وهذا كله في جهاد الطلب. وفيما إذا لم يأمرك ولي الأمر بالنفير، وأما إذا نزل البلاء بك فدافع عن نفسك وعن إخوانك في الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا إذا أمرك ولي الأمر بالنفير فانفر ولو بغير رضاها، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (1) {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا (3) » متفق على صحته. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
__________
(1) سورة التوبة الآية 38
(2) سورة التوبة الآية 39
(3) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن النسائي البيعة (4170) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) ، سنن الدارمي السير (2512) .(59/69)
س: لي أخت في العقد الخامس من عمرها ولها ابن من شدة حبها له تتغاضى كثيرا عن مخالفاته لأمر دينه ولأمور تتعلق بالأخلاق، وتقول: إن هذا شأن كثير من الوالدات وبعض الآباء. أرجو التوجيه في هذا لو تكرمتم وجزاكم الله خيرا.
ج: الواجب على المسلم أن يتقي الله في نفسه وفي أهل بيته وفي جيرانه وفي كل شؤونه ومع كل المسلمين؛ وذلك بدعوتهم إلى الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وألا تأخذه في الله لومة لائم، هذا هو الواجب على كل مسلم، فلا يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل قرابة قريب أو محبة شخص، بل من حبه لقريبه ومن صلته له(59/69)
الصلة الحقيقية التي يؤجر عليها أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر كما قال عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (1) ، فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يتقي الله وأن يؤدي الحق الذي عليه مع القريب والبعيد يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (2) الآية، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3) ، فالواجب على المؤمن والمؤمنة أن ينصح كل منهما قريبه وغيره، وأن ينكر المنكر، وأن يأمر بالمعروف مع الأقرباء وغيرهم، فإن من أهم المهمات أن ينصح قريبه وأن يوجهه إلى الخير وهذا أعظم من صلته بالمال إن كان يصله بالمال ويؤجر على صلة الرحم، فكونه يصله بتوجيهه للخير أو تعليمه الخير وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أهم من صلته بالمال؛ لأن توجيهه إلى الخير ينفعه في الدنيا والآخرة، فليس لأختك ولا لغيرها أن تدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحبها لولدها أو لأختها أو غيرهم، بل يجب عليها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالطرق التي تراها مفيدة مجدية، وبالأساليب الحسنة حتى تنجح إن شاء الله في عملها وتبرأ ذمتها.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة النساء الآية 135
(3) سورة التحريم الآية 6(59/70)
س: يوجد لدينا خادمة مسيحية فهل يجب علينا التحجب عنها؟
جـ: أولا: يجب أن يعلم أنه لا يجوز استقدام الكفرة إلى هذه الجزيرة لا من النصارى ولا من غير النصارى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكفرة من هذه الجزيرة وأوصى عند موته صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من هذه الجزيرة، وهي المملكة العربية السعودية واليمن ودول الخليج، كل هذه الدول داخلة في الجزيرة العربية فالواجب ألا يقر فيها الكفرة من اليهود، والنصارى، والبوذيين، والشيوعيين، والوثنيين، وجميع من يحكم الإسلام بأنه كافر لا يجوز بقاؤه ولا إقراره في هذه الجزيرة ولا استقدامه إليها إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر كالضرورة لأمر عارض ثم يرجع إلى بلده ممن تدعو الضرورة إلى مجيئه أو الحاجة الشديدة إلى هذه المملكة وشبهها كاليمن ودول الخليج.
أما استقدامهم ليقيموا بها فلا يجوز بل يجب أن يكتفي بالمسلمين في كل مكان، وأن تكون المادة التي تصرف لهؤلاء الكفار تصرف للمسلمين، وأن ينتقى من المسلمين من يعرف بالاستقامة والقوة على القيام بالأعمال حسب الطاقة والإمكان، وأن يختار أيضا من المسلمين من هم أبعد عن البدع والمعاصي الظاهرة، وأن لا يستخدم إلا من هو طيب ينفع البلاد ولا يضرها، هذا هو الواجب، لكن من ابتلي باستقدام أحد من هؤلاء الكفرة كالنصارى وغيرهم فإن عليه أن يبادر بالتخلص منهم وردهم إلى بلادهم بأسرع وقت،(59/71)
ولا يجب على المرأة المسلمة أن تتحجب عن المرأة الكافرة في أصح قولي العلماء، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب احتجاب المرأة المسلمة عن المرأة الكافرة مستدلين بقوله سبحانه في سورة النور لما نهى الله سبحانه المؤمنات عن إبداء الزينة إلا لبعولتهن، قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (1) . . إلى أن قال تعالى: {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} (2) قال بعض أهل العلم: يعني بنسائهن المؤمنات، فإذا كانت النساء كافرات فإن المؤمنة لا تبدي زينتها لهن، وقال آخرون: بنسائهن جنس النساء مؤمنات أو غير مؤمنات، وهذا هو الأصح فليس على المرأة المؤمنة أن تحتجب عن المرأة الكافرة لما ثبت أن اليهوديات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهكذا الوثنيات يدخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنهن كن يحتجبن عنهن، ولو كان هذا واقعا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيرهن لنقل؛ لأن الصحابة لم يتركوا شيئا إلا نقلوه رضي الله عنهم وهذا هو المختار والأرجح.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31(59/72)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: عندما كان عمري يتراوح ما بين 15 - 16 سنة حدث شيء سرني، فقلت: سوف أصلي كل يوم ركعتين شكرا لله عز وجل، ولكني بعد فترة علمت أن صلاة الشكر يقصد بها في الفقه سجدتي الشكر، فمنذ ذلك الحين وأنا أسجد كل يوم سجدتين شكرا لله ولا أصلي الركعتين، فهل ما فعلته صحيح؟ وإن لم يكن صحيحا، فماذا يجب على فعله؟ أرجو الإفادة.
ج: النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه أمر يسره خر لله ساجدا، فدل على استحباب سجود الشكر عندما يتجدد للإنسان نعمة أو تندفع عنه نقمة، والسجود فقط سجدة واحدة.
وأما تكرارها كل يوم فهذا لا أصل له، وإنما يشرع السجود عند حصول تلك النعمة، أو زوال ذلك المكروه. وأما نيتك أن تصلي كل يوم ركعتين شكرا لله على النعمة فلا أصل له، وأما الاستمرار على ركعتين بدعوى أنها صلاة الشكر فهذا لا أصل له، كما أن استمرارك على السجود لا أصل له.(59/73)
س: إنني أملك أرضين إحداهما منحة، وأنوي عملها استراحة في المستقبل لعدم حصولها على ثمن مناسب، ولذلك(59/73)
قررت في المستقبل عملها استراحة ومنتزها لأولادي، والأخرى قمت بتخطيطها، وتقدمت لصندوق التنمية العقاري للحصول على قرض لتعميرها والسكن فيها، ولكنني في الآونة الأخيرة رأيت أنها صغيرة المساحة (387) مترا مربعا، ولا تصلح سكنا لأسرتي، فقررت بيعها والزيادة على ثمنها وشراء قطعة أخرى كبيرة المساحة، وتوجيه القرض لها، ولكنها لم تأت بالثمن المناسب إلى الآن لركود أسعار العقارات في الآونة الأخيرة. والسؤال: هل علي زكاة علي هاتين الأرضين؟ وفي حالة الإجابة بنعم كيف يتم تزكيتها، علما بأن أرض المنحة تحصلت عليها في عام 1418 هـ، والقطعة الأخرى اشتريتها عام 1415 هـ. أرجو الإجابة عن هذا السؤال؟
ج: الأرض التي نويت جعلها استراحة لا زكاة عليها؛ لأنها بمنزلة الدور السكنية، وأما الأرض التي كنت نويت أن تقيم عليها سكنا ثم عدلت عن السكن وأعددتها للبيع فإنه يجب أن تزكيها عند رأس كل حول بأن تقومها بقيمتها الحاضرة وتخرج ربع عشر قيمتها.(59/74)
س: ما حكم الاحتفاظ بشيء من ممتلكات الصالحين من أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - سواء كان الاحتفاظ بها شخصيا، أو في متحف عام؟
ج: الاحتفاظ بشيء من ممتلكات الصالحين مهما كان نوعه لا يجوز، لأن هذا يدخل في باب الغلو. فعلى هذا فلا يحتفظ بشيء(59/74)
من ممتلكاتهم، وليس لها أي أصل، بل هي قد تسبب الغلو في الشخص ومجاوزة الحد في تعظيمه.(59/75)
س: أفيد سماحتكم أنني موظف بإحدى الدوائر الحكومية، وأعمل محاسبا، وأقوم بصرف مرتبات ومكافآت وأجور، وإن لي في هذا العمل ما يقارب خمسة عشر عاما، وإنني أستلم المبالغ وأقوم بإيداعها في البنك، وأقوم بصرف الاستحقاقات لأصحابها، وبنهاية عام 1419 هـ قمت بجرد الصندوق، فوجدت بالصندوق مبلغا زائدا، مع العلم أنه لم يبق لدي أي استحقاق لأصحابها، كل صاحب حق صرف له حقه، وهذه الزيادة لا أعلم كيف تم زيادتها لدي، وأصبحت في حيرة من هذا المبلغ كيف تم زيادته وكيف أتخلص منه، مع العلم أنني حريص كل الحرص، حتى الهلل الزائد بعد الصرف أقوم بجمعه وأصرفه على نية أصحابه في طرق الخير، ولا أعلم عن ريال واحد يدخل جيبي ولله الحمد.
آمل إفادتي كيف أتصرف بهذا المبلغ الزائد، وكيف أتخلص منه، هل يتم دفعه إلى إحدى الجمعيات الخيرية أو يتم صرفه في صالح الإدارة التي أعمل فيها أو دفعه لأهل الخير المساهمين في بناء مساجد أو أي طريق من طرق البر والخير؟ مع العلم أنه لا يمكن إعادته للإدارة حسب الأنظمة، لأنه لا يوجد هناك مبرر لإعادته، وأريد براءة الذمة. فآمل إفادتي كيف أتصرف؟
ج: إذا أعطيت كل ذي حق حقه ولم يطالبك أحد بشيء، وتأكدت من أن كل موظف أخذ حقه بالتمام، ولم يراجعك أحد(59/75)
من الموظفين عن نقص في راتبه، فالأولى صرف ذلك في مصارف تلك الإدارة.(59/76)
س: شخص يدخر ماله في البنك، والبنك يزيد له في ماله شيئا، فما حكم هذه الزيادة في الشريعة الإسلامية؟
ج: الإيداع في البنك إن كان حسابا جاريا. بمعنى أنه يودع ماله ليسحب منه كلما احتاج ويضيف إليه ما توفر عنده ويكون رأس المال هو رأس المال لا زيادة فيه ولا نقصان فهذا إيداع جائز. وأما الإيداع الآخر الذي يرتبط بالبنك ارتباطا خاصا ليعطي فوائد على قدر إبقائه بالبنك وتختلف هذه الفائدة من قصر المدة أو طولها، فهذا حرام، وهذه الزيادة حرام وهي عين الربا. فيجب على المسلم أن يتخلص منها، ولا يحل له أن يضيفها لماله فهي مال حرام يجب أن يأخذها من البنك ويصرفها في المشاريع الخيرية ويتصدق بها ولا يعود لمثلها ثانية.(59/76)
س: ما حقيقة تفسير هذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) ؟
ج: هذا نهي من الله سبحانه وتعالى لنا أن يأكل بعضنا مال بعض بالباطل، والمراد بالباطل أكله بغير الطرق الشرعية، ويشمل ذلك أن تغش في البيع، فمن غش في البيع فإن ما أخذه من ذلك المال حرام عليه، وكذلك بيوع الغرر والخداع كل ذلك يدخل في عموم
__________
(1) سورة النساء الآية 29(59/76)
هذه الآية، وكذلك أكل مال أخيك بطريق الربا بأن تقرضه بفائدة، فإن هذا ظلم منك وأكل مال بالباطل.(59/77)
س: رجل توفي وله راتب وما زال بعض راتبه جار إلى الآن، وعند وفاته كان له من الأبناء ثلاثة وأب وأم وزوجة ثم بعد ذلك توظف من الأبناء اثنان وتوفي الأب، وتزوجت الزوجة وبقي ابن واحد والأم وله من التقاعد (800) ريال. كم نصيب الابن والأم، علما بأن الأب كان يأخذ السدس (حال الحياة) والأم كذلك والزوجة الثمن والباقي للأبناء، علما أنه نظام يسقط حق الأب بالوفاة ويسقط حق الأبناء بالوظيفة، ويسقط حق الزوجة بالزواج. والسؤال هو: هل النظام يسقط ما أوجبه الشرع؟
ج: يرجع ذلك إلى نظام التقاعد.(59/77)
س: ما حكم الصلاة بحمل المصحف الشريف بالنسبة للإمام؟
ج: حمل المصحف الشريف بالنسبة للإمام إن كان في صلاة الفريضة فالأولى عدم حمله لما فيه من إشغال له، وإن كان في النافلة فجائز له ذلك؛ لأن الفريضة يكتفى فيها بعد الفاتحة بقراءة ما يسر الله، قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (1) الآية. أما في النوافل فقد يرغب في إطالة القراءة لا سيما لو كان وحده، أو لو كان يصلي بهم في رمضان، ويحب أن يختم القرآن من غير مشقة على المأمومين فقرأ من مصحفه فإن ذلك لا مانع منه.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20(59/77)
س: ما حكم صيام يوم السبت في النافلة، وهل من سأله أحد الناس وهو صائم فيجيب بأنني صائم يؤثر على صومه؟ وهل يستطيع أن يقول: إنني لست صائما خوفا من الرياء؟
ج: إفراد يوم السبت بالصوم مكروه، فلا يفرد يوم السبت بالصوم إلا أن ينوي أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده، وأما إفراده وحده فلا ينبغي. أما لو كان أفرده وحده لقضاء رمضان أو وافق يوم عرفة، أو العاشر من شهر الله المحرم فإنه لا مانع من ذلك، إنما المكروه إفراده بصيام نافلة مطلقة دون أن يكون قبله يوم أو بعده يوم.
أما إذا سأله أحد من الناس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وإن سابه أحد أو قاتلة فليقل: إني امرؤ صائم (1) » ، فلا يقل إني صائم إلا إذا جهل عليه جاهل أو سفه عليه سفيه. وأما إذا سألك أحد عن صومك وكان للسؤال سبب كأن دعاك لأكل طعام أو ناولك شيئا تشربه وأردت أن تبين له أن تركك هذا الشيء الذي ناولك أن تشربه ليس كراهية لذلك، وإنما لأنك صائم فقلت: أنا صائم، فلا مانع من ذلك. وأرجو من الله أن لا يعد هذا من الرياء.
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب هل يقول إني صائم إذا شتم برقم 1904، ومسلم في (الصيام) باب فضل الصيام برقم 1151.(59/78)
س: هناك بعض إخواننا يسجدون في الصلاة بحيث يضعون أيديهم قبل ركبهم، مستدلين بحديث أبي هريرة وقالوا: إن حديث(59/78)
وائل بن حجر ضعيف، فهل هذا صحيح؟ وما هي كيفية السجود الواجب علينا أن نفعلها؟
ج: يرجع هذا إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم: «ولا يبرك كما يبرك البعير (1) » . فمن العلماء من يرى أن بروك البعير هو أن يقدم يديه قبل ركبتيه، ومنهم من يرى العكس لذلك، والأمر سهل، فمن اضطر إلى أن يقدم يديه قبل ركبتيه لمشقة عليه من تقديم ركبتيه قبل يديه، فهذا لا بأس به. وأما من كان لا مشقة عليه من تقديم ركبتيه قبل يديه فلعل ذلك أولى، لأن الحديث الثابت «وليضع ركبتيه قبل يديه (2) » . وأما «وليضع يديه قبل ركبتيه (3) » ، فيرى بعض العلماء أن هذا مقلوب وأن الأصل الركبتين وقلب الحديث فقيل: وليضع يديه قبل ركبتيه.
__________
(1) رواه النسائي في (التطبيق) باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده برقم 1091، وأبو داود في (الصلاة) باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه برقم 840 واللفظ له.
(2) سنن الترمذي الصلاة (268) ، سنن النسائي التطبيق (1089) ، سنن أبو داود الصلاة (838) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (882) ، سنن الدارمي الصلاة (1320) .
(3) سنن الترمذي الصلاة (268) ، سنن النسائي التطبيق (1089) ، سنن أبو داود الصلاة (838) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (882) ، سنن الدارمي الصلاة (1320) .(59/79)
س: ما حكم كتابة معاني بعض الآيات على الفنائل باللغة الإنجليزية من أجل الدعوة إلى الله، وكذا كتابة أسماء الأنبياء على الفنائل تحت عنوان هؤلاء رسل الإسلام، وهذه الفنائل قد يرتديها بعض الكفار، علما بأنها قد يدخل بها دورات المياه؟
ج: لا يجوز كتابة القرآن على هذه الفنيلات، لما ذكر من المحذورات التي ذكرها السائل، من كون ذلك امتهان للقرآن وربما دخل بها دورات المياه ورود األقيت وامتهنت، فالمقصود أن كتابة(59/79)
القرآن على جنس الفنائل والملابس أمر ممنوع شرعا؛ لاحترام القرآن وحمايته عن الإهانة.
ومن يقول: إن كتابتها على الفنيلات دعوة إلى الله فإن هذا كله من الباطل، فإن الدعوة إلى الله لا تكون بإهانة القرآن، وإنما تكون بعرض دين الإسلام، وعرض فضائله والدعوة إليه، وبيان محاسنه.(59/80)
س: هل للفظ الجلالة (الله) القداسة نفسها إذا كان مكتوبا بغير اللغة العربية؟
ج: ينبغي كتابة لفظ الجلالة (الله) باللغة العربية؛ ليكون ذلك أبلغ في التعظيم والثناء على الله سبحانه وتعالى.(59/80)
س: ما هو الضابط في التعامل مع المبتدع، وهل يهجر بمجرد فعله بدعة أو أكثر؟
ج: من أعلن بدعة وجب أن ننصحه ونوجهه ونناقشه، فلعل شبهة عرضت له وتأويلا خطر بباله، وعليه يجب أن نزيل شبهته، ونبين خطأ تأويله، ونوضح له الحق، فإن هذا هو الواجب علينا؛ لأن كلا عرضة للخطأ، وربما هو أخطأ، ويظن أنه مصيب وتعرض عليه شبهة أو تأويل، وظن أن ذلك خير فيجب أن ننصحه أولا، ونوجهه ونقنعه، ونجادله بالتي هي أحسن لنحق الحق ونبطل الباطل، فإن كثيرا من الناس قد يقع في الخطأ من غير قصد، ولكن لأجل سوء فهم وقلة إدراك وشبه عرضت له وتأويل لبعض النصوص ظن أن هذا التأويل تأويل سائغ، فلا بد من النصيحة والإقناع، فعسى الله أن يفتح على قلبه ويخلصه من تلك الشبهات، ويصرف قلبه عن تلك التأويلات(59/80)
الباطلة، وإذا أقيم الحق عليه وأبى واستكبر ولم ينقد إلى الحق وجب أن نهجره على قدر بدعته، ونكرهه على قدر ما قام به من الشر.(59/81)
س: هل توابع المسجد كالفناء والساحة والمكتبة وبيوت الوضوء لها حكم المسجد؟
ج: ما كان حائط المسجد شاملا ومدخلا له في المسجد، فهو من المسجد، وما كان خارج محيط المسجد فهو خارج المسجد.(59/81)
س: إذا كان الإمام لا يفعل بعض السنن، هل يجوز الاقتداء به في تركها للحديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» ؟ نرجو التوضيح.
ج: جعل الإمام ليؤتم به بالفريضة، أما السنن فكل مسئول عن نفسه، والمسلم ينبغي له المحافظة على الرواتب، ولا شك أن الإمام إذا رآه الناس يلتزم هذه الرواتب اقتدوا به، إلا أن الرواتب كما هو معلوم مشروع فعلها في المنزل، ففعلها في المنزل أولى من فعلها في المسجد لمن قدر على ذلك؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا (1) » .
فالمقصود أن هذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به (2) » ، إنما هو خاص بمن ائتم به بالفريضة، وكذلك النوافل
__________
(1) رواه البخاري في (الصلاة) باب كراهية الصلاة في المقابر برقم 432، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب صلاة النافلة في بيته برقم 777.
(2) رواه البخاري في (الصلاة) باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب برقم 378، ومسلم في (الصلاة) باب ائتمام المأموم بالإمام برقم 411.(59/81)
التي يشرع الجماعة لها، كالتراويح والعيدين والكسوف والاستسقاء والجنازة. أما سائر النوافل من الرواتب وغيرها فكل إمام نفسه في ذلك. أما إذا جلس الإمام للاستراحة، فينبغي أن يجلسوا معه، لكن نقول: جلسة الاستراحة لا تشرع إلا عند الاحتياج إليها عند كبر سن الإمام وعجزه عن مواصلة القيام؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا عند كبر سنه، ولهذا ما رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا صحابيان.(59/82)
س: ما حكم من حكم على علماء السنة كابن حجر رحمه الله بالضلال وهو مصر على ذلك؟
ج: الحافظ ابن حجر رحمه الله من أئمة الإسلام وحفاظ السنة، وكل من أتى بعده فهو عيال عليه، فقد شرح البخاري بشرحه المشهور فتح الباري، وله في الرجال كتب تدل على غزارة علمه وسعة أفقه وعظيم إدراكه، وكتابه فتح الباري ينبئ عن علم ذلك الرجل، وسعة الاطلاع والتحقيق الذي ينشده كل مسلم مع سلامة اللسان والأدب الحسن مع العلماء. فالذين يضللونه لوجود شيء من أخطاء في الصفات هؤلاء جهلة، وليس عندهم علم، ولا بصيرة. هذا الإمام العظيم وإن أخطأ فقد أخطأ غيره، ولكن محاسنه وحسناته وفضائله زائدة على ما قد يوجد من أخطاء. فرحمه الله وعفا عنه، فهو من حفاظ السنة ومن المعتنين بها وبإسنادها، والذابين عنها، فالذي يتجرأ عليه بالتجهيل والتضليل دليل على نقص عقله وقلة علمه وضعف إيمانه، إذ لو كان تقيا ذا علم وفضل لعرف للعلماء فضلهم ومكانتهم وأن ما يكون من أخطاء يتلاشى ويتصاغر عند عظيم حسناتهم وفضائلهم.(59/82)
س: ما تقولون في قول القائل: إن الردود على أهل البدع والزيغ لم تكن ديدن السلف، وإن كتب الردود لا ينبغي أن تنشر إلا بين طلبة العلم، ولا تنشر بين غيرهم؟
ج: الردود على أهل البدع من الجهاد في سبيل الله، ومن حماية الشريعة من أن يلصق بها ما ليس منها، فتأليف الكتب وطبعها ونشرها هذا حق ودعوة لحق وجهاد في سبيل الله، فمن زعم أن طبع الكتب ونشرها في الرد على المبتدعين أمر مبتدع، فإنه على خطأ؛ لأن الله جل وعلا قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (1) ، الآية.
والجهاد يكون باليد، ويكون باللسان، ويكون بالمال. ومن الجهاد باللسان الذب عن هذه الشريعة وحمايتها من كل ما لفق بها من شبه وأباطيل، ومن ذلك التحذير من البدع والدعوة إلى الحق؛ ولهذا صنف الإمام أحمد وغيره كتبا حذروا فيها من المبتدعين، فالإمام أحمد ألف رسالة (الرد على الزنادقة) ، وبين شبههم وأجاب عن كل شبهة. والبخاري رحمه الله ألف كتابه: (خلق أفعال العباد) وغيرهم من أئمة الإسلام ألفوا في الرد على المبتدعة ودمغ باطلهم وإقامة الحجج عليهم. وكذلك ألف شيخ الإسلام في الرد على الرافضة كتابه المعروف (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) وبين ما هم عليه من باطل وضلال.
__________
(1) سورة التحريم الآية 9(59/83)
س: هل يحكم على الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية التي خرجت عن منهج الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - بالضلال؟
ج: كل من خرج عن الفرقة الناجية عن مذهب أهل السنة والجماعة فهو على خطر، ولكن يختلفون من حال إلى حال، فمنهم من خطؤه كبير وضلاله عظيم، ومنهم من هو دون ذلك.(59/84)
س: هل يجوز سفر الطالبة للعلم الشرعي وحدها إلى الجامعة الإسلامية لطلب العلم الشرعي، الذي هو فرض عين عليها، مع العلم أنها الوسيلة الوحيدة التي تحصل بها على فهم صحيح لدينها؟
ج: الأصل أن المرأة المسلمة لا يحل لها السفر، إلا مع ذي محرم، فأي سفر بلا محرم فحرام عليها مهما كانت مبرراته.(59/84)
س: ما حكم إعداد الطعام وتوزيعه لوفاة شخص ما؟
ج: إن كان معد الطعام أهل الميت فإنه لا يجوز؛ لأن إعدادهم الطعام يعتبر من النياحة، كما أخبر بذلك جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - بقوله: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة (1) » ، فلا يحل لهم صنع الطعام ليطعم غيرهم، إنما يشرع لغيرهم أن يبعث لهم طعاما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) رواه ابن ماجه في (ما جاء في الجنائز) باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت برقم 1610.(59/84)
«اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (1) » . لكن إن تصدقوا بعد مضي وقت على الفقراء والمساكين فذلك حسن، لكن المهم لا يتصدقوا يوم موته أو قريب منه؛ لأن هذا من باب البدع.
أما الصدقات بعد مضي وقت من باب الإحسان للميت والصدقة عنه فهذا حصن إن شاء الله. المهم أن أهل الميت لا يعدون الطعام لمن جاء يعزيهم، لكن يبعث لهم، فهذا سنة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم 6866، وابن ماجه في (ما جاء في الجنائز) باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت برقم 1612.(59/85)
س: هل تجوز قراءة القرآن الكريم في آن واحد جماعة؟
ج: السنة في قراءة القرآن أن يقرأ كل في نفسه، وأما الاجتماع على قراءة القرآن فهذا أمر بدعي، اللهم إلا التلاميذ في أول تعليمهم، إذا كالت يعلمهم ويلقنهم جميعا فنعم. وأما ما سوى التلاميذ الملقنين، كاجتماع الكبار لكي يرددوا القرآن بصوت واحد، فهذا من الأمر المبتدع.(59/85)
س: هل يجوز للخاطب أن يتكلم مع خطيبته قبل الزواج، أطلب تفسيرا واضحا حول هذه المسألة؟
ج: الخاطب لا ينبغي له التحدث مع مخطوبته، إلا بعد العقد عليها؛ لأن الحديث معها قبل العقد عليها يوشك أن يسبب التقاء وأمورا لا تحمد عقباها، فلا ينبغي التحدث إلا بعد ما يتم العقد عليها، ولأنها قبل العقد في حكم الأجنبية عنه.(59/85)
س: هل تجوز صلاة التروايح وراء إمام يقرأ القرآن الكريم بسرعة، بحيث لا تميز كلامه، علما أنه لا يوجد إمام غيره في دائرتنا؟
ج: ينبغي للإمام أن يقرأ القرآن بقراءة مرتلة، قال الله - جل وعلا: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) ، الآية. ولا ينبغي هذ القرآن هذا لا يحصل معه التدبر فقد قال ابن مسعود رضي: " لا تهذوا القرآن كهذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب " (2) ؛ لأن المقصود من القراءة تدبر معانيه وانتفاع السامعين به، والقراءة بالسرعة الزائدة التي ربما تخفي بعض الحروف، لا ينتفع من ورائه ولا يستفيدون من قراءته، فينبغي أن ينصح هذا الإمام، وأن يبين له أن المقصود من القراءة التدبر والتعقل، لا مجرد التلاوة المجردة وهي التلاوة التي تتم بسرعة والتي قد تخل بالمعنى، ولا يستفيد من ورائها المستمع.
__________
(1) سورة المزمل الآية 4
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في (الصلاة) باب في قراءة القرآن برقم 8832.(59/86)
س: التدريس في المرحلة المتوسطة، أي قبل الثانوية، علما أنه يوجد بنات بالغات؟
ج: تدريس الرجل للبنات والبنين المختلط هذا أمر مخالف للشرع وباب فتنة.
فاختلاط الجنسين سبب لفساد الأخلاق وذهاب الحياء، فلا ينبغي للرجل أن يدرس بمدارس الاختلاط؛ لأن هذا يدعو إلى الفساد والانحراف عن الأخلاق القيمة.(59/86)
س: هل حقا الاحتفال بالمولد النبوي حرام؟ وأنا أريد أن أعمل بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » .
ج: بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -نعمة أنعمها الله - سبحانه - على الخلق، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) .
فمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نعمة من الله علينا، نسأل الله شكر هذه النعمة، وأن يجعلنا من أتباعه ومن الواردين حوضه يوم القيامة. لكن المسلمون الذين أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجروا معه وجاهدوا معه لم ينقل عنهم أنهم أحيوا ليلة مولده، وهؤلاء يعلمون ليلة مولده، وليلة مبعثه، ومهاجره، ومع هذا لم يقيموا شيئا من ذلك، فليس خافيا على الصديق، ولا على عمر، ولا على عثمان، ولا على علي، ولا على بقية العشرة المبشرين بالجنة، ولا على أهل بدر وبيعة الرضوان، ليس خافيا عليهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد عام الفيل، وهم يعلمون ليلة مولده، وهذا أمر لا يخفي عليهم ومع هذا لم يقيموا لهذا اعتبارا، بمعنى لم يقيموا احتفالا، ولم يجعلوها تجمعا وإلقاء خطب وتحدث عن هذه المناسبة، هذا أمر ما فعله السابقون الأولون مما يدل على أنه غير مشروع، إذ لو كان مشروعا لكانوا أسعد الناس به وأولى الناس بإقامته.
والمقيمون للموالد يقولون: نقيمها تذكيرا للناس بهذه النعمة وتحدثا عن هذه النعمة،
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) سورة آل عمران الآية 164(59/87)
ولكن غفلوا أن صلة المسلم بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليس متوقفا على ليلة معينة، بل المسلم صلته بنبيه في كل أحواله اقتداء به، وتأسيا بسنته، وعملا بشريعته، يسمع أمره ويمتثل له، ويجتنب نهيه، ويتأدب بما أدب به، ويتخلق بأخلاقه قدر ما يستطيع، هذا خلق المسلم المحب للرسول - صلى الله عليه وسلم-.
وإذا تأملنا هذه المناسبات وجدناها في الغالب تقوم على أمور بدعية تلقى فيها الكلمات والقصائد التي تشتمل على الغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - وقصده من دون الله، والتعلق به من دون الله، مع ما يصحبها من أمور تخالف شرع الله فإن أي بدعة تقام فلا بد أن تكون على حساب سنة تمحى، وأي بدعة تقام فهي تشتمل على مخالفات شرعية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقم احتفالا بمولده ولا بمبعثه ولا بمهاجره وخلفاؤه كذلك، فالخير معهم والشر فيما بعدهم، وكون هذا الاحتفال قال به بعض من انتسبوا للعلم ودعوا إليه ليس مبررا؛ لأن المهم اتباع الكتاب والسنة، فلو كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه أحد فعل شيئا من هذا لقلنا أنه سنة، ولكن لما لم ينقل لنا ذلك دل على أنه أمر مبتدع.
__________
(1) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم 2697، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.(59/88)
س: ما حكم شرب الدخان؟
ج: الدخان ما عرفه الناس إلا بعد القرن العاشر، وهذا الدخان بلاء ومصيبة أصيب بها الإنسان، فإنه وللأسف الشديد(59/88)
مصاب جلل، ولكن انخدع به من انخدع ورآه تسلية وإذهابا للهموم ونحو ذلك، والتدخين لما خرج تكلم فيه من العلماء من تكلم فيه فبعضهم حرمه ومنعه لنتن ريحته، وما يحدثه من سواد في الشفتين، والأسنان ونحو ذلك، ورأوا أنه قبيح تنزه المساجد عنه.
ولكن من العلماء من لم يتصور تحريمه، ولم ير تحريمه، ولكن الاكتشافات الطبية الحديثة أثبتت للملأ أن هذا التدخين بلاء، وهادم للصحة، ومحدث لكثير من الأمراض الفتاكة.
فالمسلم إذا تأمله حق التأمل رأى أن تحريمه هو الموافق للقواعد الشرعية، والله - سبحانه وتعالى - يقول في حق نبيه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) ، فهو خبيث في ريحته خبيث في آثاره مضعف عن الطاعة مكسل عن الخير. ومن ينظر إلى أهله وكيفا يسرع التدخين بهرمهم وما يحدثه لهم من الأمراض الفتاكة ما لا يخفى يتبين له بما لا شك فيه حرمة هذا البلاء؛ لأن كل أمر غلب ضرره على نفعه فالشريعة جاءت بالمنع منه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(59/89)
س: ما هو الحكم الشرعي في تارك الصلاة؟
ج: تارك الصلاة إن كان جاحدا لوجوبها ومنكرا لها فبإجماع المسلمين أن هذه ردة عن الإسلام، وأنه يعتبر مرتدا فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل ردة، وهذا أمر لا إشكال فيه؛ لأن الصلاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي قرينة التوحيد في كتاب الله، فالجاحد لها والمنكر لوجوبها، قد خرق إجماع الأمة وأتى بأمر عظيم، فلا(59/89)
شك في كفره وضلاله. أما لو كان مقرا لوجوبها معترفا بها، ولكن تركها تكاسلا وتهاونا، فمن العلماء من يرى كفره ويقول: إن الأدلة الشرعية تدل بعمومها على كفره، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (1) » رواه الترمذي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (2) » رواه مسلم، وظاهر القرآن قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) ، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (4) ، ومثل قوله عن الكفار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (5) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (6) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (7) {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (8) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (9) . وظاهر القرآن والسنة وصف تارك الصلاة بالكفر. نسأل الله العفو والعافية.
__________
(1) رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621.
(2) رواه مسلم في (الإيمان) باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) سورة التوبة الآية 11
(5) سورة المدثر الآية 42
(6) سورة المدثر الآية 43
(7) سورة المدثر الآية 44
(8) سورة المدثر الآية 45
(9) سورة المدثر الآية 46(59/90)
س: قد يترك الإنسان صلاة الوتر قائلا: عندما أنهض للصبح أصليها، ولكن قد يغلب عليه النعاس والنوم فلا يستيقظ إلا بعد الآذان. وهناك حالتان: الأولى: يستيقظ بعد الأذان، ولكن قبل أن تشرق الشمس. الثانية: يستيقظ بعد الأذان، وبعد أن تشرق الشمس.(59/90)
فكيف يصلي الوتر في هاتين الحالتين، وهل يصلي؟
ج: الوتر سنة مؤكدة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلازم الوتر حضرا وسفرا، فما كان يدع الوتر في حضره ولا في سفره، وكان يرغب فيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوتروا يا أهل القرآن (1) » ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم-: «من لم يوتر فليس منا (2) » فالوتر سنة مؤكدة، فلا ينبغي لمسلم أن يتركه، بل ينبغي له أن يواظب عليه، وهو ليس بواجب كالفريضة، ولكنه من السنن المرغب فيها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حافظ عليه، مما يدل على أهميته. ووقت الوتر بعد صلاة العشاء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر (3) » .
والمسلم الذي لا يستطيع القيام آخر الليل ينبغي له أن يوتر أول الليل، ومن يطمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخر الليل. فمن كان يغلب على ظنه ثقل نومه وعدم استطاعته القيام فليوتر أول الليل.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام (4) » .
__________
(1) رواه النسائي في (قيام الليل وتطوع النهار) باب الأمر بالوتر برقم 1675، وأبو داود في (الصلاة) باب استحباب الوتر برقم 1416.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث بريدة الأسلمي برقم 22510، وأبو داود في (الصلاة) باب فيمن لم يوتر برقم 1419.
(3) رواه الترمذي في (الصلاة) باب ما جاء في فضل الوتر برقم 452، وأبو داود في (الصلاة) باب استحباب الوتر برقم 1418.
(4) رواه البخاري في (الصوم) باب صيام أيام البيض برقم 1981، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب صلاة الضحى برقم 721.(59/91)
قالوا، لأن أبا هريرة كان يدرس الحديث والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالوتر خوفا أن ينام ويترك الوتر.
ولكن الوتر آخر الليل أفضل لمن قدر على ذلك، وإذا فاته الوتر وكان من عادته أن يوتر قبل الفجر لكنه غلب عليه النعاس وفاته الوقت فإنه يقضيه ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر شفعا، أي أنه إن كان يوتر ثلاثا قضاها أربعا، وإن كان يوتر خمسا قضاها ستا شفعا لأن محل الوتر هو في الليل.(59/92)
س: قد يدخل الإنسان في صلاة الصبح فيجد الإمام يصلي الصبح، فكيف العمل؟ هل يصلي ركعتي الفجر ثم يدخل في صلاة الصبح أم يصلي الصبح إذا أقيمت الصلاة ومتى في هذه الحالة يصلي الفجر؟
ج: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1) » فإذا وجدت الإمام قد أقام صلاة الفجر فادخل معه في الفريضة وصل الركعتين الراتبة بعد صلاة الفجر.
__________
(1) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن برقم 710.(59/92)
س: هل من الأفضل الاشتغال بطلب العلم لسنوات عشر فما فوق مثلا؛ حتى يكتسب الطالب حسن الأدب، ويتمكن من أدوات العلم ليحسن تبليغ الدعوة وفق قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) الآية،
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(59/92)
مع العلم بأن هذا الطالب ومن معه يعتمد اعتمادا كليا على الكتب لعدم وجود شيوخ مدرسين؟
ج: العلم يتلقى على يد أهله. فطالب العلم إذا أراد التعلم فليلزم ذا علم حتى يوضح له الطريق وينور له السبيل، ويستفيد من توجيهاته، أما اعتماده على الكتب وحدها من غير عالم يوجهه فإن هذا خطأ، فلا بد لطالب العلم أن يبني علمه بالتتلمذ على عالم يوجهه حتى يستفيد من توجيهه ونصحه، ويوضح له المنهج الذي يسير عليه، فإذا تعلم واستفاد وعرف الأصول وعرف كيف يبحث وكيف يقرأ أمكنه القراءة في الكتب؛ لأن العلم لا يكفي فيه القراءة من الكتب بل لا بد أن يسبق الكتب تتلمذ على عالم يوجه ويهدي للطريق المستقيم، ويوضح له المنهج ويرسم له الخطة التي يسير عليها، أما مجرد قراءة الكتب من غير تتلمذ على عالم فلربما أخطأ الطريق وفهم فهما غير صحيح ولم يستطع أن يدرك المقاصد الشرعية، بل ربما يفهم من الكتاب فهما غير صحيح، فليس المهم القراءة، المهم أن يأخذ على يد العالم المنهج الذي يسير عليه في بحثه وفي فتاويه حتى يكون منطلقا على بصيرة، وأما مجرد قراءة الكتب فإنه لا يكفي؛ لأن هذا قد يوقعه في أمور لا يتخلص منها.(59/93)
س: ما حكم زكاة عروض التجارة؟
ج: عروض التجارة زكاتها واجبة، قال الله - جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (1) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 267(59/93)
وفي حديث سمرة -رضي الله عنه - أنه قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع (1) »
__________
(1) رواه أبو داود في (الزكاة) باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة برقم 1562.(59/94)
س: هل يشرع للمسلم أن يورث أهله من تركته، علما أنهم فساق لا يأمن عليهم أن يضعوا هذا المال في موضع حرام، فيكون بذلك قد أعان على الإثم والعدوان؟
ج: الأصل أن مال الميت لورثته، ولا يمنعهم من الميراث إلا أن يكونوا مخالفين له في الدين، فإذا كانوا مخالفين له في الدين فإنه لا يرث بعضهم بعضا لحديث: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » وأما مجرد فسقهم ومعصيتهم فلا تمنعهم من ميراث مال ميتهم فالأصل أنهم يرثون.
وأما خوف أنهم يستعملونها في غير مشروع فهذا أمرهم إلى الله، إنما الميراث لا يمنعه إلا اختلاف الدين بأن يكون الميت مسلما والوارث كافرا يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو بالعكس، أما ما دام الكل مسلمين فإن التوارث جار بينهم، وما يتصرفون فيه بعد ذلك فأمرهم إلى الله.
__________
(1) رواه البخاري في (الفرائض) باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم برقم 6764، ومسلم في (الفرائض) باب أول الكتاب برقم 1614.(59/94)
س: أنا متخرج من معهد الاقتصاد وأمامي مؤسسات للعمل فيها، كالبنوك وشركات التأمين، أو شركات خاصة،(59/94)
مواردها من الاقتراض بفوائد. السؤال هو: هل يجوز العمل فيها على حد سواء في حالة مستعصية أو اختيارية؟
ج: لا يحل لمسلم العمل مع أي مؤسسة يكون رأس مالها معتمدا على القروض الربوية؛ لأنه بذلك يكون معينا على الربا ومعينا أهل الربا. فالواجب عليه البعد عن هذا؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(59/95)
س: هل يجوز الاستماع إلى ما يسمى الأناشيد الإسلامية؟
ج: الأناشيد الإسلامية من الأمور المحدثة، وهي في الحقيقة صيغتها صيغة غناء، فهم يأتون بالأذكار على طريقة الأغاني غالبا، يختار لها أحسنهم صوتا، وأطربهم صوتا، فيلقي تلك الأذكار على هيئة تلحين خاص، وهي في الحقيقة من بقايا الصوفية، ولا يجوز للمسلم الاشتغال بها، فإن اتعاظه بكتاب الله هو خير واعظ له، فكم يقرأ القرآن عليه فلا يصغي له، وتلك الأناشيد وتلك الأصوات المطربة تأخذ مجامع قلبه، فالذي ينبغي للمسلمين ترك ذلك والإعراض عنه.(59/95)
س: هل يجوز صبغ الشعر الأبيض للمرأة؟
ج: السنة للرجل أن يغير الشيب بالحناء والكتم، وأن يجنبه السواد، كما أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك.
فالصبغ بالسواد خلاف السنة، وأقل أحواله أن يكون مكروها، ومن العلماء من يحرمه ويقول: إن فيه أحاديث وعيد في حق من غير الشيب بالسواد، حتى النساء لا(59/95)
ينبغي لهن الصبغ بالأسود، وإنما إذا اضطررن للصبغ فلا يكون بالأسود وإنما من الألوان المختلفة.(59/96)
س: هل يجوز الحلف بحق الرب كأن نقول: وحق الرب، مع الشرح؟
ج: الحلف المشروع هو حلف المسلم بالله أو بصفة من صفاته، كأن يقول: والله، وبالله، وتالله، وكلام الله، وسمع الله، وعلم الله، هذا هو الحلف المشروع.(59/96)
س: هل يجوز القول: شاءت الأقدار؟
ج: الأولى أن نقول: شاء الله كذا، مشيئة الله كذا، ونقول: شاء الله، ما شاء الله، ولا يزال دعاء المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا شك أن الأقدار هي أقدار الله، ولكن التعبير بما شاء الله، ما شاء الله كذا هو الأولى.(59/96)
س: هل تجوز الصلاة خلف الإمام المبتدع بدعة مكفرة، مثل الطريقة التيجانية على سبيل المثال؟
ج: إذا كان الإمام مبتدعا بدعة شركية، كأن يكون ممن يدعو إلى تعظيم سكان القبور والطواف بهم والذبح لهم والنذر لهم والاستغاثة بهم وسؤالهم الشفاعة ونحو ذلك، فإذا حكمنا على أن بدعته بدعة مكفرة تنقله من الإسلام، فلا يصح لنا أن نأتم وراءه؛ لأن صلاته في نفسه غير صحيحة، باطلة، فلا يصح أن يكون إماما لغيره.(59/96)
س: أريد جوابا كافيا على الرقية الشرعية، وعلى الحجامة، وهل هناك شرط لتعلمها، وأمكنة وضع الحجامة، وهل هناك حجامة غير مشروعة؟
ج: الرقية المشروعة هي الرقية بكتاب الله، والمأثور عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وأعظمها فاتحة الكتاب فإنها رقية كما أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم، فمن يرقي المرضى بكتاب الله، أو بالمأثور عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -والأدعية المشروعة بالألفاظ الواضحة التي لا إشكال فيها، هذا لا شك في جوازه.
وأما الحجامة فإنها نوع علاج لمن احتاج إليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجرته.
وتفاصيل موضع الحجامة وأماكنها لدى المختصين بها، فإن عندهم خبرة بموضع الحجامة لاختلاف ذلك باختلاف حال المحجوم.(59/97)
س: هل يجوز إقامة (مركز صحي) خاص بالرقية الشرعية؟
ج: الرقية الشرعية الأولى أن لا يتوسع فيها التوسع الزائد، وإنما الأمر متروك لكل فرد يحسن الرقية أن يرقي. وأما وضعها كمركز صحي أو نحو ذلك، فهذا مبالغة فيها، وقد يكون سببا لإخراجها عن شرعيتها.(59/97)
س: ما حكم قراءة القرآن على الماء ورشه على البيوت واستعماله للغسل؟
ج: هذا كله لا أصل له، البيوت تعمر بقراءة القرآن، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه(59/97)
سورة البقرة (1) » ، وأخبر أن الصلاة نور للبيوت، فالبيوت نورها أن نصلي فيها النوافل وأن نتلو فيها كتاب الله.
وأما قراءة القرآن في ماء ورشه على حيطان المنزل وأساساته، فهذا من الأمور التي لا أصل لها في الشرع، والتوسع في هذا المجال غير مشروع، السنة في الرقية: أن ترقي المريض مباشرة بالنفث عليه وهو أفضل، أو بالقراءة في الماء ثم شربه؛ لحديث ثابت بن قيس ابن شماس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه وهو مريض فقال: «اكشف الباس رب الناس عن ثابت بن قيس بن شماس. ثم أخذ ترابا من بطحان فجعله في قدح ثم نفث عليه بماء وصبه عليه (2) » .
__________
(1) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب صلاة النافلة في بيت برقم 780.
(2) رواه أبو داود في (الطب) باب ما جاء في الرقى برقم 3885.(59/98)
س: ما حكم قراءة القرآن الكريم على الماء وزيت الزيتون، وكذلك زيت الحبة السوداء؟
ج: هذا أفتى بعض العلماء بجوازه، قالوا: إن هذا جائز، ولكن أكمل من هذا أن نرقي المريض نفسه فننفث عليه مباشرة.(59/98)
س: هل هناك علامات لمعرفة ليلة القدر؟
ج: ليس هناك علامات، إنما جاء عن السلف أن شمس صبيحتها لا شعاع لها، هذا أصح ما فيها، وما عدا ذلك فليس هناك نصوص صحيحة.(59/98)
س: ما هو الاعتكاف، وما شروطه؟
ج: الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله - عز وجل - وشروطه أن يكون في مسجد، وأن يلزم البقاء في المسجد، ولا يخرج إلا لحاجة الإنسان: من طعام أو شراب أو قضاء الحاجة.(59/99)
س: كم عدد ركعات صلاة التراويح؟
ج: ليس لها عدد ركعات معين، إن صلى إحدى عشرة ركعة أو صلى ثلاثا وعشرين ركعة كله جائز، وكله سنة.(59/99)
س: ما الدعاء المرغوب عند الإفطار؟ وعلى ماذا يكون الإفطار؟
ج: الدعاء المرغوب عند الإفطار: «ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله (1) » الحديث، فالفطر على رطب أو تمر، فإن عدم فعلى ماء، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) رواه النسائي في السنن الكبرى في (الصيام) باب ما يقول إذا أفطر برقم 3298، وأبو داود في (الصوم) باب القول عند الإفطار برقم 2357.(59/99)
س: بماذا كان يتسحر الرسول - صلى الله عليه وسلم؟ ومتى كان يتسحر؟
ج: كان سحوره متأخرا، وكان بين قضائه من سحوره وإقامة الصلاة قدر خمسين آية، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نعم سحور المسلم التمر (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود في (الصوم) باب من سمى السحور الغداء برقم 2345.(59/99)
س: ما مقدار زكاة الفطر، وأين يخرجها؟(59/99)
ج: مقدار زكاة الفطر ثلاثة كيلو، ويخرجها عنه وعن أهل بيته، ويفرقها في فقراء المسلمين الذين هم من أهل بلده.(59/100)
س: هل يجوز حضور النساء لصلاة العيد؟
ج: بل حضور النساء لصلاة العيد مؤكد؛ لقول عائشة - رضي الله عنها - أمر العواتق وذوات الخدور أن يخرجن إلى المصلى، ولكن الشرط أن يكن بعيدات عن الرجال، وعن مظاهر التبرج والزينة، وأن يلبسن اللباس الشرعي.(59/100)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6969
س: هل هذا الحديث يوافق هذه الآية من القرآن؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ومن استطاع منكم أن يطيله فليفعل» ويقول القرآن: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: هذا الحديث موافق لما جاء في آية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) الآية؛ لأن فيه إيضاحا لها وحثا على إكمال الوضوء وإحكامه، أما قوله في الحديث: «فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل (3) » وفي رواية «وتحجيله (4) » فالراجح أنه مدرج في الحديث من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه -.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) البخاري 1 \ 43 (ط استانبول) ، ومسلم 1 \ 149.
(4) صحيح مسلم الطهارة (246) .(59/101)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/102)
السؤال الثالث والسؤال العشرون من الفتوى رقم 5611
س: هل إطالة الغرة في الوضوء إلى الركبتين والإبطين لا بأس بها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: غسل اليدين إلى الإبطين في الوضوء غلو في الدين وكذلك غسل الرجلين في الوضوء إلى الركبتين، والمشروع غسل اليدين مع المرفقين والرجلان مع الكعبين.
س: هل فيه بأس في الوضوء قائما والشرب قائما والبول قائما؟
ج: يتوضأ المسلم حسبما يتيسر له قاعدا أو قائما وله أن يشرب قائما وقاعدا والأفضل أن يشرب قاعدا، وهكذا له البول قائما إذا دعت الحاجة إليه ولم ير عورته أحد ولم يخش من عود رشاش البول عليه، والبول جالس أفضل؛ لأنه هو الغالب من فعل(59/102)
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/103)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 11636
س: هل يسبق الوضوء قول أم النية تكفي وهل تستحب قراءة سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) بعد الوضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يشرع في الوضوء البسملة قبله وتكفي النية في القلب ولا يجوز التلفظ بها؛ لأن ذاك من البدع ولم يثبت قراءة سورة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (2) بعد الوضوء فيما نعلم، وإنما المشروع بعد الوضوء قول: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (3) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القدر الآية 1
(2) سورة القدر الآية 1
(3) سنن الترمذي الطهارة (55) ، سنن النسائي الطهارة (148) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (470) .(59/103)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 7757
س: رجل توضأ ولم يذكر اسم الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: تجب التسمية عند الوضوء ومن توضأ بدون تسمية ناسيا أو جاهلا بالحكم الشرعي فوضوءه صحيح، ومن تركها عمدا فوضوءه باطل على الصحيح من قولي العلماء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) » . أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من طرق كثيرة يشد بعضها بعضا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 418، وأبو داود برقم 101، وابن ماجه برقم 399(59/104)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7769
س: أسألكم عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما معناه: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله أوله " ما صحة هذا الحديث وإن صح(59/104)
فهل معنى ذلك أن من ينسى ذكر الله أول الوضوء كان عليه إعادته؟ .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: أولا:
لفظ الحديث: «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) » رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم. قال ابن حجر في بلوغ المرام نقلا عن الإمام أحمد أنه قال: " لا يثبت فيه شيء "، وذكر السيوطي هذا الحديث في الجامع الصغير ورمز له براموز الصحة من أجل تعدد طرقه.
ثانيا: على تقدير صحته من نسي التسمية على الوضوء أو جهل حكمها فوضوءه صحيح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (25) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (398) .(59/105)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 2588
س: هل ثبت في الشرع دعاء أثناء الوضوء أو لا؟ .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء أثناء الوضوء عند غسل(59/105)
الأعضاء أو مسحها، وما ذكر من الأدعية في ذلك مبتدع لا أصل له، وإنما المعروف شرعا التسمية أوله والنطق بالشهادتين بعده وقول: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (1) » بعد الشهادتين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (55) ، سنن النسائي الطهارة (148) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (470) .(59/106)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 3377
س: ما هو الدعاء أثناء الوضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء أثناء الوضوء وما يدعو به العامة عند غسل كل عضو بدعة. مثل قولهم عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه، وقولهم عند غسل اليدين: اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني كتابي بشمالي إلى غير ذلك من الأدعية عند سائر أعضاء الوضوء.
وإنما يشرع للمتوضئ أن يسمي الله عند بدء الوضوء لحديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) » وأن يقول إذا فرغ من الوضوء: «أشهد أن لا إله إلا الله
__________
(1) سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (397) ، سنن الدارمي الطهارة (691) .(59/106)
وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (55) ، سنن النسائي الطهارة (148) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (470) .(59/107)
السؤال الأول من الفتوى رقم 8891
س: هل معنى تخليل اللحية في الوضوء هو وجوب وصول الماء إلى بشرة اللحية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يجب غسل ظاهر اللحية الكثيفة ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة التي تحته ولكن يشرع تخليلها، قال النووي رحمه الله تعالى: لا خلاف في وجوب غسل اللحية الكثيفة ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة التي تحته اتفاقا، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال ابن رشد: (هذا أمر لا أعلم فيه خلافا) انتهى. وأما اللحية الخفيفة التي تبين منها البشرة فإنه يجب غسل باطنها وظاهرها.(59/107)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/108)
الفتوى رقم 6757
س: هل غسل الوجه في الوضوء يبدأ قبل المضمضمة والاستنشاق أم المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه هذا لأنه حدثت مناقشة أحدهم يقول: غسل الوجه أولا ثم المضمضة والاستنشاق والآخر يقول: المضمضة والاستنشاق أولا قبل غسل الوجه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: الأفضل أن يقدم المتوضئ المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه؛ لعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع العلماء على استحباب تقديمها على غسل الوجه؛ فإن قدم غسل الوجه عليهما فوضوءه صحيح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/108)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 8365
س: هل يبطل الوضوء إذا تمضمض الإنسان ولم يدخل إصبعه في فمه؛ «لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يتمضمض بإصبعه» وهل هذا خبر صحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يصح الوضوء بدون إدخال إصبعه في فمه عند المضمضة، وأما الخبر فقد رواه الإمام أحمد بسند ضعيف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/109)
السؤال الأول من الفتوى رقم 13405
س: قمت لصلاة الفجر متأخرا والناس في المساجد يصلون وتوضأت وذهبت إلى المسجد فلحقت الصلاة معهم ولكن عندما أنا في الركعة الثانية تذكرت أنني لم أستنشق فقط فما حكم صلاتي؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:(59/109)
ج: الاستنشاق واجب في الوضوء؛ لما ثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بقوله: «من توضأ فليستنثر (1) » وقوله: «من توضأ فليستنشق (2) » ومن لم يستنشق فوضوءه غير صحيح، والواجب عليك إعادة الوضوء والصلاة المذكورة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري برقم 161، 162، ومسلم 1 \ 46.
(2) صحيح مسلم الطهارة (237) ، سنن النسائي الطهارة (86) ، مسند أحمد بن حنبل (2/316) ، موطأ مالك الطهارة (33) .(59/110)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5176
س: قد قال ابن القيم - رحمه الله-: أنه لم يرد عنه حديث واحد أنه اقتصر على مسح جزء من رأسه البتة يقصد النبي -صلى الله عليه وسلم - وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الناصية وعلى جزء من العمامة. وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يمسح على رأسه مدبرا ومقبلا. والسؤال هو: هل يجوز أن تتعمد المرأة وقت الوضوء وتغطي رأسها لتفعل مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسح على ناصيتها وعلى جزء من هذا الغطاء لتعتبره مثل العمامة أم يعتبر هذا الفعل بدعة لأنها تتعمد لتمسح على هذا الغطاء وإن كان لا يجوز فكيف تمسح المرأة على شعرها الطويل مدبرة ومقبلة أتمسح عليه كله أم على(59/110)
جزء منه وقد قلت في أول السؤال قول ابن القيم - رحمه الله - فما الجواب على هذا السؤال وفقكم الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يمسح شعر رأسه كله في الوضوء مقبلا ومدبرا. وهذا هو الأصل وهو تفسير بالفعل لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (1) وثبت أنه مسح في الوضوء على عمامته. وذلك فيما رواه أحمد والبخاري عن عمرو بن أمية الضمري قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه (2) » وفيما رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي عن بلال - رضي الله عنه - قال: «مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين والخمار (3) » ، وثبت عنه: «أنه مسح بناصيته وعلى العمامة والخفين (4) » وذلك فيما رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه، فيجوز المسح على هذه الكيفيات الثلاث إذا لبس العمامة والخفين على طهارة يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، كما صح بذلك السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أحمد 4 \ 139 و 179 و5 \ 288، والبخاري برقم 204 و 205.
(3) أحمد 6 \ 14 و 92 و 83، ومسلم 1 \ 159، والنسائي 1 \ 75 و 76، والترمذي برقم 101.
(4) مسلم 1 \ 159.(59/111)
حاسر الرأس ثم لبس العمامة عند الوضوء ليترخص لنفسه بالمسح عليها وليعلم ذلك أصحابه - رضي الله عنهم - ويشرعه لأمته فليس لحاسر الرأس أن يترخص بستر الرأس عند الوضوء ليمسح على عمامة أو خمار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/112)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6634
س: ما حكم من لم يعم رأسه بالمسح بالماء عند الوضوء فهل الوضوء صحيح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: الواجب مسح جميع الرأس في الوضوء لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (1) ولما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم - رضي الله عنهما - في صفة الوضوء قال: «ومسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأسه فأقبل بيديه وأدبر (2) » . وفي لفظ لهما «بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) صحيح البخاري الوضوء (192) ، صحيح مسلم الطهارة (235) ، سنن الترمذي الطهارة (32) ، سنن النسائي الطهارة (97) ، سنن أبو داود الطهارة (118) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (434) ، مسند أحمد بن حنبل (4/38) ، موطأ مالك الطهارة (32) .(59/112)
الذي بدأ منه (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري برقم 186، ومسلم 1 \ 145.(59/113)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 9256
س: رجل توضأ ومسح على رأسه بالماء غير أن شعر رأسه واقف ومرتفع بما يقارب خمسة سنتيمترات أو أكثر؟ القصد أن هذا الشعر يمنع وصول الماء إلى البشرة هل وضوءه صحيح أم ماذا يترتب عليه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: وضوءه صحيح ولو لم يصل بلل المسح إلى البشرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/113)
السؤال الخامس من الفتوى رقم 11255
س: كم عدد المسح على الرأس في الوضوء وإذا توضأ شخص في بيته ثم ذهب إلى المسجد فتذكر أنه لم يمسح رأسه ماذا يفعل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يجب المسح على الرأس في الوضوء مرة واحدة ومن توضأ ونسي المسح وجب عليه إعادة الوضوء إذا طال الفصل؛ لأن الموالاة واجبة. فإن ذكر في الحال مسح الرأس وأعاد غسل الرجلين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/114)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9299
س: اختلف إخواننا في جمهورية مالي في مسح الأذنين في الوضوء، فقال بعضهم: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مسح أذنيه في الوضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:(59/114)
ج: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح رأسه وأذنيه في الوضوء فقد ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما (1) » رواه الترمذي وصححه، وللنسائي: «مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالمسبحتين، وظاهرهما بإبهاميه (2) » وصححه ابن خزيمة.
وأخرج أبو داود والطحاوي من حديث مقداد بن معدي كرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مسح في وضوئه رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل إصبعيه في صماخي أذنيه (3) » قال الحافظ ابن حجر: " وإسناده حسن "، ولا خلاف فيما نعلم في مشروعية مسح الأذنين، إنما الخلاف في أنهما من الرأس أو لا؟ وفي أن مسحهما واجب أو سنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) النسائي 1 \ 73 والترمذي برقم 36.
(2) النسائي 1 \ 74.
(3) أبو داود برقم 122 و 123، والطحاوي في معاني الآثار 1 \ 32.(59/115)
السؤال الأول من الفتوى رقم 13142
س: رجل توضأ وعليه خفان ومسح عليهما وقد انتهت(59/115)
مدة المسح وتذكر أن مدة المسح قد انتهت قبل أن يصلي بعد مضي حوالي عشر دقائق بعد أن جفت كافة أعضائه. هل يعيد الوضوء كاملا؟ أم يغسل رجليه فقط؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: إذا كان الأمر كما ذكر وجب على الرجل المذكور إعادة الوضوء؛ لأن الموالاة في الوضوء واجبة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/116)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9429.
س: إذا كنت متوضئا ويخرج الريح من دبري، فهل يجب علي غسل الدبر قبل التوضؤ مرة ثانية، كذلك هل يجب غسل الدبر بعد القيام من النوم أيضا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر فلا يجب عليك ولا يسن غسل الدبر من الريح قبل الوضوء مرة أخرى وكذلك الحكم بعد القيام من النوم.(59/116)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/117)
السؤال الأول من الفتوى رقم 6522
س: ما حكم الماء المغصوب إذا توضأ به وكذلك الثوب المغصوب إذا صلى به والفرق بينهما وبين الحج بالمال الحرام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: الغصب حرام بإجماع المسلمين؛ لأنه ظلم والظلم ظلمات يوم القيامة، ومن غصب ماء وتوضأ به للصلاة أو ثوبا وصلى فيه أو مالا وحج به فكل من وضوئه وصلاته وحجه صحيح في أصح قولي العلماء وعليه التوبة إلى الله من ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/117)
السؤال الأول من الفتوى رقم 4511
س: نظرا لأنني أعمل في حلقة لبيع السمك وهذا يؤدي إلي تعلق قشر السمك الصغير والكبير بيدي ومواضع أخرى. ونظرا لأن قشر السمك شفاف جدا بحيث إذا تعلق باليد أو أي موضع آخر يصعب رؤيته بالعين المجردة وهذا يحول دون وصول الماء إلى مواضع الوضوء. مع العلم بأنني أخرج من البيت في حوالي الساعة التاسعة صباحا ويظل العمل مستمرا أو شبه ذلك حتى قبيل الظهر بقليل ويصعب علي المحافظة على الوضوء في أثناء فترة العمل وكنت أحاول إزالة القشر عن مواضع الوضوء وذلك يستنفذ وقتا طويلا حوالي عشر دقائق مع العلم بصعوبة رؤية القشر بالعين المجردة، لمشابهته للجلد في تلك الأماكن وإنني أبذل قصارى جهدي في ذلك الوقت ولكن بعد انتهاء الصلاة اكتشف وجود قشر آخر متعلق بيدي وقد قمت بلبس قفاز في يدي من النوع الذي يستخدم في المطابخ لأنه سميك عن القفاز الذي يستخدم في العمليات الجراحية كما أن الأخير لا يتحمل شد العمل ولكن الأول يؤثر على الأصابع فيجعلها شبه متجمدة وكأنها موضوعة في ماء شديد البرودة وذلك يعيق العمل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآه وصحبه.
وبعد:
ج: إذا كان الأمر كما ذكر فلا بد من إزالة ما علق في يديك من قشر السمك عند الوضوء ولا يصح وضوءك مع وجود حائل من(59/118)
قشر السمك أو غيره بين البشرة وبين الماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/119)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 6193
س: يروى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: " لا يصح الوضوء إن وجد على الأصابع عجين أو مناكير أو طين " ولكن أرى بعض النساء يضعن الحناء في أيديهن وأرجلهن وهو عجين ويصلين به هل يجوز هذا، علما بأنهن إذا منعن من هذا يقلن: إن هذا طاهر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: لم يرد حديث بهذا اللفظ فيما نعلم. وأما الحناء فبقاء لونه في اليد والرجل لا يؤثر؛ لأن لونه ليس له سمك بخلاف العجين والمناكير والطين فإن لها سمكا يحول دون وصول الماء للبشرة فلا يصح الوضوء مع بقائه من أجل عدم وصول الماء للبشرة. أما إذا كان للحناء جسم في اليد أو الرجل يمنع وصول الماء إلى البشرة فإنها تجب إزالته كالعجين ونحوه.(59/119)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/120)
السؤال السادس عشر من الفتوى رقم 6504
س: سمعنا بعض العلماء يقول: يجوز أن تتوضأ المرأة دون إزالة المناكير - طلاء الأظافر - فما رأيكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول وآله وصحبه.
وبعد:
ج: إذا كان للطلاء جرم على سطح الأظافر فلا يجزئها الوضوء دون إزالته قبل الوضوء، وإذا لم يكن له جرم أجزأها الوضوء كالحناء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(59/120)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7734
س: صلى رجل صلاة المغرب وبعد الصلاة اكتشف في(59/120)
قدمه سائلا يمنع الوضوء كالشمع مثلا هل تصح صلاته إذا علم بوجود شيء ما أثناء الوضوء ولم يره إلا بعد الصلاة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يجب عليه إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة وإعادة الوضوء والصلاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/121)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 8684
س: الرجل الذي يعمل في دهان الأثاث بالكحول مذابا فيه مادة تسمى " الجمالكا " مما يؤدي إلى ترسب طبقات منها على كفيه تمنع وصول ماء الوضوء للبشرة. ما حكم وضوء هذا الرجل وصلاته والصلاة خلفه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر من ترسب طبقة على جزء مما يجب غسله تمنع وصول الماء إلى البشرة لم يصح وضوءه ولا صلاته بهذا الوضوء ولا الاقتداء به في الصلاة.(59/121)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/122)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 7523
س: اكتشف شخص بعد الصلاة أن على عضوين من أعضاء الوضوء مادة عازلة للماء " شمع مثلا " فماذا يفعل، وهل يعاد الوضوء لتقليم الأظافر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يجب غسل جميع أعضاء الوضوء؛ امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) ، ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيانه في الأحاديث الصحيحة وجوب غسل أعضاء الوضوء. فمن وجد بعد الصلاة على أعضاء الوضوء أو بعضها شيئا قد يمنع وصول الماء إلى البشرة فعليه إزالة المانع وإعادة الوضوء والصلاة. وأما تقليم الأظافر فلا تجب به إعادة الوضوء ولا تستحب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(59/122)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/123)
السؤال الأول من الفتوى رقم 12137
س: كثيرا ما تردنا أسئلة حول تراكم الدهانات " البوية " على أماكن الوضوء إذ إن كثيرا من الناس وخاصة من يعمل في ذلك الاختصاص تتعرض أعضاؤهم للدهان ولا يمكن إزالة ذلك إلا بمواد كيماوية ويقولون: إن استخدام تلك المواد الكيماوية المزيلة مثل التنر يؤثر على البشرة إذا استخدم بصفة مستمرة، فهل تجوز صلاتهم إذا توضئوا، علما أن تلك الدهانات تحول دون وصول الماء إلى البشرة، أم لا بد من إزالة كل ما يمنع وصول الماء إلى البشرة لكل فريضة وإن كان هناك مشقة؟ آمل التكرم بطلب إصدار فتوى في ذلك لتتم إجابتهم هذا والله يحفظكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: يجب على المسلم أن يمس الماء بشرته عند الوضوء، وعليه إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة. وبإمكان العاملين في الدهانات والبوية ونحوها لبس ما يقي أيديهم من وصول الدهان إليها.(59/123)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/124)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 9637
س: هل استعمال الحناء أيام الحيض يؤثر في صحة الغسل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: استعمال الحناء لا يؤثر على الغسل ولا على الوضوء؛ لأنه ليس له كثافة ولا سمك فلا يمنع وصول الماء إلى البشرة، أما إن بقي له جسم فتجب إزالته قبل الغسل حتى لا يمنع الماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/124)
الفتوى رقم 4677
س: أنا أبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين سنة وأنا متزوجة وعندي عيال. والذي أريد سؤال فضيلتكم عنه أنه دخل علي(59/124)
وسواس منذ خمس أو ست سنوات، وهذا الوسواس يشغلني في الوضوء حتى لا أستطيع الموالاة أستمر في الوضوء ساعة ونصف في كل وقت حيث يخيل إلي أنني لم أتم الوضوء، وكذلك في غسل الجنابة أستمر ثلاث ساعات ويخيل إلي أنني لم أطهر وفي غسل العادة ثلاث ساعات، وكذلك هذا الوسواس حرمني من لبس الثياب الجميلة، وقد تعالجت في مستشفى الأمراض النفسية بالطائف ولدى الدكتور محمد عرفان بجدة، فأرجو من فضيلتكم النظر في وضعي وإرشادي بما ترونه يساعدني في طرد هذا الوسواس، كما أفيد فضيلتكم أنه قد حصل علي نقص في صيام رمضان منذ صغري ولا أحصي تلك الأيام التي أفطرتها، فماذا يجب علي فيها أفتوني وفقكم الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: أولا: تابعي العلاج في مستشفى الأمراض النفسية وعند دكاترة الأمراض العصبية - النفسية- عسى الله أن يكتب لك الشفاء ومع ذلك استعيني بالله واطلبي منه أن يعافيك من مرضك، واقرئي آية الكرسي عندما ترقدين في فراشك للنوم، وقولي: " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " ثلاث مرات صباحا وثلاث مرات مساء، وارقي نفسك بقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات تنفثين في يديك عقب كل مرة وتمسحين بهما ما استطعت من بدنك عند النوم. لما روى البخاري في صحيحه وأهل السنن عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما(59/125)
وقرأ فيهما وو ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات (4) » .
وادعي الله أن يذهب ما بك من بأس فقولي: " أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما " وكرري ذلك ثلاثا وادعي أيضا بدعاء الكرب فقولي: " لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم " وإذا فرغت من الوضوء أو الغسل من حيض أو جنابة فاعتمدي أنك قد طهرت ودعي عنك الوسواس وطول المكث في الحمام فإنه من الشيطان وبذلك ينقطع عنك بإذن الله.
ثانيا: إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك أفطرت أياما من رمضان في الصغر ولا تحصين تلك الأيام فصومي أيام قضاء عنها حتى يغلب على ظنك أنك صمت الأيام التي أفطرتيها من شهر رمضان بعد بلوغك. أما ما قبل البلوغ فليس عليك قضاؤها شفاك الله. والبلوغ في حق الرجل والمرأة يحصل بإكمال خمس عشرة سنة، أو إنزال مني عن شهوة في اليقظة أو النوم، أو إنبات شعر خشن حول الفرج، وتزيد المرأة أمرا رابعا هو الحيض.
__________
(1) البخاري برقم 17 / 50 و 5748 و 6319، وأبو داود برقم 5056، والترمذي برقم 3402، والنسائي في عمل اليوم والليلة 788، وابن ماجه برقم 3875.
(2) سورة الإخلاص الآية 1 (1) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(3) سورة الفلق الآية 1 (2) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
(4) سورة الناس الآية 1 (3) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}(59/126)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/127)
السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم 4849
س: ما هو القول الراجح في مسألة المياه الرجاء الإفادة بالتوضيح؟ وما هو علاج الوسوسة في الطهارة حيث إن لي صديقا يوسوس حتى أنه أحيانا يترك بعفي الملابس في رشاش قطرة الماء في الحمام عند الوضوء حتى إنه أخيرا ترك الصلاة وقد قمت بنصحه حتى صلى من جديد إلا أنه طلب مني أن أرشده إلى علاج هذه الوسوسة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: أولا: الأصل في الماء الطهارة فإذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة فهو نجس سواء كان قليلا أو كثيرا وإذا لم تغيره النجاسة فهو طهور لكن إذا كان قليلا جدا فينبغي عدم التطهر به احتياطا وخروجا من الخلاف وعملا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه (1) » الحديث.
ثانيا: علاج الوسوسة بكثرة ذكر الله - جل وعلا - وسؤاله العافية من ذلك وعدم الاستسلام للوسوسة فيجب عليه رفضها فإذا
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (172) ، صحيح مسلم الطهارة (279) ، سنن الترمذي الطهارة (91) ، سنن النسائي المياه (338) ، سنن أبو داود الطهارة (71) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (363) ، مسند أحمد بن حنبل (2/253) ، موطأ مالك الطهارة (67) .(59/127)
تطهر طهارة صغرى أو كبرى وحصلت عنده وسوسة في أناء يغسل رأسه - مثلا - فلا يلتفت إلى ذلك بل يبني على أنه غسله وهكذا في سائر أعماله يرفض الاستجابة للوسوسة؛ لأنها من الشيطان ويكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان؛ لأنه الوسواس الخناس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/128)
السؤال التاسع من الفتوى رقم 5006
س: الإنسان الذي في معدته تنفس كثير ربما غازات ولكني وضوءه لم يتممه إلا بمشقة مثلا يصل إلى الوجه فيحس حسا رقيقا ويخاف من نقض الوضوء ثم يبدأ الوضوء من جديد وكذلك في الصلاة عندما يصلي فيحس كذا بدون أن يشم رائحة ما الحل لهذا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: هذه الوسوسة من الشيطان ليفسد بها على المسلم عبادته والواجب تركها وألا يخرج المسلم من صلاته أو يعيد وضوءه إلا إذا سمع صوتا أو وجد ريحا؛ لما روى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا(59/128)
فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » . والمقصود أن يتحقق خروج الحدث ومتى بقي معه أدنى شك فطهارته صحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (362) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطهارة (177) ، مسند أحمد بن حنبل (2/330) ، سنن الدارمي الطهارة (721) .(59/129)
السؤال التاسع عشر من الفتوى رقم 8864
س: الله يكرمكم بعد ما أتبول " أي بعد نزول البول " الماء تبقى قطرات من البول في القضيب وأجلس حوالي ربع ساعة في الحمام كي أتنظف جيدا من البول طبعا هذا مرهق ومتعب لي بعدها أتوضأ للصلاة وذهبت إلى عدة أطباء وأجريت تحاليل واستعملت أنواع الأدوية بخصوص القضاء على هذه الظاهرة لكن دون جدوى وبعد ما أتنظف جيدا من قطرات البول المتبقية أتوضأ وأذهب إلى الصلاة وأثناء الصلاة أحس وكأن هناك قطرات متبقية في القضيب وتريد أن تخرج إلى الخارج طبعا هذا يسبب لي مشاكل وإحراجا خاصة إذا صليت جماعة وبعدها اكتشف أن هناك قطرات بول متبقية قد لا تنزل بسرعة أثناء جلوسي في(59/129)
الحمام وأضطر إلى إعادة الصلاة أو أشك في أن صلاتي غير صحيحة. الرجاء إفادتي في هذا الموضوع بالفتوى الواضحة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.
وبعد:
ج: إذا توضأت فالأصل الطهارة ولا تلتفت إلى ما يعرض لك من الشكوك والوساوس، فإن ذلك من الشيطان، نعم إن تيقنت أنه خرج منك شيء بعد الوضوء بطل وضوءك وعليك أن تتوضأ ثانية، وهكذا ما تحس به في الصلاة من بقايا شيء من البول في القضيب عليك أن تتشاغل عنه وتبني على أصل الطهارة ولا حاجة إلى التفتيش بعد ذلك؛ لأن ذلك مما يسبب بقاء الوسوسة عافاك الله من ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(59/130)
البيان بالدليل لما في نصيحة الرفاعي
ومقدمة البوطي من الكذب الواضح والتضليل
لمعالي الدكتور / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على ورقات كتبها الأستاذ / يوسف بن السيد هاشم الرفاعي بعنوان: (نصيحة لإخواننا علماء نجد) ، وقدم لها الدكتور / محمد سعيد رمضان البوطي. ومضمون هذه النصيحة هو الحث على التخلي عن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والأخذ بأقوال الفرق الضالة التي حذرنا الله - سبحانه وتعالى - منها بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ، وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) ، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .
وحذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فإنه من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) سورة الأنعام الآية 153(59/131)
يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1) » . وبقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (2) » . وبقوله - صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي (3) » .
إن الرفاعي والبوطي يدعوان إلى ترك ذلك كله، والأخذ بما عليه الفرق الضالة المنحرفة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (4) » ، وهذه الواحدة هي الفرقة المتمسكة. بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بخلاف غيرها من قبورية وصوفية وجهمية ومعتزلة وغيرها. وهذا الافتراق هو الذي سبب التناحر والشقاق بين الأمة.
والبوطي والرفاعي يريدان للأمة البقاء على هذا الافتراق تحت مظلة اسم الإسلام. إنني تذكرت بتآمرهما هذا على من تمسك بالسنة وترك البدعة قول الشاعر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل فعل منكر
وبقيت في خلف يزكي بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
وأقول: لماذا خصا علماء نجد بنصيحتهما هذه مع أن المتمسكين بالسنة والحمد لله كثيرون في أقطار الأرض وفي مختلف البلاد، ما ذاك إلا ليوهما الأغرار أن أهل نجد أهل شذوذ وخروج عن الحق، على قاعدة من يرى أن كل متمسك بالحق فهو متطرف.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3075) ، سنن أبو داود السنة (4703) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك الجامع (1661) .
(4) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(59/132)
ولكن هذا لا يضير، فالحق واضح يراه كل بصير، وأما الأعمى فلا حيلة فيه كما قال الشاعر:
وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح عيونا أطفأ الله نورها ... بأهوائها فلا تفيق ولا تعي
وقال الآخر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
وإذا كانا يغاران على الأمة الإسلامية - كما زعما - فلماذا لا يحذرانها من البدع والانحرافات التي تفرقها وتصدها عن سبيل الله وتقضي على وحدتها وقوتها.
وخذ مثلا من عجرفة هذا البوطي في مقدمته لتلك النصيحة لتستدل به على مبلغ ما عنده من العلم؛ حيث قال في صفحة 19 - 20 يخاطب علماء نجد: " وإذا لأقلعتم عن ترديد تلك الكلمة التي تظنونها نصيحة وهي باطل من القول، وتحسبونها أمرا هينا وهي عند الله عظيم، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات: إياكم والغلو في محبة رسول الله، ولو قلتم كما قال رسول الله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم (1) » لكان كلاما مقبولا، ولكان نصيحة غالية ".
هذا كلامه بنصه، وقد بخل فيه أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكره، وعاب على أهل السنة إنكارهم للغلو الذي أنكره الله بقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2) .
وأنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (3) » . ثم ما الفرق بين الغلو والإطراء الذي نهى عنه رسول الله
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) .
(2) سورة النساء الآية 171
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3057) .(59/133)
- صلى الله عليه وسلم - في حقه. إن معناهما واحد إلا عند البوطي اختراعا من عنده، حمله عليه الحقد والبغضاء لأهل الحق.
والحمد لله أنه لم يجد على أهل الحق ما يعابون به سوى هذه الكلمة التي زعمها باطلا وهي حق، هذا وإن ما ذكره الأستاذ \ يوسف الرفاعي في أوراقه التي سماها نصيحة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول حق وعلماء نجد وغيرهم من أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا قائلون به. لكنه رآه باطلا ونصح بتركه لعمى بصيرته.
ومن أعمى الله بصيرته فإنه يرى الباطل حقا، والحق باطلا: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (1) .
وما كل من تظاهر بالنصيحة يكون ناصحا، فإبليس قال لآدم وحواء حينما أغراهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها كما قال الله تعالى عنه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (2) وفرعون قال لقومه حينما حذرهم من اتباع موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (3) .
فأحيانا يظهر العدو بصورة الناصح خداعا ومكرا، أو يخيل إليه أن عمله هذا إصلاح: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (4) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (5) .
فيجب الحذر من
__________
(1) سورة المائدة الآية 41
(2) سورة الأعراف الآية 21
(3) سورة غافر الآية 26
(4) سورة البقرة الآية 11
(5) سورة البقرة الآية 12(59/134)
أمثال هؤلاء؛ لأنهم كما قال الشاعر:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كل مبد نصحه بلبيب
وقد رأيت الرد عليهما لأنه لو ترك الرد على المبطلين لالتبس الحق بالباطل ولتشجع أهل الباطل على باطلهم، والله تعالى قد رد في كتابه على أهل الباطل في مواضع كثيرة من القرآن.
ولما قال أبو سفيان يوم أحد للمسلمين: لنا العزى ولا عزى لكم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم (1) » .
وإليك نماذج مما قاله الرفاعي في نصيحته عن علماء نجد كذبا وزورا: قال: سلطتم من المرتزقة الذين تحتضنونهم من رمى بالضلالة والغواية الجماعات والهيئات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والناشطة لإعلاء كلمة الله - تعالى والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، كالتبليغ والإخوان المسلمين والجماعات الديوبندية التي تمثل أبرز علماء الهند وباكستان وبنغلاديش، والجماعة البريلوية التي تمثل السواد الأعظم من عامة المسلمين في تلك البلاد، مستخدمين في ذلك الكتب والأشرطة ونحوها. وقمتم بترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات وتوزيعها بوسائلكم الكثيرة مجانا.
كما نشرتم كتابا فيه تكفير أهل أبو ظبي ودبي والإباضية الذين معكم في مجلس التعاون. أما هجومكم على الأزهر الشريف وعلمائه فقد تواتر عنكم كثيرا.
وقال: إذا اختلف معكم أحد في موضوع أو أمر فقهي أو عقدي أصدرتم كتبا في ذمه وتبديعه أو تشريكه (كذا قال) ، وقال: سمحتم للصغار وسفهاء الأحلام بمهاجمة السلف الصالح الأعلام لهذه الأمة. ومنهم حجة الإسلام الإمام الغزالي - رحمه الله - بعد التهجم بشتى
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير (3039) ، مسند أحمد بن حنبل (4/293) .(59/135)
وسائل مطبوعاتكم على الإمام أبي الحسن الأشعري وأتباعه من السواد الأعظم من المسلمين منذ مئات السنين، حيث وصفتموهم بالضالين المضلين. وقال: لا يجوز اتهام المسلمين الموحدين الذين يصلون معكم ويصومون ويزكون ويحجون البيت ملبين مرددين: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) لا يجوز شرعا اتهامهم بالشرك كما تطفح به كتبكم ومنشوراتكم. وكما يجأر خطيبكم يوم الحج الأكبر من مسجد الخيف بمنى صباح عيد الحجاج وكافة المسلمين، وكذلك يروع نظيره في المسجد الحرام يوم عيد الفطر بهذه التهجمات والافتراءات أهل مكة والمعتمرين فانتهوا هداكم الله. انتهى.
وكأن الرفاعي بهذا لا يرى أن عبادة القبور ودعاء الأموات وغيرهما من أنواع الشرك الذي يصدر من كثير ممن يصومون ويصلون ويزكون ويحجون لا يراه كفرا ولا شركا، ولا يرى أن ذلك يبطل الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال. وإذا حذر المسلمين من الوقوع في الشرك والبدع خطيب المسجد الحرام أو غيره من الخطباء المسلمين من هذا الشرك والوقوع فيه نصيحة لهم فإن الرفاعي يراه تكفيرا لهم واتهاما لهم بالشرك، فما هذا الفهم المنكوس، والعقل المطموس؟ وقال أيضا: لقد كفرتم الصوفية ثم الأشاعرة وأنكرتم واستنكرتم تقليد واتباع المذاهب الأربعة: أبي(59/136)
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل. ونقول لهذا المفتري: بأي كتاب كفرنا هؤلاء وبأي كتاب أنكرنا اتباع المذاهب الأربعة، لكن الأمر كما قيل:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس لي في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة
ثم زاد في الكذب والافتراء فقال: تمنعون دفن المسلم الذي يموت خارج المدينة المنورة ومكة المكرمة من الدفن فيهما. وقال أيضا: تمنعون النساء من الوصول إلى المواجهة الشريفة أمام قبر النبي -صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه أسوة بالرجال، ولو استطعتما لمنعتم النساء من الطواف مع محارمهن بالبيت الحرام.
وقال: دأبتم على أن تحذفوا ما لا يعجبكم ويرضيكم من كتب التراث الإسلامي التي لا تستطيعون منع دخولها المملكة؛ لأن عامة المسلمين يحتاجون إليها، وفي هذا اعتداء شرعي وقانوني على آراء المؤلفين من علماء السلف الصالح - إلى آخر هرائه.
ولا يخفى ما في هذا من الافتراء؛ فنحن والحمد لله من أشد الناس محافظة على كتب السلف الصالح ونشرها وإحيائها. وقال - عامله الله بما يستحق على افترائه وكذبه - قال: إن ما يحصل من مذابح ومجازر ومآسي تشوه سمعة الإسلام وتفتك بالمسلمين خاصة كالتي في الجزائر ومصر أو التي حدثت في الحرم المكي ما هي إلا ثمرة خريجيكم وآرائكم وقراء كتبكم ومطبوعاتكم التي بنيت على التكفير والتشريك والتبديع وسوء الظن بالمسلمين.
وأقول له: لقد كذبت وافتريت، فعلماء نجد - والحمد لله - من أشد الناس إنكارا للغلو وسفك الدماء(59/137)
بغير حق، وما زال يصدر منهم الإنكار والتحذير من مثل هذه الأعمال القبيحة، وانظر إلى القرارات الصادرة من هيئة كبار العلماء في هذا الموضوع، وقد نشرت في مختلف وسائل الإعلام، وانظر إلى كتبهم المقررة في مراحل الدراسة. وهؤلاء الذين أشار إليهم هذا الكذاب ممن يزاولون هذه القبائح لا يمتون إلى علماء نجد بصلة، ولم يتتلمذوا عليهم، وكتب علماء نجد ومطبوعاتهم بريئة كل البراءة مما افتراه عليهم هذا الكذاب، وهي منشورة ومتداولة بحمد الله تنبئ عن نفسها. وإليك صورة من بيان هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في استنكار الإرهاب والتخريب ترد على ما افتراه هذا الكذاب عليهم:(59/138)
بيان من هيئة كبار العلماء.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ 2 \ 4 \ 1419 هـ. ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظرا إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة للناس، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك، نصحا لله ولعباده، وإبراء للذمة، وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق:(59/138)
أولا: التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة.
ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات؛ ولذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه (1) » .
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة - مثلا - وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به. وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة الفرح.
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، سنن أبو داود السنة (4687) ، مسند أحمد بن حنبل (2/105) ، موطأ مالك الجامع (1844) .(59/139)
وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشد؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد، ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - من منابذتهم فقال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (1) » .
فأفاد قوله: " إلا أن تروا "، أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: " كفرا " أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: " بواحا " أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح، أي صريح ظاهر، وأفاد قوله: " عندكم فيه من الله برهان " أنه لا بد من دليل صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة.
وأفاد قوله: " من الله " أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7056) .
(2) سورة الأعراف الآية 33(59/140)
ثانيا: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن(59/140)
والمركبات، وتخريب المنشآت. فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها.
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك، وكان من آخر ما بلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته فقال في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد (1) » . متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه (2) » . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (3) » . وقد توعد الله - سبحانه - من قتل نفسا معصومة بأشد الوعيد فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (4) . وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1739) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(4) سورة النساء الآية 93
(5) سورة النساء الآية 92(59/141)
فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدين والكفارة، فكيف إذا قتل عمدا؟ فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر. وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجزية (3166) ، سنن النسائي القسامة (4750) ، سنن ابن ماجه الديات (2686) ، مسند أحمد بن حنبل (2/186) .(59/142)
ثالثا: إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخطورة إطلاق ذلك، لما يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف، وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة، المستمسكين بحبل الله المتين. وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (1) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 204
(2) سورة البقرة الآية 205
(3) سورة البقرة الآية 206(59/142)
والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق والتناصح والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة. قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (7) » . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكف البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(7) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(59/143)
دينه ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. انتهى.(59/144)
وأنا أبين أهم ما عابه الرفاعي على علماء نجد مع الرد عليه؛ لأن الرد على الباطل وبيان الحق جاء به الكتاب والسنة وأوجبه الله على علماء الأمة. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) وأقول:
1- عاب على علماء نجد: استدلالهم على إنكار البدع عملا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة (2) » . وأقول: ماذا عليهم إذا استدلوا بقول نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأنكروا البدع والضلالات نصيحة للأمة ومحافظة على الدين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » فالبدع تضل الأمة وتغير معالم الدين، ولا يليق بالعلماء الناصحين أن يسكتوا عنها ويتساهلوا فيها.
2 - مما عابه على علماء نجد: منع النساء من زيارة القبور. وأقول: هذا أمر قد منعه - النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، وإذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء فإن هذا يدل على تحريمه والمنع منه وأنه كبيرة من كبائر الذنوب، فماذا إذا أنكره علماء نجد ومنعوه؛ عملا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصيحة لنساء الأمة وإبعادا لهن عن موجب اللعنة، وإذا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(59/144)
كان هناك من يرى جواز زيارة النساء للقبور فرأيه هذا مردود بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يلتفت إليه.
3 - ومما عابه على علماء نجد: منع الناس من الغلو عند الحجرة النبوية.
وأقول: هذا المنع هو الحق، فإن منع الغلو بالقبور والاقتصار عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم - وغيره على السلام المشروع، كالذي كان يفعله الصحابة -رضي الله عنهم - مع قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قدومهم من سفر، وكما كان يفعله ابن عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - من الاقتصار على السلام عليه - فهذا هو الحق والسنة. فهم بذلك متبعون للسنة كما أمرهم الله بذلك. وهذا مما يحمد عليه علماء نجد ولا يعابون به والحمد لله، فقد قال - صلى الله عليه وسلم-: «لا تجعلوا قبري عيدا (1) » ، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (3) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم - وهو في سياق الموت: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره - صلى الله عليه وسلم - غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
والرفاعي وأمثاله لا يرضيهم الاقتصار على السنة؛ لأنهم يريدون الغلو في القبر واتخاذه عيدا ومحلا للدعاء عنده وغير ذلك من البدع.
4 - ومما عابه عليهم: منع الغلو في الأموات عند زيارة قبورهم، والاقتصار على السلام عليهم والدعاء لهم كما هي الزيارة المشروعة وتذكر الآخرة بزيارتهم والاستعداد لها.
وأقول: هذا
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/246) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (416) .(59/145)
هو السنة في زيارة القبور لا ما يفعله المشركون حولها من الشرك بالله والغلو فيها. وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى لاتخاذهم القبور مساجد يحذر ما صنعوا، ونهى عن الصلاة عند القبور والدعاء عندها، ومنع من البناء عليها وعن تجصيصها والكتابة عليها؛ كل ذلك من أجل منع الغلو فيها؛ لأن ذلك يصيرها أوثانا تعبد من دون الله، كما حصل في الأمم السابقة وفي متأخري هذه الأمة لما غلوا في القبور.
5 - ومما عابه عليهم: منع البناء على القبور عملا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (2) » وذلك لأن هذا من وسائل الشرك، فهم منعوه عملا بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ولو كره المشركون والمبتدعة والمخرفون. فعلماء نجد وغيرهم يتبعون هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في القبور ويخالفون المبتدعة والمشركين.
6 - ومما عابه عليهم: منع كتاب دلائل الخيرات وأمثاله من الكتب الضالة من دخول المملكة؛ لما فيه من الشركيات والغلو في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأقول: هذا هو الواجب وذلك لحماية عقيدة المسلمين من الغلو الذي حذر منه - صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا - صلى الله عليه وسلم - كيف
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/139) .
(2) وقوله صلى الله عليه وسلم: '' إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله ''.(59/146)
نصلي عليه فقال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد (1) » . . . " إلى آخر الحديث. فلسنا بحاجة إلى صلاة مبتدعة في كتاب دلائل الخيرات أو غيره. وإنما نصلي عليه كما أمرنا وعلمنا، صلوات الله وسلامه عليه، وفي ذلك الخير والاتباع وما عداه فهو الشرك والابتداع.
7 - ومما عابه عليهم: منع الاحتفال بمناسبة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأقول: منعهم لهذا الاحتفال لأنه بدعة لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (2) » .
ويدخل في ذلك بدعة الاحتفال بمناسبة المولد، فمن فعله فهو مبتدع. ونحن وغيرنا من أهل السنة في كافة الأقطار ننكره ونحذر منه ومن غيره من البدع.
والاحتفال بأعياد الموالد من إحداث الشيعة الفاطميين ومن قلدهم من المتصوفة والقبورية. والاحتفال بمناسبة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله النبي ولا صحابته ولا القرون المفضلة.
8 - ومما عابه عليهم: تركهم للقنوت في صلاة الفجر إلا في حالة النوازل.
وأقول: منعهم له لأنه لا دليل عليه في غير هذه الحالة، ولا يقول به جمهور علماء الأمة، والواجب اتباع الدليل. ولما سئل عنه بعض الصحابة قال: إنه محدث. وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها.
والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3)
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3370) ، صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن الترمذي الصلاة (483) ، سنن النسائي السهو (1288) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) سورة النساء الآية 59(59/147)
والسنة القنوت في صلاة الوتر وفي الفرائض عند النوازل كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، والمرجع في هذا إلى الأحاديث الصحيحة. ومن خالفها من أصحاب المذاهب فلا عبرة بخلافه، كما قال الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
وقال آخر:
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي فقيه
9 - ومما عابه عليهم: منعهم من إحياء الآثار المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لأحد من أصحابه.
وأقول: هذا المنع متعين من أجل سد الطرق المفضية إلى الشرك، من التبرك بها والاعتقاد فيها.
وهذا هو عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معها، فلم يكونوا يهتمون بهذه الآثار ولا يذهبون إليها، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة يذهب إلى غار حراء، ولا إلى غار ثور، ولا إلى موضع غزوة بدر، ولا إلى المكان الذي ولد فيه من مكة، ولا كان يفعل ذلك أحد من أصحابه، بل إن عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية لما رأى بعض الناس يذهبون إليها، فقطعها خشية الغلو بها. ولما «قال بعض الصحابة حديثي العهد بالإسلام للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " أي شجرة يتبركون بها كما(59/148)
يفعله المشركون، قال: قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (2) » .
فالتبرك بالآثار وإحياؤها وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، كما حصل لقوم نوح لما غلو بآثار الصالحين حتى آل بهم الأمر إلى عبادتها من دون الله - عز وجل - وهذا ما أنكره علماء نجد وغيرهم من أهل السنة. وإذا عمل على إحيائها وتتبعها أدى هذا إلى الشرك بحجة أنها آثار أنبياء أو أناس صالحين وما هلك من هلك من الأمم إلا بتتبع آثار أنبيائهم والغلو فيها وهذا ما يريده شياطين الإنس والجن.
10 - ومما عابه عليهم: منع كتابة بردة البوصيري على الجدران.
وأقول: هذا المنع هو الصواب، لما فيها وفي أمثالها من الغلو والشركيات التي لا تخفى على ذي بصيرة، مثل قوله في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله: إن الدنيا والآخرة من جود النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن ما كتبه القلم في اللوح المحفوظ هو بعض علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى غير ذلك من الكفريات والشركيات التي جره إليها الغلو.
والكتابة على الجدران لا سيما في المساجد ليست من هدي الإسلام ولو خلت من الشرك، فما بالك إذا اشتملت على الشرك، وهل كتابتها على الجدران ونحوها إلا إعلان للشرك الصريح ودعوة
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(2) سورة الأعراف الآية 138 (1) {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(59/149)
إليه. فالواجب منع كتابتها وأمثالها ومنع تداولها وإتلاف المكتوب منها.
11 - ومما عابه عليهم: فصل النساء عن الرجال في المسجد الحرام والمسجد النبوي وفي غيرهما من المساجد. وأقول: هذا المنع واجب؛ عملا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت النساء تقف في عهده، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة خلف صفوف الرجال، ولأجل صيانتهن وصيانة الرجال من الفتنة والافتتان بهن، فماذا على علماء نجد في ذلك؟ هل يريد الرفاعي اختلاط النساء بالرجال وانتشار الفتنة وشيوع الفاحشة أو ماذا يريد؟ ألم يكفه ما وصلت إليه المجتمعات من انحدار وانسلاخ بسبب اختلاط النساء بالرجال.
12 - قال: إن علماء نجد يتركون المذهب الحنبلي وينكرون اتباع المذاهب الأربعة ادعاء للسلفية.
وأقول: هذا كذب عليهم؛ لأنهم لم يتركوا المذهب الحنبلي، وإنما يعملون بما قام عليه الدليل منه ومن غيره من المذاهب الأربعة، ولا يقلدون تقليدا أعمى. وهذا ما أوصى به الأئمة الأربعة وغيرهم - رحمهم الله - كما هو معلوم من كلامهم.
واتباع المذهب الحنبلي أو غيره من المذاهب الأربعة لا يتعارض مع السلفية، كما نسب الرفاعي إلى علماء نجد أنهم يرونه مخالفا للسلفية، بل هو عين السلفية. وعلماء نجد حنابلة يدرسون المذهب الحنبلي ويفتون ويقضون به فيما لم يخالف الدليل فهم حنابلة سلفيون، وكل من اتبع الدليل واتبع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو سلفي، سواء كان حنبليا أو غير حنبلي. ولما «سئل النبي -صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية: من(59/150)
هم؟ قال: " هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي (1) » .
13 - وكذلك من العجائب ما استنكره الرفاعي من تعليقات الشيخ ابن باز -رحمه الله - على كتاب: فتح الباري.
وأقول: هذا لا نكارة فيه، فما زال العلماء يعلقون على الكتب ويبينون الحق للناس من الخطأ، سواء كان الخطأ في فتح الباري أو في غيره، فليس هناك كتاب معصوم من الخطأ إلا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأسوق خبرا إلى الرفاعي وغيره، وهو: أن حاشية الشيخ ابن باز على فتح الباري قد يسر الله إكمالها إلى آخر الكتاب على يد بعض المشايخ من تلامذة الشيخ ابن باز، وستظهر قريبا إن شاء الله كاملة.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(59/151)
وأما القسم الثاني مما يتضمنه ما يسمى بالنصيحة فهو كذب وبهتان. والجواب عنه أن نقول كما قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1) . وذلك مثل قوله:
1 - إن علماء نجد يكفرون المسلمين ويتهمونهم بالشرك. وأقول: سبب هذا الاتهام لعلماء نجد عند الرفاعي لأنهم يوزعون الكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر. ويرى الرفاعي أن إرسال علماء نجد للدعاة إنما هو للإرهاب والتدمير والتكفير؛ كذا قال الرفاعي عامله الله بما يستحق. وهذا كذب؛ لأن علماء نجد لا يكفرون إلا من دل الكتاب والسنة على تكفيره، كمن يدعو غير الله أو يستغيث بالأموات والغائبين، وهذا مما
__________
(1) سورة النور الآية 16(59/151)
لا خلاف فيه بين العلماء.
وأما توزيعهم للكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر والبدع فهذا من النصيحة للمسلمين وتبصيرهم بدين الله، ولا يعني هذا أنهم يكفرون من لم يقم الدليل الصحيح على كفره، وإنما هو من باب التنبيه والتحذير والمحافظة على العقيدة. ومن أجل هذه المهمة يرسلون الدعاة إلى الله لتعليم الناس أمور دينهم والدعوة إلى الإسلام والعمل بالسنة وترك البدع والمحدثات، ولم يرسلوهم لإثارة الفتنة كما زعم الرفاعي في نصيحته والبوطي في مقدمته، ولهم في ذلك قدوة: فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الدعاة إلى الله، كما أرسل معاذا إلى اليمن وغيره من الدعاة إلى الأقطار، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكاتب الملوك والرؤساء فلهم به أسوة.
وأما المخربون الذين يروعون الناس ويقتلون الأبرياء ويحدثون الرعب باسم الدعوة إلى الإسلام، فهؤلاء لا صلة لهم بعلماء نجد ولا بغيرهم من علماء السنة، وعلماء نجد برءاء منهم، وإنما ألصقهم الرفاعي بعلماء نجد من أجل التشويه والكذب.
ولم ترسل الحكومة السعودية - ولله الحمد - للدعوة إلى الله إلا من تثق بعلمه ودينه وأمانته وهذا معروف - ولله الحمد - لدى كل منصف، ودعاتها متميزون بالعلم وصحة العقيدة والإخلاص في الدعوة.
2 - ومن الكذب الصريح قول الرفاعي: إن علماء نجد يمنعون التدريس في الحرمين إلا من يوافق مذهبهم. وأقول: هذا من الكذب الواضح، فالتدريس في الحرمين - ولله الحمد- وفي غيرهما من مساجد المملكة لا يزال قائما على خير ما يرام، ولم(59/152)
يمنع من التدريس إلا من كان مبتدعا معروفا بذلك، أو مخرفا في عقيدته فمثل هذا منعه حق وواجب، حماية لعقيدة المسلمين وتلافيا لنشر البدع والخرافات، وكان السلف يمنعون دعاة السوء من نشر دعوتهم وشرهم كما هو معروف في كتب التاريخ والسير.
3 - ومن كذبه قوله: إن علماء نجد يمنعون من زيارة القبور. وأقول: وهذا كذب واضح؟ لأنهم لا يمنعون الزيارة الشرعية، ولكنهم يمنعون الزيارة البدعية والشركية التي فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم، كما منعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنع غيرها من الشرك ووسائله، وعلمنا - صلى الله عليه وسلم - ما نقول إذا زرنا القبور من السلام على الأموات والدعاء لهم. هذا ونسأل الله لنا وللأستاذ الرفاعي والدكتور البوطي وسائر المسلمين الهداية للحق وقبوله، وأن يجعلنا من العاملين بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) .
فزيارة القبور على قسمين: زيارة شرعية وهذه سنة. وزيارة شركية أو بدعية وهذه يجب منعها.
4 - وأما قول الرفاعي: إنهم غيروا اسم المدينة من المدينة المنورة إلى المدينة النبوية. فالجواب عنه:
أولا: أن اسم المدينة جاء في الكتاب والسنة مجردا من أي وصف لا بالمنورة ولا بالنبوية، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم} (2) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة التوبة الآية 120(59/153)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون (1) » .
وثانيا: أن وصفها بالنبوية أشرف وأولى من وصفها بالمنورة؛ لأن ذلك نسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر إليها وسكن فيها، ولهذا كان العلماء يسمونها دار الهجرة، ومدينة الرسول، وسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طيبة وطابة كما هو معروف في كتب السنة، وليس فيها تسميتها بالمدينة المنورة. والأمر في هذا سهل وواسع لا مجال فيه للنقد إلا عند صاحب الهوى.
5 - يعيب الرفاعي على حكام المملكة قتل المفسدين في الأرض بترويج المخدرات، وهم إنما قتلوهم عملا بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (2) الآية، حيث قال الرفاعي في نصيحته: " وطوعتموها - يعني الآية المذكورة - لضرب أعناق الأغرار من الغرباء والمستضعفين ولو بقطعة حشيش أو قات. . . كأنكم تناسيتم ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود (3) » . إلى أن قال: ونسيتم قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (4) الآية " انتهى كلامه.
فانظر كيفا يستدل. بما هو مخالف لما
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1363) ، مسند أحمد بن حنبل (1/185) .
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سنن أبو داود الحدود (4375) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) .
(4) سورة المائدة الآية 32(59/154)
يقول، لأن الله سبحانه قال: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (1) ومن أعظم فسادا ممن يروج المخدرات. ولم يقتل في المملكة من عنده حبة حشيش أو قات - كما قال الرفاعي كذبا وبهتانا - وإنما يقتل المهرب للمخدرات أو من تكرر منه ترويجها؛ حماية للمجتمع المسلم من الفساد والإفساد، وعملا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كما يستنكر الرفاعي إقامة الحد على السحرة بقتلهم مع أنهم إنما قتلوا لكفرهم وإفسادهم ولتطهير الأرض من شرهم؛ عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حد الساحر ضربه بالسيف (2) » ، وعملا بكتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى عماله: " أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ". قال الراوي: فقتلنا ثلاث سواحر. وكذلك ابنته حفصة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حيث أمرت بقتل جارية لها سحرتها.
وكذلك جندب الصحابي قتل الساحر الذي وجده يدجل على الناس بأنه يقتل الشخص ثم يحييه، فقتله جندب، رضي الله عنه، وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -. يعني عمر وابنته حفصة وجندب رضي الله عنهم.
فكيف يتأسف الرفاعي على قتل هؤلاء المفسدين المجرمين الذين يدمرون الشعوب ويخربون البلاد؟ بل لم يقتصر الحكم بقتلهم على المملكة العربية السعودية، فكل دول العالم حتى الدول الكافرة تقتل المروجين للمخدرات دفعا لشرهم وإفسادهم. فالرفاعي يشفق على هؤلاء المجرمين المفسدين، ولا يشفق على الشعوب التي يفتك
__________
(1) سورة المائدة الآية 32
(2) سنن الترمذي الحدود (1460) .(59/155)
بها هؤلاء فسادا ودمارا، ويستدل الرفاعي لقوله هذا بحديث «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود (1) » . فيعتبر المفسدين في الأرض من ذوي الهيئات، ويعتبر ترويج المخدرات من العثرات اليسيرة التي يقال أصحابها، ونسي أو تناسى أنهم ينطبق عليهم حد الحرابة والإفساد في الأرض المذكور في الآية الكريمة، وأن الحديث المذكور خاص بالتعزير على المعاصي التي لا حد فيها، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا في الحدود» . على أن التعزير قد يصل إلى القتل إذا لم يرتدع المخالف عن مخالفته إلا به؛ لأنه أصبح من المفسدين في الأرض كما ذكر ذلك المحققون من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. مع العلم بأن هذا الحديث الذي استدل به وإن جاء من عدة طرق فإنها كلها لا تخلو من مقال، كما قال ذلك الصنعاني - رحمه الله - في كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام.
وليت الرفاعي صرف عطفه وشفقته إلى ضحايا هؤلاء المفسدين الذين فسدت عقولهم وأبدانهم حتى أفضوا إلى الموت أو أصبحوا عالة على مجتمعاتهم بسبب هؤلاء المفسدين المروجين للمخدرات في المجتمعات البشرية؛ بدلا من أن يعطف ويشفق على المفسدين في الأرض من السحرة ومروجي المخدرات، ولكن حمله على هذا الحقد الأسود الذي يقلب الموازين فيجعل الحق باطلا والباطل حقا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6 - كذب البوطي في مقدمته على معالي الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي، حيث قال: إنه اتفق معه على تشكيل لجنة
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4375) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) .(59/156)
للتحاور في حل الوضع السيئ الذي عليه علماء نجد بزعمه، ثم قال: لكن لم يتم هذا التشكيل.
وقد سألت الدكتور: عبد الله التركي عن صحة هذا الكلام الذي قاله عنه، فأجاب يحفظه الله بخطه: بأن ما ذكر غير صحيح، وليس بمستغرب ما دام الكلام والعياذ بالله ضلالا وافتراء على الإسلام وأهله السائرين على منهاج النبوة والمتابعين لمن سلف من صالحي الأمة.
انتهى ما قاله الدكتور عبد الله التركي - حفظه الله - في رد هذه الفرية. وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (1) ولكن هؤلاء لا يتحاشون الكذب في نصرة باطلهم ويرون أن الغاية تبرر الوسيلة، وبئست الغاية وبئست الوسيلة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وختاما: هذا ما أحببنا التنبيه عليه مما احتوت عليه نصيحة الأستاذ الرفاعي، وهو تنبيه على سبيل الاختصار، وندعو الأستاذ الرفاعي وزميله البوطي إلى الرجوع إلى الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والله يتوب على من تاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة النحل الآية 105(59/157)
صفحة فارغة(59/158)
بحث في تحويل الموازين والمكاييل الشرعية إلى المقادير المعاصرة
لفضيلة الشيخ \ عبد الله بن سليمان المنيع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الآمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد:
فقد استعنت بالله تبارك وتعالى في إعداد هذا البحث مستلهما من الله التوفيق والسداد.
وقد أعددت هذا البحث مشتملا على ما يلي:
1 - مقدمة البحث.
2 - فصل في ذكر نصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءت بذكر مجموعة من المكاييل والموازين والمقاييس.
3 - فصل في استعراض ما تيسر استعراضه من التطبيقات الفقهية للمكاييل والموازين والمقاييس في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية.
4 - فصل في الحديث عن كل معيار وزن أو كيل مما جاءت الرغبة في الحديث عنه وتحويله إلى المقادير المعاصرة.
5 - فصل في ذكر خلاصة عن تحويلات المكاييل والموازين إلى المقادير المعاصرة.(59/159)
مقدمة البحث:
اقتضت حكمة الله تعالى في خلقه وفي تنظيم شؤون عباده أن يعتمد هذا التكوين على التقدير الدقيق. قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (1) ، وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (2) {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (3) {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (4) ، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (5) .
وتوعد تعالى المطففين بالويل والثبور حينما يكون منهم الإخلال. بميزان القسط فيكون لهم كيلان؛ كيل لشرائهم وكيل لبيعهم، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (6) {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (7) {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (8) . وأرسل الله رسوله شعيبا عليه السلام في قومه لما استمرأوا الظلم والعدوان، وغمط الناس حقوقهم ببخسهم المكاييل والموازين، فدعاهم عليه السلام فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} (9) {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (10) {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (11) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 8
(2) سورة الرحمن الآية 7
(3) سورة الرحمن الآية 8
(4) سورة الرحمن الآية 9
(5) سورة الحديد الآية 25
(6) سورة المطففين الآية 1
(7) سورة المطففين الآية 2
(8) سورة المطففين الآية 3
(9) سورة الشعراء الآية 181
(10) سورة الشعراء الآية 182
(11) سورة الشعراء الآية 183(59/160)
وقد جاءت السنة محذرة من التطفيف في الكيل والوزن، لما في ذلك من الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل عن طريق التطفيف وبخس الكيل والوزن.
