كتاب (الزكاة) باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة.
(2) الموسوعة الفقهية، المرجع السابق، ج 23، ص 340.(62/328)
تجب عليه الزكاة؛ لأنه وقت وجوبها لم يكن موجودا. أما من ولد بعد غروب شمس ذلك اليوم، فإنه عليه الزكاة، لأنه موجود وقت الوجوب، وقال المالكية في القول الآخر والشافعية والحنابلة: إن من مات بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان فإنه عليه الزكاة؟ لأنه موجود وقت الوجوب. أما من ولد بعد غروب شمس ذلك اليوم فلا تجب عليه، لأنه كان جنينا في بطن أمه وقت وجوبها. كذلك من أسلم بعد غروب شمس ذلك اليوم، فإن عليه الزكاة عند أبي حنيفة، وليس عليه شيء عند الجمهور، لأنه لم يكن من أهلها وقت وجوبها.(62/329)
المبحث السادس: وقت وجوب أداء زكاة الفطر:
ليس هناك خلاف كبير في وقت وجوب أداء زكاة الفطر، فقد قال الحنفية: إن وقت وجوب أدائها وقت موسع حيث جاء مطلقا عن التعيين، ولذلك فإنه متى أداها جاز سواء كان في يوم العيد أو في يوم غيره، ولا إثم عليه في تأخيرها عن يوم العيد، غير أن المستحب أن تؤدى يوم العيد (1) .
وقال الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة والحسن بن
__________
(1) انظر السرخسي، المرجع السابق، ج 2، ص 110، والكاساني، المرجع السابق، ج 2، ص 74.(62/329)
زياد من الحنفية: إن وقت وجوب أدائها متعين بيوم العيد كالأضحية فلا يجوز تأخيرها عنه إلا لعذر شرعي، ومن فعل فأخرها عن ذلك اليوم بدون عذر أثم، ويكون إخراجه لها قضاء لا أداء، وقالوا: إن المستحب فيها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى.
بل هناك من الحنابلة من قال: إن الوقت المتعين لأدائها هو يوم العيد قبل الصلاة، وإن من أداها بعد الصلاة لا تكون زكاة وإنما تكون صدقة من الصدقات، ما لم يكن عنده عذر شرعي بدليل الحديث السابق: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات (1) » وبدليل قول ابن عمر: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (2) » .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذين الحديثين (3) : " ومقتضى هذين الحديثين أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة، وهذا هو الصواب فإنه لا معارض
__________
(1) أخرجه أبو داود، ج 2، ص 262 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر، وابن ماجه ج 1، ص 585 في كتاب (الزكاة) باب: صدقة الفطر.
(2) أخرجه البخاري، ج 2، ص 139 في كتاب (الزكاة) باب: الصدقة قبل العيد، ومسلم، ج 1، ص 679 في كتاب (الزكاة) باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة.
(3) في زاد المعاد، ج 2، ص 21، 22.(62/330)
لهذين الحديثين ولا ناسخ، ولا إجماع يدفع القول بهما، وكان شيخنا (1) . يقوي ذلك وينصره، ونظيره ترتيب الأضحية قبل صلاة الإمام لا على وقتها، وأن من ذبح قبل صلاة الإمام لم تكن ذبيحته أضحية، بل شاه لحم، وهذا أيضا هو الصواب في المسألة الأخرى، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضعين ".
وقال الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى (2) : ويجب إخراج الفطرة قبل صلاة العيد، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة وتجزي قبله بيوم أو يومين فقط ولا تجزي بعد صلاة العيد؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي من الصدقات (3) » رواه أبو داود وابن ماجه. لكنه لو لم يعلم بالعيد إلا بعد الصلاة أو كان وقت إخراجها في بر أو بلد ليس فيه مستحق أجزأ إخراجها بعد الصلاة عند تمكنه من إخراجها.
وقول الجمهور: إن يوم العيد كله وقت لإخراج زكاة الفطر أوسع وأرفق بالناس، لكون الوقت قبل ذهاب الناس إلى المصلى ضيقا جدا، وفيه حرج ومشقة عليهم، غير أني أميل إلى ترجيح القول الذي يذهب إلى أن وقت وجوب أدائها متعين بما قبل صلاة العيد، ولا تجوز بعد الصلاة إلا لصاحب عذر لظاهر
__________
(1) يريد بشيخه هنا ابن تيمية رحمه الله تعالى.
(2) في فصول في الصيام والتراويح والزكاة، ص 29. 30.
(3) سنن أبو داود الزكاة (1609) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1827) .(62/331)
الحديثين السابقين الذي ليس لهما دافع كما ذكر ابن القيم، ولأن أداء هذه الزكاة في هذا الوقت أنفع للفقراء وأفضل لإغنائهم بها عن المسألة من أول يوم العيد، وأكثر تحقيقا لحكمة فرض هذه الزكاة، والله تعالى أعلم.
أما عن مسألة خروج وقت وجوب أدائها، وهي لم تؤد بعد هل تسقط بذلك عمن وجبت عليه أم لا؟ فقد قال العلماء: إنها لا تسقط، لأنها حق تعلق بذمة من وجبت عليه لمستحقه، ولا يسقط هذا الحق إلا بأدائه إلى مستحقه، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن بن زياد من الحنفية - فيما أعلم - حيث قال: إن وقت وجوب أدائها متعين بيوم العيد من أول النهار إلى آخره، فإذا لم يؤدها حتى خرج يوم العيد كله سقطت، لأنها حق تعلق بهذا اليوم فيختص به كاختصاص الأضحية بيوم العيد (1) .
__________
(1) انظر: المراجع السابقة.(62/332)
المبحث السابع: في جواز أداء زكاة الفطر قبل وجود سببها:
اختلف الحنفية في تعجيلها قبل وجود سببها الذي هو الفطر من رمضان، فقد روي عن أبي حنيفة أنه يجوز تعجيلها السنة والسنتين، وعن خلف أنه يجوز إخراجها من بداية رمضان، وفي قول آخر عنه أنه يجوز تعجيلها اليوم واليومين، وقال الحسن بن زياد: لا يجوز التعجيل مطلقا، لأنه أداء الواجب قبل وجوبه، وأن ذلك ممتنع كالأضحية قبل يوم النحر. وقال الكاساني بعد أن ذكر هذه الأقوال عن أعلام الحنفية: والصحيح أنه يجوز(62/332)
التعجيل مطلقا. وقال السرخسي: إن المذهب جواز التعجيل للسنة والسنتين (1) .
وأجاز المالكية والحنابلة تقديمها على سبب وجوبها بيوم أو يومين (2) ، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخرجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين (3) .
وقال الشافعية: إنه يجوز إخراجها من بداية رمضان، وقد علل النووي هذا القول بقوله: إنها تجب بسببين، وهما صوم رمضان والفطر منه، فإذا وجد أحدهما جاز تقديمها على الآخر، كزكاة المال قبل الحول، وبعد ملك النصاب، ولا يجوز تقديمها على رمضان، لأنه تقديم على السببين معا (4) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع، ج 2، ص 74، والمبسوط، ج 6، ص 110.
(2) انظر. الخرشي على مختصر خليل، ج 2، ص 233، وابن قدامة، المرجع السابق، ج 4، ص 300.
(3) أخرجه البخاري، ج 2، ص 139، في كتاب (الزكاة) باب صدقة الفطر على الحر والمملوك.
(4) انظر. المجموع، ج 6، ص 126.(62/333)
المبحث الثامن: نوع المخرج في زكاة الفطر ومقداره:
قال الحنفية: إن الواجب في زكاة الفطر نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو صاع من تمر (1) . واحتجوا لذلك بما روي عن ثعلبة بن صعير العذري عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: الكاساني، المرجع السابق، ج 2، ص 69، والسرخسي، المرجع السابق، ج 2، ص 112.(62/333)
«صاع من بر أو قمح على كل اثنين صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله تعالى عليه أكثر مما أعطى (1) » وفي لفظ آخر قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع تمر أو صاع من شعير عن كل رأس (2) » .
وقال الجمهور؛ المالكية والشافعية والحنابلة: إن الذي يجب إخراجه في زكاة الفطر صاع عن كل إنسان من جميع أجناس المخرج، وقد احتجوا لذلك بأحاديث منها: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك - صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجا أو معتمرا المدينة، فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني لأرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر. قال فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدا ما عشت (3) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود، ج 2، ص 270، 271، في كتاب (الزكاة) باب: من روى نصف صاع من قمح.
(2) أخرجه الترمذي، ج 3، ص 59، في كتاب (الزكاة) باب: ما جاء في صدقة الفطر، وقال عنه: إنه حديث حسن صحيح، وأصل هذا الحديث في البخاري ومسلم فقد أخرجه البخاري، ج 2، ص 138 في كتاب (الزكاة) باب: صدقة الفطر صاع من طعام. ومسلم، ج 1، ص 678 في كتاب (الزكاة) باب: زكاة الفطر على المسلمين.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1508) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1663) .(62/334)
وقول الجمهور أرجح، لأنه يستند إلى حديث متفق عليه، ولأن دليل الحنفية مستند إلى حديث ضعيف (1) . ومعارض في الوقت نفسه بحديث آخر بدرجة الحسن عن ثعلبة نفسه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيومين قال: " أدوا صاعا من بر أو قمح (2) » .
أما عن جنس المخرج أو نوعه فعند الحنفية ثلاثة أنواع وهي: الحنطة والشعير والتمر، ويجزئ دقيق الحنطة وسويقه عن الحنطة، وكذلك دقيق الشعير وسويقه عن الشعير، لأن المقصود سد خلة المحتاجين، وإغناؤهم عن السؤال، وهذا يحصل بالدقيق، كما يحصل بالحب، بل إن الدقيق أعجل في وصول المنفعة إلى الفقير من الحب وأكثر منفعة وأقل مؤونة.
فهذه الأنواع الثلاثة تعتبر عندهم أصولا لغيرها، ولذلك فإنه إذا كان المخرج من الأجناس الأخرى، فإن الاعتبار فيها بالقيمة، حيث تقوم هذه الثلاثة ثم يشتري بقيمة المقوم منها الجنس المراد إخراجه، لأن الاعتبار بالمنصوص عليه لما ليس فيه نص.
كما جوز الحنفية إخراج القيمة من النقود في زكاة الفطر، وهي عندهم أفضل من إخراج العين.
__________
(1) ضعف أهل العلم هذا الحديث، انظر: المغني، لابن قدامة، ج 4، ص 287.
(2) أخرجه الإمام أحمد، ج 5، ص 432.(62/335)
وذهب المالكية والشافعية إلى أن الواجب عليه هو غالب قوت البلد أو قوت المكلف إذا لم يقدر على قوت البلد.
وذهب الحنابلة إلى القول: إن الواجب عليه يتعين في أحد الأصناف الواردة في حديث أبي سعيد السابق، وهي الحنطة والشعير، والتمر، والأقط، والزبيب، فإذا عدمت هذه الأصناف فإنه يجزئه كل مقتات من الحبوب والثمار.
أما عن إخراج القيمة في زكاة الفطر، فقد جوز الحنفية ذلك كما سبق الذكر، وعللوه بأنه أنفع وأيسر للفقير، لكونه يستطيع بها أن يشتري أي شيء يريد في يوم العيد، وقد منع من ذلك الجمهور، لعدم النص عليها، ولأن القيمة في حقوق الناس لا بد لها من تراض، والزكاة ليس لها مالك معين حتى يتم التراضي معه أو إبراؤه.
ولا شك أن دفع القيمة في زكاة الفطر أنفع للفقير وأيسر، وأسرع في سد خلته، بل أضمن في حصول النفع كاملا له، لأن حاجته قد لا تكون معينة في الحنطة أو الشعير أو التمر أو الأقط أو الزبيب أو أي مقتات آخر، وإنما قد يكون محتاجا إلى النقود(62/336)
لسداد أجرة المسكن، أو لشراء لوازمه الضرورية كالملابس، وعند دفع الزكاة من الأعيان المذكورة في الحديث، أو من أي مقتات في البلد يتكلف الفقير مؤونة البيع عندما تكون حاجته في غير المدفوع له، إلى جانب النقص في سعر تلك الأعيان وخاصة إذا كانت من الأعيان التي ليس لها رواج في السوق، أو الأنواع الأقل جودة، كما هو مشاهد في وقتنا الحاضر، فلا يتم له الغنى وسد الخلة التي أرادها الشارع من تشريع هذه الزكاة، وخاصة إذا علمنا أن الأعيان المشار إليها أو غيرها ليست مقصودة للشارع بذواتها، وإنما المقصود هو نفع الفقراء وإعطاؤهم الأصلح لهم والله تعالى أعلم.(62/337)
المبحث التاسع: مصرف زكاة الفطر:
اختلف الفقهاء في مصرف زكاة الفطر. فقال الحنفية والشافعية والحنابلة في القول الراجح: إن مصرفها مصرف زكاة المال، فيجوز صرفها إلى الأصناف الثمانية المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1)
بل إن الشافعية أوجبوا قسمتها على الأصناف الثمانية إذا وجدوا، وإذا لم يوجدوا فعلى الموجود منهم، ولم يشترط الحنفية والحنابلة استيعاب جميع الأصناف أو الموجود منهم،
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(62/337)
وإنما جوزوا صرفها حتى إلى صنف واحد من تلك الأصناف الثمانية.
وقال المالكية والحنابلة في القول الآخر: إن زكاة الفطر خاصة بالفقراء والمساكين، وليست عامة في جميع مصارف زكاة المال، فلا يجوز دفعها إلى غير الفقراء والمساكين.
والحقيقة - عندي - أن لهذا القول وجاهته لورود اختصاص هذه الزكاة بهم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق (1) ، حيث قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين» .
أما هل يعطى غير المسلمين من زكاة الفطر أو لا؟ فقد أجاب العلماء رحمهم الله تعالى - سواء القائلين: إن مصرفها مصرف زكاة المال، أو الذين قالوا: إنها مختصة بالفقراء والمساكين - أنه لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين شأنها كشأن زكاة المال، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فقد جوز دفعها إلى أهل الذمة. لكن الذي يؤيده الدليل وتطمئن إليه النفس هو ما ذهب إليه جمهور العلماء لا ما جوزه أبو حنيفة
__________
(1) سبق تخريجه.(62/338)
رحمه الله تعالى؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله تعالى عنه عندما بعثه إلى اليمن: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري، ج 2، ص 108، في كتاب (الزكاة) باب: وجوب الزكاة، يخرجها عن أصحابها.(62/339)
المبحث العاشر: في نقل زكاة الفطر:
الأصل في الزكاة، سواء كانت زكاة مال أو زكاة بدن أن تؤدى في البلد الذي يوجد فيه المالك حين وجوبها فيه، وفي المكان الذي يوجد فيه الشخص المزكي حين وجودها فيه، فتفرق على مستحقها هناك، ولا يجوز نقلها منه إلا إذا لم يوجد من يستحقها؟ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » .
هذا في حالة وجود مستحقين لها في بلدها، وقد استثنى الحنفية من ذلك فقالوا: لا بأس أن يخرجها من وجبت عليه إلى قرابته من أهل الحاجة، لما في ذلك من صلة الرحم، وكذلك إذا نقلها إلى قوم هم أحوج من أهل بلده إليها، أو إلى من هو أصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام أو
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(62/339)
إلى طالب علم. وأما الجمهور فلا يرون نقلها إلى أكثر من مسافة القصر للحديث السابق.
ثم اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الإجزاء إذا نقلها مع عدم وجود مسوغ لنقلها، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة في القول الراجح: إنها تجزئ لأنه لم يخرجها عن الأصناف الثمانية، وقال المالكية: إذا نقلها إلى من هم في مستوى فقراء أهل بلده، فإنها تجزئ مع الحرمة، وإذا نقلها إلى من هم أقل حاجة من فقراء بلده، فإنها لا تجزئ. وقال الحنابلة في القول الآخر: إذا نقلها مع عدم المسوغ لنقلها، فإنها لا تجزئ بأي حال.
وما ذهب إليه الحنفية ومن وافقهم من القول بجواز نقل الزكاة إلى بلد غير البلد الذي وجبت فيه بالضوابط التي ذكروها أسد ما دامت أنها تحقق مصلحة أعظم من مصلحة توزيعها في بلدها. كما أنها إذا نقلت من البلد الذي وجبت فيه إلى بلد آخر ودفعت إلى مستحقيها، فإنها تجزئ كذلك لكونها كما قال الجمهور: لم تخرج عن مستحقيها، والله تعالى أعلم.(62/340)
الفصل الثالث في الأضحية، وفيه أحد عشر مبحثا:
المبحث الأول: تعريف الأضحية والحكمة من مشروعيتها:
الأضحية لغة: اسم لما يذبح أيام عيد الأضحى، أي الشاة التي يضحي بها، وهي تجمع على أضحى، وأضاح، وضحايا، وأضاحي، وبها سمي يوم الأضحى، أي اليوم الذي يضحي الناس فيه (1) .
وفي الاصطلاح: اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر، وأيام التشريق تقربا إلى الله تبارك وتعالى.
والأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فمثل قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) ، حيث قال بعض المفسرين: إن المراد بالصلاة هنا صلاة العيد، وبالنحر ذبح ونحر الضحايا يوم عيد الأضحى (3) . . ومثل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (4) ،
__________
(1) ابن منظور، المرجع السابق، ج 4، ص 2560، 2561.
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) ابن عطية، في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز '' ج 15، ص 584، 585
(4) سورة الحج الآية 34(62/341)
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) . . ومن السنة ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما (3) » . . كما أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.
والأضحية من أعظم ما يتقرب به العبد إلى مولاه عز وجل، فهي تقع من الله تعالى بمكان قبل أن تقع على الأرض. فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا (4) »
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) أخرجه البخاري، ج 6، ص 237 في كتاب (الأضاحي) باب: ذبح الأضاحي بيده، ومسلم، ج 2، ص 1556 في كتاب (الأضاحي) باب: استحباب الأضحية
(4) أخرجه الترمذي، ج 4، ص 83، في كتاب (الأضاحي) باب ما جاء في فضل الأضحية، وابن ماجه، ج 2، ص 1045، في كتاب (الأضاحي) باب: ثواب الأضحية. .(62/342)
وهي كذلك سنة أبينا إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (1) ، فقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: «يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: " سنة أبيكم إبراهيم " قالوا، فمالنا فيها يا رسول؟ قال: " بكل شعرة حسنة " قالوا: فالصوف يا رسول الله؟ قال: " بكل شعرة من الصوف حسنة (2) »
ففي إحياء هذه السنة ذكرى للذاكرين وموعظة للمتقين بما حصل لأبينا إبراهيم - عليه السلام - من امتحان عظيم، فقد أمره الرب - عز وجل - بذبح ابنه إسماعيل - عليه السلام - وهو ابنه الوحيد حينئذ، فلما علم أنه حسن التوجه وصدق اليقين وتله للجبين، فداه بذبح عظيم، فكان ذلك سنة في عقبه للمتقين ولهم بها أجر عظيم، بالإضافة إلى أن فيها توسعة على الأهل وإطعام للفقراء والمساكين، وبها كذلك يكرم الجيران والأصدقاء المقربين، ألا ترى أن السنة فيها أن تثلث أثلاثا، ثلث يأكله الرجل وأهل بيته، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به على الفقراء والمساكين، ففيها نفع عظيم لآحاد المسلمين وجماعاتهم إلى جانب أنها شعيرة من شعائر هذا الدين العظيم.
__________
(1) سورة الصافات الآية 107
(2) أخرجه ابن ماجه، ج 2 ص 1045، في كتاب (الأضاحي) باب: ما جاء في ثواب الأضحية. .(62/343)
المبحث الثاني: حكم الأضحية:
اختلف الفقهاء في حكم الأضحية هل هي واجبة أم سنة؟ فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إنها واجبة، واستدل على(62/343)
الوجوب بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) ، وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية (2) » ، وكذلك بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا (3) » ، وهذا كله أمر والأمر يقتضي الوجوب. كما أنهم عللوا الحديث الأخير بقولهم: إن فيه وعيدا والوعيد لا يلحق بغير تارك الواجب، فلو لم تكن الأضحية واجبة ما لحق تاركها الوعيد (4) .
وقد خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن شيخهما أبا حنيفة وقالا بقول الجمهور إنها سنة مؤكدة. وقد استدل الجمهور على هذا الحكم بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن من شعره
__________
(1) سورة الكوثر الآية 2
(2) أخرجه أبو داود، ج 3، ص 226 في كتاب (الضحايا) باب: ما جاء في إيجاب الأضاحي، والترمذي، ج 4، ص 98، في كتاب (الأضاحي) باب رقم 19، والنسائي، ج 7، ص 167، في كتاب (الفرع والعتيرة) باب: رقم (1) وابن ماجه، ج 2، ص 1045، في كتاب (الأضاحي) باب: الأضاحي واجبة هي أم لا، والإمام أحمد، ج 4، ص 215
(3) أخرجه ابن ماجه، ج 2، ص 1044، في كتاب (الأضاحي) باب: الأضاحي واجبة، أم لا
(4) انظر تكملة فتح القدير، ج 9، ص 508(62/344)
وبشره شيئا (1) » ، وقد عللوا الحديث فقالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق التضحية على الإرادة، فلو كانت واجبة ما علقها بها، لأن الواجب لا يعلق بالإرادة، وقالوا أيضا إن الأضحية ذبيحة لا يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة، شأنها كشأن العقيقة.
وكذلك استدلوا بالحديث المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ثلاث هن علي فرائض وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر (2) » ، وقالوا أيضا عن الحديث الذي استدل به الحنفية إنه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة على وجوب الأضحية، ولو فرض أنه صحيح، فإنه يحمل على تأكيد الاستحباب وليس على الوجوب كحديث: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم (3) » وحديث «من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا (4) » فقد حملهما أهل العلم رحمهم الله تعالى على تأكيد الاستحباب:
ويظهر لي والله أعلم أن حجة الجمهور أقوى لاستنادها إلى
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم، ج 3، ص 1565، في كتاب (الأضاحي) باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية
(2) أخرجه الدارقطني، ج 2، ص 21، في كتاب (الوتر) باب: صفة الوتر، وأنه ليس بفرض، والإمام أحمد، ج 1، ص 231
(3) صحيح البخاري الجمعة (880) ، صحيح مسلم الجمعة (846) ، سنن النسائي الجمعة (1375) ، سنن أبو داود الطهارة (341) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1089) ، مسند أحمد بن حنبل (3/60) ، موطأ مالك النداء للصلاة (230) ، سنن الدارمي الصلاة (1537) .
(4) صحيح البخاري الأذان (853) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (561) ، سنن أبو داود الأطعمة (3825) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1016) ، مسند أحمد بن حنبل (2/21) ، سنن الدارمي الأطعمة (2053) .(62/345)
أحاديث صحيحة، ويؤيدها ما رواه البيهقي رحمه الله تعالى (1) ، عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: " بلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما، فيظن من رآهما أنها واجبة " كما يؤيده ما روي عن مجموعة من السلف أنها ليست بواجبة، ومنهم ابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين (2) .
__________
(1) في السنن الكبرى، ج 9، ص 264، 265، في كتاب (الضحايا) باب: الأضحية سنة نحب لزومها ونكره تركها
(2) انظر السنن الكبرى للبيهقي، ج 9، ص 265، نفس الكتاب والباب السابقين.(62/346)
المبحث الثالث: شروط وجوب الأضحية أو سنيتها:
يشترط في وجوب الأضحية أو سنيتها جملة من الشروط وهي:
أولا: الإسلام، وهذا الشرط متفق عليه بين القائلين إن الأضحية واجبة، والقائلين إنها سنة مؤكدة، وذلك أنها قربة من القرب التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، حيث إن دمها يقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، والكافر ليس من أهل القرب، ولا تصح منه (1) ، لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (2) ، ولقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) .
__________
(1) ابن الهمام الحنفي، المرجع السابق، ج 9، ص 509، والكاساني، المرجع السابق، ج 5، ص 63
(2) سورة الفرقان الآية 23
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163(62/346)
ثانيا: الإقامة: وهذا الشرط ليس متفقا عليه، وإنما هو محل خلاف بين أهل العلم، فقد اشترطها الحنفية فقالوا لا تجب الأضحية إلا على من كان مقيما.
أما المسافر فلا تجب عليه، وذلك لظروف السفر ومشقته، ولأنه يتطلب منه وقتا مخصوصا، وكل هذا قد لا يتيسر للمسافر، كما أن حمله الأضحية معه فيه مشقة وحرج عليه، ومن أجل ذلك رفع عنه وجوبها (1) .
أما غير الحنفية فلا يشترطون هذا الشرط، وإنما قالوا: تسن للمسافر كما تسن للمقيم، فلا فرق إلا أن المالكية استثنوا من ذلك الحاج، حيث قالوا: إن السنة في حقه الهدي، والهدي هو ما يهديه الحاج إلى فقراء الحرم تقربا إلى الله تعالى به.
ثالثا: الغنى، وهذا الشرط متفق عليه بين العلماء أنه لا بد أن يكون المضحي قادرا على الأضحية، فلا تطلب من غير القادر لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) ، ولكنهم اختلفوا في معنى الغنى أو القدرة. فقال الحنفية: الغني
__________
(1) الكاساني، المرجع السابق، ج 3، ص 63، 64
(2) سورة البقرة الآية 286(62/347)
هو من كان عنده نصاب، وهو مائتا درهم من الفضة أو عشرون دينارا من الذهب أو من يملك من المتاع ما تساوي قيمة هذا المقدار من الذهب أو الفضة، على أن يكون ذلك فاضلا عن حوائجه الأصلية وديونه إن كان عليه ديون.
وقال المالكية: إن القادر على الأضحية أو الغني هو من لا تجحف في حقه، أي أنه لا يحتاج إلى ثمنها في ضرورياته العامة، فقد قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل (1) : وقوله: " لا تجحف " أي الأضحية، بمعنى الذات المضحى بها لا بمعنى التضحية، ففي كلامه استخدام، يعني أن الأضحية يشترط فيها ألا تجحف بمال المضحي، فإن أجحفت بماله من غير تحديد، فإنه لا يخاطب بها. والذي يفيده كلام بعض الفقهاء أن المراد بالمجحف ما يخشى بصرفه في الأضحية الحاجة إليه في أي زمن من عامه.
وقال الحنابلة عن الغني أو القادر على الأضحية: إنه الذي يملك ثمنها بشرط أن يكون ذلك فاضلا عن حوائجه الضرورية، ومن عدم ثمنها فعليه أن يقترض إذا كان قادرا على الوفاء (2) . رابعا: التكليف، ويقصد به البلوغ والعقل، وقد اختلف
__________
(1) انظر: ج 3، ص 33
(2) منصور البهوتي، المرجع السابق، ج 3، ص 21(62/348)
العلماء في اشتراطهما في وجوب الأضحية أو سنيتها، فقال محمد بن الحسن وزفر من الحنفية: إنهما يشترطان في إيجاب الأضحية على المضحي، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: بعدم اشتراطهما على الصبي والمجنون لكونهما غير مكلفين.
وثمرة هذا الخلاف عند الحنفية أنه إذا ضحى وليهما أو وصيهما عنهما من مالهما فإنه لا يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويضمن عند محمد وزفر. والراجح من القولين في المذهب ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف (1) .
وقال المالكية: لا يشترط التكليف للتضحية، وإنما يسن لولي الصغير أو المجنون أو وصيهما أن يضحي عنهما من مالهما حتى ولو كانا يتيمين.
وقال الشافعية: لا يجوز لولي الصغير أو المجنون أو الوصي عليهما أن يضحي عنهما من مالهما، لأنه مأمور بالاحتياط لهما، ممنوع من التبرع به والأضحية تبرع. وإذا كان الولي أبا أو جدا، فإنه يجوز له أن يضحي عنهما من ماله الخاص على سبيل التبرع لهما، وهو بهذا التبرع كأنه ملكها لهما وذبحها عنهما، فيقع له أجر التبرع ولهما ثواب التضحية (2) .
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية، المرجع السابق، ج 5، ص 80
(2) انظر: النووي في المرجع السابق، ج 8، ص 425، والموسوعة الفقهية، المرجع السابق، ج 5، ص 80.(62/349)
أما الحنابلة فقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في التضحية عن اليتيم من ماله، فروي عنه أنه لا يجوز أن يضحي عنه من ماله، لأنه إخراج شيء من ماله بدون عوض، وهذا غير جائز أشبه الصدقة والهدية، وروي عنه أنه يجوز أن يضحي عنه من ماله إذا كان موسرا على سبيل التوسعة عليه تطييبا لقلبه، وإشراكه لأمثاله في يوم العيد (1) .
__________
(1) انظر ابن قدامة في المرجع السابق، ج 13، ص 378(62/350)
المبحث الرابع: وقت ابتداء التضحية:
أما عن بداية وقت التضحية فقد قال الحنفية: إنه يبدأ عند طلوع الفجر من يوم النحر، وأهل الأمصار والقرى فيه سواء، إلا أنه اشترط لأهل الأمصار تقديم الصلاة على التضحية، فلا تجوز قبل الصلاة، لكنه لو ذبح بعد الصلاة وقبل الفراغ من الخطبتين أجزأته، والأفضل تأخير الذبح إلى ما بعد الفراغ من الخطبتين. كما أنه لو تعددت مصليات العيد في المصر، فإن الذبح بعد الفراغ من أسبق صلاة عيد. وإذا لم يصلوا صلاة العيد لعذر، فإنه يجوز الذبح بعد مضي وقتها. أي وقت الصلاة والخطبتين، بحيث يقدر هذا الوقت الذي يتوقع أن تستغرقه الصلاة والخطبتان ثم يضحوا.
أما من يضحي في غير المصر، فإنه لا يشترط له هذا الشرط، وإنما يجوز له أن يذبح أضحيته عند طلوع فجر يوم العيد.
وقالوا أيضا: إن العبرة لمكان الذبح لا بمكان المضحي،(62/350)
فلو وكل مصري من يضحي عنه من أهل القرى، أو وكل قروي مقيم بقرية مصريا أن يذبح أضحيته بالمصر، فإن العبرة بمكان الوكيل لا بمكان الموكل، لأن الأضحية مما يتقرب به المضحي إلى الله تعالى (1) .
وقال المالكية والحنابلة في رواية: إن بداية وقت ذبح الأضحية لغير الإمام هو وقت فراغ الإمام من ذبح أضحيته بعد صلاة العيد وبعد الفراغ من الخطبتين فلا يجوز الذبح قبل أضحية الإمام، وذلك في اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم النحر. وفي حالة عدم ذبح الإمام أو تكاسله عن الذبح من غير عذر فإنه يقدر الوقت الذي يظن أنه لو ذبح الإمام لكان قد فرغ من ذبح أضحيته ثم يضحوا.
أما إذا تأخر الإمام عن التضحية لعذر، كانشغاله بقتال عدو ونحوه، فإنه ينتظر حتى يزول ذلك العذر إلا إذا خيف فوات الوقت الأفضل في اليوم الأول، فإذا خيف ذلك فإنه يلزم الناس أن يضحوا ولو كان قبل تضحية الإمام. وقالوا كذلك: إذا كان في البلد نائبان أحدهما للإمام والآخر للصلاة، فإذا أخرج نائب الإمام أضحيته إلى المصلى فالاعتبار به، وإلا فالاعتبار بإمام الصلاة، وإذا عدم هذا وذاك فعلى المسلمين أن يتحروا تضحية إمام أقرب الأمصار إليهم إذا كان واحدا، وإذا تعددوا فعليهم أن
__________
(1) انظر: ابن عابدين في المرجع السابق، ج 6، ص 318، والكاساني، ج 5، ص 65(62/351)
يتحروا تضحية أقرب الأئمة إليهم.
وقال الشافعية والحنابلة في الرواية الثانية: إن وقت التضحية يحل بعد طلوع الشمس يوم العيد بمقدار ما يتسع له فعل ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين كذلك. وقد عللوا عدم توقف صحة التضيحة على انتهاء الإمام من صلاة العيد والخطبتين وفراغه بعد ذلك من ذبح الأضحية بأن الأئمة يختلفون في الصلاة من حيث التطويل والقصر، فمنهم المطيل، ومنهم المخفف فاعتبر الزمان لكونه ضابطا مناسبا أشبه ما يكون بمواقيت الصلاة، ويناسب جميع الناس في القرى والأمصار والبوادي، وأهل الخيم. . كما أن للحنابلة قولا ثالثا في المسألة، وهو أنه ليس بالضرورة أن ينتظر الناس الإمام حتى يفرغ من صلاة العيد والخطبتين، وذبح أضحيته بعد ذلك في جميع الأماكن إذا تعددت مصليات العيد، وإنما ينظر إلى أقرب مصلى فإذا فرغ المصلون من الصلاة فيه، فإنه لا بأس أن يذبحوا ضحاياهم.
أما إذا كان المضحون من أهل البوادي والخيم التي لا مصليات فيها ولا عيد على أهلها، فإن وقت التضحية بالنسبة(62/352)
إليهم يبتدئ بعد طلوع الشمس يوم العيد وارتفاعها قدر رمح، كما قالوا: إذا فاتت صلاة العيد بزوال الشمس في الأماكن التي فيها مصلى للعيد، فإن ابتداء وقت تضحيتهم من وقت الفوات (1) .
ويظهر لي أن ضابط الزمان الذي ذكره الشافعية والحنابلة في القول الثاني هو ضابط جيد، وفي غاية الأهمية، فهو يحقق مصالح المسلمين ويجنبهم الفوضى ويرفع عنهم الحرج على اختلاف أماكنهم وتباين بلدانهم، وخاصة أولئك الذين لا تقام فيهم صلاة العيد كالأقليات المسلمة في البلدان غير الإسلامية، ويتفق مع مراد الشارع وقريب منه القول الأخير للحنابلة، والله تعالى أعلم.
__________
(1) ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 384 - 387(62/353)
المبحث الخامس: حكم من ضحى قبل وقت التضحية أو أخرها حتى فواته:
من الأمور المتفق عليها بين أهل العلم أنه لا يجوز تقديم التضحية قبل طلوع فجر يوم النحر بحال، وأن من قدمها قبل هذا الوقت لا تجزئه، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء (1) » . . ومن الأمور
__________
(1) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1553، في كتاب (الأضاحي) باب: وقتها، والبخاري، ج 6، ص 237، 238، في كتاب (الأضاحي) باب: الذبح بعد الصلاة(62/353)
المتفق عليها أيضا أنه لا يجوز تأخير التضحية حتى فوات وقتها، وأن من فعل ذلك فإنها لا تجزئه، وإنما هي شاة لحم قدمها لأهله، أو صدقة من الصدقات.
وقد مر في مطلب سابق أن وقت التضحية يبدأ بطلوع الفجر من يوم النحر، وينتهي بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق مع خلاف بين العلماء في بدايته ونهايته. وهنا نريد أن نوضح حكم من ضحى قبل الوقت الذي يجوز التضحية فيه أو من أخرها حتى فات هذا الوقت.
اختلفت الرواية عند الحنفية فيما إذا أخطأ الناس في تعيين يوم النحر فصلوا وضحوا، ثم اتضح لهم بعد ذلك أنه يوم عرفة وليس يوم النحر، فروي عنهم أن صلاتهم وتضحيتهم تجزئهم، لأن مثل ذلك لا يمكن الاحتراز منه، ولأن القول بعدم الجواز يوقع المسلمين في حرج شديد. وهناك قول آخر: أنها لا تجزئهم ويجب أن تعاد الصلاة والتضحية، لأنه تبين أن الصلاة والتضحية وقعت قبل الوقت فلم يجز.
أما من فاته وقت التضحية، وهو من أهل وجوبها سواء أوجبها على نفسه بنذر أو بشرائه لها بنية التضحية من غني أو فقير، ثم مضى وقت التضحية وهو لم يضح فإن عليه أن يتصدق بها حية لفوات إراقة الدم الذي لا تكون القربة به إلا في وقت مخصوص، وهو أيام النحر، وقد مضت فلم يبق إلا التصدق بها لأن الأصل في الأموال التقرب بالتصدق بها وليس بإراقة الدم، وإنما نقله الشرع إلى الإراقة بالدم في وقت مخصوص، وقد فات(62/354)
فعاد الأمر في ذلك إلى الأصل.
أما من وجبت عليه بإيجاب الشرع ولم يعينها بالشراء أو بغيره، وقد مضى وقت التقرب بها بعينها، أي بإراقة دمها فإنه يبقى التصدق بثمنها لأنه حق تعلق بذمته فلا يتحلل منه إلا بأدائه إلى مستحقيه، وكذلك من وجبت عليه ولم يضح حتى فات وقت التضحية ثم حضرته الوفاة تعين عليه أن يوصي بالتصدق بثمنها من ثلث ماله، لأنه حق واجب عليه، ولا يمكن التخلص منه في هذه الحالة إلا عن طريق الوصية.
كما نص الحنفية على أن من وجب عليه التصدق بالبهيمة حية، فإنه يحرم عليه ذبحها أو إتلاف شيء منها، وإذا خالف وذبحها فإنه يجب عليه أن يتصدق بها مذبوحة، وعند نقصان قيمتها مذبوحة عنه وهي حية يلزمه أن يتصدق بالفرق بين القيمتين.
ويبتدئ وقت التضحية عند المالكية لإمام صلاة العيد بعد فراغه من الصلاة والخطبتين، ولغيره بعد فراغه من ذبح أضحيته إذا ضحى، أو بعد مضي زمن قدر ذبحه لأضحيته إذا لم يضح، وذلك في اليوم الأول من أيام العيد، فمن ذبح قبل ذلك فإنها لا تجزئه، ويلزمه أن يذبح أضحية أخرى مكانها إلا لمتحر لأقرب إمام، فإنه إذا ذبح قبله تجزئه، وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما(62/355)
رواه جندب بن سفيان رضي الله عنه، قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت فقال: «من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله (1) » وبما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر أخرى ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم (2) » . .
أما بالنسبة لمن لم يضح حتى فات وقت التضحية الذي يفوت عند المالكية بغروب شمس اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، فإنها لا تعتبر أضحية، وإنما هي شاة لحم قدمها لأهله، إلا إذا كانت منذورة لزمه أن يضحي قضاء.
وقال الشافعية: إن وقت التضحية يبدأ بعد طلوع الشمس يوم النحر ومضي زمن قدر فعل ركعتين خفيفتين، وكذلك خطبتين خفيفتين، فمن ضحى قبل هذا الوقت لم تقع أضحية، وإنما هي
__________
(1) أخرجه البخاري، ج 6، ص 238، في كتاب (الأضاحي) باب: من ذبح قبل الصلاة الإمام، ومسلم، ج 2، ص 1551، في كتاب (الأضاحي)
(2) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1555، في كتاب (الأضاحي) باب: سن الأضحية(62/356)
شاة لحم قدمها لأهله. كما قالوا: إن من لم يضح حتى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق، فإنها إذا كانت مسنونة وذبحها بنية التضحية لا تقع أضحية لفوات وقت التضحية، لكنه يثاب على ما يعطي الفقراء ثواب الصدقة، وإذا كانت منذورة وجب عليه أن يضحي قضاء، لأن الواجب لا يسقط بفوات وقته. وإذا وجبت عليه بإيجابه لها فضلت أو سرقت دون تفريط منه لا يضمن، لأنها أمانة في يده، وإن عادت إليه ذبحها سواء كان العود في زمن التضحية أو فيما بعد، إذا عينها وفات وقت التضحية، وهو لم يضح يلزمه التصدق بها حية أو بقيمتها، سواء كان موسرا أو معسرا، ولا تحل له أو لأحد فروعه أو أصوله أو لغني (1) .
وذهب الحنابلة إلى ما ذهب إليه الشافعية في هذه المسألة، إلا أنهم خالفوهم في قول بأن نهاية وقت التضحية هو غروب شمس اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وليس اليوم الثالث عشر، وهو القول الذي انتصر له ابن قدامة رحمه الله تعالى (2) . .
__________
(1) انظر: محمد الشربيني الخطيب، المرجع السابق، ج 4، ص 287، والموسوعة الفقهية، ج هـ، ص 94.
(2) انظر: المغني، ج 13، ص 387(62/357)
المبحث السادس: أنواع الضحايا:
اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن الضحايا لا تجوز بغير بهيمة الأنعام، وهي الغنم والبقر والإبل، لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) ،
__________
(1) سورة الحج الآية 34(62/357)
ولقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (1) ، ولأنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم ضحوا بغير بهيمة الأنعام (2) .
واختلفوا في الأفضل منها، فذهب المالكية إلى أن أفضل ما يضحى به من الأنعام الكباش ثم البقر ثم الإبل، بعكس الأمر في الهدايا، وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين (3) » . وهناك قول للمالكية: بأن الإبل هي الأفضل لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى (4) » . .
وذهب الجمهور إلى أن الأفضل: الإبل ثم البقر ثم الكباش، وسبب اختلافهم معارضة القياس دليل الفعل، حيث لم يرو عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بغير الكباش، وهذا يدل على أفضلية
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) انظر: ابن رشد، المرجع السابق، ج 1، ص 368
(3) أخرجه البخاري، ج 6، ص 236، في كتاب (الضحايا) باب في الأضحية، ومسلم، ج 2، ص 1556، في كتاب (الضحايا) باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة.
(4) أخرجه البخاري ج 6، ص 236، في كتاب (الضحايا) باب: الأضحى والنحر بالمصلى(62/358)
الكباش على بقية الأنعام، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل، ثم إنه لو علم الله تعالى خيرا من الكباش لفدى به إسماعيل عليه السلام (1) .
غير أن حديث ابن عمر السابق يعارض هذا الحديث، قد ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى، وهذا يدل أن ضحايا الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن مقصورة على الكباش، لأن النحر للإبل والذبح للبقر والغنم.
ثم احتج كذلك الجمهور على هذه الأفضلية بالحديث المتفق عليه الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر (2) » . .
وقالوا: إن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يذهب إلى الأفضل منه، وهي الإبل فهي أكثر لحما وثمنا وأنفع للفقراء، من الكباش، والكباش إنما تأتي أفضليتها إذا قيست بسائر أجناس الغنم وليس بأجناس الإبل والبقر انظر.
__________
(1) انظر: الخرشي على مختصر خليل، المرجع السابق، ج 3، ص 38
(2) أخرجه البخاري، ج 1، ص 212، 213 في كتاب (الجمعة) باب: فضل الجمعة، ومسلم، ج 1، ص 582 في كتاب (الجمعة) باب: الطيب والسواك يوم الجمعة(62/359)
ولا شك أن دليل الجمهور أقوى، وأن ما ذهبوا إليه أولى، وأن أفضل الأضاحي البدنة ثم البقرة ثم الشاة ثم شرك في بدنة ثم شرك في بقرة، والله تعالى أعلم.(62/360)
المبحث السابع: صفات الضحايا:
هناك بعض الصفات التي اتفق عليها أهل العلم للضحايا التي لا تجزئ، وهي أربع: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي، أي التي لا مخ فيها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب، قال: «قام فينا رسول صلى الله عليه وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، فقال: " أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ظلعها، والكسير التي لا تنقي (1) » . وقد ألحق أهل العلم رحمهم الله تعالى بهذه الأربع ما كان عيبه فاحشا بطريق التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأن ما هو أشد من المنصوص عليه أولى بالتحريم مما هو منصوص عليه، وكذلك لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود، ج 3، ص 236، في كتاب (الضحايا) باب: ما يكره من الضحايا، والنسائي، ج 6، ص 215، في كتاب (الضحايا) باب: العرجاء، والترمذي، ج 4، ص 85، 86 في كتاب (الأضاحي) باب: ما يجوز من الأضاحي، وابن ماجه، ج 2، ص 1050، في كتاب (الأضاحي) باب: ما يكره أن يضحى به.
(2) سورة البقرة الآية 267(62/360)
واختلفوا فيما كان من العيوب في سائر الأعضاء، ويؤثر في الحيوان وينقص من لحمه، كما تنقصه تلك العيوب المنصوص عليها، فقال الحنفية والمالكية: إنها تمنع الإجزاء كالمنصوص عليها، وقال المالكية في القول الآخر: إنها لا تمنع الإجزاء ولكن يستحب تجنبها (1) .
وذهب الحنابلة إلى أنها لا تمنع الإجزاء ولكن تكره كراهة تنزيه (2) ، وقد استدلوا على هذا القول بما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: «أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء (3) » وقال زهير: فقلت لأبي إسحاق: أذكر العضباء؟ قال: لا. فما المقابلة؟ قال يقطع طرف الأذن، قلت: فما المدابرة؟ قال: يقطع من مؤخر الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: تخرق أذنها للسمة.
__________
(1) انظر: ابن رشد، المرجع السابق، ج 1، ص 369، والكاساني، المرجع السابق، ج 3، ص 75.
(2) انظر: ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 372، 373.
(3) أخرجه أبو داود، ج 3، ص 237، 238، في كتاب (الضحايا) باب: ما يكره من الضحايا، والترمذي، ج 4، ص 86، في كتاب (الأضاحي) باب: ما يكره من الأضاحي، وقال عنه: إنه حديث حسن صحيح. والنسائي، ج 7، ص 216، في باب (الأضاحي) باب: المقابلة، وهي ما قطع طرف أذنها، وابن ماجه، ج 2، ص 1050، في كتاب (الأضاحي) باب: ما يكره أن يضحى به(62/361)
وقال الشافعية: إنه يكره التضحية بالجلحاء، وهي التي لم يخلق لها قرن، وبالعصماء، وهي التي انكسر غلاف قرنها، والعضباء وهي التي انكسر قرنها، وبالشرقاء، وهي التي انثقبت من الكي أذنها، وبالخرماء، وهي التي تشق أذنها بالطول، لأن ذلك كله يشينها (1) .