ففي سنن ابن ماجه في كتاب الفتن باب العقوبات بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا بما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم (1) » اهـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا وموقوفا، والوقف أصح أنه قال لأصحاب الكيل والوزن: «إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم (2) » يعني بهما الكيل والوزن.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يمر بالبائع فيقول: " اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم " (3) هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عن بعض
__________
(1) سنن الترمذي 2 \ 345.
(2) سنن الترمذي 2 \ 345.
(3) تفسير القرطبي 19 \ 254.(59/161)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة في أن بخس الكيل والوزن عدوان وأكل للمال بالباطل ويعتبر سرقة موجبة للعقاب الزاجر والرادع من حبس وجلد وتغريم حسبما يقتضيه نظر ولي الأمر ونوابه القضاة وأولو الحسبة والاختصاص.(59/162)
فصل: في ذكر بعض ما جاء في الكتاب والسنة من المكاييل والموازين والمقاييس:
جاء في القرآن الكريم ذكر القنطار من الموازين في قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1) وفي قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (2) .
وجاء في القرآن الكريم ذكر الدينار من الموازين في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (3) .
وجاء ذكر الدرهم من الموازين في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (4) .
وجاء ذكر الصاع من المكاييل في قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} (5) .
وجاء ذكر الذراع من المقاييس في قوله تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة آل عمران الآية 75
(3) سورة آل عمران الآية 75
(4) سورة يوسف الآية 20
(5) سورة يوسف الآية 72
(6) سورة الحاقة الآية 32(59/162)
وجاء ذكر المثقال بمعنى الوزن فقال تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} (1) وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (2) وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} (3) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 3
(2) سورة الزلزلة الآية 7
(3) سورة الأنبياء الآية 47(59/163)
ومما جاء في السنة في ذكر بعض الموازين والمكاييل والمقاييس ما يلي:
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد (1) » متفق عليه.
2 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار (2) » رواه الخمسة.
3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء (3) » ، وفي رواية: «لم يحمل الخبث (4) » رواه الخمسة والحاكم، وقال: على شرط الشيخين، واللفظ لأحمد.
4 - في سنن أبي داود من حديث كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب (5) » .
5 - في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (201) ، صحيح مسلم الحيض (325) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود النكاح (2168) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (640) ، مسند أحمد بن حنبل (1/367) ، سنن الدارمي الطهارة (1106) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن النسائي الطهارة (52) ، سنن أبو داود الطهارة (63) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (67) .
(5) سنن أبو داود المناسك (1860) .(59/163)
ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم (1) » قالها ثلاثا وقال: شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
6 - «وفي قصة الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر خمسة عشر صاعا قال: " خذه وتصدق به (2) » أخرجه أحمد.
7 - روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة (3) » . اهـ.
8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين (4) » متفق عليه.
9 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في وصف قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ورفع قبره عن الأرض قدر شبر» رواه البيهقي وصححه ابن حبان.
10 - في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة (5) » .
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2896) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3035) ، مسند أحمد بن حنبل (2/262) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1111) ، سنن الترمذي الصوم (724) ، سنن أبو داود الصوم (2392) ، سنن ابن ماجه الصيام (1671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/281) ، موطأ مالك الصيام (660) ، سنن الدارمي الصوم (1716) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687) ، سنن ابن ماجه الأدب (3821) ، مسند أحمد بن حنبل (5/153) ، سنن الدارمي الرقاق (2788) .
(4) صحيح البخاري الجنائز (1325) ، صحيح مسلم الجنائز (945) ، سنن الترمذي الجنائز (1040) ، سنن النسائي الجنائز (1997) ، سنن أبو داود الجنائز (3168) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1539) ، مسند أحمد بن حنبل (2/3) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1459) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2484) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .(59/164)
11 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم- أي زكاة الفطر- صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من غير أو صاعا من زبيب (1) » متفق عليه.
12 - في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أوسق (2) » .
13 - في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط (3) » .
14 - أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية كل أوقية خير مما بين السماء إلى الأرض (4) » .
15 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجزئ في الوضوء رطلان من ماء (5) » رواه الإمام أحمد في مسنده.
16 - في صحيح مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح وهو الفرق وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد (6) » . . . " قال قتيبة قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع. اهـ.
17 - في صحيح البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس ورجل آخر، قال عبيد الله: فأخبرني عبد الله بن العباس فقال: أتدري من الرجل الآخر؟ قلت: لا.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1508) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2190) ، صحيح مسلم البيوع (1541) ، سنن أبو داود البيوع (3364) .
(3) صحيح البخاري المزارعة (2322) ، صحيح مسلم المساقاة (1575) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1489) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4290) ، سنن أبو داود الصيد (2844) ، سنن ابن ماجه الصيد (3204) ، مسند أحمد بن حنبل (2/345) .
(4) سنن ابن ماجه الأدب (3660) ، مسند أحمد بن حنبل (2/363) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3464) .
(5) سنن الترمذي الجمعة (609) ، سنن أبو داود الطهارة (95) ، مسند أحمد بن حنبل (3/179) .
(6) صحيح مسلم الحيض (319) ، سنن النسائي الطهارة (228) .(59/165)
قال: " هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعدما دخل بيته واشتد وجعه: " هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن لعلي أعهد إلى الناس (1) » . . . " الحديث.
18 - وفي سنن أبي داود بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة والوسق ستون مختوما (2) » .
19 - وفي سنن الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «يجزئ في الوضوء رطلان من ماء (3) » .
20 - روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمسة مكاكي (4) » .
21 - روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع.
22 - في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة (5) » .
وقال سويد بن سعيد: يعني كل شاة بقيراط.
23 - في الصحيحين في حديث شراء رسول الله جمل جابر منه قال: «يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (6) » .
24 - عن ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: «سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/34) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1459) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2484) ، سنن أبو داود الزكاة (1559) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1634) .
(3) سنن الترمذي الجمعة (609) ، سنن أبو داود الطهارة (95) ، مسند أحمد بن حنبل (3/179) .
(4) سنن الترمذي الجمعة (609) ، سنن أبو داود الطهارة (95) ، مسند أحمد بن حنبل (3/179) .
(5) صحيح البخاري الإجارة (2262) ، سنن ابن ماجه التجارات (2149) .
(6) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن النسائي البيوع (4639) ، سنن أبو داود النكاح (2048) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .(59/166)
درهم، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه (1) » أخرجه مسلم.
25 - عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (2) » أخرجه الترمذي.
قال أبو عيسى الترمذي: حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عنه، والعمل على هذا عند أهل العلم أن ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، والوسق ستون صاعا وخمسة أوسق ثلاثمائة صاع، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث، وصاع أهل الكوفة ثمانية أرطال. وليس فيما دون خمس أواق صدقة، والأوقية أربعون درهما وخمس أواق مائتا درهم. وليس فيما دون خمس ذود صدقة يعني ليس فيما دون خمس من الإبل، فإذا بلغت خمسا وعشرين من الإبل ففيها بنت مخاض، وفيما دون خمسا وعشرين من الإبل في كل خمس من الإبل شاة.
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (6/94) ، سنن الدارمي النكاح (2199) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1447) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2445) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/73) ، موطأ مالك الزكاة (575) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .(59/167)
فصل: في ذكر بعض التطبيقات العملية في فقه العبادات والمعاملات على الموازين والمكاييل والمقاييس:
لا يخفى أن حقوق العباد مقيدة بالتقدير بالكيل والوزن والقياس في المطاعم والمشارب والأثمان والعقار وجميع المنقولات من مصوغات ومصنوعات ومنسوجات وغير ذلك مما يدخله التعيين والتقدير.
والإسلام وهو في دين الحق والعدل والقسط والنصف أعطى المقادير حقها من العناية والاهتمام وتقدير الحقوق وفق ما تقتضيه وتحكم به تلك المقادير.
فمن أحكام الطهارة: يعتبر الماء كثيرا إذا بلغ قلتين فأكثر،(59/167)
والقلة هي الجرة الكبيرة.
قال الأزهري: والقلال مختلفة وقلال هجر من أكبرها. اهـ وقد ضبطها بعض أهل العلم، قال في زاد المستقنع: وهما أي القلتان خمسمائة رطل عراقي تقريبا.
وفي الحديث: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) » . وفي رواية: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم يحمل الخبث (2) » .
وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل بصاع من الماء وتوضأ بمد. ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بصاع (3) » .
ويحرم جماع الرجل زوجته وهي حائض، فإن جامعها فعليه كفارة دينار أو نصف دينار؛ لما روى أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال في الرجل يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار (4) » .
وذكر بعض أهل العلم أن من جامع زوجته في قوة حيضها فعليه دينار، ومن جامعها في آخر حيضها أو بعد طهارتها ولم تتطهر فعليه نصف دينار.
ومن أحكام الصلاة: ذكر أهل العلم أن قدر ما يمكن أن يكون حمى لصلاة المصلي إذا لم يكن له سترة ثلاثة أذرع من موطئ قدميه إلى ما أمامه.
وفي التقدم إلى صلاة الجمعة: صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقدير الأجر والمثوبة والتفاضل في ذلك لمن يتقدم إلى الجمعة وذلك بتقدير الساعات، فمن جاء في الساعة الأولى فهو كمن قدم
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن النسائي الطهارة (52) ، سنن أبو داود الطهارة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (2/12) ، سنن الدارمي الطهارة (732) .
(3) صحيح البخاري الوضوء (201) ، صحيح مسلم الحيض (325) ، سنن أبو داود الطهارة (95) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود النكاح (2168) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/286) ، سنن الدارمي الطهارة (1107) .(59/168)
بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكمن قدم بقرة، ومن جاء في الساعة الثالثة فكمن قدم شاة، ومن جاء في الساعة الرابعة فكمن قدم دجاجة، ومن جاء في الساعة الخامسة فكمن قدم بيضة.
وفي صلاة أهل الأعذار: جاء تقدير المسافة التي تبرر الأخذ برخص السفر وهي مرحلتان ومقدار مسافتهما أربعة برد والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فمجموع ذلك ثمانية وأربعون ميلا.
وفي أحكام تجهيز الميت ودفنه: ذكر أهل العلم جواز تسنيم قبر الميت قدر شبر، لما روي أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن الأرض قدر شبر.
وفي أحكام الزكاة: جاء الاعتماد في التعيين والتقدير على المثقال والدرهم والأوقية في تحديد نصاب الثمنين الذهب والفضة.
وجاء ذكر الوسق والصاع في تعيين نصاب الخارج من الأرض، ومقدار الواجب في زكاة الفطر.
وجاء ذكر الفرق في تعيين نصاب العسل- الفرق ستون رطلا عراقيا-.
وفي أحكام الصوم: جاء تقدير كفارة الجماع في نهار رمضان عند العجز عن الإعتاق، والصيام، بإطعام ستين مسكينا كل مسكين نصف صاع من تمر أو طعام. وكذلك الأمر بالنسبة للصاع فقد جاء الاعتماد عليه في كفارة اليمين، وفي انتهاك بعض محظورات الإحرام في النسك، وفي الإطعام لمن عجز عن الصيام.
وفي أحكام البيع: جاء ذكر الجريب من الأرض، والقفيز من صبرة الحبوب أو الثمار، والذراع في الأقمشة، والصاع في رد(59/169)
المصراة ومعها صاع من تمر والوسق في أحكام المزابنة والعرايا، والمد في مسألة مد عجوة ودرهم بمدين.
وهكذا جاءت مقادير المكاييل والموازين والمساحات في الكثير من الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها. ويمكن ذكرها فيما يلي:
1 - الإردب. 2- الرطل. 3- الصاع. 4- المد. 5- العرق 6- الفرق. 7- القدح. 8- القربة. 9- القسط. 10- القفيز. 11- القلة. 12- الوسق. 13- الكر. 14- الكيلجة. 15- المختوم. 16- المدي. 17- المكوك. 18- الويبة. 19- المثقال. 20- القنطار. 21- الأوقية. 22- الإستار. 23- النش. 24- المن. 25- القيراط. 26- النواة. 27- الحبة.(59/170)
فصل: في الحديث عن كل معيار وزن، أو كيل وتحويله إلى المقادير المعاصرة:
1 - الإردب:
الإردب جمعه أرادب، وهو مكيال ضخم لأهل مصر. قيل: يضم أربعة وعشرين صاعا.
قال الأزهري: الإردب مكيال معروف لأهل مصر، يقال إنه يأخذ أربعة وعشرين صاعا من الطعام بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. والقنقل: نصف الإردب. قال: والإردب أربعة وستون منا بمن بلدنا.
قال الشيخ أبو محمد بن بري: قوله: الإردب مكيال ضخم لأهل مصر، ليس بصحيح؛ لأن الإردب لا يكال به، وإنما يكال(59/170)
بالويبة، والإردب به ست ويبات (1) والدولة الإسلامية قد أقرت التعامل بالإردب في عصر الفاروق عمر رضي الله عنه.
قال القاسم بن سلام لما افتتح عمرو بن العاص مصر قال: " من كان عنده مال فليأتنا به. قال: فأتي بمال كثير، وبعث إلى عظيم أهل الصعيد، فقال: ما عندي مال، قال: فسجنه، قال: وكان عمرو يسأل من يدخل عليه: هل تسمعونه يذكر أحدا؟ قالوا: نعم، راهب بالطور. فبعث عمرو، فأتى بخاتمه فكتب كتابا على لسانه بالرومية، وختم عليه، ثم بعث به مع رسول من قبله إلى الراهب قال: فأتى بقلة من نحاس مختومة برصاص، فإذا فيه: يا بني إن أردتم مالكم فاحفروا تحت الفسقينة. فبعث عمرو الأمناء إلى الفسقينة. فاستخرجوا خمسين إردبا دنانير. قال: فضرب عنق النبطي، فصلبه" (2) . اهـ.
والإردب ينقسم إلى قسمين كما ذكره الدكتور محمد الخاروف محقق كتاب (الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان) لابن الرفعة الأنصاري المتوفى سنة 710 هـ (3) .
الأول: الإردب المصري في زمن الفاروق رضي الله عنه، الإردب = ست ويبات، والويبة العمرية = 11 لترا أو ما يزن 8. 69 كيلو غراما من القمح، إذن الإردب= 66 لترا، أو 52، 140 كيلو غراما من القمح.
والإردب المصري في زمن الفاروق رضي الله عنه يقابل
__________
(1) انظر: لسان العرب 1 \ 416، القاموس المحيط 1 \ 73.
(2) الأموال 245.
(3) انظر: ص 71-73.(59/171)
الجريب، ويقابل المدي في العراق والشام.
الثاني: الإردب المصري " الأسيوطي " الرسمي. والإردب= ست ويبات، والويبة المقصود بها الويبة الكبيرة= 33 لترا، أو ما يزن 25ر1 كيلو غراما من القمح.
إذن الإردب= 198 لترا، أو 150، 6 كيلو غراما من القمح. فتبين من ذلك أن الإردب العمري= 66 لترا، وأن الإردب الأسيوطي= 198 لترا، ويساوي الإردب العمري= 52 كيلو جراما و140 جراما، ويساوي الإردب الأسيوطي= 150 كيلو جراما وست جرامات.(59/172)
2 - الرطل:
الرطل والرطل: معيار يوزن به ويكال، والكسر أشهر، وجمعه أرطال (1) ، والأرطال تختلف باختلاف أعراف الأمصار، فالرطل الشامي مقداره 480 درهما (2) ، والرطل القدسي مقداره 800 درهم، والرطل الحلبي مقداره 700 درهم، والرطل المصري مقداره 144 درهما (3) .
لكن الذي يهمنا هو بيان مقدار الرطل البغدادي الذي اعتبره جمهور الفقهاء أساسا تقاس به الموزونات والمكيلات في المعاملات الشرعية. قال الفيومي رحمه الله: " قال الفقهاء: وإذا أطلق الرطل
__________
(1) انظر: لسان العرب 11 \ 285، المصباح المنير ص 230.
(2) انظر: لسان العرب 11 \ 286.
(3) انظر: مطالب أولي النهى للرحيباني 1 \ 46.(59/172)
في الفروع فالمراد به رطل بغداد " (1) اهـ.
ومقدار الرطل مختلف فيه بين أهل العلم. قال ابن الرفعة الأنصاري ما نصه: " نعم اختلف النقلة في الرطل البغدادي، فقيل: إنه مائة وثمانية وعشرون درهما. وقيل: مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. . . وقيل: مائة وثلاثون درهما " (2) اهـ.
قال أبو عبيد ما نصه: " فقد فسرنا ما في الصاع من السنن، وهو كما أعلمتك خمسة أرطال وثلث، والمد ربعه، وهو رطل وثلث، وذلك برطلنا هذا الذي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما " (3) اهـ.
وقال الدكتور محمد الخاروف في تحقيقه لكتاب ابن الرفعة الأنصاري ما نصه (4) : " والجدير بالذكر أن الفقهاء اختلفوا في تقدير دراهم الرطل البغدادي فيما بينهم. فالحنفية قالوا بأنه يتركب من " 130 " درهما كيلا أو "91 " مثقالا كيلا، وأما المالكية والحنابلة فقالوا بأنه يتركب من " 128 " درهما كيلا أو " 90 " مثقالا.
وقال الشافعية: إنه يتركب من 4 \ 7 128 درهما كيلا أو " 90 " مثقالا. ورغم هذه الاختلافات فإن الرطل البغدادي يعادل " 408 " جراما " اهـ. ولكن يظهر لي أن الراجح هو أن الرطل = 128 درهما، ويؤيد ذلك ما قاله الفيومي رحمه الله: " وهو- أي الرطل- بالبغدادي اثنتا عشر أوقية. والأوقية: إستار وثلثا إستار،
__________
(1) المصباح المنير ص 230.
(2) الإيضاح والتبيان ص 65.
(3) الأموال ص 700.
(4) الإيضاح والتبيان: تحقيق الدكتور محمد الخاروف ص 56.(59/173)
والإستار: أربعة مثاقيل ونصف مثقال، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع، والدرهم ستة دوانق، والدانق ثمان حبات وخمسا حبة، وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالا وهي مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم " (1) اهـ. ويمكن توضيح ما ذكره الفيومي رحمه الله بالتالي:
الرطل = 12 أوقية، والأوقية = 2 1 إستار، فيكون الرطل= 12 × 2 1 = 20 إستارا، والإستار= 4، 5 مثقال، فيكون الرطل= 20 × 4، 5 = 90 مثقالا، والمثقال= 3 \ 7 1 درهم، فيكون الرطل= 90 × 3 \ 7 1 = 4 \ 7 128 درهما. وحيث إن المثقال= 4، 53 جراما، فيكون مقدار الرطل بالجرامات= 90 × 4، 53 =407، 7 جراما. أي ما يقارب 408 جرامات.
__________
(1) المصباح المنير ص 230.(59/174)
3 - الصاع:
الصاع مكيال تكال به الحبوب وغيرها، وقد عرفته الأمم السابقة قال تعالى: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} (1) {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (2) .
وارتبط المكيال بالمدينة المنورة، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وسن نظام المكاييل والموازين، اعتبر صاع المدينة المرجع الأساسي الذي تقدر به الواجبات المالية الشرعية من زكاة وغيره (3) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " وجدت الآثار قد نقلت عن
__________
(1) سورة يوسف الآية 71
(2) سورة يوسف الآية 72
(3) انظر: أحكام السوق في الإسلام ص 107.(59/174)
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم بثمانية أصناف من المكاييل: الصاع، والمد، والفرق، والقسط، والمدي، والمختوم، والقفيز، والمكوك، إلا أن عظم ذلك في المد والصاع " (1) اهـ.
والصاع يستعمل للكيل فقط، وقد يستشكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أعطى عطية بن مالك صاعا من حرة الوادي» .
وقد أجاب عن ذلك ابن الأثير رحمه الله حيث قال بعد عرضه للحديث السابق: " أي موضعا يبذر فيه صاع، كما يقال أعطاه جريبا من الأرض: أي مبذر جريب " (2) . اهـ.
والصاع: يذكر ويؤنث. قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثون الصاع ويجمعونها في القلة على " أصوع ".
وفي الكثرة على " صيعان "، وبنو أسد وأهل نجد يذكرون ويجمعون على " أصواع " وربما أنثها بعض بني أسد. قال الزجاج: التذكير أفصح عند العلماء. ويمكن أن يجمع على " آصع " كما نقله المطرزي عن الفارسي (3) . و " الصواع " و" الصواع " و " الصوع " و " الصوع ": كله إناء يشرب فيه.
وفي القرآن قال تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} (4) . ومما يدل على أنه إناء يشرب به الملك قوله تعالى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} (5) (6) .
__________
(1) الأموال ص 688.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر 3 \ 60.
(3) انظر: المصباح المنير ص 352.
(4) سورة يوسف الآية 72
(5) سورة يوسف الآية 70
(6) انظر: لسان العرب 8 \ 215.(59/175)
مقدار الصاع النبوي بالمقاييس القديمة:
ذهب الجمهور من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وأبو يوسف من الحنفية (4) ، إلى أن مقدار صاعه صلى الله عليه وسلم = أربعة أمداد. وكل مد= رطل وثلث بالبغدادي. فيكون مقدار الصاع= خمسة أرطال وثلث رطل.
وذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (5) ، إلى أن مقدار صاعه صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، وكل مد رطلان، فيكون مقدار الصاع ثمانية أرطال.
مقدار الصاع بالمثاقيل:
أولا: على رأي الجمهور: تقدم سابقا (6) أن الرطل= 90 مثقالا، وأن مقدار الصاع= 1 \ 3 5 رطل، فيكون مقدار الصاع بالمثاقيل= 90 × 1 \ 3 5 = 480 مثقالا.
ثانيا: على رأي أبي حنيفة، تقدم سابقا (7) أن الرطل= 91
__________
(1) انظر: مواهب الجليل 2 \ 165.
(2) انظر: المجموع شرح المهذب 6 \ 128.
(3) انظر: المغني لابن قدامة 3 \ 59.
(4) انظر: الهداية للمرغيناني 1 \ 117
(5) انظر: الهداية للمرغيناني 1 \ 117.
(6) انظر: بحث الرطل.
(7) انظر: بحث الرطل.(59/176)
مثقالا، وأن مقدار الصاع= 8 أرطال، فيكون مقدار الصاع بالمثاقيل =91× 8= 728 مثقالا.
مقدار الصاع بالدراهم:
أولا: على رأي المالكية والحنابلة:
تقدم سابقا (1) أن الرطل= 128 درهما، وأن مقدار الصاع = 1 \ 3 5 أرطال، فيكون مقدار الصاع بالدراهم= 128 × 1 \ 3 5 = 682، 66 درهما.
ثانيا: على رأي الشافعية: تقدم سابقا (2) أن الرطل= 4 \ 7 128 درهما، وأن مقدار الصاع= 1 \ 3 5 أرطال، فيكون مقدار الصاع بالدراهم= 4 \ 7 128× 1 \ 3 5= 682، 714 درهما. ويكون مقدار الصاع باللتر= 2، 75 لترا.
ثالثا: على رأي الحنفية: تقدم سابقا (3) أن الرطل= 130 درهما، وأن مقدار الصاع=8 أرطال، فيكون مقدار الصاع بالدرهم =130× 8 = 1040 درهما، ويكون مقدار الصاع بالجرامات= 3، 296، 8 جراما، ويكون مقدار الصاع باللتر= 4، 127، 30 لترا.
مقدار الصاع النبوي بالمقاييس الحديثة:
قال الأستاذ أحمد الدريويش نقلا عن صاحب كتاب " الميزان
__________
(1) انظر: بحث الرطل.
(2) انظر: بحث الرطل.
(3) انظر: بحث الرطل.(59/177)
في الأقيسة والأوزان ": " أنه توصل بعد بحث عميق ودقيق في هذا الموضوع إلى أن وزن المثقال الذي قدر به الرطل البغدادي يساوي 4، 53 جراما، وأن الدرهم بناء عليه يساوي 3، 17 جراما " (1) اهـ.
وعليه فإن مقدار وزن الصاع بالجرامات باعتبار أن وزن المثقال = 4، 53 جراما يكون = 480 × 4، 53 = 2174، 4 جراما أي 2175 جراما تقريبا.
ويكون مقدار وزن الصاع بالجرامات باعتبار أن وزن الدرهم = 3، 17 جراما يكون = 685، 714× 3، 17 = 2173، 7 جراما تقريبا.
وقد بحثت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية مقدار الصاع بالكيلو جرام وكان بحثها معتمدا على أن صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، وأن المد ملء كفي الرجل المعتدل، وكان منها تحقيق عن مقدار ملء كفي الرجل المعتدل، وتوصل هذا التحقيق إلى أن مقدار ذلك قرابة 650 جراما للمد، فيكون مقدار الصاع 2600 جرام. وفيما يؤيد ما اتجه إليه مجلس هيئة كبار العلماء في تقدير الصاع ما ذكره الدكتور محمد الخاروف أن المقريزي ذكر عن الشيخ العزفي ما نصه: " جربنا هذا المد المعتمد بالحفنات والأكف المختلفات فوجدناه بالكفين العريضين تزيد عليه، ووجدناه بالكفين الرقيقين المتوسطين كفوا له " (2) اهـ.
والذي عليه العمل والفتوى حسب ما صدر من سماحة شيخنا
__________
(1) أحكام السوق في الإسلام ص 119.
(2) الإيضاح والتبيان لابن رفعة بتحقيق الدكتور محمد الخاروف ص 56.(59/178)
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله مفتي عام المملكة المنصوص عليها في الجزء الرابع عشر من مجموع رسائله وفتاواه (1) . وكذلك الفتوى الصادرة من اللجنة الدائمة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء برقم 12572 أن الصاع النبوي مقداره 3 كيلو تقريبا (2) . والله أعلم.
__________
(1) انظر: جـ 14 ص 200 من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.
(2) انظر: جـ9 ص 371 من مجموع فتاوى اللجنة الدائمة.(59/179)
4 - المد:
المد قال ابن منظور رحمه الله: " والمد: ضرب من المكاييل وهو ربع صاع وهو قدر مد النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع أمداد، ومدد، ومداد.
قال الجوهري: المد بالضم مكيال وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز والشافعي، ورطلان عند أهل العراق وأبي حنيفة، والصاع أربعة أمداد " (1) اهـ.
وسبق في بحث الصاع أنه أربعة أمداد، كما سبق ذكر الخلاف في مقدار المد. فجمهور أهل العلم ذكروا أن المد رطل وثلث وذهب الحنفية إلى أنه رطلان. وأخذا برأي الجمهور فإن المد =544 جراما على اعتبار أن المد رطل وثلث، وأن الرطل مقداره 408 جرامات كما سبق ذكره.
__________
(1) لسان العرب 3 \ 400.(59/179)
5 - العرق:
العرق بفتح العين والراء ضفيرة تنسج من خوص وهو المكتل(59/179)
والزبيل (1) ، والعرق مكيال للجامدات. مقدار العرق خمسة عشر صاعا، أو ما يعادل ستين مدا، وحيث سبق تقدير المد بـ 544 جراما، فإن مقدار العرق بالجرام يساوي 544 ×60= 32640 جراما؛ أي 32 كيلو و 640 جراما، وقد قدره الدكتور محمد الخاروف بـ 41، 316 لترا.
__________
(1) انظر: المصباح المنير ص 405.(59/180)
6 - الفرق:
الفرق بتسكين الراء وتحريكها وهو الفصيح، وهو مكيال ضخم لأهل المدينة.
مقدار الفرق: اختلفوا في مقداره على أقوال: فقيل: إنه ستة عشر رطلا، أو ثلاثة آصع (1) .
وقيل: إن الفرق أربعة أصوع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
وقيل: إنه خمسة أقساط، والقسط نصف صاع (3) .
وقيل: إنه ستة أقساط، والقسط نصف الصاع (4) .
وقد رجح أهل العلم من الفقهاء القول الأول وهو أن الفرق ستة عشر رطلا أو ثلاثة آصع.
__________
(1) انظر: الأموال لأبي عبيد ص 691، النهاية لابن الأثير 3 \ 437.
(2) لسان العرب 11 \ 565، المصباح المنير ص 471.
(3) انظر: النهاية لابن الأثير 3 \ 437.
(4) الأموال ص 690.(59/180)
مقدار الفرق بالجرام: تقدم أن الصاع= 2175 جراما.
وأخذا منا بقول الجمهور فيكون وزن الفرق بالجرامات= 2175× 3= 6525 جراما.
مقدار الفرق باللتر: تقدم أن الصاع= 2، 75 لترا من الماء المقطر. فيكون وزن الفرق باللتر= 2، 75× 3= 8، 25 لترا من الماء (1) .
__________
(1) انظر: أحكام السوق في الإسلام ص 134.(59/181)
7 - القدح:
القدح هو مكيال مصري، واحده قدح، وجمعه أقداح.
قال ابن الرفعة الأنصاري عن عماد الدين بن السكري أنه قال في خطبة الفطر: بأن الصاع النبوي قدحان أو قسطان.
وقد ذكر المحقق الدكتور محمد الخاروف أن القدحين مقدارهما مقدار الصاع النبوي وهو 2، 75 لترا، ويعادل 2175 جراما (1) .
والخلاصة: أن القدح نصف الصاع النبوي، ومقداره 1087، 5 جراما، ويعادل كيلو وسبع وثمانين وخمسة من عشرة من الجرام، كما يعادل باللتر لتر واحد و 375 مل جرام.
__________
(1) انظر: الإيضاح والتبيان لابن الرفعة بتحقيق الدكتور محمد الخاروف ص 73.(59/181)
8 - القربة:
القربة ذكر الدكتور محمد الخاروف في تحقيقه كتاب " الإيضاح والتبيان " لابن الرفعة: أن القلة من قلال هجر تساوي قربتين وشيئا، وأن الشافعي رحمه الله جعل الشيء نصفا احتياطا. وذكر أثر ابن جريج حيث قال: "رأيت قلال هجر القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئا " اهـ.(59/181)
وحيث إن القلتين تبلغان خمسمائة رطل، فإن القربة تبلغ مائة رطل. وذكر الدكتور محمد الخاروف أن القلتين تقدران بحوالي 307 لترات، ونظرا إلى أن القربة هي خمس القلتين فإن مقدارها باللتر هو 61، 4، ونظرا إلى أن القربة تبلغ مائة رطل حسب ما سبق ذكره. وحيث ذكر الدكتور محمد الخاروف وغيره أن الرطل يساوي 408 جرامات، وعليه فإن مقدار القربة بالجرام 40800 جراما (1) .
__________
(1) انظر: الإيضاح والتبيان لابن الرفعة بتحقيق الدكتور محمد الخاروف ص 56-79(59/182)
9 - القسط:
القسط مكيال يسع نصف صاع (1) ، وجمعه أقساط.
مقدار القسط: القسط= نصف صاع. وقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام مجموعة من المكاييل والموازين التي جاءت بذكرها الآثار، ومن ذلك القسط حيث قال ما نصه: " وجدنا الآثار قد نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم بثمانية أصناف من المكاييل: الصاع، والمد، والفرق، والقسط، والمدي، والمختوم، والقفيز، والمكوك، إلا أن عظم ذلك في المد، والصاع " (2) اهـ.
وقد تقدم سابقا أن الصاع= 2175 جراما، فعليه يكون مقدار القسط= 2175 ÷ 2= 1087، 5 جراما. أي كيلو جرام واحد و5، 87 من الجرام.
__________
(1) انظر: ترتيب القاموس 3 \ 618، النهاية لابن الأثير 3 \ 437.
(2) الأموال ص 688.(59/182)
10 - القفيز:
القفيز قال ابن منظور رحمه الله ما نصه: " والقفيز من(59/182)
المكاييل، معروف، وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق، وهو من الأرض قدر مائة وأربع وأربعين ذراعا. وقيل: هو مكيال تتواضع الناس عليه " (1) اهـ.
وجاء ذكره في حديث مسلم المتقدم والذي فيه: «منعت العراق درهمها وقفيزها (2) » .
وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام ما نصه: " ووضع عمر رضي الله عنه على أهل السواد على كل جريب عامر وغامر درهما وقفيزا " (3) .
قال الدكتور محمد الخاروف في تحديده مقدار القفيز، وتعليقه على أثر عمر رضي الله عنه ما نصه: " وهذا القفيز المقدر في الخراج يعادل 36 صاعا من القمح، أي ما يزن 26، 112 كيلو جراما، أو ما سعته 33، 053 لترا " (4) اهـ. فتقدير القفيز على اعتباره ستة وثلاثين صاعا ليس كما ذكر الدكتور وإنما تقديره على المشهور 350 جرام و 78 كيلو جرام وعلى ما عليه الفتوى في المملكة 108 كيلو جرام.
__________
(1) لسان العرب 5 \ 395.
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2896) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3035) ، مسند أحمد بن حنبل (2/262) .
(3) الأموال ص 88- 90.
(4) كتاب الإيضاح والتبيان لابن الرفعة، تحقيق محمد الخاروف ص 72.(59/183)
11 - القلة:
القلة قال ابن منظور رحمه الله ما نصه: " والقلة: الحب العظيم، وقيل: الجرة العظيمة، وقيل: الجرة عامة، وقيل: الكوز الصغير، والجمع قلل وقلال وقيل: هو إناء للعرب كالجرة الكبيرة " (1) اهـ.
__________
(1) لسان العرب 11 \ 5.(59/183)
والقلة المشهورة لدى أهل العلم هي قلة هجر، وهجر هي قرية قريبة من المدينة، وليست هجر البحرين.
وقد سبق ذكر مقدار القلة الواحدة بمائتين وخمسين رطلا. وحيث سبق ذكر مقدار الرطل بالجرام وأنه يساوي 408 جرامات. فإن مقدار القلة الواحدة بالجرام= 250 ×408- 102000 جرام، أي 102 كيلو جراما.(59/184)
12 - الوسق:
الوسق بفتح الواو وكسرها، والفتح أشهر. والوسق مكيلة معلومة، وقيل: هو حمل بعير، وجمعه أوساق. وجاء ذكر الوسق في قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (1) » . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوسق ستون صاعا (2) » أخرجه أحمد.
قال ابن منظور رحمه الله ما نصه: " والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو- أي الصاع- خمسة أرطال وثلث " (3) اهـ.
مقدار الوسق: الوسق= 60 صاعا. وقد تقدم سابقا أن الصاع= 2175 جراما. فيكون مقدار الوسق بالجرام= 2175 ×60=130500 جراما؛ أي 130 كيلو جرام و 500 جراما.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1447) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2476) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/30) ، موطأ مالك الزكاة (575) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .
(2) سنن ابن ماجه الزكاة (1832) ، مسند أحمد بن حنبل (3/59) .
(3) لسان العرب 10 \ 378.(59/184)
13 - الكر:
الكر مكيال لأهل العراق، وجمعه أكرار مثل قفل وأقفال.
وفي حديث ابن سيرين: «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا» .(59/184)
وفي رواية: «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر» .
ومقدار الكر: ستون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات. قال الأزهري: " والكر من هذا الحساب اثنا عشر وسقا، كل وسق ستون صاعا " (1) .
مقدار الكر: الكر= 12 وسقا. وقد تقدم أن الوسق= 130500 جراما. فيكون مقدار الكر بالجرامات=130500 × 12 = 1566000 جراما؛ أي 1566 كيلو جرام.
__________
(1) انظر: لسان العرب 5 \ 137، المصباح المنير ص 530.(59/185)
14 - الكيلجة:
الكيلجة: بكسر الكاف وفتح اللام. وهي مكيال لأهل العراق، وجمعه كيلجات أو كيالج وهي منا وسبعة أثمان المنا. والمنا رطلان (1) .
مقدار الكيلجة: الكيلجة= من وسبعة أثمان المن، والمن= رطلان، وقد تقدم أن الرطل يساوي 408 جرامات، وحيث إن المن= رطلان، فمقداره بالجرام= 816 جراما، ومقدار سبعة أثمان المن= 714 جراما، وعليه فيكون مقدار الكيلجة بالجرام= 816+714=1530 جراما؛ أي كيلو جرام و 530 جراما.
__________
(1) لسان العرب، فصل الكاف، حرف الجيم 2 \ 352 المصباح المنير، كتاب الكاف، الكاف مع اللام 537.(59/185)
15 - المختوم:
المختوم قال أبو عبيد القاسم بن سلام ما نصه: " والمختوم هاهنا هو الصاع بعينه، وإنما سمي مختوما لأن الأمراء جعلت على(59/185)
أعلاه خاتما مطبوعا لئلا يزاد فيه، ولا ينتقص منه " (1) اهـ.
والمختوم من أصناف المكاييل التي نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام ما نصه: " وجدنا الآثار قد نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم بثمانية أصناف من المكاييل: الصاع، والمد، والفرق، والقسط، والمدي، والمختوم، والقفيز، والمكوك. إلا أن عظم ذلك في المد والصاع " (2) اهـ.
مقدار المختوم: المختوم= صاعا، وحيث إن الصاع= 2175 جراما، فيكون مقدار المختوم هو= 2175 جراما.
16- المدي:
__________
(1) الأموال ص 693.
(2) الأموال ص 688.(59/186)
المدي قال الدكتور محمد الخاروف (1) تعليقا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها (2) » . . . . . بما نصه: " والمدي جمعه أمداد، مكيال كبير كان مستعملا قبل الإسلام في الشام ومصر. قال ابن الأعرابي: " يأخذ جريبا ". وفي الحديث الذي رواه أبو داود في باب البيوع: " أن عليا رضي الله عنه أجرى للناس المديين والقسطين ".
وقد ورد ذكر المدي في خلافة الفاروق رضي الله عنه في تحديد خراج أرض الشام المفتوحة عنوة. وقد أجرى القاسم بن
__________
(1) الإيضاح والتبيان ص 72.
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2896) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3035) ، مسند أحمد بن حنبل (2/262) .(59/186)
سلام تجربة عملية بعد أن استقرأ عدة روايات تاريخية خاصة بشأن تحديد المدي استخلص منها: أن وزن ما يتسعه المدي هو 45 رطلا، وهذا المقدار يعادل 18، 360 كيلو جراما أو 23، 240 لترا " اهـ.(59/187)
17 - المكوك:
المكوك مكيال، وقيل طاس يشرب به، وجمعه مكاكيك، واختلف في تقديره، وذكر الأستاذ أحمد الدريويش (1) الاختلاف في تقديره على مجموعة أقوال:
أحدها: أن مقداره صاع ونصف.
والقول الثاني: أنه نصف ويبة وهو أحد عشر مدا.
والقول الثالث: أنه ثلاث كيلجات وذكر أن أهل اللغة اختاروا هذا القول.
وعلى اعتبار هذا الاختيار فإن مقدار المكوك يعادل 4590 جراما حيث إن مقدار الكيلجة = 1530 جراما كما سبق ذكره في تعيين مقدارها.
__________
(1) انظر: أحكام السوق ص 129.(59/187)
18 - الويبة:
الويبة قال ابن منظور رحمه الله ما نصه: " الويبة مكيال معروف " (1) اهـ.
وذكر الدكتور محمد الخاروف (2) في تعليقه على الويبة التي جاء ذكرها في كتاب ابن الرفعة الأنصاري: أنها سدس الإردب،
__________
(1) لسان العرب 1 \ 805.
(2) انظر: الإيضاح والتبيان ص 72.(59/187)
وقد سبق أن ذكرنا أن الإردب عمري وأسيوطي، ونظرا إلى أن المشهور لدى أهل العلم الأخذ بالإردب العمري.
فعليه فإن مقدار الويبة= سدس الإردب العمري، ومقدار الإردب العمري= 52. 140 كيلو جراما، فسدس هذا المقدار= 8. 690 كيلو جراما، فيكون هذا هو مقدار الويبة العمرية.(59/188)
19 - المثقال:
المثقال وزن معلوم قدره، وجمعه مثاقيل.
وفي القرآن، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} (1) . وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان (2) » . ومعنى مثقال ذرة أي وزن ذرة. وزنة المثقال هو: درهم وثلاثة أسباع درهم. وكل سبعة مثاقيل= عشرة دراهم (3) .
وقد ذكر الأستاذ محمد الدريويش في كتابه (أحكام السوق في الإسلام) نقلا عن صاحب كتاب الميزان في الأقيسة والأوزان ما نصه: " توصل- أي صاحب كتاب الميزان في الأقيسة والأوزان- بعد بحث عميق ودقيق في هذا الموضوع إلى أن وزن المثقال الذي قدر به الرطل البغدادي يساوي 4، 53 جراما، وأن الدرهم بناء عليه يساوي 3، 17 جراما " (4) اهـ.
فيكون وزن المثقال= 3 \ 7 1 ×3، 17= 4، 52 جراما تقريبا.
__________
(1) سورة لقمان الآية 16
(2) صحيح مسلم الإيمان (91) ، سنن الترمذي البر والصلة (1999) ، سنن أبو داود اللباس (4091) ، سنن ابن ماجه المقدمة (59) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) .
(3) انظر: لسان العرب 11 \ 86، 87، المصباح المنير ص 83، القاموس المحيط 3 \ 320.
(4) ص 119.(59/188)
20 - القنطار:
القنطار معيار، وجمعه قناطير.
وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (1) . وقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (2) .
القنطار: هو العقدة الكبيرة من المال، وقيل: هو اسم للمعيار الذي يوزن به كما هو الرطل والربع.
قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه (3) واختلف العلماء في تحرير حده كم هو؟ على أقوال (4) : فقيل هو: ألف أوقية. قال بذلك: معاذ بن جبل، وابن عمر، وأبو هريرة، وجماعة من العلماء. قال ابن عطية: " وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية " (5) .
وقيل: اثنا عشر ألف أوقية، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض (6) » . وقيل غير ذلك.
والذي يظهر ويترجح أن القنطار هو ما جاء النص في مقداره
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) سورة النساء الآية 20
(3) انظر: أحكام القرآن للقرطبي 4 \ 30، لسان العرب 5 \ 118.
(4) انظر: المرجعين السابقين، القاموس المحيط 2 \ 122، النهاية لابن الأثير 4 \ 113.
(5) أحكام القرآن للقرطبي 4 \ 30.
(6) أخرجه أحمد، المسند 2 \ 363، وأخرجه ابن ماجه 2 \ 120.(59/189)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه اثنتا عشرة ألفا أوقية يؤيد ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن القنطار تعظيما لمقداره.
والقول بأنه ألف ومئتا أوقية قد لا يكون فيه تعظيم لشأن القنطار وثقله.
وحيث إن الأوقية= 127 جراما حسبما يأتي ذكره قريبا. فيكون مقدار القنطار بالجرامات= 12000 × 127= 1524000 جراما. أي 1524 كيلو جراما.(59/190)
21 - الأوقية:
الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء، وجمعها أواق. والجمع يشدد ويخفف مثل أثفية، وأثافي، وأثاف (1) .
مقدار الأوقية: الأوقية= أربعون درهما، أو ما يزن سبعة مثاقيل (2) وتختلف الأوقية باختلاف اصطلاح البلاد (3) . وحيث إن الدرهم= 3، 17 جراما. فيكون مقدار الأوقية بالجرامات= 40× 3، 17= 126، 8 جراما. أي 127 جراما تقريبا.
__________
(1) انظر: لسان العرب 10 \ 12، النهاية لابن الأثير 1 \ 80.
(2) انظر: لسان العرب 10 \ 12، النهاية لابن الأثير 1 \ 80، والقاموس المحيط 4 \ 401.
(3) النهاية لابن الأثير 1 \ 80.(59/190)
22 - الإستار:
الإستار قال ابن منظور رحمه الله تعالى ما نصه: " والإستار: بكسر الهمزة، من العدد: الأربعة. . .، قال: الإستار رابع أربعة، ورابع القوم: إستارهم. . .، ويجمع أساتير " (1) اهـ.
__________
(1) لسان العرب 4 \ 344.(59/190)
مقدار الإستار: الإستار= أربعة مثاقيل ونصف (1) . والمثقال مقداره = 4، 53 جراما (2) . فيكون مقدار الإستار بالجرامات =4، 53 ×4، 53= 20، 38 جراما.
__________
(1) انظر: لسان العرب 4 \ 344، ترتيب القاموس 2 \ 519، القاموس المحيط 2 \ 45.
(2) انظر: الإيضاح والتبيان. تحقيق محمد الخاروف ص 68.(59/191)
23 - النش:
النش بالفتح، وزن نواة من ذهب، وقيل: هو وزن عشرين درهما، وقيل: وزن خمسة دراهم، وقيل: هو ربع أوقية، والأوقية: أربعون درهما، وقيل: هو نصف أوقية، فيكون النش عشرين درهما، ونش الشيء: نصفه.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا (1) » .
قال الجوهري: " النش عشرون درهما وهو نصف أوقية؛ لأنهم يسمون الأربعين درهما أوقية، ويسمون العشرين نشا، ويسمون الخمسة نواة " (2) ؛ ونظرا إلى أن المشهور عن النش أنه النصف، وأخذا مما ثبت أن صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتا عشرة أوقية ونشا. وبناء على هذا فإن نش الأوقية نصفها. وحيث إن المشهور أن الأوقية= أربعون درهما، فإن النش- عشرون درهما، وحيث تقدم أن الدرهم= 3، 17 جراما، فيكون مقدار النش بالجرامات= 20 × 3.17= 63، 4 جراما.
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، سنن الدارمي النكاح (2199) .
(2) انظر: لسان العرب 6 \ 353، 11 \ 286، المصباح المنير ص 606، النهاية لابن الأثير 5 \ 56.(59/191)
24 - المن:
المن بالتشديد الذي يكال به السمن أو يوزن به، وجمعه أمنان(59/191)
على لغة تميم، ومن قال: المنا فيجمع على أمناء، مثل سبب وأسباب.
مقدار المن: المن رطلان، وحيث تقدم أن الرطل= 408 جرامات؛ فيكون مقدار المن بالجرامات = 2 × 408= 816 جراما.(59/192)
25 - القيراط:
القيراط قال ابن منظور رحمه الله ما نصه: " القراط، والقيراط من الوزن، معروف، وهو نصف دانق، وأصله قراط بالتشديد؛ لأن جمعه قراريط. . . والقيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين " (1) اهـ.
وذكر الزبيدي رحمه الله: أن القيراط في عرف أهل مكة ربع سدس دينار (2) ، ونظرا إلى أن أكثر أهل العلم يعتبرون القيراط نصف عشر الدينار فجرى الأخذ بذلك. وذكر الدكتور محمد الخاروف في تحقيقه لكتاب ابن الرفعة أن وزن الدينار= 4، 25 جراما. فيكون وزن القيراط = 0، 2125 من الجرام.
__________
(1) لسان العرب 7 \ 375.
(2) انظر: تاج العروس 5 \ 203.(59/192)
26 - النواة:
النواة قال الزبيدي رحمه الله: " والنواة من العدد عشرون، أو عشرة، وقيل: هي الأوقية من الذهب، أو أربعة دنانير، أو ما(59/192)
زنته خمسة دراهم وعلى هذا القول الأخير اقتصر الجوهري. وهو قول أبي عبيد، وبه فسر حديث عبد الرحمن بن عوف " تزوجت امرأة من الأنصار على نواة من ذهب ". قال أبو عبيد: أي خمسة دراهم، قال: وبعض الناس يحمله على معنى قدر نواة من ذهب كانت قيمتها خمسة دراهم ولم يكن ثم ذهب إنما هي خمسة دراهم، سميت نواة كما تسمى الأربعون أوقية، والعشرون نشا. قال الأزهري: ونص حديث ابن عوف يدل على أنه تزوج امرأة على ذهب قيمته خمسة دراهم، ألا تراه قال: على نواة من ذهب. . . وقال المبرد: العرب تريد بالنواة خمسة دراهم. وقال إسحاق: قلت لأحمد ابن حنبل كم وزن نواة من ذهب؟ قال: ثلاثة دراهم وثلث " (1) اهـ.
وبناء على رأي الجمهور في أن زنة النواة خمسة دراهم، وحيث سبق أن الدرهم= 3، 17 جراما. فيكون مقدار النواة بالجرامات = 5× 3، 17= 15. 85 جراما. وعلى القول بما أجاب به الإمام أحمد من أن وزن النواة ثلاثة دراهم وثلث، وحيث إن الدرهم وزنه = 3، 17 جراما. فإن وزن النواة بناء على هذا القول = 3، 17 ×1 \ 3 3= 10، 5561 جراما تقريبا.
__________
(1) تاج العروس 10 \ 379.(59/193)
27 - الحبة:
الحبة قال الدكتور محمد الخاروف ما نصه: " المقصود بالحبة(59/193)
وحدة الوزن الصغيرة التي هي من أجزاء كل من الدينار، ودرهم النقد، ودرهم الكيل ومثقال الكيل. وهي صنجة يوزن بها الذهب، والفضة، والأحجار الكريمة كالماس واللؤلؤ. وهي قديمة الاستعمال. وقد كان الفقهاء المسلمون والمحتسبون يحررون وزنها بحب الشعير أو بحب القمح أو الخردل. . .، وأجمع فقهاء الحنفية على أن الدينار مائة حبة من حب الشعير وأن الدرهم سبعون حبة من نفس الشعير.
أما فقهاء الشافعية والحنابلة والمالكية فقد أجمعوا على أن الدينار 72 حبة شعير، والدرهم 50. 4 حبة.
وعلى هذا يكون وزن الحبة من الدينار الشرعي عند الحنفية =4، 25 ÷ 100= 0، 0425 جرام، ووزن الحبة من الدرهم النقد الشرعي عند الحنفية = 2، 97 ÷70= 0، 0424 جرام.
ويكون وزن الحبة من الدينار الشرعي في نظر الشافعية والمالكية والحنابلة = 4، 25 ÷ 72=0، 059 جرام.
ويكون وزن الحبة من الدينار الشرعي في نظر الشافعية والمالكية والحنابلة = 2، 97 ÷ 3 \ 5 50= 0، 0589 جرام.
ويكون وزن الحبة من المثقال الشرعي مثقال الكيل في نظر الحنفية = 4، 53 ÷ 100= 0، 045 جرام وهو نفسه وزن درهم الكيل في نظرهم. أما في نظر بقية المذاهب= 4، 53 ÷ 72=0، 062 جرام.
وهو نفس مقدار وزن الحبة بن درهم الكيل في نظرهم " (1) اهـ.
__________
(1) الإيضاح والتبيان لابن الرفعة. تحقيق الدكتور محمد الخاروف ص 50، 51.(59/194)
فصل في خلاصة التقدير والتحويل:
يتبين في هذا الفصل خلاصة المقادير الواردة في هذا البحث(59/194)
من كيل ووزن وتحويلها إلى الوزن المعاصر الكيلو جرام:(59/195)
هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(59/196)
القول الحق في نسك الحج الذي أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم
مع بيان أنواع نسك الحج الأخرى
دراسة فقهية مقارنة
للدكتور \ عبد السلام بن سالم السحيمي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
أما بعد: فهذا بحث سميته (القول الحق في نسك الحج الذي
__________
(1) أستاذ مساعد بقسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(59/197)
أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم، مع بيان أنواع نسك الحج الأخرى، دراسة فقهية مقارنة) . وقد دعاني إلى تأليفه عدة أمور منها:
1 - أنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حج حجة واحدة هي حجة الوداع والتي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (1) » رواه مسلم ومع كونه صلى الله عليه وسلم إنما حج حجة واحدة فقد اختلفت أقوال العلماء واضطربت في تعيين النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم بحسب المذاهب.
وبالتالي اختلفت أقوالهم في الجمع بين الأحاديث المروية في ذلك، كما اختلفوا في تعيين أي الأنساك الثلاثة أفضل. وسبب الخلاف في ذلك كله يرجع إلى اختلافهم فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا، وروي أنه كان متمتعا، وروي أنه كان قارنا؛ وكله في الصحيح، وهي قصة واحدة، فيجب تأويل جميعها ببعضها والجمع بينها.
__________
(1) مسلم بشرح النووي 9 \ 44، 45 قال النووي- رحمه الله-: اللام لام أمر ومعناه: خذوا مناسككم، وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: '' صلوا كما رأيتموني أصلي ''. شرح النووي 9 \ 45.(59/198)
2 - وأنه قد طعن جماعة من الجهال، ونفر من الملحدين، طعنوا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث، وقالوا: لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلا حجة واحدة، فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفردا، وقارنا، ومتمتعا، وأفعال نسكها مختلفة، وأحكامها غير متفقة؛ وأسانيدها عند أهل الرواية ونقلة الأخبار جياد صحاح؛ ثم قد وجد فيها هذا التناقض والاختلاف.
ذكر ذلك الخطابي في معالم السنن، وقال: يريدون بذلك توهين الحديث والإزراء به وتصغير شأنه وضعف أمر حملته ورواته، ولو يسروا للتوفيق وأعينوا بحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه.
قلت: وقد وفق الله العلماء المحققين أمثال شيخ الإسلام ابن(59/199)
تيمية، وتلميذه ابن القيم إلي بيان أن الأدلة الصحيحة الصريحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا.
وجمعوا بين الأحاديث المروية في ذلك جمعا حسنا، وأن هذه الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا، يقع مثله في غير ذلك، وأن من تأمل ألفاظ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض، واعتبر بعضها ببعض، وفهم لغة الصحابة أسفر له صبح الصواب، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب (1) .
3 - جمع شتات هذا الموضوع، حيث إن الكلام عليه جاء مفرقا في كتب الفقه، وكتب شروح الأحاديث، فجمعه في مؤلف واحد يعين على فهمه والاستفادة منه.
لهذه الأمور رأيت من المناسب جمع كلام أهل العلم في هذا الباب؛ لأهميته ودراسته دراسة فقهية مقارنة بذكر الأقوال والأدلة مع مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة، وما يحتاج منها إلى اعتراض أو جواب للوصول إلى الحق بدليله والعمل به، إذ الواجب على طالب العلم أن يعرف الحق بدليله، فيعمل به ويدعو الناس إليه.
وقد اعتمدت كثيرا في هذا البحث على كلام شيخي الإسلام: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، لما في كلامهما من التحقيق المبني على الفهم الدقيق للنصوص الشرعية (2) ، لا سيما في هذا الموضوع على وجه الخصوص.
__________
(1) من كلام ابن القيم- رحمه الله- في الزاد (2 \ 121) .
(2) ومن يحرم الاطلاع على كتبهما للاستفادة منها فقد حرم خيرا كثيرا.(59/200)
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة: فقد بدأتها بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت فيها أسباب بحثي لهذا الموضوع، وخطتي لهذا البحث، ومنهجي في ذلك.
وأما التمهيد: فذكرت فيه تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه.
وأما المبحث الأول: ففي أنواع نسك الحج.
والمبحث الثاني: في حكم التخيير بين الأنساك الثلاثة.
والمبحث الثالث: في حكم فسخ الحج إلى عمرة.
والمبحث الرابع: في تحقيق النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أطول المباحث.
والمبحث الخامس: في طريق الجمع بين الأحاديث الصحيحة المروية في ذلك.
والمبحث السادس: في أي الأنساك أفضل.
وأما الخاتمة: فتضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث.
وأما منهجي في البحث فأجمله في النقاط التالية:
1 - ذكرت أقوال الأئمة الأربعة في المسائل التي بحثتها وقد أذكر غيرهم.
2 - وثقت هذه الأقوال من مصادرها الأصلية.
3 - ذكرت الأدلة بالتفصيل لكل قول مع المناقشة والترجيح على ضوء الدليل.(59/201)
4 - رقمت الآيات القرآنية.
5 - خرجت الأحاديث النبوية، وأغلب الأحاديث التي استدللت بها في الصحيحين أو في أحدهما، وما لم يكن فيهما أو في أحدهما خرجته من كتب الأحاديث الأخرى، وذكرت من صححه أو ضعفه من أهل العلم.
هذا وقد بذلت غاية جهدي ليخرج هذا البحث على أحسن وجه، فإن كنت قد وفقت في ذلك فهذا من فضل الله وحده، وإن كنت قصرت في ذلك- ولا أدعي الكمال- فهو مني ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك ومن كل تقصير.
وأسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقني والمسلمين للعلم النافع والعمل الصالح؛ إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(59/202)
تمهيد في تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه:
تعريف الحج:
الحج بكسر الحاء وفتحها في اللغة: القصد (1) .
وفي الشرع: عرف بتعريفات متقاربة، منها:
ما ذكره ابن أبي هبيرة في الإفصاح من أنه: أفعال مخصوصة في أماكن مخصوصة في زمان مخصوص
__________
(1) المصباح المنير 1 \ 121، والقاموس المحيط 234.(59/202)
وقوله: أفعال مخصوصة، تشمل جميع ما يفعله المحرم وما يتجنبه، وقوله: في أماكن مخصوصة، تشمل المسجد الحرام والمشاعر، وقوله: في زمان مخصوص، أي وقت أداء أفعال الحج.
وعرفه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بأنه: " التعبد لله عز وجل بأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
حكم الحج:
هو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام.
والأصل في وجوبه:
الكتاب والسنة والإجماع (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 \ 5.(59/203)
أما الكتاب:
فقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) .
وحرف " على " للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق، فقيل: لفلان على فلان. وقد أتبعه بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (2) ؛ ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر (3) . وقال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (4) .
وأما السنة:
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس (5) » ، وذكر منها الحج. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم (6) »
وأجمعت الأمة على وجوبه على المستطيع في العمر مرة واحدة (7) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) شرح العمدة 1 \ 76.
(4) سورة البقرة الآية 196
(5) البخاري مع الفتح 1 \ 49، ومسلم بشرح النووي 1 \ 176.
(6) مسلم بشرح النووي 9 \ 100، 101.
(7) المغني 5 \ 6، والإجماع لابن المنذر ص 54، والإفصاح 2 \ 262، والحاوي 4 \ 6.(59/204)
فضل الحج:
ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة صحيحة، منها:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: " إيمان بالله ورسوله " قيل ثم ماذا؟ قال: " جهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور (1) » .
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (2) » .
3 - وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ولكن أفضل الجهاد حج مبرور (3) » .
والمبرور قيل: المقبول، وقيل: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، وقيل: إن الأقوال التي ذكرت فيه متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، والله أعلم (4) .
__________
(1) البخاري مع الفتح 3 \ 381.
(2) البخاري مع الفتح 3 \ 382.
(3) البخاري مع الفتح 3 \ 381.
(4) انظر: فتح الباري 3 \ 382.(59/205)
شروط وجوب الحج:
شروط وجوب الحج خمسة، هي:
الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة وهي متفق عليها بين الفقهاء.
وتنقسم هذه الشروط ثلاثة أقسام:
منها- ما هو شرط للوجوب والصحة؛ وهو الإسلام والعقل، فلا يجب على كافر، ولا مجنون، ولا يصح منهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات (1) - ومنها ما هو شرط للواجب والإجزاء؛ وهو البلوغ والحرية،
__________
(1) أي على هذه الحالة، فالكافر لا تصح منه حتى يسلم، والمجنون حتى يفيق.(59/206)
وليس بشرط للصحة؛ فلو حج العبد والصبي صح منهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام.
- ومنها ما هو شرط للوجوب فقط؛ وهو الاستطاعة، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة، فحج كان حجه صحيحا مجزئا؛ كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه (1) .
واختلف العلماء في شرطين، وهما:
1 - تخلية الطريق، بمعنى ألا يكون في الطريق مانع من عدو أو غيره.
2 - إكمال المسير، وهو اكتمال هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه (2) .
__________
(1) انظر هذه الشروط في: المغني 5 \ 6، 7، والإفصاح 1 \ 262، والمهذب مع المجموع 7 \ 18، والحاوي 4 \ 5.
(2) انظر: المصادر السابقة.(59/207)
المبحث الأول: أنواع نسك الحج:
النسك في اللغة: العبادة وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، والنسيكة الذبيحة (1) .
وفي الشرع: قال في المطلع: المناسك المتعبدات كلها؛ وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج لكثرة أنواعها (2) .
__________
(1) انظر: القاموس المحيط 1233، والمصباح المنير 2 \ 603.
(2) المطلع على أبواب المقنع 156.(59/207)
أنواع نسك الحج:
أنواع نسك الحج ثلاثة: " تمتع " و " قران " و " إفراد " (1) . والتمتع في اللغة: الانتفاع (2) . وفي الشرع: هو أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه (3) وسمي المتمتع متمتعا؛ لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت الحج، ولأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين بجعله النسكين في سفرة واحدة (4) .
القران في اللغة: الجمع بين الشيئين مطلقا، وقرن بين الحج والعمرة قرانا- بالكسر- أي جمع بينهما (5) .
وفي الشرع: أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام بهما، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف (6) .
قلت: ويطلق على القران تمتع في عرف السلف.
قال ابن عبد البر: " ومن التمتع أيضا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده " (7) .
__________
(1) المغني 5 \ 82.
(2) المصباح المنير 2 \ 562.
(3) المجموع 7 \ 171، والمغني 5 \ 82.
(4) شرح العمدة لابن تيمية 1 \ 480، وفتح الباري 3 \ 423.
(5) انظر: المصباح المنير 2 \ 500، والقاموس المحيط 1579.
(6) المغني 5 \ 82، وفتح الباري 3 \ 423.
(7) التمهيد 8 \ 354.(59/208)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والذين قالوا تمتع- أي الرسول صلى الله عليه وسلم- لم تزل قلوبهم على غير القران، فإن القران كان عندهم داخلا في مسمى التمتع بالعمرة إلى الحج. ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي؛ لقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) ، وذلك أن مقصود حقيقة التمتع أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ويحج من عامه، فيترفه بسقوط أحد السفرين، قد أحل من عمرته ثم أحرم بالحج، أو أحرم بالحج مع العمرة، أو أدخل الحج على العمرة، فأتى بالعمرة والحج جميعا في أشهر الحج من غير سفر بينهما، فيترفه بسقوط أحد السفرين؛ فهذا كله داخل في مسمى التمتع. . . (2)
ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى عمرة (3) .
والإفراد في اللغة: الفرد الوتر وهو الواحد والجمع أفراد، وفرد يفرد من باب قتل، صار فردا، وأفردته بالألف جعلته كذلك، وأفردت الحج عن العمرة فعلت كل واحد على حدة. . . (4)
وفي الشرع: أن يهل بالحج مفردا (5) .
وعمل المفرد والقارن واحد عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، فالقارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن،
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) مجموع الفتاوى 26 \ 81، 82.
(3) فتح الباري 3 \ 423.
(4) المصباح المنير 2 \ 466.
(5) المغني 5 \ 282، وفتح الباري 3 \ 423.(59/209)
ويقتصر على أفعال الحج، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج، أما عند الحنفية فالقارن يلزمه أن يطوف طوافين ويسعى سعيين، ولا تدخل أفعال العمرة في الحج عندهم، بل يقدم العمرة ثم يتبعها أفعال الحج، وإنما يشتركان في الإحرام خاصة (1) .
__________
(1) شرح النووي لمسلم 8 \ 141، والأسرار لأبي زيد: كتاب المناسك 278، والإفصاح1 \ 263.(59/210)
المبحث الثاني: حكم التخيير بين الأنساك الثلاثة:
ذكر غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه يجوز الحج بكل نسك من الأنساك الثلاثة لكل مكلف على الإطلاق.
فقد قال ابن هبيرة: " وأجمعوا على أنه يصح الحج بكل نسك من أنساك ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، لكل مكلف على الإطلاق " (1) .
وقال النووي: " مذهبنا جواز الثلاثة وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم " (2) .
وقال ابن عبد البر: " وفي حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة من الفقه:
- أن التمتع جائز وأن الإفراد جائز وأن القران جائز وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم " (3) .
__________
(1) الإفصاح 2 \ 263.
(2) المجموع 7 \ 151.
(3) التمهيد 8 \ 205.(59/210)
وقال ابن قدامة: " وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، واختلفوا في الأفضل " (1) .
وقال الماوردي: " لا اختلاف بين الفقهاء في جواز الإفراد، والتمتع، والقران، وإنما اختلفوا في الأفضل " (2) .
وقال ابن مفلح - بعد ما ذكر جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة- قال: " ذكره جماعة إجماعا " (3) .
قلت: هذا الذي ذكره جماعة من أهل العلم، وهو الإجماع على جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة، ليس محل إجماع ولا اتفاق على الصحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ثبت عن ابن عباس وطائفة من السلف أن التمتع واجب، وأن كل من طاف بالبيت وسعى ولم يكن معه هدي، فإنه يحل من إحرامه، سواء قصد التحلل أم لم يقصده، وليس عند هؤلاء لأحد أن يحج إلا متمتعا. وهذا مذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر ".
قلت: إذا فيكون في المسألة قولان:
الأول: جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة، وهو قول أكثر أهل العلم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول
__________
(1) المغني 5 \ 82، وانظر: كتاب المناسك من كتاب الأسرار 60، ومختصر اختلاف العلماء 2 \ 103.
(2) الحاوي 4 \ 44.
(3) الفروع 3 \ 297.(59/211)
الأئمة الأربعة.
والقول الثاني: أن من لم يسق الهدي فليس بمخير بين الأنساك الثلاثة، بل يتعين عليه أن يحج متمتعا، وهو قول ابن عباس وأصحابه وأهل الظاهر، ومال إليه ابن القيم.
والحجة للقول الأول:
1 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل (1) » .
2 - وعنها رضي الله عنها، قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج؛ فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر (2) » . متفق عليه.
قال النووي - بعدما أورد الحديثين-: " فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وإنما اختلفوا في الأفضل (3) .
__________
(1) مسلم بشرح النووي 8 \ 143.
(2) البخاري مع الفتح 3 \ 421، ومسلم بشرح النووي 8 \ 141.
(3) شرح النووي لمسلم 8 \ 143، 144.(59/212)
أما الحجة للقول الثاني:
فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من حجهم ويجعلوه عمرة، ومنها:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن (1) » .
2 - ومنها حديث جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان علي قدم من اليمن ومعه الهدي، فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا، إلا من معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت. . .، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعقبة يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا بل للأبد. . . (2) » . متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وفي مسلم عن جابر، قال: «أهللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج
__________
(1) البخاري مع الفتح 3 \ 421، ومسلم بشرح النووي 8 \ 141.
(2) البخاري مع الفتح 3 \ 606.(59/213)
خالصا وحده. قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل. قال عطاء: قال صلى الله عليه وسلم: "حلوا وأصيبوا النساء" قال عطاء: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، قال: يقول جابر بيده كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها، قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا فقال: "قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا" فحللنا وسمعنا وأطعنا، قال عطاء: قال جابر: فقدم علي من سعايته، فقال: " بم أهللت "؟ قال: بما أهل به النبي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأهد وامكث حراما " قال: وأهدى له علي هديا. فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: لأبد. . . (1) » .
ورأى أصحاب هذا القول أن التخيير إنما كان في أول الأمر (2) قلت:
الراجح هو القول بجواز التخيير بين الأنساك الثلاثة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما أمره أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فلأنه أراد أن يجمعوا بين الحج والعمرة وأن لا يعتمروا عمرة مكية (3) وإن سافروا سفرا
__________
(1) مسلم بشرح النووي 8 \ 163- 165.
(2) المحلى 7 \ 99، وزاد المعاد 2 \ 178.
(3) عمرة مكية أي يحرموا بالعمرة من مكة.(59/214)
آخر للعمرة. ومن كان هذه حاله فينبغي له أن يتمتع، فالتمتع كان متعينا في حق الصحابة إذا أرادوا أن يفعلوا الأفضل لهم، وكان أولا قد أذن لهم في الفسخ ولم يأمرهم " (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 51، 52.(59/215)
المبحث الثالث: فسخ الحج إلى عمرة:
لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز فسخ الحج إلى عمرة مفردة لا يأتي بعدها بالحج، كما أنه لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز لمن ساق الهدي أن يفسخ ما أحرم به إلى عمرة. وإنما الذي فيه الخلاف هو بالنسبة لمن كان مفردا أو قارنا ولم يسق الهدي، هل له أن يفسخ حجه إلى عمرة ليكون متمتعا أم لا؟ كما أن أهل العلم قد اتفقوا على صحة الأحاديث الواردة في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر كل من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ حجه ويجعله عمرة.
قال ابن عبد البر: " تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه منهم هدي ولم يسقه وكان قد أحرم بالحج أن يجعلها عمرة.
وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل " (1) .
__________
(1) التمهيد 8 \ 355، 356.(59/215)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث " (1) .
وبعدما اتفق العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (2) » . وأمره من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ حجه إلى عمرة، اختلفوا هل كان ذلك خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل هو واجب أو مستحب؟ اختلفوا إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز، سواء ساق الهدي أم لم يسقه، وأن ذلك كان خاصا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - ما روي من طريق الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: «يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لكم خاصة (3) » . رواه أحمد وأبو داود
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 61، 62.
(2) البخاري مع الفتح 3 \ 606.
(3) مسند الإمام أحمد 3 \ 469، وسنن أبي داود 2 \ 161 حديث رقم 1808، وسنن النسائي 5 \ 179.(59/216)
والنسائي وابن ماجه
2 - عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان بن الأسود، أن أبا ذر رضي الله عنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-: "لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود (1) .
3 - عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة". رواه مسلم (2) وفي رواية عند مسلم عن أبي ذر، قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة: متعة النساء ومتعة الحج. (3) قالوا: والمراد. بمتعة الحج هنا فسخ الحج إلى عمرة (4) .
4 - إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ؛ ليحرموا بالعمرة في أشهر الحج، ويخالفوا ما كانا الجاهلية عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج، وقولهم: إنها من أفجر الفجور (5) .
ونوقشت هذه الأدلة بما يلي:
حديث الحارث بن بلال لا يصح، وحديثه لا يكتب، ولا
__________
(1) في سننه 2 \ 161 حديث رقم 1807.
(2) مسلم بشرح النووي 8 \ 203.
(3) مسلم بشرح النووي 8 \ 203.
(4) المجموع 7 \ 169.
(5) التمهيد 8 \ 356، والمجموع 7 \ 168.(59/217)
يعارض. بمثله الأحاديث الصحيحة. وقالوا: وهو حديث ساقط بالمرة باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفرد به ربيعة عن الحارث بن بلال المجهول الذي لا يعرف؛ فهو من افترائه أو من غلطه ووهمه، فإن الحديث المقطوع بصحته قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا، وأن ذلك إلى الأبد، مما هو قاطع بكذب هذا الحديث وبطلانه.
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة، فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحد من المسلمين، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة، وإن أريد به متعة الفسخ فهذا رأي رآه أبو ذر رضي الله عنه، وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما: إن ذلك عام للأمة، فرأي أبي ذر رضي الله عنه معارض برأيهما، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة.
ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة، بنص النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها، وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن، وهذا أصح سندا من المروي عن أبي ذر رضي الله عنه، وأولى أن يؤخذ به منه لو صح عنه.
وأيضا فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأمر به، فمال بعضهم: إنه منسوخ(59/218)
أو خاص، وقال بعضهم: هو باق إلى الأبد، فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل، فلا يقبل إلا ببرهان، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه، والحجة تفصل بين المتنازعين، والواجب عند التنازع الرد إلى الله ورسوله؛ فإن قال أبو ذر: إن الفسخ منسوخ أو خاص، وقال أبو موسى وابن عباس: إنه باق وحكمه عام، فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل.
على أن المروي عن أبي ذر يحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهو الذي فهمه من حرم الفسخ.
والثاني: اختصاص وجوبه بالصحابة، وهو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة.
والاحتمال الثالث: أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر الأمر، من التمتع لمن لم يسق الهدي، والقران لمن ساق الهدي، كما صح عنه ذلك.
وأما أن يحرم بحج مفردا ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ويجعله متعة، فليس له ذلك، بل هذا إنما كان للصحابة، فإنهم ابتدأوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع والفسخ إليه، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ثم يفسخه.
وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث(59/219)
الصريحة به جملة (1) .
وأما المروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول- فيمن حج ثم فسخها بعمرة-: "لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود (2) .
فقد قال النووي: " إسناد هذا لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس، وقد قال " عن "، واتفقوا على أن المدلس إذا قال " عن " لا يحتج به " (3) .
قلت: وعلى فرض صحته فقد تقدم الجواب عن ذلك. وأما القول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالفسخ؛ ليبين الجواز، وليخالف ما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جواز العمرة في أشهر الحج.
فالجواب عنه:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة، فكيف يظن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى عمرة؟
2 - أنه ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال لهم عند الميقات: «من شاء أن يهل بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل (4) » ، فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات وعامة
__________
(1) انظر: زاد المعاد 2 \ 191-194 بتصرف يسير.
(2) تقدم تخريجه ص 217.
(3) المجموع 7 \ 169.
(4) صحيح البخاري الحج (1786) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) .(59/220)
المسلمين معه، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ؟
3 - أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم. وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول، والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره (1) .
4 - وأيضا فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما يبين الجواز، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه وأن يجعلوا ذلك تمتعا لمجرد بيان جواز ذلك، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول؛ فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: «بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة (2) » .
5 - وأيضا فإذا كان الكفار غير متمتعين ولا معتمرين في أشهر الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة الكفار، كان هذا من سنن الحج، كما فعل في وقوفه بعرفة ومزدلفة؛ فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب، ويؤخرون الإفاضة من جمع (3)
__________
(1) زاد المعاد 2 \ 213.
(2) صحيح مسلم الحج (1241) ، سنن الترمذي الحج (932) ، سنن أبو داود المناسك (1790) .
(3) اسم من أسماء مزدلفة.(59/221)
إلى أن تطلع الشمس، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس، وعجل الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس. وهذا هو السنة باتفاق المسلمين.
فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ، إن كان قصد به مخالفة المشركين فهذا هو السنة، وإن فعله لأنه أفضل وهو سنة، فعلى كلا التقديرين يكون الفسخ أفضل، اتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- والله أعلم-.
القول الثاني: أن الفسخ جائز بل مستحب. وهو قول الإمام أحمد والحسن ومجاهد وداود، وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
القول الثالث: وجوب فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي. وبه قال ابن عباس رضي الله عنه، وهو قول ابن حزم ومال(59/222)
إليه ابن القيم.
والأدلة لهذين القولين هي:
1 - الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، وهي متواترة كما تقدم، ولم يختلف أهل العلم في صحتها.
قال الإمام أحمد في رده على سلمة بن شبيب: " عندي أحد عشر حديثا في فسخ الحج، أتركها لقولك؟ " (1) .
وقال ابن القيم: " روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخه الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه ". ثم ذكرهم، ثم ذكر أحاديثهم التي رووها (2) ، ومنها:
حديث جابر في الصحيحين- وفيه-: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، وفيه: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا، وفيه - أي في الحديث- فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: للأبد. . . (3) » الحديث.
__________
(1) المغني 5 \ 254، ومجموع الفتاوى 26 \ 54، وزاد المعاد 2 \ 183.
(2) زاد المعاد 2 \ 178.
(3) تقدم تخريجه ص 213.(59/223)
قال ابن القيم: " وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال إن ذلك كان خاصا بهم، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده، لا للأبد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه للأبد " (1) .
2 - ما ثبت عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أفتى الناس بالفسخ الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ثم زمن أبي بكر، ثم زمن عمر رضي الله عنهما (2) .
3 - أن ابن عباس رضي الله عنه كان يأمر بالفسخ كل من لم يسق الهدي ويجعله عمرة، بل كان يرى أن كل من طاف بالبيت وسعى فقد حل، شاء أم أبى (3) .
إلا أن أصحاب القول الثاني يحملون هذه الأدلة على الاستحباب، وأصحاب القول الثالث يحملونها على الوجوب (4) .
يقول ابن القيم رحمه الله: " ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحجج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة؛ تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من
__________
(1) زاد المعاد 2 \ 179، 180.
(2) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 200، 201.
(3) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 229، 230، وصحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 534.
(4) انظر: المصادر المتقدمة ص 222، 223.(59/224)
بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه. . . ".
مناقشة أصحاب القول الأول للقولين الثاني والثالث، والجواب عن هذه المناقشة:
1 - أن حديث سراقة بن مالك المقصود به إبطال ما كان يعتقده أهل الجاهلية من امتناع العمرة في أشهر الحج (1) .
قلت: قد تقدم الجواب عن هذا.
2 - أن حديث الحارث بن بلال، قال عنه النووي: لم أر في الحارث جرحا ولا تعديلا، وقد رواه أبو داود ولم يضعفه، وقد ذكرنا أن ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده إلا أن يوجد ما يقتضي ضعفه (2) .
قلت: قد تقدم الجواب عن سبب تضعيف العلماء لحديث الحارث بن بلال، ثم كون الحديث لم يضعفه أبو داود لا يلزم
__________
(1) المجموع 7 \ 168، وشرح النووي لمسلم 8 \ 166.
(2) المجموع 7 \ 169.(59/225)
منه أن لا يكون ضعيفا، فقد أورد أبو داود حديث أبي ذر برقم 1807، وحديث الحارث برقم 1808، ولم يضعف حديث أبي ذر، وقد قال النووي: " حديث أبي ذر إسناده لا يحتج به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلس وقد قال " عن "، والمدلس إذا قال " عن " لا يحتج به ". اهـ.
فلم يكتف النووي بعدم تضعيف أبي داود لهذا الحديث، فكذلك حديث الحارث. ذكر أهل العلم أن الحارث مجهول، وحديثه يخالف الحديث الصحيح، مما يدل على بطلان حديث الحارث، ولم يروا عدم تضعيف أبي داود له دليلا على صحته.
3 - قالوا: إن حديث سراقة بن مالك قد اختلف العلماء في معناه، على أقوال:
قال النووي: " أصحها - وبه قال جمهورهم- معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة. والمقصود به إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.
والثاني: معناه جواز القران. وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلى يوم القيامة.
والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة؛ قالوا: معناه سقوط العمرة. قالوا: ودخولها في الحج معناه: سقوط وجوبها، وهذا ضعيف أو باطل.
والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج(59/226)
إلى العمرة، وهذا أيضا ضعيف ". اهـ (1) .
وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله- بعدما أورد كلام النووي -: " وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك، حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث. والله أعلم " (2) .
قلت - بعد إيراد الأدلة والمناقشات-: فالذي يترجح عندي هو القول باستحباب الفسخ، وليس القول بالوجوب أو التحريم، وأن الوجوب كان خاصا بالصحابة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، أما الاستحباب فباق إلى يوم القيامة؛ وبه تجتمع الأدلة، فقول من قال من الصحابة بأنه خاص بهم، أي وجوب الفسخ، وقول من قال من الصحابة بعموم الفسخ يحمل على جواز ذلك واستحبابه (3) .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: " والذي يظهر لنا صوابه في حديث «بل للأبد (4) » ، وحديث الخصوصية بذلك الركب، هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأبيد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا
__________
(1) شرح النووي لمسلم 8 \ 166.
(2) فتح الباري 3 \ 609.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 26 \ 51، 52، 95، 96، وزاد المعاد 2 \ 193، 194.
(4) صحيح مسلم الحج (1241) ، سنن الترمذي الحج (932) ، سنن أبو داود المناسك (1790) .(59/227)
هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية كما لا يخفى " (1) .
__________
(1) أضواء البيان 5 \ 151.(59/228)
المبحث الرابع: تحقيق النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم:
اختلف العلماء في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب الخلاف أنه روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وروي أنه كان متمتعا، وروي أنه كان قارنا (1) .
والأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وبه قال الإمام مالك، والشافعي في قول من أقواله.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وهو قول للشافعي، وبه قال بعض أصحاب الإمام أحمد، وبعض أصحاب الشافعي (2) .
وأصحاب هذا القول منهم من رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع تمتعا حل فيه من إحرامه، ومنهم من رأى أنه لم يحل من إحرامه من أجل سوق الهدي (3) .
__________
(1) بداية المجتهد مع الهداية 5 \ 336.
(2) الحاوي 4 \ 43، 44، ومجموع الفتاوى 26 \ 62- 65، والمغني 5 \ 85، والإنصاف 3 \ 445، والفروع 3 \ 301.
(3) مجموع الفتاوى 26 \ 63.(59/228)
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وهو قول أبي حنيفة (1) ، وأحمد في المنصوص عنه، حيث قال: " لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا " (2) ، وهو قول أئمة الحديث، كإسحاق بن راهويه وغيره (3) ، وبه قال ابن حزم (4) ، والشافعي في قول (5) ، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم (6) .
أدلة القول الأول:
1 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج (7) » . متفق عليه. قالوا: وهذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده (8) .
2 - عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج (9) »
__________
(1) المبسوط 4 \ 25، 26، ورؤوس المسائل 253، والبناية 3 \ 607.
(2) مجموع الفتاوى 26 \ 62، والفروع 3 \ 301، والإنصاف 3 \ 435، والروض المربع مع حاشيته 3 \ 558.
(3) المصادر السابقة.
(4) المحلى 7 \ 102.
(5) الحاوي 4 \ 43، 44.
(6) مجموع الفتاوى 26 \ 62، وزاد المعاد 2 \ 107.
(7) تقدم تخريجه ص 212.
(8) المنتقى 2 \ 212، وزاد المعاد 2 \ 127.
(9) صحيح مسلم 4 \ 31.(59/229)
مفردا. رواه مسلم.
3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا (1) » . وفي رواية: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا (2) » ، رواهما مسلم.
4 - عن جابر رضي الله عنه، قال في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: «لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة (3) » رواه مسلم.
5 - عن جابر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج (4) » .
6 - عن عطاء قال: «حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا. . . الحديث (5) » .
7 - عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي، أنه سأل عروة بن الزبير، فقال: «قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها، أنه أول شيء بدأ به حين قدم، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول شيء بدأ به حين قدم، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله
__________
(1) صحيح مسلم 4 \ 52.
(2) صحيح مسلم 4 \ 52.
(3) صحيح مسلم 4 \ 39- 43.
(4) سنن ابن ماجه 2 \ 988.
(5) البخاري مع الفتح 3 \ 422.(59/230)
عنه، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية وعبد الله بن عمر (1) » . . . إلخ.
ونوقشت أدلتهم بما يلي:
أن هؤلاء الذين رووا الإفراد - وهم عائشة وجابر وابن عمر - رووا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنا - كما سيأتي في أدلة من رأى القران - ويعترض عليها بالأحاديث الأخرى الصحيحة، التي رواها غير هؤلاء، التي نقل رواتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قارنا، وفي بعضها أنه حج متمتعا، فهي متعارضة في الظاهر ومحتملة إفراد الحج، أو أن مرادهم إفراد عمل الحج، كما أن من روى أنه أفرد الحج لم يقل أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أفردت بالحج، ولا أتاني من ربي آت يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد: سمعته يقول: لبيك بعمرة مفردة البتة، ولا بحج مفرد (2) .
شيخ الإسلام ابن قال تيمية: (. . . وأما الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر، والثلاثة نقل عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج، وما صح عنهما من ذلك فمعناه إفراد أعمال الحج) (3) .
وقال ابن القيم - بعدما ذكر الأحاديث السابقة التي ذكرناها
__________
(1) البخاري مع الفتح 3 \ 496
(2) انظر: مجموع الفتاوى 26 \ 70، 71.
(3) مجموع الفتاوى 26 \ 72، 73.(59/231)
استدلالا للقول الأول - قال: (فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه، وأخبر عنها بقوله: «سقت الهدي وقرنت (1) » ، (2) ، وخبر من هو تحت بطن ناقته وأقرب إليه حينئذ من غيره، فهو من أصدق الناس، يسمعه يقول: «لبيك بحجة وعمرة (3) » ، وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين يخبر أنه أهل بهما جميعا، ولبى بهما جميعا، وخبر زوجته حفصة في تقريره لها على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها، فلم ينكر ذلك عليها بل صدقها، وأجابها بأنه مع ذلك حاج. وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل يسمعه أصلا بل ينكره. وما عذرهم عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالوحي الذي جاءه من ربه يأمره فيه أن يهل بحجة في عمرة. . .، إلى أن قال: وليس مع من قال: إنه أفرد الحج، شيء من ذلك البتة، فلم يقل أحد منهم عنه إني أفردت، ولا أتاني من ربي آت يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد: ما بال الناس حلوا ولم تحل من حجتك كما حلوا هم بعمرة، ولا قال أحد: سمعته يقول: لبيك بعمرة مفردة البتة، ولا بحج مفرد، ولا قال أحد: إنه اعتمر أربع عمر، الرابعة بعد حجته، وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يخبر عن نفسه بأنه قارن، ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بأن يقال: لم يسمعوه. ومعلوم قطعا أن تطرق الوهم والغلط إلى من أخبر عما فهمه هو من فعله يظنه كذلك أولى
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (2725) ، سنن أبو داود المناسك (1797) .
(2) هذه الأحاديث التي ساقها ابن القيم هنا سيأتي تخريجها عند الكلام على أدلة القول الثالث.
(3) صحيح البخاري الحج (1569) ، صحيح مسلم الحج (1223) ، سنن النسائي مناسك الحج (2723) ، مسند أحمد بن حنبل (1/136) ، سنن الدارمي المناسك (1923) .(59/232)
من تطرق التكذيب إلى من قال: سمعته يقول: كذا وكذا، وإنه لم يسمعه، فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيب، بخلاف خبر من أخبر عما ظنه من فعله وكان واهما، فإنه لا ينسب إليه الكذب، وقد نزه الله عليا، وأنسا، والبراء، وحفصة عن أن يقولوا: سمعناه يقول: كذا، ولم يسمعوه، ونزهه ربه تبارك وتعالى أن يرسل إليه: أن افعل كذا وكذا، ولم يفعله، هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم ولا ناقضوهم، وإنما أرادوا إفراد الأعمال، واقتصاره على عمل المفرد، فإنه ليس في عمله زيادة على عمل المفرد.
ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هذا، فإنه عبر بحسب ما فهمه، كما سمع بكر بن عبد الله بن عمر يقول: أفرد الحج، فقال: لبى بالحج وحده، حمله على المعنى، وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه: إنه تمتع فبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر، ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه أمر به، فإنه فسره بقوله: وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكذا الذين رووا الإفراد عن عائشة رضي الله عنها، فهما عروة والقاسم، وروى القران عنها عروة ومجاهد، وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد، والزهري يروي عنه القران، فإن قدرنا تساقط الروايتين سلمت رواية مجاهد، وإن حملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج تصادقت الروايات وصدق بعضها بعضا، ولا ريب أن قول عائشة وابن عمر:
أفرد بالحج، محتمل لثلاثة معان:
أحدها: الإهلال به مفردا.
والثاني: إفراد أعمال الحج.(59/233)
والثالث: أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها، بخلاف العمرة فإنها كانت أربع مرات.
وأما قولهما: تمتع بالعمرة إلى الحج، وبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فحكيا فعله، فهذا صريح لا يحتمل غير معنى واحد، فلا يجوز رده بالمجمل، وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة أنه أهل بالحج، ما يناقض رواية مجاهد وعروة عنها أنه قرن، فإن القارن حاج مهل بالحج قطعا، وعمرته جزء من حجته، فمن أخبر عنها أنه أهل بالحج فهو غير صادق.
فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود، ثم ضمتا إلى رواية عروة، تبين من مجموع الروايات أنه كان قارنا، وصدق بعضها بعضا، حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردا، لوجب قطعا. أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر: اعتمر في رجب، وقول عائشة أو عروة: إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال. إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة (1) لا سبيل أصلا إلى تكذيب رواتها، ولا تأويلها وحملها على غير ما دلت عليه، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطربت على رواتها، واختلف عنهم فيها وعارضهم من هو أوثق منهم أو مثلهم عليها.
وأما قول جابر: إنه أفرد الحج، فالصريح من حديثه ليس فيه شيء من هذا، وإنما فيه إخباره عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج، فأين في هذا ما يدل على أن رسول صلى الله عليه وسلم لبى بالحج مفردا؟
__________
(1) أي الأحاديث الواردة في أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا.(59/234)
وأما حديثه الآخر الذي رواه ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، فله ثلاث طرق. أجودها: طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه. وهذا يقينا مختصر من حديثه الطويل في حجة الوداع مروي بالمعنى، والناس خالفوا الدراوردي في ذلك، فقالوا: أهل بالحج وأهل بالتوحيد. . .
ثم ذكر ابن القيم الطريقين الأخريين، إلى أن قال: وبكل حال فلو صح هذا عن جابر لكان حكمه حكم المروي عن عائشة وابن عمر. وسائر الرواة الثقات إنما قالوا: أهل بالحج، فلعل هؤلاء حملوه على المعنى، وقالوا: أفرد الحج. ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج، فمن قال أهل بالحج لا يناقض من قال أهل بهما، بل هذا فصل، وذاك أجمل، ومن قال: أفرد الحج، يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة. . .) (1) .
أدلة القول الثاني، الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا:
1 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: «تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه القرآن، قال رجل برأيه ما شاء. . . (2) » متفق عليه.
2 - عن عمران بن حصين، قال: «تمتع نبي الله وتمتعنا معه (3) » رواه مسلم.
__________
(1) نقلته بلفظه من زاد المعاد 2 \ 129 - 133 لأهميته.
(2) البخاري مع الفتح 3 \ 432، ومسلم 4 \ 38.
(3) مسلم 4 \ 48.(59/235)
3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدموا مكة قال للناس: (من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد. . . (1) » الحديث.
ونوقشت هذه الأدلة:
بأنه ليس فيها دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، بدليل الأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه (2) .
على أن التمتع المذكور في هذه الأحاديث المراد به القران، فالصحابة يطلقون التمتع ويعنون به القران (3) ، يدل لذلك ما في الصحيحين عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى عليا أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي
__________
(1) البخاري مع الفتح 3 \ 539، ومسلم 4 \ 49.
(2) كما ستأتي في أدلة القول الثالث.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 26 \ 67.(59/236)
صلى الله عليه وسلم قال لقول أحد.
وفي رواية عن سعيد بن المسيب، قال: اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا (1) .
أدلة القول الثالث، الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا:
ورد في ذلك أحاديث كثيرة صحيحة وهي صريحة في ذلك، ومنها:
1 - ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج. . . (2) » متفق عليه. وقد تقدم في أدلة القول السابق - والمراد بالتمتع هنا القران، كما تقدم.
2 - وفي الصحيحين أيضا عن عروة عن عائشة، أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه (3) .
3 - عن نافع عن ابن عمر: «أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما
__________
(1) البخاري مع الفتح 3 \ 423.
(2) صحيح البخاري الحج (1692) ، صحيح مسلم الحج (1227) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2732) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1805) .
(3) البخاري مع الفتح 3 \ 539، 540، ومسلم 4.(59/237)
طوافا واحدا، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . (1) » رواه مسلم.
4 - عن ابن عباس: «اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية حين تواطئوا على عمرة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته (2) » .
5 - عن مجاهد، قال: «سئل ابن عمر: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مرتين. فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع (3) » .
6 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة (4) » قال ابن حجر: وهذا دال أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا (5) .
7 - ما «روى البراء بن عازب، قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فأصبت معه أواقي، فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدت فاطمة
__________
(1) ورد بعدة ألفاظ، مسلم 4 \ 50 - 52.
(2) رواه أبو داود في سننه 2 \ 205، 206 حديث رقم 1993، وقد أورده ابن القيم ضمن الأحاديث التي ذكر أنها صحيحة. زاد المعاد 2 \ 109.
(3) أبو داود 2 \ 205 حديث رقم 1993.
(4) رواه البخاري كما في البخاري مع الفتح 3 \ 392.
(5) فتح الباري 3 \ 395.(59/238)
رضي الله عنها قد لبست ثيابا صبيغا وقد نضحت البيت بنضوح، فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: كيف صنعت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت. . . (1) » الحديث.
8 - عن علي بن الحسين «عن مروان بن الحكم، قال: كنت جالسا عند عثمان، فسمع عليا رضي الله عنه يلبي بعمرة وحجة، فقال: ألم نكن ننهى عن هذا؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا، فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك (2) » .
9 - عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفا، قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثا ينفعك الله به: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل قرآن يحرمه (3) » . رواه مسلم
__________
(1) رواه أبو داود 2 \ 158، والنسائي 5 \ 149، وقد أورده ابن القيم في الزاد 2 \ 109 ضمن الأحاديث التي ذكر أنها صحيحة وتدل على القران.
(2) رواه النسائي 5 \ 148، وقد تقدم أنه في الصحيحين لكن بلفظ يختلف عن هذا، وقد أورده ابن القيم في الزاد 2 \ 110 ضمن الأحاديث التي ذكر أنها صحيحة وتدل على القران.
(3) صحيح مسلم 4 \ 48.(59/239)
قلت: وهذا الحديث صحيح وصريح في أنه كان قارنا.
10 - عن سراقة بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، قال: وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (1) » .
قال ابن القيم: (إسناده ثقات) (2) .
11 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا (3) » .
قال ابن القيم: (رواه الإمام أحمد (4) ، والترمذي (5) ، وفيه الحجاج بن أرطأة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء أو يخالف الثقات) (6) .
قلت: قال الترمذي: حديث جابر حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم (7) .
12 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج (8) » ، متفق عليه،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 4 \ 175.
(2) زاد المعاد 2 \ 110.
(3) صحيح مسلم الحج (1215) ، سنن الترمذي الحج (947) ، سنن النسائي مناسك الحج (2986) ، سنن أبو داود المناسك (1895) ، سنن ابن ماجه المناسك (2972) .
(4) مسند الإمام أحمد 3 \ 388.
(5) الترمذي 3 \ 283 حديث رقم 947.
(6) زاد المعاد 2 \ 111.
(7) سنن الترمذي 3 \ 283.
(8) البخاري مع الفتح 3 \ 422، ومسلم 4.(59/240)
واللفظ لمسلم.
قال ابن القيم: (وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج، وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم، لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل، وإنما يمنعه عمرة القران، فالحديث على أصلهما نص) (1) .
وقال ابن حجر: (قول حفصة: «ولم تحل من عمرتك (2) » وقوله هو: «حتى أحل من الحج (3) » ، ظاهر في أنه كان قارنا. وأجاب من قال: كان مفردا على قولها: «ولم تحل من عمرتك (4) » بأجوبة: أحدها: قاله الشافعي: معناه: ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (5) » . وقيل: معناه: ولم تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك. قالوا: وقد تأتي (من) بمعنى الباء، كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (6) أي بأمر الله، والتقدير: ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك، وقيل: ظنت أنه فسخ حجه بعمرة كما فعل أصحابه بأمره، فقالت: «لم لم تحل أنت أيضا من عمرتك؟ (7) » ولا يخفى ما في بعض هذه التأويلات من
__________
(1) زاد المعاد 2 \ 111.
(2) صحيح البخاري المغازي (4398) ، صحيح مسلم الحج (1229) ، سنن النسائي مناسك الحج (2682) ، سنن أبو داود المناسك (1806) ، سنن ابن ماجه المناسك (3046) ، مسند أحمد بن حنبل (6/285) ، موطأ مالك الحج (897) .
(3) صحيح البخاري الحج (1697) ، صحيح مسلم الحج (1229) ، سنن النسائي مناسك الحج (2682) ، سنن أبو داود المناسك (1806) ، سنن ابن ماجه المناسك (3046) ، مسند أحمد بن حنبل (6/283) ، موطأ مالك الحج (897) .
(4) صحيح البخاري المغازي (4398) ، صحيح مسلم الحج (1229) ، سنن النسائي مناسك الحج (2682) ، سنن أبو داود المناسك (1806) ، سنن ابن ماجه المناسك (3046) ، مسند أحمد بن حنبل (6/285) ، موطأ مالك الحج (897) .
(5) صحيح البخاري الحج (1651) ، صحيح مسلم الحج (1240) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) ، سنن أبو داود المناسك (1787) ، سنن ابن ماجه المناسك (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/366) .
(6) سورة الرعد الآية 11
(7) صحيح البخاري الحج (1566) ، صحيح مسلم الحج (1229) ، سنن النسائي مناسك الحج (2682) ، سنن أبو داود المناسك (1806) ، سنن ابن ماجه المناسك (3046) ، مسند أحمد بن حنبل (6/284) ، موطأ مالك الحج (897) .(59/241)
التعسف، والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا) اهـ (1) وقال ابن حجر أيضا: وأجاب بعض المالكية والشافعية عن ذلك أي - عدم تحلله من العمرة - بأن السبب في عدم تحلله من العمرة كونه أدخلها على الحج وهو مشكل عليه؛ لأنه يقول: إن حجه كان مفردا. وقال بعض العلماء: ليس لمن قال: كان مفردا عن هذا الحديث انفصال (2) .
، (3) . 13 - عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه. رواه مالك والنسائي والترمذي (4) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح (5)
__________
(1) فتح الباري 3 \ 427.
(2) أي أن هذا الحديث ملزم لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مفردا وإنما كان قارنا.
(3) فتح الباري 3 \ 427.
(4) موطأ الإمام مالك 1 \ 344، وسنن النسائي 5 \ 152، 153، وسنن الترمذي 3 \ 184، 185.
(5) سنن الترمذي 3 \ 185.(59/242)
قال ابن القيم: (ومراده بالتمتع هنا بالعمرة إلى الحج: أحد نوعيه، وهو تمتع القران، فإنه لغة القرآن، والصحابة الذين شهدوا التنزيل والتأويل شهدوا بذلك، ولهذا قال ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكذلك قالت عائشة (1) ، وأيضا فإن الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو متعة القران بلا شك، كما قطع به الإمام أحمد) .
ثم ذكر ابن القيم حديث عمران بن حصين في المتعة وكذلك حديث سعيد بن المسيب في اختلاف علي وعثمان في المتعة، ثم قال: (فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه عثمان - أي وافق عليا - على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإنه لما قال له: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، لم يقل له: لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه وافقه على ذلك لأنكره، ثم قصد علي إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في ذلك، وبيان أن فعله لم ينسخ، وأهل بهما جميعا؛ تقريرا للاقتداء به ومتابعته في القران، وإظهارا لسنة نهى عنها عثمان متأولا، وحينئذ فهذا دليل مستقل) (2) .
14 - عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
__________
(1) تقدم تخريج الحديثين.
(2) زاد المعاد 2 \ 112 - 114.(59/243)
«لبيك عمرة وحجا (1) » رواه مسلم. وفي رواية عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، بين الحج والعمرة (2) » .
15 - عن قتادة عن أنس: «اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر - فذكرها - وقال: وعمرة مع حجته (3) » ، رواه البخاري.
وقد أورد العلامة ابن القيم اثنين وعشرين حديثا، قال عنها بأنها صحيحة صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا (4) .
وقال ابن القيم - بعد ما أورد حديث أنس المتقدم -: (فهؤلاء ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالا بحج وعمرة معا - ثم ذكر هؤلاء الستة عشر، إلى أن قال -: فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه، وهذا علي والبراء يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران، وهذا علي أيضا يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ربه أمره بأن يفعله، وعلمه اللفظ الذي يقوله عند الإحرام، وهذا علي أيضا يخبر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا، وهؤلاء بقية من ذكرنا يخبرون عنه بأنه فعله، وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر
__________
(1) صحيح مسلم 4 \ 52، 53.
(2) صحيح مسلم 4 \ 52، 53.
(3) البخاري مع الفتح 3 \ 600.
(4) البخاري مع الفتح 3 \ 600.(59/244)
به آله، ويأمر به من ساق الهدي. وهؤلاء الذين رووا القران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وجابر، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي وتقرير علي له، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، فهؤلاء سبعة عشر صحابيا رضي الله عنهم، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به. . .) (1) .
ثم قال ابن القيم: (فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا وعائشة وابن عباس؟ وهذه عائشة تقول: «أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج (2) » ، وفي لفظ: «أفرد الحج (3) » ، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم، وهذا ابن عمر يقول: «لبى بالحج وحده (4) » ذكره البخاري، وهذا ابن عباس يقول: «وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وحده (5) » رواه مسلم، وهذا جابر يقول: «أفرد الحج (6) » رواه ابن ماجه؟
قيل؟ إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت فإن أحاديث الباقين لم تتعارض. فهب أن أحاديث من ذكرتم
__________
(1) زاد المعاد 2 \ 116، 117
(2) صحيح البخاري الحج (1562) .
(3) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (820) ، سنن النسائي مناسك الحج (2715) ، سنن أبو داود المناسك (1777) ، سنن ابن ماجه المناسك (2964) ، مسند أحمد بن حنبل (6/104) ، موطأ مالك الحج (747) ، سنن الدارمي المناسك (1812) .
(4) سنن النسائي مناسك الحج (2731) ، مسند أحمد بن حنبل (2/114) .
(5) سنن النسائي مناسك الحج (2731) ، مسند أحمد بن حنبل (2/53) .
(6) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (820) ، سنن النسائي مناسك الحج (2715) ، سنن أبو داود المناسك (1777) ، سنن ابن ماجه المناسك (2964) ، مسند أحمد بن حنبل (6/104) ، موطأ مالك الحج (747) ، سنن الدارمي المناسك (1812) .(59/245)
لا حجة فيها على القران، ولا على الإفراد؛ لتعارضها، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها؟ فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها، وإنما ظن من ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم) اهـ.
الراجح:
بعد أن سقنا أدلة من رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، ومن رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ومن رأى أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وذكرنا المناقشات، والاعتراضات، والإجابات، فالراجح من هذه الأقوال، بل الصحيح منها وهو الحق - إن شاء الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان قارنا ولم يكن مفردا ولا متمتعا، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأهل الحديث وقول للشافعي.
وهذا القول رجحه العلماء المحققون، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والنووي وابن حجر وغيرهم.
قال الإمام أحمد: (لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، والتمتع أحب إلي؛ لأنه آخر الأمرين) (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما حج النبي صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه كان قارنا، قرن بين الحج والعمرة وساق الهدي. . .، وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث الذين جمعوا
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 80.(59/246)
طرقها، وعرفوا مقصدها. وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابا جيدا في هذا الباب) (1) .
وقال ابن القيم: (وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا، لبضعة وعشرين حديثا صحيحة صريحة في ذلك) (2) .
وقال النووي: (والصواب الذي نعتقده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا) (3) .
وقال ابن حجر: (والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا) (4) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف، أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة، ثم ذكر - رحمه الله - هذه الجهات. . .) (5) .
وقد ذكر العلامة ابن القيم في زاد المعاد أن أحاديث القران أرجح، من خمسة عشر وجها، ثم ذكرها (6) .
قلت: ومن أهم هذه المرجحات ما يلي:
1 - أنهم أكثر من غيرهم كما تقدم.
2 - أن طرق الإخبار بذلك تنوعت.
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 80.
(2) زاد المعاد 2 \ 107.
(3) المجموع 7 \ 159.
(4) فتح الباري 3 \ 427.
(5) أضواء البيان 5 \ 168
(6) زاد المعاد 2 \ 123، 124.(59/247)
3 - أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك، وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك، ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد.
4 - تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها.
5 - أنها صريحة لا تحتمل التأويل، بخلاف روايات الإفراد.
6 - أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد، أو نفوها، والذاكر الزائد مقدم على الساكت، والمثبت مقدم على النافي.
7 - أن رواة الإفراد أربعة: عائشة وابن عمر وجابر وابن عباس، والأربعة رووا القرآن، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم، سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض، وإن صرنا إلى الترجيح، وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ولا اختلفت، كالبراء، وأنس، وعمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وحفصة، ومن معهم.
8 - أنه النسك الذي أمر به من ربه، فلم يكن ليعدل عنه.
9 - أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه (1) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أجوبة من رجح الإفراد على القران، ومنهم البيهقي، وقال: ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من تعسف (2) .
__________
(1) زاد المعاد 2 \ 123، 124.
(2) فتح الباري 3 \ 427، 428.(59/248)
المبحث الخامس: طريق الجمع بين الأحاديث الصحيحة المروية في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم:
قد سبق أن ذكرنا أن من الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفردا، ومنهم من روى أنه كان متمتعا، ومنهم من روى أنه كان قارنا؛ وهذه الروايات صحيحة في قصة واحدة، فكيف يمكن الجمع بينها؟ والعلماء كما اختلفوا في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، اختلفوا في كيفية الجمع بين ما روي في ذلك.
قال النووي: (والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنا، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة، وأمر به في قوله: «لبيك عمرة في حجة (1) » .
فإذا عرفت ما قلناه سهل الجمع بين الأحاديث. فمن روى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا - وهم الأكثرون كما سبق - أراد أنه اعتمر في أول الإحرام ومن روى أنه كان قارنا، أراد أنه اعتمر آخره وما بعد إحرامه ومن روى أنه كان متمتعا، أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والالتذاذ، وقد انتفع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ولم يحتج إلى إفراد كل واحد بعمل. ويؤيد هذا الذي ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا. قبل الحج ولا بعده) (2) .
قلت: وهذا الذي ذكره النووي رحمه الله يعترض عليه بأن
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1534) ، سنن أبو داود المناسك (1800) ، سنن ابن ماجه المناسك (2976) ، مسند أحمد بن حنبل (1/24) .
(2) المجموع 7 \ 159، 160.(59/249)
رواة الإفراد ليسوا هم الأكثرين، وأن الأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالنسكين معا، كما تقدم.
وذكر الخطابي في كيفية الجمع: (أن كلا أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به اتساعا، ثم رجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا (1) . وكذا قال عياض، وزاد: وأما إحرامه هو فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا، وأما رواية من روى أنه كان متمتعا، فمعناه أمر به؛ لأنه صريح بقوله: «ولولا أن معي الهدي لأحللت (2) » ، فصح أنه لم يتحلل، وأما رواية من روى القران، فهو إخبار عن آخر أحواله، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي، وقيل له: «قل عمرة في حجة (3) » اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديما، ابن المنذر، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا، ومهد له المحب الطبري تمهيدا بالغا، يطول ذكره، ومحصله: أن كل من روى عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عنه القران أراد ما استقر عليه أمره، ويترجح رواية من روى القران بأمور. . .) ثم ذكرها الحافظ ابن حجر (4) .
قلت: هذا الذي ذكروه يعترض عليه بأمور:
منها: أن الأحاديث الصحيحة قد تضافرت على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وليس مفردا كما ذكروه، وقد تقدم بيان ذلك.
__________
(1) معالم السنن 2 \ 161
(2) صحيح البخاري الحج (1651) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) ، سنن أبو داود المناسك (1787) ، سنن ابن ماجه المناسك (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/366) .
(3) صحيح البخاري الحج (1534) ، سنن أبو داود المناسك (1800) ، سنن ابن ماجه المناسك (2976) ، مسند أحمد بن حنبل (1/24) .
(4) فتح الباري3 \ 429(59/250)
ومنها: أن الأحاديث الصحيحة قد دلت على أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالنسكين معا، وأنه جمع بينهما، لا أنه أحرم مفردا ثم أدخل العمرة على الحج. ثم إن المالكية والشافعية يرجحون أنه كان مفردا، فكيف يستقيم هذا مع الجمع بأنه كان قارنا آخر الأمر؟
أما القول بأن كل من روى عنه صلى الله عليه وسلم التمتع أراد به ما أمر به أصحابه، فيعترض عليه أن هناك أحاديث صحيحة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا (1) ، غير الأحاديث التي أمر بها أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة. والله أعلم.
ومن أحسن ما جاء في الجمع بين الأحاديث المروية في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم - من أحسن الجمع - ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: (والصواب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران، والذين روي عنهم أنه أفرد روي عنهم أنه تمتع) .
ثم ذكر - رحمه الله - المروي في ذلك، وجمع بين ذلك بما محصله: (أن التمتع عند الصحابة يتناول القران، فتحمل عليه رواية من روى أنه. حج متمتعا، وكل من روى الإفراد، قد روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعا وقرانا، فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد أعمال
__________
(1) والمراد به القران.(59/251)
الحج) .
وقد نقل ابن القيم ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وارتضاه، إلى أن قال ابن القيم: (قال (1) : وأما الذين نقل عنهم إفراد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر، والثلاثة نقل عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، أصح من حديثهما (أنه أفرد الحج) (2) ، وما صح في ذلك عنهما فمعناه: إفراد أعمال الحج، أو أن يكون وقع منه غلط كنظائره، فإن أحاديث التمتع متواترة، رواها أكابر الصحابة، كعمر وعثمان وعلي وعمران بن حصين، ورواها أيضا عائشة وابن عمر وجابر، بل رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة.
قلت - القائل ابن القيم -: وقد اتفق أنس وعائشة وابن عمر وابن عباس، على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، وإنما وهم ابن عمر في كون إحداهن في رجب، وكلهم قالوا: وعمرة مع حجته، وهم - سوى ابن عباس - قالوا: إنه أفرد الحج، وهم - سوى أنس - قالوا: تمتع، فقالوا: هذا وهذا وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم، فإنه تمتع تمتع
__________
(1) أي شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) هذه الجملة من مجموع الفتاوى 26 \ 73، ولا يستقيم الكلام بدونها وليست موجودة في الزاد.(59/252)
قران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النسكين، وكان قارنا باعتبار جمعه بين النسكين، ومفردا باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين، ومتمتعا باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين.
ومن تأمل ألفاظ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض، واعتبر بعضها ببعض، وفهم لغة الصحابة، أسفر له صبح الصواب، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب. والله الهادي لسبيل الرشاد، والموفق لطريق السداد.
فمن قال: إنه أفرد الحج، وأراد به أنه أتى بالحج مفردا، ثم فرغ منه وأتى بالعمرة بعده من التنعيم أو غيره - كما يظن كثير من الناس -، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أئمة الحديث. وإن أراد به أنه حج حجا مفردا لم يعتمر معه - كما قاله طائفة من السلف والخلف - فوهم أيضا، والأحاديث الصحيحة ترده كما تبين. وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده، ولم يفرد للعمرة أعمالا فقد أصاب، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث.
ومن قال: إنه قرن، فإن أراد به أنه طاف للحج طوافا على حدة، وللعمرة طوافا على حدة، وسعى للحج سعيا والعمرة سعيا، فالأحاديث الثابتة ترد قوله. وإن أراد أنه قرن بين النسكين، وطاف لهما طوافا واحدا، وسعى لهما سعيا واحدا، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله، وقوله هو الصواب.
ومن قال: إنه تمتع، فإن أراد أنه تمتع تمتعا حل منه ثم أحرم بالحج إحراما مستأنفا، فالأحاديث ترد قوله، وهو غلط. وإن أراد أنه(59/253)
تمتع تمتعا لم يحل منه، بل بقي على إحرامه لأجل سوق الهدي، فالأحاديث الكثيرة ترد قوله أيضا، وهو أقل غلطا. وإن أراد تمتع القران، فهو الصواب الذي تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة، ويأتلف به شملها، ويزول عنها الإشكال والاختلاف) .
قلت: فالراجح من الجمع بين الأحاديث هو ما ذكره شيخا الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد قال الشوكاني عن الجمع الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه جمع حسن.
(1)
__________
(1) نيل الأوطار 4 \ 310.(59/254)
المبحث السادس: أفضل الأنساك:
اختلف العلماء في الأفضل من الأنساك الثلاثة، وسبب اختلافهم في ذلك يرجع إلى اختلافهم في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، وذلك أنه - كما تقدم - قد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا.
فاختلف العلماء في الأفضل على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الإفراد هو الأفضل، وبه قال الإمام مالك (2) ، والإمام الشافعي في الصحيح من المذهب، إلا أن مذهب الشافعي اشترط ليكون الإفراد أفضل أن يعتمر بعد الحج في سنة
__________
(1) بداية المجتهد مع الهداية 5 \ 236، وشرح فتح القدير 2 \ 409.
(2) البيان والتحصيل 4 \ 76، والإشراف 1 \ 223، 224، وهداية السالك 2 \ 544، 545، والتمهيد 8 \ 205.(59/254)
الحج، أما إن أخر العمرة عن سنة الحج، فكل واحد من القران والتمتع أفضل، بلا خلاف - في المذهب - لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه (1) وممن قال بأن الإفراد أفضل الإمام أبو حنيفة في رواية عنه (2) .
والأدلة لهذا القول:
1 - قالوا: إنه النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج مفردا، على الصحيح - كما تقدم في المبحث الرابع -.
2 - قالوا: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أفردوا الحج، وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان، واختلف على علي، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على الإفراد، مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم (4) .
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال. بما يلي:
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردا، فالأحاديث الصحيحة الصريحة
__________
(1) المجموع 7 \ 151، والحاوي 4 \ 45 - 47، والاصطلام 2 \ 296.
(2) الاختيار 1 \ 158.
(3) تقدم أن أصحاب هذا القول يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا.
(4) المجموع 7 \ 163.(59/255)
ترد هذا القول كما تقدم وأما كون الخلفاء الراشدين فعلوا الإفراد، فإن الإفراد الذي فعله الخلفاء الراشدون الثلاثة: أبو بكر وعمر وعثمان وأمروا به، ليس مختلفا فيه أنه هو الأفضل عند الأئمة الأربعة، وهو أن ينشئ سفرا للعمرة من بلده ثم ينشئ سفرا آخر للحج من بلده، وإنما الخلاف في الأفضل هنا، هو فيمن جمع النسكين في سفرة واحدة، سواء كان قارنا أو متمتعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة، وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. وهو الإفراد، الذي فعله أبو بكر وعمر، وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي، وقال عمر وعلي في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) قالا: إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك. . .
(2) فالمراد بالمنقول عن هؤلاء الخلفاء الراشدين، هو أن ينشئ للعمرة سفرة، ثم ينشئ للحج سفرة أخرى. ويدل لذلك أنه لا من رواية عمر وأنس، وكذلك علي وعثمان وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا - كما تقدم - فكيف يروون بأسانيد صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قارنا ثم يخالفون ذلك؟ فعلم أن مرادهم هو هذا. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) مجموع الفتاوى 26 \ 85، 86.(59/256)
3 - قالوا: إن الدم الواجب بالقران والتمتع جبران للنقص؛ لأنه دم متعلق بالإحرام، أو يختص وجوبه بالإحرام، فأشبه الجزاء ونسك الأذى، وإذا ثبت أنه دم نقص وجبران، فالإتيان بالعبادة على وجه ليس فيه نقص ولا جبران أتم (1) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يصح من وجهين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وقد ثبت أنه كان متمتعا التمتع العام - أي القران - فإن القارن يدخل في مسمى التمتع، فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع، ودم الجبران ليس كذلك.
الثاني: أن سبب الجبران محظور في الأصل، كالإفساد بالوطء، وكفعل المحظورات أو ترك الواجبات، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر، ولا يترك الواجب إلا لعذر، والتمتع جائز مطلقا، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وأنه مما وسع الله به على المسلمين، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام والهدي مكانه، لما في الاستمرار من المشقة فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر، وبمنزلة الفطر للمسافر (2) .
قلت: ويمكن تلخيص الجواب عن الدليل الثالث: بأن الجميع قد اتفقوا على إباحة القران والتمتع، فدل أنهما غير ناقصين، وكيف يكون ناقصا وقد أباحه الله (3) .
__________
(1) الإشراف لعبد الوهاب 2 \ 223، 224، والمجموع 7 \ 163.
(2) ذكر هذين الوجهين شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 26 \ 58، 59.
(3) مختصر اختلاف العلماء 2 \ 103.(59/257)
ويضاف إلي ما تقدم، أنه لو كان الإفراد أفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان مفردا بفسخ الحج إلى عمرة (1) .
القول الثاني: أن أفضل الأنساك هو القران، وهو قول أبي حنيفة وزفر وإسحاق والثوري، وقول للشافعي، وبه قال المزني وأبو إسحاق المروزي وابن المنذر، والقاضي حسين من الشافعية، ولم ير أصحاب هذا القول أن القران أفضل بشرط سوق الهدي، بل رأوا أن القران أفضل مطلقا (2) .
والأدلة لهذا القول:
استدلوا بالأحاديث الصحيحة، التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا. قالوا: فلما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وهو إنما يختار لنفسه الأفضل، دل على أن القران أفضل الأنساك (3) .
ونوقش هذا الاستدلال:
بأنه وإن كان الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، لكن هذا لا يدل على أنه الأفضل؛ إذ لو كان القران هو الأفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان قارنا ولم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نقل أصحابه من الحج إلى المتعة، وتأسف كيفا لم يمكنه ذلك، ولو
__________
(1) كما تقدم في مبحث فسخ الحج إلى عمرة.
(2) مختصر اختلاف العلماء 2 \ 103، والأسرار لأبي زيد كتاب المناسك 90، والمبسوط 4 \ 25، والمجموع 7 \ 151.
(3) رءوس المسائل 253، 254، والمبسوط 4 \ 26.(59/258)
كان القران هو الأفضل لكان الأمر بالعكس (1) .
القول الثالث: أن أفضل الأنساك هو التمتع، وبه قال الإمام أحمد في الصحيح من المذهب، والشافعي في قول، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وعلي، وبه قال الحسن وعطاء وطاووس ومجاهد (2) .
وأدلة هذا القول:
الدليل الأول: استدلوا بالأحاديث الصحيحة عن ابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا، أن يحلوا ويجعلوها عمرة، وذلك في أحاديث صحيحة متفق عليها.
ومنها: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة (3) » ، (4) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، لهذا لما قال
__________
(1) انظر: العدة شرح العمدة 169.
(2) المغني 5 \ 82، والإنصاف 3 \ 334، وشرح الزركشي 3 \ 80، والمجموع 7 \ 151، والعدة 169.
(3) صحيح البخاري الحج (1651) ، صحيح مسلم الحج (1240) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) ، سنن أبو داود المناسك (1787) ، سنن ابن ماجه المناسك (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/366) .
(4) تقدم بعض هذه الأحاديث في مبحث فسخ الحج إلى عمرة.(59/259)
سلمة بن شبيب لأحمد: يا أبا عبد الله، قويت قلوب الرافضة (1) لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة - أي متعة الحج - فقال: يا سلمة كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق. عندي أحد عشر حديثا صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك؟
فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، حتى من كان منهم مفردا أو قارنا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم) (2) .
وقال شيخ الإسلام أيضا: ثبت أن المتعة أفضل من حجة مفردة ومن القران، من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنها آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أمرهم بها عينا، بعد أن خيرهم عند الميقات بينها وبين غيرها.
الثاني: أن التمتع ثبت لأصحابه الذين حجوا معه متمتعين بأمره، وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله عليه الصلاة والسلام لو كان الفعل معارضا.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بالمسلمين إلا هذه الحجة، وفيها أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وأحييت فيها مشاعر إبراهيم عليه
__________
(1) لأن الرافضة يوافقون أهل السنة والجماعة في أن التمتع هو أفضل الأنساك بل لا يجيزون غيره.
(2) مجموع الفتاوى 26 \ 54.(59/260)
الصلاة والسلام، فلم يكن الله ليختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من السبل إلا أقومها وأفضلها، وقد اختار لهم المتعة (1) .
وقد نوقش الاستدلال: بالأحاديث التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة، وتأسفه على سوق الهدي، ليفعل مثل ما أمرهم به، بأنه إنما أمرهم بذلك ليبين لهم جواز العمرة، وليبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاعتمار في أشهر الحج (2) .
وأجيب عن هذه المناقشة:. بما تقدم في مبحث فسخ الحج إلى عمرة (3) .
أما القول بأنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (4) » ؛ تطييبا لقلوب أصحابه، لحزنهم على فوات موافقته، ففاسد، لأن المقام مقام تشريع للعباد، وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يخبر. مما يدل على أن ما فعلوه من التمتع أفضل مما استمروا عليه من القران، والأمر على خلاف ذلك، وهل هذا إلا تغرير يتعالى عنه مقام النبوة (5) .
الدليل الثاني: أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى، بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (6) وذلك دون سائر الأنساك (7)
__________
(1) شرح العمدة 1 \ 442، 443، وانظر: المغني 5 \ 88.
(2) انظر: المصدرين السابقين.
(3) ص 215 - 227.
(4) صحيح البخاري الحج (1651) ، صحيح مسلم الحج (1240) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) ، سنن أبو داود المناسك (1787) ، سنن ابن ماجه المناسك (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/366) .
(5) انظر: نيل الأوطار 4 \ 311.
(6) سورة البقرة الآية 196
(7) المغني 5 \ 88.(59/261)
الدليل الثالث: أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج، مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسهولة، مع زيادة لنسك هو الدم، فكان ذلك هو الأولى (1) .
قال الشوكاني في نيل الأوطار: (وفي الجملة لم يوجد شيء من الأحاديث ما يدل على أن بعض الأنواع أفضل من بعض غير هذا الحديث - حديث «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (2) » - قال: فالتمسك به متعين، ولا ينبغي أن يلتفت إلى غيره من المرجحات، فإنها في مقابله ضائعة) (3) .
القول الرابع: أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل.
وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (4) .
ودليل هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي، ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه (5) .
إذا فأي الأنساك أفضل؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن الأفضل، قال:
__________
(1) المصدر السابق، والعدة ص 169.
(2) صحيح البخاري الحج (1651) ، صحيح مسلم الحج (1240) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) ، سنن أبو داود المناسك (1787) ، سنن ابن ماجه المناسك (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/366) .
(3) نيل الأوطار 4 \ 311.
(4) مجموع الفتاوى 26 \ 62، 84 والإنصاف 3 \ 434، وزاد المعاد 2 \ 142، 143.
(5) مجموع الفتاوى 26 \ 101، 102، والمغني 3 \ 83، والإنصاف 3 \ 434، وزاد المعاد 2 \ 142، 143.(59/262)
(فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج سفرة أخرى، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة) (1) وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر، وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي رضي الله عنه (2) .
ثم قال: (وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل؛ فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن بين الحج والعمرة، فقال: «لبيك عمرة وحجا (3) » . (4) .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - أثناء كلامه على الراجح من الأنساك -: (ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها ثم أراد أن يسافر أخرى للحج فتمتعه أفضل له من الحج، فإن كثيرا من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 101.
(2) مجموع الفتاوى 26 \ 85.
(3) صحيح البخاري الحج (1551) ، صحيح مسلم الحج (1232) ، سنن الترمذي الحج (821) ، سنن النسائي مناسك الحج (2731) ، سنن أبو داود المناسك (1795) ، سنن ابن ماجه المناسك (2968) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) ، سنن الدارمي المناسك (1924) .
(4) مجموع الفتاوى 26 \ 101.(59/263)
فأمرهم بالتمتع ولم يأمرهم بالإفراد، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة) (1) .
قلت: فيتلخص من كلام شيخ الإسلام:
1 - أن جعل النسكين في سفرتين أفضل من جلهما في سفرة واحدة.
2 - أن جعل النسكين في سفرة واحدة أفضل من سفرة واحدة بالحج وحده.
3 - أن من أتى بالعمرة في سفرة وأتى بالحج في سفرة أخرى، إلا أنه في سفرته للحج كان متمتعا، أفضل ممن سافر للعمرة ثم سافر للحج وحده، وأن الأفضل له في سفرته للحج إن لم يسق الهدي أن يكون متمتعا.
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 88.(59/264)
الخاتمة:
أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث أجملها في النقاط التالية:
1 - أن القران يدخل في مسمى التمتع في عرف السلف، فتحمل الأحاديث المروية في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا على أن المراد بالتمتع في هذه الأحاديث هو القران.
2 - أن عمل المفرد والقارن واحد عند جمهور العلماء، إنما يزيد القارن في الهدي فقط، وعلى هذا فتحمل الأحاديث المروية في أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج على أن المراد أفرد عمل الحج، ولم يأت بعمل(59/264)
يخص به العمرة.
3 - أن العلماء لم يتفقوا على جواز التخيير بين الأنساك الثلاثة:
التمتع والإفراد والقران، وإنما هذا هو قول أكثر أهل العلم.
4 - أن المحرم مخير بين الأنساك الثلاثة، يحرم بأيها شاء على القول الراجح.
5 - أنه يجوز، بل يستحب فسخ حج القارن والمفرد إذا لم يسوقا الهدي إلى عمرة ليتمتعا بها، أما من ساق الهدي فلا يجوز له فسخ ما أحرم به.
6 - أن وجوب الفسخ خاص بالصحابة رضي الله عنهم، أما الجواز والاستحباب فهو عام لكل أحد.
7 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا على الصحيح من الأقوال.
8 - أنه يمكن الجمع بين الأحاديث المروية في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن التمتع عند الصحابة يتناول القران، فتحمل عليه رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا، وكل من روى الإفراد فقد روى أنه حج صلى الله عليه وسلم تمتعا وقرانا، فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد عمل الحج.
9 - بالنسبة لأي الأنساك الثلاثة أفضل، فهذا يتنوع باختلاف حال الحاج؛ فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج أخرى، فهذا الإفراد في حقه أفضل من جعل النسكين في سفرة واحدة، تمتعا أو قرانا.
وأما إذا جعل النسكين في سفرة واحدة، فالأفضل في حقه(59/265)
التمتع إن لم يسق الهدي، أما إن ساق الهدي فالأفضل له القران.
وكذلك الذي أتى بالعمرة في سفرة، ثم أراد أن يحج بسفرة أخرى، فالأفضل له التمتع؛ لأنه يكون قد أتى بعمرتين وحجة، وهذا أفضل ممن أتى بعمرة وحجة.(59/266)
حكم صيام عشر ذي الحجة
للدكتور \ عبد الرحمن بن صالح بن محمد الغفيلي (1)
أولا: المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فلقد شرع الله تعالى لعباده دينا قويما، سمحا يسيرا، لا عنت فيه، ولا حرج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (2) ، شاملا لجوانب الحياة كلها، دينية ودنيوية، أعمال جوارح وأعمال قلوب، أخلاق وآداب، وغير ذلك من الأحكام. ثم نوع ما شرع اختبارا وامتحانا، ورحمة وتيسيرا، وذلك كي يختبر أفعال المكلف، هل تقتصر في ذلك على ما يوافق طبعه وهواه، أو يعمل ما به رضا مولاه؟ ثم إن هذا التنوع الوقتي، أو النوعي، يطرد الملل، ويذهب السأم، ويجدد النشاط؛ ألا ترى أن العبادات منها ما هو بدني محض،
__________
(1) أستاذ الفقه المساعد بكلية المعلمين بمحافظة الرس.
(2) سورة الحج الآية 78(59/267)
كالصلاة، ومنها ما هو مالي محض، كالزكاة، ومنها ما هو مالي بدني، كالحج. ثم إن منها ما يكون لازما في اليوم والليلة خمس مرات، كالصلوات الخمس، ومنها ما هو على مدار الأسبوع كالجمعة، ومنها ما هو في السنة مرة واحدة، كصوم رمضان، ومنها ما هو في العمر مرة واحدة، وهو الحج إلى بيت الله الحرام.
ثم جعل الله المواسم والمناسبات الفاضلة تتكرر على عباده عاما بعد عام، وسنة بعد سنة؛ لتكون مغنما للطائعين، وميدانا لتنافس المتنافسين، كصوم رمضان، وحج البيت الحرام، والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة، التي شرفها الله على سائر الأيام، وذلك لما شرع الله تعالى فيها من أنواع العبادات، وبخاصة الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج. لذا كان الكلام عن بعض أحكامها، أو بعض ما يتعلق فيها، من الأهمية بمكان. ولذا عزمت مستعينا بالله تعالى أن أبحث مسألة (حكم صيام عشر ذي الحجة) ، وقد دفعني لذلك عدة أسباب منها:(59/268)
1 - أهمية المسألة، حيث إنها تتعلق بعمل وزمن فاضلين، فهو صيام، ولا يخفى فضله وثوابه، وزمانه وهو عشر ذي الحجة، ومعلوم ما فيها من الفضل والشرف على سائر أيام الدنيا.
2 - كثرة سؤال الناس عن حكم صيامها كلما حلت العشر على المسلمين.
3 - لم يسبق - حسب علمي - أن كتب في هذه المسألة بحث تخصصي يجمع ما قيل فيها، ويحرر أدلتها، ويناقشها؛ لذا أحببت المشاركة في ذلك خدمة للعلم وأهله.
4 - ما أثاره بعض الفضلاء من طلبة العلم - في السنوات الأخيرة - من القول بعدم مشروعية صيامها، واعتبار ذلك من الأخطاء التي يقع فيها العامة.
لذلك كله رغبت أن أحرر حكمها، وأجمع ما قاله أهل العلم فيها وسميته: (حكم صيام عشر ذي الحجة) ، وقد اشتمل على ما يأتي:
أولا: المقدمة، وفيها أهمية المسألة، وأسباب بحثها.
ثانيا: التمهيد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فضل عشر ذي الحجة.
المطب الثاني: الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة.
ثالثا: حكم صيام عشر ذي الحجة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صيام يوم عرفة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: صيام يوم عرفة لغير الحاج.
المطلب الثاني: صيام يوم عرفة للحاج.
المبحث الثاني: صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة،(59/269)
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: كلام الفقهاء في المسألة.
المطلب الثاني: الأدلة المثبتة لاستحباب صيامها.
المطلب الثالث: ما جاء في الاختلاف في صيام النبي صلى الله عليه وسلم لها.
المطلب الرابع: شبهات حول صيامها والجواب عنها.(59/270)
ثانيا: التمهيد:
المطلب الأول: فضل عشر ذي الحجة:
من الحكم الإلهية، والدلائل الربانية، أن فضل الله بعض مخلوقاته على بعض، ومنحها مزايا وفضائل لا توجد في غيرها، وذلك لحكمة ربانية، قد نعلمها وقد لا نعلمها؛ فجعل الحرم المكي أفضل البقاع وأشرفها، وجعل بعض الشهور أفضل من بعض، وخصها بمزيد من الفضل والثواب والشرف، فقال سبحانه وتعالى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (1) ، وقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) ، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (3) . كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأقسم. بالعشر، وهي عشر ذي الحجة، على الصحيح،
__________
(1) سورة التوبة الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة البقرة الآية 185(59/270)
وما من موسم من هذه المواسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه. فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات (1) .
وقد فضل الله عشر ذي الحجة على سائر الأيام، وجعل العمل الصالح فيها أحب إليه من العمل في غيرها.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء (2) » وعنه أيضا قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عمل أزكى عند الله - عز وجل - ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى. قال: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء (3) » .
__________
(1) طائف المعارف، ص40.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق (1 \ 306) ، وأبو داود في كتاب الصوم، باب صوم العشر (2 \ 815) ، وهذا لفظه.
(3) أخرجه الدارمي في كتاب الصوم، باب فضل العمل بالعشر (2 \ 41) ، والطحاوي في مشكل الآثار (4 \ 114) ، وقال الألباني في إرواء الغليل (3 \ 398) : ((وإسناده حسن)) .(59/271)
فهذان الحديثان وغيرهما، يدلان على تفضيل العمل في العشر على العمل في سائر الأيام، ولذا أقسم الله تعالى بها، والإقسام بالشيء دليل على أهميته ومكانته، اقال تعالى: {وَالْفَجْرِ} (1) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (2) والمراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة، كما هو قول ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف (3) ، ورجحه ابن كثير (4) ، وابن رجب (5) ، ونسبه الشوكاني في تفسيره إلى جمهور المفسرين (6) .
قال ابن كثير (7) : (وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من صلاة، وصيام، وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل: ذلك أفضل، لاشتماله على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذلك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم) .
وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟
__________
(1) سورة الفجر الآية 1
(2) سورة الفجر الآية 2
(3) ينظر: تفسير ابن كثير 5 \ 412.
(4) ينظر: المصدر السابق الجزء والصفحة.
(5) ينظر: لطائف المعارف، ص 470.
(6) ينظر: فتح القدير 5 \ 432.
(7) تفسير ابن كثير 5 \ 412.(59/272)
فأجاب بقوله (1) : (أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
قال ابن القيم: وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب، وجده شافيا كافيا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية.
وأما ليالي عشر رمضان، فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة) .
وبهذا كله يظهر ما لهذه العشر من المكانة، وما للعمل فيها من الفضل، حيث لم يستثن النص إلا عملا واحدا، وهو المجاهد الذي خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء، أما بقية أنواع الجهاد، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منه، وكذلك سائر الأعمال، وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه، لمضاعفة ثوابه وأجره (2) .
وقد علل الحافظ ابن حجر المسوغ لهذا الفضل وهذه المكانة بقوله (3) : (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة،
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 25 \ 287.
(2) ينظر: لطائف المعارف، ص 459.
(3) فتح الباري 2 \ 460.(59/273)
لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره) .
هذه بعض النصوص الدالة على فضل عشر ذي الحجة، وأقوال أهل العلم فيها، وسيأتي بعد ذلك الأعمال التي شرع للمسلم أن يعملها في هذه العشر.(59/274)
المطلب الثاني: الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة:
إذا عرف المسلم فضل عشر ذي الحجة، وشرف العمل الصالح فيها، فحري به أن يجاهد نفسه لاستغلالها، وتنويع القربات فيها، واغتنام أيامها ولياليها بالعمل الصالح، لذا كان لازما عليه أن يعرف الأعمال التي ينبغي أن يحافظ عليها، مما شرعه الله فيها، ومن ذلك:
1 - أداء الحج والعمرة: والحج من أفضل القرب، وأعظم الطاعات، وهو أشرف عمل يؤديه المسلم في هذه الأيام، لما فيه من الثواب العظيم، والأجر الجزيل، الموهوب بلا عد، ولا حد، من صاحب المن والفضل.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، باب فضل الحج المبرور (1 \ 470، 471) .
(2) الرفث: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. (النهاية في غريب الحديث والأثر 2 \ 214) . (1)(59/274)
أمه (1) » .
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور (3) » .
فهذه الشعيرة العظيمة عمل من أعمال هذه العشر، ويكون مبرورا إذا وفيت أحكامه، ووقع على أكمل الوجوه، خاليا من الآثام، محفوفا بالصالحات والخيرات (4) .
فإذا توفرت الشروط، وانتفت الموانع، وجب على المكلف أن يبادر إلى فريضة الحج، ولا يجوز له أن يؤخرها؛ لأن الموانع قد تطرأ، فتحول بينه وبين الحج، فيقع في الإثم، فإن أخر لغير عذر كان آثما؛ لأن الحج واجب على الفور على الراجح من قولي أهل العلم (5) .
2 - التكبير: يسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر، وذلك في المساجد، والأسواق والمنازل، بل في كل
__________
(1) الفسق: الخروج عن الاستقامة، والجور، وبه سمي العاصي فاسقا. (النهاية في غريب الحديث والأثر 3 \ 446) . (2)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العمرة، باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها (1 \ 537) .
(3) (2) ليس له جزاء إلا الجنة
(4) ينظر: فتح الباري 3 \ 383، وشرح السنة 7 \ 6.
(5) ينظر: الاختيارات الفقهية ص 115.(59/275)
موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، حيث يقول الله تعالى في ذلك: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) والأيام المعلومات هي أيام العشر؛ لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الأيام المعلومات: أيام العشر. والأيام المعدودات: أيام التشريق) .
وهو قول أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي (2) .
وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد (3) ولم يثبت في ذلك صفة خاصة، إنما هي عن الصحابة رضوان الله عليهم، قال الصنعاني (4) . (وفي الشرع صفات كثيرة، واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك) .
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) ينظر: تفسير ابن كثير 5 \ 411.
(3) ينظر: المغني 3 \ 290.
(4) سبل السلام 2 \ 125(59/276)
ويكون مطلقا، ومقيدا. فالمطلق في كل حال: في الأسواق، والمنازل، والطرق وغيرها. والمقيد عقب الصلوات المفروضة (1) .
ووقت المطلق من دخول عشر ذي الحجة، حتى انتهاء الإمام من خطبة صلاة العيد. والمقيد من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق (2) .
وقد ثبت أن ابن عمر، وأبا هريرة رضي الله عنهم كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما (3) .
هذه من السنن التي غفل عنها كثير من الناس في هذا الزمان، ولذا يتأكد إحياؤها، لأنه كلما اندرست سنة من السنن، كان التأكيد عليها ألزم، إحياء للسنة.
3 - الأضحية: الأصل في حكم الأضحية الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب: فيقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) (والمراد بالنحر ذبح المناسك، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد، ثم ينحر نسكه) (5) .
وأما السنة: فعن أنس رضي الله عنه قال: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ينظر: كشاف القناع 2 \ 57 - 58.
(2) ينظر: الشرح الممتع 5 \ 211.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق (1 \ 306) .
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) تفسير ابن كثير 8 \ 524.(59/277)
بكبشين أملحين، يسمي، ويكبر، فذبحهما بيده (2) » .
قال ابن القيم (3) : (ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع الأضحية) .
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، وأنها من شعائر الدين الظاهرة (4) ؛ بل اعتبرها بعض الأئمة من باب الواجبات (5) .
لذا كان حريا بالمسلم أن يحافظ على هذه الشعيرة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
4 - صلاة العيد: صلاة العيد شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، التي حث عليها الشرع المطهر، وسنة مؤكدة عند جماهير العلماء (6) ، بل اعتبرها بعض المحققين واجبة، ومنهم شيخ الإسلام
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأضاحي، باب من ذبح الأضاحي بيده (4 \ 7) .
(2) (1) ، فرأيته واضعا يده على صفاحهما
(3) زاد المعاد 2 \ 317.
(4) ينظر: فتح الباري 10 \ 5.
(5) ينظر: المصدر السابق الجزء والصفحة.
(6) ينظر: المجموع 5 \ 3، والمغني 3 \ 253.(59/278)
ابن تيمية (1) ، وتلميذه ابن القيم (2) ، والشوكاني (3) ، وغيرهم.
لذا ينبغي على المسلم الحرص عليها، وعدم التساهل بها، وحث الأولاد والصغار على حضورها، وذلك إظهارا لهذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، إذ إن من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لازم هذه الصلاة في العيدين، ولم يتركها في عيد من الأعياد، وأمر الناس بالخروج إليها، حتى أمر بخروج النساء العواتق، وذوات الخدور، والحيض، وأمر الحيض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها (4) .
5 - الإكثار من العمل الصالح: العمل الصالح محبوب لله تعالى في كل زمان ومكان، ولكن من حكم الله تعالى البالغة أن شرف بعض الأزمنة والأمكنة، فمن الأزمنة الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يضاعف فيها الجهود عشر ذي الحجة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر (5) » . فالعمل في هذه الأيام أحب إليه تعالى من العمل فيما سواها من الأيام، وهذا ليس مقتصرا على الحج إلى بيت الله الحرام، بل يشمل ذلك الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، وصلة الرحم،
__________
(1) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 161.
(2) ينظر: كتاب الصلاة ص 29.
(3) ينظر: السيل الجرار 1 \ 315.
(4) المقاصد الحسنة ص 42.
(5) سبق تخريجه.(59/279)
وبر الوالدين، وزيارة المريض، وغير ذلك مما أمر الله تعالى به.
6 - الصيام: الصيام فضله عظيم، وأجره كبير، ويكفي فيه فضلا أن الله اصطفاه لنفسه، عندما قال في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، هو لي وأنا أجزي به (1) » .
وسيأتي الكلام مفصلا عن الصيام في عشر ذي الحجة في المباحث التالية إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام (2 \ 806) .(59/280)
ثالثا: حكم صيام عشر ذي الحجة:
المبحث الأول: صيام يوم عرفة:
المطلب الأول: صيام يوم عرفة لغير الحاج:
اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج (1) ، وذلك لما جاء عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية (2) » .
(وهذا فضل عظيم، وخير كثير من الله تعالى. والفضائل لا تدرك بنظر، ولا مدخل فيها لقياس، فإن الله تعالى منعم متفضل، له أن يتفضل بما شاء، على من يشاء، فيما يشاء من الأعمال، ولا
__________
(1) ينظر: المبسوط 3 \ 92، وبلغة السالك 1 \ 227، والحاوي الكبير 3 \ 472، والمغني 4 \ 443.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والاثنين والخميس 2 \ 819.(59/280)
معقب لحكمه، ولا راد لفضله) (1) .
وهذا النص محمول على غير الحاج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج وقف بعرفة مفطرا (2) ، وأما الحاج فسنتكلم عنه في المطلب الثاني إن شاء الله.
__________
(1) التمهيد 19 \ 26.
(2) ينظر: فتح الباري 4 \ 279.(59/281)
المطلب الثاني: صيام يوم عرفة للحاج:
عرفنا فضل صوم يوم عرفة، واستحباب صيامه لغير الحاج، أما الحاج فقد اختلف الفقهاء فيه، هل يصوم يوم عرفة أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، إذا كان ذلك لا يضعفه عن أعمال عرفة، فإن كان يؤثر عليه كره في حقه، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقديم قولي الشافعي (2) ، وبه قال قتادة (3) ، وعطاء (4) دليل هذا القول: استدل أصحاب هذا القول على استحبابه للقوي الذي لا يضعفه الصوم عن أعمال عرفة بحديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عرفة فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية (5) » حيث حملوا ذلك على
__________
(1) ينظر: الفتاوى الهندية 1 \ 201.
(2) ينظر: المجموع 6 \ 380.
(3) ينظر: مصنف عبد الرزاق 4 \ 284، وفتح الباري 4 \ 280.
(4) ينظر: الحاوي الكبير 3 \ 472، والمغني 4 \ 444.
(5) سبق تخريجه.(59/281)
من لم يضعفه صيامه عن الذكر، والدعاء المطلوب للحاج، أما من يضعفه فلا يسن الصوم في حقه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطرا (1) ، ولأن كراهية صومه معللة بالضعف عن الدعاء ونحوه، فإذا زالت العلة رجع الحكم الأصلي للمسألة (2) .
واعترض عليه: بأن المراد بحديث أبي قتادة غير الحاج، أما الحاج فلا يشرع في حقه الصيام، استدلالا بوقوف النبي صلى الله عليه وسلم مفطرا (3) ، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
القول الثاني: يستحب صيامه للحاج كغيره، وهو قول عائشة، وابن الزبير رضي الله عنهما (4) ، وإسحاق (5) ، والظاهرية (6) .
الأدلة: استدل أصحاب هذا القول على مشروعية صيام يوم عرفة بعرفة. بما يأتي:
الدليل الأول: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عرفة، فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية (7) » .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حض على صيام
__________
(1) ينظر: فتح الباري 4 \ 279.
(2) ينظر: المغني 4 \ 444.
(3) ينظر: المجموع 6 \ 379.
(4) ينظر: المغني 4 \ 444
(5) ينظر: الحاوي الكبير 3 \ 472.
(6) ينظر: المحلى 7 \ 17.
(7) سبق تخريجه.(59/282)
يوم عرفة، ولم يفرق بين من كان بعرفة، وبين غيره، فدل على مشروعية الصيام في حق الجميع.
ويمكن أن يعترض عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم حض على صيامه لغير الحاج، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج وقف مفطرا، (1) ، كما سيأتي إن شاء الله.
الدليل الثاني: عن الحسن البصري أنه سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: (صامه عثمان بن عفان في يوم حار يظلل عليه) (2)
ويمكن أن يعترض عليه بأمرين:
الأمر الأول: أن النص لم يدل على أن عثمان رضي الله عنه كان حاجا، إذ قد يصومه في يوم حار وهو في المدينة، سيما وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عثمان رضي الله عنه لم يصمه (3) .
الأمر الثاني: إذا سلم صيام عثمان رضي الله عنه له بعرفة، فهو اجتهاد منه، ولا عبرة في اجتهاده في مقابلة فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثالث: عن محمد بن أبي بكر الصديق أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة بالحج (4) .
ويمكن أن يعترض عليه: بأن صيام عائشة رضي الله عنها لعرفة بعرفة اجتهاد منها، يقابله ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصيامه في عرفة،
__________
(1) كما سيأتي في الدليل الأول والثاني من أدلة القول الثالث.
(2) أخرجه ابن حزم في المحلى 7 \ 19.
(3) كما سيأتي في الدليل الخامس من أدلة القول الثالث.
(4) أخرجه ابن حزم في المحلى 7 \ 19.(59/283)
واتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من متابعة عائشة رضي الله عنها في اجتهادها.
القول الثالث: لا يستحب صيامه للحاج، وهو مذهب المالكية (1) ، والمعتمد من مذهب الشافعية (2) ، ومذهب الحنابلة (3) ، وهو قول أكثر العلماء (4) .
الأدلة: استدل أصحاب هذا القول على أنه لا يستحب صيامه للحاج. مما يأتي:
الدليل الأول: عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها.
«أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره، فشربه (5) » .
الدليل الثاني: عن ميمونة رضي الله عنها: «أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب، وهو واقف في الموقف، فشرب منه، والناس ينظرون (7) » .
__________
(1) ينظر: بلغة السالك 1 \ 227.
(2) ينظر: الحاوي الكبير 3 \ 472، والمجموع 3 \ 379، 380.
(3) ينظر المغني 4 \ 444، وشرح منتهى الإرادات 1 \ 459.
(4) ينظر: المغني 4 \ 444.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الوقوف على الدابة بعرفة 1 \ 509.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحصر، باب صوم يوم عرفة (6 \ 56) .
(7) الحلاب: الإناء الذي يحلب فيه اللبن. (النهاية في غريب الحديث 1 \ 421) . (6)(59/284)
وجه الدلالة من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوم عرفة بعرفة مفطرا، وهذا دليل على استحباب الفطر يوم عرفة بعرفة (1) .
الدليل الثالث: عن أبي - هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة (2) » .
وجه الدلالة: أن الحديث نهى الحاج أن يصوم في عرفة، وذلك كي لا يضعف عن القيام بالشعائر في ذلك اليوم (3) .
واعترض عليه: بأن في سنده مهدي بن حرب؛ قال يحيى بن معين: (لا نعرفه) (4) . وبنحوه قال أبو حاتم (5) وقال ابن حزم: (مجهول) (6) ولذا قال ابن حزم بعد
__________
(1) فتح الباري 4 \ 280.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب في صوم يوم عرفة بعرفة (2 \ 816) ، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب صيام يوم عرفة (1 \ 551) ، وأحمد في المسند (2 \ 304) ، والحاكم في كتاب الصوم (1 \ 434) ، والبيهقي في السنن، كتاب الصيام، باب الاختيار للحاج في ترك صوم يوم عرفة (4 \ 283) .
(3) ينظر: معالم السنن 2 \ 131.
(4) الجرح والتعديل 8 \ 337.
(5) ميزان الاعتدال 4 \ 195.
(6) المحلى 7 \ 18.(59/285)
ذكره للحديث (1) : (ومثل هذا لا يحتج به) . وقال النووي (2) : (إسناده فيه مجهول) . وقال ابن القيم (3) : (وفي إسناده نظر) .
ويمكن أن يجاب عنه: بأن بعض العلماء قد وثقه، فذكره ابن حبان في الثقات (4) ، وقال الحافظ في التقريب (5) : (مقبول) ، ولذا صححه ابن خزيمة (6) ، وقال الحاكم (7) : (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي (8) .
الدليل الرابع: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب (9) » .
__________
(1) المصدر السابق الجزء والصفحة.
(2) المجموع 6 \ 380.
(3) زاد المعاد 1 \ 61.
(4) 7 \ 501 / 7 \ 501.
(5) 2 \ 279 / 2 \ 279.
(6) صحيح ابن خزيمة 3 \ 292.
(7) المستدرك على الصحيحين 1 \ 434.
(8) ينظر: التلخيص 1 \ 434.
(9) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق (3 \ 143) ، والترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق (3 \ 143) ، وأحمد في المسند (4 \ 152) ، والحاكم في كتاب الصوم (1 \ 434) ، والبيهقي في السنن، كتاب الصيام، باب الأيام التي نهي عن صومها (4 \ 298) . قال الترمذي بعد ذكره الحديث: ((وحديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح)) ، وقال الحاكم: ((هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)) . ووافقه الذهبي.(59/286)
وجه الدلالة: أن الحديث نص في أن يوم عرفة يوم عيد، وأكل وشرب، وذلك في حق أهل عرفه. قال ابن القيم (1) : (قال شيخنا: وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم) . وإذا كان يوم عرفة في حقهم يوم عيد فلا يشرع صومه.
الدليل الخامس: عن أبي نجيح قال: (سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن يوم عرفة، قال: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر به، ولا أنهى عنه) .
وجه الدلالة: أن هذا النص دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وثلاثة من الخلفاء الراشدين كلهم وقفوا بعرفة مفطرين، ويبعد أن يستحب صيامه - مع ما جاء من عظيم الفضل فيه - ويقفون مفطرين، فدل على أنه لا يشرع صيامه لمن كان واقفا بعرفة.
الراجح: يظهر أن الراجح هو القول الثالث المتضمن عدم
__________
(1) زاد المعاد 1 \ 62.(59/287)
استحباب صوم عرفة للحاج، وذلك كي يتفرغ الحاج لأعمال الوقوف بعرفة والدعاء (1) ، وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والخير كل الخير في السير على نهجهم، واتباع طريقهم. والله أعلم.
__________
(1) ولأنه في حكم المسافر أو هو مسافر فعلا.(59/288)
المبحث الثاني: صيام الأيام الثمانية الأول من ذي الحجة: تقدم فضل صيام يوم عرفة لغير الحاج، وخلاف الفقهاء في استحبابه لمن كان حاجا، وأما صيام الأيام الثمانية الأول من ذي الحجة فسنتكلم عنها في المطالب التالية:
المطلب الأول: كلام الفقهاء في المسألة:
اتفق فقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم، على استحباب صوم الأيام الأول من ذي الحجة.
قال في المبسوط (1) .
وقال في الفتاوى الهندية (2) : (ويستحب صوم تسعة أيام من أول ذي الحجة) .
وقال في مواهب الجليل (3) : (يستحب - يعني صيامها - استحبابا شديدا، لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة) .
وقال في إحياء علوم الدين (4) : (اعلم أن استحباب الصوم
__________
(1) 3 \ 92.: ((الصوم في هذه الأيام مندوب إليه))
(2) 1 \ 201.
(3) 2 \ 402
(4) 1 \ 392.(59/288)
يتأكد قي الأيام الفاضلة. . . - وذكر - والعشر الأول من ذي الحجة) .
وقال في روضة الطالبين (1) : (ومن المسنون صوم عشر ذي الحجة، غير العيد) .
وقال في المقنع (2) : (ويستحب صوم عشر ذي الحجة) .
وقال ابن حزم (3) : (ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر) .
وقال القرطبي (4) : (وصومها مستحب استحبابا شديدا، لا سيما التاسع، وهو يوم عرفة) .
وقال النووي (5) : (فليس في صوم هذه التسعة كراهية، بل هي مستحبة استحبابا شديدا، لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة) .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة قولهم (6) : (أفضل الأيام لصيام التطوع الاثنين والخميس، وأيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، وعشر ذي الحجة) .
وجاء في فتوى أخرى قولهم (7) : (فإذا أردت أن تصوم فإنك
__________
(1) 2 \ 388.
(2) ص 66.
(3) المحلى 7 \ 19.
(4) المفهم شرح صحيح مسلم 4 \ 1972.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 71.
(6) 10 \ 385 رقم الفتوى: (12128) .
(7) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 10 \ 393 رقم الفتوى: (4052) .(59/289)
تصوم هذا اليوم - يعني يوم عرفة - وإن صمت يوما قبله فلا بأس، وإن صمت الأيام التسعة من أول ذي الحجة فحسن؛ لأنها أيام شريفة يستحب صومها) .
وقال في الشرح الممتع وهو يتكلم عن قول المصنف في صيام أيام التطوع: (وتسع ذي الحجة) (1) : (وتسع ذي الحجة تبدأ من أول يوم من ذي الحجة، وتنتهي باليوم التاسع، وهو يوم عرفة، وقد رجح الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها (2) ، فإن ثبت هذا فهو المطلوب، وإن لم يثبت فإن صيامها داخل في عموم الأعمال الصالحة) .
وبذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما (3) ، وابن سيرين، وقتادة (4) ، والحسن (5) ، ومجاهد (6) وغيرهم.
__________
(1) 6 \ 471، 472.
(2) سيأتي الكلام مفصلا عن الخلاف في صحة ما جاء في ذلك في المطلب الثاني إن شاء الله.
(3) ينظر: لطائف المعارف ص 461.
(4) ينظر: المصدر السابق ص 460.
(5) ينظر: مصنف عبد الرزاق 4 \ 378.
(6) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة 3 \ 41.(59/290)
المطلب الثاني: الأدلة المثبتة لاستحباب صيامها:
استدل العلماء على القول باستحباب صيام الأيام الثمانية الأول من ذي الحجة بما يأتي:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم(59/290)
قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء (1) » .
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير تعمله في عشر الأضحى. قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه، وماله فلم يرجع من ذلك بشيء (2) » .
وجه الدلالة من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أفضل العمل الصالح عند الله تعالى العمل في عشر ذي الحجة، والعمل الصالح عام يشمل الصيام، لذا ينبغي أن يكون مستحبا، كسائر العمل الصالح (3) .
قال ابن حزم (4) : (ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثنا. . . -، وذكر الحديث، ثم قال -: قال أبو محمد: وهو عشر ذي الحجة، والصوم عمل بر، فصوم عرفة يدخل فيه أيضا) .
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سبق تخريجه
(3) ينظر: نيل الأوطار 5 \ 247.
(4) المحلى 7 \ 19.(59/291)
وقال ابن رجب (1) : (وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في الحشر من غير استثناء شيء منها) . وقال ابن حجر (2) : (واستدل به - يعني بحديث ابن عباس - على فضل صيام عشر ذي الحجة، لاندراج الصوم في العمل) .
الدليل الثالث: عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر (3) » .
وجه الدلالة: أن الحديث صريح في إثبات صيام النبي صلى الله عليه وسلم لتسع ذي الحجة، وهذا دليل على استحبابها.
وهذا الحديث لو ثبت لكان نصا في المسألة، إلا أنهم قد اختلفوا في تصحيحه، حيث أخرجه أبو داود (4) ، والنسائي (5) وأحمد في مسنده (6) ، والبيهقي في سننه (7) ، كلهم من طريق أبي عوانة عن الحر بن
__________
(1) لطائفة المعارف ص 460.
(2) فتح الباري 2 \ 534.
(3) سنن النسائي الصيام (2372) ، سنن أبو داود الصوم (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .
(4) في كتاب الصوم، باب في صوم العشر 2 \ 815.
(5) في كتاب الصيام، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك (4 \ 220) .
(6) 5 \ 271.
(7) في كتاب الصيام، باب العمل الصالح في العشر من ذي الحجة (4 \ 285) .(59/292)
الصباح عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. . . (1) » الحديث.
وأخرجه أيضا النسائي (2) ، وأحمد في مسنده (3) ، وابن حبان (4) ، من طريق أبي إسحاق الأشجعي الكوفي، وقال حدثنا عمر بن قيس الملائي عن الحر بن الصباح، عن هنيدة بن خالد
__________
(1) سنن النسائي الصيام (2372) ، سنن أبو داود الصوم (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .
(2) في كتاب الصيام، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك 4 \ 220.
(3) 6 \ 287.
(4) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب التاريخ، باب من صفته صلى الله عليه وسلم وأخباره (8 \ 112) .(59/293)
الخزاعي، عن حفصة قالت: «أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام يوم عاشوراء والعشر. . . (1) » الحديث. وهذا الطريق ضعيف؛ لأن أبا إسحاق مجهول (2) . وجاء عن النسائي عن هنيدة عن أمه، عن أم سلمة (3) . ولذلك كله فقد اختلفوا في صحته.
فقال المنذري (4) : اختلف فيه على هنيدة، فروي عنه كما أوردناه - يعني: عنه، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - وروي عنه، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه عن أمه، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا.
وقال الزيلعي (5) : (ضعيف) ، وقال ابن التركماني (6) : (وحديث هنيدة اختلف عليه في إسناده) . وبنحو كلام المنذري ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (7) ، (وأيضا اختلف الرواة على الحر بن الصباح اختلافا كثيرا في إسناده ومتنه، زيادة ونقصا) (8) .
وهذا يدل على أن في الحديث اضطرابا كبيرا، ومع ذلك فقد صححه بعض العلماء، فالإمام أحمد يرجح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
__________
(1) سنن النسائي الصيام (2416) .
(2) ينظر: إرواء الغليل 4 \ 111.
(3) في كتاب الصيام، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4 \ 221) .
(4) مختصر سنن أبي داود 3 \ 320.
(5) نصب الراية 2 \ 157.
(6) الجوهر النقي 4 \ 285.
(7) 5 \ 247.
(8) إرواء الغليل 4 \ 111.(59/294)
يصومها (1) ، وقد حسن السيوطي الحديث عن حفصة (2) ، وحسنه من المتأخرين عبد القادر الأرناؤوط (3) ، وضعفه الألباني من طريق هنيدة عن حفصة، وصححه من طريق هنيدة، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (4) .
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر (5) » .
وجه الدلالة: أن الحديث نص على أن صيام كل يوم من أيام عشر ذي الحجة يعدل سنة، وهذا حث على صيامها والعمل فيها.
لكن في صحة هذا الحديث نظر؛ لأن في سنده رجلين متكلم فيهما.
الأول: مسعود بن واصل ضعفه أبو داود الطيالسي، وقال
__________
(1) ينظر: الشرح الممتع 6 \ 471.
(2) ينظر: الجامع الصغير 5 \ 277.
(3) ينظر: حاشية الروضة الندية 1 \ 556.
(4) ينظر: صحيح سنن أبي داود 2 \ 462، وضعيف سنن النسائي ص 82.
(5) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في العمل في أيام العشر (3 \ 131) وابن ماجه في كتاب الصيام، باب صيام العشر (1 \ 551) .(59/295)
أبو داود (1) : (ليس بذاك) وقال الحافظ ابن حجر (2) : (لين الحديث) .
الثاني: النهاس بن قهم (3) ، قال أحمد (4) : (نهاس بن قهم كان قاصا) . وقال يحيى بن سعيد (5) : (نهاس بن قهم ضعيف) .
وقال ابن معين (6) : (نهاس بن قهم ليس بشيء، كان قاصا) .
وقال ابن حبان (7) : (كان ممن يروي المناكير عن المشاهير ويخالف الثقات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به) . وقال في الميزان (8) : (تركه يحيى القطان، وضعفه ابن معين، وقال أبو أحمد الحاكم: لين) . ولهذا قال الترمذي (9) : (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس. قال: وسألت محمدا - يعني: البخاري - عن هذا الحديث، فلم يعرفه من غير هذا الوجه) .
وأشار ابن رجب إلى ضعف الحديث، بسبب النهاس، عند ذكره له في لطائف المعارف (10) وقال المباركفوري في شرحه لجامع
__________
(1) ميزان الاعتدال 4 \ 100.
(2) التقريب 2 \ 244.
(3) الكامل في ضعفاء الرجال 7 \ 59.
(4) المجروحين 3 \ 56.
(5) الجرح والتعديل 8 \ 511.
(6) المصدر السابق، الجزء والصفحة.
(7) المجروحين 3 \ 56.
(8) 4 \ 274.
(9) سنن الترمذي 3 \ 131.
(10) ينظر: ص 459.(59/296)
الترمذي (1) : (وهذا حديث ضعيف) . وهناك أدلة أخرى كثيرة، أعرضنا عن ذكرها لضعفها. (2) .
__________
(1) تحفة الأحوذي 3 \ 465.
(2) ينظر: لطائفة المعارف ص 460.(59/297)
المطلب الثالث: ما جاء في الاختلاف في صيام النبي صلى الله عليه وسلم للعشر: اختلف النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم هل صام عشر ذي الحجة أو لا؟ فقد تقدم ما جاء عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو عن حفصة، ونصه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. . . (1) » .
وهذا ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذه الأيام، لكن يعارض هذا ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط (2) » .
وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر قط (3) » .
وظاهر هذا الحديث نفي صيام النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأيام، وقد حاول الأئمة والعلماء الجمع بين هذين الحديثين، أو الترجيح بينهما، وذلك كالتالي:
أولا: الجمع بين الحديثين:
سلك بعض الفقهاء مسلك الجمع بين الحديثين بأحد الوجوه التالية:
1 - أن حديث عائشة أرادت به أنه لم يصم العشر كاملا، وحديث
__________
(1) سنن النسائي الصيام (2372) ، سنن أبو داود الصوم (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الاعتكاف، باب صوم عشر ذي الحجة (2 \ 833) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الاعتكاف، باب صوم عشر ذي الحجة (2 \ 833) .(59/297)
حفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه، وهذا أحد جوابي الإمام أحمد (1) .
2 - أن حديث عائشة متأول بأنها لم تره صائما، ولا يلزم منه تركه في نفس الأمر؟ لأنه يكون عندها في يوم من تسعة أيام، والباقي عند أمهات المؤمنين (2) .
3 - ويحتمل أن يكون المراد أنه يصوم بعضها في بعض الأوقات، وكلها في بعض الأوقات، ويتركها في بعض الأوقات لعارض (3) .
ثانيا: مسلك ترجيح أحد الحديثين:
ذهب بعض العلماء إلى ترجيح أحد الحديثين، سواء حديث عائشة، أو حفصة.
ومن ذلك ما جاء عن الإمام أحمد في جوابه عن حديث عائشة النافي بأن هذا - يعني: حديث عائشة - قد روي خلافه، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة، فأسنده الأعمش،
__________
(1) ينظر: لطائف المعارف ص 461.
(2) ينظر: المجموع 6 \ 387، والمفهم شرح صحيح مسلم 4 \ 1972.
(3) ينظر: المجموع 6 \ 388.(59/298)
ورواه منصور عن إبراهيم مرسلا (1) .
وقال البيهقي بعد ذكره الحديثين (2) : (والمثبت أولى من النافي، مع ما مضى من حديث ابن عباس) (3) .
وقال ابن القيم (4) : (والمثبت مقدم على النافي إن صح) .
قلت: وقد اختلف العلماء في الحديث المثبت بين مصحح ومضعف.
ولذا تعقب ابن التركماني البيهقي بقوله (5) : (قلت: وإنما
__________
(1) ينظر: لطائف المعارف ص 461.
(2) السنن الكبرى 4 \ 285.
(3) يريد حديث ابن عباس (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلي الله ... )
(4) زاد المعاد 2 \ 65.
(5) الجوهر النقي 8 \ 285.(59/299)
يقدم على النافي إذا تساويا في الصحة، وحديث هنيدة - يعني المثبت - اختلف عليه في إسناده، فروي عنه كما تقدم، وروي عنه عن حفصة، كذا أخرجه النسائي، وروي عن أمه، عن أم سلمة، كذا أخرجه أبو داود، والنسائي) .
ولعلك تلاحظ أن محاولة الجمع، أو الترجيح تصلح إذا سلم بصحة حديث حفصة، وقد عرفت الاختلاف في تصحيحه لكن على التسليم جدلا بعدم صحة حديث حفصة، فإن حديث عائشة النافي لصيام النبي صلى الله عليه وسلم للعشر لا يدل ذلك على عدم مشروعية الصيام، لدخوله في عموم حديث ابن عباس: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر (1) » ، وترك النبي صلى الله عليه وسلم صيامها - إن سلم - فهو لا يمنع المشروعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحث على عمل ويتركه لعارض، ومما يدل على ذلك ما جاء في فضل صيام شهر الله المحرم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكثرا الصيام فيه (2) ، ولا يمكن أن يقال بعدم مشروعية صيامه مع ما جاء في فضله.
وعليه فيمكن تأويل حديث عائشة رضي الله عنها بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر لأحد الأسباب التالية:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) ينظر: صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 37.(59/300)
على أمته (1) .
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك صيامها لعارض سفر، أو مرض، أو نحوهما (2) .
ومما يدل على ذلك، أن من ضمن أيام العشر التي نفت عائشة صيام النبي صلى الله عليه وسلم لها يوم عرفة، وقد ثبت فضله بالنص، والاتفاق، فدل ذلك على أن النص مؤول على ما ذكر (3) .
3 - يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمها، لأنه إذا صام فيها ضعف عما هو أعظم منزلة من الصوم وأفضل، وهو الصلاة، وذكر الله، وقراءة القرآن، كما روي عن ابن مسعود في ذلك، مما كان يختاره لنفسه (4)
__________
(1) ينظر: فتح الباري 2 \ 534.
(2) ينظر: نيل الأوطار 5 \ 247.
(3) ينظر: المفهم شرح صحيح مسلم 4 \ 6472.
(4) ينظر: مشكل الآثار 4 \ 115.(59/301)
المطلب الرابع: شبهات حول صيام العشر والجواب عنها:
رغم البحث والتنقيب لم أجد أحدا من العلماء قال بعدم مشروعية صيام عشر ذي الحجة، لعل ذلك من قصوري أو تقصيري، إلا أن كلام ابن القيم - رحمه الله- قد يفهم منه وقوع الخلاف في ذلك حيث قال (1) : (وأما صيام عشر ذي الحجة فقد اختلف فيه، فقالت عائشة - وذكر حديثها النافي- وقالت حفصة - وذكر حديثها المثبت -) .
__________
(1) زاد المعاد 1 \ 65.(59/301)
إلا أن الظاهر من مراده الخلاف في نقل صيامه صلى الله عليه وسلم لا في مشروعية الصيام، لأنه قال بعد ذلك (1) : (والمثبت مقدم على النافي إن صح) ، فدل على أن مراده الاختلاف في النقل لا في المشروعية.
على أنه جاء في كلام ابن رجب رحمه الله ما يفهم منه أن القول باستحباب صيامها ليس محل اتفاق، حيث قال (2) : (وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم عن الحسن، وابن سيرين، وقتادة، ذكر فضل صيامها، وهو قول أكثر العلماء، أو كثير منهم) .
وقوله: (أكثر) أو (كثير) يفهم منه أن هناك من يخالف في ذلك.
وعلى كل حال فلا أعرف أحدا- حسب ما اطلعت عليه من كتب الفقه، والحديث، والخلاف- باسمه يخالف في ذلك، ولعل هذا يدل على أنه إن وجد من يقول بعدم مشروعية صيامها فهو قول غير مشهور؛ ولذا يعرض العلماء عن نقله وتداوله، إلا أنني اطلعت على رسالة بعنوان (من أخطائنا في العشر) ألفها أحد الأساتذة الفضلاء، وعد من ضمن الأخطاء صيام العامة لعشر ذي الحجة، وبالغ في ذلك حتى اعتبر صيامها
__________
(1) المصدر السابق 1 \ 66.
(2) لطائف المعارف ص 461.(59/302)
بدعة أو كاد، ولعلنا نستعرض شبهه في ذلك ونجيب عنها.
الشبهة الأولى: قوله: (الخطأ الخامس (1) : صوم أكثر العامة العشر كلها، وهذا خطأ؛ لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط (2) » .
الجواب عنها: وهذا الحديث تقدم الكلام عليه في المطلب الثالث، وأنه مؤول على أنها لا تعلم ذلك، أو أنه تركه لعارض سفر، أو مرض، أو نحو ذلك، كما ذكر ذلك النووي (3) ، والقرطبي (4) ، وابن حجر (5) والشوكاني (6) وغيرهم.
الشبهة الثانية: قوله (7) : (ولا تعارض بين هذا- يعني حديث عائشة - ومما ورد عن امرأة هنيدة بن خالد، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء (8) » ؛ لأن تسع ذي الحجة المقصود به اليوم التاسع فقط، وليس المقصود به الأيام التسعة، كما يفهم من ظاهر اللفظ.
يبينه حديث أبي قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن
__________
(1) من أخطائنا في العشر ص 12.
(2) سبق تخريجه.
(3) ينظر: المجموع 6 \ 387، 388.
(4) ينظر: المفهم شرح صحيح مسلم 4 \ 1972.
(5) ينظر: فتح الباري 2 \ 534.
(6) ينظر: نيل الأوطار 5 \ 247.
(7) من أخطائنا في العشر ص 13.
(8) سنن النسائي الصيام (2372) ، سنن أبو داود الصوم (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .(59/303)
يكفر السنة التي قبله والتي بعده (1) » .
الجواب عنها من وجهين:
الوجه الأول: أن نفي التعارض بين حديث عائشة النافي، وحديث بعض أزواجه المثبت، غير صحيح، فإن التعارض قائم بلا شك، إذا حكمنا بصحة حديث بعض أزواجه المثبت، كما هو ظاهر كلام البيهقي (2) ، وابن القيم (3) وغيرهما.
الوجه الثاني: تأويل قولها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة (4) » بأن المراد به اليوم التاسع فقط وهذا غير صحيح، سيما وقد جاء الحديث عند النسائي (5) بلفظ: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم العشر (6) » .
وليس لصرف حديث أبي قتادة المذكور عن ظاهره أي وجه، قال في بذل المجهود عند قولها: «يصوم تسع ذي الحجة (7) » : (أي من أول ذي الحجة إلى التاسع منها، فإن العاشر يوم العيد) .
الشبهة الثالثة: قوله (8) : (إن صيام العشر كلها لا يدخل تحت العمل الصالح المراد منه في الحديث الصحيح السابق- يعني حديث ابن عباس: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه العشر (9) » - لأنه ليس بفرض، ولا نفل عاما ولا خاصا؛
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) ينظر: السنن الكبرى 4 \ 295.
(3) ينظر: زاد المعاد 2 \ 66.
(4) سنن النسائي الصيام (2372) ، سنن أبو داود الصوم (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .
(5) في كتاب الصيام، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4 \ 221) .
(6) سنن النسائي الصيام (2418) .
(7) سنن النسائي الصيام (2372) ، سنن أبو داود الصوم (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .
(8) من أخطائنا في العشر ص 27.
(9) صحيح البخاري الجمعة (969) ، سنن الترمذي الصوم (757) ، سنن أبو داود الصوم (2438) ، سنن ابن ماجه الصيام (1727) ، مسند أحمد بن حنبل (1/224) ، سنن الدارمي الصوم (1773) .(59/304)
يؤيد هذا كله أن الأئمة الذين استحبوا صيام العشر لم يستدلوا بهذا الحديث؛ لأنهم عرفوا مسبقا أن صيام العشر لا يدخل تحت هذا النص، والله أعلم بالصواب) .
والجواب عنها من وجهين:
الوجه الأول: أن دعوى إخراج الصيام من عموم قوله: (العمل الصالح) تحكم بلا دليل، بل الأصل أنه داخل في هذا العموم، ولذا قال ابن رجب (1) : (وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها) .
وقال ابن حجر (2) : (واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل) .
وقال الشوكاني (3) : (وقد تقدم في كتاب العيدين أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها) .
فهذه نصوص العلماء في عموم (العمل الصالح) وعدم تخصص شيء منه.
الوجه الثاني: أن ما ذكر من عدم استدلال الأئمة القائلين باستحباب صيام العشر بحديث ابن عباس، لمعرفتهم مسبقا بأن الصيام لا يدخل تحت هذا العموم- ليس هذا صحيحا؛ لأمرين:
__________
(1) لطائف المعارف ص 460.
(2) فتح الباري 2 \ 534.
(3) نيل الأوطار 5 \ 347.(59/305)
الأمر الأول: أن العلماء قد نصوا على عموم هذا اللفظ ودخول الصيام في هذا العموم، كما سبق في الوجه الأول.
الأمر الثاني: أن الأئمة استدلوا بعموم هذا الحديث على استحباب الصيام، ومنهم الطحاوي (1) ، وابن حزم (2) ، وابن رجب (3) ، والنووي (4) ، وابن حجر (5) ، والشوكاني (6) ، وغيرهم؛ بل بوب عليه أبو داود في سننه بقوله (7) : (باب في صوم العشر) ، فكيف مع كل هذا يمكن القول بأن الأئمة لم يستدلوا بهذا الحديث على صيام العشر؟
الشبهة الرابعة: قوله (8) : (ومن جهة أخرى لا أعلم أن هناك دليلا على صيام عشر ذي الحجة، يؤيده قول سماحة العلامة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء رحمه الله لما سئل عن صيام محرم، وشعبان، وعشر ذي الحجة؟ فقال رحمه الله: (وأما صيام عشر ذي الحجة، فليس هناك دليل عليه) .
__________
(1) ينظر: مشكل الآثار 4 \ 114، 115.
(2) ينظر: المحلى 7 \ 19.
(3) ينظر: لطائف المعارف ص 461.
(4) ينظر: صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 71.
(5) ينظر: فتح الباري 2 \ 534.
(6) ينظر: نيل الأوطار 5 \ 247.
(7) 2 \ 815.
(8) من أخطائنا في العشر ص 24.(59/306)
الجواب عنها: أن هذا النقل قد يفهم القارئ الكريم منه أن سماحة المفتي لا يرى استحباب صيام عشر ذي الحجة، وهذا غير صحيح، فلعل مراده ليس هناك دليل خاص؛ بدليل قوله (1) : (وأما صيام عشر ذي الحجة فليس هناك دليل عليه، لكن لو صامها دون اعتقاد أنها خاصة، أو أن لها خصوصية معينة فلا بأس) .
ومما يؤكد ذلك أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحته قد نصت في الفتوى رقم (12128) على أن صيام عشر ذي الحجة من أفضل الأيام لصيام التطوع، ونصها: (أفضل الأيام لصيام التطوع: الاثنين، والخميس، وأيام البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، من كل شهر، وعشر ذي الحجة، وخاصة يوم عرفة) (2) .
وكذا في الفتوى رقم (4052) ونصها: (وإن صمت الأيام التسعة من أول ذي الحجة فحسن؛ لأنها أيام شريفة يستحب صومها) (3)
__________
(1) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز 4 \ 269.
(2) فتاوى اللجنة الدائمة 10 \ 385.
(3) المصدر السابق 10 \ 393.(59/307)
الخاتمة:
وبعد فإني أحمد الله تعالى وأشكره أن وفقني لإتمام هذا الموضوع، والذي ظهر لي فيه ما يأتي:
أولا: فضل عشر ذي الحجة على سائر أيام الدنيا، حتى أيام(59/307)
العشر الأواخر من رمضان، وإن كانت ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي ذي الحجة.
ثانيا: يشرع للمسلم في عشر ذي الحجة الحرص على العمل الصالح، استغلالا لشرف الزمان.
ومن العمل الصالح: الحج، والعمرة، والتكبير، والأضحية، والصيام، والصدقة، وغيرها.
ثالثا: مع اتفاق الفقهاء على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج، فقد اختلفوا في حكم صيامه للحاج، والراجح أنه لا يستحب في حقه.
رابعا: جماهير العلماء يرون استحباب صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.
خامسا: اختلف النقل في صيامه صلى الله عليه وسلم لعشر ذي الحجة فنفته عائشة -رضي الله عنها- وأثبتته حفصة -رضي الله عنها- إلا أن حديث عائشة أصح سندا.
سادسا: إذا سلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم عشر ذي الحجة، فلا يدل على عدم مشروعية صيامها؛ لدخول الصيام في العمل الصالح الذي دل على الترغيب فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
هذه أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث، سائلا المولى عز وجل أن يكون خالصا لوجهه الكريم.(59/308)
السلام وأهميته في السنة النبوية
للدكتور: عبد العزيز بن أحمد الجاسم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وبعد: أردت أن أجمع الأحاديث الصحيحة والحسنة التي وردت في السلام، وذلك لعدة أسباب:
منها: أهميته في الإسلام.
ومنها: بيان فضله وفوائده التي تعود على المجتمع الإسلامي.
فجمعت الأحاديث المتعلقة بهذه التحية العظيمة المباركة التي هدى الله المسلمين إليها، وضل عنها من ضل.
ذكرت الأحاديث المرفوعة المقبولة مع عزوها إلى مصادرها، وأحيانا أذكر الأحاديث الضعيفة في الحاشية مع بيان ضعفها.
كما أني لا أتكلم عن الأحكام الفقهية بالتفصيل بل أشير إلى الحكم من غير تفصيل لذكر اختلاف العلماء؛ لأن الهدف هو جمع الأحاديث الواردة في هذا الموضوع مع بيان وشرح الغامض منها.
وهذا العمل ليس جديدا إذ كان سلفنا الصالح يجمعون أحاديث موضوع معين، ويسمونه جزء كذا (1)
__________
(1) انظر منهج النقد، ص 209.(59/309)
وجدير بنا أن نعرف أولا معنى (السلام) .(59/310)
معنى السلام:
قال ابن الأثير في النهاية: (والسلام في الأصل السلامة، يقال: سلم يسلم سلامة وسلاما، ومنه قيل للجنة دار السلام؛ لأنها دار السلامة من الآفات) (1) .
والسلام: يطلق على عدة معان، منها: أنه اسم من أسماء الله تعالى، ومنها: التحية، ومنها: التسليم، ومنها: السلامة والبراءة من العيوب، ومنها: الأمان، ومنها: الصلح (2) .
مر بنا قبل قليل أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: سلامته مما يلحق الخلق من العيب والفناء (3) ، ومعنى سلام المؤمن على أخيه المؤمن: الأمان، أو معناه: عليك عناية الله وحفظه، وقيل غير ذلك (4) .
وهذه التحية التي يتداولها المسلمون اليوم هي تحية أبيهم آدم عليه السلام:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فلما خلقه -أي آدم عليه السلام- قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك
__________
(1) النهاية في غريب الحديث: 2 \ 392.
(2) انظر فتح الباري: 11 \ 13، ولسان العرب: 12 \ 289 وما بعدها.
(3) انظر النهاية: 2 \ 392، والاعتقاد للبيهقي، ص55.
(4) انظر فتح الباري: 11 \ 13.(59/310)
وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله (1) » الحديث.
وليس المراد من قوله: (فسلم) الوجوب، لأنها واقعة حال لا عموم لها.
فابتداء السلام سنة، ورده واجب، فإذا كان المسلم جماعة فيكون سنة كفاية في حقهم، فمن سلم منهم حصلت سنة السلام.
وإذا كان المسلم عليه أكثر من واحد كان الرد عليهم فرض كفاية، فإذا رد واحد عنهم سقط الرد عن الآخرين.
فالمبتدئ يكفيه أن يقول: السلام عليكم، وأكمله أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما المجيب فلو اقتصر في الرد على قوله: وعليك، جاز، لكن الأفضل أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (2) (3) .
مر بنا قبل قليل أن المجيب إذا اقتصر في الرد على قوله: وعليك، أجزأه، لكنه في هذا الجواب قد غرر بأخيه المسلم:
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام، 11 \ 3 حديث رقم (6227) .
(2) سورة النساء الآية 86
(3) انظر: شرح السنة للبغوي: 12 \ 255 وما بعدها، وشرح مسلم للنووي 14 \ 140.(59/311)
«لا غرار في صلاة ولا تسليم (1) » واختلف العلماء في تفسير (ولا تسليم) ، فمن نصبه جعله معطوفا على (غرار) ، وحينئذ يكون المعنى: لا نقص ولا تسليم في صلاة ومن جره جعله معطوفا على (صلاة) ، ويكون معناه، كما قال الخطابي -كما في شرح السنة-: (أصل الغرار: نقصان لبن الناقة، فقوله: (لا غرار) أي لا نقصان في التسليم، ومعناه: أن ترد كما يسلم عليك وافيا لا نقص فيه، مثل أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فتقول: وعليكم السلام ورحمة الله، ولا تقتصر على أن تقول: عليكم السلام أو عليكم) (2) .
أما ما يقوله بعض المسلمين في عصرنا عندما يسلم عليه فيجيب بقوله: هلا، أو حياك الله، أو مرحبتين، ونحو ذلك، فليس هذا جوابا كافيا في الرد، ويكون بهذا الجواب آثما، لأمرين:
الأمر الأول: لأنه لم يرد بالجواب المشروع الذي شرعه الإسلام.
الأمر الثاني: لأنه ابتدع قولا لم يعهد في السنة النبوية.
وهذا السلام الذي أكرم الله به هذه الأمة، وجعله من
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة 2 \ 244 حديث 298. قلت: وإسناده صحيح.
(2) شرح السنة: 12 \ 258، وانظر فيه معنى: الغرار في الصلاة.(59/312)
مميزاتها ومناقبها، فإن اليهود حسدوا المسلمين عليه:
3 - عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين (1) » وهذا الحديث لا يتعارض مع الحديث الأول الذي مر بنا؛ لأن المراد بالذرية البعض وهم المسلمون، أو أن من جاء بعد آدم عليه السلام تركوا هذه التحية، وعندما جاء الإسلام أحياها.
وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا سلم سلم ثلاث مرات:
4 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي: «أنه كان إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا (2) » .
وتكرار السلام يكون عند الاستئذان، أما إذا كان مارا أو داخلا فلا يكرر بل السنة أن يسلم مرة واحدة، إلا إذا كان الجمع كبيرا وأراد أن يسمع الجمع فحينئذ يشرع له التكرار (3) وكان الصحابة رضي الله عنهم يكررون السلام في الاستئذان، لأن بيوتهم كانت مكشوفة ليست لها أسوار، فالذي يأتي منهم يقف بجانب الباب فيسلم، فإن أذن له دخل وسلم أيضا، وإن
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجهر بآمين 1 \ 278 حديث رقم (856) . قال المحقق نقلا عن الزوائد: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات احتج مسلم بجميع رواته.
(2) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه 1 \ 188 حديث (94 و95) .
(3) انظر الفتح: 1 \ 189 و 11 \ 27.(59/313)
لم يؤذن له سلم ثانية، فإن أذن له دخل وسلم، وإلا سلم ثالثة فإن أذن له دخل وسلم، وإلا رجع (1) .
وقد بينت لنا السنة النبوية صيغ السلام وما لكل صيغة من ثواب:
5 - فعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثون (2) » قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه -كما في الفتح-: انتهى السلام إلى (وبركاته) (3) ، وذهب إلى ذلك أيضا ابن
__________
(1) انظر الفتح: 11 \ 29 وما بعدها، وانظر: سنن الترمذي، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثا 5 \ 53.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما ذكر في فضل السلام، 5 \ 52 حديث (2685) وقال عنه: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن علي وأبي سعيد وسهل بن حنيف. وأبو داود، كتاب الأدب، باب كيف السلام، 4 \ 350 ح (5195) وأخرجه أيضا عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه ح (5196) بمعناه، وزاد: ((ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: أربعون، قال: هكذا تكون الفضائل)) . قلت: وهذه الزيادة ضعيفة إذ في السند أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون وسهل بن معاذ، قال المنذري: ((لا يحتج بهما)) مختصر سنن أبي داود: 8 \ 69. قلت: أي إذا خالفا.
(3) فتح الباري: 11 \ 6 قال الحافظ ابن حجر: ورجاله ثقات.(59/314)
عباس.
6 - قال محمد بن عمرو بن عطاء: (كنت جالسا عند عبد الله بن عباس، فدخل عليه رجل من أهل اليمن، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئا في ذلك، قال ابن عباس -وهو يومئذ قد ذهب بصره-: من هذا؟ قالوا: هذا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، قال: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن السلام انتهى إلى البركة) (1) أما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقد كان يرى جواز الزيادة والأولى أن لا يزيد المسلم، ويتمسك بالسنة كما جاءت من غير زيادة ولا نقصان فهو أفضل وأسلم.
أما تغيير صفة السلام المشروعة، كأن يقول: عليك السلام، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك:
7 - قال جابر بن سليم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: «لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى (2) »
__________
(1) الموطأ كتاب السلام، باب العمل في السلام، 2 \ 259 ح (2) .
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب كراهية أن يقول: عليك السلام. 4 \ 353 ح (5209) . والترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في كراهية أن يقول: عليك السلام، مبتدئا. 5 \ 72 ح (2772) وقال عنه: حسن صحيح.(59/315)
وليس المراد من هذا أن السنة في تحية الموتى أن يقال: عليكم السلام، بل هذا إشارة إلى ما جرت به العادة في تحية الأموات، بتقديم الاسم على الدعاء، كما قال الشماخ:
عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذلك الأديم الممزق (1)
فتحية الأحياء والأموات سواء لا تختلف كما سيأتي معنا إن شاء الله (2) .
أما إذا كان الدعاء في الشر فيقدم اسم المدعو عليه، فيقال: عليه لعنة الله.
قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (3) ، ويجوز في (السلام) لغتان، فيجوز أن نقول: سلام عليكم، ويجوز أن نقول: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للتفخيم (4) وإذا سلم المسلم على أخيه المسلم فلا مانع أن يصافحه، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة:
8 - قال كعب بن مالك: (دخلت المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني)
__________
(1) انظر شرح السنة للبغوي: 5 \ 469 وما بعدها.
(2) انظر: جامع الأصول: 6 \ 606.
(3) سورة ص الآية 78
(4) انظر جامع الأصول: 6 \ 606.(59/316)
9 - وقال قتادة: قلت لأنس (أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) وهذه المصافحة أصلها من أهل اليمن:
10 - قال أنس لما جاء أهل اليمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة (1) » .
فمن سلم على أخيه المسلم وصافحه فإن الله تعالى يغفر له ذنوبه:
11 - فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا (2) » وزاد أبو داود: «وحمدا الله واستغفراه (3) » وقد استحب
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الاستئذان، باب المصافحة، 11 \ 54، ذكر الإمام البخاري هذا الحديث معلقا مختصرا، وأخرجه متصلا مطولا في كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8 \ 113 حديث (4418) .
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في المصافحة 5 \ 74 وما بعدها حديث (2727) وحسنه. وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في المصافحة 4 \ 354 حديث: (5211 و 5212) .
(3) سنن أبو داود الأدب (5211) .(59/317)
المصافحة غير واحد من أهل العلم.
قال الإمام النووي -كما في الفتح-: (المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي) (1) وقال ابن بطال: (الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد، فأنكره مالك، وأنكر ما روي فيه) (2) .
أما المصافحة بعد الصلوات فهي من البدع المحدثة، وإن قال قائل: إن هذا العمل أصله سنة، فلا يخرج هذا العمل عن السنة.
فالجواب: أن صلاة النفل مشروعة في كل وقمت ما عدا الأوقات المنهي عنها، لكن لو خصص المصلي وقتا يصلي فيه فهو مكروه، وكذلك صلاة الرغائب فهي من البدع المحرمة، ولا يقال: إن أصلها سنة، فما من شيء إلا وله أصل في الشرع (3)
__________
(1) فتح الباري: 11 \ 55.
(2) المرجع السابق: 11 \ 56.
(3) انظر فتح الباري: 11 \ 55.(59/318)
تنبيه:
أما المعانقة فلم يثبت فيها حديث مرفوع صحيح، وإنما(59/318)
ثبتت المعانقة عن بعض الصحابة:
12 - قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي، فسرت، فقال: ابن عبد الله، قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة -أو قال:(59/319)
العباد- عراة غرلا بهما (1) » الحديث.
فهذا يدل على جواز المعانقة للقادم من سفر، وكذلك لا مانع من المعانقة في العيد أو في تهنئة مثلا، ونحو ذلك.
والمسلم الذي يبدأ صاحبه أولا بالسلام فهو السابق إلى الخير والفضل:
13 - عن أبي أمامة أنه قال: «قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: أولاهما بالله (2) » وعن أبي داود: «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام (3) » ومعنى: «أولاهما بالله (4) » أي أحق الناس بمغفرة الله ورحمته أو أقرب الناس بالله.
وقد حث الإسلام على إلقاء السلام بين المسلمين سواء كانت هناك معرفة أم لا:
14 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 \ 495، وأخرجه الخطيب في كتابه: (الرحلة في طلب الحديث) من عدة طرق، انظر ص 109 وما بعدها. قال محققه، بعد أن تكلم على عبد الله بن محمد بن عقيل، المذكور في إسناد الإمام أحمد: إلا أن هذا الحديث لا ينزل عن رتبة الصحة لما تقوى به من المتابعة.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في فضل الذي يبدأ بالسلام، 5 \ 56 ح (2694) وحسنه.
(3) كتاب الأدب، باب في فضل من بدأ بالسلام، 4 \ 351 ح (5197) .
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2694) ، سنن أبو داود الأدب (5197) ، مسند أحمد بن حنبل (5/269) .(59/320)
عرفت وعلى من لم تعرف (1) »
والمراد أن يسلم المسلم على كل من لقيه من إخوانه المسلمين، ولا يخص أحدا دون أحد من أجل المعرفة أو غيرها.
قال الإمام النووي - كما في الفتح-: (وفي ذلك إخلاص العمل لله تعالى، واستعمال التواضع، وإفشاء السلام الذي هو شعار هذه الأمة) (2) قال أبو حاتم السجستاني -كما في الفتح- تقول: (اقرأ عليه السلام، ولا تقول: أقرئه السلام، فإذا كان مكتوبا، قلت: أقرئه السلام، أي: اجعله يقرأه) (3) وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق من أجل أن يسلم على الناس، ويطبق هذه السنة النبوية:
15 - كان الطفيل بن أبي بن كعب يأتي عبد الله بن عمر، فيغدو معه إلى السوق، قال: (فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا سلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوما، فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق؟ فاجلس بنا هاهنا نتحدث.
__________
(1) انظر: بذل المجهود، 20 \ 135.
(2) فتح الباري: 11 \ 21.
(3) فتح الباري: 1 \ 56.(59/321)
قال: فقال لي عبد الله بن عمر: يا أبا بطن -وكان الطفيل ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام، نسلم على من لقينا) .
وإن حصل خصام بين مسلمين فلا يجوز الهجر فوق ثلاث بدون عذر شرعي، وجعل الإسلام خيارهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام:
16 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام (1) » .
ومن آداب الإسلام أن المسلم إذا أراد الانصراف من المجلس فيسن له أن يسلم:
17 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة (2) »
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة، 10 \ 492 ح (6077) . ومسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي، 4 \ 1984 حديث (25) . فإن كان عذر شرعي فيجوز الهجر كالمبتدعة والفساق.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود، 5 \ 62 وما بعدها حديث (2706) وحسنه. وأبو داود، كتاب الأدب، باب في السلام إذا قام من المجلس، 4 \ 353 ح (5208) .(59/322)
وقد جعل الإسلام رد السلام واجبا، وجعله من حقوق المسلم على أخيه المسلم:
18 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس (1) » والمراد من قوله: «حق المسلم على المسلم (2) » الوجوب، وقيل: المراد به حق الحرمة والصحبة.
والمراد من الوجوب هنا وجوب الكفاية، وهو إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين (3) .
وجاء في صحيح مسلم أن من حق المسلم على المسلم أن يبدأه بالسلام إذا لاقاه:
19 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «حق المسلم على المسلم ست، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه (4) » وليس المراد في هذا الوجوب؛ لأن السلام سنة باتفاق
__________
(1) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، 3 \ 112 ح (1240) . ومسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، 4 \ 1704 ح (4) بلفظ: ((خمس تجب للمسلم على أخيه المسلم)) ثم ذكر الحقوق مع تقديم وتأخير.
(2) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، 3 \ 112 ح (1240) . ومسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، 4 \ 1704 ح (4) بلفظ: ((خمس تجب للمسلم على أخيه المسلم)) ثم ذكر الحقوق مع تقديم وتأخير.
(3) انظر فتح الباري: 3 \ 113.
(4) كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم 4 \ 1704 ح (5) .(59/323)
أهل العلم (1) .
ولإفشاء السلام فوائد عظيمة تعود على أفراد المجتمع بالخير الجزيل في الدنيا والآخرة، فمنها ما أخرجه الإمام مسلم:
20 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم (2) » قال ابن العربي - كما في الفتح-: (فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة، لتتم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها) (3) .
وعندما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في الجلوس في الطرقات، فلم يرخص لهم إلا إذا قاموا بحق الجلوس، ومن حقه رد السلام:
21 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات. فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها، فقال: فإذ أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض
__________
(1) انظر شرح السنة: 12 \ 255.
(2) كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون 1 \ 74 ح (54) .
(3) فتح الباري: 11 \ 18 وما بعدها.(59/324)
البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) » . والسبب في النهي عن الجلوس في الطرقات، لأن الجالس يتعرض للفتن بالنظر إلى النساء الشواب عندما يمررن في الطرقات، كما يعرض الجالس نفسه للقيام ببعض الأمور المحذورة، وقد لا يقوى على القيام بها، فندبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ترك الجلوس حسما للمادة، لكن الصحابة بينوا للرسول ضرورتهم إلى تلك المجالس، فأذن لهم، وأرشدهم إلى ما يزيل تلك المفاسد (2) .
كما أن السلام ليس مقتصرا على الرجال بل يشمل النساء، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسلم على النساء وهن في المسجد:
22 - قالت أسماء بنت يزيد: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم (3) » ، وأشار عبد الحميد بيده، وقد اختلف العلماء في تسليم الرجال على
__________
(1) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب الاستئذان، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا الآية، 11 \ 8 ح (6229) . ومسلم، كتاب السلام، باب حق الجلوس على الطريق العام 4 \ 1704 ح (3) .
(2) انظر فتح الباري: 11 \ 11 و 12.
(3) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم على النساء 5 \ 58 ح (2697) وحسنه. وأبو داود، كتاب الأدب، باب في السلام على النساء، 4 \ 352 ح (5204) بلفظ: ((مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا)) . والدارمي، كتاب الاستئذان، باب في التسليم على النساء، 2 \ 277. ثلاثتهم من طريق ((شهر بن حوشب)) وقد اختلف العلماء في الاحتجاج به، والصحيح أنه من رجال الحسن، ولا يسلم ما قاله الحافظ ابن حجر بحقه، انظر ميزان الاعتدال: 2 \ 283 وما بعدها، وسير أعلام النبلاء: 4 \ 372 والتقريب ص 269(59/325)
النساء على عدة أقوال، والصحيح أنه يشرع السلام على العجوز، أما الشابة فلا يشرع من باب سد الذرائع كما قال المالكية (1) .
كما يشرع السلام على الصبيان:
23 - مر أنس بن مالك رضي الله عنه على صبيان فسلم عليهم، وقال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله (2) » وجاء عند مسلم بلفظ:
__________
(1) انظر هذه الأقوال في فتح الباري: 11 \ 33 و34 وبذل المجهود: 20 \ 140.
(2) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان، 11 \ 32 حديث (6247) .(59/326)
24 - عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم (1) » . قال ابن بطال - كما في الفتح-: (في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة، وفيه طرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب) (2)
25 - وأخرج النسائي في السنن الكبرى -كما في تحفة الأشراف- عن قتيبة بن سعيد عن جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت بن أسلم عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم، ويمسح على رؤوسهم
__________
(1) كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان، 4 \ 1708 ح (14) .
(2) فتح الباري: 11 \ 33.(59/326)
ويدعو لهم (1) » .
وقد راعى الإسلام في السلام آدابا ينبغي مراعاتها والأخذ بها:
26 - فعن أبي هريرة رضي عنه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير (2) » والمراد بقوله " يسلم " ليسلم، كما جاء في المسند (3) ، وهو على سبيل الاستحباب (4) ، والحكمة من هذا -كما قال المهلب -: تسليم الصغير؛ لأجل حق الكبير؛ لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل، لأجل حق الكثير، لأن حقهم أعظم، وتسليم المار؛ لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب؛ لئلا يتكبر بركوبه، فيرجع إلى التواضع (5) .
ومن آداب الإسلام أن لا تلقى هذه التحية على من كان يقضي حاجته، فلو سلم المسلم على أخيه المسلم وهو يقضي حاجته فلا يرد عليه السلام:
__________
(1) تحفة الأشراف: 1 \ 108 حديث (280) قلت: وإسناده حسن؛ لأن الضبعي صدوق. انظر التقريب ص 140 وانظر فتح الباري: 11 \ 33.
(2) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير، 11 \ 14 حديث (6231) . ومسلم، كتاب السلام، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير، 4 \ 1703 حديث (1) .
(3) مسند الإمام أحمد: 2 \ 314.
(4) انظر فتح الباري: 11 \ 17.
(5) فتح الباري: 11 \ 17.(59/327)
27 - فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم، فلم يرد عليه السلام (1) » .
قال الإمام النووي: (إن المسلم في هذا الحال لا يستحق جوابا، وهذا متفق عليه) .
وقال أصحابنا: (ويكره أن يسلم على المشتغل بقضاء حاجة البول والغائط، فإن سلم عليه كره له رد السلام) (2) وجاء أيضا: أن الإنسان إذا كان على غير طهارة فلا يرد السلام:
28 - قال عمير مولى ابن عباس: (أقبلت أنا وعبد الله بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام (3) » لكن
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، 1 \ 281 حديث (115) . وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في كراهة رد السلام وهو يبول، 1 \ 5 ح (16 و 330 و 331) . والترمذي، كتاب الطهارة، باب كراهة رد السلام غير متوضئ، 1 \ 150 ح (90) .
(2) شرح صحيح مسلم: 4 \ 65.
(3) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا. . 1 \ 441 ح (337) . ومسلم باب التيمم حديث رقم عام (369) 1 \ 281. وعنده وهمان: الأول: ذكر عبد الرحمن بن يسار والصواب عبد الله، كما جاء عند البخاري. الثاني: قال: أبو الجهم، والصواب أبو الجهيم بالتصغير، انظر الفتح 1 \ 442، وشرح صحيح مسلم: 4 \ 63 وما بعدها.(59/328)
هذا محمول عند قضاء الحاجة. قال الإمام الترمذي: (وإنما يكره هذا عندنا إذا كان على الغائط والبول، وقد فسر أهل العلم ذلك) (1) أما سبب تيمم الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أراد أن يتشبه بالمتطهرين، كمن أبيح له الفطر، لكن يشرع له الإمساك تشبها بالصائمين (2) .
ومن الأمور التي يشرع عندها السلام، السلام على أهله إذا دخل بيته:
29 - فعن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك (3) »
__________
(1) الجامع الصحيح للترمذي: 1 \ 150.
(2) انظر فتح الباري: 1 \ 443 وقارن.
(3) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم. . . 5 \ 59، وقال عنه: حسن غريب. قلت: وفي سند هذا الحديث علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف كما في التقريب ص 401، لكن الإمام الترمذي حسن متنه، لشواهده الصحيحة.(59/329)
وإذا سلم المسلم على أخيه المسلم وهو يصلي، شرع له أن يرد التحية بالإشارة:
30 - قال صهيب رضي الله عنه: «مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد إلي إشارة (1) » .
31 - وقال ابن عمر: قلت لبلال: «كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، 2 \ 203 حديث (367) قال الترمذي: وفي الباب عن بلال وأبي هريرة وأنس وعائشة. قلت: الحديث حسن لغيره لشواهده.(59/329)
عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده (1) » لكن جاء أيضا أن الصحابة سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ولم يرد السلام، لا بإشارة ولا بغيرها:
32 - قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال: إن في الصلاة شغلا (2) » .
ويجمع بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم مرة أشار بيده ومرة لم يفعل، فالمصلي مخير بين الأمرين (3) وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل من أجل المعرفة فقط، وهذا يخالف منهج الإسلام في إفشاء السلام كما مر بنا:
33 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل، لا يسلم عليه إلا للمعرفة (4) »
__________
(1) المصدر السابق حديث (368) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وانظر الفتح 11 \ 19.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، 3 \ 72. حديث (1199) .
(3) انظر فتح الباري: 11 \ 19.
(4) المسند: 1 \ 405. قلت: والحديث إسناده حسن؛ لأن فيه شريك بن عبد الله، وهو ممن اختلف في الاحتجاج به، لكن الصحيح أنه من رجال الحسن، ولا يسلم لمن قال: إنه ضعيف يتقوى حديثه بالمتابعات والشواهد. وعلى فرض ضعفه فهذا الحديث له شواهد في المسند، انظر: 1 \ 407 و 419 و 3 \ 439.(59/330)
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام:
34 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق، فاضطروه إلى أضيقه (1) » .
فدل هذا الحديث على عدم جواز ابتداء المشركين بالسلام، وهو نهي صريح في المنع.
وذهبت طائفة إلى الجواز، مستدلين بأدلة عامة، كقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} (2) ، لكن لا يسلم لهم ما ذهبوا إليه؛ للأحاديث المتقدمة، وهي صريحة في المنع، فلا تترك لأدلة عامة (3) قال الحافظ ابن حجر: (وحديث أبي هريرة في النهي عن ابتدائهم أولى) (4) وأجاب القاضي عياض عن الآية -كما في الفتح- وكذا عن قول إبراهيم عليه السلام لأبيه (بأن القصد بذلك،
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام. . .، 4 \ 1707 ح (13) .
(2) سورة الزخرف الآية 89
(3) انظر فتح الباري: 11 \ 39.
(4) فتح الباري: 11 \ 39.(59/331)
المتاركة والمباعدة وليس القصد فيهما التحية) (1) أما إذا سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم، كأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فجائز.
وكذلك يجوز أن يقول: السلام على من اتبع الهدى (2) أما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (3) » فهو كما قال القرطبي: (لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراما لهم واحتراما، وليس المعنى: إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب) (4) .
وقد استثنى عبد الله بن مسعود ما إذا كانت هناك حاجة دينية أو دنيوية كحق الرفقة مثلا:
35 - قال الحافظ ابن حجر: أخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال: (كنت ردفا لابن مسعود، فصحبنا دهقان، فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها، فأتبعه عبد الله بصره، فقال: السلام عليكم، فقلت: ألست تكره أن يبدءوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن
__________
(1) المرجع السابق، وهناك أجوبة أخرى انظرها فيه.
(2) انظر فتح الباري: 11 \ 40.
(3) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي السير (1602) ، سنن أبو داود الأدب (5205) ، مسند أحمد بن حنبل (2/444) .
(4) المرجع السابق، وانظر فيه حكم السلام على أهل البدع والفساق.(59/332)
حق الصحبة) ثم قال الحافظ: وبه قال الطبري (1) .
قلت: ومثله حق الجوار وحق التعلم.
وإذا مر بمجلس فيه مسلمون ومشركون فإنه يسلم ويقصد بسلامه المسلمين؛ لحديث:
36 - عروة بن الزبير قال: (أخبرني أسامة بن زيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا، عليه إكاف، تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج - وذلك قبل وقعة بدر - حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن (2) » الحديث بطوله.
قال ابن العربي -كما في الفتح-: (ومثله إذا مر بمجلس يجمع أهل السنة والبدعة، بمجلس فيه عدول وظلمة، وبمجلس فيه محب ومبغض) (3) .
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقلد اليهود أو غيرهم في السلام الذي جعل من شعار هذه الأمة:
37 - فعن جابر بن عبد الله مرفوعا «لا تسلموا تسليم
__________
(1) المرجع السابق: 11 \ 41.
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6254) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1798) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (5/203) .
(3) فتح الباري: 11 \ 39.(59/333)
اليهود، فإن تسليمهم بالرءوس والأكف (1) » أما من كان بعيدا ولا يسمع السلام فلا مانع من أن يشير بيده متلفظا بالسلام (2)
ويشرع للمسلم أن يرسل سلاما مع شخص لغائب أو يكتب ذلك في رسالة وحينئذ يجب الرد من حين وصوله السلام.
وقد جاء في هذا أكثر من حديث:
38 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب (3) » وجاء ردها عند النسائي فقالت: (إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته) .
وبهذا الجواب يتبين سعة فقهها وفهمها؛ لأنها لم تقل: وعليه السلام؛ لأن السلام اسم من أسمائه تعالى، وهو دعاء أيضا بالسلامة، وكلاهما لا يصلح أن يرد بهما على الله تعالى، فجعلت الثناء عليه مكان رد
__________
(1) ذكره في الفتح: 11 \ 19 وعزاه للنسائي، وقال الحافظ ابن حجر: ((سنده جيد)) . وبحثت عنه في السنن فلم أجده، ثم بحثت عنه في تحفة الأشراف فوجدته فيها 2 \ 742 وعزاه للنسائي في ((اليوم والليلة)) وبحثت عنه في كتاب اليوم والليلة بتحقيق عبد القادر عطا فلم أجده.
(2) انظر الفتح: 11 \ 19.
(3) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، 7 \ 133 وما بعدها حديث (3820) .(59/334)
السلام (1) .
قال الحافظ ابن حجر: (ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من بلغه) (2) ، أي المبلغ.
39 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: «يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام. فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته (3) » .
40 - وعن أنس رضي الله عنه أن فتى من أسلم قال: «يا رسول الله، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز. قال: ائت فلانا فإنه قد تجهز فمرض، فأتاه فقال: إن رسول الله يقرئك السلام، ويقول: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة، أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئا، فوالله لا تحبسي منه شيئا فيبارك لك فيه (4) » .
فمن خلال هذه الأحاديث يتبين لنا مشروعية إرسال السلام إلى الغائب، وعلى الغائب عندما يبلغ السلام أن يرده.
__________
(1) انظر فتح الباري: 7 \ 139.
(2) المرجع السابق.
(3) صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، 7 \ 106 حديث (3768) .
(4) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، 3 \ 1506 حديث (33) .(59/335)
الخاتمة:
من خلال استعراضي للأحاديث المتعلقة بهذا البحث تبين لي ما يلي:
1 - أن السلام أول من نطق به من البشر آدم عليه السلام.
2 - عظمة الإسلام في تشريعاته وآدابه.
3 - أهمية السلام وفضله.
4 - السلام يزيل البغضاء بين المسلمين ويزرع الحب والألفة بينهم.
5 - السلام دليل التواضع ولين الجانب.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(59/336)
قواعد الاختصار المنهجي في التأليف
للدكتور: عبد الغني أحمد جبر مزهر (1) .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد:
فإن (الاختصار) فن من فنون التأليف، ونوع من أنواع التصنيف، له فوائد متعددة إذا أحسن مسلكه، وله عيوب كثيرة إذا أسيء استعماله.
وعلى رغم كثرة المختصرات وتعددها في شتى العلوم، فإنني لم أجد مؤلفا مستقلا تناول بالبيان قواعد الاختصار، وأسسه، وضوابطه، التي ينبغي أن يراعيها المختصر، حتى لا يكون عمله تشويها للكتاب (الأصل) ، وإضرارا بمقصد مصنفه، وإفسادا لعمله، وطمسا للفوائد التي قصد إبرازها من مصنفه.
وقد قمت في هذا البحث بمحاولة إبراز هذه القواعد وتأصيلها، وإلقاء الضوء على فوائد الاختصار، وعيوبه، وصوره المختلفة، مستفيدا من أقوال العلماء، ومنثور فوائدهم، خاصة في مقدمات كتبهم.
وقد رمت بيان ذلك بالإيجاز الممكن، وإلا فمجال الإطالة في
__________
(1) أستاذ الحديث المساعد بكلية التربية للبنات بالرياض- الأقسام الأدبية(59/337)
هذا البحث قائم، من التوسع في ذكر نماذج من المختصرات في العلوم المختلفة، والموازنة بين المصنفات الأصلية ومختصراتها، لإظهار مزايا أو عيوب هذه المختصرات، وغير ذلك من الموضوعات المتعلقة بالبحث.
لكن لعل في هذا ما يغني اختصاره عن إكثاره.
وأسأل الله تعالى التوفيق لحسن القصد، والعلم والعمل.(59/338)
طرق التصنيف ومقاصده:
تعددت طرق التصنيف، وتنوعت أنواع المصنفات في شتى العلوم تنوعا كبيرا، فمن ذلك ألفت المؤلفات الكبيرة التي تقع في مجلدات كثيرة، والمؤلفات المتوسطة الحجم التي تقع في بضعة مجلدات، والمؤلفات التي لا تتجاوز في حجمها ورقات معدودة.
ولذا فقد تنوعت أسامي المصنفات تبعا لحجمها، وموضوعاتها، وتبعا لأقسام العلوم المختلفة التي تتناولها هذه المصنفات، وتبعا لأغراض المصنفين، وأهدافهم من التأليف.
قال العلامة ابن خلدون في المقدمة مبينا مقاصد التأليف: (ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها، وإلغاء ما سواها فعدوها سبعة:(59/338)
أولها: استنباط العلم بموضوعه، وتقسيم أبوابه وفصوله، وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق، ويحرص علي إيصاله لغيره، كما وقع في الأصول في الفقه، تكلم الشافعي أولا في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها.
وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام، فيحرص على إبانة ذلك لغيره.
وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين، ممن اشتهر فضله، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده.
ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول، فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل، ليكمل الفن.
وخامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها، ولا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم متفرقة في أبوابها من علوم أخرى، فيتنبه إلى موضع ذلك الفن وجمع مسائله فيفعل ذلك.
وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا، فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجاز وحذف المكرر (1)
__________
(1) المقدمة لابن خلدون باختصار ص (731، 732) .(59/339)
وقد ألف عدد من العلماء في بيان أنواع المصنفات، وأسامي العلوم المختلفة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
ابن النديم في كتابه (الفهرست) حاجي خليفة في كتابه (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) .(59/340)
وهذه أهم أنواع التأليف التي طرقها العلماء:
1 - المتن: من معاني المتن في اللغة: ما صلب ظهره، ومتن كل شيء ما ظهر منه، والمتن ما ارتفع من الأرض واستوى، وقيل: ما ارتفع وصلب، والمتون جوانب الأرض، والمتن: الظهر (1) والمقصود بالمتن هنا: الكتاب الذي هو أصل، ويتصف بأمرين في الغالب، وهما:
الأول: أن يكون صغير الحجم، موجز العبارة.
والثاني: أن يكون مشتملا على أبواب العلم كلها.
ويقابل المتن الشرح، ويقال لمصنف المتن: (الماتن) ولمصنف الشرح (الشارح) .
وإذا ذكر المتن مقابلا للسند فيراد به: ألفاظ الحديث التي تتقوم بها المعاني، أو ما ينتهي إليه غاية السند من
__________
(1) اللسان (متن) (13 \ 398) .(59/340)
الكلام (1)
__________
(1) تدريب الراوي (1 \ 42) .(59/341)
2 - الشرح: ومعناه في اللغة الكشف، يقال: شرح فلان أمره، أي أوضحه. وشرح مسألة مشكلة: بينها. وشرح الشيء يشرحه شرحا، وشرحه: فتحه، وبينه وكشفه (1) .
وواضح أن المقصود بالشرح من المؤلفات ما يوضح المتن، ويبينه، ويكشفه، ويشمل ذلك بيان غوامضه، وغريبه، وإيضاح مصطلحاته، ومقاصده، وتخريج نصوصه، وغير ذلك مما يكشف المتن ويبينه.
ويشمل ذلك الاستشهاد والتمثيل، والتأييد والتقرير، أو تغليط الماتن في بعض ما ذهب إليه.
وينبغي سلوك سبيل التوسط في المتن والشرح حتى لا يصل بالإيجاز إلى الإلغاز وبالإيضاح إلى الركاكة.
قال السيوطي في ذلك: (ولا يبالغ في الإيجاز بحيث ينتهي إلى الإغلاق، ولا في الإيضاح بحيث ينتهي إلى الركاكة، وليكن اعتناؤه من التأليف بما لم يسبق إليه أكثر)
__________
(1) اللسان، (شرح) (2 \ 497) .(59/341)
3 - الحاشية: ومعناها لغة - لعله مأخوذ من حشو الإبل،(59/341)
وحاشيتها صغارها، وكذلك حواشيها واحدتها حاشية، أو من حشي السقاء: صار له من اللبن شبه الجلد من باطن فلصق بالجلد، أو من حاشية الرجل أهله وخاصته، أو من حاشيتي الثوب أي جانبيه (1) فإن الحاشية غالبا ما تكون في أطراف الصفحات، وتكون بخط أصغر من الأصل، وتكون ملتصقة بالكتاب، فوق النص، وعن يمينه، ويساره.
والمقصود بالحاشية: الشرح الموجز إن كانت على الكتاب الأصلي، وربما كانت تعليقا وتنكيتا على شرح الكتاب تحتوي على بعض الاستدراكات والفوائد، ومن ذلك: (النكت على ابن الصلاح) لابن حجر (م 852 هـ) ، فقد تكون الحاشية بمعنى التعليق، أو التقييد، أو النكت على الكتاب، ومنه: (النكت على ابن الصلاح) للحافظ العراقي (م 806 هـ) ، وسماه (التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح) .
__________
(1) اللسان، (حشا) (14 \ 178- 180) .(59/342)
4 - التهميش: مأخوذ من الهامش، وهو حاشية الكتاب (1) فالتهميش هو التعليق بهامش الكتاب وحاشيته.
وللتهميش ثلاث طرق:
أولها: الكتابة بأسفل الصفحة.
ثانيها: الكتابة في نهاية كل فصل من فصول الكتاب.
وثالثها: جمع الهوامش في نهاية الكتاب أو البحث بأرقام
__________
(1) القاموس (همش) (2 \ 294) .(59/342)
متسلسلة (1) .
والطريقة الأولى هي الأشهر في تصنيف المتقدمين، والله أعلم.
__________
(1) انظر: كتابة البحث العلمي ص (97، 98) .(59/343)
5 - التذييل: مأخوذ من الذيل، وهو آخر كل شيء (1) والتذييل هنا يقصد به الاستدراك على مصنف سابق أو استكمال كتابه، وتتبع ما فاته.
ومن أمثلة ذلك أن أبا عبيد القاسم بن سلام (م 222 هـ) ألف كتاب (غريب الحديث) ثم تتبع أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (276 هـ) ما فات أبا عبيد في كتابه المشهور (إصلاح الخطأ) ثم تتبع أبو سليمان حمد بن سليمان الخطابي (385 هـ) ما فاتهما في كتابه (غريب الحديث) ونبه على أغاليط لهما. (2)
__________
(1) اللسان (ذيل) (11 \ 260) .
(2) تدريب الراوي (2 \ 185) .(59/343)
6 - الاختصار: ومن أنواع التأليف المنهجي (الاختصار) ، وقد ولع به كثير من المؤلفين المتقدمين، والمتأخرين، وربما كان التأليف فيه وفي نحوه من أنواع التأليف من مظاهر ضعف الحياة العلمية، فإنه لا يدل على الإبداع والتجديد، وإن كانت الحاجة تدعو إليه في بعض الأحيان.
قال العلامة محمد كرد علي في كتابه (خطط الشام) : (ضعفت الحياة العلمية في دمشق في عهد الدولة الجركسية، وكثر الجماعون، والمختصرون، والشارحون من المؤلفين، والسبب أن(59/343)
حكومة المماليك كانت تشدد على من خالف أصول المذاهب الأربعة، وهي الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي قال في (كشف الظنون) في بيان أنواع المؤلفات من جهة مقدارها: (وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف:
الأول: مختصرات تجعل تذكرة لرءوس مسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء بسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة.
الثاني: مبسوطات تقابل المختصرات، وهذه ينتفع بها للمطالعة.
الثالث: متوسطات، وهذه نفعها عام) (1)
معنى الاختصار لغة: قال في اللسان: " اختصار الكلام إيجازه، والاختصار في الكلام أن تدع الفضول، وتستوجز الذي يأتي على المعنى.
والاختصار: حذف الفضول من كل شيء) (2) وفي القاموس: اختصر الكلام: أوجزه، وحذف الفضول من كل شيء (3)
__________
(1) كشف الظنون (1 \ 35) .
(2) اللسان (خصر) (4 \ 243) .
(3) القاموس المحيط (خصر) (2 \ 21) .(59/344)
والاختصار في اصطلاح العلماء لا يبعد عن معناه في اللغة.
قال الشيخ الموفق بن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: (اختصرت هذا الكتاب) يعني قربته، وقللت ألفاظه، وأوجزته.
والاختصار: تقليل الشيء، فقد يكون اختصار الكتاب بتقليل مسائله، وقد يكون بتقليل ألفاظه مع تأدية المعنى، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا (1) » وقال البهوتي (1051هـ) : (هو ما قل لفظه وكثرت معانيه) (2) وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: (والمختصرات فيه -أي الفقه- وهي ما قل لفظها، وكثر معناها) ، وقال: (والاختصار إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى) ، وقيل: ما دل قليله على كثيره (3) وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (1392 هـ) في حاشية الروض المربع: (الاختصار تجريد اللفظ اليسير مع بقاء المعنى) (4)
__________
(1) مقدمة المغني مع الشرح الكبير ص (13) . والحديث أخرجه الدارقطني بهذا اللفظ (4 \ 144) وأصله في الصحيحين، أخرجه البخاري (9 \ 75) ، ومسلم (2 \ 64) دون قوله: (واختصر) .
(2) الروض المربع ص (11) .
(3) مغني المحتاج (1 \ 9، 11) .
(4) حاشية الروض المربع (1 \ 45) .(59/345)
من صور الاختصار:
للاختصار أشكال أخرى في غير التأليف، أذكرها استطرادا؛ للفائدة، وهي:(59/345)
أ - اختصار الحديث:
المقصود باختصار الحديث: الاقتصار على بعض متنه، وحذف بعضه، وقد اختلف المحدثون في جواز ذلك على أقوال ذكرها العراقي في ألفيته بقوله:
وحذف بعض المتن فامنع أو أجز ... أو إن أتم أو لعالم ومز
ذا بالصحيح إن يكن ما اختصره ... منفصلا عن الذي قد ذكره
قال السخاوي في شرح هذه الأبيات: وعن مالك فيما رواه عنه يعقوب بن شيبة أنه كان لا يرى أن يختصر الحديث إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني دون غيره، كما صرح به أشهب (1) ، إذ قال: (سألت مالكا عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد؟ ! قال: أما ما كان منها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أكره ذلك، أكره أن يزاد فيها وينقص منها، ما كان من قول غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أرى بذلك بأسا إذا كان المعنى واحدا) .
والقول الثاني: جواز ذلك مطلقا، أحتاج إلى تغيير لا يخل بالمعنى أم لا؟ وبه قال مجاهد وابن معين وغيرهما.
والقول الثالث: التفصيل فأجزه إن أتم -بضم أوله- بحيث أمن بذلك من تفويت حكم أو سنة، أو نحو ذلك وإلا فلا.
والقول الرابع: تفصيل آخر فأجزه كما ذهب إليه الجمهور إن وقع لعالم عارف وإلا فلا (2) .
__________
(1) أشهب بن عبد العزيز صاحب مالك (204 هـ) ، الشذرات (2 \ 12) .