وبهذا يظهر من كلام أهل العلم أن العيوب اليسيرة أو الخفيفة التي لا تنقص اللحم ولا تؤثر فيه لا تمنع الإجزاء. أما ما كان عيبه فاحشا بحيث يؤثر في طيب اللحم وينقصه، فإنه يكون مانعا من الإجزاء، وهذا يتضح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «أربع في الأضاحي لا تجوز: العوراء بين عورها والمريضة بين مرضها (2) » . . . حيث يستدل به على أنه إذا كان العيب خفيفا لا يؤثر في الأضحية، ولا يمنع الإجزاء والتضحية بها، لكنه كلما كانت الأضحية أسلم من العيوب وأسمن وأكمل كانت أفضل، فذات القيمة الأعلى أفضل من ذات القيمة الأقل، والخصي أفضل من الفحل، لأن الخصي يطيب به اللحم وتسمن به ذكور الأنعام، والبدنة أفضل من البقر والبقرة أفضل من الشاة، والضأن أفضل من المعز، والشاة السمينة أفضل من شاتين دونها في السمن، ولذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم «ضحى بكبشين أقرنين أملحين موجوأين (3) » .
__________
(1) انظر: النووي، المرجع السابق، ج 8، ص 398، 399
(2) سنن الترمذي الأضاحي (1497) ، سنن النسائي الضحايا (4370) ، سنن أبو داود الضحايا (2802) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3144) ، مسند أحمد بن حنبل (4/301) ، موطأ مالك الضحايا (1041) ، سنن الدارمي الأضاحي (1950) .
(3) سنن ابن ماجه الأضاحي (3122) ، مسند أحمد بن حنبل (6/220) .(62/362)
المبحث الثامن: السن المشترطة في الضحايا:
أما عن السن المشترطة في الضحايا، فقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى أنه لا يجزئ إلا الثني من الإبل والبقر والمعز، ولم ينقل عن أحد من السلف رحمهم الله تعالى أنه خالف في ذلك إلا ما روي عن الأوزاعي وعطاء أنه يجزئ الجذع من كل جنس من أجناس الأنعام الأربعة، الإبل والبقر والضأن والمعز.
أما الجذع من الضأن فقال الجمهور: إنه يجزئ، ونقل عن ابن عمر والزهري أنه لا يجزئ كسائر الأنعام سواء قدر على مسنة أو لم يقدر. . وقد استدل الجمهور بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن (1) » ، واستدل من قال: يجزئ الجذع من جميع الأجناس بما روي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: «قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله إنه أصابني جذع، فقال: " ضح به (2) » وفي لفظ آخر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه ضحايا، فبقي عتود فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ضح
__________
(1) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1555 في كتاب (الأضاحي) باب: سن الأضحية
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1965) .(62/363)
به أنت (1) » ، والعتود من أولاد المعز خاصة، وقيل: هو ما بلغ سنة (2) .
والجذع من الضأن ما تم له ستة أشهر، ودخل في السابع، والثني من الضأن والمعز ما تم له سنة ودخل في السنة الثانية، والثني من البقر ما تم له سنتان ودخل في السنة الثالثة، والثني من الإبل ما تم له خمس سنوات ودخل في السنة السادسة.
وتحديد الرسول صلى الله عليه وسلم المجزئ من الضحايا بهذه السن والبعد بها عن الأوصاف التي تؤثر في طيب اللحم وكثرته دليل على عظم مكانة الضحايا عند الله، وعظم أجر المضحين، وقد ورد في الحديث أن «دم الأضحية يقع عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض (3) » كما ورد في بعض الكتب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» . . (4) فينبغي على المسلمين أن يحرصوا على التضحية قدر الوسع، وأن يستعظموها، وأن يستشرفوها، ويبتعدوا بها عن كل عيب يؤثر
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2500) ، صحيح مسلم الأضاحي (1965) ، سنن الترمذي الأضاحي (1500) ، سنن النسائي الضحايا (4379) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3138) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الأضاحي (1954) .
(2) انظر. سنن أبي داود، ج 3، ص 233، كتاب (الضحايا) باب: ما جوز من السن في الضحايا. .
(3) سنن الترمذي الأضاحي (1493) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3126) .
(4) انظر: السرخسي، المرجع السابق، ج 12، ص 10(62/364)
فيها، وفي طيب لحمها وينقصه، وكل ذلك من تقوى القلوب كما قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) . .
__________
(1) سورة الحج الآية 32(62/365)
المبحث التاسع: عدد ما يجزئ من الضحايا عن المضحين:
أفضل ما يضحى به: الإبل، ثم البقر، ثم الضأن، ثم المعز، ثم الشرك في بدنة ثم الشرك في بقرة، وهذا عند الجمهور، وذلك أن الإبل أعظم وأوفر لحما من البقر، وكذلك البقر أكثر لحما من الغنم، والضأن أطيب لحما من المعز وأكثر، ثم إن التضحية بالضأن أو المعز أفضل من الاشتراك في بدنة أو بقرة، وذلك أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد فينفرد المضحي الواحد بها بإراقة دم على خلاف الشرك في البدنة أو البقرة، ويشترك مع ستة بإراقة دم واحد.
وقد استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بحديث جابر رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة (1) » وفي لفظ آخر قال: «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة (2) » . . كما قال الجمهور: إنه إذا ضحى بالشاة واحد من أهل البحث تأدت السنة أو الواجب في حقهم جميعا وإن البقرة أو
__________
(1) أخرجه مسلم، ج 1، ص 955 في كتاب (الحج) باب: الاشتراك في الهدي وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة
(2) أخرجه مسلم، ج 1، ص 955 في كتاب (الحج) باب: الاشتراك في الهدي وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة(62/365)
البدنة تجزئ عن سبعة سواء كانوا أهل بيت واحد أو بيوت متفرقة، وسواء كانوا متفقين في القرب أو مختلفين، أو كانت القرب واجبه أو مستحبة، أو بعضها واجب والبعض مستحب، أو كان بعضهم يريد اللحم والآخرون يريدون القربة، وهذا في حالة عدم وجود جزاء الصيد. أما إذا كان فيها جزاء الصيد، فإنها لا تجزئ لأنه لا بد فيه من المماثلة ومشابهة الصورة.
وقد خالف الحنفية والشافعية والحنابلة في بعض جزئيات هذه المسألة فقالوا: إنه لا يجوز الاشتراك إلا للمتقربين فقط.
أما إذا كان بعضهم يريد القربة والبعض يريد غير القربة، فإنه لا يجوز، لأن القربة في هذا إراقة الدم، وهي لا تحتمل التجزئة لكونها ذبحا واحدا.
أما المالكية فقد قالوا: إن أفضل ما يضحى به من الأنعام: الكباش ثم البقر ثم الإبل، كما قالوا: إن البدنة أو البقرة تجزئ عن أهل بيت واحد، وإن كانوا أكثر من سبعة، ولكنها لا تجزئ عن أهل بيتين، وإن كانوا أقل من سبعة (1) . . لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي
__________
(1) انظر: الخرشي، المرجع السابق، ج 3، ص 38، وابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 392(62/366)
يقول عنها الناس الرجبية (1) » . .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور بدليل أن الشارع جعل البدنة تجزئ عن سبعة، وهي أكثر لحما من البقرة، وكذلك البقرة تجزئ عن سبعة، وهي أكثر لحما من الشاة، وكثرة اللحم وطيبه مقصود في التضحية بدليل «نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسير التي لا تنقي (2) » أي لا مخ فيها لهزالها، والله تعالى أعلم.
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سنن الترمذي الأضاحي (1497) ، سنن النسائي الضحايا (4369) ، سنن أبو داود الضحايا (2802) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3144) ، مسند أحمد بن حنبل (4/301) ، موطأ مالك الضحايا (1041) ، سنن الدارمي الأضاحي (1950) .(62/367)
المبحث العاشر: في مستحبات ينبغي للمضحي فعلها ومكروهات يحسن به اجتنابها:
ذكر العلماء رحمهم الله تعالى بعض المستحبات التي ينبغي للمضحي أن يفعلها قبل التضحية وبعضها عند التضحية، وبعضها بعد التضحية. وقد أوردت شيئا منها فيما سبق في مظانه. أما هنا فسأذكر ما لم يذكر هناك إن شاء الله تعالى.
كما أن للتضحية مكروهات ورد بعضها في ثنايا المطالب السابقة، فإنني سأذكر هنا البعض الآخر، لأن فعل المستحب يزيد في الأجر وعدم الاحتراز من المكروه ينقصه. فإذا فعل المضحي المستحب، واجتنب المكروه حاز على كمال أجر الأضحية بإذن الله تعالى. وإليك هذه المستحبات، والمكروهات فيما يلي:
أولا: المستحبات:
أ - تقليد الأضحية وتجليلها قياسا على الهدي، حيث إن(62/367)
المضحي إذا قلد أضحيته وجللها أشعر ذلك بعظمها، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) ، وقوله تعالى في شأن الهدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} (2) ، وقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (3) .
2 - ربط الأضحية قبل أيام العيد، لأن الأضاحي من القرب التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، حيث إن المضحي إذا ربط أضحيته قبل التضحية بزمن كان له أجر عظيم بذلك، لأنه يظهر استعداده وعنايته ورغبته في التقرب إلى مولاه بهذه القربة العظيمة (4) .
3 - من السنة عند إرادة الذبح أن يسوق المضحي أضحيته إلى مكان الذبح، فيستحب له أن يسوقها سوقا جميلا لا عنف فيه ولا قوة، لأنها قربته التي يتقرب بها إلى الله تعالى ومطيته على الصراط، ثم لأن المسلم مأمور بالإحسان في كل شيء. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (5) » . .
__________
(1) سورة الحج الآية 32
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 97
(4) انظر. الموسوعة الفقهية، ج 5، ص 94
(5) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1548، في كتاب (العيد والذبائح) باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة(62/368)
4 - ومن الأشياء المستحبة استحسان الأضحية واستحسانها واستعظامها لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تعظيمها استسمانها واستعظامها واستحسانها (2) . . وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون (3) . . ثم لأن استسمان الأضحية أعظم للأجر وأنفع للناس (4) .
5 - يستحب للمضحي كذلك ذبح أضحيته بنفسه إن قدر على ذلك، لأنها قربة، ومباشرة القربة أفضل من الإنابة فيها، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما (5) » .
لكنه لو أناب عنه غيره في ذبح الأضحية جاز وصحت النيابة إذا كان المنوب مسلما، لما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك أما إن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب، أما إنه يجاء بها يوم القيامة بلحومها ودمائها سبعين ضعفا حتى
__________
(1) سورة الحج الآية 32
(2) ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 367
(3) ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 367
(4) ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 367
(5) صحيح البخاري الأضاحي (5565) ، صحيح مسلم الأضاحي (1966) ، سنن الترمذي الأضاحي (1494) ، سنن النسائي الضحايا (4415) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3120) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الأضاحي (1945) .(62/369)
توضع في ميزانك (1) » . .
6 - ويستحب كذلك أن يوجه الأضحية حين الذبح إلى جهة القبلة، وأن يقول: بسم الله والله أكبر لقوله في الحديث السابق: «ذبحها بيده وسمى وكبر (2) » وإن زاد فقال: اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني أو من فلان، فحسن، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «قال بعد أن أخذ الكبش وأضجعه ثم ذبحه: " بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد (3) » ، وإن قال: «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك، بسم الله والله أكبر (4) » فحسن أيضا لوروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود (5) ، أو ذكر أي دعاء آخر ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا بأس بذلك، لكنه لو نسي ولم يذكر شيئا جازت الأضحية ولا شيء عليه.
__________
(1) أخرجه البيهقي، ج 9، ص 283، في كتاب (الضحايا) باب: ما يستحب للمرء من أن يتولى ذبح نسكه أو يشهده، وعبد الرزاق في المصنف، ج 4، ص 388، في كتاب المناسك، كتاب: فضل الضحايا والهدي هل يذبح المحرم
(2) صحيح البخاري الأضاحي (5565) ، سنن الدارمي الأضاحي (1945) .
(3) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1557، في كتاب (الأضاحي) باب: استحباب التضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (771) ، سنن الترمذي الدعوات (3423) ، سنن النسائي الافتتاح (897) ، سنن أبو داود الصلاة (760) ، مسند أحمد بن حنبل (1/103) ، سنن الدارمي الصلاة (1238) .
(5) أخرجه أبو داود انظر سنن أبي داود، ج 3، ص 231، كتاب (الضحايا) باب: ما يستحب من الضحايا(62/370)
ثانيا: المكروهات التي ينبغي للمضحي أن يجتنبها:
1 - إذا دخلت العشر فإنه يكره لمن أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره وبشرته شيئا، أي يكره له أن يأخذ من شعره، سواء كان شعر الرأس أو كان في أي موضع من جسمه شيئا بحلق أو تقصير أو نتف أو غيره، أو أن يقص أظفاره بتقليم أو غيره، أو أن يأخذ من بشرته شيئا إلا ما كان فيه ضرر عليه، وذلك ابتداء من ليلة اليوم الأول من شهر ذي الحجة، حتى يفرغ من ذبح أضحيته في أيام العيد، وقد دل على ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم. رحمه الله تعالى عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره (1) » . وفي لفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا (2) » .
وهذا قول المالكية والشافعية وبعض الحنابلة، وقال بعض الحنابلة: إنه يحرم أن يأخذ المضحي من شعره وبشره شيئا إذا دخلت العشر حتى يضحي، للنهي الوارد في الحديث حيث إن مقتضى النهي التحريم.
وقال الحنفية: إن حلق الشعر وتقليم الأظفار غير مكروه
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الأضاحي (1523) ، سنن النسائي الضحايا (4362) ، سنن أبو داود الضحايا (2791) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3150) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) ، سنن الدارمي الأضاحي (1947) .
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1977) .(62/371)
للمضحي، بدليل أنه لا يحرم عليه الوطء ولا اللباس (1) ، وبدليل قول عائشة رضي الله عنها: «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي (2) » . .
2 - ومما يكره للمضحي أن يحلب الشاة التي تعينت أضحية بالشراء أو جز صوفها، سواء كان الذي عينها موسرا أو معسرا، وكذلك الشاة المنذورة أضحية، وهذا قول الحنفية. وقد عللوا ذلك بأن المضحي عينها قربة، فلا يجوز له الانتفاع بشيء منها قبل إقامة القربة. وقالوا كذلك: إن الجز والحلب يؤثران على الأضحية وينقصان من لحمها، وهذا ما لا يجوز أن يلحق بالأضاحي، والشأن في هذا كالشأن في لحمها إذا ذبحها قبل وقتها حيث لا يحل له الانتفاع بشيء منه سواء بأكل أو بغيره. وإذا كان في ضرعها حليب، ويخشى الضرر عليها منه أو الهلاك بسببه فإنه لا يحلبها ولكن ينضحه بالماء البارد حتى يتقلص ويخف ألمه أو بأي شيء يخفف الألم عليها، وإذا خالف وحلبها لزمه التصدق بثمنه، لكونه جزءا من شاة متعينة للقربة، وإذا تلف ولم يتصدق به أو بقيمته لزمه التصدق بثمنه، والشأن في صوفها كالشأن في لبنها (3) .
__________
(1) الكاساني، المرجع السابق، ج 5، ص 78
(2) أخرجه البخاري، ج 2، ص 183 في كتاب الحج، باب: من قلد القلائد بيده، ومسلم، ج 1، ص 959، في كتاب الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن يريد الذهاب بنفسه
(3) انظر. الكاساني، المرجع السابق، ج 5، ص 78، والموسوعة الفقهية، ج 5، ص 95، 96(62/372)
وقال المالكية: إذا تعينت الأضحية بالشراء أو عينها المضحي من بين بهائمه، فإنه يكره شرب لبنها كراهة تنزيه، لأنها قربة، والإنسان لا يعود في قربة، وكذلك يكره جز صوفها قبل ذبحها، لأن ذلك يؤثر في جمالها، وقد استثنوا من ذلك حالتين:
الأولى: إذا كان هناك زمن كاف يعتقد المضحي أن صوفها سينبت فيه، فيعود إلى مثل ما كان عليه أو قريبا منه. فإن جزه لا يكره.
والثانية: إذا نوى حين تعيينها أضحية من بين بهائمه جز صوفها، فإنه لا يكره ذلك، لارتباط النية بالتعيين كالشرط والمشروط، وإذا جز في غير هاتين الحالتين كره له بيعه (1) .
أما الشافعية والحنابلة فقد قالوا: بجواز الانتفاع بلبن الأضحية إذا كان فاضلا عن ولدها ولم يلحقها ضرر بسبب حلبه. أما إذا لم يكن فائضا عن ولدها أو كان يضر بها أو ينقص فإنه لا يجوز أخذه ولا الانتفاع به. وكذلك الشأن في صوفها إذا كان بقاؤه أنفع وأجمل للأضحية أو جزه يضر بها فلا يجوز أخذه. أما إذا كان جزها أفضل لها ولا يعود عليها بالنقص فإنه لا يكره، ووجب التصدق بالمجزوز.
3 - كذلك يكره للمضحي أن يبيع الشاة المتعينة أضحية،
__________
(1) انظر. الخرشي على مختصر خليل، المرجع السابق، ج 3، ص 40، 41(62/373)
سواء كان التعيين بالشراء أو بالنذر، وهذا قول الحنفية، وقد عللوا ذلك بأنها أضحية تعينت قربة فلا يجوز الانتفاع بثمنها كلحمها وصوفها، غير أنه لو باعها صاحبها نفذ البيع عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، لأنه بيع مال مملوك منتفع به، ومقدور على تسليمه، ولا ينفذ عند أبي يوسف، لأنها بمنزلة الوقف، وإذا باعها فإنه يجب عليه أضحية مكانها تكون مثلها أو أفضل منها، فإن كانت مثلها أو أرفع منها جاز وليس عليه شيء غيرها، وإن اشترى أقل منها لزمه أن يتصدق بالفرق بين القيمتين دون النظر إلى ثمن البيع والشراء إذا كان يختلف عن القيمة (1) .
وعند المالكية إذا كانت الأضحية منذوره، فإنه يحرم بيعها أو إبدالها بغيرها، وإذا كانت غير منذورة كره بيعها أو استبدالها بما هو مثلها أو دونها (2) .
وقال الشافعية: لا يجوز بيع الأضحية الواجبة بمال ولا إبدالها ولو بخير منها.
أما الحنابلة فلهم قولان في ذلك، أحدهما: أنه يجوز بيعها أو إبدالها بخير منها؛ لأنها عين يجوز إبدالها، فجاز بيعها كما قبل إيجابها. والثاني: وهو المذهب، أنه لا يجوز بيعها؛ لأن المضحي جعلها قربة فلم يجز بيعها كالوقف، غير أنه يجوز
__________
(1) انظر: الكاساني، المرجع السابق، ج هـ، ص 97
(2) انظر: الخرشي على مختصر خليل، المرجع السابق، ج 3، ص(62/374)
إبدالها بما هو خير منها من جنسها لأنه لم يزل الحق فيها عن جنسها، وإنما انتقل إلى خير منها، فكأنه ضم زيادة إليها (1) .
4 - ومن الأمور التي يكره للمضحي فعلها بيع ما ولد للشاة المتعينة أضحية، سواء كان التعيين بالشراء بنية التضحية من غني أو فقر، أو كان بالنذر، وسواء كانت حاملا به وقت التعيين أو حدث بعده، لأن الولد يأخذ حكم الأم بطريق السراية، أي يسري عليه حكم الأم كالرق والحرية وما إلى ذلك. ولهذا فهناك شبه اتفاق من العلماء رحمهم الله تعالى أنه يجب الإبقاء عليه حيا حتى يذبح مع أمه في أيام النحر، فقد قال الحنفية: يكره بيعه ويذبح معها، وإذا باعه وجب التصدق بثمنه. وفيهم من قال: يستحب التصدق به حيا، وإن ذبحه تصدق به، وإن أكل منه تصدق بقيمة ما أكله (2) .
وقال المالكية: يحرم بيع ولد الأضحية الواجبة بالنذر، ويندب ذبح ولد الأضحية مطلقا، سواء كانت منذورة أو تطوعا، وإذا ذبح سلك به مسلك الأم في الأكل والإهداء والتصدق، وإن أبقاه حيا جاز التضحية به في عام قادم، وهذا في حالة خروجه قبل الذبح. أما الذي يخرج بعده وكان حيا حياة متحققة وجب ذبحه مع أمه، لأنه استقل بنفسه، وإن خرج ميتا وقد تم خلقه
__________
(1) انظر. ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 383، 384، والمرداوي في الإنصاف، ج 4، ص 89. .
(2) انظر: الكاساني، المرجع السابق، ج 5، ص 97(62/375)
ونبت شعره فإنه يعتبر جزءا منها لا يستقل بحكم عنها (1) .
وقال الشافعية: إذا عين أضحية بالنذر أو قال: جعلت هذه الشاة أضحية أو نذر أضحية في الذمة، ثم عين شاة عما في ذمته، فولدت هذه الشاة المعينة، وجب ذبح ولدها معها في أيام النحر في هذه الصور الثلاث، ولا يلزم تفرقة لحمه على الفقراء بخلاف أمه، فإنه يلزم تفرقة لحمها، لكنه لو ماتت الأم قبل ذبحها في أيام النحر وجب تفرقة لحمه عليهم أي على الفقراء.
أما ما ولدته الأضحية في غير هذه الصور الثلاث فإنه لا يلزم ذبحه بحال، وإذا ذبحه لا يلزم تفرقة لحمه، لكنه لو تصدق أو أكل أو أهدى أو تصدق وأكل وأهدى جاز (2) .
وقال الحنابلة: إذا عين أضحية فولدت، فولدها تابع لها في الحكم، فحكمه حكمها، حيث يثبت له ما هو ثابت لها، سواء كانت حاملا به وقت التعيين أو حدث الحمل بعده، فيذبحه كما يذبحها في أيام النحر، لأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه كولد أم الولد والمدبرة، ولا يجوز تقديم ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه، ويسلك فيه مسلك الأم في التصدق والأكل والإهداء، وقد استدلوا على ذلك بما روي أن رجلا من أهل همدان باليمن جاء إلى علي رضي الله عنه يسوق بقرة ومعها
__________
(1) انظر. الخرشي على مختصر خليل، المرجع السابق، ج 3، ص 40، والموسوعة الفقهية، ج 5، ص 97
(2) انظر: محمد الشربيني الخطيب، المرجع السابق، ج 4، ص 291، 292(62/376)
ولدها، فقال: إني اشتريتها أضحي بها وإنها ولدت. قال علي رضي الله عنه: فلا تشرب من لبنها إلا فضلا عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فانحرها هي وولدها عن سبعة (1) . .
__________
(1) انظر: ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 375، 376(62/377)
المبحث الحادي عشر: في أحكام لحوم الضحايا:
المستحب في لحوم الأضاحي أن يأكل المضحي وأهل بيته الثلث، ويطعم من أراد الثلث ويتصدق بالثلث، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (1) . . والقانع: السائل، والمعتر الذي يعتريك، أي يتعرض لك، لتطعمه. وقيل: القانع الجالس في بيته، والمعتر السائل (2) . . ولقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (3) ، ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال: يطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق بالثلث (4) .
وهذا قول الحنابلة والشافعية في المذهب الجديد، وفي القديم أنه يأكل النصف، ويتصدق بالنصف الآخر، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (5) ، حيث جعلها بين اثنين،
__________
(1) سورة الحج الآية 36
(2) انظر: النووي، المرجع السابق، ج 8، ص 413، وابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 380
(3) سورة الحج الآية 28
(4) انظر: ابن قدامة، المرجع السابق، ج 13، ص 380
(5) سورة الحج الآية 28(62/377)
فدل على أنها نصفان بينهما.
وذهب المالكية إلى قول الحنابلة والشافعية في الجديد، لكنهم خالفوهم في أنه ليست هناك نسبة ثابتة للتوزيع، وإنما هي مطلقة. أي لا يشترطون أن تثلث الأضحية أثلاثا.
أما الحنفية فقالوا: يستحب التثليث، أي أن تجعل أثلاثا، ثلث يأكله المضحي وأهل بيته، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به على الفقراء، وهذا إذا كانت الأضحية تطوعا، أما إذا كانت واجبة أو منذورة أو مشتركة بين سبعة نوى أحدهم بقسمة القضاء عن أضحية فائتة، أو كانت ولد أضحية ولدته قبل الذبح بعد التعيين فإنه يحرم الأكل منها (1) .
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الأمر في لحوم الأضاحي واسع والحمد لله، فلو أكل المضحي الأضحية كاملة، ولم يتصدق على الفقراء، ولم يهد على الأصدقاء جاز، أو تصدق بها كاملة دون الأكل منها أو الإهداء جاز، أو أكل وادخر وتصدق فلا حرج عليه في ذلك، لأن الأمر في الآيتين السابقتين للإباحة أو الاستحباب، كما ذكر أهل العلم وليستا للوجوب. ويدل عليه ما رواه سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثه وفي بيته منه شيء " فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام
__________
(1) انظر: الكاساني، المرجع السابق، ج 3، ص 91(62/378)
الماضي؟ قال: " كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها (1) » . . وما روي كذلك عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قال بعد: " كلوا وتزودوا وادخروا (2) » . .
ولا يجوز بيع شيء من الأضحية، سواء كان لحما أو جلدا، وسواء كانت واجبة أو تطوعا، لكونها تعينت بالذبح، ولأنها قربة. كما لا يجوز أن يعطى الجزار أجرته منها، لأن الذبح على المضحي، ولأن إعطاءه أجرته منها عوضا عن جزارته يكون كبيعه. أما إذا أعطاه لفقره، أو أهدى إليه منه فإنه لا بأس بذلك، وبه قال الجمهور لما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه أنه أخبره «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بدنة وأن يقسم بدنة كلها، لحومها وجلودها وجلالها ولا يعطي في جزارتها شيئا (3) » . . وفي لفظ آخر قال علي رضي الله تعالى عنه: «أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فأمرني بلحومها فقسمتها، ثم أمرني
__________
(1) أخرجه البخاري، ج 6، ص 239 في كتاب (الأضاحي) باب: ما يأكل من الأضاحي، ويتزود، ومسلم ج 2، ص 1563 في كتاب (الأضاحي) باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام
(2) أخرجه مسلم، ج 2، ص 1562، في كتاب (الأضاحي) باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام
(3) أخرجه البخاري، ج 2، ص 286، في كتاب (الحج) باب: يتصدق بجلود الهدي(62/379)
بجلالها فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها (1) » . .
وذهب أبو حنيفة إلى جواز بيع ما ينتفع به كشعرها وصوفها وشحومها وأكارعها وجلدها، ولكن بغير الدراهم والدنانير، أي بالعروض، وذلك أن المعارضة هي من باب الانتفاع، وقد أجمع العلماء على جوازه، فإذا باع المضحي ما ينتفع به من الأضحية بما يمكن الانتفاع به كالجراب والمنخل جاز، لأن للبدل حكم المبدل. .
__________
(1) أخرجه البخاري، ج 2، ص 286، في كتاب (الحج) باب: يتصدق بجلال البدن(62/380)
الخاتمة:
العبادات البدنية والمالية المرتبطة بالعيد عبادات جليلة النفع عظيمة الفائدة للمسلمين في دينهم ودنياهم، فهذه صلاة العيد صلاة جامعة، يتردد حكمها بين فرض العين، والسنة المؤكدة، يخرج إليها المسلمون، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، مهللين ومكبرين، تسود بينهم أخوة إسلامية عجيبة أساسها وحدة العقيدة في الدين، زالت فيها فوارق الجنس والعرق واللون، فكلهم لآدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم.(62/380)
إن خروج المسلمين إلى مصليات العيد، لأداء الصلاة جماعات وأفرادا يشكل مظهرا إيمانيا رائعا ليس له عند غير المسلمين ند ولا نظير، حيث تمتلئ بهم سائر الفجاج والطرق، فترى في هذا المظهر العجيب عزة الإسلام وقوة تماسك المسلمين، وأنهم أمة من دون الناس، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم فيرهبهم العدو ويخشاهم الناس، ويتحقق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر (1) » ناهيك عن مصالح أخرى تتم من خلال هذا المظهر العظيم، والاجتماع الكبير من تهاني المسلمين، وتفقد أحوال بعضهم لبعض، ومواساة الغني للفقير، وتجدد أواصر القربى، وصلة الأرحام، وفوق ذلك كله أنهم يرجعون من مصلياتهم إلى بيوتهم بمغفرة من ربهم ورضوان.
وهذه زكاة الفطر التي هي فرض عين على كل مسلم ومسلمة تكون سببا لتطهير المسلم من ذنوبه، وتغني الفقير في يوم العيد، تظهر لنا صورة من صور النظام التكافلي في الإسلام، حيث تسد حاجة الفقراء، وتكفهم عن المسألة في يوم العيد، فيتفرغون مع إخوانهم المسلمين لأداء هذه العبادات العظيمة، وللاحتفال بهذه المناسبة الكبرى.
وهذه الأضحية التي يتردد كذلك حكمها بين الوجوب والاستحباب يشترك القادرون من المسلمين في إحيائها، وهي من شعائر الإسلام الكبرى، وتذبح في يوم عيد الأضحى، يتقرب بها
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .(62/381)
المضحي إلى الله تعالى، فهاهو يقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر، ويقع الدم منها عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، ويتبع فيها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيأكل الثلث منها، ويهدي الثلث إلى أصدقائه من الإخوان والجيران، ويتصدق بالثلث الباقي، فيعم الخير جميع المسلمين الموسرين منهم والمعدمين، منشرحة بها صدورهم، مغتبطة بها قلوبهم، يعلوهم البشر، الكبير منهم والصغير.
وبهذه العبادات ذات الصلة بالعيد وبغيرها من العبادات المشروعة يشعر المسلمون دوما أنهم عباد الله المخلصون، وأن صلتهم بالله تعالى دائمة، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى، وأنهم ينتمون إلى بناء واحد شامخ مرصوص، وإلى كيان الأمة الواحدة والجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وفي نهاية خاتمة هذا البحث المتواضع. يسأل الباحث الله العلي العظيم الحليم أن يجعله نافعا في بابه، وأن تكون فيه إضافة جديدة للمكتبة الإسلامية، وأن يوفق المسلمين للعمل بأحكام شريعتهم، وألا يعبدوه إلا بما شرع، وأن يعيد للإسلام عزته وسابق مجده، كما يسأله أن يغفر له ما وقع فيه من خطأ أو نسيان، وألا يحرمه أجر المجتهد، إنه سميع مجيب. وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(62/382)
حديث شريف
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا هو الكوثر الذي أعطاك ربك. فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر، شك هدبة (1) » .
رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6581)
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6581) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3360) ، مسند أحمد بن حنبل (3/191) .(62/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1)
(سورة آل عمران، آية 164)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(63/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(63/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(63/3)
المحتويات
الافتتاحية
كتاب الله ومكانته العظيمة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) 39
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 53
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 79
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 95(63/4)
البحوث
زيارة القبور وأحكامها للشيخ / يوسف بن صالح البرقاوي 129
اعتقاد قتيبة بن سعيد البلخي للدكتور / صالح بن محمد بن علي العقيل 183
آراء الإمام ابن ماجه الأصولية للدكتور / سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري 211
حكم الجناية على الجنين (الإجهاض) للدكتور / عبد الله بن عبد العزيز العجلان 241
بحث في صنيع الظهار للدكتور / خالد بن علي المشيقح 321(63/5)
صفحة فارغة(63/6)
كتاب الله ومكانته العظيمة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث بالهدى والرحمة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله سبحانه قد من على خلقه وخاصة المؤمن منهم بأن بعث فيهم رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأنزل معه أفضل كتبه وخاتمها والمهيمن عليها يقول الله -عز وجل-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) .
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(63/7)
خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان (1) » . . . الحديث. هذا الكتاب هو المهيمن على الكتب السابقة كلها، يقول الله. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (2) ، والمعنى أنه عال ومرتفع على ما تقدمه من الكتب، هو أمين عليها وحاكم وشاهد وقيم عليها، يقول ابن جرير رحمه الله: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله فما وافقه منها فهو حق وما خالفه منها فهو باطل. اهـ.
وكتاب الله له المكانة العظيمة في قلب كل مسلم، وهو أيضا عظيم في نفسه كريم مجيد عزيز، ونحن في فاتحة هذا العدد المبارك من مجلة البحوث الإسلامية، نحب أن نعرض لهذا الموضوع بإشارات وتنبيهات لعل الله أن ينفعنا بها وينفع بها إخواننا من قراء المجلة أو من بلغه هذا الكلام إنه سميع مجيب. فأقول مستعينا بالله: القرآن مصدر قرأ قرآنا ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (3) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (4) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (5) ، والكلام المقروء
__________
(1) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة القيامة الآية 17
(4) سورة القيامة الآية 18
(5) سورة القيامة الآية 19(63/8)
نفسه يسمى قرآنا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1) ، والقرآن كلام الله حقيقة، لفظه ومعناه من الله، أنزله على عبده محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وحيا، فهو منزل غير مخلوق، يقول الله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2) ، ويقول سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (3) ، ويقول: {حم} (4) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (5) ، ويقول. {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (6) ، ويقول: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (7) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة وعلى هذا أجمع سلف الأمة رحمهم الله جميعا.
وقد سمى الله هذا الكتاب بأسماء كثيرة في كتابه، ووصفه كذلك بصفات كثيرة، وإنما يدل هذا على شرف هذا الكتاب وعظمته، فهو القرآن والفرقان والكتاب والهدى والنور والشفاء والبيان والموعظة والرحمة والبصائر والبلاغ وهو العربي والمبين والكريم والعظيم والمجيد والمبارك والتنزيل والصراط المستقيم والذكر الحكيم وهو حبل الله وهو الذكرى والتذكرة والبشرى وهو المصدق لما بين يديه من الكتاب وهو المهيمن عليها وهو المثاني
__________
(1) سورة النحل الآية 98
(2) سورة الزمر الآية 1
(3) سورة النحل الآية 102
(4) سورة غافر الآية 1
(5) سورة غافر الآية 2
(6) سورة فصلت الآية 2
(7) سورة الإسراء الآية 106(63/9)
وفيه تفصيل كل شيء وتبيان كل شيء وهو الذي لا ريب فيه ولا عوج فيه، يقول الله: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1) ، ويقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (2) ، ويقول سبحانه: {الم} (3) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (4) ، ويقول سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (5) ، ويقول سبحانه: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (6) ، ويقول -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (7) ، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (8) ، ويقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) ، ويقول جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (10) {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (11) ، ويقول عز من قائل
__________
(1) سورة الزمر الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 97
(6) سورة آل عمران الآية 58
(7) سورة النساء الآية 174
(8) سورة يونس الآية 57
(9) سورة الإسراء الآية 9
(10) سورة الكهف الآية 1
(11) سورة الكهف الآية 2(63/10)
سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (1) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (2) ، ويقول وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (3) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (4) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (5) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) ، وغير ذلك من، الآيات كثير، فيها أسماء هذا الكتاب العظيم وصفاته، مما ينبيك على عظيم قدره، وجليل شرفه، كيف والمتكلم به هو رب الأرباب - سبحانه- عالم الغيب والشهادة القائل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (7) .
ومما ينبغي أن يعلم أن كل اسم أو صفة لهذا الكتاب العزيز فهو دال على معنى اختص به، ولولا خشية الإطالة لنبهنا على جملة تكون معينة على فهم ما بقي.
هذا وإن مما اختص به هذا الكتاب الكريم أن الله سبحانه تكفل بحفظه ولم يكل حفظه إلى أحد من خلقه، يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (8) ، ويقول سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (9) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (10) . يقول ابن القيم رحمه الله: " فوصفه سبحانه بأنه محفوظ في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (11) ووصف محله بالحفظ في هذه السورة - أي البروج- فالله سبحانه حفظ محله،
__________
(1) سورة البروج الآية 21
(2) سورة البروج الآية 22
(3) سورة الواقعة الآية 77
(4) سورة الواقعة الآية 78
(5) سورة الواقعة الآية 79
(6) سورة الواقعة الآية 80
(7) سورة لقمان الآية 27
(8) سورة الحجر الآية 9
(9) سورة البروج الآية 21
(10) سورة البروج الآية 22
(11) سورة الحجر الآية 9(63/11)
وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل، وحفظ معانيه من التحريف كما حفظ ألفاظه من التبديل وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة والنقصان ومعانيه من التحريف والتغيير " اهـ (1) .
كتاب الله الكريم هو المنجي من الفتن وهو أنيس المؤمن ونور قلبه وربيع صدره وجلاء همه وغمه، كتاب الله فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، لا تنقضي عجائبه ولا تفنى عبره، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (2) .
من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، هو الآية الكبرى والمعجزة العظمى التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (3) » أخرجاه في الصحيحين.
معجز في لفظه وبيانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4)
__________
(1) التبيان 1 \ 62
(2) سورة الجن الآية 1
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (4981) ، صحيح مسلم الإيمان (152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/451) .
(4) سورة البقرة الآية 23(63/12)
معجز في تيسير تلاوته وقرآنه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) ، معجز فيما حواه من قصص الماضين لنعتبر: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (2) ، ويقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) ، معجز فيما حواه من عقائد وشرائع الدين، لنمتثل: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (4) ، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5) ، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) ، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (7) .
معجز بما حواه من أخبار الغيب؛ لنؤمن ونسلم: {الم} (8) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (9) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (10)
__________
(1) سورة القمر الآية 17
(2) سورة يوسف الآية 3
(3) سورة يوسف الآية 111
(4) سورة إبراهيم الآية 1
(5) سورة النحل الآية 89
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الأنعام الآية 155
(8) سورة البقرة الآية 1
(9) سورة البقرة الآية 2
(10) سورة البقرة الآية 3(63/13)
آية ظاهرة وحجة باهرة من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يأذن الله برفعه، تحدى الله به أفصح الناس فلم يستطيعوا، بل تحدى به الجن والإنس مجتمعين فأعياهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) ، امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (2) ، يهدي إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) . هذا وإن لتلاوة هذا الكتاب أجرا عظيما وفضلا كبيرا، يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (4) {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (5) . وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار (6) » رواه البخاري ومسلم، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 88
(2) سورة الحجر الآية 87
(3) سورة الإسراء الآية 9
(4) سورة فاطر الآية 29
(5) سورة فاطر الآية 30
(6) صحيح البخاري التوحيد (7529) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (815) ، سنن الترمذي البر والصلة (1936) ، سنن ابن ماجه الزهد (4209) ، مسند أحمد بن حنبل (2/9) .(63/14)
والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف (1) » .
وصاحب القرآن هو المقدم في الدنيا والآخرة، وهم أهل الإكرام والإجلال، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين (2) » أخرجه مسلم.
وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (3) » . . . الحديث. أخرجه مسلم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما. كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط (4) » أخرجه أبو داود، وحسنه النووي. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر (5) » متفق عليه.
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (817) ، سنن ابن ماجه المقدمة (218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/35) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3365) .
(3) أي إسلاما
(4) سنن أبو داود الأدب (4843) .
(5) صحيح البخاري فضائل القرآن (5059) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (797) ، سنن الترمذي كتاب الأمثال (2865) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5038) ، سنن أبو داود كتاب الأدب (4829) ، سنن ابن ماجه المقدمة (214) ، مسند أحمد بن حنبل (4/408) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3363) .(63/15)
هذا في الدنيا أما في الآخرة فثوابه أعظم إن عمل به، وأجره أكبر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران (1) » متفق عليه.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (2) » أخرجه مسلم.
وصاحب القرآن هو المقدم في أول منازل الآخرة. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: "أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما، قدمه في اللحد (3) » أخرجه البخاري.
ولا يزال صاحب القرآن يترقى في منازل الجنة على قدر ما معه من القرآن، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها (4) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ولا شك أن العناية بحفظ القرآن من أجل ما تنصرف إليه الهمم؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، وقد كان وصف هذه الأمة في الكتب السابقة بأن أناجيلهم في صدورهم. وهكذا فإن الله
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/192) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/255) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4080) ، سنن الترمذي الجنائز (1036) ، سنن النسائي الجنائز (1955) ، سنن أبو داود الجنائز (3138) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1514) .
(4) سنن الترمذي فضائل القرآن (2914) ، سنن أبو داود الصلاة (1464) .(63/16)
سبحانه قد أخبر في كتابه أن هذا الكتاب محفوظ في صدور الرجال، يقول الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (2) ، فأخبر سبحانه أنه في صدور العلماء محفوظ، وهذا يصدق الحديث القدسي الذي فيه: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت معك كتابا لا يغسله الماء (3) » . . . أخرجه مسلم والمعنى أن الماء لا يمحوه إذ هو محفوظ في الصدور.
وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يحفظ شيئا من القرآن بالبيت الخرب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب (4) » أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقد تقدمت معنا الأحاديث الدالة على إكرام حامل القرآن وعظيم منزلته.
وحفظ القرآن مشروع للمسلم، والقدر الواجب عليه منه هو ما يحتاج إليه في تصحيح عبادته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. " وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة فلا يجب على كل أحد، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف من السنة ما يحتاج إليه " (5) اهـ.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48
(2) سورة العنكبوت الآية 49
(3) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(4) سنن الترمذي فضائل القرآن (2913) ، مسند أحمد بن حنبل (1/223) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3306) .
(5) الفتاوى (15 \ 391)(63/17)
وإن مما ينبغي العناية به لمن أراد تلاوة القرآن وحفظه أمور:
أولها: وجوب الإخلاص لله في العمل الذي يقدم عليه وألا يكون مراده به حظا من الدنيا قريب حقير فإن الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، ويقول سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (3) ، ويقول جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (4) . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم
__________
(1) سورة هود الآية 15
(2) سورة هود الآية 16
(3) سورة الشورى الآية 20
(4) سورة الإسراء الآية 18(63/18)
أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (1) » . . . الحديث. عياذا بالله من حالة السوء.
ثانيا: ينبغي لمن أراد حفظ القرآن أن يكرره ويتعاهده حتى يتمكن من حفظه، والله تعالى إن علم من عبده الصدق يسر له طريق الحفظ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) .
ثالثا: من كان معه شيء من القرآن قد حفظه فليتعاهده بالتكرار والمراجعة حتى لا يضيع منه وليستعن على ذلك بالصلاة فإن من قام بحزبه من القرآن لم ينسه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت (3) » متفق عليه. وزاد مسلم في رواية: «وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه (4) » .
رابعا: مما يعين على حفظ القرآن مدارسته، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن في كل سنة مرة، إلا عام قبض فقد عارضه القرآن مرتين، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فضل مدارسة القرآن: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (5) » .
خامسا: ينبغي للمسلم ألا يغفل عن كتاب الله وليجعل له
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1905) ، سنن الترمذي الزهد (2382) ، سنن النسائي الجهاد (3137) ، مسند أحمد بن حنبل (2/322) .
(2) سورة القمر الآية 40
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5031) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (789) ، سنن النسائي الافتتاح (942) ، سنن ابن ماجه الأدب (3783) ، مسند أحمد بن حنبل (2/36) ، موطأ مالك النداء للصلاة (473) .
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (789) .
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(63/19)
فيه ختمة، وقد كان السلف لهم عادات في ختم كتاب الله فمنهم من كان يختمه كل شهرين مرة، ومنهم من كان يختم كل شهر مرة، ومنهم من كان يختم كل عشر ليال، ومنهم من كان يختم في كل ثمان ليال، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، ومنهم من يختم في أقل من ذلك.
والأفضل أن يختم المسلم كل سبع؛ لفعل جمع من الصحابة حيث كانوا يحزبون القرآن إلى سبعة أحزاب، فعن أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده" رواه أبو داود. وحزب المفصل من سورة " ق " إلى آخر القرآن العظيم.
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «اقرأ القرآن في شهر. قلت: إني أجد قوة (1) » . . . حتى قال: «فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك (2) » أخرجه البخاري.
وأما من قرأه في أقل من ذلك فالغالب أنه يهذه هذا ولا يفهم معاني ما يقرأ وهذا لا ينبغي من المسلم والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث (3) » أخرجه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5054) ، صحيح مسلم الصيام (1159) ، سنن الترمذي الصوم (770) ، سنن النسائي الصيام (2393) ، سنن أبو داود الصوم (2427) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1346) ، مسند أحمد بن حنبل (2/158) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3486) .
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5054) ، صحيح مسلم الصيام (1159) .
(3) صحيح مسلم الصيام (1159) ، سنن الترمذي القراءات (2946) ، سنن أبو داود الصلاة (1394) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1347) ، سنن الدارمي الصلاة (1493) .(63/20)
فالسنة ألا يختم في أقل من ثلاث.
والناس يختلفون في هذا فمنهم من هو كثير العلم دقيق الفهم سريع القراءة قليل الشغل فهذا يقرأ من القرآن أكثر ممن هو دونه في ذلك وهكذا قس.
وقد استحب جمع من السلف أن تكون الختمة إما أول الليل أو أول النهار؛ لأجل أن الملائكة تصلي على من ختم بالليل حتى يصبح ومن ختم بالنهار حتى يمسي روي ذلك موقوفا على سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وحسنه الدارمي عنه.
سادسها: يجب على المسلم أن يسعى في تعلم ما يقرأ حتى يكون على بينة وفهم لما يتلوه، فيحصل له التدبر والخشوع إذ ليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة، كلا، فإن من هذه حاله كان شبيها بحال أهل الكتاب الذين قال الله عنهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (1) يعني يقرءون الكتاب ولا يعلمون ما فيه.