(2) انظر: فتح المغيث شرح ألفية الحديث (2 \ 251- 253) .(59/346)
قال الحافظ ابن حجر: (ولا يجوز تعمد تغيير صورة المتن مطلقا، ولا الاختصار منه بالنقص ولا إبدال اللفظ المرادف باللفظ المرادف له إلا لعالم بمدلولات الألفاظ، وبما يحيل المعاني على الصحيح في المسألتين.
أما اختصار الحديث فالأكثرون على جوازه بشرط أن يكون الذي يختصره عالما، لأن العالم لا ينقص من الحديث إلا ما لا تعلق له بما يبقيه منه، بحيث لا تختلف الدلالة، ولا يختل البيان، حتى يكون المذكور والمحذوف بمنزلة خبرين، أو يدل ما ذكره على ما حذفه، بخلاف الجاهل، فإنه قد ينقص ما له تعلق كترك الاستثناء)(59/347)
ب - اختصار السجود: معناه جمع آيات السجدات في القرآن فيقرؤها في وقت واحد، أو هو أن يقرأ القرآن فإذا مر بالآية التي فيها سجدة حذفها فلم يقرأها.
قال ابن قدامة: (وقد نهي عن اختصار السجود، ومعناه جمع آي السجدات فيقرؤها في وقت واحد) .
وقيل: هو أن يحذف الآية التي فيها السجدة فلا يقرؤها (1)
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير (1 \ 4) .(59/347)
ج - الاختصار في الصلاة: ومعناه: أن يصلي ويده على خاصرته.
قال النووي: (اختلف العلماء في معناه، فالصحيح الذي عليه المحققون، والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين، وبه قال أصحابنا في كتب المذهب، أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته) .
وقال الهروي: (قيل: هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل: أن يختصر السورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين، وقيل: هو أن يحذف فلا يؤدي قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، والصحيح الأول) (1) والحديث في النهي عن الاختصار في الصلاة أخرجه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يصلي الرجل مختصرا (2) » لفظ مسلم.
__________
(1) شرح صحيح مسلم (5 \ 36) .
(2) البخاري (العمل في الصلاة) رقم 1219، ومسلم (المساجد) باب كراهية الاختصار في الصلاة (5 \ 36) .(59/348)
د - اختصار الكلمات والألفاظ ونحوها:
مما تدعو إليه الحاجة الاختصار في بعض الكلمات والمصطلحات، إذ إن مثل هذا الاختصار من شأنه أن يوفر على القارئ من زمن القراءة، وعلى الكاتب من حجم الكتاب، والزمن المبذول في كتابته، ومثل هذا الوقت لا يستهان به عند من يقدر(59/348)
الوقت حق قدره.
ومن أمثلة الاختصارات في هذا المجال:(59/349)
الاختصار عند المحدثين، وله صور، منها:
- الاختصار في أسماء الكتب الحديثية، مثل: صحيح البخاري: خ، صحيح مسلم: م، سنن أبي داود: د، وهكذا.
- الاختصار في صيغ الحديث، مثل: حدثنا: ثنا، أخبرنا: أنا، قال حدثنا: قثنا، وغير ذلك.
الاختصار في إيراد الحديث، فيذكرون طرف الحديث، ثم يكتبون. . . الحديث. مثل: عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات (1) » . . .) الحديث، أي: أكمل الحديث.
- الاختصار في الحكم على الحديث، مثل: ص: صحيح، ح: حسن، ض: ضعيف.
- الاختصار في الإسناد وفي المتن، في مثل قولهم: به بنحوه، وتعني: بهذا الإسناد نفسه بمعنى المتن، أو بألفاظ متقاربة، أو به بمثله: أي بهذا الإسناد وباللفظ نفسه.
ولا يكاد يستغني عن الاختصار عالم، أو باحث في التأليف في شتى أنواع العلوم؛ لما يوفره من وقت لو جمع إلى بعضه لكان ساعات أو أياما، في حين أن المؤلف في حاجة إلى الدقائق واللحظات.
وليس ذلك مقتصرا على التأليف باللغة العربية، بل يشمل اللغات الأخرى، وليس في العلوم الإنسانية فحسب، بل في المعادلات الرياضية، والعلوم الفيزيائية، والطبية، وغيرها.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(59/349)
ومن صور الاختصار في العلوم والأسماء المختلفة ما يلي:
يونسكو: اختصار لاسم طويل هو منظمة الثقافة والعلوم الدولية.
ج. م. ع: جمهورية مصر العربية.
إلخ: إلى آخره.
أ. ح: أركان حرب.
ت: توفي، أو م: متوفى.
هـ: هجري.
=: يساوي:
+ حيث إن.
(: إذن.
?: مثلث.
+: زائد.
ق: قطر الدائرة.
وهناك اختصارات تسمى علامات وقف في القرآن الكريم، مثل:
م: علامة وقف لازم.
ج: علامة وقف جائز.
لا: علامة وقف ممنوع (1) صلى: جواز الوقف والوصل، والثاني أولى.
إلى غير ذلك من
__________
(1) انظر: كتاب (خطوات البحث والتأليف) ، ويليس والدو، ص (61- 63) .(59/350)
علامات.
ومن الاختصار في الجمل والأسماء ما يلي:
عبشمي: من عبد شمس.
عبدري: من بني عبد الدار.
البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدلة: الحمد لله رب العالمين.
الحوقلة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن ذلك: الاختصار في المراسلات، والتوقيعات، والبرقيات.
ومن أشد ذلك وأعجبه التهاتف بلغة الرموز، وما يسمى (بالشيفرة) بين الجيوش ونحوها، وصور ذلك كثيرة جدا، ومجالاته متعددة يصعب حصرها.
وهكذا يتبين لنا مدى الحاجة إلى الاختصار، والفائدة المتحققة منه، غير أنه لا بد من مراعاة بعض القواعد المهمة في هذا الجانب، حتى لا يفقد الاختصار قيمته، ويعطي ثمرته، ومن ذلك:
1 - أن لا يزيد عن الحد، بحيث يتطلب من القارئ الوقوف عند كل كلمة، حتى يفهم معناها، وبالتالي معنى البحث، أو نحوه.
2 - أن يكون الاختصار مفهوما واضحا، بحيث يتأكد أن القارئ سوف يفهمها بيسر وسهولة (1) .
3 - عدم الاختصار عندما يكون موهما أو منافيا للأدب، ككتابة (ص) أو (صلعم) عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو (رض) عند ذكر
__________
(1) المصدر السابق، ص (63، 64)(59/351)
الصحابي، ونحو ذلك.(59/352)
الفرق بين المختصر والمتن:
المختصر والمتن كلاهما من أنواع التأليف التي اشتهرت في العصور المتأخرة، وكل منهما يقصد منه التقريب، وتجنب التطويل، والاقتصار على ما لا بد من معرفته بأخصر العبارات، وأقل الألفاظ.
لكنهما يختلفان في بعض الأمور:
- فالمتن موضوع من قبل المصنف نفسه، أما المختصر فقد يوافق المتن في هذا، ويخالفه عندما يكون من عمل مصنف آخر اختصر فيه كتابا آخر، سواء أكان هذا الكتاب له، أم لغيره.
فمختصر الخرقي في الفقه الحنبلي يمكن أن نطلق عليه (مختصرا) ، ويمكن أن نسميه (متنا) في الفقه الحنبلي.
أما زاد المستقنع للحجاوي (968 هـ) فنسميه مختصرا ولا نسميه متنا إلا إذا اقترن مع شرحه الروض المربع.
- المتن يشتمل على أبواب العلم كلها بإيجاز، أما المختصر فقد يكون كذلك، وقد يكون اختصارا لكتاب في باب من أبواب العلم، أو في عدد من أبوابه لا كلها.
- قد يكون المتن في بعض الأحيان نظما، فلا يسمى -والحالة(59/352)
هذه- مختصرا، مثل: متن (الرحبية في الفرائض) (1) .، (ومتن الألفية في العربية) (2) ، ونحو ذلك.
__________
(1) الرحبية: نسبة إلى المؤلف
(2) الألفية لكونها ألف بيت، وقد ألف في ذلك عدد من العلماء، منهم جمال الدين محمد بن مالك (686 هـ) .(59/353)
الفرق بين المختصر والتلخيص:
التلخيص قد يكون في معنى الاختصار، وقد يكون مغايرا له تماما، فيكون بمعنى البسط والشرح والاستقصاء.
قال في اللسان: التلخيص: التبيين والشرح، يقال: لخصت الشيء ولحصته، بالخاء والحاء إذا استقصيت في بيانه وشرحه وتحبيره.
يقال: لخص لي خبرك، أي بينه لي شيئا بعد شيء.
والتلخيص: التقريب والاختصار، يقال: لخصت القول، أي اقتصرت فيه، واختصرت منه ما يحتاج إليه. (1) .
وفي القاموس: التلخيص: التبيين والشرح والتخليص (2) وقد يكون كتاب (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير) للحافظ ابن حجر جمع فيه المعنيين، فإنه جعله تلخيصا وتحبيرا، أي شرحا مفصلا مبينا بما يضيف إليه من نكت وفوائد تبدو له، أو مما يفيده من تخريج شيخه ابن الملقن، أو من غيره من التخاريج التي سبقته؛ ولذلك يقول في خطبته: أرجو إن تم. . . أن
__________
(1) اللسان (لخص) (7 \ 86- 87) .
(2) القاموس المحيط (لخص) (2 \ 238) .(59/353)
يكون حاويا لجل ما يستدل به الفقهاء في مصنفاتهم في الفروع (1) .
ومع ذلك فإن هذا الكتاب هو مختصر من كتاب شيخه عمر بن علي بن الملقن (804 هـ) المسمى (البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير) .
__________
(1) مقدمة التلخيص الحبير (1 \ 4) .(59/354)
الفرق بين التهذيب والاختصار:
التهذيب والاختصار متقاربان في المعنى، فالتهذيب يأتي بمعنى الاختصار، فإن أصل الكلمة تعني التنقية.
قال في اللسان: التهذيب كالتنقية، هذب الشيء يهذبه هذبا، وهذبه: نقاه، وأخلصه، وقيل: أصلحه.
وأصل التهذيب تنقية الحنظل من شحمه، ومعالجة حبه حتى تذهب مرارته، ويطيب لآكله (1) غير أن التهذيب والاختصار قد يختلفان من حيث النوعية.
فتهذيب الكتاب يراد به تنقيته، وإصلاحه، وتخليصه من زوائده، وتحرير عباراته، وموضوعاته، في حين أن الاختصار قد يقتصر على اجتزاء مادته، وتقليل موضوعاته، وتخليصه من زوائده دون أن يعمد إلى تنقيته وإصلاحه، كما أن التهذيب لا يمنع من الزيادة على الأصل.
ومن المؤلفات الحديثية المشتهرة من هذا النوع كتاب (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للحافظ أبي الحجاج يوسف بن
__________
(1) اللسان (هذب) (1 \ 782) ، وانظر: القاموس (1 \ 144) .(59/354)
عبد الرحمن المزي (742 هـ) ، فقد جعله تهذيبا لكتاب (الكمال في أسماء الرجال) للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (600 هـ) وهذا الكتاب يقع في نحو أربعة مجلدات، بينما يقع التهذيب في نحو عشرة مجلدات، فهو يزيد عليه بأكثر من ضعفه، ثم إن المزي غير من طريقة صاحب (الكمال) في تأليفه، فجعله مرتبا على الحروف، وكان مرتبا على الطبقات، وزاد في مادة الكتاب زيادات، وإضافات كثيرة.
ثم كتاب (تهذيب تهذيب الكمال) للحافظ ابن حجر العسقلاني، سلك فيه مسلك الاختصار لكتاب المزي، فحذف نحو ثلثي مادته، وأضاف إليه إضافات وتنقيحات جديدة.
ثم اختصر كتابه هذا في كتاب (تقريب التهذيب) في نحو عشر حجمه، فالتقريب من معاني الاختصار، ومن أغراضه.(59/355)
الفرق بين الاختصار والانتقاء:
يأتي الانتقاء أيضا بمعنى الاختصار، حيث إن الانتقاء يراد به الاختيار، أي اختيار أجود مادة الكتاب، وما يؤدي المعاني من الألفاظ، وهو من أغراض الاختصار.
وفي اللسان: أنقاه، وتنقاه، وانتقاه: اختاره، وانتقيت الشيء إذا أخذت خياره، والتنقية: التنظيف، والانتقاء: الاختيار، والتنقي: التخير (1) .
والانتقاء: منه انتقاء الأدلة، والنكت، والفوائد، وغيرها.
__________
(1) اللسان (نقا) (15 \ 339) .(59/355)
ومن ذلك:
(منتقى الأخبار من كلام سيد الأخيار) ، وموضوعه أحاديث الأحكام للشيخ مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ليس مختصرا أو منتقى من كتاب آخر.
(منتقى الأخيار من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن علي بن الجارود (306 هـ) ، وهو كالمستخرج على صحيح ابن خزيمة (1) .
(منتقى خلاصة البدر المنير) لابن الملقن، حيث إنه صنف كتاب البدر المنير، فوقع في سبعة مجلدات، ثم لخصه في أربعة مجلدات، وسماه: خلاصة البدر المنير، ثم انتقاه في جزء، وسماه: (منتقى خلاصة البدر المنير) (2) .
وقد يطلق على المنتقى المنتخب أيضا، مثل: (المنتخب من المسند) لعبد بن حميد (249 هـ) وهو القدر المسموع لإبراهيم بن خريم الشاشي من (المسند الكبير) لعبد بن حميد.
ومن معاني الانتقاء أيضا انتخاب الأحاديث من كتاب حديثي أو من مرويات أحد الشيوخ، وجمعها وتصنيفها في كتاب.
__________
(1) الرسالة المستطرفة، ص (25) .
(2) المصدر نفسه، ص (189) .(59/356)
القائلون بالاختصار:
ينقسم العلماء والمصنفون إلى قسمين تجاه الاختصار، فمنهم الذين يؤيدونه، ويشجعون عليه قولا وعملا، ومنهم الذين يرون أن(59/356)
الاختصار مناف للطريقة السليمة في التربية والإعداد العلمي، وأنه مظهر من مظاهر التراجع والنكوص في الحركة العلمية، ولذلك فهو يظهر بكثرة في فترة ضعف الحياة العلمية، وفي العصور التي تعلو فيها الدعوة للتقليد، وغلق باب الاجتهاد.
أما المجيزون للاختصار، فلا يكادون يحصون كثرة، وهذا يظهر من خلال مئات المختصرات التي صنفت في عصور مختلفة، وفي علوم شتى.
ففي العلوم الشرعية هناك المختصرات في التفسير، والمختصرات في كتب الحديث، والمختصرات في الفقه. . . إلخ.
ولا يسلم بأن الاختصار يعد مظهرا من مظاهر ضعف حركة التأليف، وذلك أن الاختصار يعني في كثير من الأحيان نوعا من النقد والتمحيص لمؤلفات سابقة، ثم إن الحاجة تدعو إليه لتقريب العلم، وتسهيل حفظه، ولذا فإن المؤلف قد يلح عليه تلاميذه، أو يطلب إليه آخرون أن يقوم باختصار كتابه، لتعميم نفعه، وتيسير فهمه وحفظه.
وليس من اليسير أن يجتزأ الكتاب الكبير الذي يكون في عشرة مجلدات أو سبعة، أو خمسة عشر مجلدا، أو أقل أو أكثر ليكون في مجلد واحد مع المحافظة على شرط الكتاب، وعلى غرض المصنف الأساسي من تأليفه.
إن التصدي لهذا لا يحسنه إلا عالم متمرس، ولا يتقنه إلا من(59/357)
أوتي فهما، وجلدا، وبصيرة في العلم لكن لا ريب أن الاتجاه إلى ابتداء التأليف في موضوعات مهمة، أو في تجلية أحكام النوازل، والاتجاه إلى الإبداع في التأليف في أمور لم يسبق إليها، أو تشتد حاجة الأمة إلى توضيحها - أولى، وفي كل خير.
ولقصور الهمم ووهن العزائم دور في اتجاه العلماء إلى الاختصار، مراعاة لحال المتعلمين، وموافقة لواقع المجتمعات الإسلامية، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
وهكذا نجد أن الكثير من العلماء يذكر في مقدمة كتابه -كالمعتذر- ما سوغ له الاختصار، ودعاه إلى الاقتصار على مهمات المسائل، والإيجاز دون البسط والتطويل.
قال ابن حزم في مقدمة كتابه (المحلى) : (فإنكم رغبتم أن نعمل للمسائل المختصرة التي جمعناها في كتابنا الموسوم بالمحلى شرحا مختصرا أيضا نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار؛ ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ، ودرجا إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف) (1) وقال ابن الحاجب في شأن مختصره في أصول الفقه: (أما
__________
(1) مقدمة المحلى (1 \ 2) .(59/358)
بعد: فإني لما رأيت قصور الهمم عن الإكثار، وميلها إلى الإيجاز والاختصار، صنفت مختصرا في أصول الفقه، ثم اختصرته على وجه بديع، وسبيل منيع، لا يصد اللبيب عن تعلمه صاد، ولا يرد الأريب عن تفهمه راد) (1) وقال النووي في كتاب (المنهاج) وهو مختصر لكتاب (المحرر) للرافعي: وأتقن مختصر (المحرر) للإمام أبي القاسم الرافعي، لكن في حجمه كبر، يعجز عن حفظه أكثر أهل العصر إلا بعض أهل العنايات، فرأيت اختصاره في نحو نصف حجمه، ليسهل حفظه، مع ما أضمه إليه -إن شاء الله تعالى- من النفائس المستجادات.
منها: التنبيه على قيود في بعض المسائل هي من الأصل محذوفات.
ومواضع يسيرة ذكرها في المحرر على خلاف المختار في المذهب، وإبدال ما كان من ألفاظه غريبا أو موهما خلاف الصواب.
ومسائل نفيسة أضمها إليه ينبغي ألا يخلى الكتاب منها، وقد أقدم بعض مسائل الفصل لمناسبة أو اختصار (2) وقال السيوطي في مقدمة كتابه الفذ (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) ما نصه: (فلما ألفت كتاب (ترجمان القرآن) وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تم بحمد الله في مجلدات، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منه واردات، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله، ورغبتهم في الاقتصار على متون
__________
(1) المختصر، ص (8) .
(2) انظر المنهاج مع مغني المحتاج (1 \ 11- 15) .(59/359)
الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر، مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر) (1) وهذه نماذج يسيرة جدا من أقوال العلماء في هذا الصدد.
__________
(1) مقدمة الدر المنثور (1 \ 2) .(59/360)
المانعون من الاختصار:
أما المانعون من الاختصار فلهم وجهة أخرى، حيث يرى بعضهم أن الاختصار اعتداء على الكتاب، وتشويه لجماله.
ويرى بعضهم أنه يضر بعقل المبتدئ، ويخلط عليه مقاصد العلم، وذلك لعدم تمكن الملكة لديه.
ويرى بعض هؤلاء أن الذين يعمدون إلى الاختصار بقصد تسهيل الحفظ، وتيسير الفهم، فإنهم يقعون في ضد قصدهم من تقصير الملكة العلمية، وحصرها عند المتعلم؛ إذ ينبغي أن يسبق قراءة المختصرات عندهم مراحل يتدرج فيها المتعلم فيبدأ بتلقي الأصول، وأمهات المسائل من كل باب، مع مراعاة قوة عقله، ونضجه، واستعداده للاستيعاب والتحصيل.
وممن يرى هذا الرأي: الجاحظ، وابن خلدون، وياقوت الحموي.
فقد نقل ياقوت الحموي عن الجاحظ أنه صنف كتابا، وبوبه أبوابا، فأخذه بعض أهل عصره، فحذف منه أشياء، وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صورت في تصنيفي صورة كان لها عينان فعورتهما أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما صلم الله أذنيك، وكان لها يدان(59/360)
فقطعتهما قطع الله يديك، حتى عد أعضاء الصورة. فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب عن المعاودة إلى مثله (1) .
ويقسم ابن خلدون التعليم إلى مراحل ثلاث:
1 - غاية المرحلة الأولى أنها تهيئ الطالب للفهم مع حصول ملكة جزئية في ذلك.
2 - ثم المرحلة الثانية يعود به المعلم إلى الفن ثانية فيرفعه إلى أعلى من المرتبة الأولى، ويستوفي له الشرح والبيان، ووجوه الخلاف، والاختلاف، فتجود ملكته.
3 - وفي المرحلة الثالثة يرجع به وقد قويت ملكته فلا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيتخلص من الفن، وقد استولى على ملكته، وقد يحصل للبعض ذلك في أقل من ثلاث تكرارات بحسب حفظه وعقله واجتهاده في ذلك (2) .
ويقف ابن خلدون موقفا شديدا من الاختصار عائبا على كثير من المتأخرين ولعهم في ذلك، ومبالغتهم فيه، مبينا محاذيره وآفاته، حيث يقول في مقدمته الشهيرة: (ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق، والأنحاء في العلوم يولعون بها، ويدونون فيها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله، وأدلتها، باختصار في الألفاظ، وحشو القليل
__________
(1) مقدمة معجم البلدان ص 14.
(2) المقدمة لابن خلدون ص 734.(59/361)
منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن، وصار ذلك مخلا بالبلاغة، عسرا على الفهم.
وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون، للتفسير والبيان، فاختصروها، تقريبا للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربية، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة الفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها (1)
أقول: لا شك أن للاختصار فوائد عديدة -سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى- لكن إذا طغت عيوب الاختصار على فوائده، فقد تلاشت الحاجة إليه.
وكلام ابن خلدون مقبول إذا ألزم المتعلمون في مراحلهم الأولى بأنواع من المختصرات وعرة الألفاظ، بعيدة المعاني، مشتتة التراكيب والضمائر.
أما إذا حبب للمتعلم حفظ بعض المختصرات الجامعة لمهمات المسائل، السهلة الألفاظ والتراكيب، فلا نكر في ذلك.
والمتعلم في مراحله المختلفة يحسن به الجمع بين الحفظ والفهم، دون إثقال وإملال، ولعل الغرض الأهم الذي قصد إليه هؤلاء العلماء
__________
(1)) ) المصدر السابق نفسه، ص (733) .(59/362)
من الاختصار هو تيسير الحفظ، فإن المتعلم في مراحله الأولى يكون الحفظ أيسر عليه من الفهم، ويكون في الفهم صعوبة عليه، لذا ينبغي أن يراعى في بناء الشخصية العلمية للمتعلم هاتان الناحيتان، مع الاتزان والاعتدال فيهما.
وأوضح دليل على هذا إطباق علماء الأمصار في العصور المختلفة على تحفيظ القرآن للأطفال، وإن كانوا لا يفهمون شيئا من معانيه، فضلا عن أحكامه؛ لأن هذا الحفظ سيكون تأسيسا للمرحلة القادمة من الفهم والاستنباط.
أما ياقوت الحموي فربما كان أشد المانعين من الاختصار، حيث إنه يأخذ عهدا على من يستفيد من كتابه أن لا يغير فيه، ولا يختصره، فإن لم يقبل كان عاقا مخالفا له والله حسيبه.
قال في مقدمة كتابه (معجم البلدان) : (ولقد التمس مني الطلاب اختصار هذا الكتاب مرارا، فأبيت، ولم أجد لي على قصر هممهم أولياء ولا أنصارا، فما انقدت لهم ولا ارعويت، ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع نصبي، ونصب نفسي له وتعبي. . . باقتضابه واختصاره) .
ثم يقول: (فإن أجبتني فقد بررتني جعلك الله من الأبرار، وإن خالفتني فقد عققتني، والله حسيبك في عقبى الدار) .
وقال: (ثم اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق سوي، فقطع أطرافه، فتركه أشل اليدين، أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حليها فتركها عاطلا، أو كالذي(59/363)
سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلا) (1) ومع ذلك فإن ياقوت قد ابتلي باختصار كتابه (معجم البلدان) إذ اختصره صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (739 هـ) في كتاب (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع) ، يقول معتذرا عن عمله: (إن الغرض من وضع الكتاب إنما هو بيان علم مقصوديه، فلذلك لا ينبغي أن يخلط به غيره مما يبين في علم آخر، لئلا يتشعب الفهم، وينبو عنه السمع، ويطول الكلام فيه فيؤدي إلى الإملال في سماعه، وقد لا ينهض بكتابه لطوله فيعجز عن تحصيله، وهذه حال الكتاب المسمى بمعجم البلدان. . . وقد كتبت منه في كتابي هذا ما لا بد منه مما يحتاج إليه في معرفة الأسماء الواردة في الأخبار والآثار. . . ولم أقبل منه شرطه الذي شرطه، ولا التزمت حظره الذي حظره في اختصاره وتغييره، فإن ذلك شرط لا يلزم، ومظنة الفائدة تقدم) اهـ.
__________
(1) مقدمة معجم البلدان، ص (13، 14) .(59/364)
أنواع الاختصار في التأليف:
تتعدد أنواع الاختصار في التأليف تبعا لغرض المختصر، وطريقة تناوله للمادة التي يقصدها بالتأليف، فقد يكون الاختصار:
1 - أخذا من علم أحد العلماء، كجمع بعض فتاويه مختصرة، أو إفاداته وإجاباته في مسائل العلم المختلفة، فلا يكون الاختصار في هذه الحال اختصارا لكتاب مخصوص من كتبه، بل من كتبه، وإملاءاته، ودروسه ونحوها.(59/364)
قال المزني إسماعيل بن يحيى (264 هـ) : (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- ومن معنى قوله؛ لأقربه على من أراده) (1)
2 - قد يكون الاختصار استخراجا للمسائل وترتيبا لها من أكثر من كتاب، فلا يقتصر على كتاب واحد، فهو في هذه الحال جامع لأمهات المسائل من كتب شتى، ولا يعد هذا اختصارا لكل كتاب من هذه الكتب، بل المقصود أنه أخذ من كل كتاب من هذه الكتب ما يرى مناسبة تضمينه لهذا الجامع، وهذا عمل عظيم الفائدة، كبير الأهمية لرجوعه إلى مراجع كثيرة، وأخذه منها.
ومن هذا النوع: كتاب (جامع الأمهات) لابن الحاجب، وهو مختصر في فقه المالكية، استخرجه مصنفه من ستين كتابا من كتب المذهب (2)
3 - وقد يكون الاختصار مقتصرا على كتاب بعينه لأحد العلماء في علم من العلوم، رأى المختصر أن هذا الكتاب كبير الحجم، ورأى الحاجة إلى اختصاره، أو طلب إليه ذلك، وهذا النوع من المختصرات مشهور شائع، ومن أمثلته في التفسير:
كتاب (لباب التأويل في معاني التنزيل) تأليف علاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم المعروف بالخازن (741 هـ) اختصره من كتاب (معالم التنزيل) تأليف أبي محمد الحسين بن
__________
(1) مقدمة المغني مع الشرح الكبير، ص (13) .
(2) مقدمة تحقيق المختصر لابن الحاجب، د \ محمد مظهر بقا، ص (13) .(59/365)
مسعود البغوي (510 هـ) ، وتفسير البغوي هو اختصار لكتاب (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) لأبي إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي (427 هـ) .
وقد يكون الاختصار لكتاب دون مسايرة لجميع مباحثه، وطريقته وتبويبه.
4 - وقد يكون الاختصار لا علاقة له بكتاب آخر (أصل) وإنما ألفه مصنفه ابتداء، وجعله وجيزا قليل الألفاظ، مختصر العبارات، فهو في هذه الحالة مرادف للمتن كما تقدم، ومن ذلك: (مختصر الخرقي) (334 هـ) في الفقه الحنبلي، و (مختصر خليل بن إسحاق الجنيدي) (767 هـ) في الفقه المالكي، و (مختصر أبي الحسين أحمد بن محمد القدوري) (428 هـ) في الفقه الحنفي.(59/366)
أصناف المختصرين:
والمختصرون أصناف، فقد يكون مؤلف المختصر:
1 - المؤلف نفسه، فهو صاحب الكتاب الأصلي، ألفه ثم بدا له أن يختصره لأغراض عديدة.
وهذا النوع من المختصرات هو أدق الأنواع، وأحسنها، وأقربها إلى الأصل، لأن المؤلف تصرف في كتاب نفسه؛ ولأنه أعلم بمرامي كلامه، وأعلم بمواطن القصور فيه، والمؤلفات من هذا النوع كثيرة.
ومن أمثلة ذلك في التفسير: كتاب (الدر المنثور للسيوطي) فإنه اختصره من كتاب (ترجمان القرآن) له، واقتصر فيه على متن الأثر، وصدره بالعزو والتخريج، وحذف أسانيده، ومن أمثلته: كتاب(59/366)
(الكاشف في رجال الكتب الستة) ، فإنه اختصره من كتابه (تذهيب تهذيب الكمال) الذي هو مختصر لكتاب (تهذيب الكمال) للحافظ المزي.
ومن المختصرات في الفقه على هذا النحو: كتاب (الدر المختار شرح تنوير الأبصار) لعلاء الدين محمد بن علي الحصكفي (1088 هـ) ، فإنه اختصار لكتابه (خزائن الأسرار وبدائع الأفكار في شرح تنوير الأبصار وجامع البحار) (1) في الفقه الحنفي، وكتاب (الوسيط في المذهب) للغزالي محمد بن محمد (505 هـ) في فقه الشافعية، اختصره من كتابه (البسيط في المذهب) .
2 - تلميذ المؤلف، أو أحد معاصريه.
قد يكون المختصر هو أحد تلاميذ مصنف الكتاب الأصلي، أو ممن عاصره وشاركه في بعض شيوخه، وهذا يأتي بعد النوع الأول في الإتقان.
ومن أمثلته: كتاب (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) في التفسير لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي (701 هـ) ، فإنه اختصره من كتاب (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) للقاضي عبد الله بن عمر البيضاوي (691 هـ) ، ومن كتاب (الكشاف) للزمخشري (2) وكتاب (مكمل إكمال الإكمال) في شرح صحيح مسلم لأبي عبد الله بن محمد بن محمد السنوسي الحسني (895 هـ) ، فإنه
__________
(1) كتابة البحث العلمي، ص (344) .
(2) المصدر نفسه، ص (182) .(59/367)
اختصره من كتاب (إكمال إكمال المعلم) لأبي عبد الله محمد بن خليفة الوشناني الأبي (827 هـ) (1)
3 - أحد العلماء المتأخرين عن عصر المؤلف. وأمثلة هذا كثيرة جدا.
__________
(1) المصدر نفسه، ص (220)(59/368)
أغراض الاختصار وفوائده:
إن الكثير من أصحاب المختصرات يبين في خطبة كتابه غرضه من تأليف ذلك المختصر، وما دعاه إلى تأليفه، ويضمن ذلك الفوائد التي تنجم عن هذا الاختصار، وأجمل هذه الفوائد والأغراض فيما يلي:
1 - تيسير الحفظ، واستحضار مسائله، فإن المطولات يصعب حفظها أو يتعذر.
2 - تقريبه للفهم، والتذكير بأهم مسائله، فالمختصر أشبه بالتذكرة الموجزة، تخلو من الاستطرادات، والتفريعات الكثيرة التي من شأنها أن تنسي المسائل المهمة، والقضايا الكبيرة.
3 - اجتناب التكرار، والتطويل الممل، والاقتصار على ما لا بد من معرفته.
4 - تصغير حجم الكتاب ليسهل حمله واصطحابه في السفر ونحوه، فقد يكون أصل الكتاب مجلدات يختصر في مجلد لطيف سهل المحمل.
5 - الاقتصاد في الوقت، حيث يطرح من أصل الكتاب ما لا أهمية كبيرة لقراءته، والعمر أعز وأقصر من أن يتسع لذلك، ومن(59/368)
يقدر أهمية الوقت يدرك أهمية المختصرات في العلم.
6 - حذف الموضوعات الواهيات، وطرح العقائد الفاسدة، والأقوال الشاذة، أو التنبيه إليها، وكذلك تصحيح وتقويم النقول، وهذه من أهم فوائد الاختصار، وأجل أغراضه، حيث يؤدي إلى تهذيب الكتاب الأصلي، وتقويم مادته، ولا يعني هذا أن المختصر طليق اليد، حر القلم يغير ما شاء، ويطرح ما شاء، ويزيد أو ينقص ما شاء، فإن للاختصار ضوابط لا بد من مراعاتها، وقواعد لا بد من اتباعها، وإلا فقد خلا من الأمانة العلمية، وسيأتي بيان هذه القواعد قريبا بإذن الله تعالى.
7 - قد يكون المختصر في بعض الأحيان أعلم من مصنف الكتاب الأصلي، فيأتي المختصر أعظم نفعا وأجل فائدة من الكتاب الأصلي.
ومن ذلك تفسير البغوي المتقدم المسمى (معالم التنزيل) ، فإنه وإن كان مختصرا من تفسير الثعلبي -كما تقدم- إلا أنه أجل منه شأنا، وأرفع مكانة، فإنه صانه عن الحكايات الواهية، والأخبار الموضوعة، والثعلبي لم يكن له كبير علم بالحديث، فحشا تفسيره بالقصص الباطلة، والأخبار المصنوعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والبغوي تفسيره وسط، مختصر من الثعلبي، لكنه صانه عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة) (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (13 \ 354) .(59/369)
عيوب الاختصار:
مع ما ذكرنا من فوائد للاختصار، فإنه لا يخلو من عيوب في(59/369)
الجملة، ولا سيما إذا وقع ممن لا يحسنه، وتصدى له من لا نأتمنه.
ومن عيوب الاختصار وبعض المختصرات ما يلي:
أ- حذف الكثير من المحسنات اللفظية، والتراكيب والجمل، والاستغناء عن صور التشبيه، والأمثال التي تثري الكتاب، وتوضح مسائله، وتزيد الملكة الأدبية والعلمية لدى قارئه.
ب- حذف طرق الأحاديث وأسانيدها من الكتب المسندة، مما يفقد الكتاب قدرا كبيرا من قيمته العلمية، وأحيانا فإن الكتاب الأصلي يفقد، ويبقى المختصر، فإذا كان خاليا من الأسانيد فإن الحكم على أسانيد المصنف وعلى الأحاديث التي أوردها يكون غير ممكن.
ج- صعوبة فهمه، وحل ألفاظه في بعض الأحيان، فإن بعض المختصرات لا يكاد يفهم إلا مع شرح يوضحه، ومن المعلوم أن الفهم يعين على الحفظ، وأنه أهم من الحفظ المجرد عنه، وإذا عسر فهمه وعسر حفظه فقد الغرض الأهم من تصنيفه.
د- تأثر المختصر بتخصص المختصر، ومدار اهتمامه، فإذا كان لغويا تركز اهتمامه على الجوانب اللغوية أكثر من غيرها، وأعمل الحذف فيما عداها، وإذا كان المختصر فقيها دار اهتمامه على النواحي الفقهية في الكتاب، وربما اصطبغ الكتاب بميوله المذهبية، وترجيحاته الفقهية.
هـ- حذف النكت، واللطائف العلمية، والوقائع التاريخية الصغيرة، والاقتصار على الوقائع الكبيرة وحسب، وذكر الأسماء مختصرة، وربما مقطوعة عن الأنساب والأخبار.
ولا تخلو مادة المختصر من الغموض، وهذا يؤدي إلى(59/370)
تخليط وتشويش خاصة على القارئ المبتدئ.
ز- بروز شخصية المختصر، وفرضها على القارئ، وفرض فهمه وحكمه على الكتاب ومسائله، مما يؤدي بصورة غير مباشرة إلى إهمال أو تذويب شخصية القارئ، ومن هنا كانت المطولات من الكتب القيمة أقوى في تربية الملكة لدى القارئ، وتنمية مداركه، وقدرته على الاستنباط والتحليل، والنظر والترجيح، وهذا له أثره في تكوين ملكة الإبداع والتجديد، وعكسه أدعى إلى الرضا بشخصية المتلقي المتلقن الذي يؤدي به إلى التقليد، وخاصة عند حذف آراء العلماء وأدلتهم وأصولهم.
ح- قد يؤدي الاختصار وكثرة الرجوع إلى المختصرات إلى قطع الصلة بالأمهات والمبسوطات، وهذا ما يعاني منه كثير من طلبة العلم في عصرنا، فإن الكثير منهم إذا رجع إلى أصول الكتب مل وسئم، وضاق صدره بعباراتها، وخفي عليه كثير من مصطلحاتها.
والأنكى عندما يغدو التعليم مقتصرا على المذكرات التي تتصف غالبا بقلة مادتها، وركاكة أسلوبها، وضحالة موضوعاتها، فلن يعود المتعلم إلى الأمهات أبدا، اللهم إلا في اقتطاف المعلومة على وجه السرعة في البحوث والرسائل العلمية.
ط- ومن العيوب إضاعة الوقت، فإنه لو بذل مثل هذا الوقت أو نحوه في التأليف والابتكار لكان أولى وأكثر نفعا.
ي- قد يؤدي الاختصار إلى أن يدمج الكتاب المختصر مع الأصل، فيصيران شيئا واحدا، ويضيع جهد المصنف للأصل، ويهمل ذكره، وهذه جناية علمية، ونكران للجميل، ونسبة للفضل إلى غير أهله،(59/371)
والواجب المحافظة على الأصل، ونسبته إلى مصنفه لا إلى من اختصره.
وأكتفي بضرب مثال واحد على هذا الدمج بذكر كتاب مشهور متداول، وهو كتاب (سبل السلام شرح بلوغ المرام) حيث إن أصل هذا الكتاب ليس للصنعاني، وإنما هو للقاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي اليماني، والصنعاني قام باختصار هذا الأصل الذي هو (البدر التمام شرح بلوغ المرام) ، فهل من الإنصاف أن يقال: (سبل السلام شرح بلوغ المرام) أو يقال: (سبل السلام في اختصار البدر التمام شرح بلوغ المرام) .
إن جل طلبة العلم الذين يدرسون هذا الكتاب لم يسمعوا بأصله، ولا بمؤلف الأصل، أليس هذا نكرانا لحقه؟(59/372)
ضوابط الاختصار:
إن المقصود الأول بهذا البحث هو بيان ضوابط الاختصار في التأليف المنهجي، والتنبيه على قواعده.
إن كتب العلماء ومؤلفاتهم حمى، وعملهم حق محفوظ لهم، فليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق، أو يصادره لنفسه، أو يعتسف في استغلاله، وإن الأمانة العلمية -وهي جزء من الأمانة الواجبة- تقتضي رد الحق إلى أهله، والاعتراف للفاضل بفضله، ونسبة العمل إلى عامله.
وهناك فئة من المختصرين لكتب العلماء هجموا على ما لا يحسنون، وتكلفوا ما لا يتقنون، يريد أحدهم أن يضرب بسيف غيره، ويستدفئ بثوبي زور، فيصدق عليهم القول: أراد أن يصل إلى داره فتسلق جدار جاره، والمثل: طار قبل أن يحوصل، أو تزبب وهو حصرم.
وأمثال هؤلاء لا يسمى عملهم اختصارا، ولا يعد من العلم في(59/372)
قبيل ولا دبير، بل هو تشويه وتمويه، فإن أحدهم يتصرف في مصنف غيره تصرف الجزار في أضحيته، فهم يضعفون الأقوال الراجحة، ويطمسون الحقائق الواضحة، ويدسون في المختصرات ما لا نسب بينه وبين الأصل، ونرى أحدهم يجعل كتاب غيره ميدانا للانتصار لرأيه، والانتقام لنفسه، فيستبدل عقيدة السلف بالتعطيل، وربما ضعف الصحيح، وصحح الضعيف، ولم يرع للمؤلف حرمة، ولم يحفظ له حقا، ولم يقم للأمانة العلمية وزنا، فهل هذا اختصار؟
إن ثمة ضوابط وأسسا منهجية للاختصار دون مراعاتها، فإنه يفقد قيمته، وتضيع فائدته، ويصبح ضرره أكبر من نفعه.
وهذه هي أهم القواعد التي توصلت إليها بعد البحث والنظر:
1 - تحري حسن القصد، وسلامة النية في عمله، ورجاء نفع الأمة.
2 - الاستقصاء لمسائل الكتاب (الأصل) وفوائده، والاقتصار على حذف ما يغني مذكوره عن محذوفه، من التكرار، وتوضيح الواضح الجلي.
3 - المحافظة على المعاني التي قصدها المصنف، وصبها في قالب لغوي سهل، وحذف عويص اللغة وتعقيداتها إن وجدت.
4 - توضيح الأمور المشكلة والوجوه المحتملة، بإرجاع الضمائر إلى مراجعها، وإزالة الإشكال والإبهام بالمجاز بين، كأن تكون الكلمة اسما لأكثر من موضع، أو يكون الاسم يشترك فيه أكثر من راو. . . إلخ.
5 - عدم الإخلال بأدلة الكتاب (الأصل) وأفكاره الأساسية، مع حذف ما يبعد أو يندر وقوعه من الافتراضات البعيدة.(59/373)
6 - حذف الأقوال الشاذة البين شذوذها، والآراء المبتدعة الواضح خطرها، وهذا ليس من العبث بالكتاب، بل من الإصلاح فيه، ومن تغيير المنكر، والنصح للمسلمين.
7 - عدم التحريف في أقوال المصنف، أو نسبة رأي أو مذهب إليه لم يقل به، ولو كان المذهب الحق، والرأي الصواب؛ فإن العدل يقتضي أن لا يقول قولا لم يقله، أو ينسب إليه مذهب لم يذهب إليه، إذ قد يذهب إلى ذلك بعض المختصرين، لتكثير سواد أهل الحق، وتأييد مذهبهم، غير أن هذه الغاية النبيلة لا تسوغ مثل هذا العمل القبيح الذي لا يعدو أن يكون كذبا، ولا يجوز أن نداوي الحمى بالطاعون.
وليطمئن المشفقون على الحق وأهله فإن الله تعالى جاعل قلتهم كثرة، ولله الحجة البالغة.
8 - عدم المبالغة في الإيجاز بحيث ينتهي إلى الإغلاق والغموض، فينافي الغرض الذي قصده، فيفر من بشاعة التطويل إلي شناعة التعقيد.
9 - قصد الكتب المهمة بالاختصار التي تعظم الفائدة باختصارها، ويعم النفع بها، فليس كل كتاب حريا ببذل الوقت في تقريبه للناس، وتيسير انتشاره بينهم.
10 - مراعاة نوعية الكتاب الذي يروم اختصاره، ليحدد ما هو من مباحثه الأصلية، ومقاصده الأساسية، وما ليس كذلك، حتى لا يقع في المحذور، وهو حذف الضروري؛ فيخل بقصد المؤلف الأول، وغايته الأساسية من تأليفه، ويخلط بين فضول الكتاب وأصوله.
فإذا كان الكتاب من كتب الحديث المسندة مثلا، فإنه لا(59/374)
يحسن أن يحذف أسانيده، ويبقي على المتون فقط، إذا لم يكن الكتاب مشتهرا ونسخه كثيرة منتشرة.
وإذا كان الكتاب في الرجال، الرواة فلا يحسن أن يبقي شيئا من سيرة الراوي الذاتية، ونسبه، وصنعته، ولقبه، ويحذف الحكم عليه وبيان حاله في الرواية.
وهكذا ينبغي أن يكون نظره دقيقا للكتاب الذي يتصدى لاختصاره، فليس المقصود من الاختصار تقليل الصفحات، والتخلص من المجلدات.
11 - نسبة الكتاب إلى مصنفه، والتنويه به في عنوان المختصر، أو في مقدمته، أو فيهما؛ حتى لا يؤدي عدم التنويه به إلى طمس ذكره ونسيان أمره، في حين أن الجهد الأساسي هو له، لا للمختصر.
12 - عدم التغيير في ترتيب الكتاب الأصلي، وفي سياقه دون الحاجة إلى ذلك، لأن هذا وسيلة بل حيلة تؤدي إلى انتحال تأليف غيره، ونسبته إلى نفسه، وليس له فيه إلا تقديم المتأخر، أو تأخير المتقدم، أو العبث في سياقه، وهذا التغيير لا مسوغ له، فإن رام التسهيل، وتيسير الوصول إلى مسائله ومباحثه، فليجعل ذلك في فهارس مفصلة في آخر الكتاب.
13 - أن يبين عمله في الكتاب بيانا واضحا، وطريقته في الاختصار، ومنهجه في ذلك، حتى يمكن الحكم على عمله بالصواب أو بالخطأ، ليبرأ صاحب الأصل من خطئه، ويخرج من عهدته، وكذلك ينبغي أن يبين مسوغات عمله واختصاره لهذا الكتاب.
14 - مراعاة الإيجاز والتحقيق في تكميل نقص الأصل،(59/375)
وتتميم مباحثه: من ذكر الساقط، وملء البياض، وإكمال العبارات الناقصة، وغير ذلك.
15 - المحافظة على مزايا الكتاب الأصلي التي تميز بها عن المؤلفات الأخرى، وما يعد من خصائصه، فإن الاختصار إذا طمس هذه المزايا والخصائص فإنه يكون قد سلب الكتاب أكرم نفائسه.
16 - عدم التصدي لهذا العمل إن لم يكن قد تأهل له، فإن التأليف ليس تسويد الصحائف، وصرم الأوقات، وما كل رامي غرض يصيبه، وما كل دام جبينه عابد.
17 - عدم الوقيعة بالمصنف، أو الغض من قدره، أو غمزه، أو غمز كتابه، أو عيب طريقته، والاستخفاف بمنهجه، فإنه لا يعيب إلا معيب، ولا يغتاب إلا عاجز.
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
وكل اغتياب جهد من لا له جهد.
إن من حق المصنف الدعاء له، والترحم عليه، وبيان خصائص كتابه، والتماس العذر له إن وقع له تقصير، مع الإنصاف وعدم الاعتساف.
18 - دراسة منهج المصنف دراسة عميقة؛ للتوصل إلى معرفة المقاصد الأساسية من تأليفه.
19 - تحقيق الأصل عند اختصاره، سواء أكان مخطوطا أم مطبوعا، ومقابلة نسخه إن كان له أكثر من نسخة، وذلك أن الاختصار لا يعني الإيجاز والحذف من الكتاب وحسب، به من تمامه إكمال الكتاب، وتتميم النقص فيه.(59/376)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بشأن تحريم الغناء والموسيقى
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على مقال نشر في الملحق لجريدة المدينة الصادر يوم الأربعاء الموافق 30 \ 9 \ 1420 هـ بعنوان: (ونحن نرد على جرمان) بقلم: أحمد المهندس رئيس تحرير العقارية، يتضمن إباحة الغناء والموسيقى والرد على من يرى تحريم ذلك، ويحث على إعادة بث أصوات المغنين والمطربين الميتين، تخليدا لذكراهم وإبقاء للفن الذي قاموا بعمله في حياتهم، ولئلا يحرم الأحياء من الاستمتاع بسماع ذلك الفن ورؤيته.
وقال: ليس في القرآن الكريم نص على تحريم الغناء والموسيقى.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان يستمع إلى الغناء والموسيقى ويأمر بهما في الأعياد والمناسبات، كالزواج والأفراح.
ثم قال: وهناك أحاديث ضعيفة يستند إليها البعض في منع الغناء والموسيقى لا يصح أن تنسب للصادق الأمين لتغليب رأي أو منع أمر لا يوافق عليه البعض.
ثم ذكر آراء لبعض العلماء كابن حزم في إباحة الغناء.
وللرد على هذه الشبهات تقرر اللجنة ما يلي:
أولا: الأمور الشرعية لا يجوز الخوض فيها إلا من علماء الشريعة المختصين المؤهلين علميا للبحث والتحقيق، والكاتب(59/377)
المدعو أحمد المهندس ليس من طلاب العلم الشرعي، فلا يجوز له الخوض فيما ليس من اختصاصه، ولهذا وقع في كثير من الجهالات، والقول على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، وهذا كسب للإثم، وتضليل للقراء، كما لا يجوز لوسائل الإعلام من الصحف والمجلات وغيرها أن تفسح المجال لمن ليس من أهل العلم الشرعي أن يخوض في الأحكام الشرعية ويكتب في غير اختصاصه؛ حماية للمسلمين في عقائدهم وأخلاقهم.
ثانيا: الميت لا ينفعه بعد موته إلا ما دل عليه دليل شرعي، ومن ذلك ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » .
وأما المعاصي التي عملها في حياته ومات وهو غير تائب منها -ومنها الأغاني- فإنه يعذب بها إلا أن يعفو الله عنه بمنه وكرمه.
فلا يجوز بعثها وإحياؤها بعد موته، لئلا يلحقه إثمها زيادة على إثم فعلها في حياته، لأن ضررها يتعدى إلى غيره، كما قال عليه الصلاة والسلام: «ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة (2) » وقد أحسن أقاربه في منع إحياء هذه الشرور بعد موت قرييهم.
ثالثا: وأما قوله: (ليس في القرآن الكريم نص على تحريم الغناء والموسيقى) فهذا من جهله بالقرآن؛ فإن الله تعالى قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3)
قال أكثر المفسرين: معنى (لهو الحديث) في الآية الغناء.
وقال جماعة آخرون: كل صوت من أصوات الملاهي فهو داخل في ذلك، كالمزمار والربابة
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(3) سورة لقمان الآية 6(59/378)
والعود والكمان وما أشبه ذلك، وهذا كله يصد عن سبيل الله ويسبب الضلال والإضلال.
وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم أنه قال في تفسير الآية: إنه والله والغناء، وقال: إنه ينبت النفاق قي القلب كما ينبت الماء البقل.
وجاء في المعنى أحاديث كثيرة كلها تدل على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، وأنها وسيلة إلى شرور كثيرة وعواقب وخيمة.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان) الكلام في حكم الأغاني وآلات اللهو.
رابعا: قد كذب الكاتب على النبي صلى الله عليه وسلم حيت نسب إليه أنه كان يستمع إلى الغناء والموسيقى ويأمر بهما في الأعياد والمناسبات كالزواج والأفراح.
فإن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخص للنساء خاصة فيما بينهن بضرب الدف والإنشاد المجرد من التطريب وذكر العشق والغرام والموسيقى وآلات اللهو مما تشتمل عليه الأغاني الماجنة المعروفة الآن، وإنما رخص بالإنشاد المجرد عن هذه الأوصاف القبيحة مع ضرب الدف خاصة دون الطبول وآلات المعازف لإعلان النكاح، بل صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري أنه حرم المعازف بجميع أنواعها وتوعد عليها بأشد الوعيد، كما في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة (1) » والمعازف الغناء
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4039) .(59/379)
وجميع آلاته.
فذم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يستحلون الحر وهو الزنا ويستحلون لبس الحرير للرجال وشرب الخمور ويستحلون الغناء وآلات اللهو، وقرن ذلك مع الزنا والخمر ولبس الرجال للحرير مما يدل على شدة تحريم الغناء وتحريم آلات اللهو.
خامسا: وأما قوله: وهناك أحاديث ضعيفة يستند إليها من منع الغناء والموسيقى ولا يصح أن تنسب للصادق الأمين لتغليب رأي أو منع أمر لا يوافق عليه البعض - فهذا من جهله بالسنة، فالأدلة التي تحرم الغناء بعضها في القرآن وبعضها في صحيح البخاري كما سبق ذكره وبعضها في غيره من كتب السنة، وقد اعتمدها العلماء السابقون، واستدلوا بها على تحريم الغناء والموسيقى.
سادسا: ما ذكره عن بعض العلماء من رأي في إباحة الغناء فإنه رأي مردود بالأدلة التي تحرم ذلك، والعبرة بما قام عليه الدليل لا بما خالفه، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على هذا الكاتب أحمد المهندس أن يتوب إلى الله تعالى مما كتب، ولا يقول على الله وعلى رسوله بغير علم، فإن القول على الله بغير علم قرين الشرك في كتاب الله.
وفق الله الجميع لمعرفة الحق والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(59/380)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، ثم قال: ذروني ما تركتكم، لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم (1) »
أخرجه مسلم والنسائي.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(59/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1)
{لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} (2)
(سورة الأنعام، 162، 163)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163(60/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(60/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(60/3)
المحتويات
الافتتاحية
حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 49
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 69
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 93
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 119(60/4)
البحوث
الصراط المستقيم في إثبات انحراف القديم
لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي تحقيق وتعليق د. / محمد بن عبد الرحمن الخميس 147
الترويح في العصر النبوي أهدافه ووسائله للشيخ / عبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان 215
سليمان بن عبد الوهاب الشيخ المفترى عليه لمعالي الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 255
أحكام السواك للدكتور / عبد الله بن معتق السهلي 301
الإسراف والتبذير للدكتور / زيد بن محمد الرماني 337
بيان في لباس المرأة عند محارمها ونسائها للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 373
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بشأن المجلات الخليعة ومخاطرها 377(60/5)
صفحة فارغة(60/6)
حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فإننا اخترنا أن تكون الكلمة في هذا العدد المبارك في مجلة البحوث الإسلامية، حول حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله، وذلك لدعاء الحاجة بل والضرورة لذلك، ولما نرى من جهل كثير من المسلمين، فضلا عن غيرهم بحقيقة شهادة أن محمدا رسول الله، ووقوعهم فيما يخالفها مما يناقضها أو يضاد كمالها أو ينقص به إيمان العبد بها، فكان لزاما أن نبين ذلك نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم امتثالا لأمر الله سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (2) ، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (3) {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (4) . إلى غير ذلك من الآيات، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قال
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55
(2) سورة الأعلى الآية 9
(3) سورة الغاشية الآية 21
(4) سورة الغاشية الآية 22(60/7)
الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » . رواه مسلم.
فواجب على كل من عرف الحق بدلائله أن يبينه وينشره بين الناس، سيما في هذه الأزمان التي اشتدت فيها غربة الإسلام، وبات المعروف فيها منكرا والمنكر فيها معروفا، وقل من يرفع رأسه بالحق ويظهره فلا حول ولا قوة إلا بالله وسلوانا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (2) » .
وقبل البدء في ذلك أقدم بمقدمة أرى أنها نافعة فأقول مستعينا بالله: لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح، أمر ملائكته بالسجود له، وكان إبليس من الجن، وليس من الملائكة، وإنما دخل في خطابهم لتوسمه بأفعال الملائكة وتشبهه بهم وتعبده وتنسكه، لكن حين أمروا بالسجود وسجد الملائكة، لم يسجد إبليس اللعين: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (3) . ويقول سبحانه في سورة الكهف: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (4) الآية. أبى أن يسجد لآدم كبرا وحسدا وبغيا فكان عاقبته أن طرد من رحمة الله وحلت عليه لعنة الله، لكن الخبيث ازداد بغيه وعظم حقده على آدم
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (1926) ، سنن النسائي البيعة (4199) .
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(3) سورة البقرة الآية 34
(4) سورة الكهف الآية 50(60/8)
وذريته وطلب من الله الإنظار إلى يوم القيامة فأنظره الله، عند ذلك قال -كما قص الله خبره-: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (2) . والمعنى أنه أقسم أن يضل عباد الله من بني آدم عن طريق الحق وسبيل النجاة لئلا يعبدوا الله ولا يوحدوه ويسلك شتى الطرق لصدهم عن الخير وتحبيب الشر لهم. ومثله قوله تعالى قاصا خبره: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (4) . وقوله سبحانه: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} (5) الآية. فلم يزل بآدم عليه السلام وذريته وسوسة وإغواء وإضلالا حتى تسبب في إهباط آدم من الجنة وقتل ابن آدم لأخيه، ولم يكفه هذا فلما مر ببني آدم الزمان وطال عليهم العهد بالنبوة حسن إليهم الشرك وأغواهم فكان له ما أراد، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، ووقعوا في الشرك، وكان أول ذلك زمن قوم نوح حين عبدوا الأصنام ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وكانت هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 16
(2) سورة الأعراف الآية 17
(3) سورة الحجر الآية 39
(4) سورة الحجر الآية 40
(5) سورة الإسراء الآية 62(60/9)
التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت، هذا ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما كما في البخاري. وروى ابن جرير عن محمد بن قيس قال: " كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم".
هكذا بدأ الشرك في بني آدم، بسبب إغواء إبليس لهم، لكن الله سبحانه بحكمته وعلمه ورحمته بعباده لم يتركهم هملا يغويهم إبليس وجنده، بل أرسل إليهم الرسل لتبين لهم الدين الحق، وتحذرهم من الشرك والضلال رحمة منه بعباده، وإقامة للحجة عليهم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (1) يقول الله سبحانه وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) . ويقول سبحانه: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 42
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة الأنعام الآية 48
(4) سورة الأنعام الآية 49(60/10)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين (1) » ، وفي لفظ آخر: «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه» . فأرسل الله الرسل إقامة للحجة على عباده وإعذارا لهم. وهذه الرسالات من نعم الله على خلقه أجمعين؛ إذ حاجة العباد إليها فوق كل حاجة، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، فهم في حاجة إلى الرسالة أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والدواء، إذ قصارى نقص ذلك أو عدمه تلف الأبدان، أما الرسالة ففيها حياة القلوب والأديان، بل والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) ، أرسل الله الرسل وجعلهم بشرا من أقوام المرسل إليهم وبلسانهم ليبينوا لهم الدين الحق: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) . وكل أمة بعث فيها رسول، قال عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} (4) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4634) ، صحيح مسلم التوبة (2760) ، سنن الترمذي الدعوات (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) ، سنن الدارمي النكاح (2225) .
(2) مجموع الفتاوى (19 \ 99)
(3) سورة إبراهيم الآية 4
(4) سورة يونس الآية 47(60/11)
وقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (1) . بعثوا جميعا بدين واحد وهو الإسلام؛ إخلاص الدين لله، وتجريد التوحيد له سبحانه، واجتناب عبادة ما سواه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة، أمهاتهم شتى ودينهم واحد (4) » متفق عليه.
وكذلك أيضا كل رسول يأمر قومه بطاعته إذ هذا مقتضى الرسالة يقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (5) . ولم تزل الرسل تتابع إلى أقوامهم لدعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} (6) الآية، إلى أن جاء موسى وبعده عيسى عليهما السلام وظهرت في كتبهما البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (7) ، ويقول عز وجل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (8) . وبعد أن رفع عيسى عليه السلام وطال ببني آدم
__________
(1) سورة فاطر الآية 24
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3443) ، صحيح مسلم الفضائل (2365) ، سنن أبو داود السنة (4675) .
(5) سورة النساء الآية 64
(6) سورة المؤمنون الآية 44
(7) سورة الأعراف الآية 157
(8) سورة الصف الآية 6(60/12)
العهد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حمل إبليس بخيله ورجله على بني آدم فأضلهم ضلالا بعيدا، وأوقعهم في الكفر والشرك والضلال بصنوفه إلا قليلا منهم، وبلغ من حالهم أن مقتهم الله سبحانه عربهم وعجمهم إلا القليل، ثم بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة (1) » ، بعث والحال كما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان (2) » . . . الحديث. فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، أرسله بالهدى ودين الحق
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي، والبزار، والطبراني في الصغير بلفظ: بعثت رحمة مهداة، والطبراني في الأوسط والشهاب في مسنده، وهو بمجموع الطرق حسن وجاء في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لعانا إنما بعثت رحمة.
(2) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 63(60/13)
بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فختم به الرسل، وهدى به من الضلال، وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، فأشرقت الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام به الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء، رفع الله به الآصار والأغلال وجعل رسالته عامة للإنس والجان، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (1) ، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) .
أرسله الله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب حين حرف الكلم وبدلت الشرائع واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم وحكموا على الله وبين عباد الله بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفرق به ما بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته، والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته، رؤوف رحيم بالمؤمنين حريص على هداية الخلق أجمعين عزيز عليه عنادهم وتعنتهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) . خلاصة
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة التوبة الآية 128(60/14)
دعوته البشارة والنذارة والدعوة إلى الله ببصيرة وحكمة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (1) .
هو خاتم الأنبياء وشريعته وكتابه المهيمن على سائر الشرائع والكتب الناسخ لها: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) ، ويقول عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (3) . هو صلى الله عليه وسلم محمد وأحمد، والماحي يمحو الله به الكفر، والحاشر يحشر الخلائق على قدمه، والعاقب ليس بعده نبي، وهو نبي التوبة ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، له الحوض المورود والمقام المحمود الذي يحمد عليه الخلائق، وذلك حين يخر ساجدا تحت العرش ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، ثم «يقال له صلى الله عليه وسلم: ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع (4) » .
شرح الله صدره ووضع عنه وزره وجعل الذلة على من خالف أمره ورفع له ذكره، فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه، وكفى بذلك شرفا، وأعظم ذلك الشهادتان، أساس الإسلام ومفتاح دار السلام، عاصمة الدماء والأموال والأعراف، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 45
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) سورة المائدة الآية 48
(4) سنن الترمذي تفسير القرآن (3148) .(60/15)
فمعنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله سبحانه. وأركانها النفي والإثبات: (لا إله) نافيا جميع ما يعبد من دون الله، (إلا الله) مثبتا العبادة لله وحده لا شريك له. وشروطها: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة، وزاد بعضهم شرطا ثامنا وهو الكفر بما عبد من دون الله.
وتحقيق هذه الشهادة ألا يعبد إلا الله، وحقها فعل الواجبات واجتناب المحرمات.
هذه جمل مختصرة في شهادة ألا إله إلا الله، أما تفاصيلها فلا تحتملها هذه الكلمة اليسيرة.
أما حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله فهي متضمنة لأمور، رأسها وأساسها الإيمان به، وذلك بالإيمان واليقين التام بأنه رسول الله حقا (محمد رسول الله) وأن رسالته عامة للبشر عربهم وعجمهم يقول الله سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، ويقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (3) » متفق عليه، ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (4) » رواه مسلم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .(60/16)
بل رسالته تعم الجن أيضا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (1) إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) .
ومن الإيمان به الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب. ومن الإيمان به الإيمان بأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن كتابه القرآن الكريم هو آخر الكتب المنزلة المهيمن عليها، وشريعته هي الناسخة للشرائع قبلها، يقول عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (4) ، ويقول عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (5) ، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 29
(2) سورة الأحقاف الآية 31
(3) سورة الأحقاف الآية 32
(4) سورة الأحزاب الآية 40
(5) سورة الأعراف الآية 157
(6) سورة آل عمران الآية 85(60/17)
وقد أجمع المسلمون على ذلك وهو عندهم من العقائد الثابتة بيقين والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءت به الآيات صريحة قاطعة للمعذرة يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} (1) ، ويقول سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) .
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} (3) ، بل إن الله أخذ ميثاق النبيين على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته فلا يسع أحدا منهم لو كان حيا وقت بعثته صلى الله عليه وسلم إلا اتباعه يقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (4) {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 170
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة النساء الآية 136
(4) سورة آل عمران الآية 81
(5) سورة آل عمران الآية 82(60/18)
ومن حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر والاستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله طاعة الرسول طاعة له سبحانه وقرن طاعته بطاعة الرسول في أكثر من موضع في كتابه، يقول عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) . ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) . ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) .
وعلق الهداية على طاعته صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) ، وجعل من حقق طاعة الله ورسوله في زمرة أشرف الخلق فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (5) . بل علق على طاعة الله ورسوله الفوز العظيم ألا وهو دخول الجنات، قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة النور الآية 54
(5) سورة النساء الآية 69
(6) سورة النساء الآية 13(60/19)
وأما تصديق خبره فهو حقيقة الشهادة ولا تتم الشهادة إلا بتصديقه وإلا كان كاذبا منافقا وقد أثنى الله على المسلمين بتصديقهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) . قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد: الذي جاء بالصدق هو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} (2) هو رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} (3) قال: المسلمون. وقد ذم الله من كفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوعده بأشد العذاب، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} (4) ، وقال في سورة المدثر فيمن كذب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن يقول الله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (5) {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} (6) {وَبَنِينَ شُهُودًا} (7) إلى أن قال سبحانه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} (8) {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (9) {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (10) {ثُمَّ نَظَرَ} (11) {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} (12) {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (13) {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (14) {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (15) {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (16) .
بل إن سنة الله فيمن كذب رسله ماضية في نزول العذاب والهوان بهم، يقول الله سبحانه: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} (17) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 33
(2) سورة الزمر الآية 33
(3) سورة الزمر الآية 33
(4) سورة الزمر الآية 32
(5) سورة المدثر الآية 11
(6) سورة المدثر الآية 12
(7) سورة المدثر الآية 13
(8) سورة المدثر الآية 18
(9) سورة المدثر الآية 19
(10) سورة المدثر الآية 20
(11) سورة المدثر الآية 21
(12) سورة المدثر الآية 22
(13) سورة المدثر الآية 23
(14) سورة المدثر الآية 24
(15) سورة المدثر الآية 25
(16) سورة المدثر الآية 26
(17) سورة ص الآية 14(60/20)
ويقول سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) .
ودليل الاستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) .
فأمر بالاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم وقرنها بالاستجابة لله سبحانه وتعالى، وسمى ما يدعو إليه صلى الله عليه وسلم حياة؛ لما فيه من نجاتهم وبقائهم وحياتهم بالإسلام بعد موتهم بالكفر. وحذر من عدم الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) .
ومن حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله محبته صلى الله عليه وسلم ونصرته وموالاته وتعظيمه، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم تكون النصرة لسنته صلى الله عليه وسلم، فدليل محبته صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده (4) » ، وفي حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (5) » متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 44
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) سورة القصص الآية 50
(4) صحيح البخاري الإيمان (14) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5015) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (15) ، صحيح مسلم الإيمان (44) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5013) ، سنن ابن ماجه المقدمة (67) ، مسند أحمد بن حنبل (3/278) ، سنن الدارمي الرقاق (2741) .(60/21)
الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما (1) » . . . الحديث.
وتوعد الله سبحانه من قدم محبة أحد كائنا من كان على محبة الله ورسوله فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (2) .
ولما «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر (3) » .
ودليل النصرة والتعظيم قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وقال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (5) {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (6) ، ويقول سبحانه: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} (7)
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (16) ، صحيح مسلم الإيمان (43) ، سنن الترمذي الإيمان (2624) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4988) ، سنن ابن ماجه الفتن (4033) .
(2) سورة التوبة الآية 24
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6632) ، مسند أحمد بن حنبل (4/233) ، أول مسند الكوفيين (4/336) ، باقي مسند الأنصار (5/293) .
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة الفتح الآية 8
(6) سورة الفتح الآية 9
(7) سورة آل عمران الآية 81(60/22)
ووصف طائفة من المؤمنين وأثنى عليهم بقوله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1) ، ويقول سبحانه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} (2) ، ويقول سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (3) ، ودليل الولاية قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (4) {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (5) . ويقول عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (6) .
ومما يدخل في حقيقة هذه الشهادة العظيمة التسليم له صلى الله عليه وسلم وتحكيم شرعه والتحاكم إليه والرضا به، والدليل قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7) . وقال سبحانه
__________
(1) سورة الحشر الآية 8
(2) سورة التوبة الآية 40
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة المائدة الآية 55
(5) سورة المائدة الآية 56
(6) سورة التحريم الآية 4
(7) سورة النساء الآية 65(60/23)
في صفة المؤمنين مثنيا عليهم ومشيدا بهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . وقال سبحانه واصفا المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (3) {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (4) {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) . وقال سبحانه أيضا فاضحا أمرهم مشددا في ترك طريقهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (6) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (7) .
فتحكيم شرع الله وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، الأفراد على أنفسهم وكذلك الحكام وولاة الأمر على رعاياهم ومن تحت أيديهم واجب فرض متحتم لا محيد عنه لمؤمن مسلم بل هو من حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
__________
(1) سورة النور الآية 51
(2) سورة النور الآية 47
(3) سورة النور الآية 48
(4) سورة النور الآية 49
(5) سورة النور الآية 50
(6) سورة النساء الآية 60
(7) سورة النساء الآية 61(60/24)
ومن حقيقة هذه الشهادة العظيمة -شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم- الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم واتباع سنته والرد إليه في حياته عند التنازع، وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وتقديم سنته على رأي كل أحد كائنا من كان والحذر من مخالفته ومشاقته ومحادته صلى الله عليه وسلم. يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) . ويقول عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) . ولما ادعى أقوام محبة الله سبحانه أنزل آية الامتحان في سورة آل عمران وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) .
ويقول أيضا جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4) . ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5) . ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة الحجرات الآية 1
(6) سورة الأحزاب الآية 36(60/25)
وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وقال الشافعي يرحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقال أحمد رضي الله عنه: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. اهـ.
هذا قول أحمد فيمن اتبع رأي سفيان وهو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، إذا كان رأيه يخالف الحديث فكيف. ممن هو دونه؟!
ويقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (3) ، وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) ،
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة النساء الآية 115
(4) سورة الأنفال الآية 13(60/26)
ويقول عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (1) .
هذه هي حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من التفصيل والبيان. وقد أجملها بعض أهل العلم -وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله- فقال في معناها: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
هذا وإن حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته أمور عظيمة:
منها: ألا يخاطب كما يخاطب سائر الناس بل يخاطب باحترام وأدب فيقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: محمد، أو محمد بن عبد الله ونحو ذلك يقول الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (2) الآية.
ومنها أيضا: سؤال الله الوسيلة له صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وإني لأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (3) » رواه مسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 63
(2) سورة النور الآية 63
(3) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .(60/27)
ومنها أيضا: الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وهي في الصلاة واجبة بل عدها بعض العلماء ركنا لا تصح الصلاة إلا بها. وتتأكد عند ذكره صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة وليلتها وعند الدعاء إلى غير ذلك وقد بسط ذلك بسطا نافعا ومفيدا العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه النافع القيم (جلاء الأفهام) فليراجع هناك. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
أيها الإخوة في الله قد بينا فيما سبق حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله التي من عمل بها والتزم بها ظاهرا وباطنا فهو الصادق في شهادته، ومن خالفها فإنه على خطر عظيم.
والمخالف لهذه الشهادة أقسام: فقسم لا يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وينكرها جملة وتفصيلا تكذيبا أو عنادا، كحال المشركين.
وقسم يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكن ينكر عمومها، ويقول: إنها خاصة بالعرب، كحال طوائف من أهل الكتاب. ويقال لهؤلاء وأولئك: يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) ويقول سبحانه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) سورة سبأ الآية 28(60/28)
وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، ويقول سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (2) .
وليس مقصودنا في هذه الكلمة استقصاء الرد على هؤلاء وغيرهم من الطوائف فإن علماء الإسلام وأئمتهم قد أجادوا في ذلك وصنفوا فيها المصنفات فمن أراد الاستزادة فعليه مراجعة المطولات.
وقسم يشهدون أن محمدا رسول الله، وينتسبون للإسلام، لكنهم خالفوا حقيقة هذه الشهادة بأنواع ومراتب من المخالفات بعضها أعظم من بعض.
فقسم منهم بالغ في الغلو فيه صلى الله عليه وسلم وجعله نورا أزليا ينتقل في الأنبياء حتى جاء صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يزعم أنه مظهر يتجلى الله فيه والعياذ بالله. فالأول قول الغلاة الشيعة والباطنية وأيضا غلاة الصوفية. والثاني هو قول أهل وحدة الوجود. وكل هذه أقوال كفرية لا تصدر في قلب مؤمن وإنما يزخرف فيها القول وتلبس لباس الإسلام تمويها على العوام. وإلا فهي مضاهاة لقول من سبق من الأمم الكافرة من مثل اعتقاد النصارى في المسيح وأنه إله في صورة إنسان.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة الأنعام الآية 33(60/29)
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بشر وعبد من عباد الله اصطفاه الله وشرفه بأن كان خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين وبشريته تنفي ما زعم فيه من المزاعم الباطلة التي ذكرت سابقا وما شابهها، يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1) ، وقال عز وجل: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون (3) » . وغير ذلك من الأدلة والنصوص الدالة قطعا على بشرية محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه إنما ميزه بالرسالة والنبوة، أما الغلو فيه ورفعه فوق منزلته فهذا مخالف لحقيقة رسالته وشهادة أن محمدا رسول الله.
وقسم منهم غلا فيه أيضا بأن صرف له صلى الله عليه وسلم أنواعا من العبادة مثل: الدعاء والخشوع والصلاة إلى قبره ونحو ذلك مما هو من خالص حق الله عز وجل. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك، وشدد فيه وأبدأ فيه وأعاد، بل قبل ذلك القرآن الكريم فإن الله سبحانه خص الدعاء والخضوع والصلاة ونحوها من العبادات به سبحانه. يقول عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (4) ، ويقول سبحانه
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) سورة الإسراء الآية 93
(3) صحيح البخاري الصلاة (401) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (572) ، سنن النسائي السهو (1244) ، سنن أبو داود الصلاة (1020) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) ، سنن الدارمي الصلاة (1498) .
(4) سورة غافر الآية 60(60/30)
واصفا أفضل عباده: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1) ، وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) ، وقال أيضا عز وجل آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (5) » أخرجاه. وفي الصحيحين أيضا «عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (6) » .
ونهيه صلى الله عليه وسلم وتشديده في اتخاذ القبور مساجد بالصلاة لله عندها، وإخباره بلعن من فعل ذلك مع أنه لم يعبدها ولم يدعها وإنما ذلك ذريعة لعبادتها والشرك بها، فكيف بمن عبدها وتوجه إليها ونذر لها وطاف بها وذبح لها ودعا أهلها وطلب منهم النفع والضر.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 90
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(6) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(60/31)
قال القرطبي -رحمه الله-: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة لقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. اهـ.
وبهذا يتبين أن الله سبحانه قد صان قبره صلى الله عليه وسلم إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (1) » وأن من توجه إليه إنما هو في الحقيقة قاصد لما قام في قلبه أنه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقبره صلى الله عليه وسلم لا يمكن استقباله ولا الوصول إليه.
بل هو كما قال ابن تيمية يرحمه الله تعالى: إن الوصول إلى قبره صلى الله عليه وسلم غير مقدور ولا مأمور. اهـ. وذلك بعد إحاطته بثلاثة جدران.
وقسم غلوا فيه صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه يعلم الغيب ويعلم أحوالهم وما هم عليه، بل وصل ببعضهم أن زعم أنه يشاهده ويجتمع به يقظة لا مناما. وهذا تكذيب لكتاب الله وكفر بالله عز وجل يقول سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (2) . ويقول سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) ،
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (416) .
(2) سورة النمل الآية 65
(3) سورة هود الآية 123(60/32)
ويقول عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (1) ويقول سبحانه وتعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (2) الآية من سورة الأنعام، ويقول عز وجل آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) .
وأما أدلة وفاته صلى الله عليه وسلم فكثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (4) ، وقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (5) ، ومنها قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (6) ، وفي حديث عائشة في قصة وفاته صلى الله عليه وسلم وفي آخرها قال صلى الله عليه وسلم: «في الرفيق الأعلى ثم فاضت روحه صلى الله عليه وسلم (7) » .
هذا وهناك من الناس من خالف حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله. بما هو دون الكفر وإن كان خطيرا يجب الحذر منه فمن ذلك: الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا شرك أصغر وذريعة للشرك الأكبر إذا
__________
(1) سورة الرعد الآية 9
(2) سورة الأنعام الآية 50
(3) سورة الأعراف الآية 188
(4) سورة الزمر الآية 30
(5) سورة الأنبياء الآية 34
(6) سورة آل عمران الآية 185
(7) صحيح البخاري كتاب الرقاق (6510) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2444) ، سنن الترمذي الدعوات (3496) ، مسند أحمد بن حنبل (6/200) ، موطأ مالك الجنائز (562) .(60/33)
اعتقد مساواته بالله عز وجل يقول صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك (1) » وفي الحديث الآخر: «لا تحلفوا بآبائكم (2) » .
وقسم من الناس خالف حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله بالابتداع في الدين، وكل بدعة أحدثت فهي مخالفة لحقيقة شهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن من حقيقتها ألا يعبد الله إلا بما شرع صلى الله عليه وسلم، فإذا تقرب العبد لله بالبدع فقد خالف مدلول الشهادة.
ومن البدع التي ظهرت وانتشرت واستشرت في المجتمعات الإسلامية وخصوصا في مثل هذه الأيام -أيام شهر ربيع الأول- بدعة المولد النبوي، ولما كانت البلوى قد عمت بها في هذه الأزمان رأينا أن نعرض لها بشيء من التفصيل فنقول وبالله التوفيق: إن الأصل في هذا الدين الذي دلت عليه الدلائل القطعية من الكتاب والسنة أن لا يعبد إلا الله وألا يعبد الله إلا بما شرع سبحانه في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قال أهل العلم إن العبادات توقيفية، بمعنى أن المسلم لا يتقرب إلى الله إلا بما شرعه سبحانه وتعالى وبينته سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من قصد التقرب إلى الله بأعمال ظنها حسنة في عقله أو أخذها عن غيره وإن كان معظما من العلماء أو من غيرهم فهذا عمله مردود مبتدع وإن قصد الخير. لذا جاء عن بعض الصحابة: (ما كل من قصد الخير أدركه) قاله لأقوام يتقربون لله بما لم يشرعه، ولما نهاهم قالوا: الخير أردنا.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .(60/34)
وهنا أصل أيضا متقرر معلوم عند علماء الإسلام وهو أنه عند حدوث التنازع يجب الرد إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدناه فيه أخذنا به وعملنا به، وما لم نجده لم نتقرب إلى الله به، يقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ، ويقول سبحانه أيضا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها الذي عده أهل العلم ميزان العمل الظاهر يقول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » .
إذا تقرر هذا وهو بحمد الله متقرر عند علماء الإسلام نرجع إلى مسألة المولد النبوي، فنقول: لما كان بعض العلماء المتأخرين قد استحسنها، وقد شنع فيها غيرهم من العلماء والمحققين وذكروا بدعيتها، فكانت عندنا من مسائل التنازع فهنا نرجع إلى الأصل في مسائل التنازع ألا وهو الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن إذا رجعنا لكتاب الله لم نجد لهذه المسألة أصلا يعتمد عليه، وبتتبع سيرته صلى الله عليه وسلم لم ينقل لنا أنه أمر بالاحتفال بمولده أو أنه احتفل صلى الله عليه وسلم بمولده، أو أن أحدا احتفل بمولده في عهده صلى الله عليه وسلم فأقره، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد عاش ثلاثا وستين سنة، وقد صحبه وآمن به رجال هم أشد الناس محبة له وتوقيرا وتعظيما وفهما لمراد الله والرسول، بل بذلوا أرواحهم
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(60/35)
دفاعا عنه صلى الله عليه وسلم وذبا عن دينه صلى الله عليه وسلم، وحرصوا على متابعته في كل صغيرة وكبيرة، ونقلوا لنا سنته صلى الله عليه وسلم، ولم يخلوا بشيء منها حتى نقلوا لنا اضطراب لحيته في الصلاة إذا استفتح، فلا يمكن أن يكون الاحتفال بالمولد قد عمل في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينقل مع تعاقب السنين وتوافر الهمم والدواعي لنقله.
ثم نظرنا أفضل القرون بعده صلى الله عليه وسلم وأحب الناس إليه وهم أصحابه فلم ينقل عنهم ناقل أنهم احتفلوا بمولده صلى الله عليه وسلم لا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولا عمر الفاروق رضي الله عنه ولا عثمان ذو النورين رضي الله عنه ولا علي بن أبي طالب صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمه وأبو سبطيه رضي الله عنهم ولا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم بل ولا التابعين ومن تبعهم بإحسان لا في المائة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، مع قيام المقتضي -الذي يذكره أهل العصر الآن- وانتفاء المانع الحسي من ذلك. فعلم أنهم إنما تركوه لقيام المانع الشرعي وهو أنه أمر لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا هو مما يحبه الله ويرضاه ولا مما يقرب إليه زلفى، بل هو بدعة حادثة تتابع على تركها أفضل البشر صلى الله عليه وسلم وأفضل القرون رضي الله عنهم وأفضل علماء الأمة علماء الصدر الأول من الإسلام وفي هذا الدليل العظيم والأصل الأصيل مقنع لمن فتح الله على قلبه وأنار بصيرته ورزقه التوفيق والهدى والسداد.
وهذا الذي ذكرناه من أن السلف لم يفعلوا هذا المولد اتفق عليه علماء المسلمين ممن يرى إقامة المولد ومن لا يراه.(60/36)
والاحتفال بالمولد إنما حدث في القرن الرابع على يد بني عبيد القداح الذين يسمون (بالفاطميين) وهؤلاء القوم قد بان لعلماء الإسلام ضلالتهم وأنهم من الإسماعيلية الباطنية ولهم مقالات وأفعال كفرية فضلا عن البدع والمنكرات، فليسوا أهلا للاقتداء والتأسي.
ثم إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
وإحداث مثل هذه الموالد فيه استدراك على الله، وأن الدين لم يكمل حتى جاء في القرون المتأخرة من زاد فيه، ولا شك أن هذا تكذيب لظاهر القرآن واستدراك على الملك العلام نعوذ بالله من الخذلان.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم (2) » . ولا شك أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وأفضلهم وسيدهم وأنصحهم لأمته وأوضحهم بيانا وأفصحهم لسانا، فلو كان الاحتفال بالمولد خيرا وقربة لبادر صلى الله عليه وسلم لبيانه لأمته ولدلهم عليه وحثهم، فلما لم ينقل ذلك علمنا قطعا أنه لا خير فيه، فضلا عن كونه قربة لله سبحانه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .(60/37)
ثم أيضا يقال لمن أراد الاحتفال بالمولد النبوي: في أي يوم تحتفل؟ وذلك لأن أهل السير قد اختلفوا في مولده صلى الله عليه وسلم. فمنهم من قال: في رمضان، ومنهم من قال: في ثامن ربيع الأول، ومنهم من قال: إنه في ثاني عشر ربيع الأول وقيل غير ذلك. فكيف يتم لكم الاحتفال؟ أم هل ترى ولادته قد تكررت؟
إن الاضطراب في تحديد تاريخ ولادته التي هي مبنى الاحتفال؟ عند من يحتفل به دال على أنه ليس من الشرع في شيء؛ إذ لو كان مشروعا لاعتنى المسلمون بضبطه وبيان شأنه، شأن مسائل الشرع والقرب الأخرى.
ثم أيضا يقال: هب أن مولده صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول فإن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت أيضا في شهر ربيع الأول أي في نفس الشهر فليس الفرح بمولده بأولى من الحزن على وفاته صلى الله عليه وسلم. وهذا ما لم يقل به أحد من قبل.
هذا وإن هذه المسألة واضحة بحمد الله لمن أمعن النظر ودققه وبحث ومحص ولم يكن ديدنه التقليد دون دليل، وإن هذه المسألة مما لبس به إبليس لإغواء بني آدم وإضلالهم وقد وجد في هذه الموالد من المفاسد ما يظهر معه جليا أنها تلبيس إبليس وذلك من أمور: - منها: اعتقاد التقرب إلى الله بهذا الاحتفال، وقد قدمنا أن الأصل في القربات التوقيف والدليل، ولا دليل هنا.(60/38)
- ومنها: ما يحصل فيها من منكرات عظيمة؛ منكرات عقدية، ومنكرات أخلاقية، فمن المنكرات العقدية وهي أخطرها ما يحدث فيها من المدائح التي قد جاء في بعضها الغلو فيه صلى الله عليه وسلم حتى أوصلوه لمرتبة الألوهية وصرفوا الدعاء له، يقول البوصيري في بردته:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
نعوذ بالله من الخذلان، فأين رب السماوات والأرض؟ أين الرحيم الرحمن؟ إذا صرف للرسول صلى الله عليه وسلم اللوذ وخصه بذلك في حال الشدة.
ويقول أيضا في مبالغة أخرى وغلو زائد:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ولا شك أن هذا محض حق الله، وقد صرفه للرسول صلى الله عليه وسلم دفعه لذلك الغلو الزائد وإرجاف إبليس وجنده الذين ينشطون في مثل هذه المواطن. وهذا من الشرك الذي أخبر الله أنه لا يغفره نسأل الله السلامة والعافية.
ومما يحدث في الموالد المنكرات الأخلاقية، وما يحدث فيها من اختلاط الرجال بالنساء بل ورقصهن معهم والسهر الطويل على ذلك، حتى أضحت مرتعا للفساق والبطالين ومناخا مناسبا لهم.
- ومنها: ما قام به البعض من الإنكار على من لم يعمل هذه الموالد بل وصل ببعضهم الأمر حتى كفروهم وكفروا من ينكرها.(60/39)
ولا شك أن هذا من استدراج الشيطان لهم وتزيينه لهم وإشراب قلوبهم هذه البدعة المنكرة والعياذ بالله. فابتدعوا بدعة وعملوا بها ثم كفروا من لم يتابعهم ومن أنكر عليهم نصحا لهم ليردوهم إلى دين الله القويم، وهذا من شؤم البدع والمعاصي إذ لا تزال بصاحبها حتى ترديه والعياذ بالله.
هذا وربما استدل بعض من يقيم هذه الاحتفالات بأدلة يظنها حقا وهي في الحقيقة سراب بقيعة. وهي دائرة بين نص صحيح غير صريح بل ومحرف عن موضعه، وبين نص ضعيف لا تقوم به حجة. فمن ذلك ما استدل به بعضهم من قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (1) ، قال: إن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن وذكر الآية ثم قال: فالله أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) هكذا قال واستدل.
فنقول وبالله التوفيق والسداد: أولا: هذا الاستدلال بالآية لم يسبقه إليه السلف ولا قالوا به، ولو كان خيرا لسبقونا إليه وإحداث أمر لم يعهده السلف مردود على صاحبه، ومدار تفاسير السلف لهذه الآية وأقوالهم فيها على أن فضل
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(2) سورة الأنبياء الآية 107(60/40)
الله ورحمته يراد بها الإسلام والسنة، كما بين ذلك ابن القيم يرحمه الله في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) .
ثم يقال أيضا لهذا المستدل: إنك فسرت الرحمة هنا والفرح بها بالمولد النبوي والفرح به، وعضدت ذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وهذه الآية في إرساله صلى الله عليه وسلم لا في مولده وبين مولده وإرساله ما يقارب الأربعين عاما. وهكذا جميع النصوص التي فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة إنما يوصف بها بعد البعثة والإرسال والنبوة ولم يثبت فيما نعلم وصف مولده بالرحمة، فلا يتم له الاستدلال بالآية، لو سلمنا له.
وربما استدل بعضهم بما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه» فخرج السيوطي على هذا الحديث عمل المولد.
ويجاب عن هذا بأن الحديث ضعيف أنكره أهل العلم بالحديث قال مالك -رحمه الله- لما سئل عن هذا الحديث: (أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لم يعق عنهم في الجاهلية أعقوا عن أنفسهم في الإسلام، هذه الأباطيل) ا. هـ (2) .
والحديث فيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف قال عبد الرزاق رحمه الله بعد أن ذكر الحديث في مصنفه: (إنما تركوا ابن محرر لهذا الحديث) ذكر ذلك ابن القيم في تحفة المودود، ص 61.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) انظر المقدمات الممهدات لابن رشد (2 \ 15)(60/41)
وفي مسائل أبي داود أن أحمد رحمه الله لما حدث بهذا الحديث قال: هذا منكر، وضعف عبد الله بن محرر.
بل قال البيهقي رحمه الله راوي الحديث: روى عبد الله بن محرر في عقيقة النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه حديثا منكرا وذكر الحديث بإسناده ثم قال - قال عبد الرزاق: إنما تركوا عبد الله بن محرر لحال هذا الحديث، وقد روي من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء. اهـ (1) .
وكذلك حكم النووي رحمه الله على الحديث بالبطلان، وبهذا يتبين سقوط الاستدلال به لما عرفت من حاله. ولهم استدلالات أخرى كلها لا تقوم بها حجة وإنما هي كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (2) ، وما هي إلا اتباعا للمتشابه الذي أخبر سبحانه أن اتباعه هو طريق أهل الزيغ.
وبهذا يتضح لك أيها الموفق أن هذه الاحتفالات والأعياد بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وأنها مضاهاة لما عليه النصارى الضالون من تكثير الأعياد والاحتفالات وما ذاك إلا لقلة الدين وضعف العلم. وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب
__________
(1) السنن الكبرى (9 \ 300)
(2) سورة النجم الآية 23(60/42)
لدخلتموه (1) » . نسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق والسداد والهداية لطريق الحق والرشاد.
وفي ختام هذه الكلمة أوصي نفسي وسائر إخواني المسلمين بتقوى الله في السر والعلن والتحقق في ذلك وأن يكون ديدن الجميع طلب الحق والعمل به، وأوصى إخواني المسلمين جميعا بالتفقه في الدين وطلب العلم ليعبدوا الله على بصيرة ولينالوا الخيرية يقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » ، فعليكم إخواني بالتفقه في دينكم وتعلم العلم الشرعي المتين المبني على الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وألا تقدموا على أمر إلا بعلم، ولا تحجموا عنه إلا بعلم، ومتى أشكل عليكم الأمر واشتبهت عليكم الطرق فعليكم بسؤال أهل العلم المعروفين باتباع الحق والعمل به امتثالا لأمر ربكم عز وجل حيث يقول سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) . كما أوصي إخواني من العلماء وطلاب العلم أن يتقوا الله فيما علموا وأن يبينوا للناس ما خفي عليهم من أمر دينهم وأن يجتهدوا في طلب الحق بدلائله من الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح وينشروا ذلك بين الناس، فإن الله قد أخذ على أهل العلم الميثاق على أن يبينوا للناس ما علموا مما يحتاجون إليه وحذر من اتباع سبيل من كتمه ويشتري به ثمنا قليلا، فقال سبحانه:
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) سورة النحل الآية 43(60/43)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) وقال سبحانه في شأن من لم يرفع بالعلم رأسا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (2) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) .
وأنتم يا علماء الإسلام ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في تبليغ رسالة الله «وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (4) » .
ولا يصدنكم عن الحق وبيانه كثرة من ضل، فإن الكثرة لا تدل على أن الحق في جانبهم بل إن الله قد ذم الكثرة في مواضع، منها قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (5) وقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (6) ، وقوله عز وجل: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (7) ، كما أن القلة لا تعني أن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة الأعراف الآية 175
(3) سورة الأعراف الآية 176
(4) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .
(5) سورة الحديد الآية 26
(6) سورة المائدة الآية 49
(7) سورة الأنعام الآية 119(60/44)
الحق ليس معهم فإن الله قد أثنى على القلة في مواضع فقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (1) ، وقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (2) ، وغير ذلك من الآيات.
فعلم بهذا أن العبرة إنما هي بالحق وإن كنت وحدك كما قاله بعض السلف. وكذلك أيضا يجب على العالم ألا ينساق لما اعتاده الناس وجروا عليه مما يخالف الشرع بل عليه البلاغ والبيان وإن رفضه الناس والله سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
ووصية أخيرة لحكام المسلمين وولاة أمورهم وأمرائهم بأن ينصحوا لرعاياهم ومن تحت أيديهم وأن يحملوهم على الحق، وأن يحكموا فيهم شرع الله وأن يسعوا في رفع البدع والضلالات عن بلدانهم فإن الله سائلهم عن ذلك كله يقول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته (4) » . نسأل الله سبحانه أن يفتح على قلوب الجميع وأن يرزقنا جميعا الصلاح والهداية وحب هذا الدين والعمل على نشره وتوعية الناس به.
كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعته والعمل بما يرضيه وأن يرزقهم البطانة الصالحة ويسددهم في
__________
(1) سورة سبأ الآية 13
(2) سورة ص الآية 24
(3) سورة العنكبوت الآية 69
(4) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(60/45)
القول والعمل وأن يغفر لنا جميعا ويتجاوز عن تقصيرنا وخطايانا ويلهمنا الصواب ويوفقنا للعمل به إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أله وصحبه ومن تبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين.(60/46)
صفحة فارغة(60/48)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية رحمه الله
معرفة أصل الإسلام أولا
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة فضيلة السكرتير العام لجمعية العلماء المركزية - دلهي - وفقهم الله للعمل بكتابه، وتحكيم شريعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد الله إليكم تعالى، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وآله وصحبه. وقد وصلنا كتابكم الذي ذكرتم فيه أن المجلس التنفيذي للجمعية المركزية لعلماء الهند قرر في جلسته المنعقدة بولاية دلهي بالهند أن يتصل بالهيئات الإسلامية في البلاد الإسلامية الناهضة، ليستنير بآراء رجالها، وما وضعوه من قوانين في سبيل الإصلاح الديني والاجتماعي الذي يتلاءم مع التعاليم والأخلاق الإسلامية، ويتعرف العوامل والأسباب الأساسية التي راعاها المصلحون الشرعيون، والأهداف التي يرمون إليها، وذلك تمهيدا لإصدار قوانين إصلاحية شاملة للنهوض بالمسلمين بالهند، وذكرتم من المسائل التي يهم المجلس أن يستنير بالرأي فيها ما يلي:(60/49)
1 - حكم من يتزوج بزوجة ثانية مع وجود الزوجة الأولى.
2 - حكم إشراك ابن الابن في الميراث مع وجود أبناء الصلب.
3 - حكم إنفاق الأموال في حفلات الزواج والمآتم.
وقبل الشروع في الجواب أحب أن أقدم لكم مقدمة مختصرة مهمة، وهي: أنه مما يسرنا ويسر كل مسلم غيور على دينه أن يتكون من الجمعيات العامة التي تهدف إلى إصلاح الأوضاع والتمسك بأصل الدين وتعاليمه الشريفة ومحاربة كل ما خالف الشريعة الإسلامية من البدع والخرافات والدجل، وكذلك ما هو أهم من ذلك ما يدخله الملحدون الزنادقة والمستشرقون وغيرهم في أفكار بعض المسلمين في تشكيكهم في أصل دينهم، وتضليلهم عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وشريعته، وتحكيم القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية. وأهم ذلك معرفة أصل التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، وتحقيقه علما وعملا، ومحاربة ما يخالفه من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، أو من أنواع الشرك الأصغر. وهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله. وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله: من تحكيم شريعته، والتقيد بها، ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها أو حاكم إليها معتقدا صحة ذلك وجوازه فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملة.(60/50)
تفسير أصل الإسلام
- التوحيد ومعناه إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة: بأن لا يدعى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرجى ولا يخاف إلا هو، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، إلى غير ذلك من أنواع العبادة وهي كثيرة، فإن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
ومجرد الإقرار بتوحيد الربوبية من أن الله هو الخالق الرازق المدبر وحده لا يكفي في عصمة الدم والمال، ولا يكون به الرجل مسلما حتى يوحد الله تعالى في العبادة، فإن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وكانوا مع إقرارهم بذلك كفارا مشركين حلال الدم والمال، لشركهم بالله في العبادة.
وشرك هؤلاء المشركين الذين نزل القرآن بكفرهم وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس أكثر من جعلهم الوسائط بينهم وبين الله تعالى، يدعونهم مع الله، ويذبحون لهم، ونحو ذلك، يزعمون أنهم يشفعون لهم عند الله ويقربونهم إلى الله زلفى، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2)
__________
(1) سورة يونس الآية 31
(2) سورة يونس الآية 18(60/51)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) ، وقال تعالى عن صاحب يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} (3) {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (5) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (6) ، وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (7) .
وهذا التوحيد هو مدلول الكلمة العظيمة لا إله إلا الله، فإنها اشتملت على أمرين هما ركناها: النفي، والإثبات. فشطرها الأول وهو (لا إله) نفي، وشطرها الآخر وهو (إلا الله) إثبات، فالنفي المحض ليس بتوحيد، كما أن الإثبات المحض ليس بتوحيد، وإنما التوحيد في مجموع الأمرين: نفي الألوهية -التي بحق- عن غير الله نفيا عاما كما تفيده (لا) النافية للجنس الداخلة على النكرة. وإثبات جميع أنواع الألوهية لله وحده كما تقتضيه (إلا) الإيجابية.
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة يس الآية 22
(3) سورة يس الآية 23
(4) سورة يس الآية 24
(5) سورة يس الآية 25
(6) سورة الأنعام الآية 94
(7) سورة الأحقاف الآية 28(60/52)
إذ معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) .
وقد جاء تفسير لا إله إلا الله مبينا في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (2) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (3) {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (4) .
والمراد بالكلمة المذكورة في هذه الآية لا إله إلا الله، فإن المعنى أن إبراهيم عليه السلام جعل {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (5) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (6) كلمة باقية في عقبه أي ذريته يدين بها منهم من لا يشرك بالله شيئا، ومن المعلوم عند العلماء من المفسرين وغيرهم أن الكلمة التي ترك إبراهيم عليه السلام في عقبه هي لا إله إلا الله، فكان معبرا عنها في هذه الآية الكريمة {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (7) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (8) فاتضح بذلك أن هذا هو معنى لا إله إلا الله.
ومما يفسر لا إله إلا الله ويوضح معناها أيضا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (9) . فإنه لا كلمة يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم سوى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، وجاءت هذه الكلمة مفسرة في هذه الآية، يقول الله عز وجل: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (10) وهذا من أبين شيء في تفسير لا إله إلا الله.
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الزخرف الآية 26
(3) سورة الزخرف الآية 27
(4) سورة الزخرف الآية 28
(5) سورة الزخرف الآية 26
(6) سورة الزخرف الآية 27
(7) سورة الزخرف الآية 26
(8) سورة الزخرف الآية 27
(9) سورة آل عمران الآية 64
(10) سورة آل عمران الآية 64(60/53)
هذا ما نعتقده وندين الله به.
وإني إذ أقرر هذه الأصول العظيمة الواجبة الاتباع أستنهض همم إخواني المسلمين في داني الأرض وقاصيها وأستثير عزائمهم إلى التمسك بذلك والاعتناء به، وأدعوهم إلى أن يرجعوا إلى ربهم في سرهم وعلانيتهم، ويصدقوا فيما بينهم، وأن تتصافى قلوبهم وتتوحد كلمتهم وتجتمع صفوفهم، ويكون الهدف والقصد واحدا وهو تحكيم الشرع الشريف ورفض القوانين الوضعية التي عزل بها الكتاب والسنة. فبذلك يقوم لنا مجدنا، ونكون السباقين إلى كل خير، المنصورين في كل حلبة. قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) .
هذا وإني قد فتحت الباب على مصراعيه لمن يريد المذاكرة معي في أي شيء مما يراد به الحق ونصرة الإسلام والمسلمين.
وختاما أوصي إخواني المسلمين باغتنام بقية هذا الشهر الشريف وأن يختموه بتوبة نصوح ويتعرضوا فيه لنفحات رحمة المولى تبارك وتعالى، فإن لله في أيام الدهر نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وأحرى الأيام بها أيام هذا الشهر العظيم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «شهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار» .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 139
(2) سورة آل عمران الآية 103(60/54)
هذا وأسأل الله عز شأنه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يبلغنا في إخواننا المسلمين ما نحبه لهم من خيري الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، كما أسأله تعالى وأبتهل إليه أن يجعل أزكى صلواته وأفضل تسليماته وأسمى تكريماته على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.(60/55)
الجهل بأصل الإسلام ومضرته
في هذه الأزمان وقبلها بأزمان يدعى العلم ضخام العمائم الذين يدعون أنهم حفاظ الدين على الأمة وأنهم وأنهم. أبو جهل أعلم منهم، فإنه يعلم معنى لا إله إلا الله وهم لا يعرفونه. والجهل درجات فبه تعرف قدر الذين أبو جهل أعلم منهم.
ما دخلت الخرافات إلا بالتسامح في معرفة التوحيد وبالغلو في الصالحين، وأنه يكفي التسمي بالإسلام. فبذلك وقع الشرك.(60/55)
الدعوة إلى التوحيد قبل الدعوة إلى الفروع
أوجه خطابي هذا إلى كافة المسلمين من حجاج بيت الله الحرام وغيرهم، نصيحة لهم، وبراءة للذمة، ورجاء أن يتنبهوا من غفلتهم ويستيقظوا من رقدتهم، ويصير أكبر همهم وجل بحوثهم وعامة كتاباتهم وإرشاداتهم حول تحقيق معرفة ما هم إليه أشد شيء ضرورة من بيان حقيقة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ضرورتهم إلى(60/55)
ذلك أعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب، بل أعظم وأكبر من ضرورتهم إلى النفس، فإن المتكلمين من الكتاب والمرشدين وسواهم ممن يلم بجنس هذه الأمور قد اختلفت وجهتهم وافترقت مغازيهم في كتاباتهم وإرشاداتهم، وذلك بحسب اختلاف وافتراق ما يدور في أفكارهم، ويستقر في تصوراتهم، ويحسن في أنظارهم من المهمات والأهميات، لا فرق في ذلك بين المتكلم والمرشد الديني والمتكلم خلافه. وأجد من يتكلم عن الأمور الدينية أكثرهم أو كلهم إلا من شاء الله لا يكتبون ولا يرشدون إلا في أمور هي في الحقيقة من الفروع والمكملات، فتجد الكاتب وتجد المرشد لا يتكلم إلا حول فرضية الصلاة مثلا ووجوب فعلها في جماعة، أو الحج، أو صيام رمضان، أو الزكاة وأشباه ذلك. أو في أشياء من المحرمات كالربا والتعدي على الأنفس والأموال والأعراض وغير ذلك من المعاصي والمخالفات، ونعم ما فعلوا، وحسن طريقا ما سلكوا ولكنهم كانوا عن أهم الأهم في بعد إلى الغاية، فقد كان خير الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول بعثته ومبدأ دعوته يبدأ بالأهم فالأهم، وأقام صلى الله عليه وسلم. بمكة عشر سنوات من بعثته قبل فرض الصلاة التي هي عمود الإسلام وما بعدها من الأركان كل ذلك في بيان التوحيد والدعوة إليه، وبيان الشرك وتهجينه والتحذير منه. وأول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم في رسالته سورة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (4) {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (5) {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (6) {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (7) . وكان صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة المدثر الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة المدثر الآية 3
(4) سورة المدثر الآية 4
(5) سورة المدثر الآية 5
(6) سورة المدثر الآية 6
(7) سورة المدثر الآية 7(60/56)
يسلك في الإنذار عن الشرك والدعوة إلى التوحيد شتى الطرق ويسعى في حثه الناس لإبلاغهم ذلك بكل ما يمكنه، حتى إنه مرة صعد على الصفا صلى الله عليه وسلم رافعا صوته واصباحاه فلما اجتمعوا إليه قال: «يا أيها الناس إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد (1) » .
فحقيق بالمسلمين ولا سيما العلماء أن يجعلوا كبير عنايتهم ومزيد اهتمامهم بمعرفة حقيقة ما بعث الله به الرسل من أولهم إلى آخرهم وخاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، وتعليمهم ذلك، والعمل به ظاهرا وباطنا، والموالاة والمحبة والتناصح فيه، والتواصي به، من توحيد الله تبارك وتعالى في ربوبيته وفي ذاته تبارك وتعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي إلهيته وما يستحق من عبادته وحده لا شريك له، وأنه ما في العالم علويه وسفليه من ذات أو صفة أو حركة أو سكون إلا الله خالقه لا خالق غيره ولا رب سواه، وأن يوحد سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، بأن يؤمن أنه تعالى واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه حي قيوم، على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه تبارك وتعالى سميع بصير، يرضى، ويسخط، ويحب، ويحب، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته تبارك وتعالى، فنثبت كل ما ورد في الكتاب والسنة من هذا الباب إثباتا بريئا من تشبيه المشبهين، كما ننزهه تبارك وتعالى عن جميع ما لا يليق بجلاله وعظمته تنزيها بريئا من تعطيل المعطلين. وأن يوحد تبارك وتعالى في ألوهيته بأن يفرد بجميع أنواع العبادة فلا يعبد إلا إياه ولا يدعى أحد سواه، ولا يسجد إلا له ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يستعان
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4770) ، صحيح مسلم الإيمان (208) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3363) ، مسند أحمد بن حنبل (1/307) .(60/57)
ولا يستغاث إلا به، ولا ينحر ولا ينذر إلا له، ولا يخشى ولا يخاف أحد سواه، ولا يرجى إلا إياه، حتى يكون سبحانه وتعالى هو المفزع في المهمات، والملجأ في الضرورات، ومحط رحل أرباب الحاجات في الرغبات والرهبات وفي جميع الحالات، فهذا هو مضمون أصل الدين وأساسه المتين، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأصله الثاني: شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم نطقا واعتقادا وعملا، وهو طاعته فيما أمر، وتصديقه في جميع ما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الرب تبارك وتعالى إلا بما شرعه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تقدم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والولد والناس أجمعين، وأن يحكم صلى الله عليه وسلم في القليل والكثير والنقير والقطمير، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (2) » .
ومن المهم جدا اتصال المسلمين بعضهم ببعض اتصالا خاصا، وأن يتذاكر بعضهم مع بعض في هذه الأصول العظيمة، وأن يبذلوا جميعا غاية جهودهم ونهاية قدرهم في البحث الدقيق في تفاصيلها، ويحرصوا كل الحرص في تطبيق اعتقاداتهم ومساعيهم وأعمالهم عليها، وأن يتبادلوا النصائح الصادقة فيما بينهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، وأن يكونوا شيئا واحدا في العمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، يدا واحدة في الذب عن حوزة الدين، ومناوأة
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .(60/58)
أعدائه من الكفار والمشركين، فإن الأخذ بذلك هو سبب السعادة والسيادة والفوز والنجاة في الدنيا والآخرة، وفي الحديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (1) » . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .(60/59)
كما تجب الدعوة إلى التوحيد يجب النهي عن ضده
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم فضيلة رئيس القضاة بالمكلا الشيخ ع. ب. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونسأل الله لنا ولكم الاستقامة على دينه، والثبات على الإسلام إلى الممات.
وبعد: فلا يخفاكم فضل الدعوة إلى الله وأنها مقام رسل الله وخلفائهم، وأنتم أهل كلمة ومقام في بلادكم. والواجب عليكم أن تقوموا بما أوجب الله من النصيحة والإرشاد وتقفوا حياتكم على الدعوة إلى توحيد الله الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، ولا يخفاكم ما ورد في الحديث «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » . وكما تجب الدعوة إلى التوحيد يجب النهي عن ضده مما ابتلي به كثير؛ من عبادة القبور والتوسل بالأولياء والصالحين. ونعتقد أن هذا الأمر من بالكم ولكن أحببنا مذاكرتكم ولفت نظركم إلى هذا المهم العظيم، نسأل الله أن يتولى توفيق الجميع والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(60/59)
تعليم أصول الدين لعامة الناس
جاء في رسالة وجهها إلى القضاة ليحثوا الناس على أداء الصلاة جماعة في المساجد ويذاكروا العامة أصول دينهم، ما نصه: يتعين على كل إمام مسجد أن يقوم بعد صلاة فجر كل يوم بتعليم ثلاثة أشخاص من جماعة مسجده أو أكثر حسب الاستطاعة أصول الدين، كمختصر ثلاثة الأصول، وشروط الصلاة، وأن يتعاهد جماعة مسجده بالنصيحة والتذكير والدرس، ويعقد لهم مجلسا يوميا يسألهم فيه عن أمور دينهم، ويعلمهم ما يخفى عليهم فيها، ومن طلب مهلة لتذكرها وتحفظها فيمهل، ومن امتنع من ذلك يلزم به من قبل الإمام والمؤذن والهيئة، وإن لم يمتثل فيرفع باسمه إليكم لتقوموا حوله بما يلزم براءة للذمة ونصحا للأمة.
في بعض الأحيان يجادل بالتي هي أحسن. وأهل الباطل أقسام: قسم تكفي فيه الحكمة بأن تبين له النصوص والحكم الشرعي فإن أجدى فهو المطلوب. وإن لم يجد فيجادل ويناظر بقدر. فإن لم يجد فالمجالدة إن أمكن فهي ثلاث: بالحكمة، ثم المجادلة، ثم المجالدة. وهي بحسب الأزمان والأشخاص.
من اعتنق الإسلام وجب أن يلقن الشهادتين، وكذلك يعلم مهمات الدين. قيل: وجوبا. وقيل: ندبا. أما تعليمه أصل ذلك فواجب لا بد منه. وهذا عند أول اعتناقه الإسلام.(60/60)
مع إظهار الإسلام لا تجب الهجرة
تقدم إلي م. م. م. باستفتاء هذا نصه: أما بعد: أفتنا عن معنى حديث «من ساكن المشرك وجامعه فهو مثله (1) » . وحديث «أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين (2) » ، وحديث «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (3) » ؟
ج: الحمد لله. حديث «من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله (4) » وحديث «أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين (5) » هذان الحديثان هما من الوعيد الشديد المفيد غلظ تحريم مساكنة المشركين ومجامعتهم. كما هما من أدلة وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذا في حق من لم يقدر على إظهار دينه. وأما من قدر على إظهار دينه فلا تجب عليه الهجرة، بل هي مستحبة في حقه. وقد لا تستحب إذا كان في بقائه بين أظهرهم مصلحة دينية من دعوة إلى التوحيد والسنة وتحذير من الشرك والبدعة علاوة على إظهاره دينه.
وإظهاره دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك. إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال.
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2787) .
(2) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(3) سنن أبو داود الطب (3905) ، سنن ابن ماجه الأدب (3726) ، مسند أحمد بن حنبل (1/311) .
(4) سنن أبو داود الجهاد (2787) .
(5) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .(60/61)
الرقى والتمائم ونحوها
النفث في الماء من الرقى الجائزة:
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. ع. م، علمه الله ما ينفعه،(60/61)
ومنحه ما يعلي ذكره من الخير ورفعه. آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل إلي كتابك المتضمن السؤال عن النفث في الماء ثم يسقاه المريض استشفاء بريق ذلك النافث وما على لسانه حينئذ من ذكر الله تعالى أو شيء من الذكر كآية من القرآن ونحو ذلك.