وقد أمر الله بتدبر كتابه وفهمه في غير موضع من كتابه، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) ، ويقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) . وقد أنكر الله على من لم يتدبر كتابه فقال
__________
(1) سورة البقرة الآية 78
(2) سورة يوسف الآية 2
(3) سورة ص الآية 29(63/21)
سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1) ، وقال أيضا: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (2) . والنبي صلى الله غليه وسلم قد بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، يقول الله -عز وجل-: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) وهكذا التابعون أخذوا عن الصحابة فهذا مجاهد رحمه الله يقول: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال الثوري رحمه الله: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. والمقصود أن معاني كلام الله موجودة معلومة، وكثير منها مدون متداول ولله الحمد، وأعظم ما فسر به القرآن هو أن يفسر بالقرآن، فإنه من المعلوم أن هذا القرآن مثاني ومتشابه، يقول الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (4) ، والمعنى أن بعضه يشبه بعضا ويفسر بعضه بعضا، وأن القصص تثنى فيه فيكون في هذا الموضع ما يفسر الموضع الآخر وهكذا. وهذا ولله الحمد واضح فإنه ما فسر كلام الله بأوضح وأدل على المراد من كلام الله؛ إذ هو سبحانه المتكلم به وهو الأعلم بمراده. وهذا النوع من التفسير اعتنى به السلف كثيرا وهناك أمثلة كثيرة لذلك يطول عدها.
ثم بعد كلام الله يأتي تفسير القرآن بالسنة؛ إذ لا أعلم بمراد
__________
(1) سورة محمد الآية 24
(2) سورة المؤمنون الآية 68
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة الزمر الآية 23(63/22)
الله بعد الله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه القرآن وأمر ببيانه للناس.
ثم يأتي أقوال الصحابة؛ إذ هم من عاصر التنزيل وأخذ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم أئمة التابعين.
ومن ثم يؤخذ من أقوال المفسرين أقربها إلى ما في الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة، فإن كان وإلا فأقربها إلى مقتضى اللغة العربية؛ إذ هي لغة القرآن.
ومن المفسرين من يسلك مسلك الاجتهاد والاستنباط فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر اجتهاده إذا كان عن علم.
وينبغي التنبيه هنا أن المسلم يحذر من أن يقول في كلام الله بغير علم، فلا يقل هذه، الآية تفسيرها كذا، وهو لا يعلم تفسيرها، فإن هذا إثم عظيم وقول على الله بلا علم، وقد حرمه الله في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) . ثم إن تعلم هذا القرآن وتعليمه فرض كفاية على الأمة؛ إبقاء لعلم الكتاب فيها، ومن انتصب لهذا الأمر فهو خير هذه الأمة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » أخرجه البخاري عن عثمان -رضي الله عنه-، وفي رواية «خيركم أو أفضلكم (3) » . . . الحديث.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2908) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(63/23)
سابعها: يجب على من علم القرآن أن يعمل به؛ إذ هذا هو ثمرة العلم وهو المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل وإلا فعلم بلا عمل لا ينفع صاحبه بل يضره. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وقد قص الله علينا خبر الذي علم شيئا من آيات الله ولم يعمل بها، ومثل له بأقبح مثال وأشنعه؛ تنفيرا من فعله وبيانا لقبحه، يقول سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) . وقال سبحانه عن اليهود: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) . وأثنى على طائفة من أهل الكتاب؛ لأنها عملت بكتابها، يقول الله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (4) ، أي يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه كما قال ابن عباس رضي الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 175
(2) سورة الأعراف الآية 176
(3) سورة الجمعة الآية 5
(4) سورة البقرة الآية 121(63/24)
عنهما: "ومن لم يعمل بالقرآن من هذه الأمة فإن القرآن قد يكون حجة عليه". وقد أخبرنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن عبادة أقوام وكثرة صلاتهم وصيامهم وتلاوتهم ومع ذلك آلوا إلى أسوأ حال. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق (1) » أخرجه البخاري.
وكان دأب السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم الحرص على العمل بما علموا من القرآن أكثر من الحرص على حفظه بغير عمل به، يقول أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن- كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، يقول أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا، وجاء عند مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5058) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي الزكاة (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/60) .(63/25)
وهكذا فإنا نرى أولئك القوم الأفاضل همتهم منصرفة لتدبرمعاني الكتاب والعمل به دون مجرد حفظ ألفاظه.
ثامنها: أن يحذر المسلم من هجران القرآن، يقول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1) . وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنواعا لهجر القرآن منها.
هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (2) وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله (3) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 30
(2) سورة الفرقان الآية 30
(3) الفوائد ص82(63/26)
هذا ويشرع لقارئ القرآن آداب وأمور يمتثلها وهي:
أولا: أن يكون حال قراءته كتاب الله على أكمل حال، متطهرا متنظفا احتراما لهذا الكتاب العزيز، والتطهر حال القراءة مستحب، ولا بأس بقراءة القرآن للمحدث؛ لأن النبي صلى الله(63/26)
عليه وسلم قام مرة من نومه فغسل وجهه وتلا عشر آيات من آخر آل عمران ولم يتوضأ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في قوم وهم يقرءون القرآن فذهب لحاجته، ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا؟ أمسيلمة؟! أخرجه مالك في موطئه، قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهرا في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنبا، وعلى هذا جماعة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا من شذ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم، وحسبك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح. اهـ (1) .
وقد نقل الإجماع على جواز قراءة المحدث للقرآن النووي وابن تيمية رحمهما الله.
أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن حتى يغتسل؛ لحديث علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عن القرآن شيء إلا الجنابة (2) » . وأحاديث هذا الباب يشد بعضها بعضا، وبهذا قال أكثر الفقهاء حتى إن ابن عبد البر رحمه الله قال: " وقد شذ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب " اهـ.
أما الحائض فالصحيح أنه يجوز لها قراءة القرآن حال حيضها؛ لأنه لم يثبت في منعها من قراءته حال حيضها حديث،
__________
(1) الاستذكار 8 \ 14
(2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/124) .(63/27)
وأما قياسها على الجنب فلا يصح؛ لأن حدث الحائض يطول في الغالب ويخشى من نسيانها القرآن، أما حدث الجنب فلا يطول ومتى شاء رفعه بالاغتسال.
أما مس المصحف فالصحيح أنه لا يمسه إلا طاهر من الحدثين الأكبر والأصغر؛ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) ، ولأن في كتاب عمرو بن حزم: "وأن لا يمس القرآن إلا طاهر" قال ابن عبد البر رحمه الله: "وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل" ثم قال: "وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر " (2) اهـ.
الثاني: إذا أراد الشروع في القراءة استحب له أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3) ، وصفتها أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان بعض السلف يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وكلاهما صحيح.
الثالث: ينبغي للقارئ أن يبسمل في بداية كل سورة ما عدا براءة؛ لأن الصحيح أن البسملة آية من القرآن جيء بها
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) الاستذكار 8 \ 10
(3) سورة النحل الآية 98(63/28)
للفصل بين السور، وقد أثبتها الصحابة رضي الله عنهم في المصاحف في أوائل السور ما عدا براءة.
الرابع: ينبغي لقارئ القرآن أن يترسل في قراءته ويرتلها ويتدبره وألا يهذها هذا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (1) .
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (2) ، قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرق منه فأنزل الله، الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة: (7) » ، قال: إن علينا أن نبينه بلسانك، قال: وكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله.
وفي البخاري أيضا «أن رجلا قال لابن مسعود: قرأت المفصل البارحة، فقال: هذا كهذ الشعر، إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم (8) » . وجاء في بعض الروايات أن الرجل قرأ المفصل في ركعة. وفي رواية لأبي
__________
(1) سورة الإسراء الآية 106
(2) سورة القيامة الآية 16
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4929) ، صحيح مسلم الصلاة (448) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3329) ، سنن النسائي الافتتاح (935) ، مسند أحمد بن حنبل (1/343) .
(4) سورة القيامة الآية 16 (3) {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
(5) سورة القيامة الآية 17 (4) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
(6) سورة القيامة الآية 18 (5) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}
(7) سورة القيامة الآية 19 (6) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
(8) صحيح البخاري فضائل القرآن (5043) .(63/29)
داود سرد فيها السور النظائر فقال: «كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والذاريات والطور في ركعة، والواقعة ونون في ركعة، وسأل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة (1) » . والسنة في قراءة القرآن أن يمدها مدا، ففي الصحيح أن أنسا رضي الله عنه «سئل عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان يمد مدا (2) » . وفي لفظ ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم.
الخامس: يستحب لقارئ القرآن أن يحسن صوته بكتاب الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أن يتغنى بالقرآن (3) » . أخرجه البخاري. وفي حديث أبي هريرة في الصحيح أيضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن (4) » . وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «"يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود (5) » وذلك لما سمع حسن صوته بالقراءة.
السادس: يستحب البكاء عند قراءة القرآن، يقول الله مثنيا على من هذه صفته: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (6) ،
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1396) .
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5045) ، سنن النسائي الافتتاح (1014) ، سنن أبو داود الصلاة (1465) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1353) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5024) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (792) ، سنن النسائي الافتتاح (1017) ، سنن أبو داود الصلاة (1473) ، مسند أحمد بن حنبل (2/285) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3497) .
(4) صحيح البخاري التوحيد (7527) .
(5) صحيح البخاري فضائل القرآن (5048) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (793) ، سنن الترمذي المناقب (3855) .
(6) سورة الإسراء الآية 109(63/30)
وقال في صفة أنبيائه عليهم السلام: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1) .
وفي الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لابن مسعود رضي الله عنه: «اقرأ علي. قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت النساء حتى بلغت. . قال لي. كف، أو أمسك. فرأيت عينيه تذرفان (3) » وأخرج الإمام أحمد وغيره عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء (4) » .
وفي البخاري أن عائشة قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين كان في مرضه وأمر أن يخلفه أبو بكر في الصلاة بالناس: «إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس (5) » وفي لفظ: «لم يسمع الناس من البكاء (6) » . وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف. وعن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع.
ولهذا قال النووي رحمه الله في البكاء حال القراءة: " وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين" اهـ.
__________
(1) سورة مريم الآية 58
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5055) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3024) ، سنن أبو داود العلم (3668) ، سنن ابن ماجه الزهد (4194) ، مسند أحمد بن حنبل (1/380) .
(3) سورة النساء الآية 41 (2) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(4) سنن النسائي السهو (1214) ، سنن أبو داود الصلاة (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/25) .
(5) صحيح البخاري الأذان (678) ، صحيح مسلم الصلاة (420) ، مسند أحمد بن حنبل (4/413) .
(6) صحيح البخاري الأذان (679) ، سنن الترمذي المناقب (3672) ، موطأ مالك النداء للصلاة (414) .(63/31)
وينبغي أن يعلم أن البكاء والتباكي المحمود ما كان ناشئا عن تدبر لكتاب الله أورث في القلب الخشية والحزن وهذا يدل على كمال في إيمان العبد، يقول الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) .
وليحذر المسلم أن يتصنع البكاء رياء وسمعة أو لحاجة في نفسه فإن هذا من أعظم الخطر ومداخل الشيطان على العبد. السابع. يستحب لقارئ القرآن في غير الفريضة إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله من فضله وإن مر بآية عذاب استعاذ بالله من عذابه، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، ثم افتتح النساء فقرأها، فقلت: يركع بهما، ثم افتتح آل عمران فقرأ، يقرأ مترسلا؛ إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ (2) » أخرجه مسلم.
الثامن: ينبغي للمسلم أن يتعاهد حفظه، فإن نسي شيئا منه فلا يقل. إني نسيت، ولكن ليقل. إني أنسيت أو نسيت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت بل نسي (3) » أخرجه البخاري.
وإنما نهي عن قوله: "نسيت" لأنه مشعر بالتساهل
__________
(1) سورة الزمر الآية 23
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (772) ، سنن النسائي التطبيق (1133) ، مسند أحمد بن حنبل (5/398) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5032) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (790) ، سنن الترمذي القراءات (2942) ، سنن النسائي الافتتاح (943) ، مسند أحمد بن حنبل (1/417) ، سنن الدارمي الرقاق (2745) .(63/32)
والتهاون في أمر القرآن، والأصل أن المسلم حريص كل الحرص على كتاب ربه.
التاسع: لا بأس بقراءة القرآن في أحوال الإنسان ماشيا أو راكبا أو مضطجعا، فعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع (1) » أخرجه البخاري.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن (2) » .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها تقرأ حزبها وهي مضطجعة على السرير.
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "إني أقرأ القرآن في صلاتي وأقرأ على فراشي".
العاشر: الواجب على المسلمين الائتلاف على القرآن حال قراءته والحذر من المنازعة والافتراق، ففي البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه (3) » وهذا لئلا يقع النزاع والخلاف ومن ثم الافتراق.
الحادي عشر: مما يتأكد العناية به سجود التلاوة، والجمهور على استحبابه؛ لورود الأمر به، وقالوا: مستحب؛
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5047) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (794) ، سنن أبو داود الصلاة (1467) .
(2) صحيح البخاري الحيض (297) ، صحيح مسلم الحيض (301) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (381) ، سنن أبو داود الطهارة (260) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (634) ، مسند أحمد بن حنبل (6/204) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5060) ، صحيح مسلم العلم (2667) ، مسند أحمد بن حنبل (4/313) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3361) .(63/33)
لأن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر. أخرجه البخاري. ويشرع هذا السجود للقارئ والمستمع.(63/34)
ثم إن المشروع أن يكون حامل القرآن على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه؛ إجلالا لكتاب الله، وأن يكون مصونا عن دنيء المكاسب مترفعا عن سفاسف الأمور، متواضعا لعباد الله، وبالجملة يكون خلقه القرآن كما كان هذا هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها.
ومن الكلام الجامع الذي ينبغي أن يمتثله حامل كتاب الله ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
ينبغي لحامل القرآن أن يتعاهد قلبه ولسانه وجوارحه؛ فلا يعتقد إلا الحق بدليله ولا ينطق إلا بصدق وخير ولا يعمل إلا خيرا، وليحرص كل الحرص على دفع الباطل عن نفسه من اعتقاد أو قول أو عمل، وأن يكف شره وأذاه عن الناس.(63/34)
ثم ليعلم كل مسلم أن قراءة القرآن تارة تكون واجبة، كالقراءة في الصلاة فإنها واجبة بالإجماع، وإنما اختلف العلماء في هل الواجب الفاتحة بعينها أو يكفي غيرها من القرآن ويجزئ؟ والصحيح الأول. وتارة تكون مستحبة وهي ما زاد على القدر الواجب في الصلاة، وكذلك تلاوة القرآن في سائر الأوقات. وتارة تكون مكروهة كإذا كانت جهرية تشوش على التالين أو المصلين أو تزعج النائمين.
وتارة تكون محرمة كمن يقصد بها الرياء والسمعة، أو يفعلها في مواطن البدع؛ لأن في ذلك إعانة على الباطل، ومن العلماء من حرم تمطيط القراءة بحيث يخل باللفظ، وكذلك الألحان المطربة كألحان الغناء؛ صيانة لكتاب الله وتنزيها له.
هذا وإن من البدع ما يحصل في المآتم التي يقرأ فيها القرآن عند العزاء واجتماع الناس، وكذلك الاستئجار على قراءة القرآن وإهدائه للأموات ونحو ذلك مما فشى في الناس؛ لقلة العلم وغلبة الجهل، وقلة من ينكر ويبين للناس دينهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومما يجب التنبيه عليه أن يعلم جميع المسلمين أفرادا وحكاما أن كتاب الله إنما أنزل ليعمل به ويحكم ويتحاكم إليه، فهو مصدرنا في التشريع وإليه مرجعنا في الحكم والعمل.
هذا ما يسر الله رقمه في هذه المقدمة، وما هذه إلا كلمات يسيرة، وإلا فحق كتاب الله أعظم، وقدره أجل من أن تحيط به(63/35)
الكلمات، أو تؤدي حقه العبارات، وإنما هي تنبيهات أردت بها النفع لي ولإخواني المسلمين، وأسأل الله العلي القدير بمنه وكرمه أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا التأويل، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم اجعلنا ممن عمل بمحكمه وآمن بمتشابهه، اللهم اجعله حجة لنا لا علينا واجعله شاهدا لنا ودليلنا وسائقنا إلى جناتك جنات النعيم، اللهم ارفع لنا به الدرجات وحط عنا به الخطايا والسيئات وشفعه فينا يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.(63/36)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(63/37)
صفحة فارغة(63/38)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية رحمه الله
المسح على الشراب من القطن والصوف والحرير الصناعي
حضرة صاحب السماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته: نستفتي من سماحتكم هل تجوز الصلاة بالمسح على الشراب كالقطن والصوف والحرير الصناعي الموجود الآن بالأسواق؟ فأرجو الإفادة من فضيلتكم لنا صورة كتابيا وكما في الجريدة السعودية ولكم جزيل الفضل من الله والسلام.
ج: الحمد لله. إذا كان صفيقا لا يصف البشرة يثبت بنفسه، ساترا للمفروض جاز المسح عليه. وأما الحرير الصناعي فإن كان حريرا حقيقة فلا يجوز استعماله للرجال بحال، ولا يصح المسح عليه، وإن كان يشبه الحرير وليس بحرير حقيقة فيجوز(63/39)
المسح عليه، كما يجوز المسح على القطن والوبر ونحوهما. والله أعلم.
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم خ. ن. ع. المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن الشراب والجراميق هل يجوز المسح عليهما كما يجوز المسح على الخفين أم لا؟
والجواب. نعم. يجوز المسح على الشراب ونحوها سواء كانت من صوف أو من وبر أو من شعر أو من قطن أو غيرها -وتسمى الجوربين- إذا كانت صفيقة ساترة لمحل الفرض واستكملت الشروط المطلوبة؛ لحديث المغيرة بن شعبة «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على الجوربين والنعلين (1) » وأما الجرموق فهو خف قصير ويسمى الموق وفيه حديث بلال رضي الله عنه: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسح على الموقين والخمار (2) » رواه أحمد. والمراد بالخمار هنا العمامة لأنها تخمر الرأس. والله أعلم.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (99) ، سنن أبو داود الطهارة (159) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (559) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/15) .(63/40)
إذا كانت (الكنادر) لا تغطي الكعبين
جاز المسح عليهما مع الشراب
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم ع. ع. و. وفقه الله(63/40)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فتسأل عن (الكنادر) إذا كانت لا (تضفي) على الكعبين هل يمسح عليهما أم على الشراب؟
والجواب: الحمد لله. يجوز المسح على (الكنادر) والشراب معا ولو كانت (الكنادر) غير ساترة إذا كان تحتها الشراب ساتر لمحل الفرض، لكن بشرط أن يلبسهما معا، أو يلبس الفوقاني قبل أن يحدث. قال في الإقناع وشرحه: فإن كان أحد الخفين صحيحا جاز المسح على الفوقاني لأنهما كخف واحد، وكذا إن لبس على صحيح مخرقا. نص عليه. قاله في المبدع. ولا يجوز المسح على التحتاني إلا أن يكون هو الصحيح، بخلاف ما إذا كان الفوقاني هو الصحيح. فلا يصح المسح إذا على التحتاني لأنه غير ساتر بنفسه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(63/41)
إذا كان الشراب رقيقا أو مشقوقا أو قاصرا عن ستر المفروض لم يمسح عليه وصفة نعلي النبي صلى الله عليه وسلم
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم م. ح. ق. وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(63/41)
فقد وصل إلي كتابك المتضمن السؤال عن المسألتين الآتيتين:
الأولى: هل يجزئ المسح على (الكنادر) التي ليست بساترة للمفروض مع الشراب الساتر إذا كان لا يخلع (الكنادر) في أثناء مدة اللبس أو كان الشراب المذكور مشقق العقب أم لا؟
الثانية: ما صفة نعلي النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يمسح عليهما مع الجوربين وهل سيورها عراض؟
والجواب: الحمد لله. يصح المسح على (الكنادر) غير الساترة للمفروض إذا كان تحتها شراب صفيق ساتر للمفروض، بشرط أن يلبسهما جميعا، أو يلبس (الكنادر) قبل أن يحدث، وبشرط أن لا يخلعهما إلا جميعا، لمسح النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجوربين والنعلين. كما أن له أن يقتصر على مسح الشراب وحده وحينئذ لا حاجة إلى اشتراط لبسهما جميعا ونحوه وخلعهما جميعا.
أما إذا كان الشراب رقيقا حيث يصف البشرة أو مشقوقا أو قاصرا عن ستر المفروض فإنه لا يمسح عليه ولا على ما فوقه من (الكنادر) التي لا تستر المفروض. هذا معنى ما في كتب الأصحاب. ولا يخفى اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه- جواز المسح على الخف المخروق ونحوه.
وأما صفة نعلي النبي صلى الله عليه وسلم. فروى الترمذي في الشمائل عن قتادة قال: «قلت لأنس بن مالك: كيف كان نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لهما قبالان (1) » وعن
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1772) ، سنن النسائي الزينة (5367) ، سنن أبو داود اللباس (4134) .(63/42)
أبي هريرة قال: «كان لنعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبالان» والقبال بوزن زمام هو زمام النعل وسيرها. فالقبالان: هما زمامان لأصابع القدم بين الإبهام والتي تليها، وبين الوسطى والتي تليها، وعن ابن عباس قال: «كان لنعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبالان مثني شراكهما» والشراك هو السير الرقيق الذي يكون في النعل على ظهر القدم، وحدث عيسى بن طهمان قال: " أخرج إلينا أنس بن مالك نعلين جرداوين لهما قبالان. قال: فحدثني ثابت بعد عن أنس أنهما كانتا نعلي النبي -صلى الله عليه وسلم- " والنعل الجرداء هي التي لا شعر عليها. وعن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر: رأيتك تلبس النعال السبتية. قال: «إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها (1) » . والنعال السبتية: هي المدبوغة نسبة إلى السبت وهو القطع وما في معناه من حلق الشعر أو إزالته بالدبغ.
وعن عمرو بن حريث أنه قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في النعلين مخصوفتين» والنعل المخصوفة: هي المخروزة من الخصف وهو الخرز وضم شيء إلى شيء. فالنعل المخصوفة: هي التي وضع فيها طاق على طاق.
وأما سؤالك هل سيورها عراض أم لا؟ فإنه لا يظهر من الأحاديث التي قدمناها في صفة نعلي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها كانت عراضا. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآل وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5851) ، صحيح مسلم الحج (1187) ، سنن أبو داود المناسك (1772) .(63/43)
س: المسح على (الباغة) والزجاج.
ج: ظاهر العبارة: "ساتر للمفروض "أنه لا يمسح على الباغة أو الزجاج لأجل أنه يصف البشرة. والظاهر الصحة على الصفيق كالباغة، ليس المطلوب تغطية اللون بل الجرم. والذي ذكره الأصحاب رقيق لقلة صفاقته، أما الذي ليس لأجل صفاقته بل لرقته -موجود خيوط ومنسوجة- فهذا يمسح عليه.
س: الجرح الذي عليه دواء بقدر الحاجة وضعه وهو على غير وضوء.
ج: يمسح عليه، ولا يكفي درج الماء عليه، والحوائل حكمها المسح لا الغسل. وهذا يمسح عليه ويتيمم عند بعض أهل العلم وهو أحوط. وبعض أهل العلم يكتفي بالمسح، ولو فعل ذلك إنسان لم نأمره بالإعادة. وهذا مشروط بشرط وهو أن يتضرر بالإزالة؛ بل الجرح نفسه إذا لم يضع عليه شيئا وكان يتضرر بغسله فهذا يمسح عليه بالبلل الذي في يده. فإن كان يتضرر بالمسح فهذا يعفى عنه فإن الجرح البارز لا بد من مسحه ولا يكفي التيمم، وإذا مسح عليه فلا يحتاج إلى تيمم، والكسر ونحوه فلا بد من التيمم فيما زاد. والناس يفرطون ما يمسحون على الجرح ولا على الجبيرة واللصوق وهذا لا تصح طهارته.
وإن أمكن اختصار الجبيرة المتعدية للحد بدون ضرر اختصرها.
س: إذا مسح المتوضئ على خفيه وصلى فيهما ثم(63/44)
خلعهما فهل يجوز له الصلاة بذلك الوضوء أم لا؟
الجواب: إذا لبس الخفين ثم توضأ ومسح عليهما ثم خلعهما ففيه تفصيل: إن كان خلعهما بعد الحدث فالمنصوص عليه عند علماء المذهب أنه لا يجوز له أن يصلي بذلك الوضوء، وإن كان ذلك قبل الحدث فلا بأس قولا واحدا.
س: إذا تمت المدة وليس عنده ماء؟
ج: إذا كان عليه الخفاف وهو يتيمم لعدم الماء فقد صرح بعضهم بأنه يخلع إذا تمت المدة. والقول الآخر: أنه لا يجب عليه الخلع بل يتيمم وهما عليه وهذا هو الأقوى إن شاء الله؛ لأن الأمر معلل بالغسل ولا جاء دليل بالخلع. ثم خلعه لا يبطل تيممه؛ لأن طهارتهما بعمل يعمل في غيرهما وهو الوجه واليدان، فوجود الممسوح على الرجل وعدمه واحد.
س: رجل يخرج من دبره دود في أثناء الصلاة ما حكمه؟
ج: الحمد. لله. خروج الدود من الدبر ينقض الوضوء، وحكمه حكم سلس البول يلزمه الوضوء لوقت كل صلاة بعد غسل المحل إن تلوث بشيء من الرطوبة، وتعصيبه بخرقة طاهرة حتى لا يخرج شيء، وإن اعتيد انقطاعه في زمن يتسع لفعل الطهارة والصلاة تعين أن يفعلهما في حال انقطاعه، وإلا فيصلي على حسب حاله وصلاته صحيحة للعذر.
س: امرأة متوضئة للصلاة وتوسخ طفلها واحتاج للتغسيل غسلته ونظفته عن النجاسة. فهل ينتقض وضوؤها بذلك؟(63/45)
ج: إن مست أحد فرجيه انتقض وضوؤها بذلك، وإلا فلا ينتقض وضوؤها بمجرد تغسيله حتى ولو باشرت غسل النجاسة بيدها، وعليها ملاحظة تطهير يدها بعد ذلك والاحتراز من تعدي النجاسة على بدنها أو ثوبها. والسلام عليكم.
س: ما صفة تيميم المريض؟
ج: تضرب بيديك الصعيد وتمسح وجهه ويديه. ولو ضربت بيديه هو الأرض ومسحت كما ذكر كفى ذلك.(63/46)
إذا أفاق النائم ووجد بللا
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. ع. ع. المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي ذكرت فيه أنك شاب في التاسعة عشر من عمرك وإذا صحوت من نوم الليل وجدت مادة لزجة تسيل من ذكرك وأنك لا تذكر احتلاما، وتسأل هل هذا يوجب الغسل، أم لا؟
والجواب: هذا لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتحقق أن هذا الخارج مني فيلزمه الاغتسال ولو لم يذكر احتلاما. قال الموفق. لا نعلم فيه خلافا. ولا يلزمه تطهير ما أصاب من ثيابه؟ لأن مني الآدمي طاهر.
الثانية: أن يتحقق أنه ليس بمني فإن كان قد سبق نومه(63/46)
ملاعبة أو تفكير أو نظر أو مطالعة هذه المجلات الخليعة المثيرة للشهوة وكان ما وجده من جنس المذي فلا غسل عليه، وإنما يطهر ما أصابه من ثيابه لنجاسة المذي.
الثالثة: أن يشك في كونه منيا أو مذيا ففي هذه الحالة يغتسل وجوبا، ويطهر ما أصابه من ثيابه وبدنه احتياطا. هذا حاصل ما قرره الفقهاء. والله أعلم.(63/47)
كراهة بناء الحمام
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. م. ج. سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلنا خطابكم المتضمن السؤال: هل هناك مانع شرعي من فتح حمام عام بخاري ويكون خاصا بالرجال مع لزوم الآداب الشرعية من جهة العورة؟
والجواب: الحمد لله. لا نرى أن يفتح مثل هذا الحمام في هذا البلد؛ لأن الضرر سيكون أكبر من النفع، ومثل هذه الأشياء تكون عادة وسيلة لفساد لم يخطر في بال الذي أسسها، ومهما حرصت الآن على مراعاة الآداب الشرعية والأخلاقية فإنك لن تستطيع ضمان ذلك في المستقبل بعد فتح هذا الباب. والله الموفق، والسلام عليكم.(63/47)
س: هل التيمم سائغ لمن عليه حدث أصغر وهو مقيم في الحضر؟(63/47)
ج: غير سائغ، ولا يجوز، ولا فيه ضرر، ولا يقاس على الجنابة. ومن عدل إلى التيمم مع وجود الماء في الحضر كهذه الصورة فيعزر تعزيرا يردعه ويردع أمثاله، ولو نعرفه لبعثنا عليه الحسبة، وعليه إعادة ما صلى بالتيمم ويستغفر الله ويتوب إليه.(63/48)
وطء الحائض حرام وعليه دينار أو نصفه
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ص. م. ش. المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن حكم وطء الرجل زوجته وهي حائض.
والجواب: الحمد لله. وطء الرجل امرأته وهي حائض حرام بنص الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (1) والمراد المنع من وطئها في المحيض وهو موضع الحيض وهو الفرج. فإذا تجرأ ووطئها فعليه التوبة وأن لا يعود لمثلها، وعليه الكفارة وهي دينار أو نصف دينار على التخيير؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: «في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار (2) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والنسائي. والمراد بالدينار مثقال من الذهب، فإن لم يجده فيكفي قيمته من الفضة. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود الطهارة (264) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) ، سنن الدارمي الطهارة (1106) .(63/48)
وزن الدينار بالجنيه السعودي
س: [ما] مقدار وزن الدينار الواجب في بعض الكفارات؟
ج: الدينار هو السكة من الذهب، ووزنه مثقال ذهب وهو بمقدار أربعة أسباع الجنيه السعودي وما وازنه، لأن الجنيه المذكور ديناران إلا ربعا. والله أعلم.(63/49)
غسل المستحاضة
س: هل يكفي المستحاضة غسل الفرج وتعصيبه والوضوء للصلاة، أم الاغتسال لكل صلاة كغسل الجنابة؟
ج: يجب على المستحاضة أن تغتسل غسلا واحدا بعد انتهاء مدة حيضها ولا يجب عليها الاغتسال بعد ذلك. وعليها أن تتوضأ لكل صلاة حتى يأتي وقت التي بعدها.
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء(63/49)
ذلك الوقت (1) » . وما ثبت فيهما أيضا عن عائشة رضي الله عنها: «أن أم حبيبة أستحيضت سبع سنين فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ فأمرها أن تغتسل، فقال: " هذا عرق. فكانت تغتسل لكل صلاة (2) » .
وجهة الدلالة من هذين الحديثين أن حديث أم حبيبة مطلق، وحديث فاطمة مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فتغتسل عند إدبار حيضتها، وتتوضأ لكل صلاة، فيبقى اغتسالها لكل صلاة على الأصل وهو عدم وجوبه، ولو كان واجبا لبينه -صلى الله عليه وسلم- وهذا محل البيان، ولا يجوز للنبي -صلى الله عليه وسلم- تأخير البيان عن وقت الحاجة بإجماع العلماء. قال النووي في " شرح مسلم " بعد هذين الحديثين: واعلم أنه لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلوات ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول عروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبي حنيفة وأحمد. انتهى المقصود منه.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (228) ، صحيح مسلم الحيض (333) ، سنن الترمذي الطهارة (125) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (364) ، سنن أبو داود الطهارة (282) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (624) ، مسند أحمد بن حنبل (6/204) ، موطأ مالك كتاب الطهارة (137) ، سنن الدارمي الطهارة (774) .
(2) صحيح البخاري الحيض (327) ، صحيح مسلم كتاب الحيض (334) ، سنن الترمذي الطهارة (129) ، سنن أبو داود الطهارة (288) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (626) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) ، سنن الدارمي الطهارة (768) .(63/50)
مدة النفاس
س: كم المدة التي تبقى فيها النفساء ما تصلي؟ وما الذي يجوز للرجل منها وقت النفاس؟
ج: النفساء لها أحوال:(63/50)
الأولى: أن ينقطع عنها الدم قبل تمام الأربعين ولا يعود بعد ذلك. فمتى انقطع الدم عنها فإنها تغتسل وتصوم وتصلي.
الثانية: أن ينقطع عنها قبل تمام الأربعين ثم يعود قبل بلوغ الأربعين. ففي هذه الحال إذا انقطع عنها فتغتسل وتصوم وتصلي، وإذا عاودها فهو نفاس تجلسه فلا تصوم ولا تصلي وتقضي الصوم دون الصلاة.
الثالثة: أن يستمر معها إلى تمام الأربعين فتجلس جميع هذه المدة ما تصوم ولا تصلي، وإذا انقطع تطهرت وصامت وصلت.
الرابعة: أن يجوز الأربعين. وهذا يأتي على صورتين:
الأولى: أن يصادف عادة حيضها.
والثانية: أن لا يصادف عادة حيضها. فإن صادف العادة جلست عادة حيضها. وإذا لم يصادف عادة حيضها فإنها تغتسل بعد تمام الأربعين وتصوم وتصلي، فإن تكرر ثلاث مرات صار عادة لها وانتقلت إليه، وتقضي الصوم الذي صامته فيه ولا تقضي الصلاة. وإن لم يتكرر فلا حكم له أي يكون دم استحاضة.
س: ما الذي يجوز للرجل منها [من المرأة] وقت النفاس؟
ج: الذي يجوز له منها الاستمتاع بما دون الفرج؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض " والمقصود بالمباشرة(63/51)
هنا دون الفرج. ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد انقطاع الدم والتطهير. قال أحمد: ما يعجبني أن يأتيها زوجها، أحاديث عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين فقال: لا تقربيني. ولأنه لا يؤمن عود الدم في زمن الوطء.(63/52)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتى عام المملكة العربية السعودية سابقا رحمه الله
الدعاء في الصلاة للوالدين
س: يقولون إن الدعاء في صلاة الفريضة لا يجوز للوالدين، والقرآن لا يجوز أن يجعل ثواب الختمة لوالديه، وإذا طاف لا يجوز أن يجعل ثواب السبع لوالديه. فما الحكم في ذلك؟
ج: الدعاء في الصلاة لا بأس به سواء كان لنفسه أو لوالديه أو لغيرهما، بل هو مشروع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: «"أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » . خرجه مسلم أيضا، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما علمه التشهد قال: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه
__________
(1) رواه مسلم في (الصلاة) باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (482) .
(2) رواه مسلم في (الصلاة) باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم (479) .(63/53)
فيدعو (1) » . وفي رواية: «ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء (2) » والمراد بذلك قبل أن يسلم، فإذا دعا في سجوده أو في آخر الصلاة. لنفسه أو لوالديه أو المسلمين فلا بأس لعموم هذه الأحاديث وغيرها.
وأما تثويب القراءة أو الطواف لوالديه أو لغيرهما من المسلمين فهذا محل خلاف بين العلماء، والأفضل والأحوط تركه لعدم الدليل عليه، والعبادات توقيفية لا يفعل منها إلا ما جاء به الشرع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » . . متفق على صحته، وفي رواية أخرى: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » . خرجه مسلم في الصحيح. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الأذان) باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد برقم (835) .
(2) رواه مسلم في (الصلاة) باب التشهد في الصلاة برقم (402) .
(3) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2697) ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .
(4) رواه البخاري معلقا في باب النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .(63/54)
حكم رفع اليدين في الدعاء
س: ما حكم رفع اليدين في الدعاء؟
ج: رفع اليدين في الدعاء سنة ومن أسباب الإجابة لقول(63/54)
النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (1) » . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:، وقال سبحانه:. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (4) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
فذكر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن مد اليدين إلى السماء من أسباب الإجابة لولا المانع المذكور في الحديث، وهو أكل الحرام. ولأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه في الدعاء، كما في الاستسقاء، ودعائه على الصفا والمروة في حجه وعمره، وفي مواضع أخرى.
__________
(1) رواه الترمذي في (الدعوات) باب في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (3556) وأبو داود في (الصلاة) باب الدعاء برقم (1488) واللفظ له.
(2) رواه مسلم في (الزكاة) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب برقم (1015) .
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}
(4) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}(63/55)
لكن المواضع التي لم يرفع فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز الرفع فيها؛ لأن فعله سنة وتركه سنة عليه الصلاة والسلام، وذلك مثل الدعاء بين السجدتين، والدعاء في آخر الصلاة قبل السلام فإنه لا يشرع الرفع فيه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرفع في ذلك، وهكذا الدعاء بعد الصلوات الخمس بعد الفراغ من الذكر فإنه لا مانع من الدعاء بينه وبين نفسه بعد الذكر؛ لوجود أحاديث تدل على ذلك ولكن لا يشرع في ذلك رفع اليدين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، والواجب على المسلمين جميعا التقيد بالكتاب والسنة في كل شيء والحذر من مخالفتهما. والله ولي التوفيق.(63/56)
حكم رفع الأيدي للدعاء بعد الصلاة
س: ما رأي سماحتكم في رفع الأيدي للدعاء بعد الصلاة؟ وهل هناك فرق بين صلاة الفريضة والنافلة؟
ج: رفع الأيدي في الدعاء سنة ومن أسباب الإجابة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (1) » . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث سلمان الفارسي.
__________
(1) رواه الترمذي في (الدعوات) باب في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (3556) وأبو داود في (الصلاة) ، باب الدعاء برقم (1488) واللفظ له.(63/56)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال سبحانه:، وقال -عز وجل-:. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (3) » رواه مسلم.
لكن لا يشرع رفعهما في المواضع التي وجدت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرفع فيها كأدبار الصلوات الخمس وبين السجدتين وقبل التسليم من الصلاة وحين خطبة الجمعة والعيدين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرفع في هذه المواضع وهو عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة فيما يأتي ويذر، لكن إذا استسقى في خطبة الجمعة أو خطبة العيدين شرع له رفع اليدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الصلاة النافلة فلا أعلم مانعا من رفع اليدين بعدها في الدعاء عملا بعموم الأدلة لكن الأفضل عدم المواظبة على ذلك؛
__________
(1) رواه مسلم في (الزكاة) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب برقم (1015) .
(2) سورة البقرة الآية 172 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(63/57)
لأن ذلك لم يثبت فعله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو فعله بعد كل نافلة لنقل ذلك عنه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قد نقلوا أقواله وأفعاله في سفره وإقامته وسائر أحواله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم جميعا. أما الحديث المشهور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «" الصلاة تضرع وتخشع وأن تقنع، أي: ترفع يديك تقول يا رب. يا رب (1) » فهو حديث ضعيف. كما أوضح ذلك الحافظ ابن رجب وغيره. والله ولي التوفيق.
س: من السائلة م. م. - الرياض، هل ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفع الأيدي في الدعاء بعد صلاة الفريضة بالذات حيث هناك من قالوا لي إنه لم يكن يرفع يديه حين الدعاء بعد صلاة الفرض؟
ج: لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه بعد صلاة الفريضة، ولم يصح ذلك أيضا عن أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، وما يفعله بعض الناس من رفع أيديهم بعد صلاة الفريضة بدعة لا أصل لها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، متفق عليه.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/211) .
(2) رواه البخاري معلقا في باب النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .
(3) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2697) ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطنة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .(63/58)
ما السنة في تحريك السبابة عند التشهد
س: من ع. ح. أ- الدمام، ألاحظ أنه أثناء قراءة التشهد يقوم بعض المصلين بتحريك السبابة يمينا ويسارا وبعضهم إلى أعلى وأسفل، وذلك بحركات سريعة متتالية أو بطيئة، والبعض الآخر يرفع أصبعه ولا يحركها وآخرون لا يرفعون أصبعهم هذه بالمرة، فما الحكم في ذلك؟
ج: السنة للمصلي حال التشهد أن يقبض أصابعه كلها أعني أصابع اليمنى ويشير بالسبابة ويحركها عند الدعاء تحريكا خفيفيا إشارة للتوحيد وإن شاء قبض الخنصر والبنصر وحلق الإبهام مع الوسطى وأشار بالسبابة كلتا الصفتين صحتا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أما يده اليسرى فيضعها على فخذه اليسرى مبسوطة ممدودة أصابعها إلى القبلة وإن شاء وضعها على ركبته كلتا الصفتين صحتا عن النبي صلى الله عليه وسلم.(63/59)
حكم التسبيح باليد اليمنى
س: من م. ع. أ. - الخرج، صلى بنا أحد الشباب وبعد الصلاة صار يسبح بيده اليمنى فقط فاستغرب بعض المصلين وسألوا الشاب عن ذلك فقال إن هذه هي السنة. أرجو أن تفيدونا عن صحة ذلك؟
ج: ما فعله الإمام هو الصواب فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعقد التسبيح بيمينه، ومن سبح باليدين فلا حرج في ذلك لإطلاق غالب الأحاديث.(63/59)
التسبيح باليد اليمنى أفضل
س: هل التسبيح والتحميد والتكبير بعد كل فريضة يكون أفضل بأصابع اليد اليمنى أو اليدين معا؟
ج: الأفضل أن يكون ذلك بيده اليمنى؟ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعدهن باليمنى، ولقول عائشة رضي الله عنها: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (1) » ، ويجوز عقدهن بالأصابع كلها؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك عنه عليه الصلاة والسلام وقال: «إنهن مسئولات مستنطقات (2) » . وبذلك يعلم التوسعة في هذا الأمر وأنه لا ينبغي فيه التشدد ولا التنازع.
__________
(1) رواه البخاري في (الوضوء) باب التيمن في الوضوء والغسل برقم (168) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند حديث يسيرة رضي الله عنها) برقم (26549) والترمذي في (الدعوات) باب ما جاء في عقد التسبيح باليد برقم (3486) وأبو داود في (الصلاة) باب التسبيح بالحصى برقم (1501) .(63/60)
السنة الجهر بالذكر عقب الصلوات الخمس وعقب صلاة الجمعة بعد التسليم
س: ما حكم الذكر الجماعي بعد الصلاة على وتيرة واحدة كما يفعله البعض وهل السنة الجهر بالذكر أو الإسرار؟
ج: السنة الجهر بالذكر عقب الصلوات الخمس وعقب صلاة الجمعة بعد التسليم لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس(63/60)
رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. أما كونه جماعيا بحيث يتحرى كل واحد نطق الآخر من أوله إلى آخره وتقليده في ذلك فهذا لا أصل له بل هو بدعة، وإنما المشروع أن يذكروا الله جميعا بغير قصد لتلاقي الأصوات بدءا ونهاية.(63/61)
تكرار بعض الأذكار بعد صلاة المغرب والفجر
س: ورد الحث على قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) عشر مرات بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب. فهل ما ورد صحيح؟
ج: ورد في هذا أحاديث صحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها تدل على شرعية الذكر المذكور بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، وهو أن يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (1) » عشر مرات فيشرع لكل مؤمن ومؤمنة المحافظة على ذلك بعد الصلاتين المذكورتين. وذلك بعد الذكر المشروع بعد السلام من جميع الصلوات الخمس، وهو أن يقول بعد السلام. استغفر الله ثلاثا، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (592) ، سنن الترمذي الصلاة (298) ، سنن النسائي السهو (1338) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (924) ، مسند أحمد بن حنبل (6/62) ، سنن الدارمي الصلاة (1347) .(63/61)
إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وإن كان إماما شرع له الانصراف إلى الناس ويعطيهم وجهه بعد قوله: استغفر الله ثلاثا، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام تأسيا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك. وللإمام عند الانصراف أن ينصرف عن يمينه أو عن شماله؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل هذا وهذا.
ويستحب للمصلي أيضا بعد كل صلاة من الصلوات الخمس بعد الذكر المذكور أن يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة. فتلك تسع وتسعون، ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ لأنه قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الترغيب في ذلك وبيان أنه من أسباب المغفرة. ويشرع للمصلي أيضا بعد كل صلاة من الصلوات الخمس: أن يقرأ آية الكرسي بعد هذه الأذكار وأن يقرأ: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ويشرع أن يكرر هذه السور الثلاث بعد المغرب وبعد الفجر وعند النوم ثلاث مرات؟ لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك.(63/62)
المراد بدبر الصلاة
س: ما المراد بدبر الصلاة في الأحاديث التي ورد فيها الحث على الدعاء أو الذكر دبر كل صلاة؟ هل هو آخر الصلاة أو بعد السلام؟(63/62)
ج: دبر الصلاة يطلق على آخرها قبل السلام، ويطلق على ما بعد السلام مباشرة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك وأكثرها يدل على أن المراد آخرها قبل السلام فيما يتعلق بالدعاء كحديث ابن مسعود رضي الله عنه لما علمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- التشهد، ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو (1) » . وفي لفظ: «ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء (2) » . متفق على صحته.
ومن ذلك حديث معاذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (3) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح. ومن ذلك ما رواه البخاري رحمه الله عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دبر كل صلاة: «اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ومن عذاب القبر (4) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الأذان) باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد برقم (835) .
(2) رواه مسلم في (الصلاة) باب التشهد في الصلاة برقم (452) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم (21614) والنسائي في (السهو) باب نوع آخر من الدعاء برقم (1303) ، وأبو داود في (الصلاة) باب في الاستغفار برقم (1522) .