فأقول وبالله التوفيق: لا بأس بذلك فهو جائز، بل قد صرح العلماء باستحبابه.
وبيان حكم هذه المسألة مدلول عليه بالنصوص النبوية، وكلام محققي الأئمة. وهذا نصها: قال البخاري في صحيحه: (باب النفث في الرقية) ثم ساق حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاثا ويتعوذ من شرها فإنها لا تضره. وساق حديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده (1) » . وروى حديث أبي سعيد في الرقية بالفاتحة - ونص رواية مسلم «فجعل يقرأ أم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل (2) » . وذكر البخاري حديث عائشة أن النبي كان يقول في الرقية: «بسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا (3) » .
وقال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5748) .
(2) صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، مسند أحمد بن حنبل (3/44) .
(3) صحيح البخاري الطب (5745) ، صحيح مسلم السلام (2194) ، سنن أبو داود الطب (3895) ، سنن ابن ماجه الطب (3521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .(60/62)
المزاج ودفع الضرر -إلى أن قال- ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.
وتكلم ابن القيم في (الهدي) في حكمة النفث وأسراره بكلام طويل قال في آخره: وبالجملة فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة وتزيد بكيفية نفسه وتستعين بالرقية والنفث على إزالة ذلك الأثر، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها. وفي النفث سر آخر فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان. اهـ.
وفي رواية مهنا عن أحمد: في الرجل يكتب القرآن في إناء ثم يسقيه المريض. قال: لا بأس به. وقال صالح: ربما اعتللت فيأخذ أبي ماء فيقرأ عليه ويقول لي: اشرب منه واغسل وجهك ويديك.
وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله في زوال الإشكال الذي حصل لكم فيما يتعاطى في بلدكم من النفث في الإناء الذي فيه الماء ثم يسقاه المريض. وصلى الله على نبينا محمد.(60/63)
كتابة آيات قرآنية في إناء يغسله ثم يشربه
س: هل يجوز أن يكتب المريض بعض آيات قرآنية في إناء يغسله ثم يشربه؟
ج- لا يظهر في جواز ذلك بأس. وقد ذكر ابن القيم رحمه(60/63)
الله (1) : أن جماعة من السلف رأوا أن يكتب للمريض الآيات من القرآن ثم يشربها، قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض. ومثله عن أبي قلابة، ويذكر عن ابن عباس أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسرت عليها ولادتها أثر من القرآن ثم يغسل وتسقى. وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد.
__________
(1) في زاد المعاد جزء 3 \ 119(60/64)
الرقية في الملح،
وإذا تأخر استعماله الرقية، أو لم تكن لمعين، أو كانت من تربة يعتقد فيها جاء إلي شخص بملح وقال لي: انفث فيه فنفثت، ثم سألت شيخنا
فأجاب: هذا ليس فيه بأس. والناس توسعوا فيها من جهات: الأولى البطء، فإنها كلما كانت أجد كانت أنفع، وما دام لها أثر فإنها تصلح. وأيضا الاستعمال وإلا فليس من شرطها أن تكون على معين فإنها قراءة. وإذا كانت ليست من التراب الذي في حائل فإنه قيل: إنه مشى فيه بعض الصحابة.(60/64)
س: الرقية باللسان الأعجمي ذكر في الاقتضاء أنها مكروهة؟
ج: المراد كراهة تحريم.(60/64)
س: أكل الحية لئلا تلدغه؟
ج: لا يجوز. من يشوي الحية ثم يأكلها فقد أطاع الشيطان. وأيضا هي شيء منها شيطان نفسه، وشيء منها ترجع إلى الشياطين: إما أنها دواب لهم، أو نحو ذلك. فالذي خالط لحمه لحمها أو نحو ذلك تكف عنهم لأجل هذا.(60/64)
منع تعليق التمائم ولو من القرآن
من محمد بن إبراهيم إلى الأخ المكرم فضيلة الشيخ عبد الملك سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى اطلاعنا على خطابكم الموجه إلينا بخصوص ذكركم أن هيئة الأمر بالمعروف بجيزان وجدت في الأسواق قطعا معدنية على شكل أهلة ونحوها مكتوبا فيها آيات قرآنية تباع لتعلق على الأطفال وغيرهم كتمائم يتقى بها العين والوحشة وغيرهما.
وتسألون عن الحكم الشرعي فيها.
والجواب: الحمد لله. روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » وفي رواية له «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة، وأمسكت عن هذا، فقال: إن عليه تميمه فأدخل يده فقطعها فبايعه. وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » . والتمائم شيء يعلق على الأولاد يتقى به العين. وهذا المعلق إما أن يكون من القرآن، أو من أسماء الله وصفاته، أو لا يكون. فإن لم يكن من القرآن، ولا من أسماء الله وصفاته فلا نعلم خلافا بين أهل العلم في منعه وتحريمه واعتباره شركا بالله.
وإن كانت من القرآن أو من أسماء الله وصفاته فقد اختلف
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .(60/65)
علماء السلف في حكم تعليقها، فرخص فيها بعض السلف وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص. وظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها، وأحد قولي الإمام أحمد. وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عنها على التمائم الشركية، وقاسوا جواز تعليقها إذا كانت من القرآن أو من أسماء الله وصفاته بالرقية. وبعضهم لم يرخص فيه وجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود، وابن عباس، وظاهر قول حذيفة، وبه قال عقبة بن عامر وابن عكيم. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن. والمراد بالكراهة في قول إبراهيم وغيره من السلف الصالح التحريم. وهذا القول -أعني تحريم تعليقها- هو قول الإمام أحمد اختاره جمع من أصحابه، وجزم به المتأخرون منهم، وهذا هو الصحيح من وجوه:
الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: إن الرقى والتمائم والتولة شرك، وقوله: «من تعلق شيئا وكل إليه (1) » ، وقوله: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » ، وما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن عبد الله بن مسعود رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه وقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) » . فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان ينخسها بيده فإذا
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2072) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(3) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(60/66)
رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (1) » . وما روى أبو داود عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن عكيم وبه حمرة فقلت: ألا تعلق تميمة. فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق شيئا وكل إليه (2) » وما روى وكيع عن ابن عباس قال: اتفل بالمعوذتين ولا تعلق. ولعدم وجود مخصص يخصص شيئا منها بالجواز.
الثاني: أن تعليقها ذريعة لتعليق غيرها وسد الذرائع من مقاصد الشرع الحنيف.
الثالث: أن معلقها يدخل بها في الغالب مواضع قضاء الحاجة، وهذا غير جائز شرعا لما فيها من كتاب الله وأسمائه وصفاته.
الرابع: أن التميمة اسم لما يدركه البصر على معلقها من جلود ورقاع ونحوهما لا ما كتب فيها.
وأما قياس جوازها على الرقية فقياس غير ظاهر لوجود الفرق بينهما، قال الشيخ سليمان رحمه الله في كتابه (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) في معرض كلامه على التمائم وخلاف العلماء فيها: وأما القياس على الرقية بذلك فقد يقال بالفرق، فكيف يقاس بالتعليق الذي لا بد فيه من أوراق أو جلود أو نحوهما على ما لا يوجد ذلك فيه. فهذا إلى الرقى المركبة من حق وباطل أقرب. انتهى المقصود من كلامه.
فعليه يلزم منع بيعها، واستعمال الناس لها، ومصادرة ما يعرض منها في الأسواق وفقنا الله وإياكم. والسلام عليكم.
__________
(1) صحيح البخاري المرضى (5675) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .
(2) سنن الترمذي الطب (2072) .(60/67)
اتخاذ المصحف تميمة لا يجوز
وفي تقرير له رحمه الله - ذكر فيه أن القول الصحيح: المنع من تعليق التمائم مطلقا، وذكر الأوجه الأربعة المتقدمة ثم قال: فالأربعة كلها موجودة، والواحد منها كاف في المنع من المكتوب من القرآن ونحوه.
ثم قال: والتمائم لم يتعارض فيها التحريم والأمر حتى يقال ينظر ما يقدم، فإن المعارضة بين النهي والإباحة. وبعض المباحات تترك في أشياء كثيرة لأجل خوف الوقوع في المفسدة. ولم يقل أحد إنها واجبة. وقال أيضا: هذه الحروز التي تلبس أكثرها ليس فيه إلا طلاسم وبعضها ليس فيه إلا أنياب السباع وحبوب بعض النباتات. وقال: لا عبرة بالذين يجيزون ذلك ويتشبثون بقول بعض أهل العلم، ولا داعي إلى ذلك إلا الدراهم. ما ضر الدين إلا الدراهم في قديم الزمان وحديثه، فهذا يمجد صاحب القبر ويقول فعل كذا وكذا لأجل يأخذ الدراهم، وهذا يصور ويأخذ دراهم.
ثم ههنا شؤم يقعون فيه وهو أنهم بعض الأحيان يتخذون مصحفا صغيرا تميمة فيدخلون به المحال القذرة، فيجعلون المصحف كالأمتعة، وكفى بهذا القول ضعفا أن يكون من فروعه اتخاذ مصحف يعلق في الرقبة. ويعلقه الجنب والحائض. والمصاحف إنما هي للتلاوة والتدبر واستشفاء أمراض القلوب والأبدان بها ونحو ذلك.(60/68)
من فتاوى سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا -رحمه الله-
س: التعاون بالجهر أفضل أم بالسر؟
ج: التعاون يكون بالسر ويكون بالجهر، والأصل أنه بالجهر، حتى يعلم السامع ما يقال ويستفيد، فالتعاون والإرشاد نصيحة جهرية للمجتمع هذا هو الأصل إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية عدم الجهر خوفا من الشر من بعض الناس؛ لأنه لو نصح أو وجه جهرا قد لا يقبل وقد يتكبر، فالنصيحة سرا مطلوبة حينئذ. والناصح والموجه والمرشد يتحرى ما هو الأصلح، فإذا كانت النصيحة والدعوة والإعانة على الخير جهرا تنفع الحاضرين وتعم بها المصلحة فعل ذلك، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يكون التناصح في حالة السر فعل ذلك، لأن المقصود حصول الخير والنفع للمنصوح وللمجتمع، فالوسيلة المؤدية إلى ذلك هي المطلوبة، سواء كانت سرية أو جهرية، والناصح والداعي إلى الله كالطبيب يتحرى الوقت المناسب والكمية والكيفية المناسبة. فهكذا يكون الداعي إلى الله والناصح لعباده يتحرى ما هو الأنسب وما هو الأصلح وما هو الأقرب للنفع.(60/69)
س: كيف يكون التعاون على البر والتقوى في البيت إذا كان الأب والأخ الأكبر لا يصلون في المسجد؟(60/69)
ج: هذا من أهم التناصح ومن أوجب التعاون، إذا كان الوالد أو الأخ أو غيرهما من أهل البيت يتعاطى شيئا من المنكر فإنه يجب التناصح والتعاون والتواصي بالحق على قدر المستطاع بالأسلوب الحسن وتحري الوقت المناسب حتى يزول المنكر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » فالوالد له شأن، وكل يعامل بالأسلوب الحسن واللين والرفق بقدر المستطاع حتى يحصل المقصود ويزول المحذور.
وعلى الناصح والداعي إلى الله أن يتحرى الأوقات المناسبة والأسلوب المناسب لا سيما مع الوالدين؛ لأنهما ليسا مثل بقية الأقارب، فلهما شأن عظيم وبرهما متعين حسب الطاقة. قال الله جل وعلا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (4) الآية، هذا وهما كافران، فكيف بالوالدين المسلمين. فإذا كان الوالدان الكافران يصحبهما الولد بالمعروف ويحسن إليهما لعله يهديهما بأسبابه. فالمسلمان أولى وأحق بذلك. فإذا كان الوالد يتكاسل عن الصلاة في المسجد، أو يتعاطى شيئا من المعاصي الأخرى كالتدخين أو حلق اللحية أو الإسبال أو غير ذلك من المعاصي التي يقع فيها،
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(3) سورة لقمان الآية 14
(4) سورة لقمان الآية 15(60/70)
فإن الواجب على الولد أن ينصح بالحسنى، ويستعين على ذلك بمن يرى من خيار أهل البيت. وهكذا مع الوالدة والأخ الكبير وغيرهما من أهل البيت حتى يحصل المطلوب.(60/71)
لا إكراه في قبول الإسلام
س: يقول بعض الزملاء: من لم يدخل الإسلام يعتبر حرا لا يكره على الإسلام ويستدل بقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) ، قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2) ، فما رأي سماحتكم في هذا؟
ج: هاتان الآيتان الكريمتان والآيات الأخرى التي في معناهما بين العلماء أنها في حق من تؤخذ منهم الجزية كاليهود والنصارى والمجوس، لا يكرهون، بل يخيرون بين الإسلام وبين بذل الجزية. وقال آخرون من أهل العلم: إنها كانت في أول الأمر ثم نسخت بأمر الله سبحانه بالقتال والجهاد، فمن أبى الدخول في الإسلام وجب جهاده مع القدرة حتى يدخل في الإسلام أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها، فالواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانوا لا تؤخذ منهم الجزية؛ لأن إسلامهم فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل،
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة البقرة الآية 256(60/71)
كما يلزم الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو بالضرب، فإلزام الكفار بتوحيد الله والدخول في دين الإسلام أولى وأوجب، لأن فيه سعادتهم في العاجل والآجل إلا إذا كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى أو المجوس، فهذه الطوائف الثلاث جاء الشرع بأنهم يخيرون؛ فإما أن يدخلوا في الإسلام وإما أن يبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق غيرهم بهم في التخيير بين الإسلام والجزية، والأرجح أن لا يلحق بهم غيرهم، بل هؤلاء الطوائف الثلاث هم الذين يخيرون، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار في الجزيرة ولم يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، ولم يقل: أو أدوا الجزية، فاليهود والنصارى والمجوس يطالبون بالإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا وجب على أهل الإسلام قتالهم، إن استطاعوا ذلك، يقول عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) . ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من المجوس، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم أخذوا الجزية من غير الطوائف الثلاث المذكورة، والأصل في هذا قوله تعالى:
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 29(60/72)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) . وهذه الآية تسمى آية السيف. وهي وأمثالها هي الناسخة للآيات التي فيها عدم الإكراه على الإسلام. والله الموفق.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة التوبة الآية 5(60/73)
س: نال بعض العلمانيين من الدعاة ومن بعض طلبة العلم وتكلموا في مسائل الشريعة وهم ليسوا من أهلها وقد انتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين فاختلط عليهم الأمر ونريد من سماحتكم تبيين ما في هذه القضية، والله يرعاكم.
ج: يجب على المسلم أن يحتاط لدينه وأن لا يأخذ الفتوى ممن هب ودب مكتوبة ولا مذاعة، ولا من أي طريق لا يتثبت منه، سواء كان القائل علمانيا أو غير علماني، لا بد من التثبت في الفتوى؛ لأنه ليس كل من أفتى يكون أهلا للفتوى فلا بد من التثبت.
والمقصود أن المؤمن يحتاط لدينه، فلا يعجل في الأمور، ولا يأخذ الفتوى من غير أهلها بل يتثبت حتى يقف على الصواب، ويسأل أهل العلم المعروفين بالاستقامة وفضل العلم حتى يحتاط(60/73)
لدينه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وأهل الذكر هم أهل العلم بالكتاب والسنة، فلا يسأل من يتهم في دينه، أو لا يعرف علمه، أو يعرف بأنه منحرف عن جادة أهل السنة.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(60/74)
س: هل يغير المنكر باليد ولمن يكون التغيير باليد مع ذكر الأدلة حفظكم الله؟
ج: الله جل جلاله وصف المؤمنين بإنكار المنكر والأمر بالمعروف، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) ، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) ، والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، وما ذاك إلا لأهميته وشدة الحاجة إليه.
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (4) » رواه مسلم في الصحيح.
فالإنكار يكون باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة آل عمران الآية 110
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(60/74)
إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع.
أما من لا يستطيع ذلك، أو إذا غيره بيده يترتب عليه الفتنة والنزاع والمضاربات فإنه لا يغير بيده، بل ينكر بلسانه، ويكفيه ذلك، لئلا يقع بإنكاره باليد ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره، كما نص على ذلك أهل العلم.
أما هو فحسبه أن ينكر بلسانه؛ فيقول: يا أخي اتق الله، هذا لا يجوز، هذا يجب تركه، هذا يجب فعله، ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة والأسلوب الحسن.
ثم بعد اللسان القلب، يعني يكره بقلبه المنكر ويظهر كراهته ولا يجلس مع أهله فهذا من إنكاره بالقلب، والله ولي التوفيق.(60/75)
س: بعض الناس يحاولون النيل من شباب الصحوة بحجة أن فيهم تطرفا وتزمتا فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
ج: الواجب تشجيع الشباب على الخير، وشكرهم على نشاطهم في الخير، مع توجيههم إلى الرفق والحكمة وعدم العجلة في الأمور؛ لأن الشباب وغير الشباب يكون عندهم زيادة غيرة فيقعون فيما لا ينبغي. فالواجب توجيه الشيخ والشاب إلى أن يتثبت في الأمور، وأن يتحرى الحق في كل أعماله حتى تقع الأمور منه في موقعها. وقد رأى رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض المنكرات فحملته الغيرة لله على أن قال لصاحب المنكر: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: «من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وما ذلك إلا
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2621) .(60/75)
أنه تجاوز الحد الشرعي بجزمه بأن الله لا يغفر لصاحب هذا المنكر، وذلك يوجب على المؤمن التثبت والحذر من خطر اللسان وشدة الغيرة.
والمقصود أن الشاب والشيخ وغيرهما كلهم عليهم واجب إنكار المنكر، لكن بالرفق والحكمة والتقيد بنصوص الشرع، فلا يزيدون على الحد الشرعي فيكونون غلاة كالخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، ولا ينقصون فيكونون جفاة متساهلين بأمر الله. ولكن يتحرون الوسط في كلامهم وإنكارهم وتحريهم للأسباب التي تجعل قولهم مقبولا ومؤثرا ويبتعدون عن الوسائل التي قد تنفر من قبول قولهم ولا ينتفع بهم المجتمع؛ لقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) الآية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (3) » رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/258) .(60/76)
س: إن هداية الناس ثمرة لانتشار العلم الشرعي بين الناس، ولكن من الملاحظ أن الباطل أكثر انتشارا عبر الصحافة وكافة وسائل الإعلام ومناهج التدريس. فما موقف الدعاة والعلماء من هذا؟(60/76)
ج: هذه واقعة منتشرة في الزمان كله، وحكمة أرادها الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
لكن هذا يختلف، ففي بلاد يكثر وفي بلاد يقل، وفي قبيلة يكثر وفي قبيلة يقل. وأما بالنسبة إلى الدنيا فأكثر الخلق على غير الهدى، ولكن هذا يتفاوت بالنسبة إلى بعض الدول، وفي بعض البلاد وبعض القرى وبعض القبائل.
فالواجب على أهل العلم أن ينشطوا وأن لا يكون أهل الباطل أنشط منهم. بل يجب أن يكونوا أنشط من أهل الباطل في إظهار الحق والدعوة إليه أينما كانوا: في الطريق، وفي السيارة، وفي الطائرة، وفي المركبة الفضائية، وفي بيته، وفي أي مكان عليهم أن ينكروا المنكر بالتي هي أحسن، ويعلموا بالتي هي أحسن، بالأسلوب الطيب والرفق واللين، يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، ويقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » .
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 116
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(60/77)
فلا يجوز لأهل العلم السكوت، وترك الكلام للفاجر والمبتدع والجاهل، فإن هذا غلط عظيم، ومن أسباب انتشار الشر والبدع، واختفاء الخير وقلته، وخفاء السنة. فالواجب على أهل العلم أن يتكلموا بالحق ويدعوا إليه، وأن ينكروا الباطل ويحذروا منه، ويجب أن يكون ذلك عن علم وبصيرة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) ، وذلك بعد العناية بأسباب تحصيل العلم من الدراسة على أهل العلم وسؤالهم عما أشكل وحضور حلقات العلم والإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ومراجعة الأحاديث الصحيحة حتى تستفيد وتنشر العلم كما أخذته عن أهله بالدليل مع الإخلاص والنية الصالحة والتواضع، ويجب أن تحرص على نشر العلم بكل نشاط وقوة، وألا يكون أهل الباطل أنشط في باطلهم، تحرص على نفع المسلمين في دينهم ودنياهم.
وهذا واجب العلماء شيوخا وشبابا أينما كانوا، بأن ينشروا الحق بالأدلة الشرعية ويرغبوا الناس فيه، وينفروهم من الباطل ويحذروهم منه، عملا بقوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) .
هكذا يكون أهل العلم، أينما كانوا يدعون إلى الله ويرشدون إلى الخير، وينصحون لله ولعباده بالرفق فيما يأمرون به وفيما ينهون
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(60/78)
عنه، وفيما يدعون إليه، حتى تنجح دعوتهم، ويفوز الجميع بالعاقبة الحميدة والسلامة من كيد الأعداء. والله المستعان.(60/79)
س: أنا أحب الدعوة إلى الله ومتحمس لها، ولكن ليس عندي أسلوب حسن، فهل يكفي في ذلك اختياري لشريط لأحد العلماء والدعاة وأهديه لأقاربي والمسلمين عامة؟
ج: نعم. الشريط إذا كان من عالم معروف بحسن العقيدة وسعة العلم، إذا أهديته إلى إخوانك فقد أحسنت ولك مثل أجره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. أما أنت فلا مانع من أن تتكلم بما تعلم من الحق بالأسلوب الحسن، مثل حث الناس على الصلاة في الجماعة وأداء الزكاة وتحذيرهم الغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وما حرم الله من الفواحش؛ لأن هذه الأمور وأمثالها معلومة للمسلمين من العلماء وغيرهم.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(60/79)
س: نريد من سماحتكم تشجيع الدعاة وطلبة العلم على إقامة الدروس والمحاضرات في كافة أنحاء البلاد، حيث لوحظ الجفاء في بعض المناطق وقلة الدعاة وتكاسل طلبة العلم وإحجامهم عن الدروس والمحاضرات مما يسبب انتشار الجهل وعدم العلم بالسنة وانتشار الشركيات والبدع حفظكم الله.
ج: لا شك أن الواجب على العلماء أينما كانوا أن ينشروا الحق، وينشروا السنة ويعلموا الناس، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، بل يجب على أهل العلم أن ينشروا الحق بالدروس في المساجد التي حولهم وإن كانوا غير أئمة فيها. وفي خطب الجمعة من أئمة الجوامع(60/79)
يجب على كل واحد أن يعتني بخطبة الجمعة، ويتحرى حاجة الناس، وهكذا المحاضرات والندوات يجب على القائمين بها أن يتحروا حاجة الناس ويبينوا لهم ما قد يخفى عليهم من أمور دينهم، وما يلزم نحو إخوانهم من الجيران وغيرهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الجاهل بالرفق والحكمة. ومتى سكت العلماء ولم ينصحوا ولم يرشدوا الناس تكلم الجهال فضلوا وأضلوا، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » رواه الإمام البخاري في صحيحه. فنسأل الله السلامة من كل سوء لنا ولإخواننا المسلمين.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(60/80)
مرئيات حول مستقبل الإسلام
س: سماحة الشيخ: كيف ترون مستقبل الإسلام أمام التيارات والأيدولوجيات والمذاهب المختلفة التي تناصبه العداء؟
ج: أرى أن الإسلام سوف ينتصر بإذن الله على تلك التيارات والنحل الزائفة التي ابتلي بها العالم في عصرنا الحاضر، وأن كل ما يوجه إلى الإسلام من عداء ماكر للنيل منه وإزاحته عن قيادة العالم سوف يعود في النهاية بإذن الله تعالى على نحور أصحابه، وذلك أن الله جل شأنه قد تكفل بحفظ القرآن الكريم الذي هو(60/80)
الأساس العظيم للإسلام، حيث يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، وقد هيأ الله سبحانه وله الحمد والمنة لدينه أنصارا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2) » ، وفي رواية أخرى: «لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة (3) » ومما يبشر بما ذكرنا ما انتشر في العالم الإسلامي وغيره من الحركات التي توصي باتباع الكتاب والسنة والسير عليهما. ثم إن تلك المبادئ والمذاهب المختلفة من شيوعية ورأسمالية غربية وغيرها من المذاهب التي يروج لها اليوم أصحابها قد ثبت بالتجربة زيفها وفشلها، وأنها لا تسعد البشرية بل تضرها في دينها وأخلاقها واقتصادها، حيث إنها من صنع البشر الذي طبيعته القصور والجهل والهوى، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4) .
وقد بدأت البشرية تتلفت يمنة ويسرة علها تجد منهجا صالحا ينقذها من الهاوية التي تردت فيها جميع شؤون حياتها، والإسلام وحده هو القادر على إنقاذ البشرية من تلك المهالك، وستكتشف البشرية بإذن الله تلك الحقيقة إن عاجلا أو آجلا، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (5) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1924) .
(4) سورة النساء الآية 82
(5) سورة الرعد الآية 17(60/81)
وكلامنا هذا هو في الإسلام النقي من شوائب الشرك والبدع الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من بعده، فأفلحوا ونجحوا وفتحوا البلاد وقادوا العباد إلى سبيل الرشاد وشاطئ السلامة. والله الموفق.(60/82)
س: ما حكم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو يستطيع ذلك؟
ج: حكمه أنه عاص لله ولرسوله ضعيف الإيمان وعليه خطر عظيم من أمراض القلوب وعقوبتها العاجلة والآجلة، كما قال الله سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بهذا الواجب العظيم على الوجه الذي يرضيه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(4) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .(60/82)
أسئلة وأجوبتها حول الدعوة إلى الله
س: عندنا في قريتنا عندما تتوفى زوجة الرجل ويتزوج غيرها يذهبون إلى قبرها ليلة زواجه بالزوجة الجديدة ويضعون عليه ماء؟
ج: لا أصل لهذا وهو بدعة.(60/83)
ثقافة الداعية
س: نرجو عرض ما ينبغي للداعية أن يفعله تجاه ثقافته؟ ومم يستمد ثقافته حتى تكون دعوته مؤثرة ومستجابة بإذن الله؟
ج: إن الدعوة إلى الله عز وجل من أعظم المهمات ومن أهم الفرائض، وكل مجتمع من الناس في أشد الحاجة إليها سواء كان مجتمعا مسلما أو مجتمعا كافرا. فالمجتمع المسلم في حاجة إلى المزيد من العلم، وإلى التنبيه إلى ما قد يقع منه من أغلاط أو منكرات حتى يدرك ما وقع منه من الأخطاء، وحتى يستقيم على طاعة الله ورسوله وحتى ينتهي عما نهى الله ورسوله، والمجتمع الكافر يدعى إلى الله، ويبين له أن الله خلقه لعبادته، وأن الواجب عليه الدخول في الإسلام والالتزام بما جاء به نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن الداعي إلى الله تلزمه أمور لا بد من مراعاتها حتى تكون دعوته ناجحة وحتى تكون لها العاقبة الحميدة. فأعظمها وأهمها العلم، والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله العظيم وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، كما قال عز(60/83)
وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) ، وقال أهل العلم في معنى قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} (2) يعني على علم، لأن العالم بعلمه بالنسبة إلى المعلومات كالبصير بالنسبة إلى المرئيات، فهو يعلم كيف يأمر وكيف ينهى وكيف يدعو إلى الله، كما أن الرائي يرى ما أمامه حتى يتجنب ما يضره من حفر وأشواك ونحو ذلك.
ثم أمر آخر وهو أن يكون رفيقا في دعوته وألا يعجل في ذلك حتى يضع الأمور في مواضعها. فإن كان المدعو ممن يفهم العلم ويمكن أن يستجيب من دون حاجة إلى موعظة أو جدال وضح له الحق وأرشد إليه بالأدلة الشرعية والكلام الطيب والأسلوب الحسن، فإذا تقبل ذلك انتهى الموضوع وحصل المطلوب. وإن كان ممن لديه جفاء وإعراض وغفلة وعدم مبالاة، نصح ووعظ بالتي هي أحسن وذكر بالله لعله يستجيب ويقبل الحق، فإن كان ذا شبهة ومجادلة رفق به وجادله بالتي هي أحسن، حتى يزيل شبهته ويوضح له الحق الذي أشكل عليه وحتى لا تبقى شبهة يتشبث بها في ترك الحق أو في الاستمرار على الباطل، وهذه المعاني قد دل عليها قول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، ومما يلزم الداعي إلى الله عز وجل الإخلاص
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125(60/84)
لله، وأن يحذر الرياء، وأن يكون في دعوته يقصد وجه الله والدار الآخرة، لا رياء الناس ولا مدحهم أو قصد عرض في الدنيا، فالمؤمن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
وهناك شيء آخر وهو تحري الألفاظ المناسبة والرفق في الكلام وعدم الغلظة إلا عند الضرورة إليها، كما قال عز وجل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، يعني اليهود والنصارى {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) فلا بد من العناية بالرفق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في الشيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (5) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (6) » فعلى المؤمن في دعوته الرفق والأسلوب الحسن حتى يستجاب له، وحتى لا يقابل بالرد أو بالأسلوب الذي لا يناسب الداعي إلى الله، فإن بعض الناس عند الشدة قد يقابل بسببها بالسب والشتم والأسلوب الرديء مما يزيد الطين بلة، ولكن متى كان الداعي إلى الله رفيقا ذا أسلوب صالح فإنه لن يعدم- إن شاء الله- قبول دعوته أو على الأقل المقابلة الحسنة والكلام الطيب الذي يرجى من ورائه أن يتأثر المدعو بالدعوة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة العنكبوت الآية 46
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .(60/85)
أسلوب الدعوة فيمن تأثر بثقافة معينة
س: إذا كان المدعوون متأثرين بثقافات معينة أو بمجتمعات معينة ما هو السبيل لدعوتهم؟
ج: يبين لهم ما في المذاهب التي تأثروا بها والبيئة التي تأثروا بها من الباطل، ويبين لهم أن هذه المذاهب فيها كذا وكذا، ويوضح ما فيها من أنواع الباطل والبدع إذا كانت كذلك، ويبين لهم أن المرجع في جميع الأمور هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما حصلتم عليه من كذا وكذا وما تعلمتم من كذا وكذا وما تخلقتم به بسبب البيئة- الاختلاط- عليكم أن تعرضوا ذلك على الميزان الشرعي مثل ما يعرض العلماء مسائل الفقه على الأدلة الشرعية، فما وافقها وجب أن يبقى، وما خالفها وجب أن يطرح ولو كانت من عادات الآباء والأسلاف والمشائخ وغيرهم.
والخلاصة أن الواجب التمسك بالخلق الصالح والسيرة الحسنة التي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعصب لسيرة أبيه أو جده أو بيئته أو بيئة بلده، بل عليه أن يتمسك بالحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة.(60/86)
تهيئة الفرصة أمام المرأة للدعوة إلى الله عز وجل
س: هل من سبيل إلى تهيئة الفرصة أمام المرأة الداعية إلى الله سبحانه؟(60/86)
ج: لا أعلم مانعا في ذلك متى وجدت المرأة الصالحة للقيام بالدعوة إلى الله سبحانه، فينبغي أن تعان، وأن توظف، وأن يطلب منها أن تقوم بإرشاد بنات جنسها؛ لأن النساء في حاجة إلى مرشدات من بنات جنسهن، وأن وجود المرأة بين النساء قد يكون أنفع في تبليغ الدعوة إلى طريق الحق من الرجل. فقد تستحي المرأة من الرجل فلا تبدي له كل ما يهمها، وقد يمنعها مانع في سماع الدعوة من الرجل، لكنها مع المرأة الداعية بخلاف ذلك؛ لأنها تخالطها وتعرض ما عندها وتتأثر بها أكثر.
فالواجب على من لديها علم من النساء أن تقوم بالواجب نحو الدعوة والتوجيه إلى الخير حسب طاقتها، لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) الآية، وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) ، وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تعم الرجال والنساء والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة التغابن الآية 16(60/87)
كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكمة المقصودة فيه
س: ما هي الكيفية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما هي الحكمة المقصودة في هذا المقام؟
ج: هذا سؤال عظيم وجدير بالعناية؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات في الإسلام، ومن فرائضه العظام، ولأن القيام بذلك في أهل العلم والإيمان والبصيرة من أعظم الأسباب لصلاح المجتمعات الإسلامية ونجاتها من عقاب الله سبحانه وتعالى في العاجل والآجل، واستقامتها على الصراط المستقيم، ولهذا يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس بسبب هذه الأعمال الطيبة. وقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) ، فوصفهم بالفلاح المطلق لهذا الأمر العظيم وهو دعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فجعلهم سبحانه مفلحين بعملهم الطيب، والفلاح هو الحصول على كل خير، وهو من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة التوبة الآية 71(60/88)
فوعدهم الرحمة على أعمالهم الطيبة التي منها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهذا يدل على أنه واجب على جميع المؤمنين والمؤمنات كل بحسب طاقته وليس خاصا بأحد عن أحد، وهو من صفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة، لكن يجب أن يكون ذلك بالحكمة والعلم لا بالجهل ولا بالعنف والشدة، فينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف عن علم وبصيرة، فالمعروف هو ما أمر الله به ورسوله، والمنكر هو ما نهى عنه الله ورسوله.
فالواجب على الآمر والناهي أن يكون على بصيرة وعلى علم سواء كان رجلا أو امرأة وإلا فليمسك عن ذلك، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) ، فقوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} (2) أي: على علم، ويقول جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، والحكمة هي العلم والدعوة إلى الله من جنس الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأنها بيان للحق وإظهار له للناس، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قد يكون عنده من السلطة ما يردع بها صاحب المنكر، ويلزم بها من ترك المعروف الواجب، والدعوة إلى الله أوسع من ذلك وهي البيان للناس وإرشادهم إلى الحق.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125(60/89)
والخلاصة أن الواجب على الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على علم وبينة حتى لا يأمر بما يخالف الشرع، وحتى لا ينهى عن ما هو موافق للشرع. والواجب أيضا أن يكون ذلك بالرفق وعدم العنف وعدم الكلمات البذيئة، بل يكون بكلام طيب وأسلوب حسن ورفق، كما قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) ، وقال سبحانه وتعالى لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44(60/90)
س: ما رأيكم في الحملة الإعلامية من كثير من الصحف على الدعاة وبالذات على بعض الهيئات الإسلامية كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ج: الدعاة إلى الحق والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر لهم أعداء ولهم خصوم من الملاحدة والشيوعيين والفساق، فالواجب على الدعاة إلى الله، وعلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر التحمل والصبر؛ لقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) ، ولقوله سبحانه عن لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 35
(2) سورة لقمان الآية 17(60/90)
ولقوله عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، فالحملات التي يشنها أهل الباطل من العلمانيين ومن الملاحدة ومن الشيوعيين ومن الوثنيين ومن النصارى ومن اليهود ومن غيرهم على دعاة الحق يجب أن تقابل بالذب عنهم والدعوة إلى الخير، وبيان فساد تلك الأقوال، ووجوب طرحها وعدم الالتفات إليها، مع العناية بتشجيع الدعاة وتشجيع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ووعدهم بأن الله سيعينهم، فعليهم بالصدق وعليهم الصبر وعليهم بالأسلوب الحسن وعليهم بالعلم والله يجعل العاقبة للمتقين، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
فلا بد من الصبر، ولا بد من الجهاد، ولا بد من النصح للذين يدعون إلى الباطل ويثبطون عن الحق، فلا بد من الرد عليهم وبيان باطلهم وبيان أن الواجب على أهل الحق مناصرة الحق وأهله والدعوة إلى الحق والصبر على ذلك، وعلى ولاة الأمور وفقهم الله القيام بذلك، وقمع كل من يتعرض لأهل الخير وردعه عن باطله، حتى
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة العنكبوت الآية 69(60/91)
يستقيم على الحق، وحتى يكف عن إيذاء الدعاة وإيذاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويجب على ولاة الأمور أيضا القيام بما أوجب الله عليهم من ردع المبطل وتأديبه ونصر المظلوم والداعي إلى الحق. نسأل الله لهم التوفيق، وهم بحمد الله يقومون بجهود كبيرة مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومع الداعين إلى الله، نسأل الله لهم المزيد من الخير، ونسأل الله أن يعينهم على ما فيه صلاح الآمة ونجاتها.
والواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات التعاون على البر والتقوى، والتعاون مع ولاة الأمور في الدعوة إلى الخير، وإبلاغ ولاة الأمور بما قد يخفى عليهم بالمكاتبة الصالحة بالنصيحة حتى يكون ولاة الأمور والمسئولون على علم بما يقع من الشر مما قد يخفى عليهم، والمقصود أن التعاون على الخير بين المسلمين حكاما ومحكومين من أهم الواجبات، لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، ولقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ، فلا بد من التعاون بين المسئولين وبين العلماء وبين الدعاة إلى الحق في إظهار الحق والدعوة إليه وفي قمع الباطل وفي القضاء عليه، نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه رضاه ولما فيه صلاح الجميع.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(60/92)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
حكم الإسبال
س: ما حكم الإسبال؟ وهل يجوز أن أطيع والدي إذا أرادا مني إسبال ثيابي؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الإسبال محرم، بل هو من كبائر الذنوب، ففي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (1) » . وفي صحيح مسلم والسنن وغيرها من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » واللفظ لفظ مسلم.
فالمسبل عاص لله ومتعد لحدوده سبحانه، فواجب عليه أن يتوب إلى الله، فإنه قد توعد بالعذاب الأليم وبعقابه بأن لا ينظر الله إليه ولا يزكيه، وهذا دال على أن فعل ذلك من الكبائر.
ثم إن الإسبال فيه إفساد للملبس، وربما سبب تعثرا له في مشيه. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشاب جاء يعوده في مرض موته فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5784) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي البيوع (4458) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/158) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .(60/93)
قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك أخرجه البخاري في صحيحه.
وأما طاعة الوالدين فهي واجبة، وقد قرن الله حقهما بحقه في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) . لكن مع ذلك فإن الوالدين لا يطاعان في معصية الله، شأنهما شأن كل مخلوق، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فلو أمراك بالإسبال فلا تطعهما في أمرهما لك بالإسبال، مع قيامك بحقهما من البر والصلة، ومحاولة تطييب خاطرهما بخصوص الإسبال بالكلام الطيب، فتبين لهما بأن هذا أمر محرم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الواجب علينا جميعا اتباع سنته والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه والوقوف عند حدوده. وأسأل الله أن يفتح على قلبيهما، وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23(60/94)
البدعة وحكمها
س: ما البدعة في الإسلام؟ وما حكمها؟
ج: البدعة كل أمر على خلاف ما شرع الله، فكل عبادة لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنها مبتدعة؛ لأنه لا تعبد لله إلا بما شرع لنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وحكمها المنع؛ لأنها تخالف الشرع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) »
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(60/94)
أخرجاه، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » متفق عليه. ومن شروط قبول العمل أن يكون خالصا لله، وأن يكون على وفق ما شرع الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو معنى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن معناهما ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد الله إلا بما شرع في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وفق الله الجميع للالتزام بسنته والعمل بهديه صلى الله عليه وسلم واجتناب البدع والمحدثات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(60/95)
تجاوز الميقات ويريد العمرة
س: أنا وزملائي ننتدب إلى جدة لأعمال الحج لمدة شهرين، وبعضنا يضع إحرامه في سيارته أو في شنطة ملابسه، فإذا وجدنا وقت فراغ نوينا العمرة وأحرمنا من جدة، فهل هذا يجوز، أم لا بد من الذهاب إلى ميقات السيل للإحرام منه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: إذا كانت نية العمرة سابقة للسفر ومنذ أنشأتم السفر إلى جدة والعمرة في نيتكم، فالذي يجب عليكم أن تحرموا من الميقات؛ لأن نية العمرة سابقة. أما إذا كانت نية العمرة لم تطرأ إلا بعد استقراركم في جدة فأحرموا من جدة.
أما إذا كانت النية عندك غير جازمة، بمعنى أنك متردد، فإن هذا التردد يعني أنك لم تعقد العزم على العمرة. وعليه فإن لك إن(60/95)
جزمت وأنت دون المواقيت أن تحرم من حيث أنشأت النية والله أعلم.(60/96)
الحكمة من الإسراء والمعراج
س: ما الحكمة من الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والعروج به إلى ما فوق السماء السابعة دليل على فضله صلى الله عليه وسلم، كونه أفضل الأنبياء وسيدهم، حيث أم بهم في بيت المقدس، وحيث جاوز السماء السابعة إلى أن وصل إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم منزلة في صعوده ما بلغها أي ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا دليل على صدق رسالته ومعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما رجع إلى مكة قبل فجر تلك الليلة وأخبرهم بما رأى ازداد المؤمنون إيمانا، وصارت تلك المعجزة سببا لانحراف بعضهم، لكن أهل الإيمان الصادق ازدادوا إيمانا، فالصديق رضي الله عنه لما أخبروه قال: (أنا أصدقه بخبر السماء أفلا أصدقه بهذا؟) . ولهذا لقب بالصديق لتصديقه بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فالصديق رضي الله عنه لما أخبروه بخبر الإسراء صدقه في ذلك، ولما استنكر ذلك قومه قال: (إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة) . فلذلك سمي أبو بكر الصديق. رواه الحاكم في مستدركه(60/96)
وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في تصحيحه.(60/97)
حكم إيداع المال في المصارف
وأخذ الفائدة عليها
س: ما حكم إيداع الأموال وادخارها في المصارف، وما حكم الأرباح التي تضاف عليها كل عام، علما بأن هذه الأرباح ضئيلة وهل تعد من الربا؟
ج: إيداع الأموال في المصارف بقصد الحصول على فائدة من خلال الإيداع ربا لا يجوز؛ لأن هذا من ربا النسيئة، فلا يجوز للمسلم فعله؛ ففي حديث جابر - رضي الله عنه- قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » . رواه مسلم وأصله في البخاري. أيضا من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه- إلى قوله: (وموكله) وهو عند أصحاب السنن أيضا.
وإذا كان من نصيحة فهي أن يكون الإيداع على شكل حساب جار، أو تساهم به في مساهمات في شركات نافعة، تكون أرباحها قابلة للزيادة والنقصان، بخلاف البنوك التي تحدد الربح، بل تضمنه، فلا بد أن تكون المساهمة قابلة للربح والخسارة.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(60/97)
كيف التصدي لمواقع الإنترنت المشبوهة
س: إذا كانت هناك مواقع في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) تعادي الإسلام وتبث أشياء غير أخلاقية، فهل يحل لي إرسال فيروسات لتعطيل تلك المواقع وتخريبها؟
ج: الحمد لله: شبكة الإنترنت هذه من وسائل الاتصالات الحديثة، السريعة في إيصال المعلومات، الواسعة من حيث الانتشار وسهولة الوصول إليها، وهي إن استغلت في الخير والدعوة إلى الله ونشر دين الله في أصقاع الأرض من قبل الأفراد والمؤسسات الإسلامية المختلفة، فلا شك أنها من الجهاد في سبيل الله بالبيان واللسان، ويجب على المسلمين استغلالها وتسخيرها لهذا الغرض السامي الخير.
أما المواقع الفاسدة المضلة والمضرة بعقائد المسلمين من خلال التلبيس والتشكيك، والمضرة بأخلاقهم كذلك من خلال ما يعرض فيها من الدعوة إلى الفساد وتيسير طرقه، وتعليم الناشئة لهذه الأمور وتربيتهم عليها من خلال ما يعرض فيها- فلا ريب أن هذا من أعظم المنكرات التي يجب التصدي لها وإنكارها وفق قواعد إنكار المنكر التي جاء بها النص من الكتاب والسنة، وبينها وفضلها علماء الأمة، والله تعالى يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، ويقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(60/98)
رواه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » رواه مسلم.
فمن اطلع على موقع من هذه المواقع فوجد فيها تلك المفاسد فليغيرها بحسب ما يقتضيه الحال؛ لأن هذا ضرر، والضرر إن كان يزول من غير ضرر وجب إزالته، وكذا إن زال بضرر أخف منه، أما إن لم يزل إلا بضرر أعلى وأكثر فلا يزال بل يحتمل أدنى الضررين لدفع أعلاهما. فإن كانا محاربة مواقع الفساد بمثل هذه (الفيروسات) لا ينتج عنها ضرر أكبر من ضرر وجود تلك المواقع، فإن هذا من أعمال القربات ومن الجهاد في سبيل الله. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(60/99)
حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية
س: ما حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية؟
ج: لا يجوز للرجل أن يصافح المرأة الأجنبية عنه، كما لا يجوز له أن ينظر إليها؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (1) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (2) الآية.
__________
(1) سورة النور الآية 30
(2) سورة النور الآية 31(60/99)
فإذا كان المؤمنون والمؤمنات قد أمروا بغض أبصارهم عن النظر إلى غير المحارم، فكيف بالمصافحة التي فيها المماسة؟ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء (1) » قاله عند البيعة، روى ذلك الإمام مالك في موطئه، والإمام أحمد في مسنده، وكذلك ابن ماجه، والطيالسي، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم في سننهم. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، وما بايعهن إلا بقوله (2) » واللفظ للبخاري. هذا وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم فكيف بمن هو دونه في التقى وأمن الفتنة؟ نسأل الله للجميع الفقه في الدين والعمل بسنة أفضل المرسلين.
__________
(1) سنن الترمذي السير (1597) ، سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(60/100)
الجمعة لا يدركها المسبوق إلا إذا أدرك ركعة
س: من أتى الجمعة ودخل مع الإمام والإمام في التشهد هل يعتبر أدرك صلاة الجمعة ويأتي بركعتين؟ أم يصليها ظهرا؟
ج: الجمعة لا يدركها المسبوق إلا إذا أدرك ركعة كاملة مع الإمام، وذلك بأن يدرك ركوع تلك الركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة (1) » أخرجه الشيخان وغيرهما من أهل السنن وغيرهم. وفي لفظ النسائي: «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة (2) » . قال الإمام مالك - رحمه الله - في موطئه: ما جاء فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة: عن ابن شهاب أنه كان يقول: من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى. قال ابن شهاب: وهي السنة. قال مالك: وعلى ذلك أدركت أهل
__________
(1) سنن النسائي المواقيت (553) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) ، مسند أحمد بن حنبل (2/280) .
(2) سنن النسائي المواقيت (557) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1123) .(60/100)
العلم ببلدنا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة (1) » . اهـ.
وقال الترمذي - رحمه الله- بعد روايته للحديث المتقدم: (هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قالوا: من أدرك ركعة من الجمعة صلى إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسا صلى أربعا. . .) . انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
إذن الحال المذكورة في السؤال يجب على من حصلت له أن يصلي بعد سلام إمامه أربع ركعات؛ لأنه إنما دخل مع إمامه وهو جالس. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) سنن النسائي المواقيت (553) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) ، مسند أحمد بن حنبل (2/280) .(60/101)
الدعاء للمسافر
س: هل رفع اليدين في دعاء السفر ودخول المنزل وركوب الدابة مشروع؟
ج: لا أعلم نصا يدل على مشروعية ذلك، إنما شرع الدعاء للمسافر وعند دخول المنزل، لكن رفع اليدين لا أعلم ما يدل على استحبابه. والله أعلم.(60/101)
حصر الورثة في المحكمة
س: التركة وماذا يجب نحوها بعد الوفاة، أي الفترة التي يمكن للورثة فرزها وتوزيعها، وهل يجب عمل حصر ورثة(60/101)
للمتوفى، وبماذا تنصحون الوالي على ذلك مما يبرئ الذمة، خاصة وأن هناك تركة وعقارا يؤجر وأراضي، وفقكم الله؟
ج: لا بد من حصر الورثة في المحكمة، لأن حصر الورثة يحدد الوارثين من الميت، فإذا حصر الورثة من قبل المحكمة الشرعية فينبغي المبادرة بحصر تركة الميت حصرا كاملا، ويقضى دين الميت إن كان عليه دين، وتخرج الوصية إن كانت هناك وصية. فإذا قضي الدين وأخرجت الوصايا، قسموا الباقي على حسب الميراث الشرعي؛ لأن الله تعالى يقول في آيات المواريث بعد أن ذكر سبحانه الأنصبة:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) ، فدل على أن الدين والوصية يخرجان من أصل التركة قبل القسمة ثم يقسم ما تبقى بعدهما. والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 11(60/102)
س: ترك لي والدي- رحمه الله- محلا تجاريا كبيرا، وكان لا بد أن أترك وظيفتي لأهتم بشؤون ذلك المحل، فما هي الشروط التي وضعها الإسلام لكي تكون التجارة حلالا وأراعي فيها وجه الله عز وجل؟
ج: عليك بتقوى الله عز وجل وإدارة هذا المتجر إدارة صالحة بعناية وإخلاص. وإن من أهم شروط التجارة الصالحة: الصدق في المعاملة والأمانة، مع ما يجب عليك من تعلم ما يخص تجارتك من الأحكام الشرعية عن طريق مجالسة أهل العلم وسؤالهم عما يشكل عليك؛ امتثالا لأمر الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 43(60/102)
هذا هو الواجب عليك الآن وقد دخلت في التجارة، وإن كان معك في المحل ورثة من إخوة ونحوهم فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، وأداء الأمانة على الوجه المطلوب، والتصرف في هذا المال بما هو الأصلح، والحذر من التفريط والتساهل وتضييع حقوقهم أو أكلها والعياذ بالله؛ فإنك تعلم أن أموال الأيتام مسؤولية عظيمة، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) . ولا مانع من أن تطلب من القاضي الشرعي أن يخصص لك مبلغا من المال مقابل إدارتك لهذا المشروع. وفقنا الله وإياك وسائر إخواننا المسلمين للفقه في الدين والعمل بما يرضي رب العالمين، وجنبنا جميعا مواضع الزلل، ورزقنا الرزق الطيب المبارك الحلال.
__________
(1) سورة النساء الآية 10
(2) سورة الأنعام الآية 152(60/103)
س: لي دين عند طالب علم، وهو الآن تخرج وعاطل ولا يقوى على سداد هذا الدين، وقد دفعت إليه الزكاة الواجبة في ذلك المبلغ، فهل هذا العمل جائز أم لا؟ والأمر الآخر هل يجب علي إخراج الزكاة عن الدين الذي لم أقبضه حتى الآن؟ وهل يجوز إسقاط الدين الذي عليه لأنه عاجز وفقير واحتساب ذلك الدين من الزكاة؟ أفيدوني مأجورين؟(60/103)
ج: الدين الذي في ذمة معسر لا يجب عليك زكاته إلا إذا استلمته فزكه لعام واحد؛ لأنه دين على معسر غير قادر على الوفاء، فهذا الدين لا تجب زكاته، ولكن إن زكيت هذا المال وأعطيته المدين فلا مانع منه. أما إذا كان على مليء قادر على الوفاء وجب أن تزكيه كل عام، لأنه في حكم المال الذي في يدك، وإن كان على معسرين أو مماطلين فإنك تزكيه إذا قبضته لعام واحد، ولا يجوز أن تحتسب الدين على معسر مقابل الزكاة؛ لأن الزكاة أخذ وعطاء فلا يجوز لك ذلك، ولأن في ذلك حماية لمالك بالزكاة.(60/104)
س: لدي أكثر من قطعة أرض اشتريتها منذ زمن، وأريد معرفة حكم الزكاة فيها، وإذا كان فيها زكاة، فهل يزكى الثمن الذي اشتريتها به؟ وهل تتم الزكاة عنها كل عام؟ علما بأن تقويم الأرض كل عام فيه بعض الصعوبة. أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: إن كانت الأرض للتجارة فقط فإنك تقومها كل عام بقيمتها الحالية سواء وافقت الثمن أو نقصت أو زادت. أما إن كنت تستثمر الأراضي- بأن أقمت عليها مشروعا سكنيا مثلا أو تجاريا- فإنه لا زكاة عليها، وإنما الزكاة في ريعها متى حال عليه الحول عندك. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(60/104)
س: أتعجب لأمر كثير من المسلمين الذين يؤدون جميع الفرائض الدينية ولا يتورعون عن الكذب. فما حكم الشرع فيما يفعله هؤلاء؟(60/104)
105 ج: لا شك أن الكذب صفة ذميمة تدل على ضعف الإيمان، بل هو من آية أهل النفاق، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن «من آية المنافق أنه إذا حدث كذب (1) » .
ثم إن الكذب شر، ومآله إلى شر، يقول صلى الله عليه وسلم:. . . «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا (2) » أخرجه مسلم وغيره وأصله في البخاري. والواجب على المسلم تقوى الله والحذر من الكذب والترفع عنه. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2607) ، سنن الترمذي البر والصلة (1971) ، سنن أبو داود الأدب (4989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .(60/105)
س: أنا شاب في مقتبل العمر، صدمت رجلا بسيارتي ولكن دون قصد؛ لأنني فوجئت به أمامي، مما أدى إلى وفاة ذلك الرجل، وقد دفعت الدية لأهله. وأسأل فضيلتكم هل يكون علي كفارة؟ وإن كانت فما هي؟ وهل للكفارة شروط؟
ج: عليك كفارة قتل الخطأ عتق رقبة، فإن عجزت عنها فصيام شهرين متتابعين ستين يوما؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) . والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 92(60/105)
س: طالت المدة ما بين عقد القران وإتمام الزفاف، ثم نشبت الخلافات وحدث الانفصال دون إتمام الزفاف. ما حكم الشرع في الزوجة التي لم يدخل بها؟
ج: إذا كان الطلاق قد صدر منه بعد العقد وقبل أن يخلو بها خلوة نكاح فإن الطلاق يقع بائنا بطلقة واحدة، ولا عدة على زوجته، ولها نصف المهر؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (1) الآية.
والمقصود بخلوة النكاح أن يجلس معها خاليا بمكان ليس معهم فيه أحد. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 237(60/106)
س: هل يشترط في حل الذبيحة أن تكون التسمية عليها باللغة العربية وكذا لفظ الله أكبر؟
ج: التسمية على الذبيحة واجبة، ومن استطاع الإتيان بها باللغة العربية التي جاء بها الشرع وجب عليه أن يأتي بها باللغة العربية. أما من لا يعرف اللغة العربية أو لا يستطيع النطق بالتسمية فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد رفع الله عن هذه الأمة الحرج والحمد لله، فأرجو أن تحل ذبيحته وتجزئ. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(60/106)
س: شخص يقول: هل يجب الدلك للتطهر من الجنابة؟ أم يكفي صب الماء على الجسم لتحقيق الطهارة؟(60/106)
ج: إفاضة الماء على جسم من عليه جنابة كاف في الاغتسال منها إذا عم الماء جسده كله، وإن لم يدلك بيديه جسده؛ وهذا هو قول جماعة الفقهاء وجمهور العلماء من السلف وغيرهم، نقل ذلك عنهم ابن عبد البر - رحمه الله- وذلك أن السنة وردت بإفاضة الماء ولم ترد بالدلك، فالاكتفاء بالإفاضة مع التعميم هو السنة وهو المجزئ؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض الماء على جسده كله (1) » أخرجه الشيخان وغيرهما.
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (248) ، صحيح مسلم الحيض (316) ، موطأ مالك الطهارة (100) ، سنن الدارمي الطهارة (748) .(60/107)
س: هل يجوز لبس البنطلون بالنسبة للمرأة أمام زوجها والنساء الأجنبيات؟
ج: المرأة يجب أن تصان وتحفظ، ولهذا خصت بالاحتجاب، وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت؛ لأن ظهور النساء لغير حاجة وإبداءهن للزينة سبب للفتنة. وهكذا أيضا يجب على النساء في لباسهن أن يراعين الستر والبعد عن كل ما من شأنه إثارة الشهوة أو التسبب للفتنة. ولبس البنطال للمرأة لا شك أنه مسبب للفتنة، لما فيه من وصف للجسم الذي تحته فهو غير ساتر الستر المطلوب. والمرأة مع النساء يجب أن تحفظ نفسها مما يسبب الافتتان بها أو يلحق الضرر بها، سواء كان النساء أجنبيات أو غير أجنبيات، فمتى كان اللباس فاتنا حرم لبسه. والظاهر من حال البنطال أنه مسبب للفتنة، فيجب على المرأة اجتنابه أمام النساء،(60/107)
وأمام الرجال يكون الأمر أعظم، والمرأة عليها تقوى الله عز وجل، والامتثال لأمره ونهيه، والوقوف عند حدوده، والله سبحانه خاطب نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن أمهات المؤمنين وأتقى نساء العالمين، فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) .
أما لباس المرأة مع زوجها فهذا له شأن آخر، فالزوج قد ملك منها ما هو أعظم من ذلك، وقد أمرت بالتزين والتجمل والتحبب له. وفق الله الجميع لما يرضيه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33(60/108)
س: عندما أتجه للرياض بعد أذان المغرب هل أصلي العشاء مع المغرب ثم نسافر أم أؤجل العشاء إلى أن نصل للمكان الذي نريده؟ مع العلم أننا نصل للرياض قبل خروج وقت العشاء.
ج: إذا كان المسلم يريد السفر مسافة قصر وحضر وقت الصلاة، فإنه إن فارق عامر بلدته جاز له قصر الصلاة وجمعها، إن كانت مما يجمع إلى ما بعدها، أما إن لم يفارق عامر بلدته فإنه يجب عليه إتمام الصلاة الحاضرة وليس له جمعها إلى غيرها. فمثلا ما ذكره السائل في سؤاله إن كان السائل لم يصل المغرب حتى غادر عامربلدته فإنه يجوز له أن يجمع إليها العشاء جمع تقديم ويقصر صلاة العشاء، حتى وإن ظن أنه سيصل إلى بلد الإقامة قبل صلاة العشاء، أما إن لم يكن قد فارق عامر بلدته فإنه يصلي المغرب فيها ولا يجمع العشاء إليها. والله أعلم.(60/108)
س: ما حكم شراء السلعة (كمنزل مثلا) عن طريق الشركات الاستثمارية (كالراجحي) حيث إنني عندما أشاهد المنزل أخبر الشركة بذلك، فيشترونه نقدا ثم أشتريه منهم بالتقسيط، حيث أدفع لهم المبلغ شهريا أو سنويا، مع العلم أنهم يأخذون نسبة على ذلك قد تصل إلى 10%؟
ج: لا يحل شراء سلعة إلا من شخص يملكها ملكا تاما، فإذا ملك السلعة ملكا تاما ابتدئ بالتفاوض معه حول سعرها، وأما الاتصال بهم والمفاوضة معهم قبل شراء السلعة وتعبئة استمارة وأخذ المقدم والاتفاق على السعر المؤخر قبل ملك السلعة فهذا اتفاق لاغ ولا يجوز، فلا تبدأ معهم اتفاقا حتى يحوزوا السلعة ويملكوها؛ «لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق ثم أبيعه. قال: لا تبع ما ليس عندك (1) » رواه الترمذي بهذا اللفظ، وبنحوه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في سننهم، وأيضا الإمام أحمد في مسنده، وغيرهم رحمهم الله. والله أعلم وبالله التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(60/109)
الذهاب للكوافير للتزين
س: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تذهب إلى الكوافير للتزين وللتجميل وذلك لأن تطور الحياة الاجتماعية في هذا العصر غير شكل الزينة وأساليبها ولم تعد المرأة تستطيع أن تقوم بزينتها في بيتها؟(60/109)
ج: الحقيقة في هذا تكلف، وفيه إنفاق للمال في غير سبيله، وينبغي للنساء أن يحرصن على أن تكون هذه الأمور تتولاها المرأة بنفسها، ولا ينبغي لها أن تذهب إلى هذه الأماكن، فإنها أماكن استغلال، وربما يقع محظور من التشبه بغير المسلمات والافتتان بما يعرض لها من منكرات، هذا إذا كان يتولى ذلك امرأة. أما إذا تولاها رجل فهذا لا شك في تحريمه، والواجب منع ذلك والتحذير منه. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وجنبنا جميعا ما يسخطه ويأباه.(60/110)
الزكاة للداخل أم للخارج
س: هل يجوز إخراج أموال الزكاة والصدقات والكفارات إلى فقراء المسلمين في الخارج أم يجب صرفها إلى فقراء البلد؟
ج: جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في خبر «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أنه أمره بأمور ومنها:. . . فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » متفق عليه، واللفظ للبخاري. فالزكاة تدفع لأهل البلد، فإن حصل فضل جاز نقله إلى غيرها من البلدان. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(60/110)
قراءة القرآن أعظم فضلا
س: هل ينال المسلم أجر قراءة القرآن الكريم إذا اكتفى بالسماع؟(60/110)
ج: لا شك أن الاستماع فيه خير، ولكن فضل القراءة أكثر، وقد ورد الفضل في القراءة؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب (1) » . . . متفق عليه. ولهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران (2) » . وروى الخمسة إلا النسائي قوله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها (3) » . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف (4) » رواه الترمذي وغيره. أما الاستماع ففيه فضل، لكن القراءة أعظم فضلا.
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5427) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (797) ، سنن الترمذي كتاب الأمثال (2865) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5038) ، سنن أبو داود كتاب الأدب (4829) ، سنن ابن ماجه المقدمة (214) ، مسند أحمد بن حنبل (4/408) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3363) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .
(3) سنن الترمذي فضائل القرآن (2914) ، سنن أبو داود الصلاة (1464) .
(4) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .(60/111)
الأموال المأخوذة بغير حق
س: قرأت في كتاب الكبائر عن إثم (المكس أو المكاس) فما المكس؟
ج: المكوس هي الأموال المأخوذة بغير الحق. وقد جاء ذكر المكس في بعض الأحاديث في المسند وبعض السنن، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة صاحب مكس (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «صاحب المكس في النار (2) » .
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2937) ، مسند أحمد بن حنبل (4/143) ، سنن الدارمي الزكاة (1666) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/109) .(60/111)
س: هل يجوز الرقص والغناء في ليلة الزفاف والضرب على الدف والطبول والتصفيق؟(60/111)
ج: السنة ضرب الدف لإعلان النكاح وذلك للنساء خاصة، وما زاد على الدف فإنه من الأمور التي لا تليق بالمسلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعلنوا هذا النكاح واضربوا على الدف (1) » ، لأن هذا إعلان وإظهار للنكاح، وما سوى الدف فأمور لا تخلو من أن تكون مكروهة أو قد تكون أمورا محرمة.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1089) ، سنن ابن ماجه النكاح (1895) .(60/112)
أسأل الله لك الثبات على الحق
س: سائلة تقول: هداني الله عز وجل بعد أن سمعت شريطا دينيا باسم (اليوم الآخر) ، وأحسست بحلاوة الإيمان، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش حياة أخرى، ملؤها السعادة والراحة، وأصبحت أذكر الله في كل الأحوال، وارتديت اللباس الشرعي الذي يليق بالمرأة المسلمة. ولكن مع هذا الدرب الجديد الذي سلكته اعتبروني مريضة، ووالدي ووالدتي يتفهمان معي، وبقية الأسرة يعتبرونني مريضة؛ ولهذا أرسلت إليكم لعلي أجد عندكم الحل لأواجه هذه المشاكل التي تعترض طريقي، وأفتوني في هذا مأجورين. جزاكم الله عنا كل خير.
ج: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، في بداية الحديث نوصيك بتقوى الله وشكر الله على نعمته بالهداية إلى الطريق المستقيم. إن من هداه الله فقد أنعم عليه ومن عليه، فاحمدي الله على هذه النعمة، واسألي الله الثبات على الحق والاستقامة عليه. ولا(60/112)
شك أن الإيمان حياة للعبد، حياة سعادة وهناء؛ قال الله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1)
أما ما تذكرين من موقف بعض أهل بيتك ووصفهم لك بالمريضة ويعترضون فكل هذه من إرجافات الشيطان، فلا تصغي إليهم ولا يهزك ذلك ولا يزحزحك عن أخلاقك وعن دينك، والله يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) ويقول جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3)
لقد كان موقف أعداء الرسل من رسل الله هكذا؛ يقول قوم نوح عليه السلام لنوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} (4) ويقول قوم محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنه بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (5)
فالواجب الثبات والاستقامة وألا تصغي إلى أقوال هؤلاء، بل استقيمي على دين الله واثبتي على الحق. وفق الله الجميع في الثبات على دينه.
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة آل عمران الآية 175
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة هود الآية 27
(5) سورة الأحقاف الآية 11(60/113)
حكم العلاقة بين الجنسين
س: ما حكم العلاقة بين الجنسين؟ مع العلم أن النية صالحة وليست خبيثة.(60/113)
ج: الواجب على الرجل أن لا يلتقي مع المرأة الأجنبية عنه، ويجب عليه الحذر من أن يختلي بالمرأة ومن أي التقاء ومن أي محادثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما (1) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «وإياكم والدخول على النساء. قيل: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (2) » . ويقول الله تعالى لنساء نبيه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (3) فالذي ينبغي: أن الرجل يأخذ بالحزم والبعد عن محادثة النساء، فإن المحادثات قد تؤدي إلى ما هو أشر منها؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وإغلاق وسائل الشر من أسباب السلامة بتوفيق الله. ومن فتح على نفسه باب شر يوشك أن يلج فيه، إلا من عصمه الله. نسأل الله العصمة والهداية.
__________
(1) سنن النسائي تحريم الدم (4083) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(3) سورة الأحزاب الآية 32(60/114)
صل أباك وناصحه
س: والدي كثير السب واللعن، وكثيرا ما يقول لي إذا قمت بزيارته: يا كافر أو يهودي. فماذا أصنع معه؟
ج: لا تقطع زيارتك لأبيك، فإن في وصله وزيارته طاعة لله، وابتعد عما يجعله يسب ويلعن وتغاض عما يصدر منه، لأن الله يقول:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (1) ويقول جل وعلا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (2)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 15
(2) سورة العنكبوت الآية 8(60/114)
فاستمر على زيارة أبيك وانصحه، وإذا كنت تعلم سرعة غضبه وكثرة سبه ولعنه فابتعد عما يجعله كذلك، ولا تفتح معه موضوعات تجعلك تسمع ما لا يسرك. ولا بد من النصيحة والاستمرار في ذلك عسى الله أن يهديه ويصلح حاله ولسانه.
وإني لأنصح هذا الأب وغيره من المسلمين ممن هم على شاكلته أن يتقوا الله عز وجل ويحذروا من زلات اللسان، فإنها خطيرة؟ «يقول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أومؤاخذون نحن بما نتكلم به: قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم- أو قال: مناخرهم- في النار إلا حصائد ألسنتهم (1) » ، فالأمر خطير. ويقول صلى الله عليه وسلم: «رب كلمة يقولها العبد لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا (2) » . ومثل هذه الكلمات التي يطلقها هذا الأب خطيرة، فإنه لا يجوز بحال أن ينادى المسلم بغير اسم الإسلام، كأن يقال له: يا كافر، يا نصراني، يا يهودي. . . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا قال الرجل لصاحبه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما (3) » . فالحذر الحذر من زلات اللسان، ولنتوق في ألفاظنا وننتق عباراتنا، ولنتأدب بآداب الإسلام. أسأل الله الهداية للجميع، وأن يرزقنا الفقه في دينه والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/231) .
(2) سنن الترمذي الزهد (2314) ، سنن ابن ماجه الفتن (3970) ، مسند أحمد بن حنبل (2/533) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/47) ، موطأ مالك الجامع (1844) .(60/115)
اختر صديقك والهجر لا يجوز
س: صاحبت رجلا سيئ الأخلاق مما أثر علي، فأصبحت مثله أسب كثيرا وأشتم كثيرا، وبعد ذلك هجرني هذا الرجل، وأصبح يرفض السلام علي، فماذا أعمل حياله؟(60/115)
ج: أولا: على المسلم أن ينظر من يصادق، فيختار أصدقاءه ممن يتصفون بحسن الأخلاق والتقوى والاستقامة، وعليه أن يبتعد عمن يتصفون بسوء الخلق حتى لا يتأثر بهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (1) » . أما المقاطعة والهجران بين المسلمين فلا يجوز ذلك، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام (2) » .
والبعد عن جنس هؤلاء الذين ذكرهم السائل في سؤاله أولى.
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2378) ، سنن أبو داود الأدب (4833) ، مسند أحمد بن حنبل (2/334) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6077) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2560) ، سنن الترمذي البر والصلة (1932) ، سنن أبو داود الأدب (4911) ، مسند أحمد بن حنبل (5/416) ، موطأ مالك الجامع (1682) .(60/116)
السكن مع العوائل الكافرة
س: نرجو توجيه النصيحة لمن يسافر للخارج، ويسكن مع العوائل الكافرة بحجة سرعة تعلم اللغة الإنجليزية؟
ج: المسلم إذا اضطر إلى السفر إلى بلاد غير إسلامية فعليه أن يتقي الله في نفسه وأن يحرص ويحافظ على دينه، فإن دينه من أثمن الأشياء وأعزها، فليحافظ على إسلامه فلا يكون رخيصا عنده، فإن العزة في الدين. وعلى المسلم أن يتمسك بدينه في أي مكان يذهب إليه، وليحذر أن يساكن ويعاشر من يعادي دينه، فالسكنى مع العوائل والأكل معهم والنوم معهم يخشى منه على المسلم، وربما أدى ذلك إلى وقوعه في المحرمات والمنكرات، وربما أدى إلى ذهاب دينه وعقيدته. أيها المسلم، الدين أغلى من كل شيء، فحافظ على دينك إن اضطررت إلى السفر إلى بلاد كافرة.(60/116)
الإحسان العام جائز
س: كان لي زميل دراسة نصراني، وقد ساعدته ببعض الدراهم، وأخشى أن يكون عملي هذا مخالفا للشرع، وأسأل عن هذا المال عند ربي. فما العمل؟
ج: الصدقات العامة غير الزكاة تجوز على غير المسلم؛ يقول تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (1) فالإحسان من غير الزكاة جائز لغير المسلم.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(60/117)
المسألة خلافية والأمر يسير والحمد لله
س: هل تصح قراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بعد قراءة الإمام؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب (1) » . فمن العلماء من يقول بوجوبها على جميع المصلين: إماما ومنفردا ومأموما. ومن العلماء من يقول: إنها تجب على الإمام والمنفرد، أما المأموم فإنه يكتفي بقراءة إمامه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وعلى كل حال إن قرأ المأموم الفاتحة وراء الإمام فلا ينكر عليه، وإن رأى
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، مسند أحمد بن حنبل (5/316) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .
(2) سورة الأعراف الآية 204(60/117)
وترجح عنده قول من لا يرى وجوبها فلا شيء عليه، فالمسألة خلافية، ولكل من الموجبين والمانعين دليل، والأمر يسير والحمد لله.(60/118)
تحريم تفضيل الأولاد بعضهم على بعض
س: ألاحظ أن أبي يفرق في عطية إخوتي، ويحرص على الذي يقدم له خدمات أكثر فقط. فما حكم ذلك؟
ج: الأصل وجوب عدل الأب بين أولاده في العطاء، «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع إليه بشير بن سعد أنه يريد أن يفضل ابنه النعمان على غيره، قال صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك منحتهم مثل ذلك؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وقال: أترضى أن يكونوا لك بالبر سواء؟ قال: نعم، قال: فلا إذا، وقال: إني لا أشهد على جور. وقال: أشهد على هذا غيري (1) » .
فدل هذا الحديث على تحريم تفضيل الأولاد بعضهم على بعض، فإن التفضيل يسبب القطيعة بينهم وبغض بعضهم بعضا ومفارقة بعضهم بعضا وحقد بعضهم على بعض، والعدل بينهم يسبب التئامهم وجمع كلمتهم.
وقد يكون في بعض الأولاد رقة مع الأب، وبعضهم منه جفاء وعقوق، ولكن لا ينبغي أن يعالج الشر بالشر، وإنما يعالج الشر بالخير والعدل.
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، صحيح مسلم الهبات (1623) ، سنن الترمذي الأحكام (1367) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن أبو داود البيوع (3542) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .(60/118)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السؤال السابع من الفتوى رقم 19616
س: ماذا يقول أو يفعل المسلم إذا كثر وسواس الشيطان له وكاد أن يشرك بالله عز وجل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يدفع الوسواس عن نفسه بقدر الطاقة وذلك بشغل نفسه بتدبر القرآن وتذكر عظمة الله ونحو ذلك. وشرع له أن يقول ما جاء في الأحاديث الصحيحة: آمنت بالله ورسله ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/119)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 5612
س: قد كثر الجدال بين الناس في الوضوء فمنهم من يقول: إذا أراد الإنسان الوضوء يجمع يديه الاثنتين ويغسلهما ثلاث مرات. ومنهم من يقول: إن المتوضئ يفرق بين يديه ويغسل كل ثلاث مرات، بداية من الأصابع إلى المرفقين وأريد أن أعرف أيهما أرجح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يغسل المتوضئ كفيه في ابتداء الوضوء مجتمعتين ثلاث مرات وهما من مفصل الكف من الذراع إلى أطراف الأصابع.
أما غسل اليدين إلى المرفقين بعد غسل الوجه في الوضوء فيغسل اليمنى إلى مرفقها ثلاث مرات، ويغسل اليسرى كذلك من أطراف أصابعها إلى مرفقها ثلاث مرات كل منهما على انفرادهما، وإن اكتفى في كل منهما بغسلة واحدة أجزأه؛ لأنها هي الفرض، والغسلة الثانية والثالثة في كلتيهما سنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/120)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 12191
س: إذا توضأ الإنسان ونسي فرضا فما العمل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: المشروع للمتوضئ أن يتوضأ وضوءا كاملا مرتبا ومتواليا كوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت «عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه (1) » متفق عليه. فمن ترك فرضا من فروض الوضوء المذكورة كغسل الوجه أو اليدين بطل وضوءه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (164) ، صحيح مسلم الطهارة (226) ، سنن النسائي الطهارة (85) ، سنن أبو داود الطهارة (106) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (285) ، مسند أحمد بن حنبل (1/64) ، سنن الدارمي الطهارة (693) .(60/121)
الفتوى رقم 11936
س: ماذا يستحب فعله عند الوضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن صفة الوضوء الشرعي هي: أن يفرغ الشخص من الإناء على كفيه ثلاث مرات، ثم يدخل يده اليمنى في الإناء فيتمضمض ويستنثر ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه ثلاث مرات، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم يمسح رأسه وأذنيه مرة واحدة، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرات وإن غسل مرتين مرتين أو مرة مرة أجزأ ذلك، ثم يقول بعد الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/122)
السؤال الثالث والثامن من الفتوى رقم 6320
س: حكم من تذكر بعد وضوئه أو شك في أنه نسي ركنا من أركان الوضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: من علم بعد الوضوء أنه ترك عضوا من أعضاء الوضوء لم يمسه الماء فإن عليه الإعادة، وأما إن شك في عدم غسل عضو بعد الفراغ فشكه لاغ.
س: حكم من توضأ مرة واحدة واحدة وليس ثلاثا لكي يلحق الصلاة؟
ج: وضوءه صحيح؛ لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/123)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7123
س: سمعت أحد العلماء يقول: إن الزيادة في الوضوء لا تجوز فمثلا تعدى الوضوء أحد المرفقين أو زاد في الماء على ثلاث غرفات فهو لا يجوز أيضا مما جعلني في حيرة من ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الوضوء عبادة، والعبادات توقيفية لا تعلم إلا من قبل الشرع، وعلى المسلم أن يعمل بما ثبت شرعا، فمن زاد على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الغسلات أو المسحات التي لكل عضو من أعضاء الوضوء أو تجاوز الحد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في غسل عضو أو مسح عضو فقد أساء بغلوه وزيادته على ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووضوءه صحيح، لكن من كمال وضوئه ترك الزيادة على ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء. والواجب على المتوضئ تعميم الماء على جميع العضو الواجب غسله، فإذا لم تكف الغرفة زاد حتى يتم غسل العضو كله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/124)
السؤال الأول من الفتوى رقم 6970
س: شخص غسل يديه ووجهه وذراعيه ورجليه أي توضأ قبل أن يستنجي وبعد أن توضأ استنجى فما الحكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر لم يصح وضوءه؛ لأن من شرط صحة الوضوء أن يتقدمه الاستنجاء أو الاستجمار من البول أو الغائط على الصحيح من قولي العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/125)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9202
س: عند تناول الطعام تتواجد بعض الفضلات بين الأسنان وإذا توضأنا أو اغتسلنا ولم نستطع إخراج هذه الفضلات هل يصح الوضوء أو الاغتسال؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(60/125)
ج: يصح الوضوء والغسل ولو بقي شيء من الفضلات بين الأسنان، لكن إزالتها أفضل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/126)
السؤال الثاني عشر من الفتوى رقم 6259
س: عورة الرجل من السرة إلى الركبة فما حكم وضوئه عاريا أو لابسا سروالا قصيرا لا يستر ركبته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يصح وضوءه؛ لأن كشف العورة ولبس السروال القصير لا يمنعان من صحة الوضوء. ولكن يحرم عليه كشف عورته بحضرة غير زوجته أو سريته وهي الأمة المملوكة له التي يباح له الاستمتاع بها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/126)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 9233
س: هل يجوز مسح الرقبة عند الوضوء أم غير مذكور في كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لم يثبت في كتاب الله تعالى ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن مسح الرقبة سنة من سنن الوضوء. فلا يشرع مسحها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/127)
السؤال الأول والثاني والثالث والسابع من الفتوى رقم 3225
س: إذا طير الإنسان الشراب (تبول) ورجع يتوضأ فهل ما يصيبه من الرشاش طاهر أو يبل يده بالماء ويمسح عليه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: البول نجس فإذا كان الذي أصاب الإنسان رشاش بول وجب عليه أن يغسل الموضع الذي أصابه من بدنه أو ثوبه، ولا(60/127)
يجزئ في تطهيره مسحه بالماء، وكذا إن كان الرشاش من الماء الذي صبه على البول.
س: إذا أراد الإنسان الوضوء للصلاة فهل يكفي أن يصب على العضو مرة، ثم يمسح على بقيته للصلاة وهل يكفي لكل عضو مرة ويصلي؟
ج: يجزئ المتوضئ أن يصب الماء على كل عضو من الأعضاء
التي يجب غسلها في الوضوء، بشرط أن يعم الماء العضو، وكل من
الغسلة الثانية والثالثة سنة فقط. أما إذا كانت الغسلة الواحدة لم تعم العضو فلا تجزئ في الوضوء ولو مسح بقيته بالماء.
س: إذا توضأ الإنسان في خلاء وكان به هواء ينشف العضو الأول مثل الوجه وغيره قبل أن يتم الوضوء فهل يعيد الوضوء من جديد أو يكفي؟
ج: يكفيه ذلك الوضوء، ولا يجب عليه أن يعيده، ولا تسن إعادته.
س: هل العانة من أعضاء الوضوء؟
ج: ليست العانة من أعضاء الوضوء ولا من أعضاء الاستنجاء، وإن أصابها شيء من النجاسة حين قضاء الحاجة وجب غسل ما أصابها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/128)
الفتوى رقم 5602
س: نرجو من سعادتكم الإفادة والفتوى على ما يأتي:
أولا: إكمال الوضوء والطهور في الحمام يجوز أم لا؟ ومع العلم يوجد بزابيز خارج الحمام. ثانيا: ما الحكم في المسح على الخفين؟ هل من أعلى الكندرة أم من فوق الشراب؟ نرجو منكم إفادتنا ولكم جزيل الشكر.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: إذا تيسر له الوضوء خارج الحمام فالأكمل أن يتوضأ خارجه مع مراعاة التسمية أوله، وإلا توضأ داخل الحمام وتحفظ مما قد يكون فيه من نجاسة.
ثانيا: للمتوضئ أن يمسح فوق الجورب وحده وفوق الكندرة وحدها إن كانت ساترة للكعبين لا ترى من ورائه بشرة القدمين، وإن كانت غير ساترة للكعبين مسح عليها إذا كانت ملبوسة فوق جورب ساتر للكعبين وعلى ما ظهر من الجوربين فوق محل الغسل، وصلى فيهما جميعا، ومتى خلع أحدهما خلع الآخر إذا كان المسح عليهما جميعا. أما إن كان المسح على الجوربين وحدهما فلا مانع من خلع الكندرة وبقاء الجوربين حتى تتم مدة المسح، وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر إذا كان لبسهما على(60/129)
طهارة. وابتداء المدة من المسح بعد الحدث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/130)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 8594
س: يقال بأن عدم التجفيف أو مسح الماء بعد الفراغ من الوضوء بخرقة أو منديل أو نحوهما يعتبر سنة وأيضا قبل الشروع في الأكل باليد بعد غسل اليدين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليس عدم تجفيف اليدين أو مسح الماء عنهما بعد الوضوء أو قبل الأكل أو بعده سنة. بل الأمر في كل ذلك واسع، إن شاء مسحهما وإن شاء ترك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/130)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 6019
س: ماذا على الذي يبول وينتر ذكره ثم يخرج منه قطرات عند انتهائه من البول وقد تحدث هذه القطرات بعد انتهائه بدقيقة أو أكثر وفي بعض الأحيان عند انتهاء الوضوء وذلك بدون إرادته ماذا يفعل وما عليه لو تركه بعد غسله مرات؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا ينبغي النتر بعد البول، وإذا حدث أن خرج منه قطرات بول بعد الوضوء فيجب عليه أن يعيد الوضوء ويغسل موضع النجاسة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/131)
السؤال الأول من الفتوى رقم 1318
س: كنت مرة أتوضأ فلفت نظري أحد الناس إلى لمعة في(60/131)
قدمي وفي مرة أخرى لفت نظري إلى لمعة مشابهة مما أوجب لدي الشك أني لا أحسن الوضوء قبل ذلك والسؤال الآن عن حالتي السابقة التي أشك في صحة وضوئي فيها وكذا غسلي من الجنابة هل أعيد صلواتي أم ماذا أفعل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: كون السائل لفت نظره مرة أو مرتين إلى لمعة في قدمه لم يصلها الماء حينما توضأ لا يعني الحكم على طهارته الأخرى أنها غير صحيحة، لأن الأصل أنه توضأ وضوءا صحيحا ولا ينتقض الأصل بالشكوك وكذا الأمر بالنسبة إلى غسله من الجنابة. ونوصي المستفتي وفقه الله أن يترك الشكوك والوساوس جانبا، وألا يلتفت إلا لحقائق يعلمها بدون شك، وعليه فطهارته السابقة صحيحة وصلواته بها صحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/132)
فتوى رقم 1231
س: هل يجوز المسح على الشرابين في البرد ويكون يوما وليلة دون أن تفسخ الشراب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(60/132)
ج: يجوز المسح على الشراب إذا كان صفيقا، أي لا ترى البشرة معه، ويكون ساترا للمفروض. ومدة المسح للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن. وتبدأ مدة المسح من المسح بعد الحدث. والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (1) » وما رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مسح على الجوربين والنعلين (2) » ولا مانع من جمع جوربين فأكثر يلبسها جميعا؛ بعد كمال الطهارة؛ لعموم الأحاديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 1 \ 120، ومسلم 1 \ 160، وأبو داود برقم 157
(2) لفظ أحمد: ((ومسح على النعلين)) ، وفي رواية ((على نعليه)) ، انظر: 1 \ 120، 148 و 4 \ 8، 10(60/133)
فتوى رقم 1946
س: حكم المسح على الجوربين، هل يجوز أو لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: في المسح على الجوربين في الوضوء خلاف بين الفقهاء، فمنهم من منعه ومنهم من أجازه. والصحيح أنه جائز إذا لبسهما(60/133)
على طهارة وكانا ساترين للقدمين والكعبين، لمدة يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام للمسافر، إلى غير ذلك من شروط المسح التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة؛ لما ثبت عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: «توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين (1) » رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد عمل بذلك كثير من الصحابة. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس رضي الله عنهم. وهو قول جماعة من أهل العلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (99) ، سنن أبو داود الطهارة (159) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (559) .(60/134)
فتوى رقم 5840
س: إني أتألم من بين أصابع الرجلين من الماء عند الوضوء بحيث إنني يحصل ما بين أصابع الرجلين حك كثير ويتجرح ما بين(60/134)
الأصابع. أما إذا انقطع الماء عنهما يوما يخف الألم والحك. فأرجو من حضرتكم أن ترشدوني من قبل الوضوء يجوز لي الوضوء من غير غسل الرجلين أم لا؟ أو من فوق الجرابات؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت فالبس الجوربين على طهارة كاملة، ثم امسح على الجوربين مع كل وضوء يوما وليلة في الإقامة، وثلاثة أيام في السفر ما لم تجنب، أما إذا أجنبت فيجب عليك غسل جميع بدنك حتى الرجلين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/135)
فتوى رقم 12716
س: هل يشترط تخليل اللحية بالماء عند كل وضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجب تخليل اللحية بالماء عند الوضوء إذا كانت كثيفة.
س: بقيت فترة من الزمن أمسح على الجوربين على غير طهارة جاهلا بالحكم. فما حكم صلاتي في تلك الفترة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(60/135)
ج: يجب أن تقضي الصلوات الماضية التي صليتها وأنت تمسح على الجوربين على غير طهارة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/136)
السؤال الخامس من الفتوى رقم 5512
س: ما حكم المسح على الجوارب إذا كان بها ثقوب أو شفافة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز المسح عليها في الوضوء بدلا من غسل الرجلين إذا كان لبسهما على طهارة، ما لم تتسع الثقوب عرفا، أو تزيد الشفافية حتى تكون الرجلان في حكم العاريتين يرى ما وراءها من حمرة أو سواد مثلا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/136)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9271
س: ما الحكم إذا غسل الرجل رجله اليمنى ثم يلبس بعد ذلك الجورب قبل أن يغسل رجله اليسرى؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليس لك المسح عليهما؛ لأنك أدخلت الأولى قبل تمام الطهارة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/137)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 9439
س: في المسح على الجورب أثناء الوضوء هل يشترط سمك معين للجورب أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجب أن يكون الجورب صفيقا لا يشف عما تحته.(60/137)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/138)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7782
س: سؤال مقدم من أحدهم لبرنامج نور على الدرب ما هو الحكم في صاحب جرح يخشى عليه من عدم البرء؛ هل يمسح على الجرح أم يتيمم؟ كانت الإجابة يمسح ويتيمم خروجا من خلاف العلماء. ونحن هل ندين بالاختلافات التي نشأت من تعدد الدليل في المسألة الواحدة أو فهم يختلف عن فهم؟ كان الأولى أن يعطيه الإجابة الأقرب لروح الشرع.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الإجابة التي سمعتها فيها نظر، والصواب أن المسح يكفي ويغني عن التيمم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/138)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 10725
س: ظهر ما يشبه الدمامل في رجلي وكان العلاج أن ألف مكان الدمل بلصقة بحيث لا يصلها الماء أثناء الوضوء. ما حكم الوضوء في هذه الحالة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: وضوءك صحيح إذا مسحت على اللصقة أو مر الماء عليها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/139)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 7526
س: هل يجوز المسح على الشراب في الأربع أوقات الأخرى إذا تطهرنا في صلاة الصبح، وبعد ذلك أدخلناها الشراب وفي أحد الرجلين عذر والماء يضر بها، فهل يجوز المسح عليهما الاثنتين في الوضوء؟ وخاصة أنا إمام أقوم بإمامة المسلمين، وقد(60/139)
أواجه بالسؤال في هذا الأمر؛ ولذلك أرجو منكم أن تفيدونا بالكامل في هذه الشأن.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الأمر كما ذكر من أن الرجل تتضرر بالماء فإنك تتوضأ وتغسل الرجل التي لا يضرها الماء ثم تيمم الرجل الثانية ثم تلبس الخفين وتمسح عليهما بعد ذلك يوما وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، ويكون كل واحد من الخفين صفيقا ساترا محل الفرض من القدم، فإن كان رهيفا أو غير ساتر للمفروض لم يجز المسح عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/140)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6252
س: هل يجوز المسح على العمامة إذا لم يكن هناك عذر، لا مرض ولا خلافه، ولكن لا يريد أن يخلع عمامته ويحب أن يمسح عليها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(60/140)
ج: للمتوضئ أن يمسح على ما ظهر من رأسه وشعره ويكمل المسح على عمامته إذا كان لبسها على طهارة، يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر كالخفين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/141)
السؤال الأول من الفتوى رقم 4963
س: إذا لبس الرجل خفين ومسح عليهما وقتي الصبح والظهر ووقت العصر، وبعدما مسح عليهما لصلاة العصر خلعهما، فهل ينتقض وضوءه أم يبقى على طهارته؟ أرجو الإفادة مع ذكر الدليل؛ لأنه قد قال بعض الإخوان: إنه لا ينتقض وضوءه، ولم يذكر على ما قال دليلا مقنعا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذه المسألة لم يرد فيها نص صريح، فهي نظرية، للاجتهاد فيها مجال؛ ولذا اختلف فيها العلماء. فقال النخعي، والزهري، ومكحول، والأوزاعي، وإسحاق، والشافعي، وأحمد في أحد قوليهم: (ينتقض وضوءه؛ لأن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث) .(60/141)
وقال أبو حنيفة: (يجزئه غسل قدميه) . وهو القول الآخر للشافعي، ورواية أخرى عن أحمد رحمهم الله، لأنه لو صلى بلا غسل قدميه لكان مصليا بقدمين غير مغسولتين ولا ممسوح على خفين هما فيهما حال الصلاة.
وقال إبراهيم النخعي في رواية عنه: (لا ينتقض وضوءه بنزعهما، ولا يجب عليه غسل رجليه، بل يصلي دون أن يجدد وضوءا أو غسل رجليه) . وبه قال ابن حزم وجماعة؛ لأن الأصل أنه كان متوضئا ولم يطرأ عليه حدث ينقض وضوءه، والأصل البقاء على ما كان حتى يثبت دليل ينقل عنه. والأول أرجح وأحوط وهو انتقاض الوضوء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/142)
فتوى رقم 5935
س: أحس أنه أثناء غسل الرجلين أو بعد الوضوء مباشرة أو بعد الوضوء بفترة أن شيئا عن طريق مجرى البول يخرج على شكل قطرات أو نقط وهذا يكون بالإحساس كما ذكرته، ثم بعد ذلك أنظر إلى مكانه، فبعض الأحيان أجد أثر النقطة أو أكثر(60/142)
وبعض الأحيان لا أجد شيئا. وإن هذا يحدث لعدم تمكني من التحكم في مجرى البول. وذهبت إلى بعض الدكاترة فقيل لي: إن هذا أمر عادي ويكثر مع الشباب وإنه يزول بعد الزواج، وبعض يقول كذا وكذا. ولم أستطع التخلص من ذلك، وما يهمني في المرتبة الأولى هو حكم الصلاة وعلاج الأمر شرعيا، فإنني كثيرا ما أكرر الوضوء، ولكن لم أرتح في ذلك. لذلك أكتب إليك هذه الرسالة راجيا من الله أن تكون قد فهمت ما أعاني منه، وعلى ضوء ذلك تفتيني في الحكم، فيكون لي جوابا شافيا. وما هو العمل إذا حدث ذلك بعد الوضوء وما الحكم في الملابس الداخلية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن الطهور شطر الإيمان، فإذا تطهر المسلم وشعر أن شيئا يخرج منه، فإن تحقق خروج الحدث أعاد الوضوء وغسل موضع النجاسة من البدن والملابس، وإن لم يتحقق فلا يلتفت إلى ذلك وصلاته صحيحة؛ لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: «شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » .
__________
(1) البخاري رقم 137 (الفتح) ، ومسلم 1 \ 189(60/143)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/144)
فتوى رقم 10450
س: هل كل ما يطلع من الإنسان من رائحة مبطلة (أنا أعرف أنها مبطلة) لكن السؤال متى تكون مبطلة؟ أي هل هي مبطلة عند الصوت والشم والحس معا أم عند الصوت والشم ولا يدخل معها الإحساس؟ أرجو أن تبينوا لي هذه المسألة، وفقكم الله تعالى، ولأن الأمر اختلط علي.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن ما ذكرته من نواقض الوضوء، إذا تيقن على أنه خرج منه شيء بسماع صوت أو وجود رائحة أو غير ذلك مما يحصل به تيقن خروج الحدث؛ «لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (137) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن النسائي الطهارة (160) ، سنن أبو داود الطهارة (176) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (513) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) .(60/144)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/145)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 10542
س: إذا كان الشخص متوضئا فسمع داخل بطنه صوت رياح ولكن هذه الرياح لم تخرج من فتحة الشرج فما الحكم؟ هل يبقى متوضئا أم ينتقض وضوءه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الشخص متوضئا فسمع بداخل جوفه صوت رياح فإنه لا ينتقض وضوءه بذلك إذا لم يخرج شيء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه مسلم 1 \ 190.
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (362) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطهارة (177) ، مسند أحمد بن حنبل (2/330) ، سنن الدارمي الطهارة (721) .(60/145)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/146)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 11269
س: هل الرائحة يجب بعدها استنجاء أو استجمار؟ وهل تنقض الوضوء؟ وما حكم من صلى وقد طلع بعد وضوئه رائحة؛ هل صلاته صحيحة؟ بعض الناس يقولون: لا تنقض الوضوء. أفيدوني مأجورين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: خروج الريح ينقض الوضوء، ولا يوجب استنجاء ولا استجمارا. ومن صلى وقد خرج منه ريح فعليه الوضوء والإعادة؛ لأن صلاته غير صحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(60/146)
الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم
لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة
المقدسي الجماعيلي (ت 620 هـ)
تحقيق وتعليق الدكتور: محمد بن عبد الرحمن الخميس (1)
مقدمة المحقق:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5)
__________
(1) أستاذ مشارك في قسم العقيدة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(60/147)
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فهذه رسالة نفيسة للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي صاحب كتاب المغني في الفقه الحنبلي. وهي وإن كانت صغيرة الحجم فهي غزيرة الفائدة، وتكشف عن نبوغ الإمام المصنف وعلمه بالعقيدة السلفية وذبه عنها، فقد عهده الناس فقيها أصوليا من خلال كتبه في الفقه، وفي هذا الكتاب يدافع عن عقيدة السلف في كلام الله، ويرد على من خالفها، مما يدل على تمكنه في هذا العلم.
(أ) أسباب تحقيق الكتاب:
(1) أن الكتاب لم يطبع من قبل.
(2) دعوى بعض المنتسبين إلى العلم أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت، ونسبته إلى أهل السنة. وفي هذا الكتاب رد على تلك الدعوى.
(3) أن المصنف من العلماء المشهود لهم بالإمامة في الدين والنبوغ في الفقه.(60/148)
(4) دفاع المؤلف في هذا الكتاب عن عقيدة السلف في كلام الله، والرد على من خالفها بالحجج الباهرة، مما يدل على إحاطة المؤلف بمذهب أهل السنة العقدي، ومعرفته بأقاويل الفرق المبتدعة.
(ب) خطة البحث:
رأيت من المناسب تقسيم البحث في هذا الموضوع إلى قسمين:
* القسم الأول: في التعريف بالمؤلف وبالكتاب:
ويشتمل هذا القسم على المباحث التالية:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف:
(أ) اسمه ونسبه وكنيته ومولده.
(ب) طلبه للعلم.
(ج) ثناء العلماء عليه.
(د) أشهر شيوخه.
(هـ) أشهر تلاميذه.
(و) أشهر مصنفاته.
(ز) وفاته.
المبحث الثاني: التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة:
أولا: التعريف بالكتاب:
(أ) اسم الكتاب.
(ب) توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف.
(ج) موضوع الكتاب.(60/149)
(د) منهج المؤلف.
ثانيا: وصف المخطوطة:
* القسم الثاني: تحقيق الكتاب.
(ج) عملي في الكتاب:
لقد اجتهدت حسب الوسع والطاقة في خدمة هذا الكتاب، وإخراجه بهذه الصورة، ويتلخص عملي في التحقيق في الخطوات التالية:
(1) الاعتماد في تحقيق الكتاب على أصل محفوظ في المكتبة العربية بالقدس، وقد صورتها مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض وتقع ضمن مجموع رقم (195) ، مع مقابلتها بنسخة مصورة عن المكتبة الظاهرية، وهي محفوظة بقسم المخطوطات بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) اعتمدت النسخة المصورة عن المكتبة العربية بالقدس أصلا ورمزت لها بـ (أ) مع مقابلتها بنسخة (ب) المصورة عن المكتبة الظاهرية بدمشق.
(3) عزو الآيات القرآنية في الهامش.
(4) عزو الأحاديث إلى مصادرها الحديثية، فإن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما، أما إذا كان في غير الصحيحين فأجتهد في العزو إلى أكثر من مصدر، وأنقل أقوال أئمة هذا الشأن في درجة الحديث، وإذا لم أجد لأحد العلماء حكما على الحديث اجتهدت في معرفة حال الإسناد ما استطعت إلى ذلك سبيلا.(60/150)
(5) التعليق والشرح لما يحتاج إليه في بعض المواضع التي تحتاج في نظري إلى تعليق، وفصلت بين الأصل وتعليقاتي عليه بوضع الأصل في أعلى الصفحة والتعليق في أسفلها.
(6) وضع عناوين جانبية توضح المقصود من كل فقرة.
وأخيرا فإني بذلت الجهد في تحقيق هذا الكتاب وإخراجه، فإن وفقت إلى ذلك وأصبت فهو من الله وله المنة، وإن أخطأت فذلك مني، وعذري أني قد استنفدت في البحث طاقتي، والله تعالى أسأل القبول، إنه تعالى نعم المولى ونعم النصير، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/151)
القسم الأول: التعريف بالمؤلف وبالكتاب:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف:.
(أ) اسمه ونسبه وكنيته ومولده:
هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي المقدسي الجماعيلي بتشديد الميم، نسبة إلى جماعيل قرية من أعمال نابلس في فلسطين، ثم الدمشقي. ولد في شعبان سنة 541 هـ بجماعيل ثم قدم دمشق مع أهله وله عشر سنين.(60/151)
(ب) طلبه للعلم:
نشأ ابن قدامة في بيت علم وفضل مما ساعده على التوجه إلى طلب العلم من صغره، بالإضافة إلى نبوغه منذ الصغر، فحفظ القرآن وحفظ مختصر الخرقي، وكذا سمع من والده وأبي المكارم بن هلال، وأبي المعالي بن جابر، وغيرهم.
ورحل في طلب العلم إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبد الغني سنة 561 هـ وأقام بها نحوا من أربع سنين، ثم ارتحل إلى الموصل ومكة وسمع الكثير.
(ج) ثناء العلماء عليه:
قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الموفق.
وقال عنه أبو عمرو بن الصلاح: (ما رأيت مثل الشيخ الموفق) ،
وقال عنه الذهبي: (الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام) .
وقال عنه ابن رجب: (الفقيه الزاهد الإمام شيخ الإسلام، أحد الأعلام) .
(د) أشهر شيوخه:
أخذ الموفق عن علماء وشيوخ كثيرين في شتى الفنون، وإليك المشهورين منهم:
1 - عبد القادر جيلاني.
2 - هبة الله الحسن الدقاق.(60/152)
3 - أبو الفتح بن البطي.
4 - علي بن تاج القراء.
5 - يحيى بن ثابت.
6 - المبارك بن الطباخ.
7 - المبارك بن فقير.
8 - أبو زرعة بن طاهر.
9 - أبو الفضل الطوسي.
10 - أحمد بن محمد الرحبي.
11 - عبد الله بن أحمد الخشاب.
(هـ) أشهر تلاميذه:
تتلمذ على الموفق خلق كثير وإليك طائفة منهم:
1 - الجمال بن موسى الحافظ.
2 - أبو بكر بن عبد الغني البغدادي الحنبلي.
3 - الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي شارح المقنع.
4 - عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي.
5 - الجمال بن الصيرفي.
6 - يوسف الغسولي.
7 - الحافظ أبو عبد الله محمد عبد الواحد الجماعيلي المعروف بالضياء.
8 - محمد بن محمد بن حسن بن هبة الله البغدادي.
9 - زينب بنت الواسطي.(60/153)
(و) أشهر مصنفاته:
1 - الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار.
2 - البرهان في مسألة القرآن.
3 - التبيين في أنساب القرشيين.
4 - كتاب التوابين.
5 - ذم الموسوسين.
6 - ذم التأويل.
7 - ذم ما عليه مدعوا التصوف.
8 - روضة الناظر وجنة المناظر.
9 - الكافي في الفقه.
10 - لمعة الاعتقاد.
11 - إثبات صفة العلو.
12 - المغني في الفقه.
13 - المقنع في الفقه.
14 - مناظرة في القرآن.
(ز) وفاته:
توفي رحمه الله سنة 620 هـ في يوم عيد الفطر، وله تسع وسبعون سنة.(60/154)
المبحث الثاني: التعريف بالكتاب ووصف المخطوطتين:(60/154)
أولا: التعريف بالكتاب:
(أ) اسم الكتاب:
دون على غلاف النسختين المخطوطتين ما نصه: (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم) وكذا ذكره الروداني في كتاب (صلة الخلف بموصول السلف) كما في مجلة معهد المخطوطات (28 \ 12 \ 385) بهذا الاسم.
(ب) موضوع الكتاب:
يتضح موضوع الكتاب من اسمه، فهو في الرد على بعض المبتدعة في مسألة كلام الله تعالى وإثبات أنه بحرف، وأن الله تكلم به حقيقة بصوت يسمع، والرد على من زعم أنه كلام نفسي، ولم(60/155)
يصرح ابن قدامة باسم من رد عليه، ويظهر أنه من المنتسبين إلى المذهب الكلابي، سواء كان من الأشعرية أو الماتريدية.
ولقد أجاد المؤلف -رحمه الله- في الرد على الشبه التي ذكرها عن أهل البدع، من الأشعرية والماتريدية، وبين أن نهاية قولهم هي إبطال الوحي وتعطيل القرآن، إذن فالكتاب موضوعه إثبات كلام الله على الحقيقة، وأنه بحرف وصوت، والرد على من زعم أنه كلام نفسي قائم بنفس الله تعالى،
(ج) توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:
يكون توثيق الكتاب مهما إذا نسب الكتاب إلى أكثر من مؤلف، وكتابنا هذا ولله الحمد خلا من هذا، وإليك ما يثبت نسبته إلى المؤلف:
(1) دون على غلاف المخطوطتين اسم المؤلف كما سبق.
(2) ذكر الروداني في كتابه (صلة الخلف بموصول السلف) (1) وعزاه إلى المؤلف.
(3) كما أن السماعات المثبتة على هذا الكتاب من العلماء وطلبة العلم تعتبر دليلا فيما نحن بصدده من توثيق كتاب (الصراط المستقيم) إلى ابن قدامة، وإليك السماعات:
__________
(1) كما في مجلة معهد المخطوطات (28 \ 12 \ 385)(60/156)
سماعات الكتاب:
أولا- سماع النسخة (أ) :
سمع جميع هذا الكتاب على سيدنا الشيخ الإمام العالم الأوحد شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شيخ الإسلام أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي بروايته عن مؤلفه الشيخ موفق الدين المقدسي -رحمه الله- إجازة إن لم يكن سماعا (. . . .) (1) الإمام العالم الأوحد عز الدين أبي حفص عمر بن (. . . .) (2) المقدسي الجماعة، منهم صاحب هذه النسخة الشيخ الزاهد العابد جمال الدين أبو محمد عبد الملك بن أبي العز بن عمرو الحراني، وابن أخيه محمد بن (. . . .) (3) بن أبي العز، وعلي أحمد بن محمد البغدادي، وإبراهيم ولد الشيخ المسموع عليه، وكاتب هذه الطبقة عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد المقدسي وذلك في شهر جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وستمائة، والحمد (. . . .) (4) صحح ذلك كتابه محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي.
__________
(1) كلمة غير واضحة
(2) كلمة غير واضحة
(3) كلمة غير واضحة
(4) كلمة غير واضحة(60/157)
ثانيا- سماعات النسخة (ب) :
(1) السماع الأول (سنة 605 هـ) :
قرأت جميع هذا الجزء على الشيخ الإمام العالم شمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، فسمعه ولداه عبد الله ومحمد، وابن أخيه عبد الله بن عبد الله، وعبد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله، وداود بن أحمد بن أحمد، ومحمد بن إسماعيل بن مري، وعبد الله بن أحمد بن عبد الغني، وأبو عمر عبد الله بن حسن بن عبد الله بن الحافظ محمد بن موسى بن محمد بن خلف، وعبد الله وحسن ابنا محمد بن أحمد بن عبد الله العطار، وابنا عمهم إبراهيم وعبد الرحمن ابنا إسماعيل بن أحمد، وأحمد بن عبد الغني بن حازم، ومحمد بن أحمد بن عبد الحميد، وأبو بكر بن أحمد الظاهر، وعبد الحافظ بن عبد المنعم بن عادي، ومحمد بن عبد الله بن عمر، وعمار وعلي ابنا عبد الحميد بن محمد، وعبد الله بن أحمد بن عطاء الله، وصالح بن محمد بن عبد الحافظ المقدسيون، ومحمود بن محمد بن محمود المراسي، وعبد الله بن أحمد بن تمام، وعبد الله بن صالح بن محمد الحوراني، وشرف الدين حسن بن محمد بن أبي عبدان، وولداه أحمد ومحمد، والشيخ نصر بن عبيد، وولده أحمد، وابن أخيه هارون، ومحمد بن أبي الصو المعروف بعرون، وابن صالح بن (. . . .) (1)
__________
(1) غير واضح بالمخطوط بمقدار كلمتين(60/158)
وعبد الرحمن بن عمر العجمي، وذلك في يوم السبت العاشر من جمادى الآخرة سنة خمس وستمائة، وكتب سليم بن حمد بن أحمد بن عمر المقدسي، وصلى الله على محمد وآله وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(2) السماع الثاني سنة (608 هـ) :
سمع جميع هذا الجزء على مؤلفه وجامعه الإمام العالم الأوحد الصدر الكامل شرف الإسلام موفق الدين أبي محمد بن عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي مد الله في عمره، بقراءة الفقيه الإمام العالم تقي الدين أبي عبد الله أحمد بن عبد الله بن أحمد الرسعني، الفقيه الإمام العالم أبو المجد عيسى ابن شيخنا العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ( ... ) (1) عبد الله وشرف الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن شيخنا بهاء الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم (....) (2) ، وأبو الفرج عبد الرحمن ابن شيخنا أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة، وعبد الله وأبو بكر ابنا عمر بن أبي بكر، وإبراهيم وعبد الرحمن ابنا شيخنا الحافظ، وشرف الإسلام عز الدين أبو الفتح ( ... ) (3) الحافظ (....) (4) المقدسيون،
__________
(1) مطموسة في المخطوط بمقدار كلمتين
(2) غير واضح في المخطوط بمقدار أربع كلمات
(3) غير واضح في المخطوط بمقدار كلمتين
(4) غير واضح في المخطوط بمقدار ست كلمات(60/159)
وعبد الرحمن بن موفق ( ... ) (1) علي بن أحمد الواسطي، والشيخ أبو الوحش نصر ( ... ) (2) ابن محمد بن يعيش الجزري ومنهال بن سلامة بن حماد (....) (3) الرسعني، يثبت الأسماء وهذا (....) (4) يوم السبت خامس محرم من سنة ثمان وستمائة بالجامع المظفر بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق. الحمد لله حق حمده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(3) السماع الثالث سنة (655 هـ) :
قرأت جميع هذا الجزء على الشيخ الإمام العالم الزاهد تقي الدين أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن الفضل الواسطي فسمعه جماعة منهم: ابنتا الشيخ المسمع فاطمة وزينب، وفاطمة بنت عبد الرحمن بن عيسى، وعبد الرحمن بن علي بن صالح، ومحمد بن ضو طرخان، وأحمد بن عبد السيد بن سيدهم، وإبراهيم بن عبد الجليل بن أحمد، وإبراهيم بن عبد الله بن علي، وعبد الله بن شرف الدين الحسن بن عبد الله بن عبد الغني، وعبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني، وابناه عبد الملك وعمر المقدسي، والفقيه سليمان بن شكر بن عثمان المقدسيون، وداود بن عيسى بن أبي بكر سيف الدين الهكاري،
__________
(1) غير واضح في المخطوط بمقدار كلمتين
(2) غير واضح في المخطوط بمقدار كلمتين
(3) غير واضح في المخطوط بمقدار كلمتين
(4) غير واضح في المخطوط بمقدار كلمتين(60/160)
وإبراهيم بن عبد الله بن شكر اليونيني وأبو الحسن بن الحصن بن غيلان البعلبكي، وأبو بكر بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الباقي العمراوي، وإبراهيم بن أبي بكر بن يحيى البغدادي، وإبراهيم بن محمد بن السيد بن أبي الفضائل القرشي، وجعفر بن مهلهل بن ناصر وأخوه عيسى المحجبان، وعبد الرحيم بن شامة بن كوكب السوادي، وعمر بن محمود بن خليفة الرقي، وعلي بن عثمان بن عمر الموصلي وأخوه عمر، وكتب محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي، وذلك يوم الخميس ثاني عشر رجب سنة خمس وخمسين وستمائة بجبل قاسيون، والحمد لله وحده وصلى الله وسلم على محمد وآله.
(4) السماع الرابع: في الحادي والعشرين من رجب سنة (655 هـ) :
قرأت على الشيخ الإمام العالم العامل جامع الفضائل، تقي الدين أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد الواسطي، جميع هذا الجزء بحق سماعه من مؤلفه الشيخ الإمام موفق الدين رحمه الله، فسمعه السادة الفضلاء وهم عبد الرحمن بن علي بن صالح، وزين الدين بن أحمد بن أبي الهيجا الزراد، وولده محمد، وإسماعيل بن إبراهيم بن سالم الخباز، وداود بن عيسى بن أبي بكر بن عمر الهكاري، وإبراهيم بن يحيى بن أبي بكر البغدادي، وعيسى بن مهلهل بن ناصر، وإسرائيل بن يحيى بن أبي محمد الحراني، وداود بن مسلم بن مفلح، وذلك في(60/161)
يوم السبت لتسع بقين من رجب سنة خمس وخمسين وستمائة بالجامع المظفري بسفح جبل قاسيون بظاهر دمشق، وكتب محمد بن محمود بن علوان بن محمود الرقي حامدا مصليا.
(5) السماع الخامس سنة (681) :
(....) (1) محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ( ... ) (2) الشيخ الإمام العالم الزاهد العابد الورع تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي، أعان الله معان من بركته بسماعه فيه من مؤلفه في سنة ثمان وستمائة، بقراءته على مسعود بن يعيش بن عبد الله الموصلي ثم الحلبي، وهذا خطه عفا الله عنه، بنو المسمع محمد وخديجة وحبيبة وآمنة وأمهم صفية بنت محمد بن عيسى، ومحمد بن الحاج مسلم بن مالك، وأحضر عمر بن أحمد بن العز عمر بن أحمد عمر وأخوه محمد سبطا المسمع، وصح ذلك وثبت في يوم الخميس الثاني والعشرين من شعبان سنة إحدى وثمانين وستمائة بمنزل المسمع، بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق المحروسة، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وسلم.
ثانيا: وصف المخطوطتين: اعتمدت في تحقيق الكتاب على نسختين:
__________
(1) بياض بالأصل
(2) بياض بالأصل(60/162)
الأولى: نسخة مخطوطة في المكتبة العربية بالقدس، ويوجد صورة منها في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، ضمن مجموع رقم (195) ، وعدد أوراقها سبع عشرة ورقة، عدد الأسطر في كل صفحة يبلغ حوالي (15) سطرا في المتوسط، وعدد الكلمات في كل سطر حوالي إحدى عشرة كلمة تقريبا، والنسخة مصححة ومقروءة على المؤلف، ومثبت عليها السماع السابق ذكره في موضعه، وقد رمزت لها بالرمز (أ) .
الثانية: مصورة عن المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي من محفوظات المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ومحفوظة تحت رقم (1546) مجموعة رقم (114) وتقع في خمس وعشرين صفحة متوسط عدد الأسطر في كل صفحة اثنان وعشرون سطرا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر اثنتا عشرة كلمة تقريبا، وبها آثار رطوبة، وبعض كلماتها ممحوة، وهي مكتوبة بخط نسخ واضح في الجملة، وإن كان فيها مواضع غير واضحة، وكذلك يوجد عليها السماعات التي سبق ذكرها وعددها خمس سماعات، وهي نسخة مصححة ومقابلة، وقد رمزت لها برمز (ب) .(60/163)
صورة من النسخة (أ)(60/164)
صورة من النسخة (ب)(60/165)
صورة من النسخة (ب)(60/166)
صورة من النسخة (ب)(60/167)
القسم الثاني تحقيق الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر (1) قال الشيخ الإمام العالم العامل موفق الدين شيخ الإسلام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه:
(مقدمة المؤلف) :
الحمد لله الذي هدانا للصواب، ومن علينا بإنزال الكتاب، ورزقنا اتباع رسوله، والإيمان بتنزيله، والاهتداء (2) بالسلف الصالحين والأئمة السابقين من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من الأئمة المرضيين رحمة الله عليهم أجمعين، أما بعد:
(سبب تأليف الكتاب) :
فإني (3) وقفت على سقطة من سقطات أهل الجهالة، وهفوة من هفوات الضلالة ذكر فيها أنه يبين خلق الحروف من الكتاب والسنة، ويرشد من وقف عليها إلى طريق الجنة (4) ، فهممت أن (5) لا
__________
(1) في (ب) (وأستعين بالله وحده)
(2) في ب (والاقتداء)
(3) في ب (فإنني)
(4) في ب (إلى ظهور الحق)
(5) سقطت (أن) من (ب)(60/168)
أجيبه لظهور فساد قوله، والاستغناء يما لا يخفى من جهله، حتى سئلت رد جوابه وبيان خطأ قوله من صوابه، فأقول وبالله التوفيق:(60/169)
(شبهة وجوابها) : بدأ فقال: الدليل من الكتاب قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) ، وهذه الحروف من عملنا فتكون داخلة في عموم الآية:
قول الله قديم:
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا إقرار منه بقدم الحروف، وأنها ليست من عمله ولا قوله، ولأنه قال: قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (2) فأقر بأن هذه الآية من قول الله وكلامه، وقول الله وكلامه قديم ليس من عمل مخلوق ولا قوله، وهذه الآية أربع كلمات وتسعة عشر حرفا بلا خلاف، فإقراره بأنها قول الله إقرار بأن الحروف قول الله وكلامه، وهذا إقرار منه ببطلان دعواه وتناقض كلامه وفساد مذهبه.
وإن أنكر كونها حروفا، فهذا مكابرة للعيان ونوع من السفسطة والهذيان ومخالفة للخلق وإنكار للحق.
وإن قال: ما هي قول الله تعالى، وإنما نسبتها إلى قول الله مجازا.
قلنا: (3) هذا فاسد لوجوه:
__________
(1) سورة الصافات الآية 96
(2) سورة الصافات الآية 96
(3) في ب (قلت) .(60/169)
أحدها: أنه رجوع عن إقراره فلا يسمع، فإن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يقبل الجحد بعد الاعتراف، ولا الإنكار بعد الإقرار.
الثاني: أن هذا خلاف الإجماع، فإن المسلمين كلهم يقولون إذا تلوا آية: قال الله كذا، فمن أنكر صحة هذا القول خالف إجماع المسلمين فيكون قوله باطلا.
الثالث: أن هذا إذا لم يكن قول الله فما استدل بشيء من كتاب الله، وقد ذكر أنه يستدل بالكتاب، فإذا أنكر كونه من الكتاب كان مكذبا لنفسه مقرا ببطلان قوله.
الرابع: أنه إذا لم يكن هذا قول الله فكيف يحتج به؟ والحجة إنما هو قول الله أو قول رسوله أو الإجماع، وليس هذا عنده بواحد منها.(60/170)
(إذا لم يكن القرآن كلام الله فأين كلام الله؟) :
الخامس: أنه إذا لم يكن هذا قول الله فأين كتاب الله؟ وأين القرآن المجيد؟ وبم يصلي المسلمون؟ وبأي شيء يخطب الخاطبون؟ وبم تثبت الأحكام؟ وأين معجزة النبي عليه السلام؟ وإلى أين نصرف الوقوف الموقوفة على قراء القرآن؟ وأين القرآن الذي يمنع الجنب والحائض من قراءته ويمنع المحدث من مسه ويمنع من السفر به إلى أرض العدو؟ وأين القرآن الذي أنزل على محمد سيد المرسلين وتحدى الخلق بإتيان مثله (1) فعجزوا؟ وأين القرآن الذي زعم الكفار
__________
(1) في ب (بالإتيان بمثله)(60/170)
أنه شعر وأنه أساطير الأولين وأن النبي صلى الله عليه وسلم افتراه وأنه إنما يعلمه بشر؟ وأين القرآن المبين والكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؟
السادس: أن هذا إذا لم يكن قول الله تعالى فقول من هو؟ فإن كل قول لا بد له من قائل؟ فإن قال هذا قولي وعملي كما زعم (1) أن الحروف عمله، فهذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه إذا كان من قوله كان قول البشر فيكون هذا القول كقول الوليد بن المغيرة حين قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (2) .
فقال الله تعالى ردا عليه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (3) فليبشر هذا بصلي سقر التي لا تبقي ولا تذر، مع مرافقة الوليد ومقارنة الوحيد، بل هذا أدبر من الوليد؛ لأن الوليد زعم أنه من قول النبي عليه السلام (4) ، وهذا يزعم أنه قول نفسه.
الثاني: أنه إن كان هذا يصير قوله بتلاوته إياه لم يبق لله قول ولا كتاب ولا لنبيه عليه السلام خبر، وينبغي أن تبطل الحجج والاستدلالات وتذهب البراهين وتنقطع المناظرات وهذا قول قبيح جدا.
__________
(1) في ب (قد زعم)
(2) سورة المدثر الآية 25
(3) سورة المدثر الآية 26
(4) في ب (صلى الله عليه وسلم)(60/171)
الثالث: أن هذا خرق لإجماع المسلمين، ومخالفة الخلق أجمعين، فإنه لا خلاف بين المسلمين أن القرآن ما هو قول تاليه، ولو ادعى ذلك مدع ظاهرا من المسلمين لقتلوه، وإن أنكر هذا القائل هذا فليظهره للمسلمين، ويدع أن هذا القرآن قوله وتصنيفه ونظمه وتأليفه وأنه الذي عمل كلماته وحروفه ولينظر ما يحل به.
الرابع: أنه إن كان هذا قوله لم يخل إما أن يكون مثل القرآن أو هو (1) بعينه فإن كان مثله فقد كذب الله تعالى في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (2) ، وقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (3) ، وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (4) ، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (5) ومن رد على الله وكتابه فقد كفر بإجماع المسلمين وإن كان هو القرآن بعينه فكيف يمكن أن يكون هو قال القرآن الذي هو قول الله تعالى؟ فهذا تناقض.
__________
(1) في ب (أو هو هو)
(2) سورة الإسراء الآية 88
(3) سورة الطور الآية 34
(4) سورة يونس الآية 38
(5) سورة هود الآية 13(60/172)
(بطلان دعوى الكلام النفسي) :
فإن قال: ما هذا قرآنا ولا مثله، فإن القرآن المعني، وهذه الألفاظ المنتظمة للحروف ما هي المعنى ولا مثله إنما هي عبارة عنه مؤدية له، وهي من عملنا وهي مخلوقة، والقرآن القديم هو معنى في نفس الباري لا يظهر للحس ولا يوصف بأنه صوت ولا حرف.
قلنا: هذا معتمد إشكالهم، وهو فاسد لوجوه:
أحدها: أن التحدي إنما وقع بهذا النظم. فإن قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (2) إنما عنى به هذا النظم الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات فإن قريشا لم تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما في نفس الباري، ولا اعترفوا بذلك أصلا، وإنما أشاروا إلى هذا النظم الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وتلاه عليهم ثم قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (3) أي مثل هذا الحديث الذي زعمتم أنه تقوله، وهو هذا لا شك فيه ولا مرية.
وكذلك قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} (4) ، وهذا إشارة إلى حاضر، وقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (5) ، صريح في أنه سور، ولأن التحدي إنما يكون بالإتيان بمثل شيء ظاهر معروف، ولا يجوز أن يقول: فأتوا بمثل ما في نفس الباري مما لا يدرون ما هو ولا يعرفونه.
__________
(1) سورة الطور الآية 33
(2) سورة الطور الآية 34
(3) سورة الطور الآية 34
(4) سورة الإسراء الآية 88
(5) سورة يونس الآية 38(60/173)
إذا ثبت أن التحدي إنما وقع بهذا لم يخل أن يكون ما ادعى أنه عمله وقاله بتلاوته هو هذا أو مثله، وأيا ما كان فهو كفر ودوران بين ضلالتين لا بد له من إحداهما.
الثاني: أن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات له أول وآخر وأجزاء وأبعاض، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فمن وجوه:
أحدها: أن الله تعالى تحدى الخلق بالإتيان بمثله، والتحدي إنما تعلق بهذا الكتاب دون غيره.(60/174)
(الله تعالى وصف القرآن بأنه عربي) : الثاني: أن الله تعالى وصفه بأنه عربي فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (1) ، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) ، وقال: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (3) ، وهذه الصفة إنما تتعلق بالنظم دون المعنى، وكذلك سماه الله حديثا بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (4) ، وقصصا بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (5) ، وسماه قولا ثقيلا بقوله:
__________
(1) سورة يوسف الآية 2
(2) سورة الزخرف الآية 3
(3) سورة الزمر الآية 28
(4) سورة الزمر الآية 23
(5) سورة يوسف الآية 3(60/174)
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (1) ، ولا يوصف بهذه الصفات سوى هذا.
__________
(1) سورة المزمل الآية 5(60/175)
(الأمر بترتيل القرآن) :
الثالث: أن الله أمر بترتيله فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) ، وقال: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (2) ، وأخبر بتنزيله فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (3) ، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن العجلة به بقوله:
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (4) ، وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (5) ، وقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (6) والتنزيل والترتيل والعجلة وتحريك اللسان إنما يتعلق بالنظم دون ما في النفس.
الرابع: أن الله تعالى أشار إليه إشارة الحاضر بقوله:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} (7) ، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (8) ،
__________
(1) سورة المزمل الآية 4
(2) سورة الفرقان الآية 32
(3) سورة الإنسان الآية 23
(4) سورة طه الآية 114
(5) سورة القيامة الآية 16
(6) سورة الإسراء الآية 106
(7) سورة الإسراء الآية 9
(8) سورة الإسراء الآية 89(60/175)
وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (1) ، والحاضر عندنا هو هذا النظم العربي.
__________
(1) سورة يوسف الآية 3(60/176)
(إبطال زعم المشركين في القرآن) :
الخامس: أن الكفار زعموا أنه شعر فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (1) ، وزعموا أنه مفترى، فقال الله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) ، وزعموا أنه أساطير الأولين فقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) ، وزعموا أنه إنما يعلمه بشر، فقال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (4) ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (5) .
ونهى بعضهم بعضا عن سماعه فقال الذين كفروا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (6) ، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (7) .
وهذا كله لا تعلق له بما في نفس
__________
(1) سورة يس الآية 69
(2) سورة يونس الآية 37
(3) سورة الفرقان الآية 6
(4) سورة النحل الآية 103
(5) سورة النحل الآية 102
(6) سورة فصلت الآية 26
(7) سورة الزخرف الآية 31(60/176)
الباري ولا يتعلق إلا بهذا النظم، فإن الشعر إنما هو كلام موزون، وكان الكفار من أعلم الناس به، فما يتخيل عاقل أنهم زعموا أن في نفس الباري شعرا، ولا أن معنى الكلام شعر.
السادس: أن بعض الكفار زعم أنه يقدر على أن يقول مثله، قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (1) ، وطلب بعضهم تبديله فقال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (2) ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (3) ، ومن المعلوم اليقيني أنهم لم يريدوا بهذا سوى هذا النظم.
السابع: أن الله تعالى أمر بالاستماع له وقراءته، وأخبر عن سماعه وتلاوته، وذكر له بعضا وجزءا، وأخبر أنه في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والرق المنشور فقال سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4) ، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (5) ، وقال: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} (6) ، وقال: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} (7) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 31
(2) سورة يونس الآية 15
(3) سورة الفرقان الآية 32
(4) سورة الأعراف الآية 204
(5) سورة المزمل الآية 20
(6) سورة آل عمران الآية 113
(7) سورة الرعد الآية 36(60/177)
وقال {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (1) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (2) ، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (3) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (4) ، وقال: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (5) {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (6) 8، ومنع غير المتطهرين من مسه بقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (7) 8، وهذا لا يتعلق إلا بهذا النظم.
__________
(1) سورة البروج الآية 21
(2) سورة البروج الآية 22
(3) سورة الواقعة الآية 77
(4) سورة الواقعة الآية 78
(5) سورة الطور الآية 2
(6) سورة الطور الآية 3
(7) سورة الواقعة الآية 79(60/178)
(القرآن سور وآيات وحروف وكلمات)
الثامن: أن الله تعالى أخبر أنه سور وآيات وكلمات وحروف:
أما السور: فقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (1) {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} (2) وقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (3) وقوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} (4) وأما الآيات: فقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} (5) وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} (6)
__________
(1) سورة يونس الآية 38
(2) سورة هود الآية 13
(3) سورة النور الآية 1
(4) سورة محمد الآية 20
(5) سورة النمل الآية 1
(6) سورة العنكبوت الآية 47(60/178)
وقوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (1) ، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} (2) .
وأما الكلمات: فقوله: {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (3) ، وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (4) . .
وأما الحروف: فقوله سبحانه: {الم} (5) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (6) ، {المص} (7) {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (8) ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (9) ، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (10) ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (11) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (12) ، فأخبر أن هذه الحروف هي آيات الكتاب، وإذا كانت السور والآيات والحروف والكلمات هي القرآن فهذا محل النزاع.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 49
(2) سورة يونس الآية 15
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة الكهف الآية 109
(5) سورة البقرة الآية 1
(6) سورة البقرة الآية 2
(7) سورة الأعراف الآية 1
(8) سورة الأعراف الآية 2
(9) سورة يونس الآية 1
(10) سورة هود الآية 1
(11) سورة يوسف الآية 1
(12) سورة يوسف الآية 2(60/179)
(دلالة السنة على أن القرآن حروف) :
وأما السنة: فما روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله تعالى، هو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله تعالى يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم، ولكن في الألف عشر، وفي اللام عشر، وفي الميم عشر (1) »
__________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم، كتاب فضائل القرآن (1 \ 2040، 741) ، (1 \ 555) ، وأعقبه الذهبي بقوله: إبراهيم الهاجري ضعيف. وأخرجه ابن أبى شيبة، كتاب فضائل القرآن (6 \ 29999) ، (10 \ 482) ، والدارمي، فضائل القرآن موقوفا عن ابن مسعود (2 \ 431) ، وابن الجوزي في العلل ص (145) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف فضائل القرآن (3 \ 6017) ، (2 \ 375) ، والبيهقي في الشعب (2 \ 324، 1933) وذكر أنه روي مرفوعا وروي موقوفا عن ابن مسعود، كلهم من طريق إبراهيم الهاجري. قال ابن معين: إبراهيم الهاجري ليس حديثه بشيء ضعيف ليس بشيء، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ضعيف منكر الحديث لين الحديث ليس بقوي، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي ضعيف، وقال الترمذي: يضعف حديثه، وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه، وهو عندي ممن لا يجوز الاحتجاج بحديثه، وقال ابن حجر: لين الحديث، راجع تهذيب الكمال (2 \ 203، 248) ، وتهذيب التهذيب (1 \ 265، 143) ، والتقريب (1 \ 43) (254 \ 166) ، وميزان الاعتدال (1 \ 216 \ 65) (1 \ 152) .(60/180)
(ثواب قراءة القرآن) :
وفي رواية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف (1) » وفي رواية: «من قرأ حرفا من كتاب الله كتب الله له عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنه (2) » .
وروى نحوه فضالة بن عبيد وأنس بن مالك.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة (3) »
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .
(2) الحديث صحيح: أخرجه الترمذي (5 \ 2910 \ 161) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه رقم (2910) ، وابن أبى شيبة في المصنف (6 \ 29924 \ 119) عن عوف بن مالك الأشجعى (10 \ 461) طبعة هندية، والدارمى (2 \ 429) موقوفا عن عبد الله، وغيرهم، راجع المشكاة رقم (2117) . وصحيح الجامع رقم (6469) . ونحوه عن أنس بن مالك، راجع الدر المنثور (1 \ 56) .
(3) إسناده ضعيف جدا: أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود رضى الله عنه (7 \ 7574 \ 307) رقم (7570) ط: الطحان، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (7 \ 163) : وفيه نهشل، وهو متروك، ونحوه من حديث عائشة رضى الله عنها في الأوسط رقم (4917) .(60/181)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نزل القرآن على سبعة أحرف (1) »
وقال في صفة قوم أنهم يقرءون القرآن: «يقيمون حروفه إقامة السهم» ، وفي رواية: «يقيمونه إقامة القدح (2) »
__________
(1) أخرجه البخاري: (5|73، 9|23، 12|33) ، ومسلم (1|818|560) (1|560، 561) ، وأحمد (8|7976) (2|300، 4|204، 5|16، 6|433، 463) ، وغيرهم. راجع الصحيحة للشيخ الألباني رقم (1522) .
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد (813) ، وأحمد (5|338) (16|22763|450) عن سهل بن سعد، وأبو داود (1|831|530) عن سهل بن سعد (1|830|530) عن جابر (1|520-521) .(60/182)
(أسماء السور توقيفية) :
وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- السور والآيات من القرآن، فقال للذي أراد أن يزوجه: «ما معك من القرآن؟ فقال: معي سورة كذا وسورة كذا، فقال: زوجتكها على ما معك من القرآن (1) » ، وقال: «لكل شيء
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2310 و 5029) ومسلم رقم (2|1425|1040) وأحمد في المسند (16|22697| 430) (5| 330، 336) ، والنسائي (6|3200|362) (6|55، 54) ، والدارمي (2|142) (قال ابن حجر في التقريب: زيد صدوق) .(60/182)
قلب وقلب القرآن يس (1) » ،
وقال: «سورة من القرآن تجادل عن صاحبها (3) » .
وقال لأبي: «أي آية في القرآن أعظم؟ قال: آية الكرسي، قال: ليهنك العلم أبا المنذر (4) » ،
وقال في «سورة الفاتحة: هي السبع المثاني والقرآن الذي أعطيته (5) »
وأخبر أن للقرآن أحزابا فقال: «إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه (6) »
وقال
__________
(1) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3|87) ، وأورده ابن كثير في تفسيره (3|84) وعزاه إلى البزار في كشف الأستار. والترمذي: (5 \ 2887 \ 149) عن أنس، وقال: هذا حديث غريب.. والدارمي: (2 \ 456) قال الألباني: موضوع. انظر: الضعيفة حديث رقم (169) وضعيف الجامع (1935) .
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (4 \ 3654 \ 76) (1 \ 176) . قال الهيثمي في المجمع (7 \ 127) : رجاله رجال الصحيح.
(3) سورة الملك الآية 1 (2) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
(4) أخرجه مسلم (1 \ 810 \ 556) وأحمد: (15 \ 21175 \ 472) وأبو داود (2 \ 1460 \ 151) .
(5) أخرجه البخاري رقم (4474) ، وأبو داود (2 \ 1458 \ 150) ، والنسائي (2 \ 912 \ 476) رقم (1458) ، وأحمد (9 \ 9750 \ 311) ، (9 \ 9752 \ 312) .
(6) أخرجه أبو داود في سننه مع عون المعبود (2 \ 269) ، وابن ماجه في سننه (1 \ 427) ، وأحمد في المسند (4 \ 9) ، (12 \ 1611 \ 475) ، (14 \ 18922 \ 356) والحديث ضعيف.(60/183)
أوس (1) الثقفي: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن؟ قالوا: ثلث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل (2) .
يعني أنهم يجعلون سورة البقرة وآل عمران والنساء حزبا، ومن المائدة إلى آخر سورة التوبة حزبا، ومن يونس إلى آخر النحل حزبا، ومن بني إسرائيل إلى آخر تبارك الفرقان حزبا.
وقال: «من استمع آية من كتاب الله كان له من الأجر كذا وكذا (3) » ، وقال: «من قرأ من القرآن في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية (4) » . . . الخبر بطوله.
وقال: «بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا بل هو نسي،
__________
(1) المثبت من ب، وفي الأصل (أويس) .
(2) حديث ضعيف: راجع ضعيف أبي داود للشيخ الألباني رقم (297) ، وضعيف ابن ماجه (283) .
(3) الحديث إسناده ضعيف: رواه أحمد (2 \ 341) (8 \ 8475 \ 330) ، والبغوي في التفسير (1 \ 43) ، وعبد الرزاق (3 \ 3013 \ 373) ، وقال الهيثمي في المجمع (7 \ 162) : فيه عباد بن ميسرة ضعفه أحمد وغيره وضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان.
(4) الحديث إسناده ضعيف: رواه أحمد (2 \ 341) ، والبغوي في التفسير (1 \ 43) ، وعبد الرزاق (3 \ 373) ، وقال الهيثمي في المجمع (7 \ 162) : فيه عباد بن ميسرة ضعفه أحمد وغيره وضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان.(60/184)
فاستذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها (1) »
وقال: «أيغلب أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ قالوا: ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: فإن تعدل ثلث القرآن (3) »
وقال: «من قرأ ثلث القرآن، ومن قرأ نصف القرآن، ومن قرأ القرآن كله فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه (4) » ،
وقال: «إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي (5) » .
وغير هذا من الأحاديث ما يدل يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالقرآن هذا الكتاب الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري رقم (532) ، ومسلم (1 \ 790 \ 544) (790) ، وابن حبان رقم (3960) ، وغيرهم.
(2) صحيح البخاري (9 \ 51) ح (5015) ، ومسلم (1 \ 811 \ 556) ، وأحمد (1 \ 423) .
(3) سورة الإخلاص الآية 1 (2) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(4) ابن الجوزي في الموضوعات: (1 \ 183) ، والبيهقي في الشعب (2 \ 2590، 259 \ 522) وقال الألباني: موضوع. انظر: الضعيفة (476) ، كلها بنحو هذا اللفظ.
(5) أخرجه أحمد (3 \ 390) وأبو داود (5 \ 4734 \ 103) ، والترمذي (5 \ 2925 \ 168) وقال: هذا حديث غريب، وانظر: صحيح ابن ماجه (1 \ 201 \ 73) حديث رقم (925)(60/185)
(الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ أتم التبليغ) :
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعتقد أن القرآن معنى في نفس الباري وأن هذا الكتاب ليس بقرآن لوجب عليه أن يبين ذلك(60/185)
لأمته وحرم عليه كتمانه؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (2) فكيف يحل له أن يكتم بيان القرآن الذي هو معجزته وشرفه وشرف أمته، به تثبت الأحكام ويعرف الحلال والحرام، حتى تعتقد أمته أن القرآن غيره فيضلوا بذلك الاعتقاد ويصيروا حشوية مجسمة كما تعتقده خصومنا فينا، مع أمر الله تعالى بالتبليغ، وتوعده على تركه، ومع شفقته على أمته وحرصه عليهم، فعلى هذا لا يكون النبي عليه السلام مبلغا لرسالة ربه ولا ناصحا لأمته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: «ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، فرفع إصبعه إلى السماء وقال: اللهم اشهد (3) » ، فعلى قول هذه الطائفة يكون النبي صلى الله عليه وسلم كاذبا في دعوى التبليغ، ومن شهد له بالتبليغ كاذبا، وهذا لا يقوله مسلم ولا يعتقده، ثم إن ساغ له كتمان ذلك فكيف ساغ له أن يتلو عليهم الآيات الدالة على أن هذا هو القرآن، ويقول لهم من أخباره ما يدل عليه، وهو ضلال في زعمهم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الداعي إلى الضلال، المغوي لهم عن الصراط المستقيم، الهادي لهم إلى طريق الجحيم بما تلاه عليهم من الآيات، وأخبرهم به من البينات؟
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الحجر الآية 94
(3) أخرجه البخاري (1742) كتاب الحج، ومسلم (2 \ 1218 \ 886) وغيرهما.(60/186)
ولا يسمع ممن يدعي الإسلام أقبح من هذا، وهذا مقتضى قول من أنكر أن يكون هذا قرآنا، وزعم أن القرآن معنى في نفس الباري، وهذا الذي معنا عبارات وحكايات مخلوقة، ونحن عملنا حروفه، ونظمنا ألفاظه، فثبت قطعا ويقينا غير مشكوك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقد قرآنا سوى (1) هذا القرآن الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات، وأما الإجماع فإن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا على أن القرآن هو هذا فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) ، وقال زيد بن ثابت: لما قتل أهل اليمامة أرسل إلي أبو بكر فأتيته فإذا عنده عمر، فقال لي: (اجمع القرآن، فقلت: كيف تصنعان شيئا لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) ، فقالا لي: هو والله خير، فلو كلفوني نقل جبل كان أسهل على مما أمروني به.
__________
(1) المثبت من ب وفي الأصل (غير) .(60/187)
قال: فتتبعته أجمعه من اللخاف (1) والعسب وصدور الرجال (2) وذكر الحديث، وقال علي رضي الله عنه: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله، وسئل عن الجنب يقرأ القرآن قال: (لا، ولا حرفا) ذكره الدارقطني في سننه.
__________
(1) هي الحجارة البيضاء العريضة الرقيقة. انظر: المعجم الوسيط (2 \ 820) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (9 \ 10) (4986) والترمذي (5 \ 3103 \ 26) .(60/188)
(فضل قراءة القرآن) :
وقال: (تعلموا سورة البقرة فإن بكل حرف منها حسنة، والحسنة عشر أمثالها، ولا أقول الم حسنة، ولكن الألف حسنة، واللام حسنة) .
وقال عبد الله بن مسعود: (أنتم اليوم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه يحفظون حدود القرآن ويضيعون حروفه وسيأتي زمن(60/188)
قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظون حروف القرآن ويضيعون حدوده) .
رواه الإمام مالك بن أنس في الموطأ.
وقال ابن مسعود: (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، واتلوه فإن الله يأجركم بكل حرف منه عشر حسنات، لم أقل لكم الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، وروي عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفا حرفا وقال عبد الله بن عمر: (إذا خرج أحدكم إلى أهله ثم رجع إلى بيته فليأت المصحف(60/189)
فيفتحه فيقرأ سورة، فإن الله يكتب له بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن الألف عشر، واللام عشر، والميم عشر) .
وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ حرفا من القرآن كتب الله له عشر حسنات، الباء والتاء والواو (1) » .
وقال فضالة بن عبيد: خذ هذا المصحف وأمسك علي ولا تردن علي ألفا ولا واوا، فإنه سيكون قوم يقرءون القرآن، ولا يسقطون منه ألفا ولا واوا، ثم رفع فضالة يده (2) ، فقال: (اللهم لا تجعلني فيهم) ، وفي حديث آخر قال: (لا تأخذن علي حرفا إلا آية كاملة) (3) ، وقال ابن مسعود: (الـ حم ديباج القرآن) .
__________
(1) راجع الدر المنثور (1 \ 56) وقال السيوطي: أخرجه محمد بن نصر السلفي في كتاب الوجيز، وأنس هو أنس بن مالك بن النضر الصحابي الجليل أحد المكثرين في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (93 هـ) ، انظر: تهذيب التهذيب (1 \ 614 \ 342) ، وسير أعلام النبلاء (2 \ 406) (3 \ 62 \ 395) .
(2) في ب (يديه) .
(3) الأثر لم أقف عليه.(60/190)
وقال ابن عباس: (إن لكل شيء لبابا ولباب القرآن الـ حم) .
وروى المسيب بن واضح قال: (قلت ليوسف بن أسباط حدثني أبو عمر الصنعاني حفص بن ميسرة، قال: (القرآن ألفا ألف حرف وأربعة وعشرون حرفا فمن قرأ القرآن أعطي بكل حرف زوجة من الحور العين) ، فقال لي يوسف: وما يعجبك من ذلك؟ حدثني محمد بن أبان العجلي عن عبد الأعلى عن إبراهيم التيمي عن عبد الله بن مسعود، قال: (من قرأ القرآن أعطي بكل حرف زوجتين من الحور العين) ، ورواه الفروي عن إبراهيم التيمي وزاد فيه: وقال عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف (1) »
وقال يوسف.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6 \ 29925، 29926 \ 119) بنحوه.(60/191)
ابن أسباط: (من قرأ القرآن زوجه الله بكل حرف منه زوجتين من الحور العين وليس الحرف بسم، ولا الم ولكن (باء، وسين، وميم، وألف، ولام، وميم) وقال الحسن البصري: (قرأ القرآن ثلاثة: فقوم حفظوا حروفه وضيعوا حدوده. .) .(60/192)
(الإجماع على عد السور والآيات) :
وأجمع المسلمون على عد سور القرآن وآيه وكلماته وحروفه، وأجمعوا على أنهم إذا تلوا آية قالوا: قال الله كذا، وأجمعوا على أن القرآن المفروض قراءته في الصلاة والخطبة هو هذا (وأجمعوا على أن القرآن هو معجزة) (1) النبي صلى الله عليه وسلم ووقع به التحدي (هو هذا النظم دون غيره) (2) ، وأجمعوا على أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ولا يتعلق إلا بهذا النظم، وأجمعوا على أن الوقوف الموقوفة على قراء القرآن تصرف إلى من قرأ هذا، وأجمعوا على أن من جحد سورة من القرآن أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه أنه كافر، وأجمعوا أن القرآن الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو، ومنع
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ب) .
(2) ما بين القوسين سقط من (ب) .(60/192)
المحدث مسه هو هذا الذي في مصاحفنا، وأجمعوا على أن القرآن الذي منع الجنب والحائض من قراءته هو هذا، ولما اختلف أهل السنة والمعتزلة في القرآن هل هو مخلوق أو لا؟ ما اختلفوا إلا في هذا فإن من ضرورة الاختلاف الاتفاق على محله، وما اعتقدت المعتزلة الخلق إلا في هذا القرآن، فخالفهم أهل الحق وقالوا هو كلام الله القديم منزل غير مخلوق، فاتفقت الطائفتان على أنه هو القرآن.(60/193)
فقد ثبت بالأدلة القاطعة اليقينية أن القرآن هو النظم العربي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مائة وأربع عشرة سورة، أولها الفاتحة وآخرها المعوذتان، وأنه آيات وكلمات وحروف.(60/194)
(القول بخلق القرآن ضلال وجهل) :
فمن قال بخلافه فقد قال بخلق القرآن، ووافق المعتزلة وخالف أهل الحق، ومن زعم أنه ليس بقرآن فقد كذب الله تعالى ورسوله، وخرق الإجماع.
ومن زعم أنه عمل حروفه فهو تيس ليس معه كلام، فإن الكلام إنما هو مع الآدميين، فلو كان قال هو قولي كان أقرب فإن الحروف قول وكلام، ولكنه أراد أن يجعلها عملا حتى يدخل بزعمه في عموم الآية التي احتج بها، فجاء بطامة لم يسمع بمثلها، ولو كان كل من تلا آية أو روى خبرا (1) ، أو أنشد شعرا هو العامل لحروفه (2) لم يبق لله تعالى كتاب، ولا لنبيه عليه السلام قول (ولا
__________
(1) في ب (حديثا) .
(2) في ب (هو الذي قاله) .(60/194)
شاعر شعر) (1) ، ولا كان ذلك إلا لتاليه وراويه ومنشده، وهذا أظهر فسادا من أن نتكلم عليه، على أننا قد دللنا على فساده بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، ومن العجب أن هذا الكتاب سماه الله تعالى وسماه رسوله قرآنا بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) ، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (3) ، وسمته الجن قرآنا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (4) ، واتفق المسلمون من الصحابة ومن بعدهم على تسميته قرآنا، وسماه الذين كفروا به قرآنا، فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} (5) ، وسمته المعتزلة قرآنا، فخالف هؤلاء رب العالمين والخلق أجمعين، وقالوا: ما هذا قرآنا؛ ليردوا على المعتزلة قولهم القرآن مخلوق، ثم عادوا فوافقوهم في خلقه، فليتهم صرحوا بأن القرآن مخلوق وكفوا مؤنة بدعتهم التي خالفوا بها ربهم ونبيهم، وخرقوا إجماع المسلمين.
ونزيد ما ذكرناه وضوحا وبيانا بأننا أجمعنا على أن القرآن كلام الله تعالى وقد أخبر الله تعالى بذلك بقوله سبحانه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (6) ، وقوله سبحانه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} (7)
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ب) ، والصواب لغة أن يقال: ولا لشاعر شعر.
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة الفرقان الآية 30
(4) سورة الجن الآية 1
(5) سورة سبأ الآية 31
(6) سورة التوبة الآية 6
(7) سورة البقرة الآية 75(60/195)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي (1) » ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (ما هذا كلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله عز وجل) (2) وكلام الله تعالى الذي تكلم به.
__________
(1) أخرجه أحمد (3 \ 390) وأبو داود (5 \ 4734 \ 103) ، والترمذي (5 \ 2925 \ 168) وقال: هذا حديث غريب، وانظر: صحيح ابن ماجه (1 \ 201 \ 73) حديث رقم (925)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (1 \ 143) ح (116) ، والبيهقي في الصفات (1 \ 585) ح (510) .(60/196)
(الكلام لا يكون إلا بصوت وحرف) :
والكلام هو الحروف المنظومة والكلمات المفهومة والأصوات المعلومة والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: من الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى:
{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (1) {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (2) ، وقال لمريم: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (3) ، إلى قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (4) ، وقال: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} (5) ، وقال: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} (6) ومعناها واحد.
__________
(1) سورة مريم الآية 10
(2) سورة مريم الآية 11
(3) سورة مريم الآية 26
(4) سورة مريم الآية 29
(5) سورة النبأ الآية 38
(6) سورة المرسلات الآية 35(60/196)
وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} (1) يعني به النطق بدليل قوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (2) ، وقال: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (3) يعني به (النطق) (4) . .
وأما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به (5) » .
«إن صلاتنا هذه لا يصح فيها شيء من كلام الناس (6) »
وقال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، والصبي الآخر (7) » ، وقال عليه السلام: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بالمعروف (8) » ، وذكر سائر الخبر، وقال: «من كثر كلامه كثر سقطه (9) » .
__________
(1) سورة يس الآية 65
(2) سورة فصلت الآية 21
(3) سورة آل عمران الآية 46
(4) هذه الكلمة سقطت من (ب)
(5) أخرجه البخاري (3 \ 119) حديث رقم (5269) ، ومسلم (1 \ 116) ح (127) بلفظ: '' إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم به ''.
(6) أخرجه مسلم: كتاب المساجد (1 \ 381) ح (537) حديث الجارية.
(7) البخاري (2 \ 487) ح (3436) ، ومسلم (4 \ 1976) ح (2550) .
(8) ضعيف: أخرجه الترمذي رقم (4 \ 525) ح (2412) ، وابن ماجه (2 \ 1315) ح (3974) ، وراجع ضعيف الجامع (4283) .
(9) حديث ضعيف: أخرجه الطبراني في الأوسط (2 \ 370) ح (2259) ، (2 \ 2259 \ 370) وعن ابن عمر مرفوعا في (6 \ 6541 \ 328) وقال الهيثمي في المجمع (10 \ 302) : رواه الطبراني في الأوسط ومنه جماعة لم أعرفهم، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، وقال الشوكاني في (الفوائد المجموعة) : موضوع، وقال العقيلي في (الضعفاء) : أول الحديث معروف لعمر بن الخطاب. انتهى. وأورده أبو حاتم البستي في روضة العقلاء ص (31) ونسبه إلى عمر بن الخطاب. رضي الله عنه. قلت: هذا هو الصحيح أنه من كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمر (2280) ، وكذلك البيهقي في الشعب (4994) ، (5019) .(60/197)
وأما الإجماع فإن الناس في أشعارهم ومنثور (1) كلامهم وعرفهم وأحكامهم على أن الكلام النطق، ولهذا قال قائلهم: (إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب) ، وأشباه هذا كثير، وفي الشعر:
فما يكلم إلا حين يبتسم (2)
، وقال هبيرة:
وإن كلام المرء في غير كنهه ... كنبل تهوي ليس فيها نصالها
ومثل هذا كثير لا ينحصر.
وأجمعوا على أنه لو حلف لا يتكلم لم يحنث إلا أن ينطلق، ولو قال: امرأته طالق إن بدأها بالكلام، لم يتعلق ذلك إلا بالبداية بالنطق.
__________
(1) في ب (صنوف) .
(2) غير واضحة في (ب) .(60/198)
(سبب تسمية الكلام كلاما) :
وقال أهل العربية: الكلام من اسم وفعل وحرف، وقالوا: الكلام ما أفاد ولا يكون إلا من جملة فعلية و (مبتدأية) ولا ينتظم إلا من اسمين أو اسم وفعل أو اسم وحرف في النداء خاصة، ولأن التكليم فعل متعد، يقال: كلمت فلانا كلاما، وقد قيل اشتقاقه من(60/198)
الكلم وهو الجرح؛ لأنه يؤثر في المكلم كتأثير الكلم، والمؤثر والمتعدي إنما هو النطق الذي يسمعه المكلم فيؤثر فيه تارة خوفا وتارة رجاء وتارة سرورا وتارة حزنا وتارة تكليفا وتارة إسقاطا وأشباه هذا، أما ما في النفس فلا يتعدى إليه ولا يؤثر شيئا فيه، فلا يكون كلاما ولا تكليما،(60/199)
(شبهات وجوابها) :
اعترضوا على هذا من وجوه.
أحدهما: أن الأخطل قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الكلام دليلا
وهذا شاعر نصراني عدو لله ورسوله ودينه، أفيجب اطراح كلام الله ورسوله وسائر الخلق تصحيحا لكلامه، وحمل أقوالهم على المجاز صيانة لكلمته هذه عن المجاز؟
الثاني: قالوا: سلمنا أن كلام الآدمي صوت وحرف ولكن كلام الله بخلافه؛ لأن صفته لا تشبه صفات الآدميين، ولا كلامه كلامهم.
الثالث: أن مذهبكم في الصفات أن لا تفسر، فكيف فسرتم كلام الله تعالى بما ذكرتم؟
الرابع: أن الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات، والصوت لا يكون إلا من جسم، والله تعالى يتعالى عن هذا.(60/199)
الخامس: أن الحروف يدخلها التعاقب، فالباء تسبق السين، والسين تسبق الميم، وكل مسبوق مخلوق.
السادس: أن هذا يدخله التجزي والتعداد، والقديم لا يتجزأ، ولا يتعدد، قلنا: الجواب عن الأول من وجوه:(60/200)
(تأويل بيت الشعر المنسوب إلى الأخطل) :
الأول: يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر ببيان إسناده ونقل الثقات له ولا نقنع بشهرته، فقد يشتهر الفاسد، وقد سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب إمام أهل العربية في زمانه يقول: قد فتشت دواوين الأخطل القديمة فلم أجد هذا البيت فيها.
الثاني: لا نسلم أن لفظه هكذا، إنما قال: (إن البيان من الفؤاد) فحرفوه وقالوا: (الكلام) .
الثالث: أن هذا مجاز أراد به أن الكلام من عقلاء الناس في الغالب إنما يكون بعد التروي فيه واستحضار معانيه في القلب، كما قيل: لسان الحكيم من وراء قلبه، فإن كان له قال، وإن لم يكن له سكت، وكلام الجاهل على طرف لسانه، والدليل على أن هذا مجاز من وجوه كثيرة:(60/200)
أحدها: ما ذكرناه، وما تركنا أكثر مما ذكرنا، مما يدل على أن الكلام هو النطق (وحمله على حقيقته بحمل كلمة) (1) الأخطل على مجازها أولى من العكس، الثاني: أن الحقيقة يستدل عليها بسبقها (2) إلى الذهن وتبادر الأفهام إليها، وإنما يفهم من إطلاق الكلام ما ذكرناه.
الثالث: ترتيب الأحكام على ما ذكرنا دون ما ذكروه.
الرابع: قول أهل العربية الذين هم أهل اللسان، وهم أعرف بهذا الشأن.
الخامس: الاشتقاق الذي ذكرناه.
السادس: أنه لا تصح إضافة ما ذكروه إلى الله تعالى، فإنه جعل الكلام في الفؤاد، والله تعالى لا يوصف بذلك، وجعل اللسان دليلا عليه، ولأن الذي عنى الأخطل بالكلام هو التروي والفكر واستحضار المعاني وحديث النفس ووسوستها، فلا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى الله تعالى (بلا خلاف بين المسلمين) (3) ، ومن أعجب الأمور أن خصومنا ردوا على الله وعلى رسوله وخالفوا جميع الخلق
__________
(1) في ب (وجملة القول أن حمل كلام) .
(2) في (ب) غير واضحة.
(3) في ب (وخالفوا جميع الخلق) .(60/201)
من المسلمين وغيرهم فرارا من التشبيه على زعمهم، ثم (عادوا) (1) إلى تشبيه أقبح وأفحش من كل تشبيه، وهذا نوع من التغفيل، ومن أدل الأشياء على فساد قولهم تركهم قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما لا يحصى من الأدلة، وتمسكوا بكلمة قالها الأخطل (2) ، جعلوها أساس مذهبهم وقاعدة عقدهم، فلو أنها انفردت عن مبطل وخلت عن معارض لما جاز أن يبنى عليها هذا الأصل العظيم، فكيف وقد عارضها ما لا يمكن رده، فمثلهم كمثل رجل بنى قصرا على أعواد الكبريت في مجرى السيل.
__________
(1) في ب (صاروا) .
(2) غير واضحة في (ب) .(60/202)
(كلام الله تعالى لا يشبه كلام الآدميين) :
وأما قولهم: إن كلام الله تعالى يجب ألا يكون حروفا؛ لئلا يشبه كلام الآدميين، قلنا: جوابه من وجوه:
أحدها: أن الاتفاق في أصل الحقيقة ليس بتشبيه، كما أن اتفاق البصر في إدراك المبصرات، والسمع في أنه إدراك المسموعات، والعلم في إدراك المعلومات ليس بتشبيه كذلك هنا (1) .
الثاني: أنه لو كان ذلك تشبيها كان تشبيههم أقبح وأفحش على ما ذكرنا.
__________
(1) في ب (هذا) .(60/202)
الثالث: أنهم إن نفوا هذه الصفة لكون هذا تشبيها، ينبغي أن ينفوا سائر الصفات، من الوجود والحياة والسمع والبصر وغيرها.
الرابع: أننا نحن لم نفسر هذا إنما فسره الكتاب والسنة كما تقدم.(60/203)
(صفة الكلام ليست من المتشابه) :
وأما قولهم: إنكم فسرتم هذه الصفة، قلنا: إنما لا يجوز تفسير المتشابه الذي سكت السلف عن تفسيره، وليس كذلك الكلام، فإنه من المعلوم بين الخلق لا شبهة فيه، وقد فسره الكتاب والسنة.
الثاني: إننا نحن فسرناها بحمله على حقيقته تفسيرا جاء به الكتاب والسنة، وهم فسروه، مما لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا يوافق الحقيقة، ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى، وأما قولهم: إن الحروف تحتاج إلى مخارج وأدوات، قلنا: احتياجها إلى ذلك في حقنا لا يوجب ذلك في كلام الله، تعالى الله عن ذلك، فإن قالوا: بل يحتاج الله تعالى كحاجتنا، قياسا له علينا، أخطئوا من وجوه:(60/203)
(القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر) :
أحدها: أنه يلزمهم في سائر الصفات التي سلموها، كالسمع والبصر والعلم والحياة، فلا يكون ذلك في حقنا إلا في جسم، ولا يكون البصر إلا من حدقة، ولا السمع إلا من انخراق، والله تعالى بخلاف ذلك.(60/203)
الثاني: أن هذا تشبيه لله تعالى بنا وقياس له علينا وهذا كفر.
الثالث: أن بعض المخلوقات لم تحتج إلى مخارج في كلامها كالأيادي والأرجل والجلود التي تتكلم يوم القيامة، والحجر الذي سلم على النبي (1) صلى الله عليه وسلم، والحصى الذي سبح في كفه والذراع المسمومة التي كلمته.
وقال ابن مسعود: «كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (2) » ، ولا خلاف في أن الله تعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم بلا أدوات، فكيف عجزوا الله تعالى عن الكلام بلا أدوات.
__________
(1) مسلم (4 \ 1782) ح (2277) .
(2) البخاري (2 \ 523) خ (3579) .(60/204)
(أسماء الله قديمة) :
وقولهم: إن التعاقب يدخل في الحروف. قلنا: إنما كان ذلك في حق من ينطق بالمخارج والأدوات ولا يوصف الله تعالى بذلك.
وقولهم: إن القديم لا يتجزأ، ولا يتعدد غير صحيح، فإن أسماء الله معدودة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة (2) » .
وهي قديمة وقد نص الشافعي -رحمه الله- على (أن
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) البخاري (4 \ 174) خ (6410)(60/204)
أسماء الله غير مخلوقة) (1) ، وقال الإمام أحمد: (من قال إن أسماء الله مخلوقة فقد كفر) (2) ، وكذلك كتب الله تعالى، فإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن متعددة، وهي كلام الله غير مخلوقة، وإنما هذا شيء أخذوه من علم الكلام، وهو مطرح عند جميع الأئمة الأعلام، قال أبو يوسف: (من طلب العلم بالكلام تزندق) ، وقال الشافعي رحمه الله: (ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح) ، وقال أحمد: (ما أحب الكلام أحد فكان عاقبته إلى
__________
(1) ابن بطة في الإبانة، الكتاب الثالث في الرد على الجهمية (1 \ 274) ح (42) ، وشرح السنة (1 \ 188) .
(2) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص (262) .(60/205)
خير) ، وقال محمد بن أحمد بن إسحاق بن خويز منداد المالكي: (كتب البدع عند مالك وسائر أصحابنا هي كتب الكلام والتنجيم وشبه ذلك، لا تصح إجارتها، ولا تقبل شهادة أهله) (1)
__________
(1) مناقب الشافعي (1 \ 405) .(60/206)
(كلام الله تعالى لموسى) :
الوجه الثاني: أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام، ويكلم المؤمنين يوم القيامة، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) ، وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (2) ، وقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (3) ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (4) وقال: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (5) . وأجمعنا على أن موسى جمع كلام الله من الله لا من شجرة ولا من حجر ولا غيره؛ لأنه لو جمع من غير الله كان بنو إسرائيل أفضل في ذلك منه؛ لأنهم سمعوا من أفضل ممن سمع منه موسى؛ لكونهم سمعوا من موسى، فلم سمي إذا كليم الرحمن؟
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) سورة الأعراف الآية 143
(3) سورة الأعراف الآية 144
(4) سورة مريم الآية 52
(5) سورة النازعات الآية 16(60/206)
فإذا ثبت هذا لم يجز أن يكون الكلام الذي سمعه موسى إلا صوتا وحرفا فإنه لو كان معنى في النفس، وفكرة وروية لم يكن ذلك تكليما لموسى ولا موسى يسمع، ولا يتعدى الفكر، ولا يسمى مناداة، فإن قالوا: نحن لا نسميه صوتا مع كونه مسموعا، قلنا الجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا مخالفة في اللفظ مع الموافقة في المعنى، فإننا لا نعني بالصوت إلا ما كان مسموعا.(60/207)
(كلام الله تعالى بصوت يسمع) :
الثاني: أن لفظ الصوت قد جاءت به الأخبار (1) والآثار، فإن في قصة موسى عليه السلام أنه لما رأى النار هالته وفزع منها فناداه ربه يا موسى فأجاب سريعا استئناسا بالصوت فقال: لبيك لبيك، أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ قال: أنا فوقك وأمامك ووراءك وعن يمينك وعن شمالك فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: فكذلك أنت يا إلهي فكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى (2) ، وقال بنو إسرائيل لموسى: بما شبهت صوت ربك؟
__________
(1) في ب (الأحاديث) .
(2) الإمام أحمد في الزهد ص (79، 80) .(60/207)
قال: إنه لا شبه له، وروي أن موسى عليه السلام لما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء (1) » ، وروي ذلك موقوفا على ابن مسعود، وروي عن عبد الله بن أحمد، قال: سألت أبي فقلت: يا أبه إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت؟ فقال: كذبوا إنما يدورون على التعطيل، ثم قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال: حدثني الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود، قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) (2) .
وقال السجزي: وما في رواة هذا الخبر إلا إمام مقبول (3) ، وحديث عبد الله بن أنيس: «. . . إن الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا
__________
(1) الحديث صحيح مرفوعا وموقوفا: المرفوع أخرجه أبو داود (5 \ 105) ح (4738) ، وابن خزيمة في التوحيد ص (145) وغيرهما، راجع الصحيحة (1293) والموقوف عن عبد الله بن مسعود: صحيح أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (146) ، وذكره البخاري معلقا في كتاب التوحيد باب (32) في تفسير قول الله تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده (4 \ 400) .
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (1 \ 281) ح (536- 537) .
(3) الرد على من أنكر الحرف والصوت (رسالة السجزي إلى أهل زبيد) للسجزي ص (166- 167) .(60/208)
الملك أنا الديان (1) » ، فإذا كان حقيقة التكليم والمناداة شيئا واحدا، وتواردت الأخبار والآثار به فما إنكاره إلا عناد واتباع للهوى المردي، وصدوف عن الحق، وترك للصراط المستقيم {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2 \ 475) ح (3638) والبخاري في الأدب المفرد ص (429) ح (970) وأحمد (3 \ 600) ح (16048) ، وحسنه الألباني صحيح الأدب المفرد ص (372) ح (746) .
(2) سورة النساء الآية 115(60/209)
(شبهة وجوابها) :
وأما استدلاله على خلق الحروف بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) والحروف شيء.
(القرآن غير مخلوق) :
قلنا: هذا شبهة المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ونحن وأنتم قد اتفقنا على أن القرآن غير مخلوق وهو حروف، فلزم (2) أن لا تكون مخلوقة، على أن هذه الآية لا بد من تخصيصها بأن الله تعالى
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) في ب (فيلزم) .(60/209)
وصفاته ليس شيء منها مخلوقا، وكلام الله صفة من صفاته، وهو حروف وأصوات بما بيناه وكذلك قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) يخرج منه القرآن وكل كلام لله تعالى من التوراة والإنجيل وغيرهما وهي حروف على ما قدمنا واستدلاله (بأن الله خالق كل صانع وصنعته) يريد به أن الحروف صنعته، وهذا سفه قد تقدم الجواب عنه، وقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} (2) لا دلالة فيه؛ فإن اليد مخلوقة والمكتوب بها من كلام الله غير مخلوق، فإن الله تعالى أخبر أن القرآن العظيم الكريم في كتاب مكنون فقال: {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (3) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (4) ، فالقرآن غير مخلوق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم (5) » ، يريد المصاحف التي فيها القرآن، وقال الله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 79
(3) سورة البروج الآية 21
(4) سورة البروج الآية 22
(5) أخرجه البخاري (2 \ 356) ح (2990) ، ومسلم (1869) ، وأحمد (2 \ 10) وغيرهم.(60/210)
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) ولو كان ما فيه مخلوقا لما منع المحدث مسه، ولا حنث الحالف به، ولا وجبت الكفارة على الحانث الحالف به، فإنه لا تجب الكفارة بالحلف بمخلوق.
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79(60/211)
(النزاع في شأن الحرف والصوت) :
وما ذكر من الأخبار الدالة على نسبة الصوت إلى القارئ فليس هذا محل النزاع، إنما النزاع في أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت أم لا؟ ومذهب أهل السنة اتباع ما ورد في الكتاب والسنة، وقد بينا بالأدلة القاطعة أن هذا القرآن الذي عندنا هو كلام الله، وأنه مسموع مقروء متلو محفوظ مكتوب، وكيفما قرئ وتلي وسمع وحفظ فهو القرآن القديم، وقد ذكرنا الآيات والأخبار الدالة على أنه مسموع مكتوب متلو محفوظ، وأما قوله عليه السلام: «إن الله تعالى قال: وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء (1) »
فمعناه -والله أعلم- أن الماء لا يغسله بالكلية فإنه لو غسل من مصحف لم يغسل من بقية المصاحف، ولو غسل من جميعها لم يغسل من صدور الرجال، ولا يزال باقيا في الأرض في صدور الرجال ومصاحفهم حتى تقوم الساعة، ويذهب الخلق والملائكة ولا يبقى إلا الله الواحد القهار، ويحتمل أن هذا معنى قول السلف رحمة الله عليهم في
__________
(1) أخرجه مسلم (4 \ 2197) ح (2865) .(60/211)
القرآن: (منه بدأ وإليه يعود) أي: أنه بدأ من الله تعالى بإنزاله على نبيه عليه السلام ثم يعود إليه بذهابه من الأرض لذهاب حملته وحفاظه وقد روينا في حديث «أنه يرفع من صدور الرجال ومن المصاحف قبل قيام الساعة (1) » ، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2 \ 1344) ح (4049) بنحوه، والحاكم (4 \ 520) ح (8460) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2 \ 378) ح (3273) والسلسلة الصحيحة رقم (87) ص (171) .(60/212)
(القرآن الكريم هو الكتاب العربي الموجود في المصاحف) :
وقد ثبت بما ذكرنا من الأدلة القاطعة اليقينية من الكتاب والسنة والإجماع أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات، الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون وقرآن مجيد في لوح محفوظ، فمهما جاء من الأخبار يجب تفسيره، بما يوافق ذلك ولا يجوز حمله على خلافه؛ لأن ما خالف الأدلة القاطعة كان باطلا في نفسه، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز بطلان شيء منه، لأنه معصوم من قول الباطل فتعين ما ذكرناه فيه، ومن حمل شيئا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على محمل يخالف ذلك كان بمنزلة الزنادقة الذين(60/212)
يستدلون على فساد دين الإسلام بعمومات أو احتمالات في آيات وأحاديث، ومثل هذا لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه، وقد بلغني عن بعض متحذلقيهم أنه قال: الم ليست حروفا إنما هي أسماء الحروف، فألف اسم للألف، ولام اسم لها، وكذلك ميم، فخالف بهذا القول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سماها حروفا وكذلك أصحابه وسائر الناس فإنهم يسمونها حروفا، ويقولون الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد روي عن الشعبي أنه قال: (إن لله في كل كتاب سرا وسره في القرآن الحروف المقطعة في أوائل السور) وروي نحو هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: (هي أسماء الله تعالى لو أحسن العباد توصيلها ألا ترى أن ألف لام راء حاء ميم نون هي الرحمن) (1) ، ثم إن هذا القول لا ينفي كونها حروفا وإنما أسماء الحروف حروف، فاسم الألف ثلاثة أحرف ألف
__________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 \ 230- 231) ح (163، 164، 165، 166) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.(60/213)
ولام وفاء، واسم اللام ثلاثة، واسم الميم ثلاثة، فيكون ذلك تسعة أحرف، فكأنه قال: إنها ليست ثلاثة أحرف إنما هي تسعة أحرف، والخلاف في كونها حروفا لا في عددها، وقد ثبت أنها حروف فلا يضر الخلاف في عددها، والحمد لله وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل(60/214)
الترويح في العصر النبوي
أهدافه ووسائله
إعداد: عبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان (1) .
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
إن ما يميز العصر الذي نعيشه نشوء ظاهرة وقت الفراغ في حياة الأفراد والمجتمعات بشكل يستدعي الوقوف عندها، ودراستها، ورصد متغيراتها، ومدى تأثيراتها على مستوى الأفراد والمجتمعات على حد سواء، ولقد صاحب هذه الظاهرة تزايد وتطور الوسائل الترويحية، انطلق معها الإنسان بحثا عن الراحة والمتعة، وتخفيفا من العناء الذي يصيبه في هذه الحياة الدنيا، وكثيرا ما يمارس بعض المسلمين الأنشطة الترويحية، بمعزل عن الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يراعيها المسلم في حياته اليومية، وبخاصة مع ما استجد من وسائل ترويحية في حياتنا المعاصرة.
ورغم وجود العملية الترويحية في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن من يطلع على المؤلفات، والكتب، والأبحاث التي تدرس الترويح، يجدها
__________
(1) مدير عام الرعاية الاجتماعية والتوجيه الاجتماعي في وزارة العمل والشئون الاجتماعية(60/215)
لا تكاد تذكر الترويح في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان يمارسه هو وصحابته رضوان الله عليهم، وكأن عصرهم خلا من هذه الممارسات الترويحية، رغم كثرتها وتنوعها، وممارسته لها صلى الله عليه وسلم هو وصحابته رضوان الله عليهم.
وفي هذه الدراسة محاولة لإلقاء الضوء على ظاهرة الترويح، وحكمه، والضوابط الشرعية التي ينبغي مراعاتها حين ممارسته، وواقع ممارسته في العصر النبوي، ولقد قسمت الدراسة إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف الترويح وخصائصه.
المبحث الثاني: حكم الترويح.
المبحث الثالث: ضوابط ممارسة الترويح في المجتمع المسلم.
المبحث الرابع: الترويح في العصر النبوي ويحوي ما يلي:
أولا: أهداف الترويح في العصر النبوي.
ثانيا: نماذج من الترويح في العصر النبوي.
ولقد تناولت الوقت وأهميته، وحرص الإسلام على ضرورة الاستفادة منه، وعدم تركه يضيع سدى، مدخلا للموضوع، باعتبار الوقت وعاء لجميع أنواع الترويح التي يمارسها المسلم في حياته اليومية، والله أسأل أن تكون هذه الدراسة مقدمة لدراسة أشمل وأعم عن الترويح في وقتنا المعاصر ومدى ملاءمته مع التوجيه الإسلامي للترويح، ومدى التزامه بالضوابط الشرعية للترويح في الإسلام، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(60/216)
مدخل:
لقد صدق من قال: إن الوقت هو الحياة، وإنهما وجهان لعملة واحدة؛ فما الأيام إلا صفحات تقلب في كتاب حياتنا، وما الساعات في تلك الأيام إلا كالأسطر في صفحات الأيام، والتي سرعان ما تختم الصفحة لننتقل إلى صفحات أخرى، وهكذا تباعا حتى تنتهي صفحات كتاب العمر، وبقدر ما نحسن تقليب صفحات أيامنا تلك، نحسن الاستفادة من كتاب حياتنا؛ وبقدر استغلالنا لأوقاتنا، نحقق ذواتنا ونعيش حياتنا كاملة غير منقوصة.
ولا شك أن إدراك الإنسان لقيمة وقته ليس إلا إدراكا لوجوده وإنسانيته ووظيفته في هذه الحياة الدنيا، وهذا لا يتحقق إلا باستشعاره للغاية التي من أجلها خلقه الله عز وجل وإدراكه لها، ومن المعلوم أن الله خلق الإنسان لعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) ومما لا شك فيه أن المقصود بالعبادة معناها الشامل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين عرف العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة (4) ولذلك كان الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، فهو
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) العبودية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت 1403 هـ، ص 38.(60/217)
كنزه، ورأس ماله الحقيقي في هذه الدنيا، ذلك أنه وعاء كل شيء يمارسه الإنسان في حياته الدنيا.
ويكفى الوقت شرفا وأهمية أن الله -عز وجل- قد أقسم به في كتابه العزيز، وأقسم ببعض أجزائه في مواطن عديدة، قال تعالى:
والليل إذا عسعس {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (1) ، {وَالْفَجْرِ} (2) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (3) ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (4) {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (5) ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (6) {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (7) ، {وَالضُّحَى} (8) {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (9) ، {وَالْعَصْرِ} (10) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (11) .
ولقد ذكر عدد من المفسرين -رحمهم الله- أن إقسام الله ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته، ومن هنا فالله لم يقسم بتلك المخلوقات عبثا، بل ليبين لعباده أهميتها وليلفت أنظارهم إليها، ويؤكد على عظيم نفعها، وضرورة الانتفاع بها، وعدم تركها تضيع سدى دونما فائدة ترجى في الدنيا أو الآخرة.
__________
(1) سورة التكوير الآية 18
(2) سورة الفجر الآية 1
(3) سورة الفجر الآية 2
(4) سورة الشمس الآية 1
(5) سورة الشمس الآية 2
(6) سورة الليل الآية 1
(7) سورة الليل الآية 2
(8) سورة الضحى الآية 1
(9) سورة الضحى الآية 2
(10) سورة العصر الآية 1
(11) سورة العصر الآية 2(60/218)
ولقد برزت أهمية الوقت والحث على الاستفادة منه وعدم تركه يضيع سدى في السنة النبوية، فلقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك (1) »
فالحديث وإن تنوعت ألفاظه وتعبيراته إلا أنها تدور على الحث على اغتنام فرصة الفراغ في الحياة قبل ورود المشغلات، مثل المرض أو الهرم أو الفقر، فالغالب أن هذه الأمور تلهي الإنسان وتمنعه من الاستفادة من أوقاته، فالمريض يهتم بأسباب عودة صحته واسترداد عافيته، وكذلك مع الهرم، وهو أقصى الكبر، يكون الضعف العام للجسم وبطء الحركة بعكس من كان في مرحلة الفتوة والقوة والشباب.
كما روى البخاري في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ (2) » ، ومعنى الحديث في منتهى الوضوح، حيث يرشد
__________
(1) المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج 4، ص 341، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وكذلك: الزهد، ابن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، ص 2.
(2) صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق مصطفى البغا، دار القلم، دمشق، 1401 هـ، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الصحة والفراغ، ج هـ، ص 2357.(60/219)
الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفراغ مغنم ومكسب، ولكن لا يعرف قدر هذه الغنيمة إلا من عرف غايته في الوجود، وأحسن التعامل مع الوقت والاستفادة منه، ولعل مما يحفز على ضرورة الاستفادة من الوقت حرص الفرد أن يكون من القلة التي عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السابق، إذ ظاهر الحديث أن من يستفيد من الوقت هم القلة من الناس، وإلا فالكثير مغبون وخاسر في هذه النعمة، بسبب تفريطه في وقته وعدم استغلاله الاستغلال الأمثل.
وقد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا؛ لانشغاله بمعاشه، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا -الصحة والفراغ- وغلب عليه الكسل عن طاعة الله فهو المغبون، أما إن وفق إلى طاعة الله فهو المغبوط (1) .
ومسئولية الإنسان عن وقته شاملة لجميع عمره، وهذا الوقت مما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه (2) »
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج 11، دار الريان، القاهرة، 1407 هـ، ص 234.
(2) سنن الدارمي، أبي محمد عبد الله الدارمي، دار الفكر، بيروت، باب من كره الشهرة والمعرفة، ص 98.(60/220)
ومما ينبغي الإشارة إليه أنه على الرغم من حرص الإسلام على الانتفاع من الوقت وعدم تركه يذهب سدى، فإنه أكد على إعطاء النفس حقها من الراحة والسعة والانبساط، فلقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (1) {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} (2) {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (3) ، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (4) أي قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار (5) ، وكأن النوم راحة إجبارية يتقوى بها الإنسان على معاشه في النهار.
كما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا (6) » ، ولكن هذا الحق من النوم والراحة للجسد والبدن مشروط، أي ينبغي أن يتقوى به لما بعده، ويحتسبه الإنسان للعمل، فهو يرتاح ليتقوى على العمل وليست الراحة لمجرد البطالة.
__________
(1) سورة النبأ الآية 9
(2) سورة النبأ الآية 10
(3) سورة النبأ الآية 11
(4) سورة النبأ الآية 9
(5) تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق، ج 4، ص 462.
(6) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، ج 2، ص 697.(60/221)
المبحث الأول: تعريف الترويح وخصائصه:
يدور معنى كلمة الترويح في أصلها اللغوي على السعة(60/221)
والانبساط وإزالة التعب، ورجوع النشاط إلى الإنسان، وإدخال السرور على النفس بعد العناء، ويقال: رجل أريحي: أي واسع الخلق نشيط، وأراح الرجل: أي رجعت له نفسه بعد الإعياء (1) .
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها (2) » .
والأريحي: الرجل الواسع الخلق (3) ،
وتتعدد تعاريف المختصين للترويح وتتباين التعاريف باختلاف نظرة من يقوم بتعريفه، فمن تعاريف الترويح ما يلي:
1 - إعادة إنعاش الروح وإحياء القوة بعد تعب.
2 - إدخال السرور على النفس.
3 - نشاط ذو فائدة ما، يمارس اختياريا في أثناء وقت الفراغ، بدافع ذاتي من الرضى الشخصي الذي ينتج عنه.
4 - النشاط الذي يختاره الفرد ليمارسه في وقت فراغه.
5 - مزاولة أي نشاط في وقت الفراغ بهدف إدخال السرور على النفس دون انتظار أي مكافأة.
6 - نشاط تلقائي مقصود لذاته وليس للكسب المادي، ويمارس
__________
(1) لسان العرب، ابن. منظور، دار صادر، بدون تاريخ، ج 2، ص 455.
(2) سنن أبي داود، أبو داود السجستانى، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1414 هـ، كتاب الأدب، باب في الصلاة في العتمة، ج2، ص 480.
(3) مختار الصحاح، محمد بن أبى بكر الرازي، دار الدعوة، تركيا، ص 261.(60/222)
في وقت الفراغ لتنمية ملكات الفرد رياضيا واجتماعيا وذهنيا.
7 - هو النشاط الذي يريح من عناء العمل، وغالبا ما ينتج عن تغيير وتسلية، وفيه إحياء لقدراتهم على العمل.
8 - نشاط اختياري ممتع للفرد، ومقبول من المجتمع، يمارس في أوقات الفراغ، ويسهم في بناء الفرد وتنميته.
ويمكننا تحديد مفهوم أدق لمصطلح الترويح وفق المنظار الشرعي بتعريفه بأنه: (نشاط هادف وممتع لإنسان، ويمارسه اختياريا وبرغبة ذاتية وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعا، ويتم غالبا في أوقات الفراغ) .
ومن خلال تأمل التعاريف السابقة يمكن لنا أن نستنبط عددا من الخصائص التي يتصف بها الترويح وتميزه عن غيره من جوانب الحياة المختلفة، فمن هذه الخصائص ما يلي:
أ- الاختيارية: فهو نشاط لا إجبار فيه، سواء في نوعه أو وقته أو كيفيته، ويختاره الفرد بمحض إرادته، وإلا انتفت عنه صفة الترويح.
ب- يكون الترويح في وقت الفراغ، وليس داخلا في وقت العمل أو الشغل الذي يمارسه الإنسان في حياته.(60/223)
ج- يصاحب الترويح وينتج عنه حالة من المتعة، والسعادة، والسرور، والرضا لمن يقوم بممارسته.
د- يعد الترويح نشاطا بناء وهادفا، أي: يعمل على بناء وتنمية بعض أو كل جوانب شخصية الممارس للترويح.
هـ- يتصف الترويح بأن له خاصية تجعل له القدرة على مساعدة الفرد على التخفف من ضغوط الحياة، وكسر رتابتها اليومية، ومنحه دفعة بدنية ونفسية تساعد على مواجهة مصاعب العيش.
وليس له مردود أو كسب مادي للفرد الممارس للترويح.(60/224)
المبحث الثاني: الترويح في الإسلام:
يعد الترويح في الإسلام أمرا مشروعا، بل مطلوبا، ما دام أنه في إطاره الشرعي السليم المنضبط بحدود الشرع التي لا تخرجه -أي الترويح- عن حجمه الطبيعي في قائمة حاجات النفس البشرية.
فالإسلام دين الفطرة، ولا يتصور أن يتصادم مع الطاقة البشرية الفطرية، أو الغرائز البشرية في حالتها السوية.
ومن هنا فقد أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفرد المسلم على تحمل مشاق الحياة وصعابها، والتخفيف من الجانب الجدي فيها ومقاومة رتابتها، شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي يرويه حنظلة -رضي الله عنه- أنه قال:(60/224)
«لقيني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى وكأننا نراها رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر الصديق حتى دخلنا على رسول الله، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى وكأننا نراها رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات (1) »
ويؤكد مبدأ الترويح في الإسلام ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي يرويه البخاري -رحمه الله- في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك
__________
(1) صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، دار الخير، بيروت، 1414 هـ، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، ج 6، ص 223.(60/225)
حقا وإن لزوجك عليك حقا (1) » ، وكذلك الحديث الذي يروى عنه صلى الله عليه وسلم: «روحوا القلوب ساعة وساعة (2) »
ففي الأحاديث السابقة وغيرها دلالة على مراعاة الإسلام لحق النفس في الراحة، وإعطائها حقها من ذلك ما دام أنه ضمن الإطار الشرعي، وداخل الحدود المقبولة اجتماعيا، ومما لا شك فيه أن الأصل في الترويح أن يتلازم مع وقت الفراغ ويمارس فيه، كما يجب أن يكونا متعادلين في الكمية فلا يطغى أحدهما على الآخر، ففي زيادة وقت الفراغ في حياة الإنسان وتركه دون استغلال فإنه يتحول إلى مشكلة، وفي زيادة الترويح على أوقات الفراغ تصبح الحياة لهوا ولعبا.
وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وهذا أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو؛ ليكون
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، ج 2، ص 697.
(2) مسند الشهاب، محمد بن سلامة القضاعي، مراجعة حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ، ج 1، ص 393. وكذلك: تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، عبد الرحمن بن علي الأثري، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ، ص 85. وقال عن الحديث: أخرجه الديلمي من رواية أبي نعيم وغيره عن أنس مرفوعا، ويشهد له ما في صحيح مسلم وغيره من حديث حنظلة ساعة وساعة.(60/226)
أقوى لي على الحق، ومن هنا فإن الترويح يمكن أن يكون له بعد تعبدي إذا احتسبه الإنسان قربة لله، أو ليتقوى به على الطاعة.
وعلى ذلك يمكن أن تكون جميع جوانب حياة المسلم تعبدية إذا اقترنت بالنية الصالحة، فهو في العمل، أو الفكر، أو الجد، أو القتال، أو اللهو، أو الأكل، أو النوم، أو العلم، وغيرها من الأعمال التي تخطر على البال في عبادة، حتى في الجماع مع الزوجة؛ فلقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «. . . وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر (1) »
فكل أفعال الإنسان المسلم ونشاطاته عبارة عن تنويعات تدور حول حقيقة واحدة، هي العبادة، ويصح الاختلاف بينها في الهيئة ليس إلا، وفي المظهر وليس الجوهر. فليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، فالمنهج الإسلامي غايته تحقيق العبودية لله أولا وآخرا.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب كل معروف صدقة، ج 3، ص 76. وكذلك: المسند، أحمد بن حنبل مسند الأنصار، حديث 20508.(60/227)
المبحث الثالث: ضوابط الترويح في المجتمع المسلم:
يتصف كل مجتمع بخاصية تميزه عن غيره من المجتمعات(60/227)
الأخرى، وتنبع تلك الخاصية من روافد عدة، أهمها وأبرزها الدين الذي يعتنقه ذلك المجتمع، وغالبا ما تتشكل بناء عليه العديد من العادات والتقاليد والأعراف التي تتكون على آماد طويلة، لتصبح جزءا لا يتجزأ من كيان المجتمع ونسيجه الخاص به، وبالتالي يقوم أفراد المجتمع بممارستها وتبنيها والدفاع عنها.
ومن هنا لا يمكن أن ننظر للجميع بمعزل عن هذه الخصوصية التي يتميز بها، كما لا يمكن تجاهلها حين التعامل مع الظواهر الاجتماعية التي يزخر بها، وغالبا ما يكون لعقيدة المجتمع دور في تحديد خصوصية المجتمع، فهناك عملية تفاعل متبادلة بين عقيدة المجتمع وبين الأنشطة الترويحية التي تمارس في أوقات الفراغ داخل المجتمع، وتعد الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراد المجتمع ظاهرة اجتماعية، تتأثر-كغيرها من الظواهر الاجتماعية الأخر- بقيم المجتمع العقدية، وثقافته، وأفكاره، وعاداته، وتقاليده، وغالبا ما تكون الأنشطة الترويحية السائدة في المجتمع نابعة منها أو متأثرة بها.
وعلى ذلك فإن الترويح إذا لم يستمد وسائله من البيئة التي يوجد فيها فإنه يصبح عاجزا عن العطاء، وعاجزا عن تحقيق الأهداف التي يسعى إليها المجتمع، ويقصد بالوسائل التي ينبغي أن(60/228)
يستمدها الترويح: - الوسائل المادية مثل الموارد المتاحة من البيئة الطبيعية.
- الوسائل غير المادية المتأثرة بالبعد: العقدي، والثقافي، والفكري للمجتمع.
ومن هنا فلا يمكننا أن نتعامل مع أنشطة وقت الفراغ في أي مجتمع من المجتمعات بمعزل عن تلك الخصوصية التي يتميز بها المجتمع، وبخاصة عند وضع الخطط للأنشطة الترويحية فيه، أو رسم برامجها، أو تصميم المنشآت التي تمارس فيها الأنشطة الترويحية. وتؤكد العديد من الدراسات على ضرورة مراعاة خصوصية كل مجتمع وعدم التصادم معها عند التخطيط.
إننا عندما نراعي قيم المجتمع الذي نخطط برامجه الترويحية، ونضع ذلك في اعتبارنا حين تصميم منشآت البرامج والأنشطة الترويحية، ونأخذ بالاعتبار العادات، والقيم، والأعراف السائدة في المجتمع، فإننا نضمن النجاح التام لها، بالإضافة إلى تحقيق أقصى فاعلية في الإنتاجية الاستثمارية لتلك البرامج والأنشطة الترويحية. وبغير ذلك فإن الأمر لا يعدو أن يكون هدرا ماليا وبشريا دونما تحقيق الحد الأدنى من النجاح.(60/229)
لذلك لا عجب أن نرى فشل العديد من البرامج والأنشطة الترويحية التي يخطط لها في عالمنا الإسلامي، وما ذلك إلا بسبب النقل الحرفي لأنماط غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية، ودونما مراعاة لخصوصية المجتمعات التي نقلت منها هذه البرامج الترويحية، أو التي نقلت إليه هذه البرامج؛ فقد يفضل البرنامج الترويحي نفسه الذي نجح نجاحا كبيرا في مجتمع آخر والعكس صحيح، وهذا يعود إلى التباين في المنطلقات العقدية، والخلفية الثقافية للمجتمعات المنقول منها أو المنقول إليها.
ومما لا شك فيه أن المجتمع المسلم المعاصر يواجه سيلا من الأشكال والأساليب الترويحية، وهي على قسمين: أحدها وفد لها من خارج أرضها وفي بعضها ما يخالف قيم المجتمع المسلم وأعرافه وتقاليده. والآخر نابع من داخل المجتمع ومنطبع بقيمه وتقاليده وأعرافه. وتتزايد تلك الأشكال والأساليب الترويحية يوما بعد يوم، وهذا يحتم وضع قواعد عامة وضوابط محددة تقاس عليها تلك الأنشطة والبرامج الترويحية؛ لمعرفة مدى مناسبتها للمجتمع من عدمه. وحتى يحقق الترويح دوره كاملا من جميع الجوانب في المجتمع المسلم، ينبغي مراعاة عدد من الضوابط الشرعية والأخلاقية العامة، ويمكن إجمالها فيما يلي:(60/230)
أولا: ضوابط تتعلق بالنشاط الترويحي ذاته:
قبل ممارسة النشاط الترويحي لا بد من التعرف على الحكم الشرعي فيه، إذ توجد بعض الأنشطة الترويحية محرمة في الإسلام ابتداء، ومن ذلك:(60/230)
أ- النشاط الترويحي الذي يصاحبه أو يكون فيه سخرية بالآخرين، أو لمز، أو ترويع لهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا ومن أخذ عصا أخيه فليردها (2) » . وورد عنه قوله: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما (3) » .
ب- النشاط الترويحي الذي يصاحبه أذية بقول أو فعل للآخرين، أو ضرر بدني أو معنوي للآخرين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (4) . وللحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (5) » .
ج- النشاط الترويحي المحتوي على الكذب والافتراء؛ لحديث
__________
(1) سورة الحجرات الآية 11
(2) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من يأخذ الشيء على المزاح، ج 2، ص 483.
(3) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من يأخذ الشيء على المزاح، ج 2، ص 484.
(4) سورة الأحزاب الآية 58
(5) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ج 1، ص 13. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ج 1، ص 209.(60/231)
الرسول صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له (1) » .
د- الأنشطة الترويحية القائمة على المعازف أو الموسيقى؛ لورود الأدلة على عدم جوازها، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (2) » .
هـ- المسابقات القائمة على اتخاذ الحيوانات غرضا يرمى؛ للحديث المتفق عليه الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (3) » .
والترويح القائم على التحريش بين البهائم، كما يحدث عند تنظيم مسابقة المناطحة بين البهائم، أو المناقرة بين الديوك، وذلك للحديث الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التحريش بين البهائم (4) » . والتحريش هو: إغراء
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب، ج 2، ص 481.
(2) صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ج5، ص 2123.
(3) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، ج هـ، ص 2100. وصحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم، ج هـ، ص 94.
(4) المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، بدون تاريخ، ج11، ص 84.(60/232)
وتحريض البعض على الآخر.
ز- المسابقات التي يستخدم فيها أدوات ورد النص الصريح بتحريمها، مثل النرد؛ للحديث الذي يرويه سليمان بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنرد شير (2) » . وفي الموطأ أن عائشة - رضي الله عنها- بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها وعندهم نرد، فأرسلت إليهم: لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري. وأنكرت ذلك عليهم. كما روى مالك - رحمه - في الموطأ: أن ابن عمر - رضي الله عنهما- كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها (3) .
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الشعر، باب تحريم اللعب بالنردشير، ج 5، ص 416. وكذلك: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد، ج 2، ص 470.
(2) (1) فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه
(3) موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس، إعداد: أحمد عرموش دار النفائس، بيروت، 1404 هـ ص 682.(60/233)
ثانيا: ضوابط تتعلق بالمشاركين في الترويح:
وحيث إن معظم الأنشطة الترويحية تمارس بشكل جماعي، فهذا يحتم وضع عدد من الضوابط تتعلق بتلك الجماعة التي يشاركها الفرد في الأنشطة الترويحية، ومنها:
أ- التأكد من خيرية تلك الجماعة، فالرفقة السيئة لها دورها السلبي الذي لا ينكر على الفرد، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (1) » .
ب- عدم الاختلاط بين الجنسين لما يفضي ذلك إلى نظر بعضهم إلى بعض، والله عز وجل يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (3) . وللحديث الذي يرويه أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء (4) » متفق عليه. فضلا عن أن ما يناسب الذكور من الأنشطة الترويحية في الغالب لا يناسب الإناث، وكذا العكس.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، ج 2، ص 449.
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 31
(4) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، ج 5، ص 1959. وصحيح مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، ج 6، ص 213.(60/234)
ثالثا: ضوابط تتعلق بوقت الترويح:
ومن تلك الضوابط ما يلي:
أ- يجب ألا يكون الترويح في الوقت المخصص لحقوق الله، أو حقوق الناس، فلا ترويح في أوقات الصلاة مثلا؛ لما فيه من اعتداء على حقوق الله، لقوله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) ، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها وبر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله (2) » . وكذلك لا ترويح في أوقات العمل الرسمي، إذ فيه اعتداء على حقوق الناس.
ب- عدم الإفراط في تخصيص معظم الأوقات المباحة للترويح، فالاعتدال والتوسط سمة أساسية في هذا الدين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملا، ج 6، ص 2740. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان بالله أفضل الأعمال، ج 1، ص 257.(60/235)
رابعا: ضوابط تتعلق بمكان الترويح:
ومن أبرز الضوابط التي يلزم مراعاتها فيما يتعلق بمكان الترويح ما يلي:
أ- عدم إلحاق الأذى بذات المكان أو منشآته، فأمكنة الترويح حق مشترك بين جميع الناس، فمن أفسد على الناس أمكنة ترويحهم فقد(60/235)
اعتدى عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم (1) » .
ب- عدم مضايقة المقيمين أو العابرين بمكان الترويح، وهذا ينطبق على الخلاء والساحات العامة؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2) ، وللحديث: «. . . فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه (3) » .
ج- اختيار المكان المناسب للترويح حسب نوع الترويح، فما يصلح في الساحات العامة قد لا يصلح في المنزل،. . . وهكذا.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في طريق الناس أو في ظلهم ج 1، ص 503.
(2) سورة الأحزاب الآية 58
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، ج 4، ص 544.(60/236)
خامسا: ضوابط تتعلق بزي الترويح:
ويقصد بذلك الالتزام باللباس الشرعي وفق ما حدده الشارع، سواء للذكر أو الأنثى، فعورة الرجل من السرة إلى الركبة؛ للحديث الذي يرويه محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر على معمر رضي الله عنه وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان، فقال صلى الله عليه وسلم: يا معمر، غط فخذيك، فإن(60/236)
الفخذين عورة (1) » . والمرأة كلها عورة بحضرة رجال غير محارم لها، إلا أن تكون من القواعد من النساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في قعر بيتها (2) » .
__________
(1) المعجم الكبير، ج 19، ص 246.
(2) المعجم الكبير، ج 10، ص 132.(60/237)
سادسا: ضوابط عامة:
أ- مراعاة الأخلاق العامة، مثل: تجنب الغضب، والكلام البذيء، والغش، ومثيرات العداوة والبغضاء، والتعدي على الآخرين.
ب- مراعاة التنوع في الترويح، فلا يركز على أحد الجوانب الترويحية دون الجوانب الأخر.
ج- مراعاة الصحة العامة بشكل عام في جميع الممارسات الترويحية.
د- منع الصرف الزائد على الجوانب الترويحية، وإعطاء كل ذي حق حقه في الصرف.
هـ- عدم التبعية وتقليد الآخرين في استجلاب أنماط ترويحية لا تتوافق وقيم المجتمع المسلم، فإن ما يصلح للكفار من أنماط ترويحية متسقة ومستمدة من قيمهم ودينهم لا يصلح للمسلمين؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » . والمطالبة بعدم التقليد والتبعية لا تعني عدم الاستفادة من الآخرين، بل تعني ضبط هذه الاستفادة،
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، ج 2، ص 261.(60/237)
وإخضاعها للمراقبة والتقويم، وتكييف هذه الأنشطة الترويحية المجلوبة مع قيم المجتمع وثقافته.
ومما لا شك فيه أن المجتمع المسلم في حالة أخذه بتلك الضوابط فإنه يعمل بشكل مباشر على نجاح برامجه الترويحية؛ لأنه أخذ في الاعتبار الخصوصية التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات على سطح الأرض، وهذا بدوره يؤدي إلى تحقيق النتائج المتوقعة من البرامج الترويحية، وليس هذا فحسب، بل ستكون في أقصى درجات الإيجابية على الفرد وعلى المجتمع بصفة عامة، فضلا عن تحقيق التوازن في حياة الفرد والمجتمع المسلم في أوضح صوره ومعانيه، إضافة إلى الاقتراب من التكامل في حياة المجتمع المسلم، ومن تحقيق المقاصد المستهدفة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ولقد غفل عن هذا المبدأ الهام في التخطيط للبرامج الترويحية- وهو مبدأ الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع- بعض من كتب في الأنشطة الترويحية وأوقات الفراغ، إضافة إلى إهمالهم بعض الضوابط السابقة، مما يجعلنا نحكم بفشل تلك البرامج وعدم مناسبتها بشكلها المطروح دونما تعديل. ومما يؤسف له أن معظم الكتب التي تناولت الأنشطة الترويحية أوردت أنشطة لا تتناسب والمجتمع المسلم، فقلما نجد كتابا من المكتب المذكورة يخلو من الحث والتشجيع على ممارسة الموسيقى والعزف والغناء والرقص وإقامة نوادي لها، بل واعتبارها جانبا هاما في العملية الترويحية، على الرغم من ورود الأدلة العديدة والصريحة في تحريمها.(60/238)
كما تقوم بعض هذه الكتب بالحث على ممارسة المراسلة بين الجنسين، وكذلك الدعوة إلى أنشطة سلبية وضارة، لا ابتكارية مفيدة، بل هي تبعية وتقليد محض، مثل الحث على جمع الأزارير، أو إقامة حفلات أعياد الميلاد، والحفلات التنكرية، وحفلات الأزياء،. . . إلخ. وبالجملة ينبغي أن تراعى بعض القواعد الرئيسة حين التخطيط للأنشطة الترويحية، والبرامج الترفيهية في المجتمع المسلم، ومن هذه القواعد والأسس ما يلي:
1 - يجب أن تكون الأنشطة الترويحية مباحة في الإسلام، وألا تتعارض مع أحكامه وقواعده العامة.
2 - أن تعمل الأنشطة الترويحية على تحقيق الأهداف العليا للأمة الإسلامية.
3 - أن تكون تلك الأنشطة الترويحية محققة للمصلحة العامة للأفراد والمجتمع بشكل عام.
4 - أن تكون تلك الأنشطة سادة لحاجة من حاجات البلاد.
ففي ظل هذه الأسس والقواعد العامة التي تكون إطارا عاما تدور حول محوره الأنشطة الترويحية، والبرامج الترفيهية التي يتم تخطيطها وتقديمها في المجتمع المسلم ولأفراده - نضمن نجاح البرامج(60/239)
الترويحية، كما نضمن حسن استغلال الوقت وجعله ثروة تمتلكها الأمة ضمن ما تمتلكه من ثروات. أما بغير ذلك فسنجد أنفسنا في تخبطات يمارسها المخططون لبرامج ترويحية وترفيهية تعجز عن تلبية حاجيات المجتمع المسلم وأفراده، فضلا عن الآثار السلبية التي سيجنيها المجتمع اجتماعيا واقتصاديا. . . إلخ.(60/240)
المبحث الرابع: الترويح في العصر النبوي:
أولا: أهداف الترويح في العصر النبوي:
إن مما ينبغي ملاحظته في الممارسات الترويحية التي كانت تمارس في المجتمع الإسلامي الأول أنها كانت تستهدف في غايتها النهائية عددا من الأمور، ولم يكن هدفها الترويح فحسب، بل يصاحب ذلك أهداف أخر، ومن ذلك:
أ- تربية المجتمع المسلم على الجد، وتهيئة أفراده لخدمة الإسلام، من خلال هذه الأنشطة الترويحية، مثل: التدريب على المنازلة في الحرب، والرمي، وركوب الخيل. وهذا واضح في الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عمر - رضي الله عنهما-: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكان ابن عمر فيمن سابق بها (2) » . وكذلك في الحديث
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب المسابقة بين الخيل وتضميرها، ج 5، ص 15.
(2) الخيل المضمرة هي: الخيل التي تجهز للجري وتشد سروجها. (1)(60/240)
الآخر الذي يرويه عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (2) » . قال النووي - رحمه الله- في شرح هذا الحديث: وفي الحديث فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى. . .، والمراد بهذا كله التمرن على القتال، والتدرب والتحذق فيه، ورياضة الأعضاء (3) .
ب- التودد إلى أفراد المجتمع المسلم، وتحبيبهم في الإسلام، كما في مشاركته صلى الله عليه وسلم مع بعض الصحابة- رضي الله عنهم- في الرمي بالنبال، ففي الحديث الذي يرويه سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق فقال: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان- لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: ما لهم؟ قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال: ارموا وأنا معكم كلكم (4) » .
ج- العمل على زيادة الترابط الأسري والتحبب إلى الزوجة، ومصداق ذلك مسابقته صلى الله عليه وسلم لزوجه عائشة - رضي الله عنها- فعنها أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فقال لها: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، وخرجت معه بعد ذلك
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1917) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3083) ، سنن أبو داود الجهاد (2514) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2813) ، مسند أحمد بن حنبل (4/157) ، سنن الدارمي الجهاد (2404) .
(2) سورة الأنفال الآية 60 (1) {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، ج 5، ص 56.
(4) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، ج 3، ص 1292.(60/241)
في سفر آخر، فنزلنا منزلا فقال: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي وقال: هذه بتلك (1) » . كما يروي عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق (2) » .
د- إعداد المؤمن القوي بدنيا ونفسيا واجتماعيا، وكل ذلك مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (3) » . . . . الحديث.
هـ- إظهار الفسحة في الدين، وإبراز محاسن الإسلام وسماحته؛ ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند: «أن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بالبنات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بصواحبي يلعبن معي، وقالت رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة (4) » .
__________
(1) الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة، تحقيق: مختار الندوي، الدار السلفية، 1402، ج 12، ص 508. وكذلك سنن ابن ماجه، تحقيق: خليل شيحا، دار المعرفة، بيروت، 1416 هـ، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، ج 2، ص 479.
(2) سنن الدارمي، كتاب الجهاد، باب فضل الرمي والأمر به، ص 142.
(3) صحيح مسلم كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، ج 6، ص 164.
(4) المسند، أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، القاهرة، بدون تاريخ ج 6، ص 116.(60/242)
ومما يؤكد خيرية الهدف من وراء الترويح في عصر الصحابة رضي الله عنهم- أنه لم ينقل وقوع اختلاف أو تشاحن بينهم - بعد أو في أثناء الممارسات الترويحية التي يقومون بها.(60/243)
ثانيا: نماذج من الترويح في العصر النبوي:
إن من يطلع على الكتب التي تناولت الترويح لا يجد في غالبها أية إشارة للأنشطة الترويحية التي كانت تمارس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن مجتمع الصحابة خال من الممارسات الترويحية، في حين تشير العديد من المواقف والحوادث إلى وجود مثل هذه الممارسات الترويحية في المجتمع الإسلامي الأول، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمارس شيئا من ذلك ويحث عليه وينظم بعض الأنشطة الترويحية بنفسه. وسنعرض نماذج من الممارسات الترويحية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته- رضوان الله عليهم- يمارسونها في حياتهم اليومية. ولقد تعددت الأنشطة الترويحية التي كانت تمارس في المجتمع المسلم الأول، ومنها ما يلي:(60/243)
أ- المسابقة بالأقدام:
وهي رياضة بدنية منشطة للجسم بشكل عام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسابق بعض أصحابه- رضوان الله عليهم- كما سابق عليه الصلاة والسلام زوجه عائشة - رضي الله عنها- وشجع على ممارسة هذا النشاط الترويحي بين الصحابة، فعن عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا، فقال لها:(60/243)
تعالي حتى أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر، فنزلنا منزلا، فقال: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي وقال: هذه بتلك (1) » .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينظم مثل هذه المسابقة بالأقدام بين الأطفال، ففي الحديث أن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا من بني العباس، ثم يقول: من سبق إلي فله كذا وكذا، قال: فيتسابقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم (2) » .
وكانت المسابقة بالأقدام أمرا معتادا بين الصحابة- رضي الله عنهم- «فعندما قفل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غزوة تبوك قالت الأنصار: السباق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئتم (3) » . فكأن الأنصار يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في المسابقة فيما بينهم، وأذن لهم. كما جاء في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في قصة رجوعهم أنه قال: «. . . وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا، قال: فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة، هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا. قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ذرني فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قال: قلت: اذهب إليك.
__________
(1) الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة، تحقيق: مختار الندوي، الدار السلفية، 1402، ج 12، ص 508. وكذلك سنن ابن ماجه، تحقيق: خليل شيحا، دار المعرفة، بيروت، 1416 هـ، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، ج 2، ص 479.
(2) مسند الإمام أحمد، ج 1، ص 214.
(3) الكتاب المصنف، ج 12، ص 508.(60/244)
وثنيت رجلي فطفرت فعدوت. . . فسبقته إلى المدينة. . . (1) » الحديث.
وعند البيهقي - رحمه الله- أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: سابقني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسبقته فقلت: سبقتك والكعبة، ثم سبقني فقال: وسبقتك ورب الكعبة. . .) الحديث.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها.(60/245)
ب- الفروسية والمسابقة بالإبل:
ومن ذلك عقد السباق بين الخيل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظم ذلك بنفسه، فلقد ثبت في الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنهما أن «رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع - والمسافة بينهما من ستة إلى سبعة أميال- وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق - وكانت المسافة بينهما ميلا أو نحوه- وكان ابن عمر فيمن سابق بها (1) » . وكان صلى الله عليه وسلم يعطي السابق في مثل هذه المسابقات جائزة على فوزه. ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال: «سبق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل وأعطى السابق (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب المسابقة بين الخيل وتضميرها.
(2) مسند الإمام أحمد، ج 2، ص 91.(60/245)
كما سابق الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبل. فعند البخاري أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سبقت العضباء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا إلا وضعه (1) » . وفي ذلك التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم التواضع الجم، والأدب الرفيع، ولا غرو في ذلك فهو القدوة في الأخلاق والسلوك عليه الصلاة والسلام.
وهذه المسابقات على الخيل والإبل مما شاع وكثرت ممارسته في عهده صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة- رضوان الله عليهم- فيروي ابن أبي شيبة أن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا يسابقون على الخيل والركاب وعلى أقدامهم (2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، ج 5، ص 2384.
(2) الكتاب المصنف، ج 12، ص 508.(60/246)
ج- المصارعة:
وهي من أشهر أنواع الرياضة البدنية في الإسلام، ولقد كانت تمارس من قبل أفراد المجتمع في الجاهلية، وكانت حلبة المصارعة تحتل جانبا من جوانب سوق عكاظ الذي كانت قبائل العرب تقيمه كل عام. ولقد بلغ ولوع العرب بالمصارعة أن كانوا يتجمعون لمشاهدتها في أسواقهم السنوية. وكان من أشهر المصارعين عمر بن الخطاب(60/246)
رضي الله عنه قبل إسلامه. فجاء الإسلام وأقر هذه الممارسة الترويحية بين أفراد المجتمع بعد أن هذب أساليبها واستبعد منها ما لا يليق. فلم تكن المصارعة فيما سبق على الصورة الحالية وما تحمله من وحشية وتجاوز أخلاقي وسلوكي. ولقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرياضة، ففي سنن أبي داود «أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم (1) » . وكان ذلك الموقف سببا في إسلام ركانة رضي الله عنه.
ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع أفرادا آخرين غير ركانة، منهم: أبو الأسود الجمحي، وكان شديدا قويا. كما كان صغار أصحابه- رضوان الله عليهم- يتصارعون فيما بينهم، ولقد صارع الحسن الحسين - رضي الله عنهما- بمرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب اللباس، باب في العمائم، ج 2، ص 270.
(2) معالجة الإسلام لوقت الفراغ، أبو بكر إسماعيل، مكتبة التوبة، الرياض، 1414 هـ، ص 28.(60/247)
د- الرمي:
ويكون بالسهام، وهذا الأمر يعد من أكثر الألعاب التي كان(60/247)
شباب الصحابة وشيوخهم- رضوان الله عليهم- يمارسونها، ويحثون على تعلمها. وكيف لا يكون ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم مارسها وحث على تعلمها، بل وحذر من تعلمها ونسيها بالإثم؛ ففي الحديث الذي يرويه سلمة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان- لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: ما لهم؟ قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال: ارموا وأنا معكم كلكم (2) » وفي الحديث الآخر الذي يرويه عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا (3) » .
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه: (أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي) .
ويروي الهيثمي: (أن أنسا كان يجلس ويطرح له فراش ويجلس عليه ويرمي ولده بين يديه، فخرج يوما وهم يرمون، فقال: يا بني، بئس ما ترمون، ثم أخذ القوس فرمى فما أخطأ القرطاس) (4) . وقال مصعب بن سعد رضي الله عنه: كان سعد بن أبي وقاص يقول: عليكم بالرمي فإنه خير لكم (5)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المناقب، حديث رقم 3245
(2) يتناضلون: أي يتسابقون ويتنافسون في رمي النبال. (1)
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
(4) مجمع الزوائد، الهيثمي، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407هـ، ج 5، ص 271.
(5) الترغيب والترهيب، المنذري، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407هـ، ح 2، ص 278.(60/248)
هـ- السباحة:
وهذا النوع من الممارسات الترويحية التي كانت موجودة في العصر الإسلامي الأول. ولقد بلغت العناية بها لدى المسلمين مبلغا كبيرا. وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لغو ولهو أو سهو إلا من أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة (1) » .
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي عماله بتعليم أولادهم السباحة والعوم، فيكتب إلى أمير الشام: (. . . وعلموا صبيانكم الكتابة والسباحة) .
ولقد ألف جلال الدين السيوطي وهو من علماء القرن التاسع الهجري كتابا في فضل السباحة، جمع فيه الآثار التي وردت في فضل السباحة والحث عليها، وأورد حديثين يؤكد فيهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبح بنفسه، فيذكر السيوطي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل هو وأصحابه غديرا، فقال: «يسبح كل رجل إلى صاحبه، فسبح كل رجل إلى صاحبه، فسبح عليه الصلاة والسلام إلى أبي بكر واعتنقه، وقال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لكنه صاحبي» . والحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: «نزلت بي أمي وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار» .
__________
(1) المعجم الكبير، ج 2، ص 193. وكذلك: الترغيب والترهيب، ج 2، ص 279.(60/249)
وحمل الأثقال:
وهذه الرياضة لها دور كبير في تقوية عضلات الساقين واليدين والبطن. ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من يمارس هذا النشاط الترويحي، لما فيه من جوانب ترويحية وإجمام للنفس، إضافة إلى دورها في تقوية البدن لملاقاة الأعداء ومنازلتهم. ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا يرفعون حجرا ليروا الأشد منهم فلم ينكر عليهم ومن المعلوم أن عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم عليهم فيه إقرار على ما كانوا يفعلونه، ولو كان فيها محذور شرعي لنهاهم عليه الصلاة والسلام. كما ورد في الخبر أن ابن عباس رضي الله عنه مر بقوم يرفعون حجرا ولم ينكر عليهم، فبعد أن مر بهم قال: ما شأنهم؟ فقيل له: ينظرون أيهم أقوى. فقال ابن عباس رضي الله عنه: عمال الله أقوى من هؤلاء (1) . .
__________
(1) المصنف، عبد الرزاق الصنعاني، باب رفع الحجر، ج11، ص 444(60/250)
ز- وسائل ترويحية أخرى:
وهي عديدة، مثل: اللعب بالرماح والحراب فعن «عائشة رضي الله عنها- أنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم، فأقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو (1) » متفق عليه.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، ج 5، ص 2006. وصحيح مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، ج 2، ص 489(60/250)
ومن الوسائل الترويحية كذلك: الصيد بالرماح والسهام، والصيد بالطيور والكلاب المعلمة، وهذه للكبار بخاصة.(60/251)
ح- ألعاب خاصة بالأطفال:
مثل المراجيح، فعند الإمام أحمد في المسند أن «عائشة - رضي الله عنها- قالت: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه إلى المدينة بسنتين أو ثلاث وأنا بنت سبع سنين. فلما قدمنا المدينة جاءتني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فذهبن بي فهيأنني وصنعنني. ثم أتين بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبنى بي وأنا بنت تسع سنين (1) » ومن ألعاب الأطفال كذلك اللعب بالبنات (العرايس) ، فعن عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي. فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي (2) » وعند أبي داود «أن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب جواز تزويج الأب البكر الصغيرة، ج 3، ص 549. وكذلك: المسند، مرجع سابق، باقي مسند الأنصار، حديث رقم 25193. واللفظ لأحمد
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس ج 3، ص 549.(60/251)
فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة (لعب) ، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت لسليمان خيلا لها أجنحة. قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه (1) » ومن الألعاب الخاصة بالأطفال كذلك: المطاردة، التدبيج، القفز، الراية، الزحلوقة، الكرة - وفيها أنواع عديدة منها ما يشبه كرة القدم أو كرة المضرب - الغميضاء- (الاستغماية) ولا شك أن ما ذكر من أنشطة ترويحية تعد أصولا للترويح، وممكن أن ينبثق من كل نشاط العشرات من الألعاب والمسابقات، بأشكال وأنواع مختلفة، تتناسب والوسائل الحديثة في وقتنا المعاصر، ما دامت منضبطة بالضوابط الشرعية التي تقدمت الإشارة إليها. وهذا ما تم بالفعل، حيث واصل المسلمون تطوير الكثير من هذه الممارسات الترويحية، وفق تطور كل عصر يعيشونه.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في اللعب بالبنات، ج 2، ص 469(60/252)
الخاتمة:
انتهى هذا البحث إلى مشروعية الترويح في الإسلام، بل قد يكون مطلوبا ومهما في حياة الفرد، كما يستطيع الفرد أن يحقق منه أقصى النتائج الإيجابية، إذا تعامل معه وفق النظرة الشرعية للترويح،(60/252)
ووفق الضوابط المتعددة التي حرص الإسلام على تلازمها مع أي ممارسة ترويحية. فهناك ضوابط أساسية للترويح، حيث ينبغي ألا يكون محرما في ذاته أو يصاحبه محرم، مثل: الترويح الذي ينال الآخرين منه أذية، أو إيذاء، أو استهزاء، أو سخرية، أو كذب، أو يصاحبه موسيقى، أو تحريش بين البهائم. كما يوجد ضوابط أخر تتعلق بالمشاركين في الترويح، وضوابط في وقت الترويح، ومكانه، وزيه.
كما دل البحث على ضرورة انبثاق الترويح من عقيدة المجتمع. فلقد فشلت كثير من البرامج الترويحية في البلاد المسلمة بسبب استيراد الكثير من الأنشطة الترويحية من البلاد الخارجية، دونما مراعاة لخصوصية المجتمع المسلم.
وكان الترويح يمارس في العهد النبوي، وحرص عليه الصحابة - رضوان الله عليهم- وكانت له أهداف محددة وسامية، وأبرزها:
تعويد المجتمع المسلم على الجد، وتحقيق التآلف الأسري، والتودد إلى أفراد المجتمع المسلم، وإظهار الفسحة في هذا الدين العظيم. ولقد تعددت الممارسات الترويحية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك: المسابقة على الأقدام، والمسابقة على الخيل والإبل، والمصارعة، والسباحة، والرمي، وحمل الأثقال، والصيد بالسهام والكلاب. كما وجد في عصره صلى الله عليه وسلم ألعاب أخر خاصة بالأطفال، مثل: العرايس، والمراجيح، والمسابقات بالأقدام. وكل هذه الممارسات أصول للترويح، يمكن أن تنبثق منها العشرات من الممارسات الترويحية الأخر، ما دامت منضبطة بالضوابط الشرعية. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا البحث يصلح منطلقا لبحث آخر، يتعرض فيه باحث آخر لمعرفة الوسائل(60/253)
الترويحية السائدة في المجتمع المسلم في وقتنا المعاصر، ومدى انضباطها بالضوابط الشرعية التي حددها الإسلام حين ممارسة الترويح.
هذا ما انتهيت إليه، فإن أصبت فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/254)
سليمان بن عبد الوهاب الشيخ المفترى عليه (. . . - 1208هـ)
لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر
سبب الافتراء:
الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، هو أخو الشيخ المجدد، المصلح محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206هـ) رحمهما الله، وكان طالب علم. لكنه لم يصل لمستوى فهم الشيخ محمد وعمقه.
ومثلما افترى على الشيخ محمد، وعلى دعوته السلفية، أعداء الدعوة، وخصومها من ذوي الأهداف والمقاصد حيث تبعهم الجهال، والغوغائيون، افتراءات كثيرة، ووصموه بأمور عديدة، كما ذكر هو رحمه الله في رسائله، وتبرأ مما نسب إليه، ثم برأه الدارسون المنصفون من كل مكان: عرب وغربيون، مسلمون وغير مسلمين، فقد استغل خصوم الدعوة، خلافه المبدئي مع أخيه، ليلصقوا به أمورا قد تكون تجاوزت الحد والمبالغة.
والشيخ مسعود الندوي، وهو من الهند رحمه الله في كتابه: (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) الذي خرج في أول أمره باللغة الأردية، ثم ترجم لعدة لغات.
والشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي، القاضي سابقا بقطر في كتابه: (نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين) وغيرهما كثير،(60/255)
كلهم ردوا وفندوا الأكاذيب على الشيخ محمد، وعلى دعوته المحققة للتوحيد ومن ذلك تسميتها بالوهابية، وبالخوارج، وبالمذهب الخامس، وبالدين الجديد، وبالمبتدعة. وما ذلك إلا أن الوهابية معروفة من القرن الثاني الهجري في المغرب. بأنها فرقة خارجية أباضية، تنسب إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم الخارجي الأباضي، المتوفى عام (197هـ) على رواية، وعام (205هـ) على رواية أخرى بشمال أفريقيا.
وقد اكتوى أهل المغرب بهذه الفرقة وبنارها، وأفتى علماء الأندلس، والمالكية بالمغرب بكفرها، فنقب المستشرقون، وأهل الفكر في الدول الغربية، التي تستعمر السواد الأعظم من ديار المسلمين ذلك الوقت، ووجدوا بغيتهم في تلك الفرقة التي لها تاريخ أسود مع علماء الأندلس والشمال الأفريقي، فأرادوا من باب التنفير، والإفساد بين المسلمين، إلباس الثوب الجاهز، بعيوبه، لهذه الدعوة السلفية التصحيحية، من باب التفريق بين المسلمين، وإثارة الشحناء، ويرون أنفسهم الفائزين في مكسب أحد الطرفين أو خسارته. وقد أوضحت في كتابي: (تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية) شيئا من ذلك، وكان أصله مناظرة مع بعض علماء المغرب الأقصى(60/256)
الحق لا يتبع الهوى:
فأعداء الله، وأعداء دينه، يزعجهم الداعون لدين الله: صافيا نقيا، وسلاحهم الكذب والافتراء، وقلب الحقائق، وهذا ديدن أهل الباطل، حول رغبتهم محاولة قلب باطلهم إلى حقيقة، لتنطلي على من لا يدرك أبعاد الأمور.
والأدهى والأمر المحاولة في جعل الحق المستمد من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم باطلا؛ لأنه لم يتفق مع الأهواء، والله يقول وقوله الحق: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (1) .
والشيخ سليمان بن عبد الوهاب، أراد أهل الباطل، أن يتسلقوا على كتفه، بالكذب عليه، وجعله مطية تدافع عن أهوائهم وباطلهم. فنسبوا إليه كتابين هو منهما براء، وإن كانا في الحقيقة ما هما إلا كتاب واحد. غير اسم الغلاف، وحور في بعض الألفاظ هما:
(الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) و (فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب) هذا ما وصل إلينا علمه.