(4) رواه البخاري في (الدعوات) باب التعوذ من البخل برقم (6370) .(63/63)
أما الأذكار الواردة في ذلك، فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ذلك في دبر الصلاة بعد السلام. ومن ذلك أن يقول حين يسلم: استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا ثم ينصرف الإمام بعد ذلك إلى المأمومين ويعطيهم وجهه ويقول الإمام والمأموم والمنفرد بعد هذا الذكر والاستغفار: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
ويستحب أن يقول المسلم والمسلمة هذا الذكر بعد كل صلاة من الصلوات الخمس ثم يسبح الله ويحمده ويكبره ثلاثا وثلاثين ثم يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وهذا كله قد ثبتت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحب أن يقرأ بعد ذلك آية الكرسي مرة واحدة سرا ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين بعد كل صلاة سرا مرة واحدة، إلا في المغرب والفجر فيستحب له أن يكرر قراءة السور الثلاث المذكورة ثلاث مرات، ويستحب أيضا للمسلم والمسلمة بعد صلاة المغرب والفجر أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك(63/64)
وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات زيادة على ما تقدم قبل قراءة آية الكرسي وقبل قراءة السور الثلاث. عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك. والله ولي التوفيق.(63/65)
الأفضل قول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك قبل السلام
س: بعد السلام من صلاة الفريضة أنكر علي من بجواري عندما سمعني أدعو بقول: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (1) » حيث ذكر لي أن هذا الدعاء يكون قبل السلام لا بعده فما الصواب في ذلك؟
ج: الأفضل أن يكون هذا الدعاء وأشباهه قبل السلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما علم الصحابة التشهد قال: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء (2) » . وفي لفظ: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به (3) » . وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «لا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (4) » . ودبر الشيء
__________
(1) سنن النسائي السهو (1303) ، سنن أبو داود الصلاة (1522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/247) .
(2) رواه مسلم في (الصلاة) باب التشهد في الصلاة برقم (402) .
(3) رواه البخاري في (الأذان) باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد برقم (835)
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم (21614) والنسائي في (السهو) باب نوع أخر من الدعاء برقم (1303) وأبو داود في (الصلاة) باب في الاستغفار برقم (1522) .(63/65)
آخره، كدبر الحيوان، ويلحق بذلك ما يلي الصلاة بعد السلام، فإنه يسمى دبرا؛ لما ثبت في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دبر كل صلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1) » .
ومعلوم أن هذا الذكر يقال بعد السلام، وقد جاء ذلك صريحا في بعض روايات حديث المغيرة وغيرها فدل ذلك على أنه لا حرج في الدعاء بعد السلام وبعد الذكر فيما بين العبد وبين ربه، عملا بالأدلة كلها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الأذان) باب الذكر بعد الصلاة برقم (844) ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم (593) .(63/66)
حكم مسح الجبهة عن التراب بعد الصلاة
س: سمعنا من يقول: يكره مسح الجبهة عن التراب بعد الصلاة فهل لهذا أصل؟
ج: ليس له أصل فيما نعلم وإنما يكره فعل ذلك قبل السلام؟ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض صلواته أنه سلم من صلاة الصبح في ليلة مطيرة ويرى على وجهه أثر الماء والطين، فدل ذلك أن الأفضل عدم مسحه قبل الفراغ من الصلاة.(63/66)
حكم المصافحة بعد صلاة الفريضة والنافلة
س: ما حكم المصافحة بعد الصلاة، وهل هناك فرق بين صلاة الفريضة والنافلة؟
ج: الأصل في المصافحة عند اللقاء بين المسلمين شرعيتها، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصافح أصحابه رضي الله عنهم إذا لقيهم وكانوا إذا تلاقوا تصافحوا.
قال أنس رضي الله عنه والشعبي رحمه الله: " كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا ".
وثبت في الصحيحين أن طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم- قام من حلقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده عليه الصلاة والسلام إلى كعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه فصافحه وهنأه بالتوبة. وهذا أمر مشهور بين المسلمين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده. وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من مسلمين يتلاقيان فيتصافحان إلا تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات عن الشجرة ورقها (1) » .
ويستحب التصافح عند اللقاء في المسجد أو في الصف وإذا لم يتصافحا قبل الصلاة تصافحا بعدها تحقيقا لهذه السنة العظيمة. ولما في ذلك من تثبيت المودة وإزالة الشحناء.
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2727) ، سنن ابن ماجه الأدب (3703) .(63/67)
لكن إذا لم يصافحه قبل الفريضة شرع له أن يصافحه بعدها بعد الذكر المشروع.
أما ما يفعله بعض الناس من المبادرة بالمصافحة بعد الفريضة من حين يسلم التسليمة الثانية فلا أعلم له أصلا بل الأظهر كراهة ذلك لعدم الدليل عليه. ولأن المصلي مشروع له في هذه الحال أن يبادر بالأذكار الشرعية التي كان يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد السلام من صلاة الفريضة.
وأما صلاة النافلة فيشرع المصافحة بعد السلام منها إذا لم يتصافحا قبل الدخول فيها. فإن تصافحا قبل ذلك كفى.(63/68)
الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفريضة والنافلة
س: إذا مر الإنسان في الصلاة بآية فيها ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهل يصلي عليه بمناسبة ذكره عملا بحديث: «أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر فقال: " آمين " ثلاثا، فقيل له إنك صعدت المنبر فقلت آمين، آمين، آمين، فقال: " إن جبريل أتاني. . " إلى أن قال: " رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك» . . . " إلى آخر الحديث، أم أن الصلاة عليه ليست من أعمال الصلاة إلا في موضعها من التشهد فلا تفعل إلا فيه وأما في غيره فلا؟
ج: أما في الفريضة فلا يفعل ذلك لعدم نقله عن النبي(63/68)
صلى الله عليه وسلم وأما في النافلة فلا بأس؛ لأنه كان -صلى الله عليه وسلم- في تهجده بالليل يقف عند كل آية فيها تسبيح فيسبح، وعند كل آية فيها تعوذ فيتعوذ، وعند كل آية فيها سؤال فيسأل. والصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- من هذا الباب. والله ولي التوفيق.(63/69)
الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم - مشروعة في التشهد الأول والأخير
س: من أ. س. ع. - أرتيريا، هل الصلاة المفروضة أو الدعاء إذا لم يذكر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- تكون صحيحة أو لا؟ فإن بعض الأشخاص قال إن الصلاة والدعاء لا يقبلان إلا إذا كان فيهما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. أفيدونا أفادكم الله؟
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- مشروعة في صلاتنا المفروضة والنافلة وذلك في التحيات في آخر الصلاة بعد أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وهناك أنواع أخر ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى بواحد منها كفى كأن يقول: «اللهم صل على محمد وعلى آل(63/69)
محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد (1) » . أو يقول: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (2) » . وهناك أنواع أخرى فإذا أتى بأي نوع منها فيما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- صحت صلاته وكفى. ثم بعدها يتعوذ بالله من أربع: من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات، ويدعو بما أحب من الدعاء الطيب قبل أن يسلم.
وهذه الصلاة تشرع أيضا في التشهد الأول على الصحيح وقال أكثر أهل العلم أنها لا تشرع إلا في التشهد الأخير، ولكن الصحيح مشروعيتها أيضا في التشهد الأول؟ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك. ولكنها في التشهد الأخير ركن أو واجب لا بد منه أما في الأول فمستحبة؟ لأنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على تركها في التشهد الأول فدل على عدم وجوبها فيه. وقد اختلف العلماء هل هي ركن أو واجب أو سنة في التشهد الأخير على أقوال: قيل: إنها ركن لا بد منها ولا تصح الصلاة إلا بها وهو المعروف عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وجماعة، وقيل: أنها واجبة إن تعمد تركها بطلت الصلاة وإن نسيها لم تبطل الصلاة ولكن يسجد للسهو وهذا قول وسط وقال آخرون: أنها سنة لا تبطل الصلاة بتركها لا عمدا ولا سهوا، بل
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3370) ، صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن الترمذي الصلاة (483) ، سنن النسائي السهو (1288) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3369) ، صحيح مسلم الصلاة (407) ، سنن النسائي السهو (1294) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (905) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، موطأ مالك النداء للصلاة (397) .(63/70)
هي سنة مؤكدة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما سئل كيف نصلي عليك قال: قولوا: اللهم صل على محمد. . . إلخ، ولو كانت فرضا لفرضها عليهم قبل أن يسألوه وبينها لهم مع التشهد، وبكل حال فالذي ينبغي للمسلم أن يجيء بها ويحافظ عليها في التشهد الأخير؛ لأن الرسول أمر بها والأمر يقتضي الوجوب؛ فلا ينبغي للمؤمن أن يدعها في التشهد الأخير، وهكذا المؤمنة، أما التشهد الأول فإن أتى بها فهو أولى وأفضل وإن لم يأت بها فلا حرج عليه، ولكن ليس المجيء بها شرطا في القبول لعدم الدليل على ذلك، وقد ذكرنا الخلاف في وجوبها في التشهد الأخير. وأما الدعاء في التشهد الأخير فهو مستحب ولكن ليس شرطا في القبول، فلو لم يدع في التشهد الأخير فصلاته صحيحة ولا حرج عليه في ذلك، ولكن يستحب له الدعاء في التشهد الأخير بعد الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد التعوذ من الأربع التي تقدم ذكره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال (1) » . وقوله -صلى الله عليه وسلم- لما علم ابن مسعود التشهد: «ثم ليختر من المسألة مما شاء (2) » «وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سمع رجلا يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه
__________
(1) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب ما يستعاذ منه في الصلاة برقم (855) .
(2) صحيح البخاري الأذان (831) ، صحيح مسلم الصلاة (402) ، سنن الترمذي الصلاة (289) ، سنن النسائي السهو (1298) ، سنن أبو داود الصلاة (968) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (899) ، مسند أحمد بن حنبل (1/423) ، سنن الدارمي الصلاة (1340) .(63/71)
وسلم فقال: " عجل هذا " ثم دعاه وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء (1) » . رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وإسناده صحيح.
ويشرع للمؤمن أن يحرص على أسباب الإجابة من الأكل الحلال، والدعاء بقلب حاضر مشفق راغب راهب، راج عفو ربه، بعيد عن المعاصي، ويتحرى أوقات الإجابة آخر الصلاة وقبل السلام، والدعاء في السجود، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الليل وبعد العصر يوم الجمعة إلى أن تغيب الشمس حال كونه ينتظر صلاة المغرب، وحين صعود الخطيب المنبر يوم الجمعة إلى أن تقضى الصلاة. والله أعلم.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3476) ، سنن النسائي السهو (1284) ، سنن أبو داود الصلاة (1481) ، مسند أحمد بن حنبل (6/18) .(63/72)
التسبيح بعد الصلاة بين الجهر والإسرار
س: من ع. أ. ص. - لوس أنجلوس في أمريكا، يقول: كثر الحديث والجدل حول الجهر والإسرار بالتسبيح بعد الصلوات المكتوبة فنرجو من سماحتكم إفادتنا أيهما أفضل الجهر أم الإسرار بالتسبيح؟ فإذا كان الجهر يشوش على من فاتته بعض الركعات فما هو الحل؟
ج: ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من الصلاة المكتوبة كان(63/72)
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. فهذا الحديث الصحيح وما جاء في معناه من حديث ابن الزبير والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما وغيرهما كلها تدل على شرعية رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على وجه يسمعه الناس الذين عند أبواب المسجد وحول المسجد حتى يعرفوا انقضاء الصلاة بذلك، وإن كان حوله من يقضي الصلاة فالأفضل له أن يخفض قليلا حتى لا يشوش عليه عملا بأدلة أخرى جاءت في ذلك، وفي رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة فوائد كثيرة منها إظهار الثناء على الله سبحانه وتعالى على ما من به عليهم من أداء هذه الفريضة العظيمة، ومن ذلك تعليم للجاهل وتذكير للناسي ولولا ذلك لخفيت السنة على كثير من الناس. والله الموفق.(63/73)
الإكثار من ذكر الله والاستغفار والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب طمأنينة القلب
س: قبل ثلاث سنوات شكوت إلى أحد الرجال الصالحين عندنا من كثرة تذبذبي بين أمور الدنيا وعدم اطمئناني على عبادتي كالصوم والصلاة لأني أصوم وأصلي منذ عشر سنوات، ومغريات الدنيا كثيرة فقال لي هذا الرجل اتبع هذه الطريقة لعل قلبك يهدأ(63/73)
تقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه مائة مرة، وتقول استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم مائة مرة، وتقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
فهل هذا صحيح أم لا؟ وهل هو المقصود بقوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) ؟
ج: لا شك أن الإكثار من ذكر الله والاستغفار والصلاة والسلام على رسول الله من أعظم الأسباب في طمأنينة القلوب وراحتها، وفي السكون إلى الله سبحانه وتعالى والأنس به سبحانه، وزوال الوحشة والذبذبة والحيرة، فالذي أوصاك به هذا الرجل قد أحسن في هذه الوصية، لكن ليس للاستغفار حد محدود، ولا للصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- حد محدود، بل المشروع أن تكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتعين عدد معين، وتستغفر كثيرا مائة أو أكثر أو أقل، أما التحديد بمائة فليس له أصل ولكنك تكثر من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- قائما وقاعدا، في الليل والنهار، وفي الطريق وفي البيت؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) سورة الأحزاب الآية 56(63/74)
صلى الله عليه بها عشرا (1) » . فأكثر من ذلك وأبشر بالخير، وليس هناك حد محدود تصلي على النبي ما تيسر عشرا أو أكثر أو أقل على حسب التيسير من غير تحديد وهكذا الاستغفار تكثر من الاستغفار لأنك مأمور بهذا قال الله -عز وجل-: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (3) . فالاستغفار له شأن عظيم وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب (4) » . وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قال حين يأوي إلى فراشه: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه (5) » . فهذا له شأن عظيم، فينبغي لك
__________
(1) رواه مسلم في (الصلاة) باب الصلاة على [النبي صلى الله عليه وسلم] بعد التشهد برقم (408) .
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة هود الآية 3
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2234) وأبو داود في (الصلاة) باب في الاستغفار برقم (1518) وابن ماجه في (الأدب) باب الاستغفار برقم (3819) .
(5) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي سعيد الخدري برقم (10690) والترمذي في (الدعوات) باب منه (ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه) برقم (3397) .(63/75)
أن تكثر من الاستغفار في جميع الأوقات، وتقول بعد كل صلاة مكتوبة: استغفر الله ثلاث مرات، من حين تسلم وبعدها تقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. فقد كان النبي يبدأ بهذا حين يسلم عليه الصلاة والسلام في صلواته الخمس، ويكثر من الصلاة والاستغفار في الليل والنهار، وأول النهار وأول الليل وآخر النهار، كل هذا مطلوب، «أما كلمة لا إله إلا الله فقد جاء فيها الحديث الصحيح: " من قالها في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحى عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله (1) » . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، فينبغي المحافظة على هذا كل يوم.
ويشرع أيضا لكل مسلم ومسلمة الإكثار من قول: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (2) » . أخرجه
__________
(1) رواه البخاري في (الدعوات) باب فضل التهليل برقم (6403) ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل التهليل والتسبيح برقم (2691) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (6870) والبخاري في (الدعوات) برقم (5927) ومسلم في (الذكر والدعاء) برقم (4860) واللفظ له.(63/76)
البخاري ومسلم في صحيحيهما. وهكذا يستحب للمسلم أن يقول: (سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته) ثلاث مرات. فلها شأن عظيم لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه دخل ذات يوم على زوجته جويرية ضحى وهي في مصلاها بعد الصبح فقال: أما زلت مكانك الذي فارقتك عليه " قالت: نعم، قال: " لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته (1) » . وهكذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لها شأن عظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس (3) » . وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول
__________
(1) رواه مسلم في (الذكر والدعاء) برقم (4905) وأبو داود في (الصلاة) برقم (1285) .
(2) رواه مسلم في (كتاب الآداب) برقم (3985) .
(3) رواه مسلم في (الذكر والدعاء) برقم (4861) .(63/77)
ولا قوة إلا بالله (1) » .
وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ " قال: بلى يا رسول الله. قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله (2) » .
فينبغي الإكثار من هذه الأذكار التي تطمئن بها القلوب وتستقيم بها الأحوال مع الإكثار من الأعمال الصالحات والتوبة النصوح من جميع السيئات مع تقوى الله والاستقامة على دينه والحذر من المعاصي دائما.
ويشرع لكل مسلم الإكثار من هذه الأذكار: من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما في ذلك من الأجر العظيم والعاقبة الحميدة وصلاح القلب وانشراحه، وزوال الذبذبة والحيرة؟ لأن الله سبحانه وعد بذلك من استقام على أمره وسارع إلى طاعته وأكثر من ذكره ومن الصلاة والسلام على رسوله عليه الصلاة والسلام. رزق الله الجميع الاستقامة وأعاذنا جميعا من نزغات الشيطان وهدانا جميعا لصراطه المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) رواه أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (483) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) برقم (18754 و18758 و 18774 و 18780 و18818 و18910) رواه البخاري في (المغازي) برقم (3883) ومسلم في (الذكر والدعاء) برقم (4873) .(63/78)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: هل الشخص عندما يتزوج فتاة يكون ذلك مكتوبا عند الله من قبل؟
ج: ما يجري في الكون كله قد علمه الله وشاءه وكتبه فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن ولو كان كيف يكون، لا يعزب عن علمه شيء، ولا يجري في كونه شيء إلا بمشيئته وتقديره، فله سبحانه القدرة التامة والمشيئة النافذة، وقد كتب سبحانه مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء (1) » أخرجه مسلم. وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي حدث به وهو في مرض موته: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد " أخرجه الترمذي والإمام أحمد في مسنده وزاد: " يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار (2) »
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2653) ، سنن الترمذي القدر (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (2/169) .
(2) سنن الترمذي القدر (2155) .(63/79)
وهذا التقدير هو التقدير العام المكتوب في اللوح المحفوظ، وهناك تقدير عمري يكتبه الله على عبده وهو في بطن أمه، يكتب عليه ما قدر له، وهذا جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح (1) » . . . " الحديث. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهناك التقدير السنوي الذي جاء في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (2) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (3) ، وهي ليلة القدر ينزل فيها ما قدر الله في تلك السنة كلها.
وهناك التقدير اليومي يقول الله سبحانه وتعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (4) .
وبهذا تعلم أن أمر زواجك من تلك الفتاة أو غيرها، بل ما هو أعظم من أمر الزواج أو أحقر كل ذلك قد علمه الله وقدره وشاءه وكتبه، ومن تدبر هذا زاد إيمانه بربه وعلم عظيم إحاطته سبحانه وعلمه، يقول جل وعلا:
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3332) ، صحيح مسلم القدر (2643) ، سنن الترمذي القدر (2137) ، سنن أبو داود السنة (4708) ، سنن ابن ماجه المقدمة (76) ، مسند أحمد بن حنبل (1/414) .
(2) سورة الدخان الآية 3
(3) سورة الدخان الآية 4
(4) سورة الرحمن الآية 29(63/80)
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) .
فكونك تتزوج بهذه أو تلك كل ذلك بقدر الله سبحانه، وقدره سابق ولا بد أن يقع، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: «إن الرزق يطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله» أخرجه البيهقي في الشعب ورجح وقفه هو والدارقطني. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة يونس الآية 61(63/81)
س: نحن عائلة كاملة مبتلاة بالجن رغم قراءة القرآن. فماذا نفعل؟
ج: أولا: عليكم التحصن بالإيمان بالله وقوة اليقين به سبحانه، وانصراف القلب بكليته لربه والانطراح بين يديه والإلحاح بالدعاء عليه والاستعاذة به من شر كل ذي شر، والإكثار من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن عن تدبر ويقين. فإن من فعل هذا زال عنه ما يجد بإذن الله، فإن الجن خلق من خلق الله تحت ملكه وتدبيره سبحانه، والله تعالى يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) ، فالمؤمن بالله الموقن به الموحد له، والمؤمن بهذا الكتاب وبأنه نافع من أدواء القلوب والأبدان هذا هو الذي ينتفع به، وبحسب قوة الإيمان واليقين يكون الانتفاع، فإن الشفاء لا بد فيه من زوال المانع وتوفر السبب، والسبب هو هذا دوام ذكر الله وتلاوة كتابه، لكن المانع وهو كون القلب لاه
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82(63/81)
مشغول، أو ضعيف الإيمان. فهذا يكون تأثره قليل؛ لضعفه هو، وإلا فكلام الله فيه الهدى والنور والشفاء لما في الصدور، وإذا كان الجبل الضخم لو نزل عليه كلام الله لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله فكيف بالمخلوق الضعيف؟!
وقد ذكر بعض المحققين أن كلام الله والأذكار الشرعية سلاح لدفع الشر ولرفعه إذا وقع، لكن السلاح بقوة الضارب به، فمتى توفرت القوة كان التأثير، والقوة هنا المقصود بها قوة القلب والجنان، قوة الإيمان مع المحافظة على فرائض الله والاستمرار في طاعة الله.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح (1) » أخرجه البخاري، ويقول صلى الله عليه وسلم: "، «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأها في ليلة كفتاه (2) » متفق عليه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما. اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (3) » والبطلة: السحرة. ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة (4) » أخرجه مسلم.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5010) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (807) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2881) ، سنن أبو داود الصلاة (1397) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1369) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1487) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4008) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (807) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2881) ، سنن أبو داود الصلاة (1397) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1369) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1487) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (780) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2877) ، سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .(63/82)
ولا شك أن ما أصابكم ابتلاء من الله، فالواجب عليكم الصبر، وتفقدوا أنفسكم فإن كنتم مقصرين في الطاعات فاحرصوا على الإتيان بها وإتمامها على الوجه الذي شرعه الله، وإن كنتم ممن أسرف على نفسه بالمعاصي فالبدار البدار بالتوبة النصوح عل الله أن يغفر ما مضى، وإن كان المنزل يحوي شيئا من المنكرات كالدش والصور الخليعة ونحو ذلك، فعليكم التخلص منها وإتلافها، ثم مع هذا كله الزموا ذكر الله وتلاوة القرآن والرقية الشرعية عن إيمان صادق ويقين جازم، وسيزول عنكم ما بكم بإذن الله تعالى، أسأل الله أن يزيل عنكم البأس، ويصرف عنكم ما حل بكم إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.(63/83)
س: عقدت على امرأة وعمرها الآن ثلاث وعشرون وتقول: إنها عندما كان عمرها 14 عاما اعتمرت مع أهلها وضاعت منهم ثم التقت بهم في آخر العمرة ولا تذكر هل سعت وقصرت شعرها أم لا، ولم تعتمر بعد ذلك إلى الآن، فما الحكم؟
ج: إذا كانت هذه المرأة قد بلغت في ذلك الوقت، فإنها بفعلها هذا قد أخطأت، وهي إلى الآن على إحرامها، فالواجب عليها أن تذهب وتعيد العمرة ثم إذا انتهت من العمرة، تعيد أنت العقد عليها - أعني عقد النكاح - لأن العقد الأول فاسد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب (1) » رواه مسلم وأصحاب السنن وأحمد، فتأتي لأبي المرأة أو وليها فيقول لك: زوجتك ابنتي فلانة. وتقول أنت: قبلت
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1409) ، سنن الترمذي الحج (840) ، سنن النسائي النكاح (3276) ، سنن أبو داود المناسك (1841) ، سنن ابن ماجه النكاح (1966) ، مسند أحمد بن حنبل (1/64) ، موطأ مالك الحج (780) ، سنن الدارمي المناسك (1823) .(63/83)
مع حضور الشاهدين، وبهذا يتم العقد صحيحا. وإن كنت قد دخلت بها وحصل بينكما جماع فيجب عليها مع إكمال عمرتها الأولى قضاء عمرة مكانها والفدية، وهي كبش يذبح بالحرم ويوزع على فقراء الحرم.(63/84)
س: أنا امرأة استدنت من امرأة أخرى دينا حيث اشترت لي أغراضا بمبلغ عشرين ألف ريال على أن أردها لها على دفعات لمدة سنتين بزيادة ألفي ريال عن كل سنة. ثم قال لي أولادي: إن هذا ربا، ولا يجوز إعطاء الزيادة لهذه المرأة، فهل هذا صحيح؟
ج: ما دامت هذه المرأة قد اشترت هذه السلع لك بهذا المبلغ المذكور على أن تسددي ثمنها مؤجلا على دفعات، فإن هذا بمنزلة الدين، فالواجب أن تسددي لها بقدر ما دفعت لك فقط بغير زيادة؛ لأن الزيادة تكون ربا، لا يجوز لك دفعه إليها، ولا يجوز لها أخذه منك، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ربا الجاهلية موضوع (2) » .
أما مسألة بيع التقسيط فصورتها مختلفة، وهي: أن تمتلك السلعة لنفسها ثم تبيعها عليك، وتقول: هي حالة بكذا ومؤجلة بكذا، فإن هذه المعاملة جائزة وإن زادت عن رأس مال السلعة؛ لأنها من البيع الذي أحله الله. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .(63/84)
س: قامت أخت بحرق أخيها بملعقة فنذرت أمها إذا تزوجت هذه الأخت وأنجبت طفلا أن تحرقه بالملعقة، كما فعلت بأخيها. فما الحكم؟
ج: التحريق بالنار معصية ومحرم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن النار لا يعذب بها إلا الله (1) » أخرجه البخاري، فما فعلته هذه الأخت معصية يجب عليها أن تتوب إلى الله منها؛ فإنها أولا عذبت أخاها بالنار والتعذيب بالنار محرم، ثم هي آذت أخاها وأيضا آلمت والدتها وهذا نوع من العقوق. فعليها مع التوبة والاستغفار والندم أن تسترضي والدتها وتستسمحها، أما فعل الأم ونذرها فهذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » أخرجه البخاري، وفيه أيضا عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم (3) » ومن العلماء من يرى الكفارة على من نذر نذر معصية؛ لحديث ورد في ذلك لكنه لم يصح، ولو كفرت لكان أحوط؟ لأنه قد جاء ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " من نذر نذرا لم يسم فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين. . . " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه. ولأن النذر كاليمين فيقاس عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «النذر حلفة» .
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3016) ، سنن الترمذي السير (1571) ، سنن أبو داود الجهاد (2673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/307) ، سنن الدارمي السير (2461) .
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) صحيح مسلم النذر (1641) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3849) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3316) ، مسند أحمد بن حنبل (4/430) ، سنن الدارمي السير (2505) .(63/85)
س: إذا سافرت إلى بلد ولا أدري كم سأمكث في هذه البلد. فهل يجوز لي القصر أم لا؟
ج: إذا سافرت مسافة قصر، ثم وصلت المكان الذي قصدت ولم تجمع إقامة مدة معينة، بل جل مقصودك أن تنهي شغلك وتعود ولا تدري متى تنتهي، اليوم أو غدا فإن لك أن تترخص برخص السفر من القصر والإفطار ونحوها، أما إذا كنت متأكدا من أنك ستقيم أكثر من أربعة أيام، فإنك في حكم المقيم، وليس لك الترخص برخص السفر على الصحيح والله أعلم.(63/86)
س: أنا امرأة أحيانا أذهب إلى بعض الزواجات ليس فيها غناء، ولكن قد يكون فيها نوع من التعري من بعض النساء فهل أستجيب لمثل هذه الدعوات؟
ج: حضور الحفلات التي يحصل فيها منكرات ظاهرة لا يجوز لمن علم بها، إلا إن كان حضوره سيؤثر في تغيير المنكر إما بتغييره هو بنفسه بالنصيحة والكلمة الطيبة والأسلوب الحكيم، أو بكونه إذا حضر استحيا أصحاب المنكرات منه فأخفوا منكرهم، فإن هذا يتأكد عليه الحضور وقد يتعين إنكارا للمنكر، أما من علم من نفسه أنه لا يستطيع الإنكار وإذا حضر فإنه لن يتغير من المنكر شيء فهذا لا يجوز له الحضور؛ لأن في حضوره مع عدم إنكاره إقرار على المنكر وهذا باطل لا يجوز، ومثل هذا إذا حضر حفلا ووجد فيه منكرات لم يعلم بها، فإن الواجب عليه أن ينكر ويناصح فإن تغير المنكر وإلا فليفارق المكان؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 140(63/86)
وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1) ، هذا هو المتعين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » . . .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(63/87)
س: امرأة تقول إن زوجها بعض المرات لا يداوم على الصلوات المكتوبة فما العمل حياله؟
ج: يجب على المسلم أن يحافظ على الصلوات الخمس المفروضة جماعة في المساجد مع إخوانه المسلمين، وأمر الصلاة عظيم فإنها قرينة التوحيد في كتاب الله قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) ، وقد حذرنا الله من إضاعتها فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (2) ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة (4) » وابن مسعود رضي الله عنه يقول: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة مريم الآية 59
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(63/87)
بهن فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم إلى أن قال رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف (1) » أخرجه مسلم.
وغير ذلك كثير من النصوص الدالة على وجوب المحافظة على هذه الصلوات جماعة في المساجد وتحريم التخلف عنها، أما من تركها بالكلية فلم يصلها لا في المسجد ولا في غيره فإن هذا على الصحيح كفر؛ للأدلة الصحيحة الدالة على ذلك ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه.
وواجب هذه المرأة إن كان زوجها يتخلف عن صلاة الجماعة الحرص على مناصحته وتكرار النصيحة له بالأسلوب الطيب والكلمات الحسنة، لعل الله أن يفتح على قلبه فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) ، أما إن كان تاركا للصلاة بالكلية فالواجب مفارقته ولا يحل لها أن تبقى معه والعياذ بالله، ويجب دعوته ونصحه؛ لعل الله أن يهدي قلبه ويعود إلى رشده.
__________
(1) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم 1046.
(2) سورة التحريم الآية 6(63/88)
س: عندنا إمام مسجد يسرع في الصلاة فلا ندرك أن نقول أذكار الركوع والسجود. فماذا نفعل؟(63/88)
ج: الواجب على هذا الإمام وغيره الاطمئنان في الصلاة. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل الذي أساء في صلاته، قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل، ثم قال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة واقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما تم اسجد حتى تطمئن ساجدا (1) » . . . الحديث. أخرجه البخاري وغيره. فعليكم نصح هذا الإمام وإخباره أن الطمأنينة ركن في الصلاة، خوفوه بالله وقولوا له: إن هذه صلاتنا أمانة في عنقك فاطمئن في الصلاة، فإنه جاء في سنن أبي داود والترمذي ومسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن ". اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين، (2) » وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (757) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (207) ، سنن أبو داود الصلاة (517) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .(63/89)
س: ما صحة ما يذكر أنه حديث قدسي جاء في معناه: «كذب عبدي حينما قال: يحبني فإذا جن الليل نام عني، أليس الحبيب يحب أن يخلو بحبيبه» ؟! .
ج: هذا الخبر أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الحسين بن زياد قال: أخذ الفضيل بن عياض بيدي فقال: يا حسين ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول الرب: من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟! ، هاأنذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل مثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري، غدا أقر أعين أحبائي في جناتي " انتهى من الحلية، وقد أورده الإمام الذهبي في(63/89)
السير بإسناده عن الفضيل بنحوه إلى قوله: " نام عني ".
وهذا كما هو ظاهر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا من كلام أصحابه رضي الله عنهم وإنما هو من قول الفضيل بن عياض رحمه الله، وخبر مثل هذا لا يثبت إلا بنص من كتاب أو من صحيح السنة؛ لأن مثله لا يعلم إلا من جهة الوحي. نعم، نزول الرب عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا وتكليمه لعباده ثابت بالأحاديث الصحيحة المرفوعة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ (1) » متفق عليه، واللفظ للبخاري. وإثبات هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، لكن بقية ما جاء في خبر الفضيل لا أعلم له أصلا. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي كتاب الدعوات (3498) ، سنن أبو داود السنة (4733) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1484) .(63/90)
س: ما حكم الالتفات في الصلاة؟ وهل يقتصر في ذلك على الضرورة فقط؟
ج: الالتفات في الصلاة لغير حاجة مكروه؛ لما في البخاري «عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: " اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد (1) » . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة (2) » أخرجه الترمذي وعند النسائي وأبي داود وفي مسند الإمام أحمد والدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الله عز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (751) ، سنن الترمذي الجمعة (590) ، سنن النسائي السهو (1196) ، سنن أبو داود الصلاة (910) ، مسند أحمد بن حنبل (6/106) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (589) .(63/90)
وجل مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه (1) » .
أما إذا كان لحاجة فلا بأس؛ «لفعل أبي بكر رضي الله عنه حين صلى بالناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الصفوف فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثروا التصفيق التفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يده يحمد الله، وتأخر في الصف (2) » . الحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
ولحديث سهل بن الحنظلية قال: «ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب (3) » قال أبو داود: " وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس " أخرجه أبو داود. لكن إن استدار بجملته أو استدبر القبلة في غير شدة الخوف بطلت صلاته إجماعا، والواجب على المسلم أن يكون خاشعا في صلاته، مخبتا لربه، متذللا بين يديه، يرجو ويطمع قبول العبادة، ويخاف ويخشى ردها، جعلنا الله وإياكم من المقبولين الفائزين.
__________
(1) سنن النسائي السهو (1195) ، سنن أبو داود الصلاة (909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/172) ، سنن الدارمي الصلاة (1423) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1234) ، صحيح مسلم الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (784) ، سنن أبو داود الصلاة (940) ، مسند أحمد بن حنبل (5/338) ، موطأ مالك النداء للصلاة (392) .
(3) سنن أبو داود الصلاة (916) .(63/91)
س: كنت أرغب في شراء عقار من شخص ما واجتمعت به واتفقنا على السعر ولكن لم أعطه عربونا، ولم نتكاتب، وكان هناك شاهد واحد فقط، وفي اليوم الثاني تراجعت عن الشراء، وهو الآن يطالبني بالعربون، فما الحكم؟(63/91)
ج: ما دام أنك طلبت من هذا الشخص العقار المشار إليه ورضي هو ببيعه لك واتفقتما على الثمن فإن هذا العقد صحيح ماض، والشاهدان إن وجدا فهو أكمل في العقد لأجل التوثيق، ولا يشترط لصحة العقد في نفسه أن تكون هناك مكاتبة أو عربون، كل هذه أمور لأجل التوثيق لا تؤثر في صحة العقد، المهم أنك اشتريت العقار ورضي هو ببيعه واتفقتما على السعر وتفرقتما من مجلسكما على ذلك، فعلى هذا فإن العقد تام شرعا؟ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) ولما ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارا (2) » . قال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه " فيدل هذا الحديث مع فعل ابن عمر رضي الله عنهما على أن العقد يلزم بالتفرق. وليس لك الرجوع عنه بعد التفرق إلا أن يرضى صاحبك بإقالتك، فإن أقالك فهو له، وهو محسن إليك في هذا، وإن لم يرض فإن العقد لازم لك ولا بد أن تدفع ثمن العقار وتتسلم العقار منه، هذا من الناحية الشرعية. أما إن كان الأمر فيه خصومة بينكم فإن المرجع في ذلك هو المحاكم الشرعية.
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) صحيح البخاري البيوع (2107) ، صحيح مسلم البيوع (1531) ، سنن الترمذي البيوع (1245) ، سنن النسائي البيوع (4473) ، سنن أبو داود البيوع (3454) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) ، موطأ مالك البيوع (1374) .(63/92)
س: ما حكم سجود التلاوة وهل يلزمه الوضوء واستقبال القبلة؟(63/92)
ج: للعلماء قولان في هذه المسألة: فمنهم من أوجبه مستندا إلى ظاهر الأمر في الآيات التي تأمر بالسجود وهذا هو رأي الحنفية ومن تابعهم، والجمهور على أنه سنة ودليل السنية ما أخرجه البخاري رحمه الله: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه " قال البخاري رحمه الله: وزاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: «إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء (1) » . . . " ويشرع لمن أراد السجود سجود التلاوة أن يكون على أكمل الأحوال متطهرا مستقبلا القبلة، هذا هو الأكمل والأفضل، وهناك من اشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة من النية ونحوها؟ لكن الصحيح عدم اشتراطها، وإن كان الأكمل الإتيان بها؟ لأنه لم يدل على اشتراطها كتاب ولا سنة ولا إجماع. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1077) .(63/93)
س: ما حكم المفاخذة بين الزوجين وهل عليهما غسل؟
ج: للزوج أن يقبل زوجته ويباشرها بحائل وبدون حائل ويجامعها، فإن حصل منه المباشرة بالفخذ ولم ينزل وأيضا لم يولج فلا غسل عليه؛ لعدم موجبه وهو الإيلاج أو الإنزال. وكذلك الأمر بالنسبة للزوجة إذا لم تنزل حال المفاخذة، فلا غسل عليها. والله أعلم.(63/93)
س: ما فضل متابعة الإمام في تكبيرة الإحرام؟
ج: لا أعلم في فضل إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام حديثا إلا ما أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا: «من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق (1) » لكنه لا يصح مرفوعا، وقد روي موقوفا على أنس رضي الله عنه، لكن مما لا شك فيه أن المحافظة على إدراكها مع الإمام أكمل وقد كان هذا دأب السلف الصالح؛ لأن في ذلك تحصيل أجر الجماعة من مبدئها حتى نهايتها، وبالحرص عليها يحصل التبكير إلى الصلاة وهو مندوب، فالحرص على إدراك تكبيرة الإحرام والمحافظة على ذلك فيه تحصيل لمنافع شرعية واتباع لسير السلف الصالح، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (241) .(63/94)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 3236
السؤال الرابع: هل يستطيع المسلم أن يمس المصحف أو يصلي إذا نظر إلى عورته وهو متوضئ؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
نعم يجوز، وليس النظر إلى العورة من نواقض الوضوء. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/95)
من الفتوى رقم 11198
السؤال الأول: ما حكم غسل بعض الأعضاء بالصابون بعد الوضوء وحلق الشعر وقص الأظافر بعد الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا توضأ الإنسان ثم غسل بعض أعضائه بالصابون أو حلق شعره أو قلم أظافره فإنه لا ينتقض وضوءه بذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/96)
من الفتوى رقم 10792
السؤال الأول: هل يعد تقليم الأظافر من نواقض الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(63/96)
تقليم الأظافر ليس من نواقض الوضوء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/97)
من الفتوى رقم 6505
السؤال السابع عشر: توضأت للصلاة وحملت طفلا ووسخ ثوبي بالبول وغسلت مكان البول وصليت دون أن أعيد الوضوء فهل صلاتي صحيحة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
صلاتك صحيحة؛ لأن ما أصابك من بول الطفل لا ينقض الوضوء وإنما يجب غسل ما أصابك منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/97)
من الفتوى رقم 7726
السؤال الثالث: بحكم عملي في صيدلية وبها عطور وعند البيع يجرب الناس جودة هذه العطور من زجاجات اختبار نسميها تسترات وقد تصاب يداي من هذه العطور أثناء البيع وأنا متوضئ فهل ينقض الوضوء في هذه الحالة نرجو الإفادة وجزاكم الله عنا كل خير؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا ينتقض الوضوء بما يصيب اليدين أو غيرهما من العطور.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/98)
فتوى رقم 10552
س1: النظر بشهوة أو بدون هل يفسد الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
مجرد النظر بشهوة أو بدونها لا ينقض الوضوء.
س2: يحصل أحيانا أثناء وجودي مع أهلي في سيارتي وذهابي في نزهة أن يخرج من أحد الأطفال بلل من بول أو ما شابه ذلك على ملابس إحدى النسوة ويكون كثيرا ويحتاج لتغيير الثوب ويصادف حلول وقت الصلاة مثل المغرب أو العصر ولا تستطيع المرأة أن تغير ثوبها فهل يجوز لها ترك الصلاة حتى العودة للمنزل وهل ينتقض الوضوء بحصول النجاسة على الثياب أو البدن؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
وقوع النجاسة على الملابس بسبب ملامسة الأطفال بعد ابتلال ملابسهم ببول ونحوه لا ينقض الوضوء وإنما يجب غسل ما أصاب من البدن أو الملابس ثم الصلاة بها ولا يجوز تأخير(63/99)
الصلاة عن وقتها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/100)
من الفتوى رقم 6109
السؤال الخامس: ما الذي يوجب الاغتسال على المسلم، وما كيفيه الغسل، وهل يجب ألا يلمس الماء المستعمل الماء الأصلي للوضوء، وإذا لمسه فهل يصح تكملة الغسل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
مما يوجب الغسل على المسلم خروج المني في النوم، وتغييب حشفة الذكر في الفرج ولو لم ينزل مني، ونزول المني(63/100)
يقظة بلذة ولو بدون جماع، وحيض امرأة ونفاسها، فيجب عليها الغسل إذا انقطع الدم، وإن وقع في الماء الذي يغتسل منه رشاش من المستعمل صح تكميل الغسل منه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/101)
من الفتوى رقم 7580
السؤال الثالث عشر: صديق لي سألني، وقال: عندما يستيقظ في الصباح من النوم يجد بعض الندى في سرواله، هل يجوز له أن يتوضأ ويصلي أو يغتسل كل يوم، والبعض يقول: بأن البرد هو الذي يعمل له هذا، ولكنه يقول: إنه على هذه الحال صيفا وشتاء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ليس عليه غسل الجنابة حتى يعلم أنه مني. وإنما عليه(63/101)
الاستنجاء والوضوء الشرعي ويغسل ما أصابه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/102)
من الفتوى رقم 6320
السؤال السابع: حكم من استيقظ من نومه وشك في أنه قد احتلم فنظر في ملابسه الداخلية فلم يجد منيا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الأصل أنه لا يجب عليه الغسل، واليقين لا يرتفع بالشك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/102)
من الفتوى رقم 13595
السؤال الثاني: امرأة تشك كثيرا في الليل أنها جنب بدون أن يمسها زوجها تشك فقط، حتى أنه في بعض الأحيان تشك بهذا وهي مستيقظة وهي حائرة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ليس على المرأة التي تشك في وقوع الجنابة غسل بمجرد الشك؛ لأن الأصل عدم الجنابة. كما أن الأصل براءة الذمة من وجوب الغسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/103)
من الفتوى رقم 6663
السؤال الرابع: يخرج مني مني مع البول وبعده وبدون(63/103)
شهوة ولا يتحرك البشر هل يجب علي الغسل وهل يعد نجاسة أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ما يخرج منك مع البول بدون شهوة ودي نجس كالبول ولا يجب عليك الغسل منه ويجب أن تغسل مكانه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/104)
فتوى رقم 9650
س: إذا جامع الرجل زوجته وتلوث الثوب والفراش من أثر الجماع فما الحكم في ذلك وهل يجب على الرجل أن يغتسل بعد كل جماع؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
أولا: يجب عليه أن يغسل ما أصاب الثوب والفراش من(63/104)
أثر الجماع، لما في ذلك من إفرازات الفرج ورطوباته المختلطة بالمني.
ثانيا: إذا غابت حشفة ذكر الرجل في فرج المرأة وجب الغسل ولو لم ينزل، ويجزئ الغسل مرة للجماع مرتين أو أكثر لزوجة أو أكثر، لما ثبت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يطوف على نسائه بغسل واحد (1) » . رواه مسلم وأصحاب السنن، وفي رواية لأحمد والنسائي «في ليلة بغسل واحد (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 3 \ 225، ومسلم 1 \ 171، وأبو داود 1 \ 56، والنسائي 1 \ 144 وابن ماجه 1 \ 194.
(2) أحمد 3 \ 166، والنسائي 1 \ 143، وابن ماجه 1 \ 194.(63/105)
من الفتوى رقم 8143
السؤال الخامس: غياب الحشفة بدون لذة يوجب(63/105)
الغسل أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
نعم يوجب الغسل على الرجل والمرأة للأدلة الواردة في ذلك، ومنها ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل (1) » . ولما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " زاد مسلم: " وإن لم ينزل (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (349) ، سنن الترمذي الطهارة (108) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (608) ، موطأ مالك كتاب الطهارة (106) .
(2) صحيح البخاري الغسل (291) ، صحيح مسلم الحيض (348) ، سنن النسائي الطهارة (191) ، سنن أبو داود الطهارة (216) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (610) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الطهارة (761) .(63/106)
فتوى رقم 11063
س: ما حكم من نام مع أهله في فراش واحد ولكن لم يحصل بينهما جماع علما بأنه سوف يمسها بشهوة ولكن لم يخرج منه شيء (أي مني) هل يجب عليه الاغتسال في هذه(63/106)
الحالة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا نام الرجل مع زوجته ومسها بشهوة من غير إيلاج في الفرج ومن غير إنزال فلا يجب عليه الغسل.
س: أرجو أن تشرحوا لنا ما الفرق بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر، أضيف إلى ذلك إذا استحلم الإنسان وخرج منه شيء من المني يسير جدا نقطة أو نقطتان هل يجوز إزالتهما بالماء فقط دون أن يغتسل غسل الجنابة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الحدث الأصغر هو الذي ينقض الوضوء فقط كالنوم والتبول وأكل لحم الجزور ونحوها، والحدث الأكبر هو الذي يوجب الغسل كخروج المني دفقا بلذة وتغييب الحشفة في الفرج. وأما إذا احتلم الإنسان ورأى الماء وهو المني ولو نقطة واحدة فإنه يجب عليه الاغتسال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/107)
فتوى رقم 13089
س: عند عقد النكاح هل هناك آيات يتعوذ بها عند العقد. وأيضا عند إرادة تسمية المولود كذلك هل هناك آيات يتعوذ بها. عليك أن تفصل لي جدا، وأيضا عند غسل الجنابة كذلك هل هناك آيات يقولها في غسل الجنابة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
أولا: يستحب أن يخطب قبل عقد النكاح بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه التي قال: «علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " ويقرأ ثلاث آيات:، وقوله
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1105) ، سنن النسائي الجمعة (1404) ، سنن أبو داود النكاح (2118) ، سنن ابن ماجه النكاح (1892) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) ، سنن الدارمي النكاح (2202) .(63/108)
تعالى:.
وقوله عز وجل: (4) » رواه الترمذي، ورواه أيضا أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي.
ثانيا: يسن تسمية المولود باسم حسن وذلك يوم سابعه ويعق عن الغلام شاتان متكافئتان وعن البنت شاة واحدة، والأفضل في اليوم السابع، لما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى (5) » وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ثالثا: المشروع عند الاغتسال من الجنابة أن يسمي، ثم يستنجي، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يغتسل للجنابة، ثم يقول بعد الانتهاء: " أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ". وهذا الذكر يقوله بعد كل وضوء أو غسل واجب.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
(2) سورة النساء الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(3) سورة الأحزاب الآية 70 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}
(4) سورة الأحزاب الآية 71 (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
(5) سنن الترمذي الأضاحي (1522) ، سنن النسائي العقيقة (4220) ، سنن أبو داود الضحايا (2837) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3165) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) ، سنن الدارمي الأضاحي (1969) .(63/109)
وليس هناك آيات يتلوها عند تسمية المولود أو عند غسل الجنابة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/110)
من الفتوى رقم 19896
السؤال الثاني عشر: إذا نزل الماء من المرأة بغير جماع أو احتلام فهل يجب الغسل وهل تشترك المرأة في تقسيم الماء الخارج منها مع الرجل كالمني والمذي والودي؟ أم أن ماءها يوجب الغسل إذا خرج على أي حال؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا نزل من المرأة مني بلذة وجب عليها الغسل ولو كان خروجه منها بغير جماع ولا احتلام، وإذا نزل منها مذي وجب عليها غسل فرجها، وإذا نزل منها ودي فحكمه حكم البول(63/110)
يجب عليها غسله. فماؤها ينقسم انقسام ماء الرجل، ويجب عليهما الوضوء إذا أرادت أن تفعل ما يتوقف على الطهارة كالصلاة ونحوها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/111)
فتوى رقم 9345
س: هل للجنب أن ينام قبل الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا إثم عليه إذا نام قبل أن يتوضأ، ولكن الأفضل أن يتوضأ قبل أن ينام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/111)
فتوى رقم 2550
س: أفادني أحد الإخوة بأن المسلم إذا جامع زوجته يجب عليه أن يتبول قبل أن يغتسل وإلا فإنه يبقى جنبا؛ لأن السائل المنوي في القضيب لا يزيله إلا البول كما أخبرنا ذلك الأخ المسلم فما رأي سماحتكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
بل غسله صحيح وإن لم يتبول وإذا تبول بعد ذلك وخرج منه شيء من المني وحده أو مع البول من دون شهوة لم يجب عليه غسل ثان ويكفيه الاستنجاء والوضوء الشرعي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/112)
فتوى رقم 13466
س: إذا نام إنسان بعد صلاة الفجر واحتلم (تحلم) فهل في ذلك الوقت يقوم ليستحم رغم أنه لديه متسع من الوقت ليريح جسمه أي ليس في وقت صلاة وأقصد بعد صلاة الفجر أي في يوم من أيام شهر رمضان المبارك؟ أرجو الرد على سؤالي أثابكم الله وحفظكم.؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا يجب على من احتلم بعد صلاة الفجر أن يغتسل قبل وقت صلاة الظهر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/113)
من الفتوى رقم 13498
السؤال الثاني: رجل جامع امرأته ثم اغتسل وبعد ذلك خرج مع البول بقايا من المني فهل يعيد الغسل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يكفي من اغتسل للجنابة ثم خرج منه مني بعد الغسل غسله ذلك، ولا يلزمه إعادة الغسل، وإنما يجب عليه الاستنجاء والوضوء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/114)
من الفتوى رقم 9836
السؤال الثاني: ما الحكم في خروج سائل منوي عند مشاهدة امرأة بشهوة وهل يجب الغسل أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت وجب عليك الغسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/115)
من الفتوى رقم 8817
السؤال الثاني: أنا متزوج فنمت عند زوجتي حتى رأيت في منامي كأني أجامع وخرج المني فلما استيقظت من منامي اغتسلت واستنجيت وأتيت إلى زوجتي وجامعتها هل علي ذنب(63/115)
أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت فليس عليك إثم في الاحتلام وعليك الغسل منه. كما أن عليك الغسل ثانيا من جماعك لزوجتك، ولو أخرت غسل الاحتلام حتى جامعت زوجتك واغتسلت لهما غسلا واحدا فلا بأس.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/116)
من الفتوى رقم 11115
السؤال الثاني: بعد يومين من إجراء العملية احتلمت وخفت لو اغتسلت الضرر دون أن أسأل الطبيب إن كان يضر أم لا، ولكني عمدت إلى حصى في فناء المستشفى وأخذت منها بكيس وكنت أتوضأ لقدرتي على ذلك ثم أتيمم عن الغسل واستمررت على هذه الحالة يومين ثم اغتسلت ولكني(63/116)
استمررت على الوضوء والتيمم معا حيث إن الماء لم يصل إلى كل جسدي فهل ما عملته هذا صحيح أم يلزمني الإعادة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
تركك الغسل لجميع بدنك بعد أن احتلمت لا يجوز، بل يجب عليك أن تغتسل وتجنب الماء موضع العملية الذي تخشى منه الضرر. فيجب عليك إعادة الصلوات التي صليتها قبل أن تغتسل، وعليك والحال ما ذكر التيمم عن موضع العملية الذي لم يصله الماء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/117)
من الفتوى رقم 11112
السؤال الأول: ما حكم خروج قطرة مني واحدة عن شهوة وهل يعتبر ذلك جنابة يغتسل منها الشخص أم أنه يجب أن يتوضأ وضوءا عاديا مع العلم بأن خروج هذه القطرة لم يكن عن طريق الجماع؟(63/117)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا خرج المني دفقا عن شهوة وجب الغسل ولو كان الخارج منه قطرة واحدة وبدون جماع، ولا يكفي الوضوء بل يجب عليه غسل الجنابة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/118)
فتوى رقم 12102
س: أنا شاب في السادسة عشرة من العمر أي أنا الآن في سن البلوغ وفي كل ليلة عادة أو كل يومين أثناء النوم أفاجأ في الصباح أي وقت صلاة الفجر بالاحتلام وهو ما يحصل دائما للشاب البالغ وعادة هذه الحكاية كل ليلة أو بعد يومين وأذهب للمسجد وأتوضأ وأصلي وأنا على هذا الحال ولا أغتسل قبل الصلاة؛ لأن الوقت يكون ضيقا والجو يكون باردا جدا ولا أعلم إذا كانت تجوز صلاتي وأنا في هذا الحال(63/118)
أم لا؟ هل تجوز الصلاة بغير اغتسال أم لا؟ وما علاج تكرار هذا الاحتلام؟ أفيدونا في أقرب وقت أفادكم الله ووفقكم إلى ما فيه الخير؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إن الاحتلام في المنام مع خروج المني يوجب الغسل ولو تكرر، ولا يكفي الوضوء للصلاة بعد الاحتلام، بل لا بد من الاغتسال لجميع البدن. ومن صلى قبل الاغتسال فعليه الإعادة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/119)
فتوى رقم 13138
س: كنت مسافرا فاحتلمت وهناك الماء الذي أغتسل به للجنابة ولكن ليس هناك المكان ماذا أفعل بالنسبة للصلاة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله(63/119)
وصحبه، وبعد:
يجب عليك الاغتسال إذا خرج منك المني في الاحتلام، وعدم وجود مكان مخصص للاغتسال لا يعتبر عذرا لك في تركه، وبإمكانك أن تطلب من أحد أصحابك أن يسترك برداء وتغتسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/120)
من الفتوى رقم 13124
السؤال الثاني: قد أحلم في الليل بأشياء تجعلني أتنجس في منامي فأصبح وتعلمون البرد في هذه الأيام قارسا فأذهب إلى المدرسة ولا يتسنى لي الاستحمام فأقرأ القرآن في الفصل وأصلي الفجر والظهر نجسا فهل علي شيء فيما ذكرت؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(63/120)
يجب عليك أن تغتسل بعد الاحتلام إذا رأيت المني وكان عندك ما تسخن به الماء، ويجب عليك إعادة الصلاة التي صليتها بدون غسل، ولا يحل لك أن تمس المصحف وأنت جنب ولا أن تقرأ القرآن قبل الاغتسال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/121)
من الفتوى رقم 9891
السؤال الثاني: هل يجب على المحتلم الغسل كغسل الجنابة، وما كيفية غسل الجنابة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجب عليه غسل الجنابة إذا أنزل باحتلامه، أما كيفية غسل الجنابة فيجزئه أن يعم جسمه بالماء، ولكن الأفضل أن يزيل عن نفسه الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعر رأسه ثم يصب ثلاث غرفات من الماء على رأسه ثم يفيض الماء(63/121)
على سائر جسده.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/122)
من الفتوى رقم 8541
السؤال الثاني: لقد احتلمت حتى ابتل سروالي الداخلي فلما قمت عند الفجر غسلت آثار المني فقط وتوضأت وصليت صلاة الفجر وقرأت القرآن، ولكن لما طلع النهار ارتابني الشك فيما عملت فاغتسلت كاغتسال المجنب وأعدت الصلاة من جديد. فما حكم ذلك؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا كان الواقع ما ذكر من وجودك أثر المني بعد الانتباه من النوم فقد أسأت في تأخير الغسل وصلاتك وقراءتك القرآن وأنت جنب، وعليك التوبة إلى الله سبحانه من ذلك. ولا تعد لمثل هذا. وما دمت قد اغتسلت وأعدت صلاتك تلك التي صليتها(63/122)
قبل الاغتسال فلا شيء عليك.
السؤال الثالث: إذا احتلمت ولكني سرعان ما تنبهت إلى ذلك فمنعت نزول المني على أثوابي وأفرغت ذلك في المرحاض هل علي الغسل أم الوضوء فقط للصلاة ولقراءة القرآن؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
يجب عليك الغسل من ذلك سواء أفرغت المني في ثيابك أو في المرحاض؛ لأن الحكم في الاحتلام معلق بخروج المني لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء من الماء (1) » ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا لما «سألته أم سليم رضي الله عنها قائلة: " إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت " فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم، إذا هي رأت الماء (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسلم 1 \ 185.
(2) مسلم 1 \ 172.(63/123)
من الفتوى رقم 8459
السؤال الثاني: إنني أجد في نومي شيئا ينجسني كل ليلة فماذا أفعل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وبعد: إذا كان ذلك الشيء منيا فاغتسل منه غسل الجنابة، وليس هو بنجس على الصحيح من قولي العلماء، وإن كان مذيا فاغسل ذكرك كله وخصيتيك وما أصاب بدنك وثوبك منه. وليس عليك غسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/124)
فتوى رقم 7770
س: تزوجت منذ عدة شهور من بنت عمي ومن فرط حبنا لبعض لقد اعتدنا على النوم أحيانا كثيرة في أحضان بعضنا بدون ملابس لذا، أحب أن أسأل في أي حالة من الأحوال الآتية التي لا يقع فيها إيلاج تكون صلاة الصبح صحيحة بدون غسل: 1- عدم تلامس عضوي التناسل.
2 - تلامس عضوي التناسل فقط.
3 - تلامس عضوي التناسل ونزول المذي فقط من طرف واحد أو الطرفين معا.
أرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا على صفحات جريدتكم العامرة بالحلول الوافية لهذه التساؤلات آنفة الذكر مع فائق شكري وتقديري لكم والله يحفظكم؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت ففي الحالة الأولى لا يجب الغسل. وفي الحالة الثانية لا يجب الغسل أيضا إذا لم يحصل إيلاج تغيب به حشفة الذكر في الفرج وإلا وجب الغسل.(63/125)
والحكم في الحالة الثالثة كالحكم في الحالة الثانية إلا أنه يجب فيها على الرجل غسل الذكر والأنثيين من أجل نزول المذي، ويجب على المرأة غسل قبلها - فرجها - كذلك إذا نزل منها المذي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/126)
من الفتوى رقم 8780
السؤال الثاني: إنه يخرج مني مني بعض الأوقات عند التبرز ويكون الذكر غير منتصب هل يلزم الإنسان أن يغتسل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت فليس عليك غسل، وإنما يجب الغسل إذا خرج المني بشهوة.
السؤال الثالث: هل يلزم الإنسان أن يغتسل بعد التحلم(63/126)
حيث إنه إذا استيقظ من النوم وجد السائل بدون أن يرى أحدا في منامه؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا كان السائل الذي وجده منيا وجب عليه الغسل سواء رأى أحدا في منامه أم لا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/127)
فتوى رقم 8891
س: بالنسبة للسائل الأصفر الذي ينزل من المرأة سواء كانت بكرا أو متزوجة بدون احتلام فما حكمه هل تغتسل منه؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(63/127)
إذا كان هذا السائل مذيا لم يجب عليها الغسل، وإذا كان منيا وكان نزوله عن شهوة أو احتلام وجب عليها الغسل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(63/128)
بحث في زيارة القبور وأحكامها
للشيخ يوسف بن صالح البرقاوي
مقدمة:
في بداية الدعوة الإسلامية نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور، والنهي عام للرجال والنساء، وذلك سدا للذريعة؛ لأن العرب كانت في الجاهلية تتسخط على أقدار الله عند المصيبة، وكانوا يقولون هجرا كقولهم يا خيبة الدهر؛ ولهذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من زيارة القبور؛ لقربهم من الجاهلية، وخشية الفتنة بها، كما افتتن بها أهل الكتابين من يهود ونصارى، وعظموا القبور حتى عبدت من دون الله.
ولما تمكن الإيمان في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، واستقرت عقيدة التوحيد في نفوسهم، وتعلقت قلوبهم بالله وحده عبادة وتعظيما لشرعه القويم وامتثالا لدينه الحنيف، أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيارة الشرعية للقبور، وخص بذلك الرجال دون النساء، كما وردت الأدلة الشرعية في منعهن زيارة القبور كما سيأتي.(63/129)
دليل النسخ:
- عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (1) » رواه مسلم.
- عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور (2) » رواه ابن ماجه.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال صلى الله عليه وسلم: " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت (3) » رواه مسلم.
علة المنع في بادئ الأمر:
جاء في (نزهة المتقين) قال الشارح: في الأحاديث المتقدمة جواز النسخ في الشريعة الإسلامية، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة القبور أول الأمر؛ لقرب عهد الناس بالجاهلية، وما كان فيها من وثنية، وما كانوا يفعلونه عند القبور من نياحة، وغير ذلك مما حرمه الإسلام، ثم نسخ التحريم بعد أن اتضحت عقيدة التوحيد، ورسخت قواعد الإسلام، واستبانت أحكامه. وعلى المؤمن أن يذكر نفسه بالموت وأنه سيكون في عداد الموتى إن عاجلا أو آجلا. ومن المأثور عن عمر بن
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن النسائي الجنائز (2033) ، سنن أبو داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (5/350) .
(2) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1570) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(63/130)
الخطاب رضي الله عنه قوله: كفى بالموت واعظا يا عمر (1) .
عصر الصحابة متميز عن سائر العصور:
كان عصر الصحابة رضي الله عنهم متميزا عن العصور التي خلفته فلم يعرف أهله البدع ولا الخرافات والضلالات؛ وذلك لصفاء عقيدتهم المستمدة من الكتاب العظيم والسنة المطهرة، فعهد الصحابة كان عهدا مثاليا في تطبيق الإسلام والالتزام بشرع الله القويم والتمسك بدينه الحنيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية. " والمقصود أن الصحابة رضوان الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورا من الخوارق، فظنوها أنها من جنس آيات الأنبياء (أي المعجزات) وكانت من أفعال الشياطين، كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك. فهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، وكذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية، فيسمع ويرى أمورا فيظن أنه رحماني وإنما هو شيطاني، فيتركون البين الحق الذي لا إجمال فيه. وكذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به أو يحمل إليهم صوتا يشبه صوته؛ لأن الذين رأوه علموا أن هذا شرك لا يحل. ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم
__________
(1) نزهة المتقين شرح رياض الصالحين، ص 425، ج1.(63/131)
لأصحابه: إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري واستغيثوا بي لا في محياه ولا في مماته، كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول: أنا من رجال الغيب أو من الأوتاد الأربعة أو السبعة أو الأربعين. أو يقول: أنت منهم. إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله أو يخاطبه عند القبر، كما وقع لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره، وعند القبور كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه من رهبانهم " (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية، ص 390، 391، ج 27.(63/132)
زيارة القبور وأنواعها:
لما دخل الخلل في المسلمين بعد العصر الذهبي وهو عصر الصحابة والتابعين اختلط الحابل بالنابل وانعكست الموازين وتغيرت المفاهيم وتشابهت الأمور عند كثير من الناس؛ لجهلهم بعقيدتهم الصحيحة السليمة؛ لذا فقد اجتهد العلماء عبر القرون في بيان الحق من الباطل على ضوء الكتاب والسنة، فوضعوا ضوابط لتمييز المشروع من غير المشروع ومعرفة السنة من البدعة حتى لا يلتبس الأمر على الناس. فرأى العلماء - من خلال الواقع الذي يسير عليه العوام لما دخل النقص فيهم - أن زيارة القبور حسب ما يفعله الناس ويسيرون عليه ثلاثة أنواع: زيارة شرعية،(63/132)
وزيارة بدعية، وزيارة شركية.
قال الشيخ عبد الله بن بليهد - رئيس القضاة في زمانه - في الخطاب الذي ألقاه في الاجتماع الذي عقد بين علماء نجد وعلماء مكة المكرمة، قال رحمه الله: واعلموا أن زيارة القبور على ثلاثة أنواع: شرعية، وبدعية، وشركية. ثم عرفها وفصلها 1 - الزيارة الشرعية:
هي التي القصد منها تذكر الآخرة والدعاء للميت واتباع السنة.
2 - الزيارة البدعية:
التي القصد منها عبادة الله عند القبور كما يفعله كثير من الناس؛ لظنهم أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه في عدة أحاديث النهي عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد.
3 - الزيارة الشركية:
هي التي القصد منها تعظيم القبور ودعاؤها، أو الذبح لها، أو النذر لها، أو غير ذلك من العبادات التي لا تصلح إلا لله. فهذا حقيقة الشرك والأدلة عليه كثيرة جدا وقد تقدم بعضها؛ ولكن لغلبة الجهل وخفاء العلم وبعد العهد بإرشاد النبوة التبس الأمر على أكثر الناس وخفي عليهم ما هو في غاية الوضوح؛(63/133)
لضعف البصائر وغلبة العوائد، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " فإن من لم يعرف الشرك وما ذمه القرآن وعابه وقع فيه وهو لا يدري " (1) اهـ.
أقوال العلماء في المسألة:
قال الشيخ عبد الله بن محمد التميمي رحمه الله: والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور؛ لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور ونهاه أن يقول هجرا، فهذه الزيارة التي أذن الله بها لأمته وعلمه إياها، وهل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. . . إلى أن قال: وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي. ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له، وكان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول: «سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (2) » .
__________
(1) رسالة البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد في عقائد التوحيد ص 13، 14، وص 31، 32.
(2) سنن أبو داود الجنائز (3221) .(63/134)
انعكاس الأمور:
قال الشيخ عبد الله المذكور: فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له (للميت) بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت بالزيارة لسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص ذلك البقعة بالدعاء الذي هو العبادة وحضور القلب عندها خشوعه أعظم منه في المسجد (1) .
__________
(1) رسالة الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة ص39، 40 والمؤلف من علماء القرن الثاني عشر الهجري.(63/135)
الأمور المبتدعة عند القبور أنواع:
قال الشيخ عبد الله بن محمد التميمي: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع:
النوع الأول: هو أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم وهؤلاء من عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت كما يتمثل لعباد الأصنام وهذا يحصل للمشركين وأهل الكتاب.
وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به.
والنوع الثاني: أن يسأل الله بالميت وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة إجماعا، أقول: وسؤال الله بالأموات كأن(63/135)
يقول: أسألك اللهم بحق فلان أو بجاه فلان فهذا محظور.
والنوع الثالث: هو أن يظن أن الدعاء عنده أي القبر مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك، وهذا أيضا من المنكرات إجماعا وما علمت فيها نزاعا بين أئمة الدين، وإن كثيرا من المتأخرين يفعله.
وقال رحمه الله: وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأوثان، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم، وعبادتها وجدت في الأرض من قبل نوح عليه السلام وهياكلها ووقوفها (الوقف) وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في عبادتها عمت الأرض (1) .
كلام ابن تيمية في المسألة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالزيارة الشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلم على الميت، يدعو له سواء كان نبيا أو غير نبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم (2) » وهكذا يقول إذا زار أهل
__________
(1) المصدر السابق، ص 46، 47.
(2) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .(63/136)
البقيع أو زار شهداء أحد أو غيرهم " (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ص148، ج26.(63/137)
الحكمة من زيارة القبور:
وتبين لنا من خلال أقوال الأئمة الأعلام أن زيارة القبور شرعت لأمرين اثنين، أحدهما: تذكير الزائر بالموت. والثاني: إحسان للميت بالدعاء له وسؤال الله بالرحمة والمغفرة.
الأمر الأول: تذكير الزائر بالموت والاعتبار والاتعاظ بحال الميت الذي فارق الدنيا وترك المال والأهل والولد، وأصبح أسير عمله تحت التراب لا يملك من أمره شيئا. ولا شك أن من استعمل عقله وفكر بعمق وتذكر الموت وهو السفر الطويل الذي لا عودة بعده إلى الدنيا. استعد لهذا اليوم وأخذ بأسباب الرحيل وتزود لسفره البعيد بالعمل الصالح، فإنه سيدرك دار السعادة بإذن الله تعالى. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) .
قال الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
فالنجاة بالتقوى؛ لقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (2) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة البقرة الآية 197(63/137)
وثمار التقوى هي الجنة؛ لقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} (1) وآثار التقوى هو العمل. قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) . ولهذا كان من أهداف الزيارة للقبور للرجال تذكر الموت حتى لا يركن الإنسان إلى الدنيا وينسى الآخرة، والأحاديث صريحة في زيارة القبور للعبرة والاتعاظ بالموت ومن ذلك:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات - الموت (3) » قال الصنعاني: والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت.
وقال: وفي رواية للديلمي عن أبي هريرة: «أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيا الله قلبه وهون عليه الموت (4) » .
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (5) » رواه
__________
(1) سورة مريم الآية 63
(2) سورة الزخرف الآية 72
(3) رواه الترمذي، وصححه ابن حبان.
(4) سبل السلام، ص 88، 89، ج 2.
(5) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(63/138)
ابن ماجه.
- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة (1) » رواه ابن ماجه.
الأمر الثاني: الإحسان للميت بالدعاء له والاستغفار له والترحم عليه وسؤال الله له بالمغفرة، والنبي صلى الله عليه وسلم زار القبور وسلم على أهلها ودعا لهم بالمغفرة، وهذه هي الزيارة الشرعية حتى تتأسى به أمته وتتمسك بسنته وهديه.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة وأقبل عليهم بوجهه فقال: " السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر (2) » رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
- وعن بريدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا للمقابر أن يقولوا: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين إنا إن شاء الله بكم لاحقون أسال الله لنا ولكم العافية (3) » رواه مسلم.
__________
(1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/452) .
(2) سنن الترمذي الجنائز (1053) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .(63/139)
زيارة مقبرة البقيع ليلا:
وقد ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام ليلا بعد أن اضطجع في فراشه وأمره أن يزور البقيع ويدعو لهم ففعل. وظنت عائشة أنه ذهب لبعض نسائه فقامت من فراشها وانطلقت(63/139)
في أثره حتى جاء البقيع، فأقام وأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات يدعو لهم. والحديث طويل لا يتسع المقام لنقله ومما جاء في نهايته: قال: «فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت فناداني. . . . فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت: (أي عائشة) قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية (1) » رواه مسلم.
رأي العلماء في زيارة القبور ليلا:
من العلماء من يرى أن زيارة القبور ليلا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وليست مشروعة للناس وذلك سدا للذريعة المفضية إلى مفاسد حتى لا يكون مجال للشيطان في إضلال المسلمين ولربما تمثل الشيطان بصورة الميت المزار أو قلد صوته وطلب منه أن يذبح له أو يدعوه ويستغيث به وهذا ما يفعله الشيطان بأوليائه من عباد القبور وقد حذر من ذلك علماء الإسلام.
قال ابن القيم: " قال شيخنا رحمه الله: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع أن يسأل الزائر الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس، قال:
__________
(1) مختصر مسلم للمنذري، رقم 497، ص 133.(63/140)
وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب، كما يتمثل لعباد الأصنام وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيمثل له الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله " (1) . كل ذلك من وحي الشيطان.
قوله: قال شيخنا هو شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم تلميذه كما هو معلوم.
__________
(1) إغاثة اللهفان، ص 235، 236 ج 1.(63/141)
أدلة تحريم اتخاذ القبور مساجد:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (1) » رواه البخاري.
- قال الشيخ عبد العزيز بن باز: هذا هو الحق لعموم الأحاديث بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك؛ ولأن بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1341) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .(63/141)
بالمقبورين فيها " (1) .
- وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (2) » . رواه البخاري.
- قال ابن حجر. قال الكرماني. مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم (3) .
__________
(1) فتح الباري، ص208، ج3.
(2) فتح الباري، ص200، ج3.
(3) فتح الباري، ص208، ج3.(63/142)
الحج للقبور كفر صريح:
قال ابن قيم الجوزية: وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه " مناسك حج المشاهد " مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام. ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام. ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره، ومن ذلك: تعظيم الموقع في الافتتان بها - بالقبور - ومنها: اتخاذها عيدا والسفر إليها. ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل(63/142)
عندها؛ من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها. وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد. والويل عندهم لقيمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله؛ باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها. وأسهب ابن القيم في ذلك (1) .
__________
(1) إغاثة اللهفان، ص216، ج1.(63/143)
رأي أبي الوفاء بن عقيل في عباد القبور:
قال ابن القيم: ورأيت لأبي الوفاء في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال: " لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها أي (بالطيب) وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب(63/143)
على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف. ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء. . . ". إلخ (1) .
أقول: ما أشار إليه هؤلاء الأئمة الأعلام مما وقع فيه المسلمون من فتنة القبور، وهذا واقع في كثير من بلاد المسلمين فقد شاهدنا ذلك على الواقع ولا ينكره إلا من جهله أو مكابر. والأمر أعظم من ذلك فقد عم الشرك في معظم بلاد المسلمين إلا من رحم الله نتيجة الجهل بعقيدة التوحيد وكثرة الدعاة المضللين للمسلمين، وقد بنيت القباب على الأضرحة، وأقيمت المشاهد على القبور، ولها السدنة والخدام يضللون الناس بخرافاتهم وأكاذيبهم يستقبلون الأموال والنذور، ويتقربون بالذبح لها والسجود على أعتابها والطواف بأحجارها، ويستغيثون برفاتها، ولها مواسم وأعياد في كل عام تقام فيها الاحتفالات والطقوس على المستوى الرسمي والشعبي، وهذا واقع الحال في كثير من البلدان، ولا يخفى على ذوي الأبصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) المصدر السابق، ص213، ج1.(63/144)
حافظ إبراهيم يصف عباد القبور:
فقد وصف الشاعر حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل عباد(63/144)
القبور في بلاد المسلمين وخاطب الشيخ محمد عبده رحمه الله وهو شيخ الأزهر في زمانه وقال: (1) .
إمام الهدى إني أرى القوم أبدعوا ... لهم بدعا عنها الشريعة تعزف
رأوا في قبور الميتين حياتهم ... فقاموا إلى تلك القبور وطوفوا
وباتوا عليها جاثمين كأنهم ... على صنم للجاهلية عكف
وقال:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات
يسعى الأنام لها ويجري حولها ... بحر النذور وتقرأ الآيات
ويقال هذا القطب باب المصطفى ... ووسيلة تقضى بها الحاجات
__________
(1) قرأها على الطلبة أستاذ التاريخ في معهد الدراسات العليا في القاهرة عام 1974 م وسمعها الحضور.(63/145)
شد الرحال إلى القبور حرام شرعا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا (1) » رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والاعتكاف من الأعمال الصالحة. وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى إن مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه. ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا (2) » وكان ابن عمر يفعله، وفي لفظ مسلم: «فيصلي ركعتين (3) » " (4) .
وقال ابن تيمية: " ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف في المسجد الأقصى، ولا للوقوف عند قبر أحد لا من الأنبياء ولا المشايخ ولا غيرهم باتفاق المسلمين؛ بل أظهر قول العلماء: لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور.
وقال: ولكن تزار القبور الزيارة الشرعية ممن كان قريبا
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1193) ، سنن أبو داود المناسك (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (937) ، صحيح مسلم الجمعة (882) ، سنن الترمذي الصلاة (433) ، سنن النسائي الجمعة (1427) ، سنن أبو داود الصلاة (1130) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1145) ، مسند أحمد بن حنبل (2/17) ، موطأ مالك النداء للصلاة (261) ، سنن الدارمي الصلاة (1437) .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 430.(63/146)
(أي قريبا منها) ومن اجتاز بها " (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ص150، ج26(63/147)
تخصيص السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين:
قال ابن تيمية: " وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودا في الإسلام في زمن الإمام مالك وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم فأما هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن ظاهرا ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك. وقال: " ولهذا لما سئل الإمام مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه، وإن أراد القبر فلا؛ للحديث المتقدم: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» (1) .
وقال ابن تيمية: " والإمام مالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه - أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما اتباعا لابن عمر. وقال: ومالك من أعلم الناس بهذا؛ لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة ولهذا كان يحب اتباع السلف في ذلك ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة " (2) .
__________
(1) فتاوى ابن تيمية، ص 386، ج 27.
(2) المصدر السابق، ص 384، ج 27.(63/147)
أعظم مكايد الشيطان لبني الإنسان:
قال ابن قيم الجوزية: ومن أعظم مكايد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانا وبنيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله تعالى، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} (1) {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} (2) {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (3) .
قال ابن جرير الطبري: " وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم فلما ماتوا وجاء من بعدهم آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. قال سفيان عن أبيه عكرمة قال: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام (4) .
__________
(1) سورة نوح الآية 21
(2) سورة نوح الآية 22
(3) سورة نوح الآية 23
(4) إغاثة اللهفان، ص201، 202 ج 1.(63/148)
انتقال أصنام قوم نوح إلى بلاد العرب:
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في بلاد العرب بعد؛ أما ود كانت لكلب في دومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي القلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت " (1) .
وقد شرح الحديث ابن حجر في فتح الباري شرحا وافيا ونسب الرجال الصالحين إلى آبائهم، وكذلك بين الوسيلة التي وصلت بها الأصنام إلى جزيرة العرب، والجان لهم دور في ذلك.
__________
(1) رواه البخاري. فتح الباري، ص 667، ج 8.(63/149)
المحظور فعله عند القبور:
خلاصة القول في المسألة:
أولا: البناء عليها وتجصيصها:
عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(63/149)
رواه مسلم.
وقد أمرنا بهدم ما بني عليها من مشاهد وقباب وأضرحة. فعن أبي الهياج الأسدي قال: " قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » رواه أحمد ومسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/150) .(63/150)
ثانيا: الجلوس على القبر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (1) » رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
قال الشوكاني: وذهب الجمهور إلى التحريم والمراد بالجلوس القعود، والحديث دليل على حرمة الجلوس على القبر.
وعن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر قال: «لا تؤذ صاحب هذا القبر أو لا تؤذه (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (971) ، سنن النسائي الجنائز (2044) ، سنن أبو داود الجنائز (3228) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1566) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(2) رواه أحمد، نيل الأوطار، ص 87، ج 4.(63/150)
ثالثا: الكتابة على القبر:
عن جابر رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه(63/150)
وسلم: " أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ (1) » رواه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وزاد: «وأن يزاد على القبر (2) » . .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2028) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) نيل الأوطار، ص85، ج4(63/151)
رابعا: اتخاذ القبور مساجد:
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد (1) » رواه أحمد.
وعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعوا (2) » رواه البخاري ومسلم. قال ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فلعن اليهود والنصارى؛ إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم. قوله: " يحذر ما صنعوا " جملة مستأنفة من كلام الراوي (3) . .
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (1/405) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) فتح الباري، ص 532، ج1(63/151)
خامسا: الصلاة على القبور:
عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (1) »
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .(63/151)
رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها» رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح (1) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (2) » رواه الترمذي وله علة (3) .
قال ابن تيمية: ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهي عن ذلك لسد ذريعة الشرك.
وقال: قال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، فهذا ينبني على أن المنع يكون لتحريم الصلاة عند القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه.
وذكر الآمدي وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه أي في المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم هذا منصوصا عن أحمد بن حنبل (4) .
__________
(1) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص 31. قال الهيثمي: رجاله ثقات.
(2) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .
(3) قال الصنعاني في سبل السلام، ص 136، ج1. والخلاف في وصله وإرساله.
(4) كتاب الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص 44.(63/152)
سادسا: شد الرحال إليها:(63/152)
تقدم الحديث عن هذا بعنوان مستقل، ولا يمنع من ذكره في هذه الخلاصة:
عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا (1) » ، رواه البخاري ومسلم.
وذكرت في هذا البحث تحت عنوان: " الحج للقبور كفر صريح " ما قاله ابن القيم في إغاثة اللهفان بأن هؤلاء الضلال المشركين شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك وسموه: (مناسك حج المشاهد) وكفى بهذا كفرا وضلالا وردة عن الإسلام.
قال ابن تيمية: وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستزلهم عن إخلاص الدين لربهم إلى أنواع من الشرك.
فيقصدون بالسفر والزيارة رضى غير الله، والرغبة إلى غيره، ويشدون الرحال إما إلى قبر نبي أو عبد صالح، داعين له راغبين إليه.
ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور.
ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت.
ومن شيوخهم من يقصد حج البيت فإذا وصل إلى المدينة رجع مكتفيا بزيارة القبر، وظن أن هذا أبلغ (2) . .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 457(63/153)
سابعا: تقديس المكان والبقعة:
فعباد القبور يقدسون المكان والبقعة عند الأضرحة والمشاهد، ويفضلونها على مشاعر المسلمين في الحج، ويتشوقون للسفر إليها؛ لتعلق القلوب بها وحبهم لها، كما يشتاق أهل التوحيد إلى زيارة البيت العتيق.
قال الشيخ عبد الله بن محمد التميمي رحمه الله تعالى: وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في بيوت الله التي {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (1) ، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (2) ، وآخرون يحجون إلى القبور ويسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموا ذلك منسكا وحجا، فالمعنى واحد. ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا. . . وأسهب في الموضوع (3) .
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) سورة الزمر الآية 45
(3) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة ص 56، 57.(63/154)
ثامنا: اتخاذ القبور عيدا:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (1) » ، رواه أبو داود
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .(63/154)
بإسناد حسن (1) .
وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما (2) : أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها ويدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم (3) » ، رواه في المختارة.
قال ابن القيم: إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتحذير وتقبيح للشرك (4) . .
__________
(1) سنن أبي داود، ص 471، ج1.
(2) علي بن الحسين: هو زين العابدين - رضي الله عنه - أفضل التابعين. فتح المجيد، ص 263.
(3) المختارة: كتاب حديث للحافظ ضياء الدين الحنبلي، أحد الأعلام. فتح المجيد، ص 267.
(4) إغاثة اللهفان، ص 212، ج 1(63/155)
تاسعا: تسريج القبور وإنارتها:
ويحرم تسريج القبور وإنارتها بالشموع وغيره؛ للنهي الصريح في ذلك، ولما فيه من ضياع المال وإنفاقه في الحرام؛ إطاعة للشيطان.(63/155)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » ، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان.
قال ابن القيم: قال أبو محمد المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج على القبور لم يلعن النبي -صلى الله عليه وسلم - من فعله. ولأن فيه تضييعا للمال بدون فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام (2) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في كتاب (تطهير الاعتقاد) : فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، فقد شيد على القبور البناء، وسرجت عليها الشموع، وأرخيت عليها الستور، فيعتقد أن ذلك لجلب خير أو لدفع ضر. وتأتي سدنة القبور ويكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضرر وبفلان النفع. وأسهب في بيان أباطيلهم ودحض خرافاتهم (3) .
أقول: فهؤلاء السدنة الضلال وعباد القبور يضللون الناس بأكاذيبهم وافتراءاتهم بالقصص الملفقة، وهي من وحي الشيطان ونسج الخيال. والعوام يصدقونهم ويسمعون لهم ويتمسحون بهم.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(2) إغاثة اللهفان، ص215، ج1.
(3) فتح المجيد، ص 257 بتحقيق العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز.(63/156)
عاشرا: الذبح عند القبور:
ويحرم الذبح عند القبور، وهو من عادات الجاهلية، كما كانت تفعله عند قبور موتاهم، فيذبحون من البقر والغنم. وجاء الإسلام وحرم الذبح لغير الله تعالى سواء كان الذبح للقبور أو للجان أو للمشايخ الذين يدعون الولاية والكرامة كذبا وزورا، وكذلك الذبح بين يدي السلطان تعظيما له، ويحرم أيضا الذبح عند قدوم الحاج من مكة المكرمة فيذبح على باب داره عند قدومه ويمر على دم الذبيحة، وكذلك ذبيحة الونيسة عند الموت، ويعتقدون أنها تؤنس الميت في قبره إلى غير ذلك من الذبائح المحرمة، وكل ذبح لتعظيم غير الله أو الخوف من مخلوق أو لجلب خير أو دفع ضر كما يفعله عباد القبور؛ فهو شرك أكبر فاعله مرتد عن الإسلام، وذبيحته ميتة لا تؤكل. ولا زالت رواسب الجاهلية ومخلفاتها في نفوس الكثير من الناس؛ لفرط جهلهم بالملة الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام. وفي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقر في الإسلام (1) » ، رواه أحمد وأبو داود، وقال عبد الرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة في الجاهلية " (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولأن الذبح لغير الله، أو باسم غيره، قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام،
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .
(2) نيل الأوطار، ص 97، ج4.(63/157)
فهو من الشرك الذي أحدثوه " (1) .
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) .
قال ابن كثير في تفسيره: يأمره الله تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، أي أخلص له صلاتك وذبحك فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها فأمره الله تعالى بمخالفتهم (4) .
وفي الحديث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات، قال: «لعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من لعن والديه. ولعن الله من آوى محدثا. ولعن الله من غير منار الأرض (5) » ، رواه مسلم.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 256.
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) مختصر ابن كثير للصابوني، ص 639، 640، ج1
(5) مختصر مسلم للمنذري رقم 1261، ص 341.(63/158)
الحادي عشر: دعاء الأموات والاستغاثة بهم:
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال التي لا تصلح إلا لله؛ كالدعاء والنذر والاستغاثة والذبح
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(63/158)
والرجاء والتوكل إلى غير ذلك مما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) .
وقد حذر القرآن الكريم من دعاء غير الله، والاستغاثة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) .
أقوال الأئمة في ذلك:
قال ابن القيم: فمن مفاسد اتخاذ القبور أعيادا: الصلاة إليها والطواف بها، وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها، أوثانهم (4) .
قال ابن تيمية: ومن جهلهم من يتوهم أن زيارة القبور واجبة. وأكثرهم يسأل الميت المقبور كما يسأل الحي الذي لا يموت فيقول: يا سيدي فلان اغفر لي وارحمني، وتب علي، أو
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة الأحقاف الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18
(4) إغاثة اللهفان، ص 312، ج1.(63/159)
يقول: اقض عني الدين وانصرني على فلان، وأنا في حبك وجوارك (1) .
وقال ابن تيمية: ومن أعظم الشرك أن يستغيث الإنسان بميت أو غائب، ويستغيث به عند المصائب، يقول: يا سيدي. كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. . . إلى أن قال: وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، وقد قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (2) {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (3) (4) .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص458
(2) سورة الحج الآية 30
(3) سورة الحج الآية 31
(4) مجموع الفتاوى، ص81، ج27(63/160)
الثاني عشر: الغلو في الصالحين ذريعة الشرك: قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (1)
قال القرطبي: الغلو: هو التجاوز في الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلوا. ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون: غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه إلها.
__________
(1) سورة النساء الآية 171(63/160)
وقال: فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر؛ ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين.
وقال الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا (1)
قال ابن القيم: فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وسطا، وهي الخيار العدول؛ لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها (2) .
قال محمد بن سلطان الحنفي: " وإن من أعظم مكايد الشيطان على بني آدم قديما وحديثا إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم بتغيير اسمه بالتوسل والتشفع ونحوه،
__________
(1) تفسير القرطبي، ص21، ج6
(2) إغاثة اللهفان، ص201، ج1(63/161)
فالمشرك مشرك شاء أم أبى. والزنا زنا وإن سماه جماعا. والخمر خمر وإن سماه شرابا " (1) .
__________
(1) رسالة في حكم الطالب من الميت المدد، ص48(63/162)
الثالث عشر: الحج للقبور والمشاهد:
قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) .
فالحج شعيرة من شعائر الله فرضها الله على عباده الموحدين، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، فمن ابتغى حجا وطوافا وتعظيما وتقديسا لغير بيت الله الحرام، فهو مشرك كافر خارج من الملة المحمدية. فالطواف بالقبور والأضرحة، وتقديس المشاهد والمزارات، والحج إلى مدينة قاديان كما يفعل القاديانية كفر صريح.
قال ابن القيم: وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك، سماه " مناسك حج المشاهد "- كما تقدم- مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) سورة الحج الآية 26(63/162)
الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام (1) . وذكر المفاسد الناجمة عن ذلك.
قال الشيخ عبد الله بن محمد التميمي: " ومن هؤلاء - عباد القبور - من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت، ومنهم من يرجح الحج إلى البيت، لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثا كان كحجة. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم، يعرفون كما يعرف المسلمون بعرفات. ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج. . . إلى أن قال: وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء. . . إلى أن قال: وآخرون قد جعلوا الميت: بمنزلة الإله، والشيخ الحي كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الشيخ الحي، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه. . .، وأسهب في بيان ما هم عليه من الكفر والضلال واستحلال الحرام من أكل النذور وما يذبح للقبور. . . " (2) .
__________
(1) إغاثة اللهفان، ص 216، ج 1.
(2) رسالة الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، ص 58، 59.(63/163)
الرابع عشر: النذور للأضرحة وسدنة القبور.
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1) ،
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7(63/163)
وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) . قال ابن كثير: أي يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر (2) ، وقال الشوكاني: والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه من القرب والعبادات (3) .
قال ابن تيمية: وفي سنن أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، ثم قال: قال علماؤنا لا يجوز بناء المسجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء، لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك، كله نذر معصية (4) .
وقال ابن تيمية أيضا: ولا يشرع لأحد أن يذبح الأضحية ولا غيرها عند القبور، بل نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقر عند القبور. فكيف يتخذ القبر منسكا يقصد النسك فيه؟ فإن هذا من التشبه بالمشركين. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) ، (6) .
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) مختصر ابن كثير، ص 581، ج 3.
(3) فتح القدير للشوكاني، ص 347، ج5
(4) مجموع الفتاوى، ص 77، ج 27.
(5) سورة الأنعام الآية 162
(6) مجموع الفتاوى، ص 495، ج 27.(63/164)
النذر إلى غير المساجد الثلاثة:
قال ابن تيمية: ولو نذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة، أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح، لم يلزمه الوفاء بنذره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا (1) » ، وقال: " وإنما يجب الوفاء بالنذر ما كان طاعة لله " (2) .
أقول: ولو نذر أن يعتكف في مسجد معين في غير المساجد الثلاثة، لم يلزمه الوفاء بالمسجد المعين، وعليه أن يعتكف في أي مسجد كان بدون شد الرحال، ويجزئه ذلك، وهو رأي الجمهور.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) المصدر السابق، ص 334، ج 27.(63/165)
الخامس عشر: عباد القبور صرفوا حق الله لغيره:
خلاصة الخلاصة فإن عباد القبور صرفوا لغير الله تعالى جميع ما شرعه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الشعائر والعبادات التي لا يعظم بها إلا الله وحده. فصرفها عباد القبور للأضرحة والمشاهد وللسدنة المضللين ولمشايخهم المشركين. فجميع العبادات من دعاء ونذر وذبح واستعانة واستغاثة وركوع وسجود، كل ذلك عظموا بها القبور والمشاهد، فشدوا لها الرحال راغبين خاشعين متذللين، فاستغاثوا برفاتها، وسجدوا على أعتابها، وتمسحوا بأركانها، وطافوا بأحجارها؛ راجين(63/165)
النفع منها ودفع الضر، كل هذا فعلوه، وهذا حال عباد القبور والمشاهد قديما وحديثا. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 106(63/166)
أسباب تعظيم القبور والغلو فيها:
عوامل الافتتان بالقبور والأضرحة كثيرة جدا لا تكاد تحصر منها:
1 - الجهل في الدين، وعدم معرفة التوحيد الخالص، وجهلهم بمدلول كلمة التوحيد " لا إله إلا الله "، فمضمونها يجهله الكثير من الناس حتى المنتسبون للعلم. فمضمونها: لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله. ومعظم الناس يفسرونها: بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون إلا الله. وهذا تعرفه عرب الجاهلية، ويسميه العلماء: " توحيد الربوبية "، وأما توحيد الألوهية فهو إفراد الله بالعبادة، لا معبود بحق إلا الله.