وقد تكون رغبات أهل الأهواء، زادت بمؤلفات أخرى، كما يحلو لهم، كما قالوا عن والده الشيخ عبد الوهاب، بأنه عارض ابنه محمدا في دعوته، وحصل بينهما خلاف وخصومة.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 71(60/257)
التوقف لا يعني المعاداة:
ومعلوم أن كثيرا من طلبة العلم في نجد والأحساء، وغيرهما.(60/257)
ومنهم الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، قد توقفوا عن الاستجابة للدعوة، حتى يتحققوا من الداعي وما يدعو إليه، وقد تم هذا بالمناظرات والمكاتبات والسؤال والإجابة، فاستجاب طالب العلم الصادق في مقصده، وتمادى من لم يلن قلبه، ومن كانت لديه شبهات يتعصب لها، أو ضلالات يستميت في المحافظة عليها.
لكن على كثرة من اختلف مع الشيخ محمد من أهل نجد من العلماء وطلاب العلم، لم يكن لأحد منهم رد يعول عليه كمؤلف مستقل، على حد ما وصل إلينا علمه، إلا ما نسب لسليمان هذا.
- فالكتاب الثاني المنسوب لسليمان بن عبد الوهاب، وهو (فصل الخطاب) هو المنسوب لأحمد القباني من العراق، ولكن أقحم اسم سليمان فيه، لمآرب.
- كما ذكر الدكتور: منير العجلاني كتابا ثالثا قال إنه مخطوط اسمه: (حجة فصل الخطاب من كتاب رب الأرباب، وحديث رسول الملك الوهاب، وكلام أولي الألباب في إبطال مذهب محمد بن عبد الوهاب) للشيخ سليمان بن عبد الوهاب (1) ، وقال عن (الصواعق الإلهية) : إنه طبع منذ ثمانين سنة في العراق.
والكتاب الأول يشك كثير من الباحثين فيه، لأنه كلام بالنص ممن ردوا على الشيخ، كابن جرجيس والحداد وغيرهما، مما يدل على أنه دعي على سليمان. وليس من وضعه.
__________
(1) انظر: (تاريخ البلاد العربية السعودية) لمنير العجلاني 1 \ 315، 316.(60/258)
قرائن النفي:
وبتتبعي للوضع والبيئة، وما توفر من قرائن ترجحت لدي قناعة بأن الكتب المنسوبة للشيخ سليمان بن عبد الوهاب ما ظهر منها وما خفي، لا صحة لها، وهي من الافتراء عليه، لكن يزكي أصحاب الأهواء ما هم فيه من هوى، لا يستند على نص من كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا رأي قاله أو عمل به سلف الأمة في القرون المفضلة، التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنها خير القرون من بعده. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن مبدأ الطامعين في بلاد المسلمين الحريصين على استعمارها: فرق تسد، والتفرقة مجالها واسع عند الجهال، وأصحاب المنافع. . وقد استفاد الغربيون من ذلك كثيرا وقد اعتمدت، بعد الاستعانة بالله، في قناعتي على قرائن منها:
1 - أن رسائل الشيخ وردوده على المناوئين للدعوة، لم يرد من بينهما اسم الشيخ سليمان، ولا اسم الشيخين أحمد التويجري، وأحمد الشبانة، ولا اسم أخيه محمد. حيث قال ابن بشر (1210-1290هـ) في حوادث عام 1165هـ، والدعوة في بداية أمرها: وفيها قام أناس من رؤساء بلدة حريملاء وقاضيهم سليمان بن عبد الوهاب، على نقض عهد المسلمين ومحاربتهم، إلى أن قال: وكان الشيخ رحمه الله قد أحس من سليمان أخيه إلقاءه الشبه على الناس وغير ذلك، فكتب إليه الشيخ ونصحه وحذره شؤم العاقبة، فكتب إلى الشيخ، وتعذر منه، وأنه ما وقع منه مكروه، وأنه إن وقع من أهل حريملاء ردة(60/259)
أو مخالفة، لا يقيم فيها ولا يدخل فيما دخلوا فيه (1) .
وفي حوادث عام 1167هـ ذكر أن سليمان بن عبد الوهاب كتب كتابا لأهل حريملاء، مع سليمان بن خويطر لأهل العيينة، والكتاب يعني رسالة لأهل حريملاء ذكر فيها تشبيها على الناس في الدين. . فبعث الشيخ محمد رسالة عظيمة في تبطيل ما لبس به سليمان على العوام، هذه هي الإشارة التي وجدنا في ردود الشيخ على أخيه سليمان، وهذا كما يتضح في بداية الأمر، حيث استقدمه أخوه في عام 1190 هـ، وأسكنه الدرعية هو وأهله (2) ، وهذا التاريخ يعتبر بداية الاستجابة في المناطق القريبة من الدرعية، حيث قدم مع وفد الزلفي.
- وهذا التاريخ أيضا وما بعده، هو الوقت الذي استجاب فيه كثير من المتوقفين حيث بدأ يبرز أثر الدعوة، وسلامتها، ومنهم ثلاثة من أهالي المجمعة، كما سيأتي نموذج المكاتبة بين سليمان وبينهم. بعدما استجابوا وغيرهم؛ لأنه اتضح لهم صدق الدعوة، وإخلاص الداعي، وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. إذ في عام (1187هـ) دخل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود الرياض، بعد أن هرب منها دهام بن دواس، واستجاب أهل الرياض للدعوة (3) .
2 - لئن كانت إحدى الرسائل المنسوبة للشيخ سليمان، قد التبس أمرها عليهم، فصدقوا نسبتها، فإن الفارق بين ما ذكره الشيخ
__________
(1) (عنوان المجد في تاريخ نجد) لعثمان بن بشر 1 \ 65.
(2) المصدر السابق، 1 \ 128.
(3) يراجع في هذا حوادث عام 1187هـ عند ابن بشر في عنوان المجد 120، 119.(60/260)
عبد اللطيف بن عبد الرحمن، بأنها رسالة جاهل بالعلم والصناعة، مزجي التحصيل في البضاعة إلى أخر ما ذكر (1) ، وبين ما قاله الدكتور: منير العجلاني عن الرسالة المنسوبة للشيخ سليمان باسم (الصواعق الإلهية) فرق واضح في المضمون حيث ذكر العجلاني: أنه تكلم على أركان الإسلام الخمسة، وأورد نقولات عن ابن تيمية في الشرك والنذر لقبر الصحابي، ويتحدث عن البدع، وبعد العرض في صفحتين قال: لولا أنه قال عن الشيخ: إنه لا يملك الاجتهاد، وليس فيه خصلة واحدة من خصاله، لكان كتابه بريئا من هجر القول (2) . مما يقوى نفيها عنه، لأن الرأيين متباينان في الحكم على شيء واحد.
3 - ولذا ينفي المهتمون بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه الكتب المنسوبة للشيخ سليمان، في الرد على أخيه، ويعللون ذلك بأن القصد زيادة التنفير، وإلحاق هذه الفرية بالافتراءات الكثيرة التي قيلت عن الشيخ محمد رحمه الله، وذلك لتثبيت أن أخاه، وهو أقرب الناس إليه، أنكر عليه، بينما واقع الأمر أنه توقف واختلف معه كغيره، وكوالدهما الشيخ عبد الوهاب أيضا إن صح ما قيل عنه، والتوقف لا يعني العداء الأصيل. ولا يدعو لوصم الشيخ سليمان بأنه شرق بالدعوة. بل عندما استبان له الأمر، رجع مع غيره من المناطق القريبة من الدرعية، وعندما جاءوا وافدين جاء معهم مقتنعا.
__________
(1) انظر: هامش (عنوان المجد في تاريخ نجد) لابن بشر 1 \ 71.
(2) (تاريخ البلاد العربية السعودية) لمنير العجلاني 1 \ 316- 318.(60/261)
4 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب توفي عام (1206هـ) ، والشيخ سليمان توفي بعد أخيه محمد بعامين، كما قال ابن بشر: وفي سابع عشر رجب من هذا العام (1208هـ) ، توفي سليمان بن عبد الوهاب، أخو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودفن في الدرعية (1) ، وذكره أيضا ابن لعبون في تاريخه.
أما لقب الوهابية فلم تتفتق الحيلة بإطلاقه على دعوة الشيخ محمد، إلا بعدما دخل الإمام سعود بن عبد العزيز مكة عام (1218هـ) ، واهتم العالم كله بهذه الدولة الفتية التي لم تتهيب من الدولة العثمانية، ونزعت منها زعامة الحرمين الشريفين، وتمهيدا للحملات العثمانية المصرية، ضد هذه الدعوة وقادتها جاءت هذه الحيلة، وبعدها جاءت الحملات بقيادة محمد علي، وابنه طوسون، ثم ابنه بالتبني إبراهيم باشا، وذلك بعد موت الشيخيين: محمد وأخيه سليمان بزمن.
5 - نيبوهر الرحالة الدانيماركي المستشرق يعتبر أول من كتب عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث وصل الخليج والبصرة، فكتب عنها من أخبار ما سمع عنها، وتمنى لقاء الشيخ في الدرعية، لكنه لم يستطع، ومع هذا فلم يستعمل اصطلاح الوهابية أصلا، وقد أثنى على الدعوة (2) .
__________
(1) انظر: (عنوان المجد في تاريخ نجد) ابن بشر 1 \ 210.
(2) ينظر: (تاريخ البلاد العربية السعودية) للعجلاني 1 \ 299- 302.(60/262)
فكيف يسمي سليمان كتابه (في الرد على الوهابية) ، وهي لم تعرف بعد بهذا الاسم؟؟! .
كما يقول عن هذا المستشرق: مسعود الندوي، ويظهر من هذا أن اصطلاح الوهابية لم يكن معروفا إلى ذلك الوقت، ولكنه كان يسمي دعوة الشيخ ب (دين جديد) New Religion، مع أنه يعبر عن مذهب محمد بن عبد الوهاب الجديد: ب (المحمدية) ، وأن أول ذكر جاء للوهابية عند باحثيهم، جاء عند: (برك هارت) الذي جاء الحجاز بعد استيلاء محمد علي في سنة 1229 (1) .
لكن العجلاني يرى أن أول كاتب غربي، وضع كتابا عن تاريخ نجد والوهابيين، وسماه بهذا الاسم: Histoire Des Wahbis (تاريخ الوهابيين) ، هو الكاتب الفرنسي (أوليفيه ده كورانسيز) عام (1810م) الموافق (1225هـ) (2) .
كما ذكر اسم الوهابية المؤرخ المصري: عبد الرحمن الجبرتي رحمه الله، مقترنة بحملة: إبراهيم باشا، ومحمد علي (3) .
- وقد جاء ذكرها باسم الوهابية، في كتابات المستشرقين والمؤرخين الغربيين، مصاحبة لأخبار الحملة التركية المصرية الهادفة إلى
__________
(1) (الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) لمسعود الندوي ط الأولى سنة 1397 هـ، ص 203، 202.
(2) انظر: (تاريخ البلاد العربية) لمنير العجلاني 1 \ 304- 307.
(3) يراجع تاريخه: (عجائب الآثار) ج 4 آخره مع أخبار الحملة المصرية.(60/263)
القضاء على هذه الدولة الجديدة، التي نبعت من الجزيرة، خوفا من المد الإسلامي الذي يجدد للأمة دينها، فقد تحركت الحملات، واشتدت في عام 1225هـ.
6 - ولكي يبرهن الداعون إلى التنفير من هذه الدعوة، على ما يدعون إليه، خاصة وأن الإعلام عنها وعن أنصارها ضعيف، ولا يصل للمتطلعين، إلا ما يبعثه خصوم الدعوة، وأصحاب الأهواء ضدها وهم الأقدر على الاتصال مع الأمم الأخرى، فإنه لا بد من إلباس الشيخ سليمان ثوبا يتلاءم مع الهدف الذي تفتقت الحيلة عنه، لإلباسه أيضا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو لقب (الوهابية) ليتلازما في خطين متوازيين، يخدم أحدهما الآخر، رغم أن دعوة الشيخ محمد، تتنافر مع الوهابية الرستمية، من حيث المعتقد والمحتوى. والمكان والطريقة، وأسلوب الاستشهاد بالدليل الشرعي؛ لأن الرستمية خارجية أباضية تخالف معتقد أهل السنة والجماعة، كما هو معروف عنهم، لدى علماء المالكية، في شمال أفريقيا والأندلس، قبل تغلب الإفرنج عليها وذهابها من الحكم الإسلامي الذي هيمن عليها، قرابة ثمانية قرون. بينما الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في دعوته لا يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة، ويدعم رأيه في كل أمر بالدليل الصحيح، من الكتاب والسنة، وما انتهجه السلف الصالح، كما هو واضح النص والقياس في جميع كتبه ورسائله.
أما سليمان فلم يعرف له رأي يخالفه ذلك، لا في الشيخ ولا في دعوته، ولم يذكر المخالفون للشيخ محمد وفق الرسائل الكثيرة رأيا(60/264)
للشيخ سليمان يخالف ما سار عليه أخوه، ولو عرفوا شيئا عنه، وهم لصيقون به لذكروه كبرهان يستدل به، ويقوي حجتهم، لكن العكس هو الصحيح، كما سوف يرى القراء فيما بعد، من هذا البحث نموذجا من رسائله المؤيدة لدعوة الشيخ، والتأسف على ما مضى، والحث لبعض طلبة العلم بالانضمام إلى هذه الدعوة، وتبيين محاسنها.
7 - وقرينة أخرى فإن مخالفة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب لأخيه الشيخ محمد، التي تعتبر توقفا، لا معاداة للدعوة، كانت كما قلنا في بداية أمر دعوة الشيخ، وانطلاقها من الدرعية بمؤازرة الإمام محمد بن سعود، ووقتها لم تتعد الردود الكلام الشفهي. والشائعات التي لا يخلو منها أي مجتمع، وخاصة في كل أمر مهم كدعوة الشيخ محمد.
وحسين بن غنام رحمه الله، ممن رصد ذلك بتاريخه، وقد عاصرهما سويا، وتوفي بعدهما بزمن في عام 1225 هـ. ولم يذكر من ذلك شيئا، رغم أنه ذكر كثيرا من أسماء المخالفين للشيخ محمد في دعوته، كما أنه لم يذكر: المشايخ أحمد بن محمد التويجري، وأحمد بن عثمان الشبانة، ومحمد بن عثمان بن شبانة. وهم ممن بينهم وبين الشيخ سليمان مكاتبات حول الدعوة، وكانوا متوقفين في البداية، حتى عرفوا صدقها وسلامة ما يدعو إليه الشيخ محمد فأيدوها، كما يتضح من رسائلهم المتبادلة. وسوف نورد نموذجها في حدود ما تنجلي به الشبهة. ولا غيرهم من علماء نجد في مدنها العديدة، ممن توقف حتى يتحقق أمامهم صدق الدعوة. وهذا ليس بغريب، بل إن كثيرا من صحابة(60/265)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأخروا في الاستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم، وعادوه وآذوه، فصبر حتى أظهر الله الأمر، وفتح مكة، فانساقوا للدعوة جماعات كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (2) .
8 - ومن جانب أخر فإن كلمة الوهابية، في وضعها اللغوي الصحيح تكون نسبة لوالدهما عبد الوهاب سويا، ولا يمكن أن يكون لسليمان الابتداع في إطلاق هذا المسمى على دعوة أخيه، لأنه يعرف دلالة اللغة العربية، كما لم يعرف أن والدهما عبد الوهاب، قد اكتسب اسم هذه النسبة، ومن جهة أخرى، فإنه لم يرد على والده، وهو يدرك أن النسبة خطأ، لأنها من نسبة الشيء إلى غير أصله، فلا يمكن أن نقول للمكي إنه شامي، ولا للمصري إنه عراقي، ولا للهندي إنه مغربي، وهكذا.
وإن أطلقت الوهابية تجوزا فإن محمدا وسليمان مشتركان فيها، الراد والمردود عليه، وهذا مما لا ينطلي على الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، إن كان هو صاحب الرد حقيقة، أما إذا كان الرد مدسوسا عليه، وهذا هو الأرجح عندي، فإن جهالة المفتري تجعله يقع في مزالق أبلغ من ذلك.
9 - وقلنا في القرينة الرابعة ما يدل على أن كل من كتب عن الشيخ، كان لسبب دفع إليه، وهدف قصده هو أو وجه نحوه، لتحقيق
__________
(1) سورة النصر الآية 1
(2) سورة النصر الآية 2(60/266)
غاية مقصودة حول هده الدعوة، إذ يرى أصحاب هذا الاتجاه: أن من أهم ما يجب إبرازه، معارضة المحيطين بالشيخ من أهل نجد، ففي العراق، وفي الشام، وفي مصر وفي غيرها تلقف الناس، أقوال أشخاص ناوءوا الدعوة، كما يظهر من الردود: عند ابن جرجيس، وابن حداد العلوي وغيرهما. بل نموذج ذلك مربد التميمي الذي ذهب من نجد لليمن عام 1170هـ، ثم رجع إلى مكة، وصادف قبولا عند المتخوفين من الدعوة بعد سماع أخبارها، فوضع في وظيفة محدث في الحرم المكي. وقال عنه الشيخ عبد الله بن بسام: والقصد أن هذا الرجل وأمثاله ممن ناوءوا الدعوة الإصلاحية، هم الذين شوهوا سمعتها وألصقوا بها الأكاذيب، وزوروا عليها الدعاية الباطلة، حتى اغتر بهم من لا يعرف حقيقتها، ولا يخبر حالها، فرميت بالعداء عن قوس واحد، إما من الحاسدين الحاقدين، وإما من المغرورين المخدوعين، وإما من أعداء الإصلاح والدين، حتى غزتها الجيوش العثمانية في عقر دارها، فأوقفت سيرها، وشلت نشاطها، بالقضاء على دعاتها، وإبادة القائمين عليها من ملوك الحكومة السعودية الأولى، ورجال العلم من أبناء الشيخ محمد وأحفاده (1) .
أ- ومن هؤلاء المناوئين سليمان بن محمد بن سحيم، الذي جاء ذكره في كثير من رسائل الشيخ، بأنه يكتب للأقطار في النيل من الشيخ محمد، ومهاجمة دعوته، ويصور للناس في رسائله أشياء لم
__________
(1) انظر كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) 6 \ 419.(60/267)
تقع من الشيخ، بل ليس لها أصل، وقد كان من علماء الرياض، وعند قرب سقوط الرياض في يد الدولة السعودية الأولى، وتتالي هزائم دواس ثم ابنه دهام بن دواس، غادر المذكور للأحساء ثم الزبير بالعراق، وقد توفي هناك سنة 1181هـ وفيها أولاده (1) . ولم نعلم له كتابا في الرد على الشيخ، وإنما يحرك بالكلام وبالرسائل لأنه ممن يحضر الموالد.
ب- ومنهم محمد بن عبد الله بن فيروز النجدي أصلا، الأحسائي مولدا، كان من العلماء، وجاء ذكره في رسائل الشيخ، وقد اهتم به والي البصرة العثماني: عبد الله أغا، لما انتقل إليها وسكنها حيث بقي بها حتى آخر حياته عام (1216هـ) (2) .
وقد وجد فيه والي البصرة، ما يعينه على تحريض السلطان العثماني محمود، على القضاء على هذه الدعوة على الشيخ ومن يناصره من آل سعود، وقد أيده في هذا المسلك بعض تلاميذه ما عدا الشيخ: محمد بن حسن بن رشيد العفالقي الذي توقف في البداية وهاجر للمدينة، فعرف بعد ذلك حقيقة الدعوة، وصار يدعو لها، كما هي حال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ورفقائه الثلاثة الذين مر ذكرهم.
ولما دخل الإمام سعود بن عبد العزيز المدينة أكرم الشيخ محمد
__________
(1) تراجع ترجمته في المصدر السابق 2 \ 381، 382.
(2) تراجع ترجمته في المصدر السابق 6 \ 236- 245.(60/268)
العفالقي كعادته في إكرام العلماء، وجعله على قضاء المدينة، وقد ظهرت جهوده في تعريف الناس بهذه الدعوة، وخاصة في مصر بعد أن سكنها، فأحبه الناس هناك، حيث ظهر دوره الكبير في تعريف الناس بالسلفية في مصر، وقد توفي بالقاهرة عام (1257) (1) .
جـ- ومنهم عبد الله بن عيسى المويسي، قاضي حرمة الذي جاء ذكره في رسائل الشيخ كثيرا، وحذر الشيخ محمد الناس منه، وبين أعماله، وقد توفي ببلده عام (1175هـ) قبل انتشار الدعوة، واتساع دائرتها في الجزيرة العربية (2) .
د- ومنهم عثمان بن منصور، الذي درس في العراق، ومن أشهر مشايخه داود بن جرجيس، ومحمد بن سلوم وهما من أشد خصوم الدعوة. وبين ابن جرجيس وعلماء نجد، ردود ومنافرات حول هذه الدعوة. وقد قال ابن بسام في ترجمة عثمان بن منصور: والمترجم له متردد في اتجاهه العقدي، فمرة يوالي الدعوة السلفية وينتسب إليها، وأخرى يبتعد عنها، ويوالي أعداءها، وذلك لما وصل داود بن جرجيس نجدا، أخذ يقرر استحباب التوسل بالصالحين من الأموات، والاستعانة بهم ونحو ذلك مما يخالف صافي العقيدة، ناصره عثمان بن منصور وصار يثني عليه، ويمدح طريقته، وقرظ كتابه، وأثنى عليه ونهجه بقصيدة بلغت ستة
__________
(1) تراجع ترجمته في (مشاهير علماء نجد وغيرهم) لعبد الرحمن آل الشيخ ص 228، ويسميه أحمد.
(2) تراجع ترجمته في (مشاهير علماء نجد خلال ثمانية قرون) لابن بسام 4 \ 364-369.(60/269)
وثلاثين (36) بيتا، وقد رد عليه جماعة من علماء نجد بقصائد مماثلة بالوزن والقافية، زاد عددهم عن سبعة. وكان قاضيا لسدير، توفي هناك عام (1284هـ) .
- كما أن منهم إبراهيم بن يوسف: الذي تعلم في دمشق وسكنها، وهو من أشيقر، وكان له حلقة في الجامع الأموي، وقتل في ظروف غامضة هناك عام (1187هـ) ، وقال ابن بسام بالطاعون عام (1205هـ) (1) .
- وغيرهم كثير ممن جاءت أسماؤهم في ردود الشيخ محمد وتلاميذه، ولكن لم يتضح لنا فيها ما يشير إلى تمادي الشيخ: سليمان بن عبد الوهاب في معاداته للدعوة، ولا إشارة لرد حصل منه على الشيخ، مما يدل على أن الرد المزعوم، المسمى بعنوان: (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ، وما تبعه من ردود افتريت على الشيخ سليمان، بقصد تقوية حجة من وراء ذلك العمل. بصعود على سلم يريدونه أقرب طريق يوصلهم لغاياتهم، ولكي يحتجوا بالشيخ سليمان في تقوية شبهاتهم، وتعزيز باطلهم.
خاصة وأننا نلمس تجدد هذا العمل، وإبراز مثل هذه الردود، التي تتجدد وتتلون مع كل مؤثر سياسي، وأطماع يراد بها زعزعة الأوضاع،
__________
(1) تراجع ترجمته في (مشاهير علماء نجد خلال ثمانية قرون) لابن بسام 1 \ 264- 267.(60/270)
وبلبلة العقول، ولراغب الفائدة العودة إلى مجلة المنار لمحمد رشيد رضا. وصحف أهل الحديث، وأخبار محمدي، وزميندار بالهند وغيرها.
فقد صاحب قيام الملك عبد العزيز - رحمه الله- بتوحيد المملكة، أشياء كثيرة، من هذا النوع، لا تقل عما حصل أيام الدولة السعودية الأولى. بتكرار الأكاذيب السابقة. وبزيادات يقصد منها الحماسة ضد الملك عبد العزيز - رحمه الله- بعدما دخل مكة عام (1343هـ) ، حتى بلغ من شدة العداء استعداء الدول الأجنبية ضده رحمه الله.
ولما كان صدى هذه الدعوة، في دورها الأول، قد تعدى محيطها المحدود، بعدما بدأت في التوسع من الجهات الأربع، ودخلت العراق والشام، مما خوف الخلافة العثمانية، وتناقلت صحف الغرب الحديث عنها، وجند من يستقصي أخبارها، فجاءت كتابات مؤيدة، من مفكري ومستشرقي الغرب في فرنسا وألمانيا، وبلجيكا وسويسرا، وهولندا وغيرها.(60/271)
الغاية تبرر الوسيلة:
وبعد دراسة أصحاب المصالح، والمستعمرين لكثير من ديار المسلمين ذلك الوقت، من دول الغرب، لما ينجم عليهم من خسارة عندما تنتشر هذه الدعوة التي هي صحوة إسلامية، ودعوة للسير على المنهج الأول وتعاليمه.
خاصة وأن الحجاج الذين أعجبوا بها، قد بدءوا ينقلونها لبلادهم، وينشرون الطريقة المثالية في الدعوة، لتجديد ما اندثر من تعاليم الإسلام، ومحاربة البدع والأضاليل المنسوبة للإسلام.(60/271)
شعر أولئك بهذا المد الجديد، الذي سيقضى على مصالح المستعمرين والمنتفعين، من جراء تلقي العامة، وفهمهم تعاليم الإسلام الصافية النقية الخالية من البدع والمحدثات، لأنها وفق ما جاء في كتاب الله، أو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أيده الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
ورأوا أن تسمية هذه الدعوة، التي ساندها الأئمة من آل سعود، وتوسعت دائرة انتشارها حتى أصبحت قوية، بعد أن بدأ نجمها يسطع سريعا باسم: المحمدية، تقوية لها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بها من عند ربه اسمه محمد، وهذا يزيدها تمكينا عند المسلمين. أو باسم الدعوة الجديدة فهذا لا يحقق الغرض المقصود في استثارة العامة والجهال، وهم الدهماء في المجتمع الإسلامي، ولا يحققان تأليب العداء عليها، وعلى القائمين عليها.
وخوفا من أن يؤثر رأي الدارسين المنصفين في بلاد الإسلام أو بلاد الغرب. فقد تفتقت الحيلة على إيجاد رأي معاكس يخدم الغرض، ويؤلب على هذه الدعوة ورجالها، فقالوا عن الشيخ وعن أتباعه أنهم خوارج، وأنهم قرامطة، وأن مذهبهم خاص أو خامس، وأنهم جاءوا بدين جديد، وأنهم يكفرون غيرهم، فكانت هذه الأقوال متضاربة ومتباينة.
فوجدوا بغيتهم في اسم الوهابية، لما فيه من إثارة وشمولية، مقرونة بالفتاوى القديمة الصادرة عن هذه الملة في الأندلس وشمال أفريقيا، منذ القرن الثاني الهجري.
وأن في اسم سليمان بن عبد الوهاب ومخالفته لأخيه محمد في(60/272)
دعوته، ما يعزز ذلك علاوة على المبرر القوي الذي يضفي الشرعية على ما وصفوا الدعوة به، لوجود الفتاوى التي تبرز للعامة، فيتلقفها أصحاب المصالح والأهداف التي تخدم ما في نفوسهم.
يدعم ذلك الأكاذيب التي ألصقت بالشيخ محمد ورجال الدعوة معه، حيث تكونت الأرضية المناسبة لهذا العمل المناوئ للدعوة.
وعندما تجمعت هذه المبررات أمامهم، ووجدوا طريقا ممهدا لتحريك الجيوش، وتشجيع المرتزقة والمتحمسين ضد الوهابية القديمة، جردت الحملات لمحاربة الخوارج كما يزعمون، الذين وصفوهم بالكفار الوهابية.
ووفق هذه التسمية، حيث نفضوا الغبار عن ذلك اللقب الكامن في سجلات التاريخ، فقد وجدوا في اسم سليمان الأخ الشقيق للشيخ محمد مكسبا يعزز مطلبهم، ولكي يقوى هذا السلاح في أيديهم، جاءت فكرة التأليف باسمه، ردا كتابيا يوزع في البلاد التي أشيعت فيها الردود على الشيخ محمد، ليكون في رد سليمان ركيزة قوية في تهيئة النفوس للاستجابة لما هدفوا إليه.
فبدأ إرهاق الناس بالضرائب- كما يقول الجبرتي في تاريخه: (عجائب الآثار) - وإجبار الناس على الإنفاق والبذل، والإغداق على بعض قبائل الجزيرة لتسهيل المهمة، مع إغرائهم بالذهب والفضة، حتى أن أهل مصر صار تعاملهم (بالنيكل) . إلى جانب الأموال السرية من الغرب، والمستشارين في حملته منهم، لتقوية إبراهيم باشا حتى يحقق مآربهم في القضاء على هذه الدولة الجديدة.(60/273)
كل هذا مع تذكية العداوة بالحماسة للقتال بالنفس، لمن لا يقدر على الإنفاق، والجبرتي رحمه الله ممن عاصر الأحداث، حتى قيل إن إبراهيم باشا أوعز بقتله عام (1238هـ) رحمه الله، لما ثبت له من آرائه حول الدعوة السلفية في نجد، المصاحبة لقيام الدولة السعودية الأولى. فقد استنكر رحمه الله الحملة، واستنكر تكبر إبراهيم باشا وتعاظمه على العلماء، الذين جاءوا للسلام عليه بعد عودته من حملته على الدرعية، واستهجانه تسميتهم لأهل نجد بالكفار، نموذج ذلك ما ذكره عن حوادث عام (1235 هـ) ، وخاصة في شهر صفر (1) .
- هذا الأسلوب الذي عملوه في استغلال اسم الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، والأكاذيب عليه، وعلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب له نظائر في أعمالهم ضد الدعوة الإصلاحية وحماتها، نورد منها اثنين فقط.
الأول: ما تزعمته صحيفة (المقطم) ضد الملك عبد العزيز رحمه الله، من أنه مصاب بمرض السل، ومن أمور أخرى فندها صاحب مجلة المنار، ورد أكاذيبهم، ومنها ما قالوه عن تمرد البادية ورجوع البلاد للفوضى، والدعوة إلى توقف المسلمين عن الحج.
الثاني: همفر الذي قيل عنه بأنه جاسوس بريطاني له علاقة بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما جاء في المذكرات التي سميت باسم: مذكرات همفر.
ومقصد الأول: خدمة من دفع له، ليدافع باسمهم وعن مآربهم.
__________
(1) يراجع الجزء الرابع من (عجائب الآثار) للجبرتي، حوادث عام 1235هـ.(60/274)
وإضعاف مكانة الملك عبد العزيز.
وهدف الثاني: التنفير من دعوة الشيخ محمد لعلاقتها بالنصارى، وخدمة الكفار وأنها ضد الإسلام. والمتابعون لهذه الأمور والمحققون، لم يجدوا لذلك أصلا، ولم يسمعوا باسم (همفر) هذا من قبل.
- بل إن الوتري المولود في عام (1261هـ) بالمدينة، في محاكمته السلفية الوهابية بالمغرب، في تساؤلاته، قد رد عليه الأستاذ: أحمد الغماري، الذي حقق رسالته هذه، ومما قال: لماذا يتحيز للسلطان التركي، وللوالي محمد علي ضد محمد بن عبد الوهاب، فهل هو تزمت شديد للطرقية على حساب السلفية، أو توجد خلفيات أخرى وراء التحامل؟ (1) .
- ولذا فلا نستبعد أن يخرج في يوم من الأيام كتاب للشيخ عبد الوهاب يرد فيه على ابنه محمد، وفقا لما أخرجوا لابنه سليمان، وما جاء في مذكرات (همفر) الجاسوس البريطاني، والكذب لا حدود له.
__________
(1) انظر ص 4 من مجلة الآداب بفاس شعبة التاريخ (1406هـ) ، ويقع التحقيق في (46) صفحة.(60/275)
من وسائل الدفاع عنه:
- وإن مما يدافع عن الشيخ: سليمان بن عبد الوهاب، وما نسب إليه من أمور ضد أخيه، وضد الدعوة الإصلاحية، التي قام بها دعوة وتبليغا، بمؤازرة الإمام محمد بن سعود - رحم الله الجميع- ما كتبه بيده، وضمن رسائله التي وقع نظرنا على اثنتين: واحدة من الشيخ سليمان، والثانية جوابية إليه، وهي كما يلي:(60/275)
أولا: أورد الشيخ فوزان السابق في كتابه: (البيان والإشهار) الطبعة الثانية عام (1413هـ) ، وهي نسخة مصورة عن الطبعة الأولى عام (1372هـ) ، أن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، أعلن عن خطئه، وأظهر توبته عما سلف، وكتب في ذلك رسالة هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان بن عبد الوهاب إلى الإخوان: أحمد بن محمد التويجري، وأحمد ومحمد أبناء عثمان بن شبانة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم، من معرفة دينه، ومعرفة ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا من العمى، وأنقذنا من الضلالة، وأذكركم بعدما جئتمونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه، وابتهاجكم وثنائكم على الله تعالى، الذي أنقذكم، وهذا دأبكم في سائر مجالسكم عندنا، وكل من جاءنا من المجمعة، يثني عليكم، والحمد لله على ذلك. وكتبت لكم بعد ذلك كتابين، غير هذا، أذكركم وأعظكم، ولكن يا إخواني معلومكم ما جرى منا، من مخالفة الحق، واتباعنا سبيل الشيطان، ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبيل الهدى.
واليوم معلومكم: لم يبق من أعمارنا إلا اليسير، والأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والمأمول منا: أن نقوم لله، ونفعل(60/276)
مع الهدى، أكثر مما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده، لا شريك له، لا لما سواه، لعل الله سبحانه، يمحو عنا سيئات ما مضى، وسيئات ما بقي، ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله، وما يكفر من الذنوب، وأن الجهاد باليد والقلب واللسان والمال، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلا واحدا.
والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق، وأن تبينوا للناس الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحا بينا، بما كنتم عليه سابقا، من الغي والضلال.
فيا إخواني الله الله، فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات، وعدنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك، لما كان بكثير منا، وأنتم رؤساء الدين والدنيا في مكانكم أعز من الشيوخ، والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا الله على ذلك، ولا تتعللوا بشيء من الموانع.
إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر، كما حكى الله تعالى عن العبد الصالح في وصيته لابنه.
فلا أحق من أن تحبوا لله وتبغضوا لله، وتوالوا لله، وتعادوا لله، وترى يعرض للإنسان في هذا أمور شيطانية، وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين، وربما يلقي الشيطان: أن هذا ما هو صادق وأن له ملحوظا دنيويا، وهذا(60/277)
أمر ما يطلع عليه إلا الله تعالى، فإذا أظهر أحد الخير فاقبلوا منه ووالوه وإذا ظهر من أحد شر وإدبار فعادوه واكرهوه، ولو أنه أحب حبيب.
وجامع الأمر في هذا: أن الله خلقنا لعبادته، وحده لا شريك له، ومن رحمته بعث لنا رسولا يأمرنا بما خلقنا له، ويبين لنا طريقته، وأعظم ما نهانا عنه: الشرك بالله، وأمرنا بعداوة أهله وبغضهم، وتبيين الحق، وتبيين الباطل، فمن التزم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أخوك، ولو هو أبغض بغيض، ومن تنكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك، ولو هو ولدك أو أخوك، وهذا شيء أذكركموه مع أني بحمد الله أعلم أنكم تعلمون ما ذكرت لكم، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل، الذي لا يبقى معه لبس، وأن تذكروا دائما في مجالسكم ما جرى منا ومنكم، وأن تقوموا للحق ومع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل، فلا أحق من ذلك، ولا لكم عذر؛ لأن اليوم الدين والدنيا مجتمعة، ولله الحمد في ذلك.
فتذكروا ما أنتم فيه أولا، في أمور الدنيا، من الخوف والأذى، واعتداء الظلمة والفسقة عليكم، ثم رفع الله ذلك كله بالدين، وجعلكم السادة والقادة، ثم أيضا ما من الله به عليكم من الدين. انظروا إلى مسألة واحدة، فمما نحن فيه من الجهالة، كون البدو تجري عليهم أحكام الإسلام، مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة، وأكثرهم متكلمون بالإسلام،(60/278)
ومنهم من أتى بأركانه.
ومع معرفتنا أن من كذب بحرف من القرآن، كفر ولو كان عابدا، وأن من استهزأ بالدين، أو بشيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكما مجمعا عليه، فهو كافر، إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات، وهذا كله مجتمع في البدو وأزيد، ونجري عليهم أحكام الإسلام، اتباعا لتقليد من قبلنا بلا برهان.
فيا إخواني تأملوا وتذكروا في هذا الأصل لديكم على ما هو أكثر من ذلك، وما أكثرت عليكم الكلام إلا لوثوقي بكم: أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون، ونصيحتي لكم ولنفسي.
والعمدة في هذا: أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله أن يعيذكم من أنفسكم، وسيئات أعمالكم، وأن يهديكم إلى صراطه المستقيم، الذي كان عليه رسله وأنبياؤه، وعباده الصالحون، وأن يعيذكم من مضلات الفتن، فالحق وضح وابلولج وماذا بعد الحق إلا الضلال.
فالله الله ترى الناس اللي في جهاتكم، تبع لكم في الخير والشر، فإن فعلتوا ما ذكرت لكم، ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر، فصرتوا كالأعلام، هداة للحيران.
فالله سبحانه وتعالى، هو المسئول أن يهدينا وإياكم سبل السلام. والشيخ وعياله، وعيالنا طيبين ولله الحمد، ويسلمون عليكم، والسلام، وصلى الله على محمد وأله وصحبه وسلم،(60/279)
اللهم اغفر لكاتبه ولوالديه ولذريته، ولمن نظر فيه، فدعا له بالمغفرة، والمسلمين والمسلمات أجمعين (1) .
ثانيا - وقد ذكر الشيخ فوزان السابق، قبل إيراده هذه الرسالة، وذلك في رده لكشف زيغ الملحد الحاج مختار، وهو موضوع الكتاب حجة أولئك الخصوم، وتعلقهم بالشيخ سليمان بن عبد الوهاب، ورده على أخيه محمد، ذلك الرد الذي يزكيهم، ويقوي شبهتهم، ونحن في هذا ننفيه، فيقول الشيخ فوزان: وأما قول المعترض: وممن تصدى للرد على محمد المذكور ومناظرته أخوه سليمان. ثم قال: وأقول: إنه لا دخل لقريب ولا بعيد في الهداية إلى الدين، وإن أنكر سليمان على أخيه ورد عليه وناظره (2) ، فلا يلزم من ذلك كون سليمان على الحق، وكون أخيه محمد على الباطل، وفي الأنبياء عبرة بنوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فقد هدى الله سليمان إلى الحق، فرجع عن غيه وأعلن خطأه، وأظهر توبته عما سلف، وكتب في هذا رسالة هذا نصها (3) ، ثم أورد الرسالة السابقة.
- كما حرص الشيخ فوزان في رده على الملحد الحاج مختار بن الحاج أحمد باشا، المؤيد العظمى، من أهل الشام برسالته المسماة: (جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام) التي وصلت إليه في
__________
(1) انظر: (البيان والإشهار) لفوزان السابق، ص 74- 76.
(2) لم نجد ما يدل على أنه ناظر أخاه الشيخ محمدا.
(3) المصدر السابق، ص 73.(60/280)
مصر عام (1331هـ) أن يتابع مثل هذه الأشياء، وشبهاتهم في ردودهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وكانت من بين الشبهات علاوة على رد سليمان على أخيه المنوه عنه، قوله عن الشيخ محمد: بأنه كان يميل لمطالعة أخبار من ادعوا النبوة، ويكتم هذا الفكر في نفسه.
وقوله: وكان والده يتفرس في ابنه هذا- يعني الشيخ محمدا - الشقاوة. قال الشيخ فوزان: فهذه دعوى كاذبة باطلة مرذولة، تحكي دين وأمانة من اخترعها، فإن الشيخ عبد الوهاب رحمه الله قد أثنى على ولده محمد ثناء جميلا بقوله فيه: لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام، وقد كتب الشيخ عبد الوهاب رسالة إلى بعض إخوانه، نوه فيها بشأن ابنه محمد، وما هو بحائز عليه من الفهم، والحفظ والإتقان الذي يعد فيه آية من آيات الله، قال: وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكماله اثنتي عشرة سنة، فرأيته أهلا للإمامة في الصلاة بالجماعة، فقدمته لمعرفته بالأحكام. . . إلى آخر ما ذكره (1) .
ثالثا - وقد أورد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (1225 - 1293هـ) ، هذه الرسالة من الشيخ سليمان إلى المشايخ الثلاثة في المجمعة، في كتابه: (مصباح الظلام) وقال عنها: وقد رأيت له- يعني سليمان - رسالة يعترض فيها على الشيخ محمد، وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم والصناعة، مزجي
__________
(1) المصدر السابق، ص 56.(60/281)
التحصيل والبضاعة، لا يدري ما طحاها، ولا يحسن الاستدلال بذلك وسواها (1) . إلى أخر ما ذكر.
وكأنه بذلك يستنكر نسبتها إليه؛ لأن سليمان عالم، ورسالته السابقة، تدل على مستواه وقدرته العلمية، وفهمه لكيفية الاستدلال، فقد قال بعد ذلك: هذا وقد من الله وقت تسويد هذا، بالوقوف على رسالة لسليمان، فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول، وأنه قد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلالات والطغيان، ثم أورد نص الرسالة السابقة (2) ، ولا استبعد أن تكون الرسالة التي انتقدها الشيخ عبد اللطيف مكذوبة على الشيخ سليمان.
وقد أوردنا عن ابن بشر في حوادث عام (1190هـ) أن سليمان بن عبد الوهاب قدم إلى الدرعية مع وفد من أهل الزلفي وأهل منيخ على الشيخ محمد في الدرعية، وأن الشيخ قد استقدمه، وأسكنه هو وأهله في الدرعية، وقام بما ينوبه، ويعتازه من النفقة حتى توفاه الله سبحانه (3) .
ومن هذه اfلرسالة، وما ذكرنا حولها، نستنتج أمورا دلت عليها القرائن المستمدة من هذه الرسالة المفيدة، والتي كان من الممكن أن تكون أوضح دلالة، لو حفلت بتاريخ
__________
(1) انظر: هامش (عنوان المجد في تاريخ نجد) لابن بشر 1 \ 71.
(2) انظر: أيضا هامش (عنوان المجد في تاريخ نجد) لابن بشر 1 \ 71.
(3) انظر: (عنوان المجد في تاريخ نجد) لابن بشر 1 \ 128.(60/282)
التحرير، ولا شك أن الرسالة وكذا الرد أو على الأصح الرسائل التي بعث للمشايخ الثلاثة في المجمعة، ومن ثم ردودهم عليه، والتي ذكر في هذه الرسالة: أن هناك رسالتين سبقتا منه إليهم بعث هذه الرسالة، وقد يكون تلاها غيرهما؛ لأن الرابطة بينهم كانت وثيقة.
ولعل إسقاط التأريخ من الناقلين نسخا، لعدم اهتمامهم به، وإلا فهو عند الباحثين يعني قرائن ومقارنات بأحداث ووقائع (1) . كل ذلك لو توفر الاطلاع عليه لفتح أفقا أوسع في تجلية الأمر.
__________
(1) ينظر أيضا: مصباح الظلام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ص 104- 108. بإشراف سعد بن عتيق.(60/283)
تكملة قرائن النفي:
مع هذا فإننا نستنتج من هذه الرسالة ما يلي: زيادة على ما ذكرناه سابقا من شواهد على تزكية الشيخ سليمان ونفي ما نسب إليه.
10 - أن أسلوب الشيخ سليمان في هذه الرسالة، يميل إلى اللغة العامية في نجد، وهي اللهجة التي حرص الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يخاطب بها الناس، لأنها أقرب للفهم، وأدعى للإدراك، فهي عربية في النطق، ودارجة في التحدث باللسان. وأسلوبه هذا يخالف الرسائل المنسوبة إليه.
11 - أن الذي يقرأ رسالة الشيخ سليمان، كأنه يقرأ رسائل الشيخ محمد؛ لأن هذا هو السائد في البيئة، وقد يكون الشيخ سليمان،(60/283)
ممن يساعد أخاه محمدا في تحرير بعض الرسائل، أو لعله تأثر به، بحكم المخالطة ودوام العشرة خاصة وأنه قد ارتبط به منذ عام (1190هـ) في الدرعية، فلا بد أنه يحضر مجالسه.
12 - كانت عودة الشيخ سليمان عن مخالفة أخيه مبكرة، وقبل أن يتسع محيط الدعوة، بدليل استجابة بعض العلماء منهم الشيخ العفالقي الذي نزل المدينة المنورة، واستجابة علماء المجمعة الثلاثة الذي كاتبهم الشيخ سليمان، لما بينهم وبينه من رابطة سابقة، وأنهم مثله كانوا نافرين من الدعوة في بداية أمرها، وهذا غير مستغرب في أي دعوة، بأن الناس لا يستجيبون دفعة واحدة، إلا بعد رؤية وجلاء للأمور، عن سلامة الداعي وصدقه، وصحة المدعو إليه وعدم تعارضه مع نص شرعي. والمجمعة وحرمة والزلفى، وما حولها من مناطق سدير ومنيخ، وأهل اليمامة في الخرج، كلهم لم يفدوا على الشيخ في الدرعية إلا ما بين سنتي 1190- 1192هـ. والأولى هي السنة التي وفد فيها سليمان مع أهل الزلفي على أخيه بعدما استدعاه في الدرعية (1) كما ذكر ابن بشر، كما أن أهل القصيم لم ينقادوا إلا عام (1189هـ) (2) .
13 - أن المشايخ الثلاثة الذين كاتبهم الشيخ سليمان وهم من
__________
(1) يراجع تاريخ ابن بشر (عنوان المجد) ج 1 حوادث عامي (1190- 1191هـ) 1 \ 128، 129.
(2) يراجع تاريخ ابن بشر (عنوان المجد) ج 1 حوادث عام (1189 هـ) 1 \ 127.(60/284)
المجمعة، ذكروا في رسالتهم الجوابية للشيخ سليمان، والتي ستأتي بنصها فيما بعد: أنهم كانوا في جهل، وقاموا مع أهل الشرك ثلاثين عاما.
ولذا فإن من المحتمل أن الشيخ محمدا، لم يدعهم إلا بعدما استقر في الدرعية، واستجابت الرياض بعد هروب دهام بن دواس منها عام (1187هـ) ، وتكون الاستجابة متقاربة مع وفود الشيخ سليمان على أخيه في الدرعية، أو بعده بقليل، خاصة وأن سليمان في تلك الفترة عندهم في سدير.
14 - من يقارن بين أسلوب هذه الرسالة، وتركيباتها اللغوية واللفظية، وبين الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، الذي طبع في القاهرة بتحقيق إبراهيم بن محمد البطاوي: الطبعة الأولى عام 1407هـ، يناير (1987م) ، يرى بونا شاسعا بينهما، مما يوجب وضع علامة استفهام كبيرة من حيث:
- الأسلوب الإنشائي، فهذا الكتاب صياغة حديثة. والرسالة متناسبة مع عصرها.
- الألفاظ والتراكيب بينهما تباعد، كتباعد الزمنين، وما يقوله نقاد الأدب من خصائص كل عصر، وزيادة على ذلك ففكر كاتبها كأنه معنا في هذا الزمن، أي أنها من أسلوب عصر النهضة الحديثة.
- الصواعق الإلهية، جعلت بأنها الطبعة الأولى، بينما العجلاني يرى طباعتها قبل هذا الوقت بزمن، قدره بثمانين عاما.
- عبارة الوهابية، لم تكن معروفة في حياة الشيخ سليمان، بل(60/285)
ولم يعرف أن أحدا في نجد أطلق هذا اللقب على دعوة الشيخ محمد لا من أنصار الدعوة، ولا خصومها.
- لو كان سليمان هو الذي ألفها لتبرأ منها في رسالته هذه، أو أشار إليها كما أشار إلى غيرها، مما يذكر به زملاءه، وما حصل لهم قبل الاستجابة للدعوة.
فهذه بعض القرائن التي تقوي النفي، خاصة وأنها وفصل الخطاب يوزعان مجانا، مما يبرهن على أن وراء ذلك مقصدا لا يختلف مساره الآن عن مسار الأول الذي صاحب الغزو ضد الدرعية.
والثاني: الذي صاحب دخول الملك عبد العزيز رحمه الله، مكة والمدينة، وما يحرك ذلك من عوامل وأهداف، حيث المقصود في ذلك هو الدين نفسه، وإبعاد الناس عن سلامة العقيدة المرتبطة بالله سبحانه، ونفي ما يعبد من دونه جل وعلا، وهذا ما لا يريده المبتدعة ولا أصحاب الأهواء، ولا أعداء الإسلام الذين يحركون في الخفاء.
15 - أن الطريقة المتبعة في منطقة نجد، ذلك الوقت كما قلنا، وما تلاه إلى عهد قريب، أن المخالفة في الرأي أو العقيدة يتم التعبير عنها بالمشافهة، والمناظرة في المجالس، أو بالمراسلة لا(60/286)
بالتأليف، والتأليف لا يتم إلا في نطاق ضيق- لعدم توفر وسائله - فعندما يصلهم كتاب فإنهم يردون عليه فقط بجزئيات قال: وقلنا كما نلمس هذا في رسائل الشيخ، ورسائل من يخالفونه.
والمراسلات تعني رابطة فكرية؛ وصلة علمية، وتناصحا بين المتراسلين.
ولذا كان الشيخ سليمان على صلة ببعض العلماء، كما بان من رسالته هذه مع علماء المجمعة، لتبادل وجهات النظر بالمخالفة، ثم بالموافقة والائتلاف، بعدما فتح الله عليهم.
16 - ولو كانت الهوة بعيدة بين الشيخين الأخوين: محمد وسليمان، ومدة الخلاف طويلة؛ لطال معها الأخذ والرد، خاصة مع الأقران غير هؤلاء الثلاثة الذين راسلهم، ولكان للمخالفين - الذين زاد خلافهم خاصة في بدء الدعوة، واستمروا في مناوأة الشيخ ودعوته - ذكر له عندهم، ولربطوا مع الشيخ سليمان تقاربا وتبادل رسائل؛ لأن هذا مما يقوي مراكزهم ويفرحهم بهذا الخلاف الذي دخل طرفه أخو الشيخ محمد صاحب الدعوة، كخصم له، ولنوهوا على رده هذا، أو ردوده في رسائلهم نصرة لمخالفتهم الشيخ؟!
ولما لم نجد قرينة تؤصل هذا الأمر، قوي الترجيح بأن الخلاف مع الشيخ محمد من جانب أخيه سليمان من باب النفرة، وليس جوهريا، مثل ما يحصل عادة من الزعل والنفرة في البيت الواحد لأي سبب.(60/287)
17 - وهذا مما يقوي احتمال أن التوقف مبدئيا، لا يعتبر خلافا - بمفهومه العام - يوجب مثل هذا الرد، والتباعد بين الأخوين في المنهج والعقيدة التي هي محور الأعمال، ولكن ما تم بينهما - ما هي إلا حيرة تدعو لإجالة الفكر، والتبصر، وتتبع الأمور والمشاورة مع الأقران؛ لأن موافقة العالم لا تتم في الغالب، إلا بعد القناعة، وجلاء الأمور، عن كل شيء يثير التساؤلات حيث تتم بعد ذلك القناعة، ومن هنا ندرك أثر المكاتبات بين الشيخ سليمان، وهؤلاء العلماء الثلاثة، الذين وصل إلينا خبرهم، حيث الجميع يبحثون عن الحقيقة، ويتلمسون الصواب، لينحازوا إليه.
وهذا ما يتبادر من سطور رسائلهم المتبادلة. التي هي نموذج يطرح أمام القارئ، ممثلة من جانب الشيخ سليمان بالرسالة السابقة منه إليهم، ومن جانبهم في ردهم عليه، والتي سنوردها فيما بعد، كما ندرك من هاتين الرسالتين، صدق النوايا، وحسن الاستجابة؛ لأن المقصد الوصول للحقيقة، والمرجع في ذلك كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما درج عليه سلف الأمة؛ لأن: (ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو قبيح) . يقول الشيخ(60/288)
سليمان في رسالته: وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم، من معرفة دينه، ومعرفة ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا من العمى، وأنقذنا من الضلالة.
ثم يذكرهم بعدما جاءوا إلى الدرعية، لمقابلة الشيخ والعلماء بابتهاجهم وثنائهم على الله تعالى، الذي أنقذهم. . . ثم في دأبهم في سائر مجالسهم في الدرعية، وبعد عودتهم إلى المجمعة، حيث يصل الثناء عليهم. ويقولون هم في ردهم على الشيخ سليمان: فنحمد الله الذي فتح علينا، وهدانا لدينه، وعدلنا عن الشرك والضلال، وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة. وبصرنا بالإسلام الصرف، الخالي عن شوائب الشرك، فلقد من الله علينا وعليكم، فله الفضل والمنة، بما نور لنا من اتباع كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يتوب علينا وعليكم، ويزيدنا من الإيمان، فلقد خضنا فيما مضى بالعدول عن الحق، ودحضناه جهلا منا وتقليدا لمن قبلنا، فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق، أكثر مما قمنا مع الباطل.
18 - أن خوض الشيخ سليمان في بداية الأمر، مع من خاض، حول دعوة الشيخ، كان جهلا وتقليدا كغيره، وليس عنادا ومكابرة، ولما تمحص هو ورفاقه الأمور، ودققوا في جوانب ما يدور، وتشاور هو ومن يشاكله مع ذوي العلم، تبين لهم الرشد، وظهرت أمامهم الحقيقة، واستبان لهم الطريق السوي، فحرصوا على السير فيه، والدعوة إليه. وعدم المكابرة والتشدد في المخالفة.(60/289)
19 - ومن قناعة الشيخ سليمان، والعلماء الثلاثة الذين تواصل معهم في الرأي والمشورة، رأيناهم جميعا يخصون الشيخ محمدا رحمه الله. وأولاده وأسرتهم بالسلام، وتبادل المودة. ذلك أن السلام ومشروعيته في الإسلام يعني: الألفة والمحبة، وعدم الضغينة، كما جاء في الحديث الصحيح: «إذا التقى المسلمان وتصافحا تحاتت خطاياهما، كما يتحات ورق الشجر (1) » .
وفي الحديث الآخر توضيح للخيرية بين المسلمين: بأن خيرهما من يبدأ بالسلام.
20 - أن الجميع بعدما اقتنعوا بهذه الدعوة، وسلامة الداعي وصدقه فيما يدعو إليه، وورعه وأمانته العلمية أخذوا من تعاليم الإسلام، أحسن ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو النصح لكل منهم، والدعوة إلى تبيين الحق، وإبانة ما يجب على المسلم نحو نفسه، ونحو إخوانه المسلمين من نبذ الشرك وتحقيق كلمة التوحيد: قولا وعملا، ومراقبته لله في السر والعلن، والدعوة لضال المسلمين بالهداية، وحسن الاستقامة، وتوضيح ما أوجب الله، من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وبعد عما يخالف ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- وفيما يلي نورد واحدة، من رسائل علماء المجمعة الثلاثة، في ردهم على رسالة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب - رحمهم الله جميعا- حسبما أوردها الشيخ فوزان السابق- رحمه الله- في كتابه: (البيان
__________
(1) رواه أبو داود في الأدب 142.(60/290)
والإشهار في الرد على الحاج مختار) حيث يقول:
فأجابوه برسالة، ينبغي أن تذكر هنا، ونصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، من كاتبيه الفقيرين إلى الله: أحمد بن محمد التويجري، وأحمد بن عثمان بن شبانة، وأخيه محمد إلى من من الله علينا وعليه باتباع دينه، واقتفاء هدي محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وأمينه. الأخ سليمان بن عبد الوهاب، زادنا الله وإياه بالتقوى والإيمان، وأعاذنا وإياه من نزغات الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بعد إبلاغ الشيخ وعياله، وعبد الله وإخوانه السلام وبعد: فوصل إلينا نصيحتكم، جعلكم الله من الأئمة الذين يهدون بأمره، الداعين إليه، وإلى دين نبيه صلى الله عليه وسلم. فنحمد الله الذي فتح علينا، وهدانا لدينه، وعدلنا عن الشرك والضلال، وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة، وبصرنا بالإسلام الصرف، الخالي عن شوائب الشرك، فلقد من علينا وعليكم الله، فله الفضل والمنة، بما نور لنا من اتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدلنا عن سبيل من ضل بلا برهان، ونسأله أن يمن علينا وعليكم بالتوبة، ويزيدنا من الإيمان.
فلقد خضنا فيما مضى بالعدول عن الحق ودحضناه، وارتكبنا الباطل ونصرناه، جهلا منا وتقليدا لمن قبلنا، فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق، أكثر مما قمنا مع الباطل، على جهلنا وضلالنا، فالمأمول والمبتغى منا ومنكم وجميع إخواننا: التبيين الكامل الواضح، لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدي بجهلنا، وأن نتمسك بما اتضح وابلولج من نور الإسلام، وما بين الشيخ من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد(60/291)
حاربنا الله ورسوله، واتبعنا سبل الغي والضلال، ودعونا إلى سبيل الشيطان، وتنكبنا كتاب الله تعالى وراء ظهورنا، جهلا منا وعداوة، وجاهدنا في الصد عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعنا كل شيطان، تقليدا وجهلا، فلا حول ولا قوة إلا بالله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) .
فالواجب منا، لما رزقنا الله تعالى معرفة الحق: أن نقوم معه أكثر وأكثر من قيامنا مع الباطل، ونصرح بالتبيين للناس، بأنا كنا على باطل فيما فات، ونقوم له مثنى وفرادى، ونتوكل على الله، عسى أن يتوب علينا، ويعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا سبل السلام، ويجعلنا من الداعين إلى الهدى، لا من الدعاة إلى النار، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو حيث من علينا بهذا الشيخ في آخر هذا الزمان، وجعله بإذنه وفضله هاديا للتائه الحيران، نسأل الله العظيم، أن يمتع به المسلمين، ويعيذه من شر كل حاسد وباغ، ويبارك في أيامه وأن يجعل جنة الفردوس مأواه وإيانا، وأن ينفعنا بما بينه.
- فلقد بين دين نبيه صلى الله عليه وسلم، رغم أنف كل جاحد، وصار علما للحق حين طمس، ومصباحا للهدى حيث درست أعلامه ونكس، وأطفأ الله به الشرك بعد ظهوره، حتى عبدت الأوثان صرفا، بلا رمس، ولما
__________
(1) سورة الأعراف الآية 23
(2) سورة الأنبياء الآية 87(60/292)
من الله عليه برضاه، صار ينادي أيها الناس هلموا إلى دين نبيكم الذي بعث به، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ثم لم ينقموا منه وعليه، إلا أنه يقول: أيها الناس اعبدوا ربكم، وأعطوه حقه الذي خلقكم لأجله، وخلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه.
إن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) ، وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (4) .
وفسر إسلام الوجه بالقصد في العبادة، فإذا دعا غير الله، أو نذر لغير الله، أو استغاث بغير الله، أو توكل على غير الله، أو التجأ إلى غير الله، فهذه عبادة لمن قصد بذلك.
هذا والله الشرك الأكبر، وإنا نشهد بذلك، وقمنا مع أهله ثلاثين سنة، عادينا من أمر بتجريد التوحيد، العداوة البينة، التي ما بعدها عداوة.
فالواجب علينا اليوم: نصر الله ودينه، وكتابه ورسوله، والبراءة من الشرك وأهله، وعداوتهم، وجهادهم، باليد واللسان، لعل الله أن يتوب علينا، ويرحمنا ويستر مخازينا.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة آل عمران الآية 20(60/293)
وأكبر من هذا البدو الذين لا يدينون دين الحق، لا يصفون ولا يزكون ولا يورثون ولا لهم نكاح صحيح، ولا حكم عن الله ورسوله يدينون به صريح، ونقول: هم إخواننا في الإسلام، سبحانك هذا بهتان عظيم، ومكابرة لما جاء به رسول رب العالمين.
فنقول: لا خلاف أن التوحيد، لا بد أن يكون بالقلب، واللسان والعمل، فإن اختل من هذا شيء لم يكن الرجل مسلما.
فإن من عرف التوحيد، ولم يعمل به، فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس، وإن عمل بالتوحيد ظاهرا، وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق، شر من الكافر، أعاذنا الله وإياكم من الخزي يوم تبلى السرائر.
فالواجب علينا، وعلى من نصح نفسه: أن يعمل العمل الذي يحصل به فكاك نفسه، وأن يعبد الله ولا يعبد معه غيره، فالعبادة حق الله على العبيد، ليس لأحد فيها شرك، ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلا عن السفلة والشياطين.
وحق الله علينا، أن نجأر إليه بالليل والنهار، والسر والعلانية، في الخلوات والفلوات عسى أن يتوب علينا، ويعفو عنا ما فات، ويعيذنا من مضلات الفتن، فالحق بحمد الله وضح وابلولج، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. انتهى (1) .
وقد أوردت الرسالتين؛ ليتمعن القارئ ما فيهما من معان
__________
(1) انظر: (البيان والإشهار في الرد على الحاج مختار) لفوزان السابق ص 76-78.(60/294)
وندم، وحمية للدين الحق، ودفاع عنه، وليكون حكمه عن علم ودراية بنفسه لنفسه.
لأن هؤلاء المشايخ كان عندهم ما عند الشيخ سليمان في البداية، من نفور عن الدعوة، تقليدا وجهلا ولم يعرف أو يزور عليهم رد على الشيخ محمد، كما عمل بالنسبة لأخيه سليمان، كما بان صراحة من كلامه وجوب تبيين الحق، أكثر مما قاموا به مع الباطل، كما جاء في الرسالتين، ففي رسالتهم قالوا: (فلقد خضنا فيما مضى بالعدول عن الحق، ودحضناه، وارتكبنا الباطل ونصرناه، جهلا منا وتقليدا لمن قبلنا، فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق، أكثر مما قمنا مع الباطل، على جهلنا وضلالنا، فالمأمول والمبتغى منا ومنكم، وجميع إخواننا: التبيين الكامل الواضح، لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدى بجهلنا) .
ولذا فلو صحت الكتيبات المنسوبة للشيخ سليمان، لبرز منه، ردود تنفي ما سبق منه وكذا رفقاؤه، وفقا لهذا الالتزام منهم، كما أن في رسالته أيضا التزام مماثل.
وهذا من أداء الأمانة، والوفاء بالعهد الذي التزم به، ولكن نأخذ من عدم توفر ذلك النفي، عدم وجود الرد أصلا، فكيف بإيجاد أكثر من رد منسوب للشيخ سليمان ضد أخيه، خاصة وأن عدم وجود الفرع برهان، على عدم وجود الأصل.
ولا يمكن أن يلتزم الشيخ سليمان بالإبانة وينكص، لو كان رد على أخيه، كما أن مشايخ المجمعة لما بينهم وبينه، لو علموا له ردا في(60/295)
كتاب أو كتب مستقلة لتابعوه، ليرد بالنفي، ولكنهم اكتفوا بالإبانة منه ومنهم، بهذه المراسلة التي تنفي الماضي، والتوبة عن ذلك، والدعوة إلى القيام مع الحق ونصرته، أكثر من القيام مع الباطل، مع وجوب التبيين حتى لا يغتر بأفعالهم الماضية، من يقتدي بجهلهم. وهذا أمر حرصوا عليه، وتواصوا به، وهو برهان على أن الأمر توقف، حتى تتضح الرؤية، وكلمة: (خضنا فيما مضى) دلالة على تتبع الشكوك، والكلام مع المتكلمين، وليست دليلا على التأليف.
- ولم يكن هذا التوقف قاصرا على الشيخ سليمان ورفقائه الثلاثة، كما بينا، وظهر من رسائلهم المتبادلة التي وصل إلينا علمها، لكن الأمر على المستوى العام للمنطقة، فهذا الشاعر حميدان، الذي اعتبره الدكتور: عبد الله الفوزان في كتابه عنه، الذي نعته بالصحفي، رئيس التحرير حميدان، أنه بشعره الذي يقوم مقام الصحافة اليوم، يتحدث عن قيام الإمامين: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود رحمهما الله، بهذه الدعوة، وحماستهما لنشرها والدفاع عنها بثلاث قصائد نسبت إليه.
الأولى: تنكر لها، كما تنكر وتوقف كثيرون.
الثانة: تبرز مرحلة الشك عنده، ويراوح فيها بين الإيجاب، والابتعاد.
الثالثة: تتزامن مع مرحلة استجابة العلماء، ووفودهم على الدرعية، بعد هروب دهام بن دواس، ودخول أهالي الرياض ومعكال والبنية ومقرن وغيرها، مما يدخل حاليا في محيط مدينة الرياض، في مظلة هذه الدعوة.(60/296)
1 - فيقول في قصيدته الأولى ينتقدها وينكرها ويهاجمها:
الدين الدين اللي بين ... بين كالشمس القيضيه (1)
الدين
بعير خرج اربع ... والخامس دين الباضيه
ما همي ذيب في الباطن ... همي ذيب بالدرعيه
قوله حق وفعله باطل ... وسيوفه كتب مطويه
2 - ثم ها هو ينتقل إلى مرحلة الشك في الدعوة فيقول:
شفت جملين في العارض ... زبدها فوق غواربها
حطوا الدين لهم سلم ... ولا أدري وش مآربها (2)
__________
(1) يريد بالقيضية: شمس الصيف التي لا غيوم تغطيها؛ لأنهم يسمون فصل الصيف بالقيض.
(2) وش: كلمة عامية بمعنى ما هي مآربها: أي مقاصدها.(60/297)
ولا ادري وش هي تبغي ... ولا ادري عن مطالبها
إن كان باطنها مثل ظاهرها ... يا ويلك ياللي محاربها
وإن كان ظاهرها مخالف باطنها ... فهي تقرا عقاربها
يعلق الدكتور على هذه الأبيات بقوله: الذي أظنه أن حميدان، لم يستوعب أهداف دعوة الشيخ محمد وحقيقتها عندما وصلته الأخبار الأولى عنها، خاصة أن الأخبار الأولى، في عصر مثل حميدان تكون أحيانا مصحوبة بالأكاذيب والمبالغات، ويرجح هذا ما تعرض له الشيخ في بداية دعوته من إيذاء وإخراج من مقره الأول العيينة، فقد يكون هذا المناخ الذي حصل فيه إخراج الشيخ من العيينة، مماثل في دوافعه وأهدافه للمناخ الذي أوصل الأخبار الأولى لقيام الدعوة لبلدان نجد، أو بعضها على الأقل. وهذا هو الذي جعل حميدان - ربما- ينكر الدعوة إنكارا شديدا، وينظم قصيدته الأولى التي انتقدها فيها وهاجمها، لكنه بعد ذلك - كأمر طبيعي- بدأ يتأمل الأمر، ويتلقى المزيد من الأخبار فتحول من الإنكار الشديد، إلى مرحلة تالية هي الشك، فنظم قصيدته الثانية -(60/298)
وهي التي منها هذه الأبيات- التي تضمنت شكه في مقاصد الدعوة وأهدافها.
ومع مرور الوقت ونتيجة للتأمل المستمر، ووصول الأخبار الصحيحة المتواترة، انتقل إلى المرحلة الأخيرة، التي هي مرحلة الرضا والتسليم، واليقين والتأييد الكامل، فنظم قصيدته الثالثة التي أيد فيها الدعوة، ونصح أفراد المجتمع، باتباع نصائح الإمام الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1) .
3 - وقصيدته الثالثة تبلغ 27 بيتا (2) ، نورد منها، بعض الأبيات، التي تفيد قناعته بدعوة الشيخ محمد رحمه الله وتأييده لها، ودعوته الراغبين في جنة الله التي وعد بها المتقين، فما عليه إلا اتباع ما قاله الشيخ والابتعاد عن غيرها، حيث يقول:
النفس إن جت لمحاسبها ... فالدين خيار مكاسبها
إن كانك للجنة مشتاق ... تبي النعيم بجانبها
فاتبع ما قال الوهيبي ... وغيره بالك تقربها
__________
(1) المصدر السابق، ص 62.
(2) لمن يريد القصيدة المصدر السابق ص 152- 154.(60/299)
- وإيرادنا للمراحل الثلاث التي مرت بالشاعر حميدان، كما ذكر الدكتور عبد الله الفوزان، برهان على أن الكل في المنطقة مروا بمثل هذا الموقف، رغبة في التثبت، والروية حتى تنجلي الحقيقة، والشيخ سليمان بن عبد الوهاب، مر بمرحلة مماثلة لهذه المراحل، ومعه الشيخ ابن عفالق، والمشايخ الثلاثة من المجمعة، كما بان من الرسالتين المتبادلتين بينهم وبين الشيخ سليمان، حيث انجلت الشبهة، وبان الأمر فاستجابوا وندموا على ما فات.
وهذه سنة الله في الأمم مع أنبيائهم، حيث يتوقف أقوام، يستجيب من أراد الله له الخير، بعد زمن قد يطول أو يقصر، ويصر ويعاند من لم يرد الله هدايته.
ولعل أبرز العوامل لاستجابة كثير من المتوقفين أو المحايدين، ما حققته هذه الدعوة من انتصارات، وخاصة على دهام بن دواس حاكم الرياض، حيث عرف هروبه بدون سبب أو سابق إنذار، أو حتى التزود بالماء والطعام للطريق بـ (رجفة دهام بن دواس) . وصار الناس إلى هذا الوقت يدعون بها على خصومهم، وكان ذلك في عام 1187هـ (1) .
وحتى قيل إن من أراد اللحاق به من شيعته لما هرب، لحقوا به على عجل، ولم يكن لديهم من الوقت ما يتأهبون به للسفر، ولا بقليل من الماء، مع أن هروبهم من الرياض، كان في حمارة القيض فماتوا عطشا في شعب من الشعاب شرقي مدينة الرياض، وسمي هذا الشعب بـ: شعيب أبا (2) الناس؛ لأنه صار مقبرة لهم بعدما ماتوا، وقد امتد بنيان الرياض إلى ذلك الشعب.
__________
(1) انظر: (تاريخ ابن بشر) حوادث عام 1187هـ جـ 1 ص 119.
(2) لم تصرف أبا، لأنها على الحكاية، وقد أصبحت علما للشعب المذكور.(60/300)
أحكام السواك
للدكتور: عبد الله بن معتق السهلي (1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى قد بين في كتابه الكريم وبين رسوله صلى الله عليه وسلم في سننه القواعد الصحيحة التي يجب على المسلم أن يسير عليها، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6) .
__________
(1) أستاذ مشارك بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة الحشر الآية 7(60/301)
وقال صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » . وإن من سنته صلى الله عليه وسلم التي أمر بها وحض عليها السواك، فقد بين صلى الله عليه وسلم أنه من خصال الفطرة وأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، وهو من الطهارة الظاهرة. والمسلم كما هو مأمور بالطهارة الباطنة وهي تطهير القلب وإخلاص العبادة لله مأمور بالطهارة الظاهرة، وهي النظافة ودفع الأوساخ والأقذار، ومن ذلك السواك. فأحببت أن أفرد هذه الخصلة ببحث مستقل أبين فيه فضله وأحكامه لعل الله أن ينفع به.
__________
(1) أخرجه البخاري 6 \ 116 في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح من حديث أنس، ومسلم 2 \ 1020 في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.(60/302)
المبحث الأول: في تعريف السواك لغة واصطلاحا:
تعريف السواك في اللغة:
السواك: بكسر السين، ويطلق السواك على الفعل وهو الاستياك، وعلى الآلة التي يستاك بها، ويقال في الآلة أيضا: مسواك بكسر الميم، يقال: ساك فاه يسوكه سوكا، فإن قلت: استاك لم تذكر الفم.
والسواك مذكر، نقله الأزهري عن العرب، قال: وغلط الليث بن المظفر في قوله: أنه مؤنث، وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر، لغتان. قالوا: وجمعه سوك بضم السين والواو ككتاب وكتب، ويخفف بإسكان الواو، وربما همز فقيل سؤاك.(60/302)
والسواك مشتق من ساك الشيء إذا دلكه. وقيل: أنه مشتق من التساوك، يعني التمايل؛ يقال: جاءت الإبل تتساوك، أي تتمايل في مشيتها.
والصحيح: أنه من ساك إذا دلك.
السواك في اصطلاح الفقهاء:
عرف الفقهاء السواك بتعريفات متقاربة:
فعرفه الحنفية: أنه اسم لخشبة معينة للاستياك (1) . وعرفه المالكية: أنه استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب الصفرة والريح (2) . وعرفه الشافعية والحنابلة: أنه استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب التغير ونحوه (3) .
__________
(1) انظر: البحر الرائق 1 \ 21، عمدة القاري 3 \ 184، شرح فتح القدير 1 \ 24.
(2) انظر: مواهب الجليل 1 \ 264، أوجز المسالك إلى موطأ مالك 1 \ 368.
(3) انظر: المجموع 1 \ 270، مغني المحتاج 1 \ 55، المبدع 1 \ 68، كشاف القناع 1 \ 70.(60/303)
المبحث الثاني: في مشروعية السواك وفضله:
الأصل في مشروعية السواك وفضله نصوص كثيرة من السنة، منها:
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك(60/303)
مع كل صلاة (1) » . وفي رواية: «عند كل وضوء (2) » .
- حديث عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك (3) » .
- حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص (5) » .
- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: «أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، فخرج فنظر في السماء، ثم تلا الآية في آل عمران: حتى بلغ. ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم اضطجع، ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا
__________
(1) أخرجه البخاري 1 \ 214 واللفظ له في كتاب الجمعة باب السواك يوم الجمعة، ومسلم 1 \ 220 في كتاب الطهارة باب السواك.
(2) أخرج هذه الرواية البخاري 2 \ 234 في كتاب الصيام باب السواك الرطب واليابس للصائم، ومسلم 1 \ 220 واللفظ له في كتاب الطهارة باب السواك.
(3) أخرجه مسلم 1 \ 220 في كتاب الطهارة باب السواك.
(4) أخرجه البخاري 1 \ 66 واللفظ له في كتاب الوضوء باب السواك، ومسلم 1 \ 220 في كتاب الطهارة باب السواك.
(5) (4) فاه بالسواك
(6) أخرجه مسلم 1 \ 221 في كتاب الطهارة باب السواك.
(7) سورة آل عمران الآية 190 (6) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}(60/304)
هذه الآية، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام فصلى (1) » .
- حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثرت عليكم في السواك (2) » .
- حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: «إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته؛ دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمره. . . (4) » الحديث.
- حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (5) » . فهذه الأحاديث وغيرها تدل على
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191 (7) {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(2) أخرجه البخاري 2 \ 234 في كتاب الجمعة باب السواك يوم الجمعة.
(3) أخرجه البخاري 5 \ 141 - 142 في كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(4) (3)
(5) أخرجه البخاري 2 \ 234 تعليقا بصيغة الجزم في كتاب الصيام باب السواك الرطب واليابس، قال النووي في المجموع 1 \ 268 وتعليقاته بصيغة الجزم صحيحة، وأحمد في المسند 6 \ 47، 62، 124، 238، والنسائي 6 \ 104 في كتاب الطهارة باب الترغيب في السواك، وابن حبان 2 \ 201، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1 \ 105.(60/305)
مشروعية السواك وفضله، ولو لم يرد في السواك إلا أنه مرضاة للرب لكفى، إذ المسلم مأمور بفعل ما يرضي ربه.(60/306)
المبحث الثالث: في أن السواك خصلة من خصال الفطرة:
دل على أن السواك خصلة من خصال الفطرة أحاديث منها:
- حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم (1) ، ونتف
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .(60/306)
الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء (1) » . قال زكريا: " قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة " (2) .
- حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والاستحداد، وغسل البراجم، والانتضاح (5) » . - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما - أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (6) . . .: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس.
__________
(1) أي الاستنجاء. انظر: معالم السنن 1 \ 46، شرح السنة 1 \ 399، شرح صحيح مسلم 3 \ 150.
(2) أخرجه مسلم 1 \ 223 في كتاب الطهارة باب خصال الفطرة.
(3) أخرجه أبو داود في سننه 1 \ 45 - 46 في الطهارة باب السواك من الفطرة، وابن ماجه 1 \ 107 في الطهارة وسننها باب الفطرة واللفظ له، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1 \ 13.
(4) المراد به حلق الشعر الذي حول ذكر الرجل وحوالي فرج المرأة بالموسى. انظر: فتح الباري 10 \ 343. (3)
(5) (4) ، والاختتان
(6) سورة البقرة الآية 124(60/307)
وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كلامه على الفطرة في هذه الأحاديث: المراد أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم؛ ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة (1) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -: الفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه. وفطرة عملية هي هذه الخصال. فالأولى: تزكي الروح، وتطهر القلب. والثانية: تطهر البدن. وكل منهما تمد الأخرى وتقويها (2) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: إن الله جعل شرائع الفطرة على نوعين:
أحدهما: يطهر القلب والروح، وهو الإيمان بالله وتوابعه: من خوفه ورجائه، ومحبته والإنابة إليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (3) {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4)
__________
(1) انظر: تحفة المودود في أحكام المولود ص 161.
(2) انظر: فتح الباري 10 \ 339.
(3) سورة الروم الآية 30
(4) سورة الروم الآية 31(60/308)
فهذه تزكي النفس، وتطهر القلب وتنميه، وتذهب عنه الآفات الرذيلة، وتحليه بالأخلاق الجميلة، وهي كلها ترجع إلى أصول الإيمان وأعمال القلوب.
والثاني: ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته، ودفع الأوساخ والأقذار عنه، وهي هذه العشرة، وهي من محاسن الدين الإسلامي، إذ هي كلها تنظيف للأعضاء، وتكميل لها؛ لتتم صحتها وتكون مستعدة لكل ما يراد منها (1) .
__________
(1) انظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ص 47.(60/309)
المبحث الرابع: في حكم السواك:
أكثر أهل العلم يرون أن السواك سنة وليس بواجب.
وذهب إسحاق وداود وابن حزم إلى أنه واجب (1) .
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (2) » .
__________
(1) انظر: شرح الزرقاني على الموطأ 1 \ 133، الحاوي 1 \ 82، المغني 1 \ 133، المحلى 2 \ 8.
(2) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .(60/309)
وجه الدلالة من الحديث من وجهين:
الوجه الأول: ما ذكره الإمام الشافعي أنه لو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق (1) .
الوجه الثاني: أن في قوله: " لأمرتهم " دليلا على أنه لم يأمرهم به (2) .
2 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء (3) » قال زكريا: " قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة " (4) .
وجه الدلالة من الحديث:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف السواك بأنه من الفطرة، والفطرة من معانيها السنة؛ فيكون السواك مسنونا لا واجبا (5) .
3 - ولأن السواك من النظافة وهي مندوب إليها (6) .
__________
(1) انظر: الأم 1 \ 20.
(2) انظر: الحاوي 1 \ 84.
(3) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(4) تقدم تخريجه.
(5) انظر: المغني 1 \ 134.
(6) انظر: المعونة 1 \ 118.(60/310)
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة الآتية:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (1) » .
وجه الدلالة من الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب لما جاز النفي.
ثانيهما: أنه جعل الأمر مشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان للوجوب، إذ الندب لا مشقة فيه؛ لأنه جائز الترك (2) .
2 - حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (3) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أن في ترك السواك إغضابا للرب تبارك وتعالى أخذا بمفهوم المخالفة، ولا يكون ذلك إلا بترك ما أمر به على سبيل القطع والوجوب، وإلا لما كان غضب الله على ترك تلك السنة.
3 - حديث عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان لا يرقد ليلا ولا نهارا فيستيقظ إلا تسوك (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(2) انظر: شرح الزرقاني على موطأ مالك 1 \ 133، فتح الباري 2 \ 375.
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرجه أبو داود 1 \ 47 في كتاب الطهارة باب السواك لمن قام الليل، وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 1 \ 63.(60/311)
وجه الدلالة من الحديث:
أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للسواك وعدم تركه والمبالغة فيه يدل على الوجوب.
وقد نوقشت هذه الأدلة بما يأتي:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي (1) » . . . أجيب عنه بما ذكره الحافظ ابن حجر: في الحديث دليل على أن الاستدعاء على جهة الندب ليس بأمر حقيقة إلا أن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به (2) .
وما سبق من قول الشافعي أن الحديث فيه دليل على أن السواك ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجبا لأمرهم به، شق عليهم أو لم يشق (3) .
قلت: ففي ذلك دلالة صريحة على أنه لم يأمرهم به.
2 - حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم (4) » . . . أجيب عنه بأنه استدلال بالمفهوم يعارضه الاستدلال بالمنطوق في قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم (5) » . . . . ومعلوم عند الأصوليين أن الاستدلال بالمنطوق مقدم على الاستدلال بالمفهوم (6) .
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(2) انظر: فتح الباري 2 \ 375.
(3) انظر: الأم 1 \ 20.
(4) سنن النسائي الطهارة (5) ، مسند أحمد بن حنبل (6/62) ، سنن الدارمي الطهارة (684) .
(5) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(6) انظر: إرشاد الفحول ص 464.(60/312)
3 - حديث عائشة - رضي الله عنها - «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقد ليلا ولا نهارا (1) » . . . " أجيب عن الاستدلال به، بأنه حديث ضعيف، ضعفه الحافظ ابن حجر (2) .
والراجح: أن السواك سنة مؤكدة وليس بواجب، لحث النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليه وترغيبه فيه وتسميته من خصال الفطرة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/121) .
(2) انظر: تلخيص الحبير 1 \ 63.(60/313)
المبحث الخامس: في أوقات تأكد السواك:
تبين فيما سبق في المبحث الرابع أن السواك سنة مؤكدة، حث النبي صلى الله عليه وسلم عليها بقوله وفعله وواظب عليها.
وفي هذا المبحث أبين الأوقات التي يتأكد فيها استحبابه:
اتفقت مصادر الفقهاء على تأكد استحباب السواك في حالات، وانفرد بعضهم بذكر حالات لم يذكرها غيرهم. وسأذكر أوقات تأكده عند كل أهل مذهب، ومنها تتبين الأوقات التي اتفقوا على تأكد استحبابه فيها.
يتأكد استحباب السواك عند الحنفية في الأحوال الآتية:
عند الوضوء، عند القيام للصلاة، عند قراءة القرآن، عند القيام من النوم، أول ما يدخل البيت، عند اجتماع الناس، عند تغير الفم، عند اصفرار الأسنان (1) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 19، شرح فتح القدير 1 \ 24، حاشية ابن عابدين 1 \ 113، 114.(60/313)
ويتأكد استحبابه عند المالكية في الأحوال الآتية:
عند الوضوء، عند الصلاة، عند قراءة القرآن، عند الانتباه من النوم، عند تغير الفم، عند طول السكوت، عند كثرة الكلام، عند أكل ما فيه رائحة.
ويتأكد استحبابه عند الشافعية في الأحوال التالية:
عند الوضوء، عند القيام للصلاة، عند قراءة القرآن، أو الحديث، أو العلم الشرعي، أو ذكر الله تعالى، عند القيام من النوم، عند تغير الفم؛ ويتغير بنوم، أو أكل، أو جوع، أو سكوت طويل، أو كلام كثير، أو نحو ذلك، عند الاحتضار، وفي السحر، وعند الأكل، وبعد الوتر (1) .
ويتأكد استحبابه عند الحنابلة في الأحوال الآتية:
عند الوضوء، عند الصلاة، عند دخول المسجد، عند قراءة القرآن، عند الانتباه من النوم، عند الغسل، عند دخول البيت، عند إطالة السكوت، عند صفرة الأسنان عند خلو المعدة من الطعام (2) .
ومما تقدم يتبين أن الفقهاء متفقون على تأكد استحباب السواك في الحالات التالية:
__________
(1) انظر: الحاوي 1 \ 85، المهذب 1 \ 13، المجموع 1 \ 272، 273، مغني المحتاج 1 \ 56.
(2) انظر: المغني 1 \ 134، المبدع 1 \ 100، الفروع 1 \ 125، 128، الروض المربع 1 \ 19، 20.(60/314)
1 - عند الوضوء؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (1) » .
2 - عند القيام للصلاة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (2) » .
3 - عند القيام من النوم؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك (3) » .
4 - عند دخول المنزل؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك (4) » .
5 - عند تغير الفم واصفرار الأسنان؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(2) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(3) أخرجه البخاري 1 \ 66 واللفظ له في كتاب الوضوء باب السواك، ومسلم 1 \ 220 في كتاب الطهارة باب السواك.
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه.(60/315)
المبحث السادس: في حكم السواك للصائم.
لا خلاف بين الفقهاء في جواز السواك للصائم قبل الزوال (1) .
واختلفوا في حكمه بعد الزوال على قولين:
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 19، حاشية العدوي 1 \ 392، المجموع 1 \ 275، الإنصاف 1 \ 119.(60/315)
القول الأول: أن السواك جائز مطلقا في أول النهار وآخره.
وهو مروي عن عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والنخعي وابن سيرين وعروة (1) ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، واختيار النووي (2) وشيخ الإسلام ابن تيمية (3) . وابن القيم (4) والشوكاني (5) .
القول الثاني: أن السواك يكره للصائم بعد الزوال. وهو مروي عن عطاء ومجاهد وإسحاق وأبي ثور (6) ، وهو قول الشافعي وأحمد في المشهور من المذهب.
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
بعموم الأحاديث الواردة في السواك، فإنها مطلقة لم تقيده بوقت دون وقت، ومن ذلك:
__________
(1) انظر: المجموع 1 \ 279، طرح التثريب 4 \ 99، المغني 1 \ 139.
(2) انظر: المجموع 1 \ 276.
(3) انظر: الاختيارات الفقهية 62
(4) انظر: زاد المعاد 2 \ 63.
(5) انظر: نيل الأوطار 1 \ 107، 108.
(6) انظر: المجموع 1 \ 279، طرح التثريب 4 \ 98، المغني 1 \ 138.(60/316)
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (1) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أنه يدخل في عمومه كل صلاة؛ صلاة الظهر والعصر والمغرب للصائم والمفطر (2) .
2 - حديث عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك (3) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أنه عام في أي وقت دخل، سواء كان صائما أو غير صائم، قبل الزوال أو بعد الزوال وعلى كل حال (4) .
3 - وحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (5) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أن فيه حثا على السواك دون تقييد بزمن معين ويدخل فيه وقت ما بعد الزوال.
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(2) انظر: شرح فتح القدير 2 \ 348، إحكام الأحكام 1 \ 66.
(3) تقدم تخريجه.
(4) انظر: فتح الباري 4 \ 158.
(5) تقدم تخريجه.(60/317)
4 - حديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم (1) » .
5 - ما روي عن عبد الرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل رضي الله عنه: أأتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم، قلت: أي النهار؟ قال: غدوة أو عشية، قلت: إن الناس يكرهونه عشية، ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لخلوف (3) » قال: سبحان الله لقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواك حين أمرهم وهو يعلم أنه لا بد أن يكون بفم الصائم خلوف وإن استاك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمدا، ما في ذلك من الخير شيء، بل فيه شر إلا من ابتلي ببلاء لا يجد منه بدا.
__________
(1) أخرجه البخاري 2 \ 234 تعليقا في كتاب الصوم باب السواك الرطب واليابس، وأحمد 3 \ 445، وأبو داود 22 \ 768 في كتاب الصيام باب السواك للصائم، والترمذي 3 \ 104 في كتاب الصوم باب السواك للصائم وقال: حديث حسن. وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 1 \ 62: إسناده حسن. وضعفه الألباني في إرواء الغليل 1 \ 107.
(2) صحيح البخاري الصوم (1894) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/273) ، موطأ مالك الصيام (689) .
(3) (2) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك(60/318)
واستدل أصحاب القول الثاني بالأدلة التالية:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «. . . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك (1) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والسواك يقطع ذلك فوجب أن يكره (2) .
2 - حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي، فأنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا نورا بين عينيه يوم القيامة (3) » .
3 - ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهيد (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري 2 \ 226 في كتاب الصوم باب فضل الصوم، ومسلم 2 \ 807 في كتاب الصيام باب فضل الصيام.
(2) انظر: المهذب 1 \ 13، المغني 1 \ 139.
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4 \ 274 في الطهارة باب من كره السواك بالعشي، وضعفه وأقره النووي في المجموع 1 \ 279، وضعفه الألباني في إرواء الغليل 1 \ 106.
(4) انظر: المهذب 1 \ 13، فتح العزيز 1 \ 367، المغني 1 \ 139.(60/319)
وقد أجاب أصحاب القول الثاني عن أدلة أصحاب القول الأول: بأنها عامة مخصوصة، والمراد بها غير الصائم آخر النهار (1) .
وأجاب أصحاب القول الأول عن أدلة أصحاب القول الثاني بما يأتي:
1 - ادعاء أن السواك يقطع خلوف فم الصائم رد عليه ابن القيم من ستة أوجه:
أ - أن المضمضة أبلغ من السواك في قطع خلوف الفم، وقد أجمع على مشروعيتها للصائم.
ب - أن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف فم الصائم.
ج - أن محبته للسواك أعظم من محبته لبقاء خلوف فم الصائم.
د - أن السواك لا يمنع طيب الخلوف - الذي يزيله السواك - عند الله يوم القيامة.
هـ - أن الخلوف لا يزول بالسواك؛ لأن سببه قائم، وهو خلو المعدة من الطعام.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته ما يستحب وما يكره لهم في الصيام، ولم يجعل السواك من المكروه (2) .
2 - حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - حديث ضعيف - كما تبين في تخريجه - لا يحتج به.
__________
(1) انظر: المجموع 1 \ 279.
(2) انظر: زاد المعاد 4 \ 323، 324.(60/320)
3 - قولهم: أنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهيد. أجيب عنه: بأن أثر العبادة اللائق به الإخفاء، بخلاف الشهيد، فإن غرض الشارع من بقاء دم الشهيد ليشهد له على خصمه يوم القيامة، وأيضا فإن دم الشهيد قد جاء النص بعدم إزالته، حيث إنه يبعث على ما قتل عليه؛ اللون لون الدم والريح ريح المسك، بخلاف إزالة رائحة الفم، فأنه لم ينص على عدم إزالة أثره (1) .
والراجح: جواز استعمال السواك للصائم في كل وقت حتى بعد الزوال؛ لعموم النصوص الواردة في الحث عليه من غير تخصيص وقت دون آخر.
قال ابن القيم - رحمه الله: ولا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار وآخره، بل قد روي خلافه (2) .
وأفتى بهذا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ورجحه (3) .
ورجحه فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله (4) .
__________
(1) انظر: المبسوط 3 \ 99، شرح فتح القدير 2 \ 349، حاشية العدوي 1 \ 393.
(2) انظر: زاد المعاد 2 \ 63.
(3) انظر: كتاب الدعوة - الفتاوى 2 \ 163، 164.
(4) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع 1 \ 22، 24.(60/321)
المبحث السابع: في الاستياك أمام الناس:
اختلف الفقهاء في حكم الاستياك أمام الناس على قولين:
القول الأول: أن السواك سنة على كل حال وخاصة عند الصلاة في المساجد وبحضرة الناس. وهو قول جمهور الفقهاء (1) .
القول الثاني: عدم الاستياك في المساجد وأمام الناس. وبه قال المالكية (2) .
استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (3) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أن في الحديث دلالة على أن السواك سنة على كل حال وخاصة عند الصلاة، وبما أن الصلوات المفروضة تقام في المساجد جماعة فإن السواك بحضرة الناس وفي المساجد من السنن المندوبة، إذ المسلم مأمور في كل حال من أحوال التقرب إلى الله تعالى أن يكون في حالة كمال ونظافة، إظهارا لشرف العبادة (4) .
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 114، المجموع 1 \ 272، الإنصاف 1 \ 118، 119.
(2) انظر: مواهب الجليل 1 \ 266.
(3) صحيح البخاري التمني (7240) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الطهارة (683) .
(4) انظر: إحكام الأحكام 2 \ 65، 271، فتح الباري 2 \ 376.(60/322)
2 - حديث أبي بردة، عن أبيه - قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يستن بسواك بيده يقول: أع أع (3) » .
وجه الدلالة من الحديث:
أنه يدل على تأكيد السواك، وأنه لا يختص بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطيب لا من باب إزالة القاذورات، لكونه صلى الله عليه وسلم لم يختف به؛ ولهذا بوبوا لهذا الحديث باب استياك الإمام بحضرة رعيته (4) .
3 - ما ورد أن خالدا الجهني - رضي الله عنه - كان يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه، موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن ثم رده إلى موضعه.
__________
(1) أخرجه البخاري 1 \ 66، واللفظ له في كتاب الوضوء باب السواك، ومسلم 1 \ 220 في كتاب الطهارة باب السواك.
(2) يستن: يدلك أسنانه بالسواك. انظر: معالم السنن 1 \ 43، فتح الباري 2 \ 375. (1)
(3) (2) ، والسواك في فيه كأنه يتهوع
(4) انظر: فتح الباري 1 \ 356.(60/323)
4 - أن السواك من باب العبادات والقرب التي لا تخفى (1) .
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأن السواك من باب إزالة القذر وأن ذا المروءة لا ينبغي له فعله أمام الناس (2) .
وقد أجيب عن هذا بأن في حديث أبي بردة عن أبيه دلالة على أن السواك مما لا ينبغي إخفاؤه ويتركه الإمام بحضرة الرعايا إدخالا له في باب العبادات والقربات (3) .
الراجح: أن السواك سنة على كل حال؛ وخاصة عند الصلاة، وبما أن الفروض الخمسة تقام جماعة في المساجد فإن السواك بحضرة الناس وفي المساجد يكون من السنن المندوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وفعله ولم يختف به.
__________
(1) انظر: إحكام الأحكام 1 \ 71.
(2) انظر: مواهب الجليل 1 \ 266.
(3) انظر: إحكام الأحكام 1 \ 71، فتح الباري 1 \ 356.(60/324)
المبحث الثامن: فيما يستاك به وما لا يستاك به:
يستحب أن يستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه، ولا يضره، ولا يتفتت فيه، كالأراك وجريد النخل والزيتون (1) .
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 115، الكافي 1 \ 117، فتح العزيز 1 \ 370، المغني 1 \ 136.(60/324)
وأفضل أنواع السواك الأراك؛ لما فيه من طيب وريح وتشعير يخرج وينقي ما بين الأسنان (1) ؛ ولحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكا من الأراك (2) » . . . " الحديث.
وقد قام علماء الطب الحديث بإجراء أبحاث على الأراك وتوصلوا إلى النتائج الآتية:
1 - يحتوي السواك على العفص (حمض تينيك) ولهذه المادة تأثير مضاد للتعفنات، كما أنه يعتبر مطهرا، وله استعمالات مشهورة ضد نزيف الدم، كما يطهر اللثة والأسنان ويشفي جروحها الصغيرة ويمنع نزف الدم منها.
2 - يوجد في السواك مادة لها علاقة بالخردل، وهي عبارة عن جليكوزيد، وهذه المادة لها رائحة حادة وطعم حراق، وهو ما يشعر به الشخص الذي يستعمل السواك لأول مرة، وهذه المادة تساعد على الفتك بالجراثيم.
3 - إن تركيب هذا النبات هو ألياف حاوية على بيكربونات الصوديوم، وبيكربونات الصوديوم هي المادة المفضلة لاستعمالها في المعجون السني (الصناعي) من قبل مجمع معالجة الأسنان التابع
__________
(1) انظر: المصادر السابقة في هامش رقم (4) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/421) .(60/325)
لجمعية طب الأسنان الأمريكية، يستعمل كمادة سنية وحيدة تقي من العضويات المجهرية التي تفرز في الأسنان.
4 - إن السواك يحتوي على مادة تمنع تسوس الأسنان، وقد ذكر ذلك أكثر من باحث في بحوث أعدت عن الأراك، وقد أكدوا على وجود مواد قاتلة للميكروبات في هذا السواك.
5 - لو نظر إلى السواك لوجد أنه يتكون كيميائيا من ألياف السيليلوز وبعض الزيوت الطيارة وبه راتنج عطري وأملاح معدنية أهمها كلوريد الصوديوم وهو ملح الطعام وكلوريد البوتاسيوم وأكسالات الجير، فلو نظر إلى تحليل السواك لوجد أنه فرشاه طبيعية قد زودت بأملاح معدنية ومواد عطرية تساعد على تنظيف الأسنان، أو بمعنى آخر كأنها فرشاه طبيعية زودها الله تعالى بمسحوق مطهر لتنظيف الأسنان ومنع تسوسها (1) .
وقد قامت عدة شركات بتحضير معاجين أسنان من جذور وعروق شجرة الأراك بدون إضافة أي مواد كيمياوية أخرى قد تكون لها بعض الآثار الجانبية الأخرى، فتأكد وجود مواد قاتلة لجراثيم الفم الضارة التي تسبب التهابات اللثة وتسوس الأسنان في هذه المعاجين المحضرة من الأراك. هذا بعض ما ذكره علماء الطب
__________
(1) انظر: المصادر السابقة في هامش رقم (1) .(60/326)
الحديث، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى الكتب المؤلفة في هذا، وقد أشرت لبعضها كما هو مدون في الهوامش (1) .
ثم بعد السواك بالأراك في الأفضلية السواك بجريد النخل (2) ؛ لحديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وفيه: " أنها قالت: مر عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - وفي يده جريدة رطبة فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة " (3) .
وعللوا لأفضلية السواك بالزيتون بأنه من شجرة مباركة (4) . واستدلوا بأحاديث ضعيفة (5) .
واستعمال الفرشاة والمعجون من السواك، ومن ميزات الفرشاة أنها يمكن أن ينظف بها الإنسان باطن الأسنان بسهولة ويسر، وأن في المعجون مواد مطهرة ومنظفة (6) .
__________
(1) انظر: السواك للدكتور محمد علي البار ص 156 - 160، الوقاية الصحية على ضوء الكتاب والسنة ص 151.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 115، المجموع 1 \ 282، المغني 1 \ 136.
(3) أخرجه البخاري 6 \ 142 في كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(4) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 115.
(5) انظر: تلخيص الحبير 1 \ 72.
(6) (6) انظر: السواك للدكتور محمد على البار ص 17.(60/327)
ويستحب أن لا يستاك بعود لين لا يقلع القلحة ولا يزيل الرائحة، ولا بعود يابس يجرح اللثة (1) .
ونقل كراهة الاستياك بالريحان والقصب؛ لأنهما كما قيل يسببان بعض الأمراض (2) . وذكر ابن قدامة - رحمه الله - كراهة الاستياك بأعواد الريحان والآس والأعواد الذكية (3) .
وذكر بعض العلماء أيضا كراهة الاستياك بأعواد التبن والقصب والأشنان والحلفة، وكل ما جهل أصله من الأعواد (4) .
قال ابن القيم - رحمه الله - ولا ينبغي أن يؤخذ من شجرة مجهولة فربما كانت سما (5) .
الاستياك بالأصابع:
اتفق الفقهاء على أن الأصبع إن كانت لينة لم يحصل بها السواك (6) . واختلفوا إن كانت خشنة أيحصل بها السواك أم لا؟
القول الأول: يحصل بها السواك. وهو قول الأحناف والمالكية والحنابلة في رواية، وهو اختيار النووي (7) وابن قدامة (8) .
__________
(1) انظر: فتح العزيز 1 \ 370.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 115.
(3) انظر: المغني 1 \ 136، 137.
(4) انظر: طرح التثريب 2 \ 68، المبدع 1 \ 102.
(5) انظر: الطب النبوي ص 322.
(6) (6) انظر: المجموع 1 \ 282.
(7) انظر: المجموع 1 \ 382.
(8) انظر: المغني 1 \ 137.(60/328)
القول الثاني: لا يحصل بها السواك. وهو قول الشافعية والحنابلة في المشهور من المذهب (1) .
استدل أصحاب القول الأول بالآتي:
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رجلا من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك؟ قال: «إصبعاك سواك عند وضوئك تمرها على أسنانك، أنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له (2) » .
2 - حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يجزي من السواك الأصابع (3) » .
3 - حصول المقصود من السواك (4) .
واستدل أصحاب القول الثاني بالآتي:
1 - أنه لم يرد به الشرع.
2 - أنه لا يسمى سواكا، ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود (5) .
__________
(1) انظر: الحاوي 1 \ 86، المهذب 1 \ 14، المغني 1 \ 137، المبدع 1 \ 102.
(2) أخرجه البيهقي في سننه 1 \ 41 في كتاب الطهارة باب السواك بالأصابع، وقال الحافظ العراقي في طرح التثريب 2 \ 68: هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أن الراوي له عن أنس بعض أهله غير مسمى.
(3) أخرجه البيهقي في سننه 1 \ 40 في كتاب الصلاة باب السواك بالأصابع وضعفه، وكذلك ضعفه النووي في المجموع 1 \ 282.
(4) انظر: المجموع 1 \ 282.
(5) انظر: المهذب 1 \ 14، المغني 1 \ 137.(60/329)
وقد اختار القول الأول النووي حيث قال: والمختار الحصول. وأيده الحافظ العراقي. وقال ابن قدامة: والصحيح أنه يحصل به بقدر ما يحصل من الإنقاء (1) .
والذي يظهر - والله أعلم - حصول السواك بالأصابع إذا لم يوجد غيرها؛ وقد قال الله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (3) » .
وأقل ما في ذلك حصول الامتثال بفعل الاستياك. وقد نص بعض الفقهاء على أن الأصلع الذي لا شعر له يستحب له عند التحلل من العمرة أو الحج أن يمر الموسى على رأسه (4) .
__________
(1) انظر: المجموع 1 \ 282، طرح التثريب 2 \ 68، المغني 1 \ 137.
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) أخرجه البخاري 8 \ 142 في كتاب الاعتصام بالسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4) انظر: المغني 5 \ 306.(60/330)
المبحث التاسع: في صفة السواك:
يستحب أن يبدأ في الاستياك بجانب فمه الأيمن (1) ؛ لحديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن: في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله (2) » . وقياسا على الوضوء (3) .
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 114، المجموع 1 \ 282، المغني 1 \ 135.
(2) أخرجه البخاري 2 \ 50 واللفظ له في كتاب الوضوء باب التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم 1 \ 226 في الطهارة باب التيمن في الطهور وغيره.
(3) انظر: المجموع 1 \ 283.(60/330)
وجمهور الفقهاء على استحباب السواك عرضا، واستدلوا بأحاديث ضعيفة، منها:
1 - حديث ربيعة بن أكثم قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا ويشرب مصا ويقول هو أهنأ وأمرأ (1) » .
2 - حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شربتم فاشربوا مصا، وإذا استكتم فاستاكوا عرضا (2) » .
3 - أنه يخشى في الاستياك طولا إدماء اللثة وإفساد عمود الأسنان (3) .
وكيفية الاستياك: هو أن يستاك عرضا في ظاهر الأسنان وباطنها، ويمر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه، ويمره على سقف حلقه إمرارا خفيفا (4) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1 \ 40 في الطهارة باب ما جاء في الاستياك عرضا. وقال: لا يحتج به. وضعفه النووي في المجموع 1 \ 280.
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1 \ 40 في كتاب الطهارة باب الاستياك عرضا، وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 1 \ 65: وفيه محمد بن خالد القرشي قال ابن القطان: لا يعرف. قلت: وثقه ابن معين وابن حبان.
(3) انظر: المجموع 1 \ 280، المبدع 1 \ 102.
(4) انظر: الحاوي 1 \ 85، المجموع 1 \ 281.(60/331)
وذهب بعض الفقهاء كالغزنوي من الحنفية وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية وبعض الحنابلة إلى أنه لا بأس أن يستاك طولا، وضعف هذا القول النووي وابن مفلح (1) .
ويستحب أن ينظف لسانه بالسواك بإمراره عليه (2) ؛ لما ثبت من حديث أبي بردة عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يستن بسواك بيده يقول: أع أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع (3) » .
وفي رواية «وطرف السواك في لسانه يستن إلى فوق (4) » .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويستفاد منه: مشروعية السواك على اللسان طولا (5) .
السواك هل الأولى أن يباشره المستاك بيمينه أو بشماله؟
قال ابن عابدين - رحمه الله -: إن كان من باب التطهر استحب باليمين، وإن كان من باب إزالة الأذى فباليسرى، والظاهر الثاني (6) . وذكر نحوه الحافظ العراقي رحمه الله (7) .
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 114، المجموع 1 \ 281، المبدع 1 \ 102، الإنصاف 1 \ 170.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 114، فتح الباري 1 \ 356، المقنع 1 \ 102.
(3) سبق تخريجه.
(4) أخرجه أحمد في المسند 4 \ 417، وأخرجه مسلم 1 \ 220 في الطهارة باب السواك، بدون لفظ '' يستن إلى فوق ''.
(5) انظر: فتح الباري 1 \ 356.
(6) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 114.
(7) انظر: طرح التثريب 2 \ 71.(60/332)
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الاستياك باليمين أم باليسرى؟ فذكر أن الأفضل الاستياك باليسرى؛ لأنه من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى، وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات باليسرى، وإزالة واجبها ومستحبها باليسرى. . . ثم ذكر أن السواك ليس من باب إكرام اليمين (1) ويستحب غسل السواك قبل استعماله، وكذلك عند الانتهاء من استعماله (2) ؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله ثم أدفعه إليه (3) » .
ويجوز أن يستعمل السواك الواحد لأكثر من شخص (4) . لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فأوحى الله إليه في فضل السواك ((أن كبر)) أعط السواك أكبرهما (5) » .
__________
(1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21 \ 158 وما بعدها.
(2) انظر: مواهب الجليل 1 \ 226، مغني المحتاج 1 \ 55، المبدع 1 \ 102.
(3) أخرجه أبو داود. انظر: مختصر سنن أبي داود للمنذري 1 \ 41 باب غسل السواك. وقال. النووي في المجموع 1 \ 283 حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد جيد.
(4) انظر: المجموع 1 \ 283، المبدع 1 \ 102.
(5) أخرجه أبو داود 1 \ 43 في كتاب الطهارة باب في الرجل يستاك بسواك غيره، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1 \ 12، وأخرج البخاري تعليقا 1 \ 314 في كتاب الوضوء باب دفع السواك إلى الأكبر نحوه عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.(60/333)
قال الخطابي - رحمه الله -: " فيه: أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه على ما يذهب إليه بعض من يتقزز، إلا أن السنة فيه أن يغسله ثم يستعمله " (1) .
__________
(1) انظر: معالم السنن 1 \ 43، فتح الباري 1 \ 356.(60/334)
المبحث العاشر: في فوائد السواك:
إن أعظم فوائد السواك ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (1) » .
ومن الفوائد التي ذكرها أهل العلم للسواك: أن المسلم مأمور في كل حال أن يكون على أحسن هيئة وأطيب ريح وخاصة عند أداء العبادة، وأن يحرص أن يكون حاله في غاية الكمال والنظافة؛ لإظهار شرف وعظم هذه العبادة (2) .
ولما كانت الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم شرع السواك مطهرة للفم؛ حتى لا تتأذى الملائكة الموكلون برصد أعمال بني آدم بالروائح الكريهة التي تنتج عن ترك السواك (3) . وقد جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: " إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك ".
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: إحكام الأحكام 1 \ 65.
(3) انظر: طرح التثريب 2 \ 66.(60/334)
قال ابن القيم - رحمه الله -: في السواك عدة منافع: يطيب الفم، ويشد اللثة، ويقطع البلغم، ويجلو البصر، ويذهب بالحفر، ويصح المعدة، ويصفي الصوت، ويعين على هضم الطعام، ويسهل مجاري الكلام، وينشط للقراءة والذكر والصلاة، ويطرد النوم، ويرضي الرب، ويعجب الملائكة، ويكثر الحسنات (1) .
ومن فوائد السواك: أنه يدر البول، ويقطع الرطوبة، ويذهب الصفرة، ويسكن عروق الرأس، ووجع الأسنان، ويذكي الفطنة، ويضاعف الصلاة، ويسخط الشيطان، ويطيب النكهة، ويسهل خروج الروح (2) .
قال ابن عابدين: قال في النهر: ومنافعه وصلت إلى نيف وثلاثين (3) .
ومن فوائد السواك: أنه بمثابة العلاج للإقلاع عن بعض العادات السيئة، مثل التدخين، فالسواك مع طول مدة استعماله يصبح عادة فيكون سببا في الإقلاع عن التدخين، وكذلك في الإقلاع عن مص الأصابع عند الصغار.
__________
(1) انظر: الطب النبوي ص 322.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 115، المنهج السوي ص 300.
(3) انظر: حاشية ابن عابدين 1 \ 115.(60/335)
وللسواك فوائد أخرى ذكرها علماء الطب، وقد ذكرت شيئا منها عند الكلام على الأراك في المبحث الثامن والكتب الطبية المؤلفة في السواك ذكرت له فوائد كثيرة وأسرارا عجيبة.(60/336)
الإسراف والتبذير
للدكتور \ زيد بن محمد الرماني (1)
- مفهوم الإسراف والتبذير:
المعنى اللغوي للإسراف هو مجاوزة الحد (2) ، وقد ذكر القليوبي هذا المعنى اللغوي في تعريفه للإسراف، ولكن بعض العلماء خص استعمال الإسراف بالنفقة والأكل، يقول الجرجاني في تعريفاته: الإسراف تجاوز الحد في النفقة. وقيل: أن يأكل الرجل ما لا يحل له، أو يأكل ما يحل له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة. وقيل: الإسراف تجاوز الكمية فهو جهل بمقادير الحقوق. وقيل: هو إنفاق الكثير في الغرض الخسيس.