2 - الجهل بحقيقة العبادة ومدلولها. فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه مما شرعه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كالدعاء والنذر والنحر، وقد تقدم ذلك قريبا. فالعبادة تبنى على أصلين اثنين: المتابعة وهي الانقياد للسنة، والثاني: إخلاص العبادة لله وحده.
3 - تضليل السدنة للعوام والزوار، ويقصون عليهم أحاديث(63/166)
مكذوبة ملفقة يرفضها كل عاقل، منها: حديث: لو أن أحدكم أحسن الظن بحجر لنفعه. وحديث: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور. وهناك من يروجها ويدعو الناس إليها فيصدقها الطغام والدهماء من الناس. وقد أطال ابن القيم في ذلك (1) .
4 - تعلق الناس بالقبور والأضرحة؛ لاعتقادهم الجازم بأنها تضر وتنفع وتشفع لهم عند الله؛ ولهذا يفعلون للقبور كل محظور يخالف شرع الله القويم، ولهذا تسكن قلوبهم عند الأضرحة، وتخشع عند القبور، وتطمئن نفوسهم عند المقامات والمزارات بجوار الأموات. وهكذا زين لهم الشيطان أعمالهم فأضلهم عن الهدى.
5 - تقليد العوام لهؤلاء المروجين للباطل وأتباعهم، على غير هدى من الله، فصدهم ذلك عن الحق فأعمى أبصارهم. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) .
6 - قلة العلماء العاملين في ميدان الدعوة، وندرة الدعاة الذين يحملون دعوة التوحيد وتبليغها للناس. وهذا الصنف من الدعاة قليل جدا، وإن وجدوا يحاربهم دعاة الضلالة ممن يخالفهم. فدعاة الحق وأنصاره قلة. فأقل ما في الأمر أنهم يقيمون الحجة على خلقه بتبليغهم دعوة الحق.
__________
(1) إغاثة اللهفان، ص 233، ج1 راجعه إن شئت.
(2) سورة التوبة الآية 31(63/167)
7 - ومن أهم العوامل التي تصد دعاة الضلالة بالإضافة إلى جهلهم وعدم قبول الحق، هو ما يجمعونه ويأخذونه من الأموال والنذور التي تهدى للقبور، فجعلهم في سكرة يعمهون، وفي ضلالهم يتيهون.
8 - عدم وجود القوة الرادعة والعقوبة الزاجرة لهؤلاء المخالفين لشرع الله القويم ودينه الحنيف قديما وحديثا. فإن قوة السلطان رادعة لأهل الأهواء أتباع الشيطان، فالقوة تقمع الشر والفساد في الأرض. قال الإمام القرطبي: " روى ابن القاسم قال: حدثنا مالك أن عثمان - رضي الله عنه - كان يقول: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " (1) .
9 - الانقياد الأعمى للشيطان وأوليائه وأتباع الهوى بدون علم ولا وعي، ومن غير هدى ولا بصيرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) .
__________
(1) تفسير القرطبي، ص325، ج6
(2) سورة القصص الآية 50(63/168)
مقتطفات من أقوال الأئمة الأعلام:
الإقسام على الله بمخلوق:
كأن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بحق فلان، أو بجاه فلان أن تغفر لي. فما حكم ذلك؟(63/168)
قال أبو العز الحنفي: ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك.
قال: حتى كره أبو حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك. ولم يكرهه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه. وتارة يقول: أسألك بجاه فلان عندك، أو يقول: أتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده أن فلانا عندك ذو جاه وشرف ومنزلة فأجب دعائي، وقال: وهذا أيضا محذور، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعلوه بعد موته. وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه كما في الاستسقاء وغيره.(63/169)
استسقاء عمر بالعباس:
قال أبو العز الحنفي: فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله. وليس المراد أن نقسم به، أو نسألك بجاهه عندك: إذ لو كان ذلك المراد لكان جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأعظم من جاه العباس (1) ، وذكر
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص 200، 201(63/169)
أبو العز الحنفي بيتين من الشعر:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم السامع (1)
__________
(1) المصدر السابق، ص199(63/170)
كلام الإمام الصنعاني في النذور والذبح للقبور:
قال الإمام الصنعاني: وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها؛ لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، ويجلب الخير ويدفع الشر، ويعافي المتألم ويشفي السقيم، وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه فيحرم، كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه؛ لأنه تقرير للشرك، ويجب النهي عنه، وإبانة أنه من أعظم المحرمات، وأنه هو الذي كان يفعله عباد الأصنام، لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا. وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات، ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات، وينحر في بابه النحائر من بهيمة الأنعام، وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: وقد أشبعنا الكلام في هذا في رسالة: " تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد " (1) .
__________
(1) سبل السلام، ص 111، ج 4.(63/170)
كلام العلامة السهواني الهندي:
قال العلامة السهواني الهندي: وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك، وإخراج صدقة المال، والخضوع والاستكانة عبادة لله - عز وجل - بلا خلاف، ومن زعم أن هناك فرقا بين الأمرين فليهده لنا.
ثم قال: ومن قال: إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر لهم عبادتهم. فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنيع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر بك، لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك. فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من غير اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك. وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت، وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض. وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم (1) .
__________
(1) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، ص 162.(63/171)
كلام الإمام الشوكاني:
قال الإمام الشوكاني: " وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد(63/171)
الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع لا تجد من يغضب لله، ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالما ولا متعلما، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار - ما لا يشك فيه - بأن كثيرا من هؤلاء القبوريين، أو أكثرهم، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق. وهذا من أبين الأدلة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا " (1) .
ثم قال الشوكاني هذين البيتين من الشعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
__________
(1) نيل الأوطار، ص 83، 84، ج 4.(63/172)
لو نارا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
أقول: هذا حال المسلمين قبل مائتي عام كما وصف الشوكاني، فكيف حال المسلمين اليوم؟ فهم لا يحسدون على ما هم عليه، وخصوصا بعد أن غزت المبادئ الإلحادية، والنظم المستوردة بلاد المسلمين: كالشيوعية، والبعثية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والتي أصبحت تحكم الكثير من بلاد المسلمين، فافتتن شباب المسلمين، وهذا هو الواقع الذي لا نحمد عليه. وكانت وفاة الشوكاني بصنعاء اليمن في جمادى الآخرة سنة 1250هـ، فرحمه الله رحمة واسعة (1) .
__________
(1) رسالة شرح الصدور بتحريم رفع القبور، مقدمة الرسالة، ص هـ تاريخ وفاته(63/173)
كلام الإمام النووي:
قال الإمام النووي: وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح لصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة ونحو ذلك. فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا. فإن قصد بذلك تعظيم المذبوح له - غير الله تعالى- والعبادة له كان ذلك كفرا. فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا. ثم قال: وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا: أن ما ذبح عند استقبال السلطان(63/173)
تقربا إليه، أفتى أهل بخارة بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى (1) .
__________
(1) صحيح مسلم شرح الإمام النووي، ص141، ج13(63/174)
كلام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز:
قال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز: وهذا الحديث الصحيح، وما جاء في معناه يدل على تحريم تجصيص القبور والبناء عليها؛ لأن ذلك من تعظيمها، وهو من وسائل الشرك، كما وقع ذلك في كثير من الأمصار.
فالواجب على أهل العلم وعلى جميع المسلمين إنكاره والتحذير منه. وإذا كان البناء على القبر مسجدا صارت المعصية أعظم، والوسيلة به إلى الشرك أظهر؛ ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لعن من اتخذ القبور مساجد، وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (1) » .
سدنة الأضرحة يلهثون وراء مصالحهم:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: " ظن المشركون بأوليائهم أنها تسمع الدعاء وتجيب، فإنهم ليس لهم علم بذلك، لا من طريق حواسهم، ولا من خبر صادق؛ وإنما هو مما يشيعه السدنة ترويجا لتجارتهم الخاسرة. ويزيد الجاهلين تعلقا بأوليائهم من
__________
(1) فتح الباري، ص225، ج3 هامش(63/174)
دون الله، فهم يعظمون أولئك الموتى؛ لهوى أنفسهم، وقضاء وطرهم، لا حبا في الإيمان والمؤمنين؛ ولذلك تراهم ينتقلون من ميت لآخر إذا لم يجدوا حاجتهم قضيت عند الأول. وهكذا نرى السدنة إذا انتقلوا من وظيفة عند هذا الولي الذي كان في نظرهم كبيرا، أصبح الولي الذي انتقلوا عند قبره أعظم بركة وأكثر كرامات. فهؤلاء جميعا لا يتبعون إلا هوى أنفسهم، وهم كاذبون أعظم الكذب في دعواهم حب الأولياء والصالحين " (1) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز عند شرح الحديث: " وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال: ذات أنواط "، قال رحمه الله: "كما يعكف اليوم عباد القبور عندها ويجاورون معتقدين أن لهم بذلك الزلفى والقربى، ويعتقد الجاهلون لهم ذلك، فيعاونونهم بالنذور لتلك القبور والصدقات؛ قربة لأولئك الموتى، وكل ذلك من الشرك الأكبر " اهـ (2) .
__________
(1) فتح المجيد، ص 141 هامش.
(2) فتح المجيد، ص142(63/175)
زيارة القبور للنساء:
قال ابن تيمية: "صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لعن الله زوارات القبور» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد(63/175)
والسرج» ، رواه أهل السنن الأربعة، وأخرجه أبو حاتم في صحيحه.
وقال ابن تيمية: " وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم " وهو المنع من زيارتهن ".
القول الثاني: السماح للنساء بزيارة القبور؛ للحديث: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها، فإنها ترقق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا (1) » ، رواه أحمد والحاكم.
فأجاب ابن تيمية فقال: فإن قيل: فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال أهل القول الآخر - يعني بالجواز- قيل: هذا ليس بجيد؛ لأن قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها (2) » ، هذا خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور. وقال: وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور» خاص بالنساء دون الرجال، ألا تراه يقول: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، سواء كانوا رجالا أو نساء لعنهم الله. وأما الذين يزورون القبور فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال " (3) .
أقول: ولا شك أن هذا تخريج جيد من شيخ الإسلام ابن تيمية، فالنسخ لم يشمل النساء.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (977) ، سنن الترمذي الجنائز (1054) ، سنن النسائي الجنائز (2033) ، سنن أبو داود الأشربة (3713) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/145) .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ص 360، 361، ج 24.(63/176)
قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد في زيارة النساء القبور، فروي عنه كراهتها؛ لما روت أم عطية، قالت: «نهينا عن زيارة القبور ولم يعزم علينا (1) » ، رواه مسلم. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله زوارات القبور» ، وقال: هذا خاص في النساء، والنهي المنسوخ كان عاما للرجال والنساء، ويحتمل أنه كان خاصا للرجال، فأقل أحواله الكراهة.
ثم قال ابن قدامة: ولأن المرأة قليلة الصبر، كثيرة الجزع، وفي زيارتها للقبر تهييج لحزنها، وتجديد لذكر مصابها، ولا يؤمن أن يفضي بها ذلك إلى فعل ما لا يجوز، بخلاف الرجل (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1278) .
(2) المغني لابن قدامة، ص424، 425، ج2(63/177)
المرأة ضعيفة تغلب عليها العاطفة:
ما أشار إليه ابن قدامة فهو عين الصواب، فالمرأة تغلب عليها العاطفة، فلا تصبر عند المصيبة، فيعتريها الجزع والهلع؛ لضعفها، فإذا ما وقفت على قبر المزار غالبا، تسخطت على أقدار الله بدون وعي، ومن غير مبالاة، وهذا هو الغالب في النساء، ولربما تكلمت بكلمة تسخط أو اعتراض على أقدار الله، فيكون في ذلك هلاكها، كما جاء في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وإن العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم (1) » ، رواه البخاري.
__________
(1) رياض الصالحين، رقم (1513)(63/177)
فالشرع القويم لما منع المرأة من زيارة القبور كان ذلك رحمة بها، وحفظا لها، وسدا للذريعة المفضية إلى الهلاك.
والقرآن الكريم أشار إلى أن المرأة لا تملك نفسها غالبا في المستجدات بالنسبة لها، أو عند المصيبة، فقد قص علينا خبر " سارة " أم إسحاق لما بشر نبي الله إبراهيم عليه السلام: بإسحاق، قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (1) ، قال القرطبي في تفسيره: أقبلت في صيحة وضجة، وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. ولا شك أن هذا حال النساء عند المصيبة، فهي تمرط شعر رأسها، أو تشق ثيابها، أو تلطم وجهها مع صياحها وعويلها، وهذا نقص في النساء.
وبالمقابل موقف إبراهيم عليه السلام، لما بشرته الملائكة بإسحاق، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (2) .
فالفارق كبير بين عقلية الرجال وعقلية النساء؛ ولهذا جعل الله شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد، وأيضا لا تقبل شهادة المرأة في الحدود والقصاص والجنايات، وفي الزواج والطلاق.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 29
(2) سورة إبراهيم الآية 39(63/178)
فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي - ولم تعرفه - فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك.
فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (1) » ، متفق عليه.
__________
(1) رياض الصالحين، رقم (31)(63/179)
رأي الإمام القرطبي في زيارة المرأة للقبور:
قال ابن حجر: قال القرطبي: "قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور» ، هذا اللعن بالمكثراث من الزيارة لما تقضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج، والتبرج، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن؛ لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء " (1) .
أقول: ما ذكره القرطبي فيه نظر، فليس النهي لئلا تضيع المرأة حق الزوج، فالأمر أهم من ذلك؛ لما يترتب على زيارة القبور للنساء من مفاسد لا حصر لها.
فإن الأدلة الشرعية على منع النساء من زيارة القبور كافية للاستدلال بها على الحرمة، وقد صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وأشار، وكذلك ابن قدامة على الكراهة، والكراهة إذا أطلقت تفيد كراهة تحريم، وخصوصا النهي بصيغة اللعن، وهذا
__________
(1) فتح الباري، ص149، ج3(63/179)
وعيد شديد لمن خالف النهي.
وأما قوله: النهي للمكثرات من زيارة القبور لصيغة المبالغة في النهي. فقوله هذا مرجوح؛ لأنه تخصيص بدون مخصص، فالخطاب عام، وصيغة المبالغة لتأكيد الحرمة. ومثل ذلك قول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، فالآية المذكورة ليس لها مفهوم مخالفة، بحيث تبيح قليل الربا وتحرم كثيره، هذا لم يقل به عالم. فالآية أشارت إلى ما كانت عليه الجاهلية؛ كان الغريم - وهو الدائن - إذا جاء وقت سداد الدين، قال للمدين: " إما أن تقضي وإما أن تربي "، فإذا عجز عن السداد تضاعفت عليه الفائدة الربوية حتى تصبح أضعافا مضاعفة. فالربا كثيره وقليله حرام بإجماع علماء الإسلام.
وكذلك الحال في زيارة القبور للنساء، فالحديث ما حرم زيارة القبور على المكثرات من الزيارة، وأباح لغير المكثرات كما قاله القرطبي. فالحديث عام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور» ، فالحديث شمل الجميع المكثرات وغير المكثرات، وهذا هو الحق إن شاء الله. ومنعهن رحمة بهن.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130(63/180)
مدح العلماء وذم عباد القبور:
وللإمام الصنعاني قصيدة في مدح الشيخ محمد عبد الوهاب إمام الدعوة السلفية، وذم عباد القبور. وهذه مقتطفات منها، قال(63/180)
الصنعاني في ديوانه المشهور: (1) .
سلامي على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد
سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ... ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
يذكرني مسراك نجدا وأهله ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد
قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
__________
(1) ديوان الصنعاني، ص128- 132(63/181)
أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يعوق وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن بالأيدي
وأسأل الله - جل وعلا - أن يرد المسلمين إلى دينهم، وأن يثبتنا على الحق المبين، فهو نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(63/182)
اعتقاد قتيبة بن سعيد البلخي
للدكتور صالح بن محمد العقيل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن قتيبة بن سعيد البلخي البغلاني أبا رجاء أحد الأئمة الأعلام، ممن اشتهر بكثرة الرواية، وقوة الحفظ والضبط، مما جعله مقصدا لطلاب العلم يرحلون إليه ويسمعون منه، رحل إليه الأئمة ورووا عنه.
وكان متمسكا بالسنة حريصا عليها، مجانبا لأهل الأهواء والبدع، ومحذرا منهم. تابع كثيرا من أهل العلم على بيان معتقده، فأملى معتقدا ظهرت فيه موافقته للسنة، رواه عنه عدد من تلاميذه واشتهر عنه، ونسبه إليه الأئمة ونقلوا منه.
ولما كان هذا الاعتقاد موافقا للسنة ومرويا بالأسانيد الصحيحة إلى قتيبة مسلسلا بالأئمة الحفاظ، فلا شك في ثبوته.
وقائله إمام جليل، وقد تلقاه أهل العلم بالقبول. كان جديرا(63/183)
بنشره واطلاع الناس عليه، وبيان ثبوته وقبول أهل العلم له.
فإظهاره يعتبر إضافة إلى معتقد أهل السنة ومصنفاتهم، وتأكيدا لأقوالهم في مسائل الاعتقاد.
ومما يزيد في أهمية هذا الاعتقاد، ويرغب في إظهاره للناس أن قتيبة يقول فيه: "هذا قول الأئمة. . . ".، فهو يحكي الإجماع، إجماع أهل السنة في الأمور التي ذكرها من مسائل الاعتقاد، فهو حكاية لإجماع أهل السنة، لا مجرد قول له أو لمشايخه أو أهل بلده. فإظهار هذا إظهار لإجماع أهل السنة في هذه المسائل، من نقل إمام جليل موثوق به، لقي الحفاظ والأئمة، كمالك بن أنس إمام دار الهجرة، والليث بن سعد إمام مصر. وروى عنه الأئمة أئمة أهل السنة، كالإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ويحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وزار البلاد الآهلة بالعلماء، فرحل إلى المدينة ومصر وبغداد وغيرها.
وقد أدرك الحافظ الذهبي - رحمه الله - أن هذا نقل للإجماع، فقال بعد أن ذكر قوله في علو الله عز وجل: "فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة" (1) .
ومع ثبوت هذا المعتقد عن هذا الإمام كما سيراه القارئ - إن شاء الله- ونقل أهل العلم له فإن بعض من يحمل لواء الجهمية من المعاصرين قد طعن في نسبته إلى قتيبة دون أن يقيم
__________
(1) (العلو للعلي الغفار) للذهبي ص 128 و 132(63/184)
دليلا على صحة زعمه، مع أنه لم يسبقه إلى هذا الزعم أحد من أهل العلم، يدرك هذا من نظر في كتب العقيدة لأهل السنة والجماعة.
وهذا الطاعن هو حسن بن علي السقاف في تعليقه على كتاب (العلو) للذهبي (1) ، بعد نقل الذهبي لقول قتيبة، قال: "هذا كذب لا يثبت، النقاش وضاع واه، له ترجمة في لسان الميزان 5 / 149، والكشف الحثيث عن من رمي بوضع الحديث برقم 643، توفي سنة 351هـ، وأبو أحمد الحاكم توفي سنة 398هـ عن ثلاث وتسعين سنة، ولا تصح له رواية عن السراج؛ لأن السراج ولد سنة 218هـ، وتوفي سنة 313 هـ كما في تاريخ بغداد 1 / 248، أي أن عمر الحاكم عند وفاته كان 7 سنوات، فكيف تصح الرواية عنه؟ ".
وسيرى القارئ الكريم أن هذا باطل وكذب فالنقاش لم يتفرد به.
وأبو أحمد الحاكم توفي سنة 378 هـ وليس كما زعم هذا الكذاب، وقد صحت روايته عن السراج، بل صحت رواية أبي أحمد الحاكم عن من توفي قبل السراج، مثل ابن خزيمة وابن فارس وغيرهم، وقد أثبتها الأئمة الحفاظ كما سيأتي.
لهذا رأيت أن أبين ثبوت هذا الاعتقاد وصحة نسبته لقتيبة، وإثبات أهل العلم له، ونقلهم منه، مع بيان موافقة هذا الاعتقاد
__________
(1) (العلو) ص453(63/185)
لمعتقد أهل السنة والجماعة، وجعلته في تمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
التمهيد: في ترجمة قتيبة.
والمبحث الأول: في ذكر هذا المعتقد.
والمبحث الثاني: في ذكر إسناده إلى قتيبة.
والمبحث الثالث: في ذكر العلماء الذين نسبوا هذا الاعتقاد لقتيبة ونقلوا منه.
والمبحث الرابع: في بيان موافقة هذا المعتقد لمعتقد أهل السنة.
والخاتمة: وفيها أهم نتائج البحث.
والله - عز وجل - الموفق للصواب.(63/186)
التمهيد:
اسمه: قتيبه بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي مولاهم البلخي البغلاني أبو رجاء، من موالي الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراق. . وقيل: إن اسمه يحيى وقتيبة لقبه.(63/186)
وبهذا سماه عبد الله بن عدي الجرجاني في كتابه: (أسامي من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري) ، وقال: لقبه قتيبة معروف به (1) . وقال أبو عبد الله بن منده: اسمه علي (2) . ولد سنة 149هـ، وقيل سنة 148هـ.
رحل إلى المدينة ومصر والعراق وغيرها، والتقى بالحفاظ والعلماء المشهورين، فحصل له ما لم يحصل لغيره. وصفه الحافظ الذهبي بقوله: " شيخ الإسلام المحدث الإمام الثقة الجوال راوية الإسلام (3) .
وقد أثنى عليه عدد من أهل العلم ووثقوه، منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والنسائي وغيرهم (4) .
قال فيه ابن حبان البستي: " كان من المتقنين في الحديث والمتبحرين في السنن وانتحالها (5) . وقال فيه الحافظ ابن حجر: "ثقة ثبت" (6) .
__________
(1) رقم 276
(2) تاريخ بغداد 12 \ 464
(3) السير 11 \ 13.
(4) تاريخ بغداد 12 \ 469، تهذيب الكمال 23 \ 528، 529
(5) الثقات 9 \ 20
(6) التقريب لابن حجر 5522(63/187)
شيوخه:
من أبرز شيوخه الذين روى عنهم: الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وحماد بن زيد إمام أهل البصرة، وعبد الله بن المبارك إمام أهل المشرق، والفضيل بن عياض، وهشيم بن بشير، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم.
تلاميذه:
لجلالة قتيبة وعلو قدره وسعة حفظه وثقته، لقيه الأئمة الكبار، وروى عنه الحفاظ المشهورون. منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة، وأبو العباس محمد بن إسحاق السراج وغيرهم.
وفاته:
وبعد حياة حافلة بالرحلة في طلب العلم والعناية في جمعه، ثم روايته لراغبيه والانقطاع لنشر العلم، توفي هذا العالم الجليل والحافظ الكبير، وكانت وفاته في سنة 240هـ في بغلان. رحمه الله، وأجزل له الثواب على ما نشر من العلم والسنة.(63/188)
المبحث الأول: نص الاعتقاد:
قال أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الحاكم الكبير في كتابه: (شعار أصحاب الحديث) (1) .
__________
(1) ص40، 41(63/188)
سمعت محمد بن إسحاق الثقفي قال: سمعت أبا رجاء قتيبة بن سعيد قال: هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة، الرضاء بقضاء الله والاستسلام لأمره، والصبر على حكمه، والإيمان بالقدر خيره وشره، والأخذ بما أمر الله - عز وجل - والنهي عن ما نهى الله عنه، وإخلاص العمل لله، وترك الجدال والمراء والخصومات في الدين، والمسح على الخفين، والجهاد مع كل خليفة، جهاد الكفار، لك جهاده وعليه شره. والجماعة مع كل بر وفاجر - يعني الجمعة والعيدين - والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة. والإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل، والقرآن كلام الله عز وجل.
وأن لا ننزل أحدا من أهل القبلة جنة ولا نارا، ولا نقطع الشهادة على أحد من أهل التوحيد وإن عمل بالكبائر.
ولا نكفر أحدا بذنب. إلا ترك الصلاة. وإن عمل(63/189)
بالكبائر. وأن لا نخرج على الأمراء بالسيف وإن حاربوا، ونبرأ من كل من يرى السيف في المسلمين كائنا من كان.
وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.(63/190)
والكف عن مساوئ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا نذكر أحدا منهم بسوء، ولا ننتقص أحدا منهم.
ونؤمن بالرؤية، والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤية حق. واتباع كل أثر جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يعلم أنه منسوخ فيتبع ناسخه.
وعذاب القبر حق والميزان حق والحوض حق والشفاعة حق، وقوم يخرجون من النار حق، وخروج الدجال، والرجم حق.(63/191)
وإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري.، ومالك بن أنس (1) .، وأيوب السختياني.، وعبد الله بن عون.، ويونس بن عبيد.، وسليمان التيمي.، وشريكا (2) .، وأبا الأحوص. والفضيل بن عياض.، وسفيان بن عيينة، والليث بن
__________
(1) مالك بن أنس إمام دار الهجرة ت 179هـ
(2) شريك بن عبد الله النخعي القاضي أبو عبد الله ت 177هـ، تهذيب الكمال 12 \ 462، السير 8 \ 178(63/192)
سعد.، وابن المبارك.، ووكيع بن الجراح.، ويحيى بن سعيد.، وعبد الرحمن بن مهدي.، ويحيى بن يحيى.، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. - فاعلم أنه على الطريق.
وإذا رأيت الرجل يقول: هؤلاء الشكاك. فاحذروه فإنه(63/193)
على غير الطريق.
وإذا قال: المشبهة. فاحذروه فإنه جهمي.
وإذا قال: المجبرة. فاحذروه فإنه قدري. الإيمان يتفاضل، والإيمان قول وعمل ونية، والصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والحج من الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان.
ونقول: الناس عندنا مؤمنون بالاسم الذي سماهم الله(63/194)
والإقرار والحدود والمواريث، ولا نقول حقا، ولا نقول عند الله، ولا نقول كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن إيمانهما متقبل، ولا يصلى خلف القدري ولا الرافضي. ولا الجهمي.
ومن قال: إن هذه الآية مخلوقة فقد كفر {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (1) ، وما كان الله ليأمر موسى أن يعبد مخلوقا، ونعرف الله في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (3) .
والجنة والنار مخلوقتان ولا تفنيان. والصلاة فريضة من الله واجبة بتمام ركوعها وسجودها والقراءة فيها.
__________
(1) سورة طه الآية 14
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة طه الآية 6(63/195)
المبحث الثاني: إسناد الاعتقاد:
روى هذا الاعتقاد عن قتيبة عدد من الأئمة، منهم محمد بن إسحاق الثقفي السراج، وقد رواه كاملا. وروى أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، وجعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض الفريابي، وإسحاق بن إبراهيم البستي - بعضا منه.
الإسناد الأول:
أبو أحمد الحاكم الكبير النيسابوري، عن محمد بن إسحاق السراج، عن قتيبة بن سعيد، كما سبق في المبحث الأولى.
تراجم رجال الإسناد:
1 - أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد الحاكم الكبير النيسابوري، صاحب كتاب (الأسامي والكنى) ، أحد الأئمة الثقات ممن يؤخذ بقوله في الجرح والتعديل. وصفه تلميذه محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري بقوله: "إمام عصره في هذه الصنعة، كثير التصنيف، مقدم في معرفة شروط الصحيح والأسامي والكنى (1) .
مولده:
لم تحدد المصادر التاريخية المترجمة لأبي أحمد سنة ولادته، ويمكن أن يتوصل إلى معرفتها بما ذكره أبو عبد الله الحاكم النيسابوري من أن أبا أحمد توفي سنة 378هـ وله ثلاث
__________
(1) طبقات علماء الحديث 3 \ 168(63/196)
وتسعون، فتكون سنة ولادته 285هـ.
وممن حدد ميلاد أبي أحمد بهذه السنة الزركلي في الأعلام (1) وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين (2) .
وقال الحافظ الذهبي: " ولد في حدود سنة تسعين ومئتين أو قبلها السير 16 / 370. وقد سمع من محمد بن إسحاق الثقفي السراج، قاله:
1 - الحاكم النيسابوري في تاريخ نيسابور كما في التقييد لابن نقطة (3) ، قال الحاكم: "سمع بنيسابور أبا بكر بن خزيمة، وأبا العباس الثقفي. . . ومحمد بن سليمان بن فارس ".
2 - وقاله: محمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي في طبقات علماء الحديث (4) .
3 - والذهبي في السير (5) ، وروايته عن السراج في كتابه: الأسامي والكنى. انظر: 1 / 170 - 172، 220، 221، 253، 294، 356، 418.
وفي كتابه: شعار أصحاب الحديث. انظر: ص 27،
__________
(1) الأعلام 7 \ 30،
(2) معجم المؤلفين 11 \ 180
(3) 1 \ 101
(4) 3 \ 213
(5) 14 \ 389(63/197)
31 - 33، 85، 91، 98، 103، 133.
بل سمع من محمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى قبل السراج بسنتين.
قال الخليلي في الإرشاد (1) عن ابن خزيمة: " مات قبل السراج بسنتين "، وكانت وفاة ابن خزيمة سنة 311هـ.
وروايته عن ابن خزيمة في كتابه شعار أصحاب الحديث. انظر: ص 51، 65، 86، 87، 97، 101، 104، 106، 113.
وفي كتابه الكنى والأسامي. انظر: 1 / 190، 263، 272، 317.
وقد أثبت روايته عن ابن خزيمة:
1 - الحاكم النيسابوري في تاريخ نيسابور كما سبق نقله عن ابن نقطة.
2 - وأبو يعلى الخليلي في كتابه الإرشاد (2) .
3 - ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي في كتابه طبقات علماء الحديث (3) .
4 - والذهبي في السير (4) .
__________
(1) 3 \ 832
(2) 3 \ 847
(3) 3 \ 168
(4) 14 \ 366(63/198)
وروى عن محمد بن سليمان بن فارس الدلال. وكانت وفاة الدلال قبل سنة عشر وثلاثمائة، قاله الخليلي في الإرشاد (1) .
وذكر روايته عن الحاكم النيسابوري في تاريخه كما مر نقله من طريق ابن نقطة، وروى عنه في كتابه الأسامي والكنى. انظر: 1 / 159، 161، 167، 209، 243، 244، 314، 361.
وروى عنه أيضا في كتابه: شعار أصحاب الحديث، ص37 باب ذكر الدليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فلما صحت رواية أبي أحمد الحاكم عن شيخيه ابن خزيمة وابن فارس، وأقر بها أهل العلم؛ نعلم أن روايته عن شيخه أبي العباس محمد بن إسحاق السراج الثقفي الذي توفي بعدهما بسنتين من باب أولى، وخصوصا أن أبا أحمد الحاكم والسراج كانا جميعا في نيسابور، وكان عمره حين توفي شيخه على حسب ما ذكره الحاكم النيسابوري ثمانيا وعشرين سنة، وعلى ما قدره الذهبي ثلاثا وعشرين سنة.
وبهذا يتبين غلط السقاف في زعمه أن أبا أحمد الحاكم حين توفي شيخه كان عمره سبع سنوات، وكانت وفاة أبي أحمد سنة 378هـ، وهذا باتفاق أهل العلم، بخلاف ما زعمه السقاف.
قال الدكتور يوسف الدخيل في مقدمة تحقيقه لكتاب أبي أحمد الأسامي والكنى (2) : " توفي أبو أحمد الحاكم الكبير في
__________
(1) 3 \ 859
(2) 1 \ 49(63/199)
بلدة نيسابور في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة - 378 هجرية- وهذا باتفاق، حيث لم أر فيه اختلافا ".
2 - محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الثقفي السراج (1) ، أحد الأئمة، وصفه الحاكم النيسابوري بأنه: محدث عصره (2) 1 / 18، ووصفه الذهبي بـ " الإمام الحافظ الثقة شيخ الإسلام محدث خراسان (3) .
سمع قتيبة بن سعيد، قاله: الحاكم (4) ، والذهبي في السير (5) . ولد سنة ست عشرة ومائتين، (6) ، وكانت وفاته سنة 313هـ، قاله: الحاكم النيسابوري كما في التقييد لابن نقطة 1 / 19، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 1 / 248، والسمعاني في الأنساب 3 / 241، وابن عبد الهادي الدمشقي في طبقات علماء الحديث 2 / 450، والذهبي في السير 14 / 397، وفي العلو 156، 157 وغيرهم.
وقد تابع أبا أحمد الحاكم في روايته هذا الاعتقاد عن السراج: محمد بن الحسن بن محمد النقاش ت 351هـ (7) ، كما
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 196، تاريخ بغداد 1 \ 248، الأنساب 3 \ 241، السير 14 \ 388
(2) التقليد لابن نقطة
(3) السير 14 \ 388
(4) التقييد لابن نقطة 1 \ 18
(5) السير 14 \ 389
(6) السير 14 \ 389
(7) ترجمته في تاريخ بغداد 2 \ 201، السير 15 \ 573، البداية والنهاية 11 \ 258(63/200)
في درء تعارض العقل والنقل 6 / 260، والعلو للذهبي 128.
وإن تكلم في النقاش فلا يقدح في ثبوت هذا الاعتقاد؛ لأنه - كما سبق- مروي بطريق صحيح، راويه أحد الأئمة الحفاظ لا يحتاج إلى متابع.(63/201)
الإسناد الثاني:
قال الصابوني: " أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ أسكنه وإيانا الجنة، حدثنا محمد بن إبراهيم بن الفضل المزكي، حدثنا أحمد بن سلمة، قال: قرأ علينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد كتاب الإيمان له، فكان في آخره: فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري، ومالك بن أنس. . . "، عقيدة السلف (1) . وكتاب الإيمان هذا هو هذا الاعتقاد؛ لأن آخره يتطابق مع ما في الاعتقاد، ولم يذكر المترجمون لقتيبة غير هذا المعتقد، وكونه سمي بالإيمان بالنظر إلى موضوعه.
رجال الإسناد:
1 - الصابوني أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن ت 449هـ.
2 - والحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه النيسابوري. إمامان مشهوران بالحفظ والإتقان، لا يحتاجان إلى تعريف.
3 - محمد بن إبراهيم بن الفضل الهاشمي النيسابوري المزكي أبو
__________
(1) 121(63/201)
الفضل، روى عنه أبو عبد الله بن منده والحاكم النيسابوري وأثنى عليه (1) .
قال الذهبي: "من أكابر شيوخ نيسابور، وممن زكاه إبراهيم بن أبي طالب، ومن المكثرين من كتابة الحديث، وكان ثقة (2) .
كانت وفاته في شوال سنة سبع وأربعين وثلاثمائة (3) .
4 - أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري البزاز، أبو الفضل، وصفه الخطيب في تاريخ بغداد (4) بقوله: " أحد الحفاظ المتقنين "، وقال فيه الذهبي: " الحافظ الحجة العدل المأمون المجود (5) ، توفي سنة ست وثمانين ومائتين (6) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 15 \ 572
(2) تاريخ الإسلام (وفيات) 331- 350 ص386، 387
(3) المصدر السابق، والسير 15 \ 572
(4) 4 \ 186
(5) السير 13 \ 373
(6) تاريخ بغداد 4 \ 187(63/202)
الإسناد الثالث:
قال الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو منصور محمد بن علي بن إسحاق الكاتب، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن القاضي، قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: " إذا رأيت الرجل يحب أهل(63/202)
الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل. . . (1)
رجال الإسناد:
1 - محمد بن علي بن إسحاق بن يوسف الكاتب الخازن، خازن دار العلم ببغداد، قال الخطيب: كتبنا عنه وكان سماعه صحيحا (2) .
2 - محمد بن أحمد بن الحسن بن إسحاق بن الصواف، وصفه الذهبي بقوله: " الشيخ الإمام المحدث الثقة الحجة (3) .
3 - جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض الفريابي، قاضي الدينور (4) .، ولد سنة سبع ومائتين، وتوفي سنة 301هـ. قال فيه الخطيب البغدادي: "كان ثقة حجة، من أوعية العلم، ومن أهل المعرفة والفهم، طوف شرقا وغربا ولقي الأعلام "، وقال فيه الذهبي: " الإمام الحافظ الثبت ".
__________
(1) شرف أصحاب الحديث 71، 72
(2) تاريخ بغداد 3 \ 93، الأنساب 2 \ 307
(3) السير 16 \ 184، ووثقه الدارقطني والخطيب وغيرهم، انظر: تاريخ بغداد 1 \ 289
(4) تاريخ بغداد 7 \ 96، سير أعلام النبلاء 14 / 96(63/203)
الإسناد الرابع:
إسحاق بن إبراهيم البستي، صاحب التفسير ت 307هـ.
قال في تفسيره: "سمعت أبا رجاء قتيبة بن سعيد يقول:(63/203)
من قال: قوله: يا موسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (1) مخلوق فهو كافر بالله، وما كان الله تبارك وتعالى ليأمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - بعبادة مخلوق (2) . وإسحاق هذا هو: إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الجبار البستي أبو محمد. قال فيه ابن حبان: " أحد النبلاء من المحدثين والعقلاء من المتقين (3) . .
__________
(1) سورة طه الآية 14
(2) تفسير إسحاق بن إبراهيم البستي ص232، رقم 218
(3) الثقات 8 \ 122، وانظر: الأنساب 1 \ 348، السير 14 \ 140(63/204)
المبحث الثالث: ذكر العلماء الذين نسبوا هذا الاعتقاد لقتيبة:
نسب هذا الاعتقاد إلى قتيبة أئمة أجلاء معروفون بالعلم والأمانة والعناية بمذهب السلف والفهم له، وممن نسب هذا الاعتقاد إلى قتيبة:
1 - قوام السنة الأصبهاني، في كتابه الحجة في بيان المحجة (1) ، قال: " قال بعض علماء أهل السنة: أما بعد: فإني وجدت جماعة من مشايخ السلف، وكثيرا ممن تبعهم من الخلف، ممن عليهم المعتمد في أبواب الديانة، وبهم القدوة في استعمال السنة، قد أظهروا اعتقادهم وما انطوت عليه ضمائرهم في معاني السنن؛ ليقتدي بهم المقتفي، وذلك حين فشت البدع في البلدان، وكثرت دواعيها في الزمان،
__________
(1) 2 \ 473 - 475(63/204)
فحينئذ وقع الاضطرار إلى الكشف والبيان؛ ليهتدي بها المسترشد في الخلف. . . وأنا أذكر بتوفيق الله تعالى جماعة من أئمتنا من السلف ممن شرعوا في هذه المعاني، فمنهم أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، فإنه قد أظهر اعتقاده ومذهبه في السنة. . .، ومنهم أبو رجاء قتيبة بن سعيد الثقفي البغلاني، له اعتقاد رواه عنه أبو العباس السراج ". فهذا توثيق لهذا الاعتقاد ولرواية السراج.
2 - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، في درء تعارض العقل والنقل (1) ، قال: "قال أبو بكر النقاش صاحب التفسير والرسالة: حدثنا أبو العباس السراج، قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة. . . "
3 - الذهبي في العلو (2) : قال: " قال أبو أحمد الحاكم، وأبو بكر النقاش المفسر، واللفظ له: حدثنا أبو العباس السراج، قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة. . . ".
4 - ابن القيم في اجتماع الجيوش (3) ، قال: " قال أبو العباس السراج: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في
__________
(1) 6 \ 260
(2) ص128
(3) ص231(63/205)
الإسلام والسنة والجماعة. . . ". وفي الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1)
__________
(1) 4 \ 1294.(63/206)
المبحث الرابع: موافقة هذا الاعتقاد لاعتقاد أهل السنة:
الإمام قتيبة بن سعيد أحد الأئمة المشهود لهم باتباع السنة، والتمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة، ومن استقرأ ترجمته، واطلع على ثناء أهل السنة عليه، ورأى رواياتهم عنه، تبين له بوضوح صحة معتقده، وسلامة منهجه، وموافقته لأهل السنة، وبعده عن أهل الأهواء والبدع.
وصفه أحمد بن سيار المروزي بقوله: "كان ثبتا فيما روى، صاحب سنة وجماعة (1) ووصفه أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني بأنه: " أحد الأئمة في الحديث، كان ينصر السنة (2) .
يؤكد هذا أقوال له غير ما جاء في هذا الاعتقاد، منها: ما رواه الخلال في السنة (3) عن أبي داود السجستاني، قال: "سمعت قتيبة، قال: الواقفة جهمية. وسمعت قتيبة قيل له، فقال: الواقفة شر من هؤلاء، يعني ممن قال: القرآن مخلوق ".
__________
(1) تاريخ بغداد 12 \ 469.
(2) سير السلف 3 \ 1166
(3) 5 \ 140(63/206)
ومنه ما رواه الخطيب في تاريخ بغداد (1) عنه:
لولا القضاء الذي لا بد مدركه ... فالرزق يأكله الإنسان بالقدر
ما كان مثلي في بغلان مسكنه ... ولا يمر بها إلا على سفر
فهذا يدل على إثباته للقدر.
وكان من تمسكه بعقيدة أهل السنة تحذيره ممن يخالفها، وفي ذات يوم كان في مجلس الإمام مالك، فدخل إبراهيم بن يوسف البلخي، فقام قتيبة بن سعيد البلخي فقال: هذا رجل يرى رأي العراقيين في الإرجاء. . فأمر مالك أن يخرج ويؤخذ. . . فلما رجعا إلى بلخ أخرج قتيبة من بلخ فذهب وأقام ببغلان (2) .
ومن هذا تكفيره لبشر المريسي. روى أبو داود السجستاني
__________
(1) 12 \ 470
(2) الإرشاد 1 \ 277، 278(63/207)
في مسائله (1) ، قال: "سمعت قتيبة يقول: بشر المريسي كافر".
وهذا المعتقد مطابق تمام المطابقة لمعتقد أهل السنة، ليس فيه ما يخالفه، وبمقارنة بعض ما جاء فيه ببعض معتقد أهل السنة تظهر الموافقة التامة بين المعتقدين.
1 - قال قتيبة: " والإيمان قول وعمل والإيمان يتفاضل ".
وهذا القول في الإيمان من الأقوال الخاصة بأهل السنة والجماعة، لا يقول به أحد سواهم، فلا تقول به الأشعرية ولا الماتريدية ولا المرجئة ولا المعتزلة ولا غيرهم، فمن قال بهذا القول جانب الفرق كلها في الإيمان.
وأقوال أهل السنة في أن الإيمان قول وعمل وأنه يتفاضل كثيرة جدا، منها:
قول أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: " فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض (2) .
__________
(1) ص: 270
(2) الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام 66.(63/208)
وقال ابن أبي حاتم: " سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص (1) .
2 - قال قتيبة: " نعرف الله في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (3) .
وهذه من المسائل المقررة عند أهل السنة، وقد حكى الإجماع فيها غير واحد.
قال عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي (4) : "وقد اتفقت الكلمة بين المسلمين والكافرين أن الله في السماء".
قال الذهبي في العلو (5) : " مقالة السلف وأئمة السنة بل والصحابة والله ورسوله والمؤمنون أن الله - عز وجل - في السماء، وأن الله على العرش، وأن الله فوق سماواته، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا. وحجتهم على ذلك النصوص والآثار ".
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1 \ 176
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة طه الآية 6
(4) 25
(5) 107(63/209)
الخاتمة:
بعد أن من الله عز وجل بالانتهاء من هذا البحث تبينت عدد من النتائج، منها:
1 - أن عددا من أهل العلم رووا هذا الاعتقاد عن قتيبة، منهم محمد بن إسحاق السراج وغيره.
2 - صحة رواية أبي أحمد الحاكم النيسابوري - أحد رواة هذا الاعتقاد- عن شيخه محمد بن إسحاق الثقفي السراج.
3 - قبول أهل العلم من أهل السنة والجماعة لهذا الاعتقاد، ونقلهم منه، ونسبته لقتيبة.
4 - موافقة ما جاء في هذا الاعتقاد ومطابقته لمعتقد أهل السنة تماما. ولهذا يجزم بصحة هذا الاعتقاد، وثبوت نسبته إلى قتيبة بن سعيد البلخي.(63/210)
آراء الإمام ابن ماجه الأصولية
من خلال تراجم أبواب سننه
للدكتور سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري (1)
المقدمة:
الحمد لله الذي تفضل على هذه الأمة بحفظ دينها، وصلاح أمرها، ورفعة شأنها، نحمده سبحانه، هيأ لهذه الأمة علماء يعلمون جاهلها ويرشدون ضالها، فله الحمد سبحانه أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، هو الحق لا يستحق العبادة أحد سواه، ولا يحتاج أحد من الخلق إلى واسطة في خطاب ربه ودعائه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه، اتباعه سبب لمحبة الله، وطاعته سبب لدخول جنة الخلد، فصلى الله على هذا النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الهداة الأبرار والسادة الأطهار، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن الله تعالى بفضله هيأ لهذه الأمة من يحفظ لها دينها، فنقلوا كتاب الله نقلا متواترا لا مجال للتشكيك فيه، ونقلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وميزوا صحيحها من غيره،
__________
(1) الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(63/211)
وصنفت المؤلفات في السنن والأحاديث، ومن أبرز هذه المؤلفات الكتب الستة: صحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومن هنا اهتم علماء الأمة بهذه الكتب، وصنفوا حولها المصنفات في الكلام عن معانيها وشروحها وأحكامها ورجالها واختصاراتها وزوائدها وصحيحها، إلا أنه لم يتصد أحد من المؤلفين للحديث عن القواعد الأصولية التي قررها هؤلاء الأئمة، أو طبقوها على الأحكام الشرعية في عناوين الأبواب التي يسميها العلماء بـ (التراجم) ، ومن هنا ظهرت فكرة هذا البحث.
فرغبت أن أتناول تراجم الإمام ابن ماجه بالدراسة؛ لأستخرج منها القواعد والآراء الأصولية التي سار عليها الإمام في استخراج أحكام تراجمه.
وتراجم الإمام ابن ماجه على أنواع:
النوع الأول: ما ليس له علاقة مباشرة بالأحكام الشرعية، ومن أمثلة ذلك: (باب في بدء الإيمان) (1) ، و (باب في القدر) (2) . ومن ذلك أيضا أبواب الفضائل (3) .
النوع الثاني: التراجم التي تساق على جهة الاستفهام والسؤال، مثل قوله: (باب الرجل يستيقظ من منامه هل يدخل
__________
(1) السنن 1 \ 22
(2) السنن 1 \ 29
(3) السنن 1 \ 36 - 73(63/212)
يده في الإناء قبل أن يغسلها؟) (1) ، و (باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل؟) (2) ، و (باب في الحائض كيف تغتسل؟) (3) ، و (باب أين يجوز بناء المساجد؟) (4) .
النوع الثالث: التراجم التي يفهم الحكم منها عند قرنها بما وضع تحتها مثل: (باب من سن سنة حسنة) (5) ، و (باب تغطية الإناء) (6) ، و (باب الاستنجاء بالحجارة) (7) ، و (باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء) (8) ، و (باب الوضوء بالنبيذ) (9) .
النوع الرابع: التراجم التي صرحت بالحكم منسوبا لقائل، سواء كان هذا القائل معروفا أو ليس بمعروف، مثل قوله: (باب من كره أن يوطأ عقباه) (10) ، و (باب من دلك يده بالأرض بعد الاستنجاء) (11) ، و (باب من كان لا يرفع يديه في القنوت) (12) .
__________
(1) السنن 1 \ 138
(2) السنن 1 \ 175
(3) السنن 1 \ 210
(4) السنن 1 \ 245
(5) السنن 1 \ 74
(6) السنن 1 \ 129
(7) السنن 1 \ 114
(8) السنن 1 \ 108
(9) السنن 1 \ 135
(10) السنن 1 \ 89
(11) السنن 1 \ 128
(12) السنن 1 \ 373(63/213)
النوع الخامس: التراجم التي صرح المؤلف فيها بالحكم من غير نسبته إلى قائل، مثل قوله: (باب كراهية البول في المغتسل) (1) ، و (باب كراهة مس الذكر باليمنى) (2) ، و (باب كراهية الخلع للمرأة) (3) ، و (باب الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت) (4) .
والنوع الأول لا علاقة له باستخراج الأحكام الشرعية، ومن ثم فهو خارج عن موضوع هذا البحث.
والأنواع من الثاني إلى الرابع لم يصرح فيها الإمام ابن ماجه بالحكم منسوبا لنفسه، ومن ثم لم تدخل في هذا البحث، وإني لآمل أن يهيئ الله لها باحثا يستخرج بواسطتها القواعد الأصولية التي بنى عليها العلامة ابن ماجه هذه التراجم.
فهذا البحث اقتصرت فيه على التراجم التي وجد الحكم فيها صريحا من غير نسبة لقائل، بحيث يتأكد الباحث أن ابن ماجه يرى هذه الأحكام، وتوصل إليها باجتهاده، وهذه التراجم منها ما يتعلق بالمسائل الأصولية مباشرة بحيث يقرر فيها حكما أصوليا مثل كلامه في قاعدة القياس، ومنها ما يقرر فيه حكما فقهيا مبنيا على دليله، فيأتي الباحث فيوضح القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
__________
(1) السنن 1 \ 11
(2) السنن 1 \ 113
(3) السنن 1 \ 662
(4) السنن 1 \ 394(63/214)
وقد رتبت هذا البحث من: مقدمة، وفصلين، وخاتمة. وهذه المقدمة فيها أهمية الموضوع وحدوده وخطة البحث ومنهجه.
الفصل الأول: آراء ابن ماجه في مباحث الأحكام والأدلة:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مدلول لفظ الكراهة.
المبحث الثاني: مدلول لفظ الرخصة.
المبحث الثالث: حجية القياس.
الفصل الثاني: آراء ابن ماجه في دلالات الألفاظ:
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم.
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر.
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي.
المبحث الرابع: دلالة صيغة لا تفعل على النهي.
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل.
المبحث السادس: استفادة النهي بوصف ظرف بنقيضه.
الخاتمة: وفيها خلاصة البحث وأهم نتائجه وتوصياته.
أما منهج البحث: فقد ذكرت أولا رأي الإمام ابن ماجه في المسألة الفقهية، ثم ذكرت الدليل الذي اعتمد عليه، ومن ثم استنبطت القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.(63/215)
هذا وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقني للقول الصواب والعمل السديد، وأن يجنبني الزلل في القول والعمل، وأن يرزقني النية الصالحة والأجر الجزيل، والرفعة في الدرجات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(63/216)
الفصل الأول:
آراء الإمام ابن ماجه في مباحث الأحكام والأدلة:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مدلول لفظ الكراهة.
المبحث الثاني: مدلول لفظ الرخصة.
المبحث الثالث: حجية القياس.
المبحث الأول: مدلول لفظ الكراهة:
أطلق الإمام ابن ماجه حكم الكراهة في عدد من المسائل في تراجم أبواب سننه في بضع عشر موضعا، والأغلب أنه لا يريد بلفظ الكراهة ما اصطلح عليه أخيرا، وإنما يريد بلفظ الكراهة التحريم بحسب المصطلحات الأصولية المتعارف عليها عند المتقدمين، ويدلك على أن الإمام ابن ماجه يقصد التحريم بلفظ الكراهة أمور:
أولها: أنه أطلق لفظ الكراهة في مسائل ورد الحديث بالنهي عنها بلفظ النهي الصريح المفيد للتحريم (1) ، ومن ذلك:
__________
(1) سيأتي بحث ذلك مفصلا في المبحث الثالث من الفصل القادم.(63/216)
قوله: (باب كراهية لبس الحرير) (1) ، واستدل عليه بحديث: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الديباج والحرير (2) » .
ومن ذلك: قوله: (باب كراهية المعصفر للرجال) (3) ، واستدل عليه بحديث: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المفدم (4) » .
ومن ذلك: قوله: (باب ما يكره من الأسماء) (5) ، وأورد فيه أحاديث صريحة في النهي عن عدد من الأسماء.
ثانيها: أنه أطلق لفظ الكراهة على أفعال في مسائل استدل عليها بأحاديث وردت بترتيب العقوبة على فاعل هذه الأفعال،
__________
(1) سنن ابن ماجه ص1187 كتاب اللباس باب رقم 16.
(2) ورد من حديث البراء أخرجه ابن ماجه برقم 3589، والبخاري 1239، ومسلم 2066.
(3) سنن ابن ماجه ص1191 كتاب: اللباس باب رقم 21.
(4) ورد من حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه برقم 3601. قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(5) سنن ابن ماجه ص1229 كتاب الأدب باب رقم 31.(63/217)
وهذا مما يدل على تحريم هذا الفعل (1) ، ومن أمثلة ذلك: قوله: (باب كراهية الخلع للمرأة) (2) ، واستدل عليه بحديث: «لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة (3) » ، وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (4) » .
ومن أمثلته: قول ابن ماجه: (باب ما جاء في كراهة الأيمان في الشراء والبيع) (5) ، واستدل عليه بحديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم (6) » الحديث.
ومن أمثلته: قول ابن ماجه: (باب كراهية لبس الحرير) (7) ، واستدل عليه بحديث: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة (8) » .
__________
(1) سيأتي بحث هذه القاعدة في المبحث الخامس من الفصل الثاني.
(2) سنن ابن ماجه ص 662 كتاب الطلاق باب رقم 21.
(3) أخرجه ابن ماجه برقم 2054 من حديث ابن عباس قال في الزوائد: إسناده ضعيف.
(4) أخرجه ابن ماجه برقم 2055 من حديث ثوبان، وأخرجه الترمذي 1187، وأبو داود 2226، وأحمد 5 \ 277، قال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 4184، وقال الحاكم 2 \ 200: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، مع أن أحد رواته ليس من رجال البخاري.
(5) سنن ابن ماجه ص 744 كتاب التجارات باب رقم 30.
(6) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي البيوع (4458) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/158) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(7) سنن ابن ماجه ص 1187 كتاب اللباس باب رقم 16.
(8) ورد من حديث أنس أخرجه ابن ماجه برقم 3588، والبخاري 5832، ومسلم 2073(63/218)
ثالثهما: أنه أطلق لفظ (الكراهة) على أفعال ورد النهي عنها بصيغة (لا تفعل) الدالة على التحريم عند تجردها من قرائن على قول جمهور العلماء.
ومن ذلك: قوله: (باب كراهية البول في المغتسل) (1) ، واستدل عليه بحديث: «لا يبولن أحدكم في مستحمه (2) » . ومن ذلك: قول ابن ماجه: (باب كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين) (3) ، واستدل عليه بحديث «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه (4) » ، وبحديث: «إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه ليستنج بشماله (5) » ، ومن ذلك: قول ابن ماجه: (باب كراهية النخامة في المسجد) (6) ، واستدل على ذلك بحديث: «إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل
__________
(1) سنن ابن ماجه ص111 كتاب الطهارة باب رقم 12.
(2) من حديث عبد الله بن مغفل، أخرجه ابن ماجه 304، وأبو داود 27، والنسائي 1 \ 34، والترمذي 21، وأحمد 5 \ 56 وإسناده حسن.
(3) سنن ابن ماجه ص113 كتاب الطهارة باب رقم 15.
(4) ورد من حديث أبي قتادة أخرجه ابن ماجه 310، والبخاري 154، ومسلم 267.
(5) ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه 312، وبنحوه أخرجه أبو داود 8، والنسائي 1 \ 38.
(6) سنن ابن ماجه ص251 كتاب المساجد باب رقم 10.(63/219)
وجهه (1) » .
رابعها: أنه في مسألة النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، أورد الحديث فيها بأنه: «كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها (2) » ، وقد حمل العلماء هذا الحديث على الكراهة دون التحريم؛ لأدلة وردت في ذلك، ولهذا لما ذكر ابن ماجه المسألة لم يعبر عنها بلفظ الكراهة مع موافقة ذلك للفظ الحديث، وإنما عبر عنها بلفظ النهي، والنهي يشمل المكروه عند جماهير العلماء؛ ولذلك قال ابن ماجه: (باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها) (3) .
وبمقارنة رأي الإمام ابن ماجه في إطلاق لفظ الكراهة بمعنى التحريم بآراء الأصوليين، لا نجد هذا الرأي خارجا عن طريقتهم، فإن الأصوليين ذكروا أن لفظ الكراهة تطلق على عدد
__________
(1) ورد من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أخرجه ابن ماجه برقم 761، والبخاري 408، ومسلم 548. ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه 763، والبخاري 406، ومسلم 547.
(2) ورد من حديث أبي برزة أخرجه ابن ماجه 701، قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات، كذا جعله من الزوائد وهي في الصحيحين، أخرجه البخاري 547، ومسلم 647.
(3) سنن ابن ماجه ص 229 كتاب الصلاة باب رقم 12.(63/220)
من المعاني منها التحريم (1) ، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم، فإن الله ذكر شيئا من المحرمات في سورة الإسراء، ثم قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (2) .
وإن كان المشهور عند الأصوليين إطلاق لفظ الكراهة على النهي غير الجازم (3) .
والحنفية يقسمون المكروه إلى قسمين:
أولهما: المكروه تنزيها، وهو ما نهي عنه نهيا غير جازم.
وثانيهما: المكروه تحريما وهو ما نهي عنه نهيا جازما بدليل ظني (4) .
وإذا أطلقوا لفظ الكراهة انصرف هذا اللفظ عندهم غالبا إلى المكروه تحريما (5) .
__________
(1) روضة الناظر 1 \ 206، البحر المحيط 1 \ 296، التقرير والتحبير 2 \ 143.
(2) سورة الإسراء الآية 38
(3) تقريب الوصول ص 100، البحر المحيط 1 \ 296، شرح الكوكب المنير 1 \ 413.
(4) تيسير التحرير 1\ 53، فواتح الرحموت 588.
(5) الحكم التكليفي ص: 221(63/221)
المبحث الثاني: مدلول لفظ الرخصة:
عبر الإمام ابن ماجه بلفظ الرخصة في عدد من المواضع من تراجم أبواب السنن، وبدراسة هذه المواطن يجد الباحث أنه(63/221)
يطلق لفظ الرخصة على معان مختلفة:
المعنى الأول: يشمل الصور التي وجدت فيها علة التحريم لكن استثنيت هذه الصور بدليل خاص بها، أو بتعبير آخر: (المسائل التي ورد النص بالإباحة فيها مع وجود معنى فيها أنتج التحريم في غير هذه المسألة) . ومن أمثلة ذلك: قوله: (باب الرخصة في ذلك - يعني استقبال القبلة عند قضاء الحاجة- في الكنيف) (1) ، فاستقبال القبلة في الكنيف عند قضاء الحاجة يوجد فيه المعنى الذي ثبت التحريم له، وهو كونه مستقبلا القبلة عند البول والغائط الذي تكلم عنه المؤلف في باب آخر، حيث قال: (باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول) (2) ، ولكن المؤلف استثنى من ذلك حال الكنيف؛ لورود الدليل بالإباحة فيه، وسماه رخصة.
ومن أمثلة ذلك: قول ابن ماجه: (باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت) (3) ، فجعل إباحة الصلاة في أوقات النهي لمن كان بمكة رخصة بعد أن قرر النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، حيث قال: (باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة) (4) .
__________
(1) سنن ابن ماجه ص116 كتاب الطهارة باب رقم 18
(2) سنن ابن ماجه ص115 كتاب الطهارة باب رقم 17
(3) سنن ابن ماجه ص398 كتاب إقامة الصلاة باب رقم 149
(4) سنن ابن ماجه ص396 كتاب إقامة الصلاة باب رقم 148(63/222)
ومن أمثلة ذلك أيضا: تسميته أكل المحرم للصيد الذي لم يصد من أجله رخصة حيث قال: (باب الرخصة في ذلك إذا لم يصد له) (1) ، بعد تقريره النهي عن الصيد للمحرم في قوله: (باب ما ينهى عن المحرم من الصيد) (2) .
ومن أمثلة ذلك أيضا:: قوله: (باب ما رخص فيه من الرقى) (3) وأورد فيه حديث: «لا رقية إلا من عين أو حمة (4) » ، فالجميع فيه علة النهي وهو كونها رقية إلا أن النص ورد بإباحة ما كان للعين أو حمة مع وجود معنى التحريم فيها.
وإطلاق لفظ الرخصة على هذا المدلول، هو منهج الأصوليين ويعبرون عنه بقولهم: (استباحة المحظور مع قيام الحاظر) .
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 1033 كتاب المناسك باب رقم 93.
(2) سنن ابن ماجه ص1032 كتاب المناسك باب رقم 92
(3) سنن ابن ماجه ص1161 كتاب الطب باب رقم 34
(4) ورد من حديث الشعبي عن بريدة مرفوعا، أخرجه ابن ماجه برقم 3513، وأخرجه مسلم موقوفا على بريدة برقم 220، وذكر المزي في تحفة الأشراف 2 \ 77 إلى أن المحفوظ: الشعبي عن عمران، وقد أخرجه كذلك أبو داود 3884، والترمذي 2057، وقد ورد بنحوه من حديث أنس، أخرجه مسلم 2196، وأبو داود 3889، والترمذي 2056 وحسنه.(63/223)
والمعنى الثاني: يتعلق بالمسائل التي تعارضت فيها الأدلة منعا وإباحة، فهو يطلق لفظ الرخصة على أدلة الإباحة في هذه المسائل، ومن أمثلة ذلك: قوله: (باب الرخصة بفضل وضوء المرأة) (1) ، ومن أمثلة ذلك أيضا: أنه لما عقد بابا بعنوان: (الوضوء من مس الذكر) (2) ، قال بعده: (باب الرخصة في ذلك) (3) ، وأورد فيه الأحاديث التي تدل على عدم إيجاب الوضوء من مس الذكر، وبعد هذا الباب مباشرة (باب الوضوء مما غيرت النار) (4) ، أورد فيه أحاديث توجب ذلك، وبعده (باب الرخصة في ذلك) (5) ، أورد فيه ابن ماجه أحاديث تدل على عدم وجوبه.
المعنى الثالث: ما فيه توسعة على المكلفين وإن لم يوجد فيه علة التحريم، وهذا المعنى استعمله المؤلف مرة واحدة، حيث قال: (باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة فيه) (6) .
ومثل هذا لا يجعله الأصوليون من باب ما يسمى رخصة في الاصطلاح الأصولي، وإن صح إطلاق هذا اللفظ عليه من باب التجوز (7) .
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 132كتاب الطهارة باب رقم 33
(2) سنن ابن ماجه ص 161 كتاب الطهارة باب رقم 63
(3) سنن ابن ماجه ص 163 كتاب الطهارة باب رقم 64
(4) سنن ابن ماجه ص163 كتاب الطهارة باب رقم 65
(5) سنن ابن ماجه ص164 كتاب الطهارة باب رقم 66
(6) سنن ابن ماجه ص131 كتاب الطهارة باب رقم 32
(7) المغني للخبازي 89، المستصفى 1 \ 330، روضة الناظر 1 \ 260(63/224)
وقد يكون مراد الإمام ابن ماجه بهذا، المعنى الأول، وذلك أن سؤر الهرة فيه شيء من المعنى الذي في سؤر الكلب، ومع ذلك جاء الدليل بالوضوء من سؤر الهرة بخلاف الكلب؛ لأن ابن ماجه عقد الباب المتعلق بسؤر الهرة بعد الباب المتعلق بسؤر الكلب (1) .
__________
(1) سنن ابن ماجه ص130 كتاب الطهارة باب غسل الإناء من ولوغ الكلب.(63/225)
المبحث الثالث: حجية القياس:
قد يفهم من كلام الإمام ابن ماجه القول بعدم حجية القياس، ويبدو ذلك جليا فيما يأتي:
أولا: أنه أورد في أحد تراجمه عبارة يفهم منها ذم الرأي والقياس، فقال: (باب اجتناب الرأي والقياس) (1) .
ثانيا: أنه أورد في الباب السابق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا، ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (2) » . فكأنه يرى أن القياس والرأي ليسا من العلم في شيء.
أما جمهور الأصوليين فإنهم يرون حجية القياس.
__________
(1) السنن 1 \ 20
(2) أخرجه ابن ماجه برقم 52، وأخرجه البخاري 07 / 73، ومسلم 2673 من حديث عبد الله بن عمرو(63/225)
ويسوقون على ذلك أدلة عديدة (1) .
وأجاب الجمهور على ما ذكره ابن ماجه من أدلة بأجوبة عديدة، ملخصها أن ما ورد في منع قول الإنسان بما رآه يعني فيما لا يرجع إلى أصل يقاس عليه، توفيقا بين ذلك وبين النصوص الورادة بحجية القياس (2) .
والذي يظهر لي أن الإمام ابن ماجه لا يخالف الجمهور في ذلك، بل هو موافق لهم ويدل على ذلك أمور:
أولا: أن مما أورده الإمام من ذم الرأي إنما يراد به المقابل للنص، أو الرأي المجرد الصادر من غير المجتهد، كما في حديث: «اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم (3) » . قال ابن حجر: " قوله: (باب ما يذكر من ذم الرأي) أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر، وهو يصدق على ما يوافق النص وعلى ما يخالفه، والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه، وأشار بقوله: (من) إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم، وهو إذا لم
__________
(1) انظر: التفريق بين الأصول والفروع 2 \ 159.
(2) فتح الباري 13 \ 291.
(3) أخرجه ابن ماجه برقم 52، البخاري برقم 7307 من حديث عبد الله عمرو.(63/226)
يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع " (1) .
ثانيا: أن الإمام ابن ماجه من علماء الأمة الذين لهم مكانة ومنزلة فيها، ولو كان لا يرى الاحتجاج بالقياس، أو يفهم ذلك من كلامه لاشتهرت النسبة إليه بذلك.
ثالثا: سنن ابن ماجه موضع عناية الأمة، من خلال روايته وشرحه والتعليق عليه، والاعتراض على مواطن منه، ونحو ذلك، فلو كان القول بعدم صحة استنباط الأحكام الشرعية بواسطة القياس يفهم من كلام ابن ماجه، لكان موضع عناية من هؤلاء العلماء الذين اهتموا بسننه.
__________
(1) فتح الباري 13 \ 282(63/227)
الفصل الثاني: آراء الإمام ابن ماجه في دلالات الألفاظ:
وفيه ست مباحث:
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة.
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر.
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي.
المبحث الرابع: دلالة صيغة لا تفعل على النهي.
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل.
المبحث السادس: استفادة النهي في الفعل بوصف ظرف بنقيضه.(63/227)
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة:
قرر الإمام ابن ماجه كراهة البول في مكان الاغتسال فقال: (باب كراهة البول في المغتسل) (1) ، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه (2) » .
ثم نقل عن الطنافسي قوله: "إنما هذا في الحضيره؛ فأما اليوم فلا، فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير، فإذا بال فأرسل عليه الماء فلا بأس " (3) .
فكأنه فهم من الحديث أن النهي عن البول في المغتسل للابتعاد عن النجاسة عند الاغتسال، ولما كان الاغتسال في التراب سابقا نهي عن البول في مكان الاغتسال لئلا يكون ذلك سببا في النجاسة، لكن إذا كان المغتسل مبنيا بحيث إذا أرسل عليه الماء غسل البول فلا مانع من البول فيه، وهذا تخصيص لعموم الحديث بالنهي عن البول في المستحم من خلال قصر الحكم العام على مكان علته المستنبطة.
__________
(1) سنن ابن ماجه ص111 كتاب الطهارة باب رقم 12
(2) ورد من حديث عبد الله بن مغفل أخرجه ابن ماجه برقم 304، وأبو داود 27، والنسائي 1 \ 34، والترمذي 21، وأحمد 5 \ 56، وإسناده حسن.
(3) سنن ابن ماجه ص 111.(63/228)
وتخصيص الحكم بعلته المنصوصة لا إشكال في صحته وجوازه، ولكن الكلام في مسألة: هل يصح أن تعود العلة المستنبطة على أصلها بالتخصيص؟ للعلماء في ذلك قولان:
الأول: جواز تخصيص النص بعلته المستنبطة، واستدلوا عليه بأنه كتخصيص العلة بحكم آخر وهو جائز فكذا هنا (1) .
الثاني: عدم جواز ذلك، وبالتالي فإن من شروط صلاحية الوصف للتعليل أن لا يعود على أصله بالتخصيص؛ لأنه تعارض عموم النص مع العلة المستنبطة، والعموم منسوب للشارع، والعلة المستنبطة منسوبة للمجتهد، فقدم العموم المنسوب للشارع (2) .
والذي يظهر لي ترجح القول الثاني لوجاهة تعليلهم، وأما قياسه على تخصيص حكم آخر بالعلة فهذا قياس لا يصح لوجود الفرق بينهما من وجهين:
أولهما: أن التخصيص بالعلة لحكم آخر إنما ثبت بعد التسليم بصلاحية هذا الوصف للتعليل، وفي مسألتنا وقع النزاع
__________
(1) نهاية الوصول 8 \ 3553.
(2) البحر المحيط 5 \ 152.(63/229)
في صلاحية الوصف للتعليل.
ثانيهما: أن العلة في الأصل المقيس عليه إنما خصصت حكما آخر غير الدليل الذي استنبط منه كون الوصف علة، وفي مسألتنا خصص نفس الدليل المستنبط منه التعليل. كما قد يجاب بمنع حكم الأصل.(63/230)
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر:
من صيغ الأمر: الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر (1) ، كما هو معروف عند الأصوليين. والإمام ابن ماجه أورد فعلا مضارعا مسبوقا بلام الأمر وجعله على الاستحباب فما منهجه في ذلك؟
قال ابن ماجه: (باب من يستحب أن يلي الإمام) (2) فذكر الحكم بالاستحباب، واستدل عليه بحديث: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى (3) » ، وهذا قد يؤخذ منه حكمان:
أولهما: أن المستحب عنده مأمور به حقيقة، وهذا هو رأي جمهور الأصوليين.
__________
(1) البحر المحيط 2 \ 356، تفسير النصوص 2 \ 234، الأمر والنهي لرمضان ص 12.
(2) سنن ابن ماجه ص 312، كتاب إقامة الصلاة باب رقم 45.
(3) ورد من حديث أبي مسعود أخرجه ابن ماجه برقم 976، ومسلم 432، وأبو داود 675، والترمذي 228، والنسائي 2 \ 90.(63/230)
ثانيهما: أن الأمر عنده يفيد الاستحباب عند تجرده، وهذا يخالف رأي الجماهير الذين يرونه مفيدا للوجوب (1) ، وإن كان استنباط هذا الرأي لابن ماجه فيه ما فيه؛ لأنه يحتمل أن ابن ماجه صرف هذا الأمر بخصوصه عن الوجوب لقرينة، فهو يرى أن الأمر المجرد يفيد الوجوب، لكن هذا الأمر صرف لقرينة خاصة.
__________
(1) روضة الناظر 2 \ 604، قواطع الأدلة 2 \ 476، الإبهاج 2 \ 42، أصول السرخسي 1 \ 132، ميزان الأصول 96.(63/231)
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي:
أورد ابن ماجه صيغة النهي وبوب لها بالكراهة في عدد من المواطن في سننه، فاستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في مستحمه (1) » . كراهة البول في المغتسل (2) ، ومن قوله: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه (3) » : كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه (4) » استفاد كراهة النخامة في المسجد (5) .
__________
(1) ورد من حديث عبد الله بن مغفل أخرجه ابن ماجه برقم 304، وأبو داود 27، والنسائي 1 \ 34، والترمذي 21، وأحمد 5 \ 56، وإسناده حسن.
(2) انظر: سنن ابن ماجه ص 111 كتاب الطهارة باب رقم 12.
(3) ورد من حديث أبي قتادة أخرجه ابن ماجه برقم 310، والبخاري في 153، مسلم 267.
(4) ورد من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أخرجه ابن ماجه برقم 761، والبخاري 408، ومسلم 547.
(5) سنن ابن ماجه ص 251 كتاب المساجد باب رقم 10.(63/231)
فقد يظن بأن ابن ماجه يرى أن النهي لا يفيد إلا الكراهة، ولا أرى ذلك صحيحا، بل ابن ماجه يوافق الجمهور في أن النهي يفيد التحريم. بدليل ما يأتي:
أولا: أن ابن ماجه يعبر بلفظ الكراهة وهو يريد التحريم كما سبق بيانه، والكراهة قد تطلق ويراد بها التحريم.
ثانيا: أن ابن ماجه عبر بلفظ النهي فيما ورد تأثيم فاعله مما يدل على أنه يرى أن النهي للتحريم، لأن الإثم إنما يلحق فاعل الحرام فهو يقول: (باب النهي أن يستلج الرجل في يمينه ولا يكفر) (1) ، ويستدل عليه بحديث: «إذا استلج أحدكم في اليمين فإنه آثم له عند الله من الكفارة التي أمر بها (2) » . فعبر بالنهي فيما فيه إثم مما يدل على أنه يرى أن النهي مفيد للتحريم.
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 683 كتاب الكفارات باب رقم 11.
(2) ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه برقم 2114.(63/232)
المبحث الرابع: دلالة صيغة " لا تفعل " على النهي:
أورد ابن ماجه هذه الصيغة " لا تفعل " في مواطن من سننه وبوب عليها بأنها للنهي، فأخذ (النهي عن البول في الماء الراكد " (1) من حديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد (2) » ،
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 124 كتاب الطهارة باب رقم 25.
(2) ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه برقم 344، وأخرجه بنحوه البخاري 239، ومسلم 282.(63/232)
واستفاد (النهي أن يرى عورة أخيه) (1) من حديث: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل (2) » ، وفهم (النهي عن تقدم رمضان بصوم) (3) من حديث: «لا تقدموا صيام رمضان بيوم ولا يومين (4) » واستنبط: (النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت) (5) من حديث: «إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت (6) » .
والقول بأن صيغة (لا تفعل) دالة على النهي هو مذهب الجماهير (7)
__________
(1) سنن ابن ماجه ص217 كتاب الطهارة باب رقم 137.
(2) ورد من حديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه برقم 661، ومسلم 338، وأبو داود 4018، والترمذي 2794.
(3) سنن ابن ماجه ص528 كتاب الصيام رقم 5.
(4) ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه برقم 1650، والبخاري 1914، ومسلم 1082،
(5) سنن ابن ماجه ص684 كتاب الكفارات باب رقم 13.
(6) ورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه برقم 2117. قال في زوائد ابن ماجه: في إسناده الأجلح مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات، وقد ورد النهي عن ذلك من حديث قتيلة أخرجه النسائي 7 \ 6، وأحمد 6 \ 371، والبيهقي 3 \ 216، والحاكم 4 \ 297، وصححه ابن حجر في الإصابة 4 \ 389. ومن حديث الطفيل أخرجه أحمد 5 \ 72، وابن ماجه 2118، وابن أبي شيبة 8 \ 654، والطبراني 8214، وصححه البوصيري في زوائد ابن ماجه.
(7) العدة 2 \ 425، تيسير التحرير 1 \ 375، شرح الكوكب 3 \ 77، اللمع 14(63/233)
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل:
قرر الإمام ابن ماجه أن بعض الأفعال منهي عنه واستدل على ذلك بأحاديث ترتب العقوبة على تلك الأفعال وذلك في مواطن عديدة.
فمثلا قرر ابن ماجه (النهي عن تخطي الناس يوم الجمعة) (1) أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم (2) » .
وقرر (النهي عن المشي على القبور والجلوس عليها) (3) .
أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة تحرقه خير له من أن يجلس على قبر (4) » .
بينما قرر ابن ماجه كراهية بعض الأفعال؛ لأن الشرع قد رتب العقوبة عليها، وهذا يؤكد ما قرر قريبا من أنه يرى أن لفظ الكراهة يراد به ما اصطلح عليه أخيرا بالتحريم.
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 354 كتاب إقامة الصلاة، باب رقم 88.
(2) ورد من حديث معاذ بن أنس أخرجه ابن ماجه برقم 1116، والترمذي 513 بإسناد ضعيف لضعف رشدين بن سعد وزبان بن فائد، لكن أرد النهي عن التخطي من حديث ابن بسر أخرجه أبو داود 1118، والنسائي 3 \ 103 بإسناد حسن.
(3) سنن ابن ماجه ص 499 كتاب الجنائز باب رقم 45.
(4) ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه برقم 1566، ومسلم 97، وأبو داود 3228، والنسائي 2 \ 95.(63/234)
ومن المواطن التي قرر فيها ابن ماجه الكراهة لفعل؛ بناء على ترتيب العقوبة على ذلك الفصل قوله: (باب كراهية الخلع للمرأة) (1) ؛ استدلالا بحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (2) » .
وتقريره (كراهية الأيمان في الشراء والبيع) (3) لما ورد من حديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذكر منهم: " المنفق سلعته بالحلف الكاذب (4) » .
ومن أمثلة ذلك قوله: (باب كراهية لبس الحرير) (5) ، واستدل على ذلك بحديث: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة (6) » .
والأصوليون يذكرون أن الفعل يوصف بالتحريم بناء على ورود خطاب الشارع بترتيب العقوبة على ذلك الفعل (7) .
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 662 كتاب الطلاق باب رقم 21.
(2) ورد من حديث ثوبان أخرجه ابن ماجه برقم 2055 وسبق تخريجه.
(3) سنن ابن ماجه ص744 كتاب التجارات باب رقم 30.
(4) ورد من حديث أبي ذر أخرجه ابن ماجه برقم 2208 وسبق تخريجه.
(5) سنن ابن ماجه ص 1187 كتاب اللباس باب رقم 16.
(6) ورد من حديث أنس أخرجه ابن ماجه برقم 3588 وسبق تخريجه.
(7) الحكم التكليفي للبيانوني 198، أصول الفقه الإسلامي للطنطاوي ص 73.(63/235)
المبحث السادس: استفادة النهي عن فعل بوصف ظرف بنقيضه:
إذا ورد في الشرع بأن الزمان متصف بوصف يناقض فعلا ما؛ فهل يعتبر ذلك دليلا على أن هذا الفعل منهي عن إيقاعه في ذلك الزمان؛ لأن الزمان متصف بنقيض ذلك الفعل؟
ظاهر تصرف ابن ماجه أنه نهي عنه وذلك أنه قرر (النهي عن صيام أيام التشريق) (1) ؛ استدلالا «بوصف النبي صلى الله عليه وسلم أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب (2) » .
ولم أجد لذلك شاهدا في السنن إلا هذا الموطن، إلا أن استفادة النهي من ذلك متقررة عند العلماء مما يجعل المرء يغلب موافقة ابن ماجه لهم في ذلك.
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 548 كتاب الصيام باب رقم 35.
(2) ورد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه برقم 1719، وابن حبان 3601، وابن أبي شيبة 4 \ 21، والطبري في تفسيره 3914، والطحاوي 2 \ 244، والدارقطني 4 \ 283، وأحمد 2 \ 229، 7134، وأبو يعلى 6023. قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد ورد هذا المعنى من طريق عشرين صحابيا، انظر في: المطالب العالية 6 \ 181.(63/236)
الخاتمة:
الحمد لله، وبعد: فمن خلال هذه الدراسة يظهر لنا عمق(63/236)
الجوانب الأصولية لدى الإمام ابن ماجه رحمه الله، وقد اقتصرت هنا على تراجم الإمام ابن ماجه التي وجد الحكم فيها صريحا من غير نسبة لقائل، سواء كانت متعلقة بالقواعد الأصولية مباشرة أو فيها حكم فقهي مبني على دليل شرعي، فيتم إبراز القاعدة التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
هذه خلاصة البحث، أما عن نتائجه، فقد تم استعراضها في ذات البحث لكن من أهمها ما يأتي:
1 - هذه الدراسة تبين لنا أنواع تراجم الإمام ابن ماجه بالنسبة لعلاقتها بالأحكام الشرعية والقواعد الأصولية.
2 - أن القواعد الأصولية كانت محل عناية العلماء في أوائل مراحل التدوين، مما يدل على أنها كانت تحت أنظار العلماء السابقين للتدوين في زمن الصحابة والتابعين، بل هي موجودة في زمن التشريع؛ لأن كثيرا من القواعد مبنية على أدلة شرعية.
3 - أطلق الإمام ابن ماجه لفظ (الكراهة) وأراد به التحريم حسب الاصطلاح الأصولي.
4 - أطلق الإمام ابن ماجه لفظ (الرخصة) مريدا به استثناء بعض الصور من التحريم مع وجود علة التحريم فيها لدليل خاص كما هو منهج الأصوليين، وأطلق أيضا لفظ الرخصة على أدلة الإباحة في المسائل التي تعارضت فيها الأدلة منعا وإباحة، وأطلق أيضا لفظ (الرخصة) على الوضوء من سؤر(63/237)
الهرة، فهذا يحتمل أنه يريد به نفس الإطلاق الأول؛ لمماثلة سؤرها لسؤر الكلب، ويحتمل أن يريد به إطلاق لفظ الرخصة على ما فيه توسعة، والأصوليون لا يطلقون على ذلك رخصة إلا من باب التجوز.
5 - قد يفهم من كلام الإمام ابن ماجه عدم القول بحجية القياس، وبتمحيص النظر ظهر لي أنه يرى حجيته، والعبارات عنه في ذم القياس إنما هي في ذم المتكلف منه مما هو مقابل للنص.
6 - ظاهر عبارة ابن ماجه تدل على أنه يرى جواز تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة وهو قول لبعض الأصوليين، لكن الباحث رجح خلاف هذا القول.
7 - يرى ابن ماجه أن المندوب مأمور به حقيقة كما هو رأي الجمهور.
8 - قد يفهم من كلام ابن ماجه أن النهي إنما يفيد الكراهة، لكن حقيقة مذهبه أنه يرى أن النهي مفيد للتحريم بحسب الاصطلاح الأصولي.
9 - يرى ابن ماجه أن صيغة (لا تفعل) دالة على النهي إذا تجردت عن القرائن كما هو رأي الجمهور.
10 - يرى ابن ماجه أن الفعل يعتبر محرما منهيا عنه إذا رتب الشارع العقوبة على فعله.
وهذه النتائج تظهر بعض منزلة الإمام ابن ماجه العلمية في(63/238)
القواعد الأصولية. وهذا يدعوني إلى أن أوصي بالاهتمام بكتب الأحاديث النبوية وخصوصا الكتب المسندة التي اهتم أصحابها بكتابة عناوين لأبوابها؛ لأن ذلك يفيدنا في معرفة المراحل الأولى لتدوين القواعد الأصولية، ويفيدنا في تعرف التطور التاريخي لهذا العلم سواء في مصطلحاته أو في الآراء فيه، كما يفيدنا في إظهار أدلة أخرى للقواعد الأصولية لم يذكرها الأصوليون، ويفيدنا في تعرف بعض التطبيقات للقواعد الأصولية.
ولا يعني ذلك إغفال غيرها من الكتب كالشروح أو الكتب المؤلفة في ترتيب المدونات الحديثية، فإن لها مشاركة قوية في ذلك.
هذا وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية للرجوع إلى المصادر الأصلية في مسائلنا العلمية. وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.(63/239)
صفحة فارغة(63/240)
حكم الجناية على الجنين (الإجهاض)
دراسة فقهية مقارنة
للدكتور عبد الله بن عبد العزيز العجلان
تقديم:
الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، سبحانه لم يترك أحدا من خلقه سدى، كيف وهو الذي لم يخلقهم عبثا، وأشهد أن لا إله إلا الله لا يظلم أحدا، وحرم الظلم أبدا، وكل نفس بما كسبت رهينة.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، أرسله الله عز وجل بالحق ودين الهدى ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فخلص البشرية من أرجاس الجاهلية، وأبطل البغي الذي أتى على الأخضر واليابس ولم ينج الصبيان والأطفال، فلم يشفع لهم ضعفهم لدى قلوب قست فصارت كالحجارة أو أشد قسوة {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1) {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2) . .
صلى الله وسلم وبارك على النبي الأمي الطاهر الزكي، وعلى آله وأصحابه ومتبعيه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
__________
(1) سورة التكوير الآية 8
(2) سورة التكوير الآية 9(63/241)
فقد استعرت المناقشات، واحتدم الجدل في كثير من المجالس والمنتديات والمنازل وعيادات الأطباء حول حكم الإجهاض، ومدى أحقية المرأة أو الزوجين في الإقدام عليه، وذلك نتيجة لعوامل دخيلة على مجتمعنا المسلم ألحقت التغيير الواضح بكثير من عاداته وسلوكياته التي كان منشؤها ديننا الحنيف. فخروج النساء إلى مواقع العمل ومزاحمتهن للرجال في موارد الأرزاق لدرجة أن الكثير منهن زهدن في البنين والبنات، لما يستتبعه وجود الأولاد من لزوم المنازل وتعطل بعض الرواتب المالية، وربما فقدن الوظيفة التي اشرأبت إليها أعناقهن طويلا ولهثن وراءها كثيرا ولم ينلنها إلا بشق الأنفس.
وتحديد النسل ووأد الأجنة فلسفات اقتصادية جائرة، لكنها وجدت في زماننا من يتولى كبرها، ويبث شرها، ويملأ الدنيا ضجيجا وعجيجا بآثارها الموهومة ونتائجها المزعومة. سوء الأخلاق وانعدام القيم والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء. كما أثمر كثيرا من البهتان الذي يفترى بين الأيدي والأرجل. وضعف الإيمان بقضية الرزق المقدور، وعطاء الخلاق العليم، وانعدام الثقة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) ، وعدم النظر في أن البارئ العظيم خلق لكل نسمة فما واحدا يأكل، لكنه حباها ساعدين اثنين يعملان وينتجان، فكان رزق المجتهد الموفق دائما فائضا عن حاجته
__________
(1) سورة هود الآية 6(63/242)
بفضل الله ورحمته. وكانت الطامة الكبرى عدم الاكتفاء بالعزل، رغم تعدد صوره وتيسير الحصول عليه لكل طالب، بل وفرضها على كثير من الراغبين عنها والزاهدين فيها، فامتدت اليد الآثمة لتبتر ثمرة إنسانية قبل نضجها، وتحرم البشرية من جناها المنتظر وفلذة كبدها التي لا غنى لها عنها.
وابن الإسلام يدرك كيف وجه دينه الحنيف عنايته التامة إلى الأجنة في الأرحام بل في الأصلاب والترائب. فقد أمر الإسلام أتباعه بالسمو بعلاقاتهم الزوجية عن البهيمية والحيوانية، فأوجب حافظ الفروج وإحصانها فلا تتاح ولا تباح ولا تستباح إلا بحقها وحلها، وحرم تعدي الحدود في هذا المضمار ولو لم يترتب عليه أثر ولا ضرر قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) . .
فالزنا واللواط والاستمناء- أي العادة السرية- والمساحقة كل تلك من الجنايات، ولو صين الماء المهدر فيها ودفق في الأرحام الطاهرة لكانت منه الأجنة الطيبة والسلالات الزكية المخلصة. والأرحام هي التربة الصالحة لهذا الحرث، فأوجب الله على الناس العفاف الذي يضمن صيانتها بل وجعل لها حرما تبعد - مع مراعاة حدوده - التدنس بالفاحشة أو الوقوع في الرذيلة، وذلك بحفظ الأبصار والأسماع والألسنة والأعراض والخلوة، مع قطع
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7(63/243)
سبيل الشيطان في التنكر تحت ستار القرابة، أو الترفع من الشبهة «فالحمو الموت (1) » . والرجل مسئول عن حسن اختياره أما لولده ومعدنا لغرسه فإن العرق دساس.
وإذا طلب الزواج فمن أجل العفاف والذرية الصالحة التي تباهي بها الأمم، وإذا أفضى إلى امرأته سأل الله حفظ النطفة من أن يمسها الشيطان، فإن صارت النطفة علقة لها من المسؤوليات ما يكفل لها حقوقها، فالجنين وشيجة بين الأم والأب، يتراحمان من أجله وتذوب المشكلات وتذلل العقبات ويجعل للأسرة كيانا يحرص عليه ورونقا تقر له عين المحب.
وإذا تفاقمت المشكلات وتراكمت المعضلات وحل بالأسرة الدمار ضمن للجنين حقه بل اكتسب الوالدان من أجله حقوقا يفقدانها بدونه فهل تستوي الحامل وغير الحامل؟
والذي راعني أن حق الجنين في الحياة مسلمة بدهية تضافرت عليه الأدلة الشرعية والفطرة الإنسانية، ومع ذلك لم يسلم من تطاول ذوي الألسنة الحداد، والقلوب القاسية الشداد. فقمت أجمع في هذه العجالة حكم الجناية على الجنين، والآثار المترتبة على ذلك العمل المشين. ورتبته على تقديم، وتمهيد، ومقصدين، وخاتمة. ولا أدعي أنني أتيت بما لما تأت به الأوائل، بل غاية المسعى أنني كشفت اللثام عن أقوال الفقهاء في كل مسألة، وسقت حججهم وأدلتهم، مع بيان وجه الدلالة فيها على المدعي، ثم المناقشة والترجيح حسب القواعد والضوابط المعمول بها عند أرباب الشأن في هذا المضمار.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .(63/244)
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وينفع به كاتبه وقارئه ومن اهتم به، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أسأل الله عز وجل أن يغفر لي، ولمن أفاد من هذا البحث فائدة فدعا لي أو وقف على عيبي فأهداه لي، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.(63/245)
التمهيد في معنى الجناية وأقسامها، والجنين والأطوار التي يمر بها:
معنى الجناية في اللغة والاصطلاح أولا: معنى الجناية وأقسامها:
(1) : معنى الجناية:
(أ) معناها في اللغة: هي في الأصل مصدر جنى يجني جناية، من جني الثمار وأخذه من على شجره، وتطلق على كل ما يجنيه الإنسان من شرور وآثام.
(ب) معناها اصطلاحا: اختلف الفقهاء في معناها اصطلاحا على النحو التالي:
1 - فعرفها الحنفية بأنها: اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 \ 527، طبعة الحلبي.(63/245)
2 - وعرفها المالكية بأنها: فعل الجاني الموجب للقصاص (1) ، أو هي ما يحدثه الرجل على نفسه أو غيره مما يضر حالا أو مآلا (2) .
3 - وعرفها الشافعية بأنها: الجناية على الأبدان (3) .
4 - وعرفها الحنابلة بأنها: كل فعل أو عدوان على نفس أو مال (4) .
ويظهر من تعريف الجناية عند الأئمة الأربعة أن الجناية عند الحنفية والحنابلة هي ما كانت على نفس أو مال، وعند المالكية هي ما كانت موجبة للقصاص، أي ما كانت على نفس فقط، وعند الشافعية هي ما كان على الأبدان.
ولكن هؤلاء الفقهاء خصوا الجناية بما وقع على الأبدان فقط، أما ما وقع على الأموال فيسمونه غصبا ونهبا وسرقة وخيانة وإتلافا، وما وقع على الفروج يسمونه زنا وسفاحا، وما وقع على الأعراض يسمونه قذفا. وخالف في ذلك ابن رشد الحفيد حيث بين أن الجنايات تطلق على كل الجرائم التي توجب حدا أو قصاصا أو كفارة، سواء كانت على الأبدان أو على الأموال أو على الفروج
__________
(1) الشرح الكبير للإمام الدردير 4 \ 214، طبعة الحلبي.
(2) مواهب الجليل للحطاب 6 \ 276، الطبعة الثانية 1398 هـ.
(3) الأم للإمام الشافعي 6 \ 1، طبعة الشعب، تحفة المحتاج لابن حجر 4 \ 1، طبعة دار صادر بيروت.
(4) المغني لابن قدامة ومعه الشرح الكبير 9 \ 318، طبعة دار الكتاب العربي.(63/246)
أو على الأعراض أو تعديا على ما حرمه الله عز وجل (1) .
والجناية قد تكون على الدين بالفتنة والتضليل، وقد حرمت الشريعة الإسلامية هذه الأفعال ووضعت لها العقوبات الرادعة؛ لأن حفظ الأصول الخمسة: الدين والروح والعرض والعقل والمال من أهم مقاصد الشريعة، لكونها قوام حياة الأفراد والمجتمع.
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 \ 394، 395، طبعة الحلبي.(63/247)
(2) أقسام الجناية:
بعد أن اصطلح عامة الفقهاء على أن الجناية هي ما كانت على الأبدان فإنهم يقسمونها ثلاثة أقسام:
أ- جناية على النفس، وهي التي تؤدي بالنفس إلى الهلاك كالقتل.
ب- جناية على ما دون النفس، وهي التي تكون على عضو من أعضاء الجسد ولا تؤدي بالنفس إلى الهلاك كالجروح وقطع الأعضاء.
جـ- جناية على ما هو نفس من وجه ولا يعد كذلك من وجه آخر وهو الجنين.
ويعبر الحنفية بالجناية على الجنين بأنها جناية على ما هو نفس من وجه دون وجه، وذلك لأن الجنين يعد نفسا من وجه، ولا يعد كذلك من وجه آخر، فيعد نفسا من وجه أنه آدمي، ولا يعد كذلك؛ لأنه لم ينفصل عن أمه، فهو يتحرك بتحركها ويقر(63/247)
بقرارها ويعتق بعتقها ويدخل في البيع ببيعها فهو لم ينفصل عن أمه.
ويعبر المالكية والشافعية والحنابلة عن هذه الجناية بالجناية على الجنين، ولكن هذا الاختلاف بين الفقهاء ليس له أي اعتبار، وذلك لأن ما يقصده الأحناف هو نفس ما يقصده الجمهور، وهو الاعتداء على حياة الجنين (1) .
__________
(1) شرح الزرقاني على الرسالة 8 \ 33، نهاية المحتاج 7 \ 260، المغني لابن قدامة 7 \ 800.(63/248)
ثانيا: معنى الجنين:
(أ) معناه لغة: الجنين بفتح الجيم بعده نونان بينهما ياء تحتية ساكنة على وزن عظيم، هو كل مستور، يقال: جن الليل إذا أظلم، وأجن فلان الشيء في صدره أي أكنه وستره، ومنه المجنون لاستتار عقله، والجان لاستتاره عن أنظار الناس، وأجنته الحامل أي سترته، والجمع أجنة بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد النون المفتوحة، وأجنن، وهو المادة التي تتكون في الرحم من عنصري الحيوان المنوي والبويضة، وقد كثر استعماله في الولد ما دام في بطن أمه (1) فإذا خرج حيا فهو (ولد) وإن خرج ميتا فهو (سقط) .
__________
(1) لسان العرب مادة (جن) القاموس المحيط مادة (جن) المعجم الوسيط 147(63/248)
(ب) معناه اصطلاحا: اختلف العلماء فيما بينهم في متى يسمى الحمل جنينا وعليه يعرف معناه اصطلاحا.
1 - فذهب المالكية والظاهرية وبعض الحنفية إلى أن الحمل يسمى جنينا منذ التقاء الحيوان المنوي بالبويضة وحصول الإخصاب، سواء أكان نطفة أم علقة أم مضغة، ويطلق عليه هذا الاسم إلى أن يخرج من الرحم. فهؤلاء يرون أن الجنين يطلق على حمل المرأة ما دام في بطنها، سواء كانت علقة أو مضغة، تام الخلق أو ناقصه، بلغ الأربعة الأشهر أو لم يبلغها.
2 - وذهب الشافعية والحنابلة وجمهور الحنفية إلى أنه يطلق على الحمل جنينا بعد أن يفارق المضغة والعلقة حتى يتبين منه شيء من خلق الآدمي، أو يشهد الثقات بأنه مبدأ آدمي (1) وإطلاق اسم الجنين عليه قبل ذلك يكون من باب المجاز،
__________
(1) الأم للإمام الشافعي 5 \ 143، طبعة الشعب، المغني لابن قدامة 7 \ 799، حاشية ابن عابدين 2 \ 411.(63/249)
باعتباره أنه مقدمة للجنين الحقيقي.
وأرى أن هذا الكلام هو الأولى بالقبول وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ وذلك لأن كثيرا من الفقهاء وإن لم يصرحوا بتعريف الجنين، إلا أنهم حينما تحدثوا عن أحكامه عند انفصاله عن أمه ولم تتضح فيه صورة الآدمي ولم يشهد الثقات بأنه مبدأ آدمي قالوا: لا يجب فيه شيء؛ أي لا غرة ولا غيرها. فدل ذلك على أنهم لا يسمون الحمل جنينا ولا تجب فيه الغرة إلا بعد تصوره. وقال الإمام الباجي: ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد، سواء كان ذكرا أو أنثى، كما لم يستهل صارخا، والجنين إذا خرج حيا فهو الولد، أما ميتا فهو السقط (1) .
__________
(1) انظر: المنتقى للباجي 7 \ 80، طبعة دار الفكر بيروت.(63/250)
ثالثا: الأطوار التي يمر بها الجنين:
إن الجنين يمر بأطوار سبعة ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (2) {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12
(2) سورة المؤمنون الآية 13
(3) سورة المؤمنون الآية 14(63/250)
الطور الأول: التراب.
الطور الثاني: النطفة وهي ماء الرجل وماء المرأة.
الطور الثالث: العلقة وهي المني الذي ينتقل من طوره فيصير ماء غليظا متجمدا.
الطور الرابع: المضغة وهي انتقال الدم الغليظ إلى لحم، والمضغة المخلقة تامة الخلقة (1) .
الطور الخامس: العظام.
الطور السادس: اللحم.
الطور السابع: الروح.
وقد اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة، أي بعد مائة وعشرين يوما من الحمل واستدلوا على ذلك بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح (2) » . . . . فهذا الحديث يدل على أن الروح تنفخ بعد أربعة أشهر.
__________
(1) الإفصاح في فقه اللغة 1 \ 2، طبعة دار المعرفة.
(2) فتح الباري 11 \ 477، صحيح مسلم بشرح النووي 16 \ 190.(63/251)
المقصد الأول: في الجناية على الجنين وما يتعلق بها:
التمهيد: في العزل عن النساء:
قبل أن أتحدث عن الجنين وما يتعلق به من أحكام أود أن أتحدث عن حكم العزل عن النساء في هذا التمهيد، فأقول وبالله تعالى التوفيق.
اختلف الفقهاء في حكم العزل عن النساء على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز العزل عن المرأة في الجملة، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في هل يكون ذلك بإذنها أم يجوز بغير إذنها؟
أ- فعند الحنفية والمالكية وبعض الشافعية لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها ولا عن الأمة إلا بإذن سيدها.
ب- وعند الشافعية في الأصح أنه يجوز العزل مطلقا عن الحرة والأمة ولا يشترط إذنهما.
ج- وعند الحنابلة روايتان في الأمة: الأولى: أنه يعزل بإذنها، والأخرى: أنه يعزل بغير إذنها، وفي الحرة أنه يعزل بإذنها.(63/252)
2 - وذهب الظاهرية إلى أنه يحرم العزل عن النساء (1) .
الأدلة: استدل القائلون بجواز العزل في الجملة بما يأتي:
1 - ما رواه مسلم بسنده إلى «أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبايا فكنا نعزل، ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لنا: "وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة (2) » .
2 - ما رواه مسلم بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: «إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال صلى الله عليه وسلم: " أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد
__________
(1) المحلى لابن حزم الظاهري 10 \ 71.
(2) صحيح مسلم 3 \ 613، طبعة عيسى البابي الحلبي.(63/253)
أخبرتك سيأتيها ما قدر لها (1) » .
3 - ما رواه البخاري بسنده إلى «جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل (2) » . وفي رواية مسلم «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا (3) » .
4 - ما روي «عن عمر رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها (4) » .
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر على المدعي.
واستدل القائلون بعدم جواز العزل بما يأتي:
1 - ما رواه مسلم بسنده «عن جدامة بنت وهب (6) ، فنظرت في الروم والفرس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 10 \ 13.
(2) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن الترمذي النكاح (1137) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .
(3) صحيح البخاري بحاشية السندي 3 \ 187، صحيح مسلم 3 \ 616.
(4) منتقى الأخبار ج 6 \ 254، وقال الشيخ: رواه أحمد وابن ماجه وليس إسناده بذلك.
(5) صحيح مسلم 2 \ 167 رقم 140
(6) (5) الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة الغيلة: هي إرضاع المرأة ولدها وهي حامل. انظر: المصباح المنير 175، طبعة لبنان.(63/254)
شيئا"، ثم سألوه عن العزل فقال صلى الله عليه وسلم:
"ذلك الوأد الخفي» .
وجه الدلالة من هذا الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه العزل بالوأد الخفي بجامع أن كلا قتل، فدل ذلك على اشتراكهما في الحكم وهو الحرمة، وإلا لما كان للتشبيه فائدة، وقد قال الإمام القرطبي بعد تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) . .
وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود والنسل، والعزل منع أصل النسل فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا، فإذا كان هذا في العزل والجنين لم يتكون بعد فكيف بالإجهاض بعد أن تكون؟ (2) .
ويناقش هذا الأمر من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث منسوخ فلا يؤخذ منه حكم (3) وأجيب عن هذا: بأن دعوى النسخ تحتاج إلى معرفة تاريخ من الحديثين، وهذا متعذر كما أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 \ 32
(3) نيل الأوطار للإمام الشوكاني 6 \ 223(63/255)
تعذر الجمع بين الحديثين، والجمع بين الحديثين ممكن.
الوجه الثاني: أنه يحتمل أن يكون حديث جدامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما يقولونه، فقد روى الترمذي بسنده إلى «جابر رضي الله عنه قلنا: يا رسول الله إنا كنا نعزل فزعمت اليهود إنها الموءودة الصغرى، فقال صلى الله عليه وسلم: " كذبت اليهود إن الله إذا أراد أن يخلقه فلم يمنعه (1) » .
وهذا الحديث أقوى من حديث جدامة لأنه أكثر منه طرقا (2) . وأن الزيادة في آخره وهي: "ذلك الوأد الخفي" تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، ولم يذكرها أهل السنن الأربعة. وقد جمع ابن القيم رضي الله عنه بين الحديث، وحديث: " كذبت اليهود " فقال: الذي كذبت فيه اليهود النبي صلى الله عليه وسلم هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن، لذلك لم يسمه وأدا حقيقة وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جدامة.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن العزل جائز ولكن مع الكراهة حتى ولو
__________
(1) سنن الترمذي، 3 \ 443، كتاب النكاح.
(2) سبل السلام للصنعاني 3 \ 136(63/256)
كان برضا الزوجة، إلا لحاجة كأن يكون الزوج في دار حرب، أو تكون الزوجة مريضة وما إلى ذلك.(63/257)
المبحث الأول: الفعل المكون للجناية:
إن الجناية على الجنين تعد تامة إذا انفصل الجنين عن أمه، بغض النظر عن حياته أو موته، ولا تعد الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل عن أمه، فمن ضرب امرأة على بطنها أو أعطاها دواء أزال ما في بطنها من انتفاخ أو سكنت حركة كانت تشعر بها فلا عبرة بذلك كله، ولا يشترط في الفعل المكون للجناية أن يكون من نوع خاص، فقد يكون عملا أو قولا، وقد يكون ماديا أو معنويا.
فالأفعال المادية: هي الضرب، والقتل، والجرح، والضغط على البطن، والتجويع، وتناول الدواء، وحمل شيء ثقيل، ووضع شيء غريب في الرحم (1) ، وما إلى ذلك. وأيضا الأقوال والأفعال المعنوية: كالتهديد، والإفزاع، والصياح، والتخويف، وشم رائحة ضارة، أو طلب ذي الشوكة للحامل، أو دخوله عليها، وما إلى ذلك.
__________
(1) كشاف القناع للبهوتي 6 \ 24، المغني لابن قدامة 7 \ 208، تكملة المحلى لأبي رافع ابن حزم 11 \ 31(63/257)
وقد حدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها فقيل لها: أجيبي عمر، فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هي في الطريق فزعت، فضربها الطلق فدخلت دارا، فألقت ولدها، فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم عليه أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب، وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل عليه عمر رضي الله عنه فقال: ما تقول يا أبا الحسن، فقال. إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى إن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها بسببك. قال: فأمر عليا أن يقسم عقله على قريش (1) .
وقد يقع الفعل المكون للجناية من الأم أو الأب أو من أجنبي، وأيا كان الجاني فهو مسئول عن جنايته.
__________
(1) المصنف لعبد الرزاق 9 \ 458، طبعة المجلس العلمي سنة 1390 هـ(63/258)
المبحث الثاني: حكم إجهاض الحمل وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إجهاض حمل النكاح (أي الشرعي) :
وقبل أن أتحدث عن حكم إجهاض الحمل أبين معنى الإجهاض، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الإجهاض في اللغة: هو إلقاء الولد قبل تمام مدته، يقال: أجهضت الناقة إجهاضا فهي مجهض، أي ألقت ولدها لغير تمام، وأجهضت الناقة والمرأة ولدها أسقطته ناقص الخلقة. وقيل(63/258)
الجهيض: هو السقط الذي تم خلقه ونفخ فيه الروح من غير أن يعيش. وقد يكون أجهض بمعنى أعجل، يقال: أجهضه عن الأمر إذا أعجله عنه، وأجهضت الناقة أسقطت، وجاء في المعجم الوسيط: إن الإجهاض هو إسقاط المرأة جنينها بفعل منها عن طريق دواء أو غيره أو بفعل من غيرها (1) .
والإجهاض عند الفقهاء يطلق على الإسقاط والإلقاء والطرح والإنزال، وإنما يغلب في عبارتهم إيراد لفظ إسقاط بدل إجهاض، غير أن الشافعية يطلقون لفظ إجهاض.
وللحمل في هذا المقام طوران:
الطور الأول: ويبدأ منذ اختلاط النطفة بماء المرأة واستقرارها في الرحم حتى يتم لها أربعة أشهر.
الطور الثاني: بعد تمام أربعة أشهر، فإن الروح تنفخ فيه بعد مائة وعشرين يوما كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة التي سبق بعضها وسنورد بعضها الآخر إن شاء الله فيما يأتي.
وقد اتفق العلماء على تحريم الإجهاض على هذا الطور، وذلك لأن الحياة دائرة مع وجود الروح والبدن، فمتى قامت الروح بالبدن سمي حيا، ومتى فارقته صار ميتا، ولذا قيل إن الجنين له حياة من وجه دون وجه (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة جهض، المعجم الوسيط 149، طبعة مكتبة الصحوة.
(2) حاشية ابن عابدين 2 \ 411، مطالب أولي النهى 1 \ 269، طبعة المكتبة السلفية(63/259)
وأما الطور الأول: وهو ما قبل نفخ الروح، أي قبل تمام أربعة أشهر. فقد اختلف الفقهاء في حكم إسقاط الجنين في هذا الوقت على مذهبين:
1 - فذهب المالكية. وبعض الحنابلة وبعض الحنفية والشافعية في المذهب وابن تيمية والظاهرية إلى(63/260)
أن إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه حرام لا يجوز.
2 - وذهب الحنابلة وجمهور الحنفية والشافعية في مقابل(63/261)
المذهب إلى أنه يباح الإسقاط بعد الحمل ما لم يتخلق من الولد شيء، أي: في مرحلته الأولى، وهي تشمل النطفة والعلقة والمضغة.
الأدلة:
استدل القائلون بحرمة إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه بما يأتي:
1 - ما رواه البخاري ومسلم بسنديهما إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح. فوالله إن أحدكم - أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (1) » .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 11 \ 477، صحيح مسلم بشرح النووي 16 \ 190.(63/262)
2 - «عن مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا أراد الله خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم (2) » . ".
وجه الدلالة في هذين الحديثين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر عن النطفة في الحديث الأول بقوله: " أحدكم " بل إن الضمير في قوله: " فينفخ فيه الروح " عائد إلى الآدمي قبل نفخ الروح، فهذا شاهد لما قال به الأطباء في العصر الحديث من: أن الحمل تسري فيه الحياة من أول يوم، وفي الحديث الثاني بين أن النطفة تتكون من أول
__________
(1) فتح الباري، 11 \ 480، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 \ 57، دار الريان للتراث. والآية من سورة الانفطار، الآية 8
(2) سورة الانفطار الآية 8 (1) {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}(63/263)
لحظة وتنمو فلا يجوز التعرض لها وإسقاطها.
3 - أن المضغة والعلقة أصل الجنين، فلا يجوز الاعتداء عليها كما لا يجوز للمحرم كسر بيض الصيد في الحرم، فإن فعل ذلك ضمنه، لأنه أصل الصيد، وإيجاب الجزاء أو الضمان يستلزم الإثم وما فيه إثم لا يجوز إسقاطه (1) .
4 - أن امتزاج ماء المرأة بماء الرجل بمثابة الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود، والرجوع عن هذا العقد يعد فسخا وقطعا ورفعا، وإلغاء العقود بدون اتفاق الأطراف المعنية به لا يجوز، والسقط أحد هذه الأطراف مما يتعذر أخذ رأيه في ذلك فيكون حكم الإسقاط محرما (2) .
5 - إن الإسقاط يشبه الوأد لاشتراكهما في القتل، إذ الإسقاط فيه قتل نبت تهيأ ليكون إنسانا، والوأد محرم، فيكون الإسقاط محرما (3) .
واستدل القائلون بعدم حرمة إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه بما يأتي:
1 - أن الحمل قبل نفخ الروح فيه لا يكون إلا مضغة أو علقة،
__________
(1) تكملة فتح القدير 10 \ 300.
(2) إحياء علوم الدين 2 \ 51.
(3) مواهب الجليل للحطاب 3 \ 477.(63/264)
فهو في كل ذلك بعض أمه ولم يستقل بحياة، فليس إجهاضه قتلا لنفس فلا يأثم بإسقاطه (1) .
2 - أن كل ما لم تحله الروح لا يبعث يوم القيامة، ومن ثم لا اعتبار لوجوده، ومن هو كذلك فلا حرمة في إسقاطه (2) .
3 - أن الجنين في هذه الحالة لم يتخلق، وما لم يتخلق فليس بآدمي، وإذا لم يكن آدميا فلا حرمة له، وعليه يجوز إسقاطه (3) .
ويناقش هذا:
بأن الاعتداء على الجنين في هذه الحالة هو إيقاف له عن نموه بغير حق، والاعتداء بغير حق محرم فيأثم فاعله، فلو تركت العلقة والمضغة لصارت آدميا، وبالتالي ينفخ فيه الروح ويتحقق له البعث يوم القيامة. فجميع أطوار الجنين فيها حياة محترمة، كما أن هذا الفعل هو تغيير لخلق الله ومعارضة لمشيئته سبحانه وتعالى وهو من عمل الشيطان الذي قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (4) . .
الرأي المختار:
وبعد: فإن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من حرمة إسقاط الحمل قبل تخلقه ونفخ الروح فيه هو المختار، ومن باب أولى
__________
(1) تكملة المحلى لأبي رافع بن حزم 11 \ 31.
(2) الفروع لابن مفلح 1 \ 281.
(3) حاشية ابن عابدين 1 \ 302.
(4) سورة النساء الآية 119(63/265)
بعد نفخ الروح فيه لما ذكروه من أدلة. وعليه فلا يجوز الاعتداء على الحمل لأي سبب من الأسباب التي يراها بعض أهل الأهواء في عصرنا مبيحة للإجهاض، وهي في الواقع أوهى من بيوت العنكبوت. فليس كثرة الأولاد أو قلة الدخل أو توقع الأمراض أو توقع تشوه المولود وما إلى ذلك مبيحا لإسقاط الحمل مع أن كل معضلة مالية أو اجتماعية أو طبيعية لا يعجز الله عز وجل عن كشفها وإزالتها كي تطمئن القلوب والنفوس.
فبين سبحانه وتعالى أن لكل نفس رزقها المستقل، فقال عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) . .
ويتكفل برزق كل حي، فقال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) ، حتى عديمة الحيلة وفاقدة القدرة على التصرف لم يكلها بارئها إلى عجزها فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) . .
كما أنه لا دافع للعلل ولا رافع للبلاء إلا خالق الأحياء ومقدر الأقوات وهو الرحمن الرحيم {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) . .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 31
(2) سورة هود الآية 6
(3) سورة العنكبوت الآية 60
(4) سورة الأنعام الآية 17(63/266)
المطلب الثاني: إجهاض حمل السفاح:
لقد تحدث الفقهاء عن الإجهاض بصفة عامة، وبينوا متى يحرم ومتى يجوز وما يترتب عليه، والحالات التي يجوز للمرأة أن تجهض جنينها، ولم يتحدثوا عن صفة الحمل.
ولكن النصوص الشرعية والقواعد الفقهية حرمت على المرأة إسقاط جنينها ولو كان من زنا وسفاح وذلك لما يأتي:
1 - قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) ، أي لا تتحمل نفس وزر غيرها مما لم يكن لها يد في كسبه أو التسبب فيه، ولا مسوغ في الشرع للتضحية بحياة بريء من أجل ذنب اقترفه غيره، والمعروف أن أول شيء تفكر فيه الزانية هو التخلص من هذا الحمل الذي يعرضها للفضيحة والعار والشنار.
2 - ما رواه مسلم «عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني. وأنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى، قال: " إما (2) لا فاذهبي حتى تلدي " فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة
__________
(1) سورة الزمر الآية 7
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 11 \ 203 كتاب الحدود والزنا.(63/267)
وقالت: هذا وقد ولدته، قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: "مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس (1) لغفر له " ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت» .
فهذه الواقعة تبين مدى اهتمام الشريعة الإسلامية بذلك الجنين حيث أخر النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على أمه حفاظا على حياته، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بأن يولد الولد بل رد أمه مرة أخرى لترضعه حتى يعتمد على نفسه، ثم دفع به إلى من يقوم بتربيته ورعايته.
ولقد أجمع الفقهاء على تأخير إقامة الحد على الحامل حتى تلد وليدها وترضعه استدلالا بهذا الحديث.
3 - أن في القول بجواز إسقاط الزانية حملها المتكون من الزنا مناقضة صريحة لما تقضي به قاعدة سد الذرائع، وذلك لأن
__________
(1) بفتح الميم وسكون الكاف هو من يتولى جمع الضرائب من الناس بغير حق، والمكس النقص والظلم.(63/268)
من أهم العقبات المانعة للمرأة من ارتكاب الزنا نشوء الحمل الذي يعرضها للفضيحة والعقاب، فإذا زالت عن طريقها هذه العقبة كان ذلك تشجيعا لها لارتكاب الفاحشة، وهذا بلا شك مخالف لمقاصد الشريعة التي من أهدافها حفظ الكليات الخمس فيكون الإجهاض في هذه الحالة من أسباب ارتكاب الفاحشة، وارتكاب الفاحشة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام (1) .
فلهذا حرمت الشريعة الإسلامية الإجهاض، سواء كان الحمل عن طريق شرعي كالنكاح أو بطريق غير شرعي من سفاح. يضاف إلى ذلك أن الإجهاض في أي طور من الأطوار له مضار عديدة بالمجتمع وبالأم، وقد ثبت طبيا أن الإجهاض فيه ضرر كبير على صحة المرأة وله مؤثرات خطيرة على جهازها العصبي، وفي هذا يقول الدكتور فريدرك تاسيخ: إن من أضراره أن يهلك عددا غير معلوم من أفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة، ويذهب عددا ويحدث للمرأة مؤثرات مرضية لا يستهان بعددها تحدث للمرأة بعد ذلك (2) .
ولهذا كله لا يجوز للمرأة إسقاط جنينها بأي حال من الأحوال، سواء أكان من طريق شرعي أم غير شرعي.
__________
(1) التلويح على التوضيح لسعد الدين التفتازاني 2 \ 126، مطبعة محمد صبيح بالقاهرة.
(2) الإسلام وتنظيم الأسرة 2 \ 406.(63/269)
المبحث الثالث: الإجهاض الضروري وحالات إباحته.(63/269)
أتحدث بإذن الله تعالى في هذا المبحث عن أمرين: معنى الضرورة، وضوابطها التي لا بد من الالتزام بها لمن أرادت إسقاط جنينها، فأقول وبالله التوفيق.
أولا: معنى الضرورة:
1 - الضرورة في اللغة: هي الاحتياج للشيء، يقال اضطره إليه أي أحوجه إليه (1) .
2 - والضرورة اصطلاحا: عرفها الفقهاء بتعاريف مختلفة في مبناها متحدة في معناها أرى أن أشملها: هو أن الضرورة بلوغ الإنسان حدا يخاف معه الهلاك أو الضرر الشديد على أحد الضروريات للنفس أو الغير يقينا أو ظنا إذا لم يفعل ما يدفع به الهلاك أو الضرر الشديد. وهذا التعريف يتناول
__________
(1) تاج العروس شرح القاموس مادة ضر.(63/270)
الضرورة والحاجة، إذ الحاجة هي المشقة الشديدة التي لا يخشى منها فوات النفس أو عضو من أعضاء البدن.
والضرورة: هي تلك التي يخشى منها ذلك (1) ، فتكون الحاجة ضرورة مجازا باعتبار المال، فهي إذا استمرت تكون تمهيدا للضرورة الحقيقية (2) . ومثال ذلك: إذا أصيبت المرأة بنزيف شديد ولكنه لا يؤدي إلى هلاكها عادة فهذه حاجة، فإذا استمر النزيف حتى أوصلها إلى درجة يخشى عليها الهلاك منه كان ذلك ضرورة. وإذا أطلقنا على الحاجة ضرورة مجازا فإنه يجب أن نراعي الفرق بينهما عند تطبيق الأحكام الشرعية، فلا نحكم بمقتضى الضرورة في موضع الحكم بمقتضى الحاجة. فالحاجة لا تبيح الحرام، أما الضرورة فهي التي تبيح الحرام، فلو أصيبت امرأة بنزيف شديد ولكن لا يؤدي بها إلى الهلاك في الغالب فهذا لا يبيح لها إجهاض جنينها؛ لأنها في حاجة، والحاجة لا تبيح الحرام.
أما إذا وصل بها الأمر لدرجة أنه يخشى من هذا النزيف أن يودي بحياتها حينئذ يجوز لها إسقاط جنينها لدفع الضرورة؛ لأن
__________
(1) غمز العيون والبصائر 1 \ 277، طبعة الكتب العلمية
(2) أحكام القران لابن العربي 1 \ 55.(63/271)
الضرورات تبيح المحظورات، والمرجع في ذلك كله لأهل الخبرة وهم الأطباء المسلمون الحاذقون.(63/272)
ثانيا: ضوابط الضرورة:
للضرورة ضوابط محددة ينبغي توافرها حتى نحكم بمقتضاها على إباحة الحرام، وهذه الضوابط هي:
1 - أن تكون الضرورة داخلة ضمن المقاصد التي جاء الشرع لتحقيقها (1) . وهذه المقاصد هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويجب مراعاة هذا الترتيب المذكور، فحفظ الدين مقدم على حفظ النفس، والنفس على العقل، والعقل على النسل، والنسل على المال. فلو تعارض حفظ النسل مع المال قدم حفظ النسل على المال. فلو أخبرنا الأطباء المسلمون بأن هذا الجنين يحتاج إلى مبالغ كثيرة لحفظه في بطن أمه فلا نقول نحن في ضرورة لإسقاطه، ولكن لا بد أن نقدم حفظ النسل على المال فنبذل المال في سبيل حفظ النسل.
2 - ألا تؤدي إزالة الضرورة إلى ضرورة أكبر منها أو إلحاق مثلها بالغير. مثال ذلك: ما لو أخبرنا الأطباء الثقات بأن هذه الآلام الشديدة التي تعاني منها الأم تزول بإسقاط جنينها، فهذه الضرورة لا تبيح لها إسقاط جنينها، وذلك لأن دفع الضرر عن الأم يؤدي إلى ضرر أكبر منه وهو قتل الجنين،
__________
(1) الموافقات للإمام الشاطبي 4 \ 27، طبعة دار المعرفة بيروت.(63/272)
من أجل ذلك ألغيت ضرورتها. وأما إذا تساوت الضرورتان ولم تترجح إحداهما على الأخرى، فلا تزال إحداهما على حساب الأخرى، لقاعدة الضرر لا يزال بمثله (1) .
فقد جاء في تكملة البحر الرائق: امرأة حامل اعترض الولد بطنها ولا يمكن إلا بقطعه أرباعا، ولو لم يفعل يخاف على أمه من الموت، فإن كان الولد ميتا في البطن فلا بأس به، وإن كان حيا لا يجوز لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد به الشرع (2) .
وقال الإمام الدسوقي في حاشيته: إن حفظ النفس مقدم على حفظ العضو (3) . وقال الإمام النووي: قال ابن سريج: إذا ماتت المرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها وأخرج فأطلق ابن سريج المسألة، وقال بعض أصحابنا: ليس هو كما أطلقها ابن سريج، بل يعرض على القوابل فإن قلن هذا الولد إذا أخرج. يرجى حياته وهو أن يكون له ستة أشهر فصاعدا شق جوفها وأخرج، وإن قلن لا يرجى بأن يكون له دون ستة أشهر لم يشق، لأنه لا معنى لانتهاك حرمتها فيما لا فائدة فيه. قال الماوردي: وقول ابن سريج هو قول أبي حنيفة، وهذا قول أكثر الفقهاء (4) .
__________
(1) غمز العيون والبصائر على الأشباه والنظائر 1 \ 278، نظرية الضرورة الشرعية للدكتور جميل ص 458.
(2) تكملة البحر الرائق.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 137.
(4) انظر. المجموع شرح المهذب 5 \ 254، طبعة مطبعة الإمام.(63/273)
وقال العز بن عبد السلام: " وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظا للروح إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها، وإن كان إفسادا لها لما فيه تحصيل المصلحة الراجحة وهو حفظ الروح " (1) .
وقال الإمام الخرقي: والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك فلا يشق بطنها، ويسطو عليه القوابل فيخرجنه أي تدخلن أيديهن في فرجها فيخرجن الولد من مخرجه، فالمذهب عند الحنابلة أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها مسلمة كانت أو ذمية (2) .
3 - أن تكون الضرورة حقيقية غير متوهمة. فالضرورة الحقيقية هي التي يعيش فيها الإنسان ولا يجد طريقا مشروعا يتخلص به منها كمن أصابها نزيف شديد ولم تجد طريقا لإيقافه إلا بإسقاط جنينها. أما إذا كانت الضرورة متوهمة وليست حقيقية كشعور المرأة بضيق في نفسها أو ارتفاع ضربات قلبها بسبب الحمل فليس لها إسقاط جنينها بهذه الأشياء ما لم يقل الأطباء بخطورة ذلك على الأم.
4 - أن تقدر الضرورة بقدرها: وذلك لقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) . فإن الإنسان إن وقع في مخمصة فله أن يتناول المحظور عليه بمقدار ما يدفع به
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج 2 \ 92، طبعة دار الجيل.
(2) المغني لابن قدامة 8 \ 596.
(3) سورة البقرة الآية 173(63/274)
هذه المخمصة، فإذا اندفعت حرم عليه أن يقرب ذلك المحظور. وكذلك المرأة إذا وقعت في ضرورة فللأطباء أن يقدروا الضرورة بقدرها، وأن يعطوها العلاج المناسب الذي يدفع ضرورتها، فإذا زالت الضرورة وقفوا عند هذا الحد.
وبعد هذا الحديث الموجز عن تعريف الضرورة وضوابطها، أرى أن المرأة إذا وقعت في ضرورة فلها إسقاط جنينها، بشرط مراعاة هذه الضوابط الشرعية للضرورة. وسوف أذكر بعض الأمثلة التي من أجلها أباح الفقهاء للمرأة إسقاط جنينها وهي:
1 - أن تحمل المرضع وينقطع لبنها بسبب الحمل وليس لولي الصبي ما يستأجر به المرضع أو يوفر له اللبن ويخشى هلاك الصبي ويخبره طبيب مسلم ثقة صادق أنها إن أجهضت عاد لبنها، فهنا ترتكب الضرر الأخف دفعا للضرر الأعظم وهو موت ولدها. ولكن هذه الصورة غير موجودة اليوم لوجود الألبان الصناعية التي تقوم مقام لبن الأم.
2 - هزال المرأة وضعفها إذا كانا شديدين بحيث لا تحتمل عبء الحمل وخيف على حياتها وكان هلاكها راجحا عادة.
3 - المريضة بالقلب أو بالنزيف الحاد في أشهر الحمل، أو مريضة بأمراض معدية، أو من لا تستطيع أن تلد إلا بعمليات جراحية متكررة ويخشى على حياتها، وغير ذلك من الأمراض المتنوعة التي يحكم الأطباء بأنها تؤدي إلى موت الأم، وقد رأت اللجنة العلمية للموسوعة الفقهية التي تصدر عن وزارة الأوقاف في الكويت أن الحفاظ على حياة الأم أولى بالاعتبار(63/275)
من بقاء الجنين، لأنها الأصل وحياتها ثابتة بيقين (1) ، أما القضايا المزعومة التي يدعيها بعض الناس أنها تبيح لهم إجهاض نسائهم فلا اعتبار لها، بل يعاقب الإنسان عليها أشد العقاب في الدنيا والآخرة، ومن هذه القضايا:
أ- قضية الفقر، وقد وضحتها في مقدمة الكتاب، وأن الفقر ليس عذرا يبيح إسقاط الجنين، فقد قال الله تعالى:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (2) .
ب- الخوف من كثرة النسل فليس هذا أيضا مبررا لإسقاط الأجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة (3) » . وما إلى ذلك من الأمور التي يدعيها أصحاب الأهواء.
__________
(1) قرار هيئة كبار العلماء رقم 140 وتاريخ 20 \ 6 \ 1407 هـ، الموسوعة الفقهية 2 \ 57.
(2) سورة الإسراء الآية 31
(3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه رقم 495، والبيهقي ج 7 \ 81، 82 قال الألباني في إرواء الغليل 6 \ 196: للحديث شواهد كثيرة فهو صحيح.(63/276)
المبحث الرابع: نوع الجناية على الجنين:
اختلف الفقهاء فيما بينهم في نوع الجناية على الجنين هل هي من قبيل العمد فيجب على الجاني القصاص؟ أم هي من قبيل شبه العمد أو الخطأ فيجب على الجاني الدية مغلظة في شبه(63/276)
العمد ومخففة في الخطأ؟ .
فهناك قولان:
1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة والشافعية في الصحيح والمالكية في المرجوح.
عندهم إلى أن الجناية على الجنين من قبيل العمد إن تعمد الجاني ذلك، وتكون من قبيل الخطأ إذا لم يتعمد الجاني ذلك ولم يقصده وذلك لأن(63/277)
الجنين غير متحقق الحياة حتى يقصد الضارب قتله والقصاص لا يجب بالشك أو مع وجود شبهة، فيكون الواجب فيه الدية، والدية قد تكون دية نفس كاملة وقد تكون غرة وهي نصف(63/278)
عشر دية المرأة. أو عشر دية المرأة. وسوف أوضح ذلك عند الحديث عن الآثار التي تترتب على فعل الجاني.
2 - وذهب الظاهرية والمالكية في المعتمد إلى أن الجاني إن(63/279)
تعمد الجناية على الجنين فإنها تكون عمدية وفيها القصاص، وإن لم يتعمد الجناية فإنها تكون من قبل الخطأ؛ وذلك لأن تلك الجناية اعتداء على نفس بشرية، فيكون الجاني داخلا تحت عموم الآيات والأحاديث الموجبة للقصاص وتحمل النصوص الموجبة للغرة على حالة ما إذا لم يكن الجنين قد نفخت فيه الروح.
ويناقش هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن كلامهم هذا مخالف للنصوص الواردة في هذا الشأن التي سوف يأتي بيانها فينبغي ألا يلتفت إليه، ولا يمكن حمل الأحاديث الموجبة للغرة على حالة ما إذا لم تنفخ في الجنين الروح، لأن ذلك تحكم لا دليل عليه، بل تعميم إيجاب الغرة في إسقاط الجنين مطلقا أولى لترك النبي صلى الله عليه(63/280)
وسلم الاستفصال في هذا المقام، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال.
الوجه الثاني: أن حياة الجنين في بطن الأم فيها شك إذ تكون الحركة الموجودة في البطن حركة ريح، وذلك شبهة تدرأ القصاص، وذلك لما رواه الحاكم والترمذي والدارقطني والبيهقي بسندهم إلى محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الشامي عن الزهري عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة (1) » . .
الوجه الثالث: أن الجنين ليس نفسا مستقلة يمكن الاعتداء عليها بل هو جزء من الأم لأنه يتحرك بحركتها ويقر بقرارها.
وبعد: فإن الجناية على الجنين تعد من قبيل شبه العمد إن تعمد الجاني ذلك ومن قبيل الخطأ إن لم يتعمد الجاني ذلك، وذلك لضعف أدلة القائلين بأنها من قبيل العمد والرد عليها، وسوف تظهر أهمية التفرقة بين العمد وغير العمد حين الحديث عن الآثار التي تترتب على فعل الجاني وهي انفصال الجنين حيا من أمه أو ميتا وما إلى ذلك وقد آن أوانه.
__________
(1) المستدرك للحاكم 4 \ 384، طبعة النصر الحديثة بالرياض، سنن الترمذي 4 \ 33، طبعة الحلبي، سنن الدارقطني 3 \ 14، طبعة عالم الكتب بيروت(63/281)
المقصد الثاني: الآثار التي تترتب على فعل الجاني:(63/281)
وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: انفصال الجنين عن أمه وقد وضحت فيه صورة الآدمي أو لم تتضح:
هنا نفرق بين ثلاث حالات:
(أ) أن يعلم من المنفصل أنه آدمي، سواء كان ذاك بوضوح صورته أو بشهادة ثقات من ذوي الخبرة أن فيه صورة خفية لآدمي، في هذه الحالة ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الغرة على الجاني ووافقهم المالكية في المعتمد، والظاهرية في حالة ما إذا كانت الجناية خطأ؛ وذلك لأن النصوص أوجبت الغرة في قتل الجنين دون تفصيل، فكل ما يطلق عليه أنه جنين وجبت فيه الغرة. وذهب الحنابلة إلى أن سقوط الحمل إن كان لستة أشهر فصاعدا كان فيه الدية كاملة.(63/282)
(ب) أن لا يكون للمنفصل بالجناية صورة آدمي ولكن يشهد الثقات أنه مبدأ بحيث لو استمر وجوده لتصور، وقد اختلف الفقهاء أيضا في هذه الحالة على مذهبين:
1 - فذهب جمهور الفقهاء ومنهم المالكية والحنابلة في وجه مرجوح عندهم إلى وجوب الغرة على الجاني، وقالوا: لأنه مبدأ خلق آدمي لو استمر لتصور فيلحق بما تصور فعلا ويأخذ حكمه (1) 2 - وذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في المعتمد وأكثر الزيدية إلى أنه لا تجب فيه الغرة على الجاني وقاسوه على العلقة.
واحتجوا أيضا بأن الأصل براءة الذمة فلا تجب العقوبة بالاحتمال الضعيف؛ لأنه يكون عدولا عن الأصل الموجب لظن البراءة بالوهم أو الشك على الأكثر، وهو خلاف القواعد وهذا الرأي نميل إليه ونرجحه.
__________
(1) المنتقى للباجي 7 \ 80 طبعة دار الكتاب العربي، كشاف القناع 6 \ 24. .(63/283)
(ج) أن يكون ما ألقته المرأة دون ما تقدم ذكره كدم أو علقة، وهذا قد اختلف الفقهاء في وجوب الغرة فيه على مذهبين:
1 - فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجب على الجاني شيء (1)
2 - وقال الإمام مالك بوجوب الغرة في كل ما ألقته المرأة ما يعلم أنه كان حملا. ومفهوم عباراته أن ما لم يعلم كونه حملا فلا شيء فيه، كما هو قول الجمهور، ومن ثم قال أشهب من المالكية: ولا يجب في طرح الدم شيء وإنما يجب في طرح العلقة والمضغة، وقال ابن القاسم: بوجوب الغرة في الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، ولا شيء في الدم الذي إذا صب عليه الماء الحار ذاب؛ وذلك لأن الأول لا يعد دما وإنما هو بداية الجنين، والثاني دم محض (2) ، وقد قال العلامة ابن رشد الحفيد: والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، يعني أنه لا تجب الغرة إلا إذا علم أن الحياة قد دبت في الجنين (3)
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن المرأة
__________
(1) الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 8 \ 132، المغني لابن قدامة 7 \ 799، تكملة فتح القدير 10 \ 306. .
(2) قوانين الأحكام الشرعية، ص364، طبعة دار الفكر
(3) بداية المجتهد 2 \ 348.(63/284)
إذا ألقت ما يشهد له الثقات بأنه مبدأ آدمي إذا استمر يتصور وما كان أعلى من ذلك ففيه الغرة، وما كان دونه فليس فيه شيء؛ كدم أو علقة هو المختار، وإذا كانت الغرة لا تجب في هذه الحالة فليس معنى ذلك أن العقوبة تسقط عن الجاني بل يجب تعزيره بما يراه الإمام أنه رادع له ولغيره عن هذه الأفعال(63/285)
المبحث الثاني: انفصال الجنين عن أمه ميتا.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من اعتدى على جنين حر مسلم فانفصل عن أمه ميتا فإنه تجب عليه الغرة.، ويستوي في ذلك الذكر والأنثى فلا فرق بينهما في مقدارها. . ووافقهم في(63/285)
ذلك المالكية في المعتمد عندهم والظاهرية في حالة ما إذا كانت الجناية على المرأة من قبيل الخطأ، وذلك لما يأتي:
1 - ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها (1) » .
2 - وما روي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها (2) » . .
وجه الدلالة من هذه الأحاديث:
1 - هذه الأحاديث ظاهرة في أن دية الجنين الذي ألقي ميتا بسبب الاعتداء هي عبد أو أمة، فدل ذلك على إيجاب الغرة في الجنين.
2 - ما رواه البخاري بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6910) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1681) ، سنن الترمذي الفرائض (2111) ، سنن النسائي القسامة (4818) ، سنن أبو داود الديات (4576) ، سنن ابن ماجه الديات (2639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/535) ، موطأ مالك العقول (1608) ، سنن الدارمي الديات (2382) .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 \ 247، 252، صحيح مسلم 5 \ 110، سنن ابن ماجه 2 \ 882 طبعة دار الكتب العلمية(63/286)
أنه استشار الناس في إملاص (1) . المرأة «فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، قال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة (2) » وهذا الحديث واضح الدلالة على المدعي. يضاف إلى ذلك أن الجنين إذا كان حيا فقد فوت الضارب حياته، وتفويت الحياة قتل، وإن لم يكن حيا فمنع من حدوث الحياة فيه فيضمن كالمغرور (3) .
ولكن هل تتعدد الغرة بتعدد الأجنة؟
نعم، صرح جمهور الفقهاء بأن الغرة تتعدد بتعدد الأجنة، فإن ألقت المرأة جنينين ثم ماتا ففي كل واحد منهما دية؛ لوجود سبب وجوب كل واحدة منهما وهو الإتلاف، إلا أنه أتلفهما بضربة واحدة، ومن أتلف شخصين بضربة واحدة يجب عليه ضمان كل واحد منهما، كما لو أفرد كل واحد منهما بالضرب. فإن ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا ثم مات فعليه في الميت الغرة وفي الحي الدية الكاملة؛ لوجود سبب وجوب الغرة في الجنين الميت والدية في الجنين الحي، ووافقهم المالكية في المعتمد
__________
(1) الإملاص: المرأة تضرب بطنها فتلقي جنينها. انظر: نيل الأوطار للشوكاني 8 \ 258
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 \ 250. .
(3) بدائع الصنائع للكاساني 10 \ 3828.(63/287)
عندهم والظاهرية في حالة ما إذا كانت الجناية خطأ.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «ودية جنينها عبد أو أمة (1) » وكل جنين ولو أنهم عشرة فهو جنين لها ففي كل جنين غرة عبد أو أمة.
2 - وما روي عن شهاب أنه قال في امرأة ضربت فأسقطت ثلاثة قال: أرى أن في كل منهم غرة. وروي أن ربيعة قال في امرأة ضربت فألقت جنينين: إنه يدي كل واحد منهما بغرة عبد أو أمة، وكذا روي عن الليث بن سعد الأنصاري أنه قال: في الجنين إذا طرح ميتا غرة عبد أو وليدة فإن كانا اثنين ففيهما غرتان (2)
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5758) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1681) ، سنن الترمذي الفرائض (2111) ، سنن النسائي القسامة (4817) ، سنن أبو داود الديات (4579) ، سنن ابن ماجه الديات (2639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/274) ، موطأ مالك العقول (1609) ، سنن الدارمي الديات (2382) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة ج 9 \ 250، وأخرج نحوها في السنن الكبرى للبيهقي ج8 \ 116. .(63/288)