ومما سبق نستطيع القول: إن الإسراف هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان. أو قول: وإن كان في الإنفاق أشهر.
ومما سبق نستطيع القول: إن الإسراف هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان. أو قول: وإن كان في الإنفاق أشهر.
__________
(1) عضو هيئة التدريس في قسم الاقتصاد الإسلامي بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2) ينظر: ابن منظور (لسان العرب) 11 \ 48. والفيروز آبادي (القاموس المحيط) ج 4 \ 156.(60/337)
وكما يكون الإسراف في الشر يكون في الخير، كمن تصدق بجميع ماله كما في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) . والإسراف كما يكون من الغني، فقد يكون من الفقير أيضا، لأنه أمر نسبي. . والإسراف يكون تارة بالقدر، ويكون تارة بالكيفية، ولهذا قال سفيان الثوري رضي الله عنه: " ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف، وإن كان قليلا " (2) ، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنه: " من أنفق درهما في غير حقه فهو سرف " (3) .
الإسراف والتبذير: التبذير هو تفريق المال وإنفاقه في السرف.
قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (4) . . وخصه بعضهم بإنفاق المال في المعاصي، وتفريقه في غير حق (5) .
ويعرف بعض الفقهاء التبذير بأنه: عدم إحسان التصرف في المال، وصرفه فيما لا ينبغي، وأما صرف المال إلى وجوه البر فليس
__________
(1) سورة الأنعام الآية 141
(2) الراغب الأصفهاني (المفردات في غريب القرآن) ص 230.
(3) القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) دار الكتاب العربي، القاهرة، 1987 م، 13 \ 72.
(4) سورة الإسراء الآية 26
(5) ينظر: ابن منظور (لسان العرب) 4 \ 50.(60/338)
بتبذير، وصرفه في الأطعمة النفيسة التي لا تليق بحاله تبذير.
وعلى هذا فالتبذير أخص من الإسراف؛ لأن التبذير يستعمل في إنفاق المال في السرف أو المعاصي، أو في غير حق، والإسراف أعم من ذلك، لأنه مجاوزة الحد، سواء أكان في الأموال أم في غيرها، كما يستعمل الإسراف في الإفراط في الكلام أو القتل وغيرهما.
وقد فرق ابن عابدين بين الإسراف والتبذير من جهة أخرى، فقال: " التبذير يستعمل في المشهور بمعنى الإسراف، والتحقيق أن بينهما فرقا، وهو أن الإسراف: صرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي، والتبذير: صرف الشيء فيما لا ينبغي " (1) .
ومثله ما جاء في " أدب الدنيا والدين ": " والتبذير: الجهل بمواقع الحقوق، والسرف الجهل بمقادير الحقوق ". . ويقول الراغب الأصفهاني: " إن التبذير في الحقيقة أقبح من الإسراف؛ لأن بجانبه حقا مضيعا، ولأنه يؤدي بصاحبه إلى أن يظلم غيره، ولهذا قيل إن المبذر أقبح؛ لأنه جاهل بمقدار المال الذي هو سبب استبقاء
__________
(1) ابن عابدين: حاشية رد المحتار، 5 \ 484.(60/339)
الناس " (1) .
وعليه، فإن الإسراف والتبذير بينهما علاقة عموم وخصوص، تخضع لقاعدة " إذا اجتمعا اتفقا، وإذا افترقا اختلفا ".
__________
(1) الراغب الأصفهاني (الذريعة إلى مكارم الشريعة) مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1393 هـ ص 216.(60/340)
أسباب الإسراف والتبذير:
وللإسراف والتبذير أسباب وبواعث توقع فيه، وتؤدي إليه، ونذكر منها:
1 - جهل المسرف بتعاليم الدين الذي ينهى عن الإسراف بشتى صوره، فلو كان المسرف مطلعا على القرآن الكريم والسنة النبوية لما اتصف بالإسراف الذي نهي عنه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (1) ، فعاقبة المسرف في الدنيا الحسرة والندامة {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (2) ، وفي الآخرة العقاب الأليم والعذاب الشديد {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} (3) {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} (4) {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} (5) {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} (6) {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (7) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 31
(2) سورة الإسراء الآية 29
(3) سورة الواقعة الآية 41
(4) سورة الواقعة الآية 42
(5) سورة الواقعة الآية 43
(6) سورة الواقعة الآية 44
(7) سورة الواقعة الآية 45(60/340)
ومن نتيجة جهل المسرف بتعاليم الدين مجاوزة الحد في تناول المباحات، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى السمنة وضخامة البدن وسيطرة الشهوات، وبالتالي الكسل والتراخي مما يؤدي به إلى الإسراف، جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: " إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنهما مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فأنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف. . . ".
2 - النشأة الأولى: فقد يكون السبب في الإسراف إنما هي النشأة الأولى، أي الحياة الأولى، ذلك أن الفرد قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ، فما يكون منه سوى الاقتداء والتأسي. ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة اتصاف الزوجين والتزامهما بشرع الله وهديه. قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 32(60/341)
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك (1) » .
3 - الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون، وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون، ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبت ولا تستقر على حال واحدة.
والواجب يقتضي أن نضع النعمة في موضعها، وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم من مال وصحة إلى وقت آخر.
4 - السعة بعد الضيق: وقد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، ذلك أن كثيرا من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر، فإذا هم صابرون محتسبون، وقد يحدث أن تتبدل الأحوال فتكون السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال فينقلب على النقيض تماما، فيكون الإسراف والتبذير.
5 - صحبة المسرفين: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هو صحبة المسرفين ومخالطتهم، ذلك أن الإنسان غالبا ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله، إذ أن المرء كما قال صلى الله عليه وسلم: «على دين خليله، فلينظر
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح. ينظر: البخاري: صحيح البخاري، المكتبة الإسلامية، تركيا، توزيع مكتبة العلم، جدة، 1981 م، 7 \ 9.(60/342)
أحدكم من يخالل (1) » .
6 - حب الظهور والتباهي (2) : وقد يكون الإسراف سببه حب الشهرة والتباهي أمام الناس رياء وسمعة والتعالي عليهم، فيظهر لهم أنه سخي وجواد، فينال ثناءهم ومدحهم، لذا ينفق أمواله في كل حين وبأي حال، ولا يهمه أنه أضاع أمواله وارتكب ما حرم الله.
7 - المحاكاة والتقليد: وقد يكون سبب الإسراف محاكاة الغير وتقليدهم حتى لا يوصف بالبخل، فينفق أمواله كيفما كان من غير تبصر أو نظر في العاقبة التي سينتهي إليها (3) .
8 - الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف والتبذير: وقد يكون السبب في الإسراف والتبذير إنما هو الغفلة عن الآثار المترتبة عليهما، ذلك أن للإسراف آثارا ضارة، وللتبذير عواقب مهلكة.
ولقد عرف من طبيعة الإنسان أنه غالبا ما يفعل الشيء أو يتركه، إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه، أما إذا غفل عن هذه الآثار، فإن
__________
(1) أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب وأحمد، والحاكم وقال: صحيح، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني، ينظر: الألباني (صحيح الجامع الصغير) وزيادته (الفتح الكبير) رقم 3539.
(2) جريدة المدينة (الإسراف والتبذير في المناسبات) ، تحقيق، ع 8979، 9 \ 6 \ 1412 هـ. ص 2.
(3) مجلة الدعوة (الإسراف والتبذير من المسؤول) ، تحقيق ع 1250، 27 \ 12 \ 1410 هـ، ص 20 - 23.(60/343)
سلوكه يختل. . وقد تبين من خلال دراسة ميدانية (1) عن المشكلات الاقتصادية التي تواجه الشباب أن معظم التعبيرات الحرة من أفراد عينة البحث كانت تعبر عن التبذير والإسراف في غير مكانه بنسبة 2.8 %. ومن نماذج تعبيراتهم الحرة: إنني مبذر أذهب إلى المحل وأنا لا أحدد ما سأشتري، عدم التوازن في النفقات وعدم تنظيم الصرف، أحيانا أضع مالا في غير مكانه الصحيح، عدم قدرتي على حفظ نفسي من صرف المال. هذه التعبيرات تبرز حاجة الشباب خاصة إلى المنهج الإسلامي في معالجة ظاهرة الإسراف والتبذير وإنفاق المال في كل ما هو شرعي وغير ضار.
__________
(1) وليد شلاش شبير (مشكلات الشباب) 9 مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ ص 280.(60/344)
نماذج من الإسراف والتبذير:
يذكر الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله صورا من الإسراف فيقول: " من الإسراف الأكل فوق الشبع، ومن الإسراف الاستكثار من المباحات والألوان، ومن الإسراف أن يضع على المائدة من الطعام فوق ما يحتاج إليه للأكل، ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه، أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ، ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يتمسح به، ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها. . . ثم يقول رحمه الله. وأمر اللباس(60/344)
نظير الأكل في جميع ما ذكرناه. . . " (1) .
ويذكر أبو الحسن الماوردي رحمه الله نماذج من التبذير فيقول: " من التبذير أن ينفق ماله فيما لا يجدي عليه نفعا في دنياه ولا يكسبه أجرا في أخراه، بل يكسبه في دنياه ذما ويحمل إلى آخرته إثما كإنفاقه في المحرمات وشرب الخمر وإتيان الفواحش وإعطائه السفهاء من المغنين والملهين والمساخر والمضحكين. ومن التبذير أن يشغل المال بفضول الدور التي لا يحتاج إليها وعساه لا يسكنها أو يبنيها لأعدائه ولخراب الدهر الذي هو قاتله وسالبه. ومن التبذير أن يجعل المال في الفرش الوثيرة والأواني الكثيرة الفضية والذهبية التي تقل أيامه ولا تتسع للارتفاق بها. . . " (2) ثم يقول: " وكل ما أنفقه الإنسان مما يكسبه عند الله أجرا ويرفع له إليه منزلة، أو يكسب عند العقلاء وأهل التمييز حمدا فهو جود وليس بتبذير وإن عظم وكثر. وكل ما أنفقه في معصية الله التي تكسبه عند الله إثما وعند العقلاء ذما فهو تبذير وإن قل ونزر " (3) .
وليس واقع العالم الإسلامي ببعيد عن هذه النماذج وتلك
__________
(1) محمد بن الحسن الشيباني (الكسب) ص 79 - 83.
(2) أبو الحسن الماوردي (نصيحة الملوك) تحقيق خضر محمد خضر، مكتبة الفلاح، الكويت 1403 هـ ص 36.
(3) أبو الحسن الماوردي (نصيحة الملوك) ص 36.(60/345)
الصور. ونذكر فيما يلي نماذج أخرى من التبذير والتبديد، وأشكالا من الإسراف والسفه، وألوانا من الهدر والضياع، نتيجة السلوك الاستهلاكي غير الرشيد في واقع العالم الإسلامي، من ذلك:
1 - الخمور والمخدرات والدخان: هذه صنوف استهلاكية ضارة من شأن الإنفاق عليها، أن يستنفذ جانبا من القوة الشرائية العامة، هذا الجانب يعد ضياعا، بمعنى أنه كان سينصرف على الضروريات لو لم يصرف عليها. ونجد العالم الإسلامي يستهلك مواد مخدرة بمئات الملايين من الدولارات. وقد أوضحت الدراسات التي شاركت فيها منظمة الصحة العالمية أنه في الوقت الذي بدأ فيه(60/346)
التدخين يقل في بعض أجزاء العالم المتقدم بفضل زيادة الوعي الصحي في هذه البلدان، فأنه من المؤسف أن تعاطى التبغ مثلا ازداد في البلدان النامية ومنها العالم الإسلامي وبلغت نسبة الزيادة في آسيا 30%، أما في أفريقيا فقد زادت نسبة تعاطي التبغ بدرجات كبيرة بلغت 170% (1) .
وفي دراسة أخرى أعدها أحد الباحثين أوضح فيها أن حجم الأموال التي تنفق على عمليات الاتجار بالمخدرات في الوطن العربي تجاوز مبلغ 50 مليار دولار سنويا.
2 - الإفراط في الطعام: إن الإنسان إذا أكثر من الطعام، لم يستطع له هضما، حيث يصاب بالتخمة وعسر الهضم، وقد يحدث أن تصاب المعدة بالاتساع والتمدد نتيجة الإفراط في تناول الطعام فيفقد المرء شهيته للأكل وإن تناول طعاما لم يستطع له هضما، فقد يصاب نتيجة لذلك بالإسهال أو الإمساك، كما أن الإسراف في الطعام يؤدي إلى البدانة، ومن ثم يتعرض الإنسان لأمراض القلب وارتفاع الضغط وأمراض الكلى والسكر.
ولا تقتصر مشكلة الإسراف في الطعام على استهلاكه، بل تمتد لتشمل بعض السلوكيات المرتبطة به. وفي هذا الصدد تشير
__________
(1) مجلة النور (الاستعمار السجائري) ، تحقيق، الكويت، ع 72، صفر 1410 هـ، ص 6 - 10.(60/347)
بعض الدراسات التي أجريت في الكويت أن ما يلقى ويتلف من مواد غذائية ويوضع في صناديق القمامة كبير إلى الحد الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات 45% من حجم القمامة. وفي مدينة الرياض أظهرت دراسة أعدتها أمانة مدينة الرياض عن نفايات المدينة أن كمية النفايات اليومية لكل فرد من نفايات المواد الغذائية تبلغ 1060 جراما. والملاحظ في دول الخليج العربي أن كمية المواد الغذائية التي تلقى في القمامة كبيرة جدا بالمقارنة مع غيرها من دول العالم (1) .
3 - الإعلان والعادات الشرائية الخاطئة: من أهم مظاهر الضياع في الاستهلاك، الخسارة الاقتصادية الناجمة عن الجهل والخرافة في شراء الضروريات. فالعادات الشرائية تميل لأن تكون ثابتة مهما كانت خاطئة، وغالبا ما يقوم استهلاك الفرد على أساس عشوائي مرتجل لا على أساس رشيد، إذ هو يستند على عادات شرائية غالبا ما تكون خاطئة، ويستمر الفرد في أدائها؛ لأنه وجدها هكذا أو بدافع التقليد للغير. ومن أوضح الأمثلة للعادات الشرائية الخاطئة: أن الناس يشترون التفاح للونه الأحمر وليس لقيمته الغذائية، كما يفضلون الخبز الأبيض والأرز المقشور على الخبز الأسمر والأرز غير المقشور وهما الأفضل من الوجهة الغذائية. فإذا أمكننا بآية طريقة تعليم المستهلك والأصناف التي تعطي قيمة غذائية قصوى أقل نفقة لاقتصدنا الكثير من العمل الإنتاجي، وهذا ما تناوله بالتفصيل هنري
__________
(1) محمد عبد القادر (الإسراف وتأثيره على البيئة) ، ص 55، 56.(60/348)
هاراب (1) في كتابه (تعليم المستهلك) . ويعد الإعلان مسئولا إلى حد كبير عن تكوين مثل هذه العادات الشرائية الخاطئة.
فقد يعمد المعلنون إلى تشكيك الناس في سلع قديمة أو سلع جديدة في حوزتهم لم تبل أو تستنفذ بعد، لينصرفوا عنها إلى شراء سلع جديدة، وهذا أيضا يمثل ضياعا في المواد الاستهلاكية.
ومن خلال الدراسات والتحقيقات التي أجريت تبين أن الإعلانات التجارية تمارس دورا كبيرا في خداع المستهلك، وفي دفعه إلى المزيد من الشراء لأشياء كثيرة لا حاجة به إليها فعلا، وهذا هو الإسراف بعينه، بل وتمارس الإعلانات دورا في تقلب البواعث الوجدانية كالتقاليد وحب التميز والزهو والطموح والدهشة وما إلى ذلك من خلجات النفس التي تسعى الإعلانات لإثارتها في الإنسان.
4 - جنون الأزياء وتعدد أنماط المنتجات: إن تغيرات الأزياء والنماذج المتعددة إن هي إلا تقلبات مفتعلة لحمل المستهلكين على الشراء، مع أنها لا تعكس رغباتهم، وقد تتنافر مع أذواقهم إلى حد كبير. وهم إذ يقبلون عليها فإنما يفعلون ذلك تحت تأثير الحملات
__________
(1) H. Harrap - The Education Of The Consumer Mc Graw - Hill New York 1950 P. . 60 - 85.(60/349)
الإعلانية الواسعة النطاق التي تولد في نفوسهم شعورا بأنهم يكونون متأخرين إذا لم يقبلوا عليها. وتبدو هذه الظاهرة بوضوح في أزياء النساء، كما امتدت أيضا إلى السيارات وأجهزة المذياع والتلفزيون والأثاث وبعض السلع التموينية؛ إذ أصبح الأغنياء يغيرون هذه الأشياء سنويا ليتمشوا مع الطراز الحديث. والمستهلك قد يترك بعض السلع قبل أن يحصل على الفائدة المرجوة منها، أو قبل أن تصبح غير صالحة للاستعمال. وهذا ما يعبر عنه اقتصاديا بنقص في جملة الإشباع العام، وهو ولا شك من أبرز نواحي الضياع في النظام الاقتصادي.
5 - المبالغة في الإنفاق العسكري: وهو من أهم مظاهر الضياع في الموارد الاستهلاكية؛ وذلك لاستنفاذه لجانب كبير من ميزانيات الدول، كان سيعود على الجميع بالنفع الكثير، لو أنفق على المشروعات والخدمات العامة لرفع مستوى المعيشة.(60/350)
وإن كان هذا الإنفاق العسكري قد يتمخض عنه اكتشاف فن إنتاجي يفيد في القطاع المدني خاصة في الدول النامية، كما أننا مطالبون بالاستعداد العسكري استجابة لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) .
غير أن من السمات الرئيسية للدول النامية ومنها الدول الإسلامية وجود العديد من بنود الإنفاق الحكومي التي تتسم بالضخامة والتبذير والضياع، ولا تتحقق التنمية إلا بضغط بنود الاستهلاك الحكومي التي تتسم بالإسراف والتبذير.
إن الإنفاق العسكري المتصاعد يعني ضمنا افتقارا عاما إلى الاقتناع بإبقاء حجم القوات والترسانات العسكرية عند حجم ثابت، ناهيك عن تخفيضه.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(60/351)
وثمة تناقض آخر بين الطلب المتزايد على الموارد من أجل التنمية والمخصصات المتزايدة لتلك الموارد للأغراض العسكرية.
وأستعرض فيما يلي بعضا من المتناقضات الواقعة بين الأولويات العسكرية والاجتماعية والبيئية ومن ذلك:
1 - أنفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة وعلى مدى عشر سنوات (450) مليون دولار، أي ما يعادل أقل من خمس ساعات من الإنفاق العسكري العالمي.
2 - بلغ إجمالي قيمة المساعدات الإنمائية الرسمية السنوية المقدمة إلى البلدان النامية (35) مليار دولار، أي ما يعادل (15) يوما من الإنفاق العسكري العالمي.
3 - يمكن استخدام (6 - 7 ساعات من الإنفاق العسكري العالمي 700 مليون دولار) للقضاء على الملاريا، ذلك المرض القاتل الذي يفتك بأرواح مليون طفل سنويا.
4 - يعادل (يوم واحد من حرب الكويت 1991 م 5، 1 مليار دولار) برنامج عالمي مدته خمسة أعوام لتحصين الأطفال ضد ستة أمراض قاتلة، والحيلولة دون وفاة مليون طفل سنويا.
والجدول التالي (رقم 1) يبين حجم الإنفاق العسكري وأثره على محاولات التعليم والصحة وغيرها من الخدمات:(60/352)
حجم الإنفاق العسكري في الوطن العربي
الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي
الإنفاق العسكري إلى الصحة والتعليم
واردات أسلحة بالمليون دولار
صافي المساعدات للتنمية إلى الإنفاق العسكري
أفراد القوات المسلحة إلى المعلمين
1986 1960
12 5، 4
1986
177
1987
25، 12
1986
108
1986
198
يبين الجدول أن الإنفاق العسكري منسوبا إلى الناتج القومي قد ارتفع من 5.4 % عام 1960 م إلى 12 % عام 1986 م، وأنه يعتبر من أعلى نسب الإنفاق بمعايير أخرى كالإنفاق على الصحة والتعليم أو الخدمات الاجتماعية الأخرى، وأن أفراد القوات المسلحة يبلغون ضعف عدد المعلمين تقريبا. ومن ثم فإن تخفيض الإنفاق العسكري أو ترشيده أو تكامله بين الأقطار العربية سوف يتيح موارد إضافية لمجالات التنمية البشرية ومن أهمها قطاع التربية والتعليم.(60/353)
الآثار المترتبة على الإسراف والتبذير:
لا شك أن هناك العديد من النتائج والآثار السيئة المترتبة على(60/353)
شيوع ظاهرة الإسراف والتبذير، ومن ذلك:
1 - الإسراف خطر علي العقيدة: الإسراف يرفع مستوى معيشة الفرد والأسرة رفعا كاذبا يفوق الدخل الحقيقي المستمر، ثم لا تكاد المكاسب الجانبية تزول ولا يبقى سوى الدخل الحقيقي، حتى يلجأ كثير من المسرفين إلى طرق شريفة وغير شريفة لاستمرار التدفق النقدي وتحقيق المستوى العالي من الإنفاق الذي اعتادوه فتمتد اليد بشكل أو بآخر فيقعوا تحت وطأة الكسب الحرام، ذلك أن المسرف قد تضيق به أو تنتهي به موارده، فيضطر تلبية وحفاظا على حياة الترف والنعيم التي ألفها إلى الوقوع في الكسب الحرام، وقد جاء في الحديث: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به (1) » .
2 - الإسراف نوع من التسرع والتهور: الإسراف نوع من التهور والتسرع، وعدم التبصر بعواقب الأمور، وقد يكون دليلا على الاستهتار وعدم الحكمة في تحمل المسئولية، وكل ذلك يؤدي إلى وخيم العواقب، وسيء النتائج، فهو يقتل حيوية الأمة ويؤدي بها إلى البوار والفساد، ويملأ القلوب حقدا وضغينة،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، 1 \ 37.(60/354)
ويقضي على حياة الأمن والاستقرار، كما أن فيه كسرا لنفوس الفقراء وبطرا لأهل الغنى (1) .
3 - الإسراف ودواعي الشر والإثم: فالسرف داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ لأنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويشغلها عن الطاعات، كما أنه يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس، وحينئذ لا يؤمن على الفرد من الوقوع في الإثم والمعصية. فالشيطان أعظم ما يتحكم في الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه (2) » .
4 - الإسراف وتأثيره على البيئة: يعتبر الإسراف سببا رئيسا من أسباب تدهور البيئة واستنزاف مواردها. وهو وإن كان متعدد الصور والأساليب، إلا أنه يؤدي بشكل عام إلى نتيجة واحدة:
__________
(1) د. حمد الجنيدل (نظرية التملك في الإسلام) مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403 هـ، ص 81.
(2) رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، رقم 2381، وقال هذا حديث حسن صحيح، ورواه أيضا ابن حبان، وابن ماجه، والحاكم وصححه الذهبي. ينظر: ابن الأثير جامع الأصول في أحاديث الرسول، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني، بيروت 1391 هـ، 7 \ 410.(60/355)
إهلاك الحرث والنسل، وتدمير التوازن البيئي (1) .
5 - الترف والدعوة إلى النعومة والليونة: يؤدي الترف إلى النعومة والليونة، التي تدفع الناس إلى الرذائل، وتقعد بهم عن الجهاد والتضحية، وفي ذلك أعظم الخطر على الأمة.
6 - التبذير والهوى: التبذير مما يأمر به الهوى وينهى عنه العقل، وأحسن الأدب في هذا تأديب الحق سبحانه حين قال: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (2) ، فالإنسان قد يعطى رزق شهر في يوم، فإذا بذر فيه بقي شهرا يعاني البلاء، وإذا دبر منه عاش شهرا طيب النفس.
7 - عدم الرعاية والاهتمام بالآخرين: ذلك أن الإنسان لا يراعي الآخرين ولا يهتم بهم غالبا، إلا إذا أضناه التعب وغصته الحاجة، كما أثر عن يوسف عليه السلام لما سئل: لا نراك تشبع أبدا؟ قال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع (3) . والمسرف مغمور بالنعمة من كل جانب، فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين
__________
(1) محمد عبد القادر الفقي (الإسراف وتأثيره على البيئة) ، ص 51.
(2) سورة الإسراء الآية 26
(3) أورد هذا الأثر: محمد قره علي (سنابل الزمن) مؤسسة نوفل، بيروت، 1986 م، ص 264.(60/356)
الإسراف والتبذير في واقع الناس:
إن موضوع الطعام والشراب في تاريخ الأمة المسلمة قديم(60/356)
وعريق، فأصوله تستمد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما أن كتب الفقه والرقائق والمواعظ والزهديات والأخلاق تفرد أبوابا للطعام والشراب، تنهى عن المحرمات، وتأمر باتباع الآداب الشرعية.
أما اليوم، فقد أصبح الطعام والشراب في حياة أغلب الناس نهما وشرها، وإسرافا وتبذيرا ولذة وغاية. تهدر في صناعة الأطعمة والأشربة الأموال، وتنصب الموائد المفتوحة، في البيوت والمطاعم ويجري السباق في إقامة الحفلات والمناسبات الباذخة.
وانزلق عامة الناس إلى مساوئ التقليد الأعمى للأمم المادية المترفة، واتسمت حياة الكثيرين بالتكلف والإسراف في ولائمهم وأعيادهم وحياتهم. حتى أصبحت أعيادنا مظاهر باهظة الثمن ورمضاننا في كل عام موسما للسرف والترف، بدلا من أن يكون عبادة وتهجدا.
فتحول الغذاء إلى خطر رهيب، وارتفعت صيحات التحذير من مستقبل ينذر بالأخطار وباتت الحاجة ماسة للأمن الاجتماعي والاقتصادي والغذائي وترشيد الإنفاق والاستهلاك.
إن الإنسان كائن حي، يقوم بوظائف مهمة: عبادة الله ثم إعمار الأرض وإقامة مبادئ العدل والخير. وهذا يجعله بحاجة إلى الطعام، كي ينمو ويعيش ويتحرك ويعمل ويحتاج إلى الماء، إذ لا يستطيع الإنسان البقاء حيا لمدة طويلة بلا ماء.
فاستجابة الكائن البشري لغريزة الطعام والشراب أمر فطري. كما أن المحافظة على القوام الغذائي المتنوع والمتوازن مع التوسط والاعتدال يمنح الإنسان في مراحل عمره جسما قويا وصحة دائمة(60/357)
وعمرا مباركا ومديدا.
إذ لا يكفي الإنسان في طعامه وشرابه أن يتناول نوعا واحدا، فلا بد من توافر الاحتياجات الأساسية من مثل: الماء، والسكريات، والبروتينات والشحوم والدهون، والفيتامينات، وبعض العناصر المعدنية.
إن الإنسان إذا أكل ما يسد به جوعه، وشرب ما يسكن به ظمأه، فإن هذا مطلوب عقلا، ومندوب إليه شرعا، لما فيه من حفظ النفس وصيانة الحواس.
يقول محيي الدين مستو في كتابه (الطعام والشراب بين الاعتدال والإسراف) (1) . إذا كانت التخمة تمرض وتميت، فإن الحرمان يمرض النفس ويفتر عن العبادة أما الوسطية فإنها تنشط النفس وتظهر روحانيتها. فالاعتدال توسط بين التقتير والإسراف، وبين البخل والإنفاق الزائد عن الحلال في المأكل والمشرب.
وقد حث رسول الله عليه السلام على الاعتدال وحض على التقلل من الطعام والشراب، فقال عليه الصلاة والسلام: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد (2) » رواه مسلم.
قال حاتم الطائي ذاما كثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
إن الاعتدال، إذن، هو التوسط بين الجوع والتخمة، بالتقليل من كمية الطعام والشراب، دون أن ينقص عن حاجة البدن والعمل،
__________
(1) محيي الدين مستو (الطعام والشراب) ص 27.
(2) صحيح البخاري الأطعمة (5393) ، صحيح مسلم الأشربة (2060) ، سنن الترمذي الأطعمة (1818) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) ، سنن الدارمي الأطعمة (2040) .(60/358)
وفي ذلك فوائد جمة منها: صحة الجسم، وجودة الفهم، وقوة الحفظ، وقلة النوم، وخفة النفس، قال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء.
وفي المقابل، فإن الإقبال على الطعام بشره زائد يجعل الأغذية عند النهمين المسرفين هدفا وغاية، يبذلون من أجلها الأموال الباهظة، ويمضون أوقاتا طويلة في الأسواق، يشترون ألوان الأطعمة. وهؤلاء الذين جعلوا همهم بطونهم وأهدافهم ملذاتهم وشهواتهم، يضنون بأموالهم عن مساعدة بائس أو إعانة فقير، فنتج عن ذلك بطون جائعة وأموال ضائعة.
إن الإسراف والتبذير والترف والمباهاة سلوكيات استهلاكية خطيرة دخلت مع الأسف حياة الناس وشملت معظم جوانب الحياة المختلفة، فهناك التنويع في الأطعمة والأشربة في الدعوات العامة والمناسبات وولائم الأعراس التي تكلف أموالا طائلة، وهناك الموائد المفتوحة المشتملة على أصناف عديدة، لقاء مبالغ محددة عن كل شخص وهناك الولائم المخصصة في حالات الوفاة والمآتم.
فيا عجبا من مجتمع يقيم الأفراح والولائم والمجتمعات المسلمة تعاني من الأحزان والمآتم، وقديما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلمته المشهورة: " ما جاع فقير إلا بما تمتع غني ".
ورد عن القاضي عياض رحمه الله قوله: إن كثرة الأكل والشرب دليل على النهم والحرص والشره وغلبة الشهوة، وهي مسبب لمضار الدنيا والآخرة وجالب لأدواء الجسد وخثار النفس أي فتورها.(60/359)
إن الإسراف في تناول الطعام والشراب يؤدي إلى اختزانها في الجسم، وتحولها إلى لحم وشحم وبدانة وبطنة، تقعد بالإنسان عن كثير من أعماله ونشاطاته. وقديما قيل: البطنة تذهب الفطنة.
وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولته المشهورة وحكمته المأثورة: إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة، مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد عن الأشر، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة، وإن امرءا لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
ومن طريف القول ما أجاب به مسلمة بن عبد الملك ملك الروم، حين سئل: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال مسلمة: الذي يملأ بطنه من كل ما وجد.
وكان فرقد رحمه الله يقول لأصحابه ناصحا: إذا أكلتم فشدوا الأزر على أوساطكم، وصغروا اللقم، وشددوا المضغ، ومصوا الماء مصا، ولا يحل أحدكم إزاره فيتسع معاه، وليأكل كل واحد من بين يديه.
وقد أجمعت الأطباء على أن رأس الداء إدخال الطعام على الطعام، وقالوا: أكثر العلل إنما يتولد من فضول وزوائد الطعام.
إن مراتب الطعام والشراب (الغذاء) كما قسم ذلك ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه " الطب النبوي " (1) ، مراتب ثلاثة: مرتبة الحاجة، ثم مرتبة الكفاية، وأخيرا مرتبة الفضلة.
__________
(1) ابن قيم الجوزية (الطب النبوي) ص 56.(60/360)
وللأسف، حتى في رمضان تزداد مصروفات الأسر لمجابهة الشراهة الاستهلاكية ونهم التسوق والإنفاق المرتفع، حتى أصبح مألوفا في أمسيات شهر رمضان كثرة حالات الإسعاف بسبب الإسراف والتخمة.
ذات يوم أوقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله (وقيل جابر بن عبد الله) رضي الله عنهم وسأله: إلى أين أنت ذاهب. فقال عبد الله: للسوق. فقال الفاروق له: لماذا؟ ! فأجاب: لأشتري لحما وبرر ذلك الشراء، بأنه اشتهى لحما فخرج للسوق ليشتري بعضا منه، فقال له الفاروق: أكلما اشتهيت شيئا اشتريته.
إنها حكمة اقتصادية خالدة، وقاعدة استهلاكية رشيدة. خاصة ونحن نشهد في أيامنا هذه سباقا محموما يترافق معه أساليب تسويقية جديدة، وأساليب إعلانية مثيرة، ووسائل إعلامية جذابة، ودعايات كثيفة من أجل الشراء والمزيد منه.
وقد تبين من خلال تحقيقات، عديدة أن شريحة واسعة من الناس تشتري ما لا تحتاج، وتستهلك من المنتجات والسلع أكثر من اللازم.
يقول وليام بن: إن ما ننفقه على أغراض الزينة الزائفة يكفي لكساء جميع العراة في العالم، وهكذا أصبحت حياتنا المترفة تملأ البطون بما لذ وطاب وتغذي الأرواح بأشياء فارغة وفاسدة. فكم هو سخف الإنسان الذي يتظاهر دوما بالذكاء والمعرفة.
يقول سمايل: إن الحياة السهلة المترفة لا تدرب الرجال على(60/361)
بذل الجهد أو مواجهة الصعاب ولا توقظ فيهم تلك المقدرة اللازمة للجهد الفعال في الحياة.
بعض الرجال يعتبر اهتمام النساء الزائد بالموضات وبضرورة التجاوب معها بأنه انعكاس لعدم تحليهن بقدر كاف من المعقولية في التفكير.
يقول علي غلوم: الشائع بيننا أن المرأة أكثر إسرافا من الرجل، سواء في ملبسها أو إنفاقها، ولكن هناك من الرجال من هم أكثر إسرافا في أموالهم وسلوكهم ومقتنياتهم، فالأمر نسبي ويرتبط بحجم ما يتوفر لدى الفرد من مغريات نحو الإسراف.
وتقول صباح المالكي في معرض حديثها عن الإسراف: من أسباب الإسراف حاجة المرأة لتملك بعض الأشياء التي ترى أنها في حاجة إليها لتجميل منزلها، أو لإضفاء البهجة على الأسرة والأبناء بوجه خاص من ألعاب وملابس واحتياجات.
وتؤدي الأنانية والنفعية الشخصية في كثير من الأسر والمجتمعات إلى الإسراف في استغلال مصادر الدخل.
ومن ثم، ظهر على الساحة هوس تسوقي غريب وإدمان شرائي كبير، وحمى استهلاكية عجيبة، تؤجج ذلك كله إعلانات مثيرة ودعايات جذابة ومسابقات مغرية وحوافز مشجعة.
وأكثر الإعلانات أثرا هي تلك التي يمكن إعادتها بصيغ متعددة، وفي أماكن يمكن رؤيتها من قبل أعداد كبيرة من الناس كبرامج التلفزيون المحببة للمشاهدين والصحف والأسواق المركزية.
تقول فوزية خليل في معرض مشاركتها في تحقيق حول(60/362)
(هوس التسوق عند المرأة) : إن هوس التسوق عادة ما يكون انفعاليا، ويمثل عند المرأة طريقة تعويض عن معاناة عاطفية، أو نتيجة حرمان أو قلق أو تعاسة زوجية أو قلة حنان، وقد يكون هذا الهوس التسوقي عند النساء أكثر شيوعا.
وفي التحقيق نفسه تقول بدرية المطيري: هناك من النساء من يشترين أغراضا ليست ضرورية ولا في حدود إمكانياتهن، ويدفعن بالرجال إلى دفع الكثير من أجل إرضاء رغباتهن الجنونية.
ومن أهم نتائج تحقيق أجري حول (الإعلانات التجارية والإسراف) : الإعلانات تدفع المرأة للشراء والمزيد منه، كما أن المرأة تشتري السلعة عادة على سبيل التجريب نتيجة الإعلان عنها، والمسابقات العديدة تغري الأطفال بالشراء بكثافة. ووصل التحقيق إلى نتيجة مهمة: الإعلانات التجارية مسؤولة إلى حد كبير في دفع الناس إلى الإسراف وخاصة المرأة، جريا وراء التفاخر والمباهاة أو حبا للاستطلاع أو رغبة في التقليد.
إن عادة التقليد بين الناس لا تقتصر على قطر من الأقطار أو جنس من الأجناس، بل إنها عادة عالمية يصعب تغييرها.
إن النفس البشرية نفس لا تشبع، وفي الوقت نفسه لا تقنع، فهي طلعة لكل نوع، متشوفة لكل شكل، فضولية لكل لون.
نعوذ بالله من عين لا تدمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تقنع، ومن بطن لا يشبع، ومن دعاء لا يستجاب له.
والتخمة، السمنة، السرف، التبذير، الترف، التبديد، الاستنزاف، تلال النفايات والقمامة، الثنائيات الاجتماعية، الترهل،(60/363)
اللامبالاة، كفر النعمة. . . ما هذه إلا بعض آثار، لا شك أنها تتولد من السلوك الشرائي غير المنضبط، ومن الإدمان الاستهلاكي غير المتزن، ومن الإنفاق البذخي غير الرشيد.
إن صناديق القمامة تشهد أكياسا من الزبالة وألوانا من النفايات المنزلية أشبه بالتلال نتيجة الاستهلاك المنزلي الشره، وصدق من قال إن الاستهلاك هو طوفان التلوث القادم.
فإذا أضفنا إلى ما سبق شيوع أخلاقيات الأنا والجسد والجشع والمباهاة والتقليد وكسر قلوب الفقراء والمساكين والمحتاجين واختلال الميزانيات الأسرية والاستدانة. . . فإن هذا كله يستلزم أن نقف في وجه الوحش الاستهلاكي والغول الشرائي والإدمان الإنفاقي والهوس التسوقي من أجل أن تغلق وبشكل نهائي الملف الأسود للاستهلاك في كل بيت، وعند كل أسرة وداخل كل مجتمع وفي أي دولة.
إننا لو جمعنا كل ما ينفق على الأمور التافهة في صندوق موحد، ثم أنفق هذا على إزالة أسباب المأساة من حياة الكثيرين، لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.
وإذا تمثلت أعمالنا بالتدبير وحسن التصرف فإننا نستطيع التخلص من النقيضين وهما الإفراط في الإنفاق والاستهلاك، وحالات العوز والفقر، إذ يمكن للأول سد حاجات الثاني، بحيث يقترب النقيضان إلى معدل معقول.(60/364)
معالجة ظاهرة الإسراف والتبذير:
إن الاعتدال هو جوهر الإسلام في كل الأنشطة البشرية، فالإسلام ينهى عن التقتير كما ينهى عن الإسراف وعن الاستهلاك(60/364)
حبا في الظهور.
وقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية استهلاك المسلم بما لا يوصف بالإسراف والتبذير، بحيث تتناول الخريطة الاستهلاكية على مستوى الأفراد: (المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والزينة، ووسائل التنقل، وتكاليف الزواج، وأجور العمال. . .) ، وبحيث تنضبط بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة.
ومن ثم، فينبغي على المسلم الالتزام داخل هذه الخريطة الاستهلاكية بما يلي:
1 - الناحية الاقتصادية لا تملك المؤمن بل يواجهها بعقيدته وبخلقه.
2 - الاستهلاك في حدود الوسط والاعتدال.
3 - تجنب الفخر والخيلاء.
4 - الابتعاد عن الحرام.
5 - ترشيد وتنظيم الاستهلاك.
6 - تناول المنتجات الاستهلاكية وادخارها عند اليسر والرخاء.
كما أن المستهلك المسلم يتحرك داخل مناطق استهلاكية محددة شرعا، تتراوح ما بين الإباحة والحرمة.
أولا: منطقة القوام (الوسطية والاعتدال) : وهي منطقة مباحة، إذ هي وسط بين الإسراف والتقتير، ووسط بين الزينة والورع، وأكثر الناس لا يأخذ بها، إذ هم يميلون غالبا إلى الزينة، ويتجاوز بعضهم إلى الترف والسرف والتبذير. وأصل هذه المنطقة قوله(60/365)
تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) . وقوله عليه السلام: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة (2) » حديث حسن أخرجه أحمد والنسائي.
ثانيا: منطقة الزينة (الطيبات وإظهار الغنى) : وهي منطقة مباحة. يقول تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (3) . ويقول عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (4) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (5) » حديث حسن، أخرجه الترمذي. ومن هذه المنطقة التحدث بالنعم والرفاهية، على ألا يخرج المستهلك المسلم إلى منطقة الترف المنهي عنه.
ثالثا: منطقة الورع (التقشف والزهد) : وهي منطقة مباحة، ورغم أنها منطقة محمودة، بيد أن الذين يستطيعون المكث فيها قلة من الناس. ويأتي على رأس هذه المنطقة الأنبياء عليهم السلام، والزهاد الأوائل، وقليل من المتأخرين. إذ في هذه المنطقة كثير من التضحية بالدنيا ومباهجها، وإيثار الآخرين على النفس. ولو تيسر ذلك لأمكن حل المشكلات الاقتصادية. وأصل هذه المنطقة قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (6) .
رابعا: منطقة التقتير (البخل والشح) : وهي منطقة محرمة،
__________
(1) سورة الفرقان الآية 67
(2) سنن النسائي الزكاة (2559) ، سنن ابن ماجه اللباس (3605) ، مسند أحمد بن حنبل (2/182) .
(3) سورة الضحى الآية 11
(4) سورة الأعراف الآية 31
(5) سنن الترمذي الأدب (2819) .
(6) سورة الحشر الآية 9(60/366)
فالبخيل عدو لله وعدو لنفسه وعدو لكل ما ينفع الناس، حتى لو وصلت به الحال إلى الزهد الأعجمي وحرمان نفسه من الضروريات.
وأصل هذه المنطقة قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} (1) . وقوله عليه السلام: «إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا (2) » حديث صحيح على شرط مسلم كما عند الحاكم في المستدرك، أخرجه أبو داود.
خامسا: منطقة الإسراف (التبذير والترف) : وهي منطقة محرمة. قال تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (3) . وقال عز وجل: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (4) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (5) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب، فيتشدقون بالكلام» . حديث صحيح، أخرجه أحمد والحاكم.
والتبذير أشد من الإسراف، فهو مغالاة وتجاوز للحد المعروف، وتوسع في الإنفاق المحرم، وعلى المعاصي والشهوات المنكرة.
كما أن الترف أشد من التبذير إذ يتوسع المرء المترف في ملاذ الدنيا وشهواتها.
__________
(1) سورة محمد الآية 38
(2) سنن أبو داود الزكاة (1698) ، مسند أحمد بن حنبل (2/195) .
(3) سورة الأنعام الآية 141
(4) سورة الإسراء الآية 26
(5) سورة الإسراء الآية 27(60/367)
وإذا انتشر الترف في الأمة أودى بها إلى الفناء. ومن هذه المنطقة إضاعة المال. والرسول الكريم نهى عن إضاعة المال، كما روى ذلك الشيخان.
وانسجاما مع أسلوب ومنطقة الاعتدال والقوام، وبعدا عن أسلوب ومنطقة الإسراف والتبذير، وضع الإسلام قيودا نوعية وكمية وقعد قواعد حاكمة للعملية الاستهلاكية. ومن ذلك:
1 - النهي عن حياة الترف: والترف هو المبالغة في التنعم، والمترف هو المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها. والإسلام لا يحبذ الترف بل يعده سلوكا غير سوي، وسببا في نزول العذاب وهلاك الأمم ودمارها، ومؤشرا على الابتعاد عن الطريق القويم، وعلامة على تخلخل كيان المجتمع واهتزازه، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (1) .
2 - النهي عن الإسراف والتبذير والسفه: والإسراف - كما بينا - هو تجاوز القصد والاعتدال في الإنفاق، وهو ما دون الترف. أما التبذير فيعني إنفاق المال وتفريقه إسرافا في غير ما ينبغي. والسفه ضد الرشد. وقد نهى الشرع عن الإسراف والتبذير لما ينطوي عليهما من تبديد غير واع لموارد الفرد والمجتمع.
3 - الأمر بالاعتدال في الإنفاق: بحيث يكون المسلم متوازنا بين مصالح الدين والدنيا والروح والمادة. فالنهي عن الترف والإسراف والتبذير، لا يعني الدعوة إلى البخل والشح والتقتير،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 16(60/368)
إنما يعني الدعوة إلى الاعتدال. لما لذلك من آثار إيجابية على الفرد والمجتمع، فإذا كان البخل يقود إلى نقص الميل للاستهلاك، فإن الترف والإسراف يقودان إلى تبديد الموارد وإتلافها، وكلاهما آفة.
4 - الابتعاد عن استهلاك المنتجات المحرمة والضارة: ويعني هذا أن تكون المنتجات من الطيبات المتصفة بالحسن والنقاء والطهارة، فقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث. والقاعدة الفقهية تقول: " لا ضرر ولا ضرار ".
5 - عدم المباهاة والخيلاء: إذ الإسلام ينظر إلى الإنفاق الاستهلاكي باعتباره قوام المجتمعات، ومن الواجبات الاجتماعية. ومن ثم، فينبغي أن يحذر المسلم من أن يداخل إنفاقه مباهاة أو خيلاء. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء (2) » متفق عليه.
6 - تذليل النفس البشرية بالجوع: لتضييق مجاري الشيطان. فالنفس البشرية إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.
وقد ورد عن جمع من العلماء والفقهاء أن في الجوع فوائد
__________
(1) سورة البقرة الآية 264
(2) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1730) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) ، موطأ مالك الجامع (1696) .(60/369)
جمة، ومن ذلك:
أ - صفاء القلب ونفاذ البصيرة.
ب - زوال البطر والأشر.
جـ - تذكر بلاء الله وعذابه.
د - كسر شهوات المعاصي.
هـ - المواظبة على العبادة.
والإيثار والتصدق بالفضل.
7 - التربية الاقتصادية: وذلك على حسن الإنتاج والكسب، وحسن الاستهلاك والإنفاق، وحسن التوزيع. وفي هذا المقام يمكن أن نستأنس بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليه، ومن ذلك:
أ - التربية على أن الغنى غنى النفس: جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «أترى كثرة المال هو الغنى؟ قال أبو ذر: نعم. وترى قلة المال هو الفقر؟ قال أبو ذر: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب حديث صحيح» . ومعنى ذلك عدم تقبل المال من كل سبيل، وعدم إنفاقه في كل سبيل وبأي مقدار.
ب - التربية على العمل وكسب العيش: جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله (1) »
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1469) ، صحيح مسلم الزكاة (1053) ، سنن الترمذي البر والصلة (2024) ، سنن النسائي الزكاة (2588) ، سنن أبو داود الزكاة (1644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/94) ، موطأ مالك الجامع (1880) ، سنن الدارمي الزكاة (1646) .(60/370)
رواه البخاري. ومعنى ذلك أن الوسائل النفسية المهمة: التعفف، والاستغناء، والصبر.
أما الوسيلة المادية فهي العمل، كما في حديث: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه (1) » . رواه البخاري. ولهذا كان أهل مكة يعملون في التجارة في مكة، وبالزراعة في المدينة.
ب - التربية على الاعتماد الذاتي والاكتفاء بالدخل الشخصي. جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قول رسول الله: «فراش للرجل وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان (2) » رواه مسلم. ومعنى ذلك تقليل المصروفات، حتى لا يحتاج المرء إلى الاستدانة من الآخرين، وليكتفي ذاتيا بما عنده.
د - التربية على العطاء. جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة (3) » رواه مسلم. ومعنى ذلك رفع المستوى الاقتصادي للمجتمع، بحيث يكثر فيه المعطون، ويقل فيه الآخذون.
هذه أهم معالم التربية الاقتصادية التي نشأ رسول الله أصحابه عليها، ورباهم على الأخذ بها، ودعاهم إلى سلوكها، فآتت ثمارها على الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى المجتمع المسلم، وكان لها صداها في مجال الدعوة إلى الإسلام.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1471) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1836) ، مسند أحمد بن حنبل (1/164) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2084) ، سنن النسائي النكاح (3385) ، سنن أبو داود اللباس (4142) ، مسند أحمد بن حنبل (3/293) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1429) ، صحيح مسلم الزكاة (1033) ، سنن النسائي الزكاة (2533) ، سنن أبو داود الزكاة (1648) ، مسند أحمد بن حنبل (2/152) ، موطأ مالك الجامع (1881) ، سنن الدارمي الزكاة (1652) .(60/371)
وحري بنا نحن أن نقتدي برسولنا ونمتثل تلك المعالم التربوية سلوكا واقعيا وعمليا.
إن على المسلمين أن يحجموا عن أي نمط سلوكي يدمر هذه القيم والمعالم والآداب. فأي نفقة بنية التباهي أو إظهار الأبهة أو الخيلاء، لا بد وأن يكون من شأنها توسيع الهوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء في المجتمع المسلم الواحد.
إن نمط الإنفاق السليم والمتفق مع الآداب الشرعية هو ذلك الذي يحكي البساطة والتواضع والاعتدال. ولا يعني ذلك عزوف المسلمين عن الاستفادة من دخلهم، أو من الموارد التي امتن الله بها عليهم، لسد حاجاتهم أو عن تزويد أنفسهم بأسباب الراحة.
لكن الإسلام يتطلب إعطاء الاستهلاك جدوى وجودة أعظم. كما يأمر بتجنب أسلوب الحياة القائم على الغرور والخداع، لإشباع الميل الشديد إلى تقليد الآخرين.
إن المنافسة غير الصحية على رموز الأبهة والمصحوبة بعدد من العادات، ولا سيما بمناسبات الزواج، إنما تؤدي إلى الإنفاق المفرط الذي يتم تمويله إما بتعطيل استثمار ما سبق ادخاره أو بمنع ادخار المستقبل.
ولا تلبث العدوى أن تصيب كل المناخ الاجتماعي. إن المسلم مطالب بالاعتدال والتوازن والابتعاد عن كل مظاهر الفساد والترف والإسراف والتبذير، آفات المجتمعات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين.(60/372)
بيان في لباس المرأة عند محارمها ونسائها صادر
من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد كانت نساء المؤمنين في صدر الإسلام قد بلغن الغاية في الطهر والعفة، والحياء والحشمة ببركة الإيمان بالله ورسوله واتباع القرآن والسنة، وكانت النساء في ذلك العهد يلبسن الثياب الساترة ولا يعرف عنهن التكشف والتبذل عند اجتماعهن ببعضهن أو بمحارمهن، وعلى هذه السنة القويمة جرى عمل نساء الأمة - ولله الحمد - قرنا بعد قرن إلى عهد قريب فدخل في كثير من النساء ما دخل من فساد في اللباس والأخلاق لأسباب عديدة ليس هذا موضع بسطها.
ونظرا لكثرة الاستفتاءات الواردة إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حدود نظر المرأة إلى المرأة وما يلزمها من اللباس فإن اللجنة تبين لعموم نساء المسلمين: أنه يجب على المرأة أن تتخلق بخلق الحياء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان وشعبة من شعبه، ومن الحياء المأمور به شرعا وعرفا تستر المرأة واحتشامها وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتنة ومواضع الريبة.(60/373)
وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت وحال المهنة كما قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1) الآية. وإذا كان هذا هو نص القرآن وهو ما دلت عليه السنة فأنه هو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة ومن اتبعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا. وما جرت العادة بكشفه للمذكورين في الآية الكريمة هو: ما يظهر من المرأة غالبا في البيت وحال المهنة ويشق عليها التحرز منه كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في التكشف فعلاوة على أنه لم يدل على جوازه دليل من كتاب أو سنة هو أيضا طريق لفتنة المرأة والافتتان بها من بنات جنسها وهذا موجود بينهن، وفيه أيضا قدوة سيئة لغيرهن من النساء، كما أن في ذلك تشبها بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » . أخرجه الإمام أحمد وأبو داود. وفي صحيح مسلم «عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها (3) » . وفي
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2077) ، سنن النسائي الزينة (5317) ، مسند أحمد بن حنبل (2/207) .(60/374)
صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا (1) » . ومعنى " كاسيات عاريات ": هو أن تكتسي المرأة ما لا يسترها فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تلبس الثوب الرقيق الذي يشف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع جسمها، أو الثوب القصير الذي لا يستر بعض أعضائها.
فالمتعين على نساء المسلمين التزام الهدي الذي كان عليه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة رضي الله عنهن ومن اتبعهن بإحسان من نساء هذه الأمة، والحرص على التستر والاحتشام؛ فذلك أبعد عن أسباب الفتنة، وصيانة للنفس عما تثيره دواعي الهوى الموقع في الفواحش.
كما يجب على نساء المسلمين الحذر من الوقوع فيما حرمه الله ورسوله من الألبسة التي فيها تشبه بالكافرات والعاهرات؛ طاعة لله ورسوله ورجاء لثواب الله وخوفا من عقابه.
كما يجب على كل مسلم أن يتقي الله فيمن تحت ولايته من النساء فلا يتركهن يلبسن ما حرمه الله ورسوله من الألبسة الخالعة والكاشفة والفاتنة وليعلم أنه راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .(60/375)
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يهدينا جميعا سواء السبيل إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... عضو
بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان(60/376)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بشأن المجلات الخليعة ومخاطرها
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد أصيب المسلمون في هذا العصر بمحن عظيمة، وأحاطت بهم الفتن من كل جانب، ووقع كثير من المسلمين فيها، وظهرت المنكرات، واستعلن الناس بالمعاصي بلا خوف ولا حياء، وسبب ذلك كله: التهاون بدين الله، وعدم تعظيم حدوده وشريعته، وغفلة كثير من المصلحين عن القيام بشرع الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأنه لا خلاص للمسلمين ولا نجاة لهم من هذه المصائب والفتن إلا بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى وتعظيم أوامره ونواهيه، والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطرا.
وإن من أعظم الفتن التي ظهرت في عصرنا هذا ما يقوم به تجار الفساد وسماسرة الرذيلة ومحبو إشاعة الفاحشة في المؤمنين: من إصدار مجلات خبيثة تحاد الله ورسوله في أمره ونهيه، فتحمل بين صفحاتها أنواعا من الصور العارية والوجوه الفاتنة، المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد. وقد ثبت بالاستقراء أن هذه المجلات مشتملة على(60/377)
أساليب عديدة في الدعاية إلى الفسوق والفجور وإثارة الشهوات وتفريغها فيما حرمه الله ورسوله ومن ذلك أن فيها:
1 - الصور الفاتنة على أغلفة تلك المجلات وفي باطنها.
2 - النساء في كامل زينتهن يحملن الفتنة ويغرين بها.
3 - الأقوال الساقطة الماجنة، والكلمات المنظومة والمنثورة، البعيدة عن الحياء والفضيلة، الهادمة للأخلاق، المفسدة للأمة.
4 - القصص الغرامية المخزية، وأخبار الممثلين والممثلات، والراقصين والراقصات، من الفاسقين والفاسقات.
5 - في هذه المجلات الدعوة الصريحة إلى التبرج والسفور واختلاط الجنسين وتمزيق الحجاب.
6 - عرض الألبسة الفاتنة الكاسية العارية على نساء المؤمنين؛ لإغرائهن بالعري والخلاعة والتشبه بالبغايا والفاجرات.
7 - في هذه المجلات العناق والضم والقبلات بين الرجال والنساء.
8 - في هذه المجلات المقالات الملتهبة التي تثير موات الغريزة الجنسية في نفوس الشباب والشابات، فتدفعهم بقوة ليسلكوا طريق الغواية والانحراف، والوقوع في الفواحش والآثام، والعشق والغرام.
فكم شغف بهذه المجلات السامة من شباب وشابات، فهلكوا بسببها، وخرجوا عن حدود الفطرة والدين.(60/378)
ولقد غيرت هذه المجلات في أذهان كثير من الناس كثيرا من أحكام الشريعة ومبادئ الفطرة السليمة، بسبب ما تبثه من مقالات ومطارحات.
واستمرأ كثير من الناس المعاصي والفواحش وتعدي حدود الله، بسبب الركون إلى هذه المجلات واستيلائها على عقولهم وأفكارهم.
والحاصل: أن هذه المجلات قوامها التجارة بجسد المرأة التي أسعفها الشيطان بجميع أسباب الإغراء ووسائل الفتنة للوصول إلى نشر الإباحية، وهتك الحرمات، وإفساد نساء المؤمنين، وتحويل المجتمعات الإسلامية إلى قطعان بهيمية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، ولا تقيم لشرع الله المطهر وزنا ولا ترفع به رأسا، كما هو الحال في كثير من المجتمعات، بل وصل الآمر ببعضها إلى التمتع بالجنسين عن طريق العري الكامل فيما يسمونه (مدن العراة) عياذا بالله من انتكاس الفطرة والوقوع فيما حرمه الله ورسوله. هذا وأنه بناء على ما تقدم ذكره من واقع هذه المجلات ومعرفة آثارها وأهدافها السيئة وكثرة ما يرد إلى اللجنة من تذمر الغيورين من العلماء وطلبة العلم وعامة المسلمين من انتشار عرض هذه المجلات في المكتبات والبقالات والأسواق التجارية - فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ترى ما يلي:(60/379)
أولا: يحرم إصدار مثل هذه المجلات الهابطة، سواء كانت مجلات عامة، أو خاصة بالأزياء النسائية، ومن فعل ذلك فله نصيب من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (1) الآية.
ثانيا: يحرم العمل في هذه المجلات على أي وجه كان، سواء كان العمل في إدارتها أو تحريرها أو طباعتها أو توزيعها؛ لأن ذلك من الإعانة على الإثم والباطل والفساد، والله جل وعلا يقول: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) .
ثالثا: تحرم الدعاية لهذه المجلات وترويجها بآية وسيلة؛ لأن ذلك من الدلالة على الشر والدعوة إليه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
رابعا: يحرم بيع هذه المجلات، والكسب الحاصل من ورائها كسب حرام، ومن وقع في شيء من ذلك وجب عليه التوبة إلى الله تعالى، والتخلص من هذا الكسب الخبيث.
__________
(1) سورة النور الآية 19
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) صحيح البخاري التوحيد (7543) ، صحيح مسلم الحدود (1699) ، سنن أبو داود الحدود (4446) ، سنن ابن ماجه الحدود (2556) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الحدود (1551) ، سنن الدارمي الحدود (2321) .(60/380)
خامسا: يحرم على المسلم شراء هذه المجلات واقتناؤها؛ لما فيها من الفتنة والمنكرات، كما أن في شرائها تقوية لنفوذ أصحاب هذه المجلات ورفعا لرصيدهم المالي وتشجيعا لهم على الإنتاج والترويج. وعلى المسلم أيضا أن يحذر من تمكين أهل بيته ذكورا وإناثا من هذه المجلات، حفظا لهم من الفتنة والافتتان بها، وليعلم المسلم أنه راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة.
سادسا: على المسلم أن يغض بصره عن النظر في تلك المجلات الفاسدة، طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وبعدا عن الفتنة ومواقعها، وعلى الإنسان ألا يدعي العصمة لنفسه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلاء. فمن تعلق بما في تلك المجلات من صور وغيرها أفسدت عليه قلبه وحياته، وصرفته إلى ما لا ينفعه في دنياه وآخرته؛ لأن صلاح القلب وحياته إنما هو في التعلق بالله جل جلاله وعبادته وحلاوة مناجاته والإخلاص له وامتلاؤه بحبه سبحانه.
سابعا: يجب على من ولاه الله على أي من بلاد الإسلام أن ينصح للمسلمين، وأن يجنبهم الفساد وأهله، ويباعدهم عن كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم. ومن ذلك منع هذه المجلات المفسدة من النشر والتوزيع وكف شرها عنهم، وهذا من نصر الله ودينه، ومن أسباب الفلاح والنجاح والتمكين في(60/381)
الأرض، كما قال الله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) .
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... عضو
بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41(60/382)
حديث شريف
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء (1) »
(رواه مسلم)
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (28) ، سنن الترمذي الإيمان (2638) ، مسند أحمد بن حنبل (5/318) .(60/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)
(سورة البقرة 185)
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(61/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(61/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(61/3)
المحتويات
الافتتاحية
شهر رمضان فضله وبعض ما يشرع فيه من العبادة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) 39
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 61
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن محمد آل الشيخ 79
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 99(61/4)
البحوث
رسالة في القرآن، وكلام الله - للإمام الموفق ابن قدامة تحقيق الدكتور / يوسف بن محمد السعيد 129
نداء الله نبيه الكريم في آي الذكر الحكيم للدكتور / بدر بن ناصر البدر 173
تنفيذ العقوبة التعزيرية في الفقه للدكتور / طارق بن محمد الخويطر 267
دعوة الشيخ / محمد بن عبد الوهاب في دائرة المعارف الإسلامية نقد وعرض الدكتور / خالد بن عبد الله القاسم 325
من قرارات هيئة كبار العلماء - قرار رقم (144) ، وتاريخ 11 / 7 / 1408هـ حول استحصال قيمة زكاة الفطر للمهاجرين الأفغان 377(61/5)
صفحة فارغة(61/6)
شهر رمضان فضله وبعض ما يشرع فيه من العبادة
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإننا اخترنا أن تكون افتتاحية هذا العدد من هذه المجلة المباركة النافعة حول شهر رمضان، فضله وبعض ما يشرع فيه من العبادات. فإن الله سبحانه وتعالى قد من علينا بهذا الشهر الكريم المبارك، زمن فاضل خصه الله بمزيد من الخصائص من بين سائر الشهور، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن كتاب الله العظيم يقول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) في هذا الشهر تفتح أبواب الرحمة، وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين، فتكون النفوس المؤمنة مقبلة على طاعة ربها، معرضة عن معاصيه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين (2) » رواه الجماعة إلا أبا داود بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3277) ، صحيح مسلم الصيام (1079) ، سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن النسائي الصيام (2104) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) ، مسند أحمد بن حنبل (2/378) ، موطأ مالك الصيام (691) ، سنن الدارمي الصوم (1775) .(61/7)
رضي الله عنه. وجاء عند بعضهم عن غيره، وزاد الترمذي وابن ماجه والنسائي في رواية: «وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة (1) » وفي بعض الروايات تقييد التصفيد والغل بمردة الشياطين؛ فاختلفت أنظار العلماء في شرحه وبيانه فمنهم من قال: إن التصفيد خاص بمردة الشياطين دون غيرهم تقليلا للشر في هذا الشهر، وقال بعضهم: إن هذا الفضل إنما يحصل للصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه. وقال آخرون -وهو الأقرب إلى الصواب بإذن الله-: إن تصفيد الشياطين على حقيقته، ولا يلزم من تصفيد جميع الشياطين أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابا غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية، فالمقصود أنه وبكل حال فإن هذا الشهر فرصة لمن وفقه الله وفتح على قلبه للإقبال على طاعته، والبعد عن معاصيه لتوفر أسباب ذلك ودواعيه. ويستفاد من هذا الحديث بزياداته فضيلة أخرى، وهي أن لله في هذا الشهر عتقاء من النار وذلك كل ليلة. وفضائل هذا الشهر الكريم كثيرة عظيمة ذكرنا فيما مضى طرفا منها.
ودخول هذا الشهر الكريم لا يثبت إلا بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلال رمضان. فيثبت الشهر بذلك بإجماع المسلمين؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) وفي حديث ابن
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) .
(2) سورة البقرة الآية 185(61/8)
عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا (1) » متفق عليه.
ويكفي في ثبوت الرؤية إخبار عدل واحد من المسلمين برؤيته له، على الصحيح، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: «تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه (2) » رواه أبو داود والدارمي وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه ابن حزم.
وفي حديث ابن عباس قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال- يعني رمضان- فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا (3) » رواه أصحاب السنن.
الأمر الآخر: الذي يثبت به دخول شهر رمضان؛ إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فإنه إذا لم ير الهلال أكملت عدة شعبان ثلاثين يوما، سواء كان الجو صحوا أو غائما أو قترا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (4) » متفق عليه واللفظ للبخاري، وفي معناه أحاديث أخرى في الكتب الستة وغيرها. ومن رأى الهلال فردت شهادته فإنه لا يصوم إلا يوم صوم الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون (5) » أخرجه الترمذي.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2142) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/31) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) سنن أبو داود الصوم (2342) ، سنن الدارمي الصوم (1691) .
(3) سنن الترمذي الصوم (691) ، سنن النسائي الصيام (2113) ، سنن أبو داود الصوم (2340) ، سنن ابن ماجه الصيام (1652) ، سنن الدارمي الصوم (1692) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1907) ، موطأ مالك الصيام (634) .
(5) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن أبو داود الصوم (2324) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) .(61/9)
ولا يثبت دخول الشهر بغير هذين الأمرين، فلا عبرة بقول أهل الحساب والفلك في هذا الأمر، فإنه أمر شرعي ينبني عليه عبادات المسلمين ضبطها الشارع بضوابط لا يجوز لنا تجاوزها، وقد دلت الأدلة على أن ثبوت شهر رمضان لا يكون إلا بالرؤية الشرعية المعتبرة، أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما.
ولم يأت دليل يعلق دخول هذا الشهر بالحساب، بل قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم اعتباره، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا (1) » يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. فنفى المعرفة بالحساب وظاهره نفي تعليق الحكم به، يوضح ذلك ما في البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين (2) » .
بل إن بعض العلماء قد نقل إجماع السلف على عدم اعتبار الحساب في ثبوت شهر رمضان، وإذ قد ظهر ذلك فإن الاعتماد على الحساب في إثبات الشهر عمل غير مشروع؛ لعدم الدليل عليه، مع مخالفته لظواهر الأدلة وما نقل من إجماع سلف الأمة، فيكون القول به مردودا على صاحبه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنهما الذي أخرجه مسلم في صحيحه: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » . والجاليات المسلمة في البلاد الكافرة إن تمكنوا من تحري
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2141) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) ، موطأ مالك الصيام (634) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1909) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(61/10)
رؤية هلال رمضان فهو المتعين، وإن لم يتمكنوا فالواجب عليهم أن يتبعوا أقرب بلد مسلم يعمل بالرؤية الشرعية، ولا يجوز لهم العمل بالحساب بحال كغيرهم من المسلمين في بلاد الإسلام.
ويشرع استقبال هذا الشهر الكريم بالتوبة إلى الله من الذنوب والخطايا، ورد المظالم إلى أهلها، فإن هذا مشروع كل وقت، يقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) ، ويتأكد أمر التوبة في مثل هذه الأزمان الفاضلة لشرفها وعظم أجر الأعمال الصالحة فيها.
هذا وإنه مما ينبغي التنبيه له أنه لا يجوز للمسلم أن يصوم يوم الشك، يقول عمار رضي الله عنه: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» ويوم الشك هو يوم الثلاثين إذا لم يحل دون منظر هلال ليلته غيم أو قتر. وإذا دخل هذا الشهر الكريم، فإنه لا بأس من التهنئة بدخوله؛ لأنه قد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي سنن النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8(61/11)
أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم (1) » . وجاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في رمضان تغلق أبواب النار. . . (2) » الحديث إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: «وينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، ويا باغي الشر أقصر حتى ينقضي رمضان (3) » .
ثم إن أعظم العبادات في هذا الشهر الكريم هي عبادة الصيام، وصيام رمضان رابع أركان الإسلام يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (4) » متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم.
وهو فرض بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) ومن السنة حديث ابن عمر السابق.
وقد أجمع المسلمون على فرضية صيام رمضان. ومعنى الصوم في اللغة: مطلق الإمساك، يقول الله تعالى عن مريم أم عيسى عليه السلام: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (6) .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1899) ، صحيح مسلم الصيام (1079) ، سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن النسائي الصيام (2106) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) ، مسند أحمد بن حنبل (2/292) ، موطأ مالك الصيام (691) ، سنن الدارمي الصوم (1775) .
(2) سنن النسائي الصيام (2108) ، مسند أحمد بن حنبل (4/312) .
(3) سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .
(5) سورة البقرة الآية 183
(6) سورة مريم الآية 26(61/12)
وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وهو في الشرع: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، طاعة لله سبحانه وتعالى.
والصوم له فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة: فمنها أنه سبب لحصول التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) . وهو وقاية للمسلم من الذنوب، ووقاية من عذاب الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصيام جنة وحصن حصين من النار (2) » أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان. وأصله في الصحيحين.
بالصوم تضيق مجاري الشيطان، وتخف دواعي الشهوة التي تردي صاحبها؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع
__________
(1) سورة البقرة الآية 183
(2) صحيح البخاري الصوم (1894) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) ، سنن الدارمي الصوم (1771) .(61/13)
فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » متفق عليه.
الصوم سبب لإجابة الدعاء فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر (2) » . . . الحديث أخرجه الترمذي. وقد خص الصيام من بين سائر الأعمال بمزيد فضل ومزية، من ذلك أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه (3) » متفق عليه.
ومن ذلك أيضا أن جميع الأعمال جزاؤها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم فإن الله سبحانه أضافه إلى نفسه وتولى سبحانه جزاءه بغير حصر. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به (4) » .
الصائمون لهم باب يخصهم من أبواب الجنة لا يدخل معه أحد غيرهم، يقال له باب الريان، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5065) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2165) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3598) ، سنن ابن ماجه الصيام (1752) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/273) ، موطأ مالك الصيام (689) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5927) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/273) ، موطأ مالك الصيام (689) .(61/14)
فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد (1) » .
هذه بعض فضائل الصوم المنصوص عليها في الشرع، وهناك فوائد أخرى يذكرها أهل الطب وغيرهم مثل كون الصوم علاج للبدن وتنقية له من الأخلاط الرديئة التي تضره، وقد كان كبار أهل الطب يصفونه علاجا لمرضاهم.
ثم إن الصائم يجب عليه أن يخلص لله عز وجل في صيامه وأن يحافظ عليه، ويحتسب ذلك عند الله فإنه سبب لمغفرة الذنوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » متفق عليه.
هذا وإن هناك أمورا تنافي حقيقة الصوم وتبطله، يجب على الصائم البعد عنها. وهناك أمور تنافي كمال الصوم وتجرحه، وتنقص ثوابه، يجب تركها كل وقت، ويتأكد ذلك في رمضان، لحرمة الزمان.
أما مبطلات الصوم فقسمان: قسم مجمع على كونه مفسدا للصوم، وهو ثلاثة أمور الأكل والشرب والجماع، في نهار رمضان من العامد المختار. دليل ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1896) ، صحيح مسلم الصيام (1152) ، سنن الترمذي الصوم (765) ، سنن النسائي الصيام (2236) ، سنن ابن ماجه الصيام (1640) ، مسند أحمد بن حنبل (5/335) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (38) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(3) سورة البقرة الآية 187(61/15)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم- مرتين- والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها (1) » رواه البخاري وغيره من أهل السنن، وفي لفظ للبخاري: «يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي (2) » .
وقد أجمع المسلمون على أن هذه الأمور الثلاثة مفطرة للصائم مفسدة لصومه.
القسم الثاني من المفطرات: ما وقع فيه الخلاف بين العلماء هل يعد مفطرا أم لا؟ وهذا القسم تحت أنواع:
منها: الحجامة، والصحيح أنها تفطر الصائم، فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم (3) » رواه أحمد والترمذي وغيرهما. وفي الباب عن ثوبان وشداد بن أوس وأبي هريرة وعائشة وأسامة بن زيد ومعقل بن سنان الأشجعي رضي الله عن الجميع. قال الإمام أحمد رحمه الله: أصح حديث في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس، وحسن أبو زرعة رحمه الله هذا الحديث من
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1894) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/273) ، موطأ مالك الصيام (689) .
(2) صحيح البخاري التوحيد (7492) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) .
(3) سنن الترمذي الصوم (774) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) .(61/16)
طريق أبي هريرة، وقال الدارمي رحمه الله: صح عندي حديث «أفطر الحاجم والمحجوم (1) » بحديث ثوبان وشداد بن أوس وأقول به. وقال الإمام أحمد: أحاديث «أفطر الحاجم والمحجوم (2) » و «لا نكاح إلا بولي (3) » يشد بعضها بعضا. وأنا أذهب إليها. وكلام أئمة الحديث في الاحتجاج بهذا الحديث كثير، يصعب سرده هنا. وفي معنى الحجامة التبرع بالدم.
ومن المفطرات أيضا ما كان بمعنى الأكل والشرب مما يحصل به غذاء البدن، كالإبر المغذية، وكحقن الدم في جسم الصائم، وكذلك أيضا الأدوية والعلاجات التي تؤخذ من الأنف أو الفم؛ لأنهما منفذان للجوف أما الفم فواضح، وأما الأنف فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما (4) » .
ومن المفطرات أيضا: إنزال المني بشهوة، بنحو استمناء أو تكرير نظر لما تقدم من عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: «يترك طعامه وشرابه وشهوته (5) » . ولا يفطر بالاحتلام ولا بالإنزال الناتج عن التفكير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (6) » متفق عليه.
ومن تعاطى شيئا من المفطرات السابقة في نهار رمضان عامدا مختارا، وجب عليه المبادرة إلى التوبة والتضرع إلى الله عز
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (774) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) .
(2) سنن الترمذي الصوم (774) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) .
(3) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبو داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2182) .
(4) سنن الترمذي الصوم (788) ، سنن النسائي الطهارة (87) ، سنن أبو داود الطهارة (142) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (407) .
(5) صحيح البخاري الصوم (1894) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) .
(6) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .(61/17)
وجل لعله أن يعفو عنه ويغفر له تلك الزلة. ومع التوبة يجب عليه يوم مكان ذلك اليوم الذي أفطره.
والمجامع في نهار رمضان عامدا مختارا يجب عليه مع التوبة النصوح، وقضاء يوم مكان كل يوم أفسده بالجماع، كفارة عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، والدليل على ذلك ما رواه الجماعة بألفاظ متقاربة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا. قال: ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر. فقال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر مني؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وقال: اذهب، فأطعمه أهلك (1) » .
ومن أخر قضاء يوم من رمضان حتى دخل عليه شهر رمضان الآخر، وجب عليه مع القضاء، كفارة للتأخير، أفتى بذلك جمع من الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عن الجميع.
ومن تعاطى شيئا من المفطرات ناسيا أو جاهلا أو بغير
__________
(1) صحيح البخاري كفارات الأيمان (6711) ، صحيح مسلم الصيام (1111) ، سنن الترمذي الصوم (724) ، سنن أبو داود الصوم (2390) ، سنن ابن ماجه الصيام (1671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، موطأ مالك الصيام (660) ، سنن الدارمي الصوم (1716) .(61/18)
اختياره فهو معذور ولا شيء عليه؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) .
ولا يفطر الصائم بنحو قلع سن أو دواء جرح وإن وجد طعمه في الحلق، ولا بخروج الدم من السعال أو الرعاف، أو الناسور أو الباسور، ولا يفطر أيضا بشم الطيب، ولا البخور، لكن ينبغي له التحرز من الاستعاط بالبخور واستنشاقه؛ لأن له جرما ربما وصل إلى الجوف. ولا بأس باستعمال معاجين الأسنان، ونحوها من المنظفات مع التحفظ عند استعمالها لئلا يتحلل شيء منها فيذهب إلى الجوف، وترك ذلك في نهار رمضان أحوط للصائم؛ لأن له نفوذا قويا.
ويشرع للصائم كغيره السواك أول النهار وآخره؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (2) » أخرجه الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولم يصح في النهي عنه للصائم حديث فيما نعلم.
وإن مما يجب على المسلم تركه في كل وقت- ويتأكد ذلك عليه في رمضان لحرمة الزمان- المحرمات بأنواعها، فأعظم ذلك صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كمن يذبح أو ينذر لغير الله من حجر أو شجر أو نبي أو ولي أو ملك، أو يطلب منه المدد أو الغوث، فإن ذلك كله من الشرك بالله يقول الله عز
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) صحيح البخاري الجمعة (887) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (1/120) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الصلاة (1484) .(61/19)
وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وعاقبة الشرك وخيمة يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) ويقول سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3) .
ومما يجب على العبد التنبه له في هذا الشهر أيضا أمر الصلاة فإن أمرها عظيم، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، فالحذر الحذر من التساهل فيها أو أدائها في غير وقتها، فإن هذا فعل أهل السوء يقول الله سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (4) .
ومن المحرمات التي يجب التنبه لها: عقوق الوالدين، والسحر، وأكل مال اليتيم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، والربا، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وشهادة الزور، والكذب، والخيانة، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس بالباطل. ومنها: الغيبة والنميمة. وغير ذلك من المحرمات التي يجب على المسلم البعد عنها كل وقت، ويتأكد عليه في هذا الشهر الكريم أن ينزه عنها صومه، حتى يكون من الصائمين المحافظين على صيامهم.
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة المائدة الآية 72
(4) سورة مريم الآية 59(61/20)
ثم إن الصائم سواء كان رجلا أو امرأة، قد يعرض له من العوارض ما يشرع معه الفطر في نهار رمضان. فمن الأعذار: المرض، يقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
والمريض له أحوال:
أولها: أن يكون مرضه خفيفا عارضا، لا يؤثر فيه الصوم، لا بشدة في المرض، ولا بتأخر في زمن البرء، فمن كانت هذه حاله فإنه لا يباح له الفطر، وهذا كمن يعرض له بعض الصداع في نهار صيامه، ونحو ذلك.
ثانيها: أن يكون الصوم يؤثر على صحته إما باشتداد المرض، أو بتأخر زمن البرء، فهنا يستحب له الفطر.
ثالث الأحوال: أن يكون الصوم مضرا به ضررا بينا، وقد يؤدي به إلى الهلكة، فهنا يتأكد تأكدا كبيرا، إبقاء على نفسه ودفعا للضرر عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار (2) » ، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) . ويقول سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) .
ومن العلماء من قال: بوجوب الفطر في هذه الحال؛ لأن
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة التغابن الآية 16(61/21)
الله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) . ومنهم من قال: بعدم الوجوب، وأن الصوم مكروه فقط وليس بمحرم. والقول بالوجوب أقرب.
وبكل حال؛ فإن العبد إذا علم من نفسه عدم الصبر على شدة المرض أو زيادته، وأن ذلك ربما أدى به إلى التشكي والتسخط، فإنه والحالة هذه يجب عليه أن يفطر؛ لأن صوم من هذه حاله وسيلة إلى المحرم، وهو التسخط والجزع، وما كان وسيلة إلى المحرم فهو محرم. ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف.
فإذا أفطر من شرع له الفطر بسبب المرض لزمه أحد أمرين: إما القضاء بعدد الأيام التي أفطرها، أو الإطعام عن كل يوم مسكينا نصف صاع من الطعام، على التفصيل الآتي بيانه: فالمريض الذي يرجى برؤه إذا أفطر لزمه القضاء، ولا يلزمه الإطعام، ولا يجزئه لو فعله.
فإذا استمر به المرض بعد رمضان ولم يتمكن من القضاء، حتى مات، لم يلزمه شيء، ولا يلزم ورثته أيضا شيء. أما إن تمكن من القضاء ففرط ولم يصم حتى مات؛ فإنه يشرع لوليه أن يصوم عنه؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صوم صام عنه وليه (2) » متفق عليه؛ ولأنه دين عليه؛ ودين الله أحق بالوفاء.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .(61/22)
أما المريض الذي لا يرجى برؤه، فإنه لا يلزمه إلا الإطعام، فإن أطعم سقط عنه الفرض، وله أن يطعم جمعا من المساكين بعدد الأيام التي أفطرها، في يوم واحد، بأن يصنع لهم وليمة ويدعوهم إليها أو يوزعها عليهم.
فإن شفي من المرض بعدما أطعم لم يلزمه القضاء؛ لأنه فعل الواجب عليه فبرئت ذمته. وإن مات وهو لم يطعم، أطعم عنه من ماله قبل قسمة التركة؛ لأنه دين ثابت في ذمته، حتى لو مات في أثناء الشهر ولم يطعم عما مضى من الأيام أطعم عنه من ماله.
ومن الأعذار المبيحة للفطر في نهار رمضان، السفر، فإن المسافر مسافة قصر يشرع له الفطر لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
فإذا أفطر المسافر في سفره، لزمه القضاء بصيام يوم مكان كل يوم من رمضان أفطره في سفره.
والتفضيل بين الفطر والصوم في السفر مسألة مشهورة عند أهل العلم، والخلاف فيها معروف ولكل دليله، وينبغي أن يعلم أن هذا الخلاف فيما إذا كان الصوم لا يشق على المسافر، أما إن كان شاقا عليه، فلا شك حينئذ في استحباب فطره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لما رأى رجلا قد ظلل عليه، قد أعياه الصوم
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(61/23)
في السفر: ليس من البر الصيام في السفر (1) » .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شدد في هذا كثيرا، فإنه لما خرج عام الفتح وكان صائما، فلما بلغ كراع الغميم، قيل له: إن الناس قد شق عليهم الصوم، فأفطر وأمر الناس بالفطر، فبلغه أن أناسا لا يزالون صياما، فقال صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة، أولئك العصاة (2) » .
وإذا كان القوم صحبة في سفر، وكان بعضهم صائما وبعضهم مفطرا، فإنه لا ينبغي أن ينكر هذا على هذا؛ لأن كلا منهما قد اتبع سنة، فالصائم عمل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أسفاره. والمفطر عمل بقوله وبفعله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانت هذه حالهم في أسفارهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أنس رضي الله عنه: «كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم (3) » .
ومن الأعذار التي يشرع لأجلها الفطر للصائم سواء كان رجلا أو امرأة: الكبر، فالكبير إذا شق عليه الصوم أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا، دليل ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (4) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليست بمنسوخة. وهو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1946) ، صحيح مسلم الصيام (1115) ، سنن النسائي الصيام (2262) ، سنن أبو داود الصوم (2407) ، مسند أحمد بن حنبل (3/299) ، سنن الدارمي الصوم (1709) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1114) ، سنن الترمذي الصوم (710) ، سنن النسائي الصيام (2263) .
(3) صحيح مسلم الصيام (1117) ، سنن الترمذي الصوم (713) ، سنن النسائي الصيام (2310) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50) .
(4) سورة البقرة الآية 184(61/24)
يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا " رواه البخاري.
ومن الأعذار التي يختص بها النساء دون الرجال: الحيض والنفاس، فالحائض لا يجوز لها الصوم، ولا يصح منها لو فعلت، وهي آثمة بصومها حال حيضها، وذلك بالإجماع. دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث خطبته لأحد العيدين، «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن يا معشر النساء، قلن له: وما نقصان عقلنا وديننا؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها (1) » متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والنفساء لها حكم الحائض.
ويجب على كل من الحائض والنفساء، قضاء يوم عن كل يوم أصابها فيه الحيض والنفاس أثناء رمضان، لحديث معاذة، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قالت: لست بحرورية، ولكنني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (2) » رواه الجماعة بألفاظ متقاربة.
ومن الأعذار التي يختص بها النساء أيضا، الحمل
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .
(2) صحيح البخاري الحيض (321) ، صحيح مسلم الحيض (335) ، سنن الترمذي الطهارة (130) ، سنن النسائي الصيام (2318) ، سنن أبو داود الطهارة (262) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (631) ، مسند أحمد بن حنبل (6/232) ، سنن الدارمي الطهارة (986) .(61/25)
والإرضاع، فإن الحامل أو المرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما جاز لهما الفطر، أفتى بذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فإن أفطرت الحامل أو المرضع خوفا على نفسها، لزمها قضاء يوم مكان كل يوم أفطرته بسبب ذلك. وإن أفطرتا خوفا على ولديهما، لزمهما مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، وهذا مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين ثم أنه يحسن هنا التنبيه لبعض الأمور:
أولا: أن النية في شهر رمضان واجبة، ويكفي أن ينوي العبد المسلم أنه سيصوم رمضان في أول الشهر، ويستصحب حكمها بقية الشهر، بمعنى ألا يقطع الصيام لا بفعله ولا بنيته، فإن قطعه بفعل أو بنية لزمه استئناف نية جديدة.
وأمر النية قد يشكل على كثير من المسلمين، وقد يورث عند بعضهم الوسوسة، وهو أمر يسير، فالنية إنما هي العزم على الصيام، والعبد المسلم منذ أن يعلم أن غدا من رمضان وهو عازم على صيامه إلا إن كان فيه مانع من الموانع، ومحل النية القلب ولا يجوز التلفظ بها.
ثانيا: ينبغي للمسلمين أن يحرصوا على السنة في تعجيل الفطور، لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر (1) » متفق عليه.
وفي تأخير السحور جاء حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه،
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1957) ، صحيح مسلم الصيام (1098) ، سنن الترمذي الصوم (699) ، سنن ابن ماجه الصيام (1697) ، مسند أحمد بن حنبل (5/337) ، موطأ مالك الصيام (638) ، سنن الدارمي الصوم (1699) .(61/26)
قال: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قلت- أي الراوي عن زيد-: كم كان قدر ذلك؟ قال: خمسين آية (1) » متفق عليه.
ثالثا: يلاحظ على كثير من المسلمين السهر في ليالي هذا الشهر الكريم على الملهيات، حتى إذا اقترب وقت السحر ناموا، ففاتهم فضل السحور وفضل إدراك وقت النزول الإلهي، وربما فاتتهم صلاة الفجر والعياذ بالله، فالواجب على العبد الحزم في ذلك، وأن يجعل شهره هذا موسما للازدياد من الطاعات، وأن لا ينشغل بما يصده عن الله من الملهيات.
ومن العبادات المشروعة في هذا الشهر الكريم عبادة القيام، قيام الليل فإنه دأب الصالحين، وقد شرعه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته في كل أيام العام، بل كان واجبا عليهم ثم خفف الله عنهم يقول الله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقيام الليل فقال:
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1921) ، صحيح مسلم الصيام (1097) ، سنن الترمذي الصوم (703) ، سنن النسائي الصيام (2156) ، سنن ابن ماجه الصيام (1694) ، مسند أحمد بن حنبل (5/182) ، سنن الدارمي الصوم (1695) .
(2) سورة المزمل الآية 20(61/27)
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (1) .
وصلاة الليل هي أفضل الصلوات بعد الفرائض؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل (2) » الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
والأفضل تأخير قيام الليل إلى جوف الليل لمن وثق بالقيام؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر، ثم ليرقد، ومن وثق بقيام من آخر الليل فليوتر من آخره، فإن قراءة آخر الليل محضورة، وذلك أفضل (3) » رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
والأصل في صلاة الليل أن تكون مثنى مثنى ثم يوتر بواحدة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى (4) » متفق عليه.
والأفضل أن يختم صلاته بالليل على وتر؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا (5) » . ولا حد لصلاة الليل فإن صلى إحدى عشرة ركعة فحسن، وإن صلى ثلاث عشرة
__________
(1) سورة الذاريات الآية 17
(2) صحيح مسلم الصيام (1163) ، سنن أبو داود الصوم (2429) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (755) ، سنن الترمذي الصلاة (455) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/348) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (991) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (749) ، سنن الترمذي الصلاة (461) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1694) ، سنن أبو داود الصلاة (1421) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1175) ، مسند أحمد بن حنبل (2/78) ، موطأ مالك النداء للصلاة (269) .
(5) صحيح البخاري الجمعة (998) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (751) ، سنن أبو داود الصلاة (1438) ، مسند أحمد بن حنبل (2/20) .(61/28)
فحسن أيضا؛ فإن هذا مما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فإن صلى ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو تسعا، أو زاد فصلى خمس عشرة أو سبع عشرة، أو إحدى وعشرين أو ثلاثا وعشرين، أو أكثر من ذلك فلا بأس إذا قطعها على وتر؛ لأن الأصل في صلاة الليل عدم التحديد كما تقدم من الآية، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم: «صلاة الليل مثنى مثنى (1) » . وهذا جواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن صلاة الليل، ولو كانت محدودة بعدد قلة وكثرة لبين ذلك له.
والمسلم ينبغي ألا يغفل عن صلاة الليل، وإن لم يدرك ذلك فلا أقل من الوتر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام (2) » متفق عليه.
هذا، وإن قيام الليل ليتأكد في رمضان ويزيد فيه الأجر والفضل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (3) » رواه الجماعة.
ويشرع في هذا الشهر الكريم قيام الليل جماعة وهو ما يسمى بـ (التراويح) فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك مع أصحابه رضي الله عنهم ثلاث ليال، أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين. وقد سنه عمر بن
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (991) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (749) ، سنن الترمذي الصلاة (437) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1694) ، سنن أبو داود الصلاة (1421) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1175) ، مسند أحمد بن حنبل (2/71) ، موطأ مالك النداء للصلاة (269) ، سنن الدارمي الصلاة (1458) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1981) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (721) ، سنن الترمذي الصوم (760) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1678) ، سنن أبو داود الصلاة (1432) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) ، سنن الدارمي الصوم (1745) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (37) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .(61/29)
الخطاب رضي الله عنه طوال الشهر وهذا ثابت عنه في الصحيحين أيضا.
وينبغي للإمام مراعاة حال مأموميه قوة وضعفا، فلا يطيل بهم إطالة تشق عليهم، ولا يخل بمقصود الصلاة فينقرها نقرا، بل تكون صلاته معتدلة نافعة يسمع فيها من يصلي خلفه القرآن، من غير مشقة زائدة عليهم.
ومن العبادات المشروعة في هذا الشهر الكريم، تلاوة القرآن كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وشهر رمضان هو شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن جبريل عليه السلام، كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرة كل عام وذلك في رمضان، ودارسه إياه عام قبض صلى الله عليه وسلم مرتين في رمضان.
وقد كان للسلف أحوال يطول ذكرها مع القرآن في هذا الشهر الكريم، والمقصود هنا التنبيه على أفضل ما يشرع من العبادات في هذا الشهر الكريم، وإن كان جنسها مشروعا في غير رمضان لكن فضلها في رمضان أكبر وأجرها أعظم.
ومما يشرع أيضا في هذا الشهر كثرة البذل والصدقات؛ فإن
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(61/30)
هذا من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة (1) » . ومما يشرع في هذا الشهر الكريم من العبادات الاعتكاف.
والاعتكاف في اللغة: من العكوف، وهو بمعنى الإقامة على الشيء، ولزومه.
وفي الشرع: التعبد لله عز وجل، بلزوم بيت من ييوت الله، من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة.
وهو مشروع في المساجد كلها لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2) ولا حد لأكثره باتفاق. واختلفوا في أقله، فمن قائل أقله يوم وليلة، ومن قائل بل يوم أو ليلة، ومن قائل بل ساعة، ومنهم من قال بل يكفي المرور بنية الاعتكاف. ومنهم من اشترط الصوم للاعتكاف، والصحيح عدم اشتراطه؛ لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فاعتكف
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1902) ، صحيح مسلم الفضائل (2308) ، سنن النسائي الصيام (2095) ، مسند أحمد بن حنبل (1/363) .
(2) سورة البقرة الآية 187(61/31)
ليلة (1) » رواه البخاري ومسلم.
ويتجنب المعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، وهو البول أو الغائط؛ ففي الصحيحين أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا (2) » هذا لفظ البخاري، وزاد مسلم «إلا لحاجة الإنسان (3) » . وفسرها الزهري رحمه الله بالبول والغائط. وكذلك يجوز له الخروج من المسجد للأكل والشرب إذا لم يكن له من يحضر الطعام والشراب في معتكفه. وإذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه جمعة، وأدركته الجمعة وجب عليه الخروج ليصليها في مسجد تقام فيه الجمعة. ولا يخرج لغير ذلك من الحوائج لا لعيادة مريض ولا لاتباع جنازة ولا غيرها، إلا إذا شرطها.
والجماع يفسد الاعتكاف بالإجماع. ويجوز لزوج المعتكف وأهله زيارته في معتكفه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، فعن علي بن الحسين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه، فرحن، فقال لصفية بنت حيي: «لا تعجلي حتى أنصرف معك (4) » الحديث رواه البخاري.
وينبغي للمعتكف أن يستشعر حقيقة هذه العبادة، وأن يملأ وقته في المسجد، بأنواع العبادات من صلاة، وتلاوة لكتاب الله وذكر ودعاء واستغفار، والتنويع بين العبادات يبعث العبد على
__________
(1) صحيح البخاري الاعتكاف (2042) ، صحيح مسلم الأيمان (1656) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1539) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3822) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3325) ، سنن ابن ماجه الصيام (1772) ، مسند أحمد بن حنبل (2/154) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2333) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف، حديث رقم 1925، تحقيق البغا.
(3) صحيح مسلم الحيض (297) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف، حديث رقم 1897، ومسلم في كتاب السلام، حديث رقم 4041، وأبو داود في كتاب الصوم، حديث رقم 2113، وابن ماجه في كتاب الصيام، حديث رقم 1769، وأحمد في باقي مسند الأنصار، حديث رقم 25630، والدارمي في كتاب الصوم، حديث رقم 1714.(61/32)
النشاط في العبادة وعدم الملل، فيحصل له بذلك الأجر الكثير.
وينبغي هنا التنبيه على ما يفعله بعض إخواننا من اتخاذ المعتكف مكانا لمجلبة الزوار، وتجاذب أطراف الأحاديث، والانشغال بأمور الدنيا ومتابعتها، إما من طريق من يزورهم أو عبر هواتفهم ونحو ذلك. وكل هذا ينافي المقصود من الاعتكاف وهو الإقامة على طاعة الله وملء الوقت بعبادة الله.
وأفضل الأوقات للاعتكاف هو شهر رمضان وأفضل أيام الشهر ولياليه، هو العشر الأخيرة منه، وقد استقرت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف في العشر الأخيرة من رمضان تحريا لليلة القدر، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قلت: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ قال: نعم، «اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، قال فخرجنا صبيحة عشرين. قال فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين، فقال: إني أريت ليلة القدر، وإني أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في وتر، فإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، ومن كان اعتكف مع رسول الله فليرجع، فرجع الناس إلى المسجد، وما نرى في السماء قزعة، قال: فجاءت سحابة، فمطرت وأقيمت الصلاة فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطين والماء، حتى رأيت الطين في أرنبته وجبهته (1) » . رواه البخاري.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتكاف (2036) ، صحيح مسلم الصيام (1167) ، سنن أبو داود الصلاة (1382) ، مسند أحمد بن حنبل (3/74) .(61/33)
ويشرع لمن أراد اعتكاف العشر أن يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح من اليوم الحادي والعشرين؛ لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه (1) » متفق عليه.
وقد ذكر بعض العلماء أن المعتكف ينبغي له أن يبدأ في اعتكافه من غروب شمس يوم العشرين من رمضان؛ ليدرك ليلة إحدى وعشرين وهي إحدى الليالي الوتر التي يرجى فيها ليلة القدر، بل قد حصل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانت ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين، كما مر قريبا في حديث أبي سعيد الخدري.
وأجاب هؤلاء العلماء عن حديث عائشة بأنها رضي الله عنها إنما ذكرت دخول النبي صلى الله عليه وسلم المعتكف في صبيحة إحدى وعشرين، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ مكانا مهيأ له في المسجد ليعتكف فيه، وهذا لا يمنع كون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مكث في المسجد من غروب الشمس حتى الصبح، ثم دخل المعتكف بعد صلاة الصبح، ولعل هذا القول هو الأقرب.
وينبغي للمسلم أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويهتدي بهديه، ويحرص على اتباع سنته، فيعتكف اعتكافا كما اعتكفه النبي صلى الله عليه وسلم في وقته وهيئته وأن يبتعد عما يخدش ذلك أو يبطل اعتكافه من الأقوال والأعمال فالأمر يسير
__________
(1) صحيح البخاري الاعتكاف (2045) ، صحيح مسلم الاعتكاف (1173) ، سنن الترمذي الصوم (791) ، سنن النسائي المساجد (709) ، سنن أبو داود الصوم (2464) ، سنن ابن ماجه الصيام (1771) ، مسند أحمد بن حنبل (6/84) ، موطأ مالك الاعتكاف (699) .(61/34)
والأيام قليلة، فعلى العبد أن يوطن نفسه على الصبر في مواطن الطاعات، فإن ذلك من أجل القربات.
ثم إن على المسلم أن يحرص في آخر هذا الشهر بكثرة العبادات والاجتهاد فيها خصوصا في ليالي العشر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد المئزر وأيقظ أهله وأحيا ليله، وإحياء الليل يكون بالصلاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن والاستغفار، وغير ذلك من العبادات.
إخواني إن شهر رمضان من الأزمان الفاضلة والمواسم الخيرة التي ينبغي للمسلم اغتنامها بالصالحات، والحرص على الطاعات، فكم من أخ لنا انتظر هذا الشهر ولم يستقبله، وكم ممن استقبله لم يكمله، وكم ممن أكمله لم يدركه من قابل.
والله سبحانه تفضل على عباده المسلمين بهذا الشهر الكريم وشرع لهم من العبادات ما يكون لهم به الأجر العظيم، والخير الكثير. وقد خص الله هذه الأمة على سائر الأمم بمزيد منه وعطائه، فالأعمار قصيرة، والأعمال قليلة، والأجور مضاعفة كثيرة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت(61/35)
الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملا وأكثر أجرا، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. فقال: فهو فضلي أوتيه من أشاء (1) » رواه البخاري.
اللهم اجعلنا ممن أدرك هذا الشهر الكريم، ووفقته فيه للصيام والقيام والذكر والدعاء وسائر الطاعات، اللهم واجعل عملنا فيه صالحا، ولوجهك خالصا، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، اللهم واجعلنا ممن أدرك ليلة القدر، فكتبت له فيها عظيم الأجر، اللهم وفقنا للأعمال الصالحة بعد رمضان، وأعده علينا أعواما عديدة والأمة الإسلامية في خير حال يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7533) ، سنن الترمذي الأمثال (2871) ، مسند أحمد بن حنبل (2/129) .(61/36)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(61/37)
صفحة فارغة(61/38)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمة الله -
حكم اعتقاد الضر والنفع مع الله
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة الشيخ أ. غ قاضي نجران، سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على استفتائك الموجه إلينا بخصوص سؤالك عمن اعتقد أن زيدا مثلا ينفع أو يضر من دون الله أو مع الله، هل يكون بذلك مشركا ولو لم يقل ذلك أو يفعل ما هو معناه؟
والجواب: لا شك أن من يعتقد النفع والضر من دون الله تعالى أو مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى يعتبر كافرا ومشركا؛ إذ إن الله تعالى هو النافع الضار، فلو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن ينفعوا شخصا لم يرد الله نفعه لم يقدروا على نفعه، ولو اجتمعوا على أن يضروا شخصا لم يرد الله ضره لم يضروه. وأما ما يستطيعه المخلوق من نفع غيره(61/39)
بمساعدته بمال أو جاه أو جهد فذلك النفع مرتبط بإرادة الله تعالى، وهو سبب من أسبابه، ولا ينافي التسليم به الاعتقاد بأن الله تعالى هو النافع الضار.
وأما الاستفهام عمن يعتقد أن لزيد مثلا قدرة على نفع أو ضر غيره من دون الله أو مع الله هل يعتبر مشركا مع أنه لم يقل ذلك أو يفعل ما هو بمعناه؟ فغير خاف عليكم أن الاعتقاد جزء من الإيمان، فمن اعتقد شيئا فقد آمن به واطمأن به قلبه، ومن اطمأن قلبه بأن المخلوق ينفع أو يضر من دون الله أو مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد كفر أو أشرك، سواء نطق لسانه بذلك، أو عمل ما يقتضيه، أو لا. وبالله التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(61/40)
النذر والذبح للولي
س: هل يجوز النذر والذبح لغير الله كالنذر والذبح لولي، أو الصدقة على اسم الولي، وسبيل الحسين. والطعام للميت بعد وفاته يوم الثالث والعاشر والعشرين والأربعين وبعد ستة أشهر وسنة من وفاته؟
ج: الحمد لله. النذر والذبح من أنواع العبادة التي هي محض حق الله، لا يصلح منها شيء لغير الله، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلا عن غيرهما. فمن نذر أو ذبح لغير الله(61/40)
فقد أشرك بالله شركا يخرج به عن ملة الإسلام، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ، وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) ، وعن طارق بن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة» رواه أحمد. وروى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض (5) » .
والنذر لغير الله باطل بإجماع المسلمين؛ لأنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق شرك بالله، حيث إن النذر عبادة، والعبادة لا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة النساء الآية 48
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(61/41)
يجوز صرفها لغير الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : وأما ما نذر لغير الله، كالنذر للأصنام والشمس والقمر، والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة ". وقال رحمه الله فيمن نذر للقبور ونحوها: " وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (1) . والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (2) . فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية. وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها انتهى كلامه.
وقال في (قرة عيون الموحدين) عند توجيهه القول بأن النذر لغير الله شرك: وذلك لأن الناذر لله وحده علق رغبته به
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 52
(2) سورة الأعراف الآية 138(61/42)
وحده؛ لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة؛ ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله. والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركا بالله؛ لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكا لله في العبادة، فيكون قد أثبت ما نفته لا إله إلا الله من إلهية غير الله، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص اهـ.(61/43)
حكم دعاء غير الله
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأستاذ الحاج ع. م. أ- كراتشي باكستان المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنحمد إليكم الله تعالى، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، وإنه وصل إلينا كتابكم المتضمن الاستفتاء الآتي:
ما يقول العلماء في حق رجل ادعى الولاية وكتب شجرة وكتب في أوله الكلمة الطيبة على هذا الترتيب: " لا إله إلا الله شيخ عبد القادر شيئا لله " يعني أنه أعطى مقام الرسالة للشيخ عبد القادر الجيلاني.
وتسأل هل هذا الرجل كافر أم لا؟ والحال أن الناس(61/43)
يسجدون له ويزعمون أنه قادر على أن يفعل ما يشاء، والذين يتبعونه كيف هم عند الله: أهم على ضلالة، أم على هدى، وإن مات هذا الرجل أيصلى عليه أم لا؟ اهـ.
والجواب: الحمد لله: قد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء من الناس. وفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (6) {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (7) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (8) {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (9) {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (10)
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) سورة يونس الآية 63
(3) سورة يونس الآية 64
(4) سورة البقرة الآية 257
(5) سورة المائدة الآية 51
(6) سورة المائدة الآية 52
(7) سورة المائدة الآية 53
(8) سورة المائدة الآية 54
(9) سورة المائدة الآية 55
(10) سورة المائدة الآية 56(61/44)
وقال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (1) فهذه الآيات في حق أولياء الرحمن.
وأما أولياء الشيطان فقد ذكرهم الله في عدة آيات من كتابه، فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (4) . وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (5) .
وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (6) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (7) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 44
(2) سورة النحل الآية 98
(3) سورة النحل الآية 99
(4) سورة النحل الآية 100
(5) سورة النساء الآية 76
(6) سورة الكهف الآية 50
(7) سورة النساء الآية 119(61/45)
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} (1) إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) .
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (3) {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) إلى قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (5) .
وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (6) . وقال الخليل عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (7) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (8) الآيات إلى قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (9) .
وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (10) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (11) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 173
(2) سورة آل عمران الآية 175
(3) سورة الأعراف الآية 27
(4) سورة الأعراف الآية 28
(5) سورة الأعراف الآية 30
(6) سورة الأنعام الآية 121
(7) سورة مريم الآية 45
(8) سورة الممتحنة الآية 1
(9) سورة الممتحنة الآية 5
(10) سورة يونس الآية 62
(11) سورة يونس الآية 63(61/46)
فكل من ادعى الولاية فلا بد من سبر أحواله ومعرفة ما هو عليه، فإن كان متصفا بما وصف الله به أولياءه المؤمنين، مجانبا لحزب الشيطان وأوليائه الضالين المضلين، وكان مقيما لشعائر الدين، من تحقيق التوحيد، وإقامة الصلاة في الجمع والجماعات، وكان من الدعاة إلى الله، واتصف بما عليه سلف الأمة وأئمتها هديا وسمتا وخلقا وحالا ومقاما، وصلحت نيته بذلك، فهذا يرجى أن يكون من أولياء الله المتقين الذين قال الله فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، ومن ادعى الولاية بدون ذلك فهو مدع:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء
وأما كتابته تحت كلمة الإخلاص: (شيخ عبد القادر شيئا لله) فهذا يحتاج إلى فهم معنى ما كتبه، فإن كان يسأل من الشيخ عبد القادر شيئا فهذا من دعاء غير الله، وطلب الحوائج من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر بلا شك، فإذا اتضح له وبين له كلام العلماء فأصر وعاند فهو مشرك كافر، كما قال تعالى. {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) .
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) سورة يونس الآية 63
(3) سورة المؤمنون الآية 117(61/47)
وأما كون الناس يسجدون له ويزعمون أنه قادر على ما يشاء فهؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون؛ لأن السجود لغير الله كائنا من كان شرك أكبر، وكذلك اعتقاد أن أحدا من الناس قادر على كل ما يشاء؛ لأن هذا من خصائص الله جل جلاله، فهو الفعال لما يريد، فإن كان هذا الشخص يأمرهم بذلك أو يرضى بسجودهم له فهو مصادم لمقام الألوهية، وكافر برب العالمين، ويتعين الإنكار عليه وعليهم، وتبيين بطلان ما انتهجوه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وكلام علماء المسلمين المحققين. والله نسأل أن يهدي ضال المسلمين، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويعز أولياءه، ويخذل أعداءه، إنه على كل شيء قدير. أملاه العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مفتي البلاد السعودية، حامدا مصليا مسلما على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(61/48)
دعوة الجن
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم س. ع. غ، سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعنا على كتابك الذي تذكر فيه أقوال أناس يدعون الجن، وقولهم: خذوه، انفروا به. إلخ.(61/48)
وهذه كلمات لا تجوز من ثلاثة أوجه مأخوذة من ظاهر هذه الألفاظ:
أحدها: محبة ضرر هذا المسلم المطلوب أخذه وشرب دمه.
والوجه الثاني: أنه طلب من الجن، فيدخل في سؤال الغائبين الذي يشبه سؤال الأموات، وفيه رائحة من روائح الشرك.
الثالث: تخويف الحاضر المقول في حقه ذلك. ولولا تغلب جانب التخويف مضافا إلى أنه قد لا يحب إصابة هذا الحاضر معه لألحق بالشركيات الحقيقية.
أما ذكاة من تصدر منه هذه الكلمات فهي صحيحة ويباح أكلها. والله يحفظكم.(61/49)
حكم الغلو في القبور والآثار
س: ما قولكم -دام فضلكم- في من يعقد عند أضرحة الأولياء والشهداء التي رفعت وشيدت احتفالا عظيما في يوم معين من كل سنة، ويسمونه بالنذر السنوي، ويجمعون له النذور والمدقات، وينفقون تلك الأموال في الملاهي والألعاب المنوعة، مع اختلاط النساء بالرجال، كل هذا للتقرب إلى الولي بزعمهم، وللتوسل إلى الله به، والاستغاثة به، ويزعمون أن هذا كله جائز(61/49)
لإرضاء الولي في دين الإسلام، ما حكم ذلك؟
الجواب: الحمد لله، السؤال يتضمن الاستفسار عن عدة أمور:
الأول: حكم رفع القبور وتشييدها والبناء عليها.
ثانيا: عمل الاحتفالات.
ثالثا: النذر لأصحاب القبور وجمع الصدقات والتبرعات لإنفاقها في ذلك.
رابعا: التوسل بالأموات.
خامسا: التقريب لغير الله.
سادسا: الاستغاثة بأصحاب القبور.
سابعا: الإقامة في المقبرة والعكوف فيها والطواف بهم والغلو.
فالجواب على السؤال الأول وهو حكم رفع القبور وتشييدها والبناء عليها. فالحكم في هذه الأمور أنها لا تجوز، فقد صرحت الأحاديث بالنهي عن ذلك والتحذير منه وتحريمه، فإن هذا من الغلو الذي تكاثرت الأحاديث بالنهي عنه، فإنه أعظم وسائل الشرك وأسبابه، وبسببه وقع الشرك كما في الصحيح من حديث ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) .
__________
(1) سورة نوح الآية 23(61/50)
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. والأحاديث المصرحة بالنهي عن البناء على القبور وتشييدها وتحريم الصلاة عندها وإليها كثيرة، منها: عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. وعن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (2) » رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » ولأحمد بسند جيد: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد (4) » ورواه أبو حاتم في صحيحه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (5) » رواه أهل السنن، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (6) » رواه أحمد وأهل السنن وصححه أبو حاتم وابن
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/139) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(4) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (1/405) .
(5) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(6) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .(61/51)
حبان. وعن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (1) » رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه؛ متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه. قال: ولا ريب في القطع بتحريمه- ثم ذكر الأحاديث في ذلك-. . . إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك تتعين إزالتها بهدم أو غيره، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين.
وقال ابن القيم: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما زيارة القبور في يوم معين وعمل الاحتفالات عندها والإقامة عندها والعكوف. فهذه الأمور ليست من دين الإسلام، بل من دين عبدة الأوثان، فالتردد إليها في وقت معين أو اتخاذها عيدا، الذي صرحت الأحاديث بالنهي عنه والتحذير منه؛ لما ينشأ عنه من المفاسد. ولذا جاءت الأحاديث مصرحة بالنهي عن ذلك سدا لباب الشرك وحماية لجناب التوحيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (2) » رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات. وأما الإقامة عندها والعكوف وعمل الاحتفالات فهو نفس
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(2) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .(61/52)
ما كان عباد اللات والعزى يفعلونه عند هذه الأوثان، ولا يشك مسلم في تحريم ذلك، قال الله حاكيا عن المشركين: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (1) وقال حاكيا عنهم: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (2) .
وعن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم (3) » رواه الترمذي وصححه.
وأما الطواف بالقبر، وطلب البركة منه، فهو لا يشك عاقل في تحريمه وأنه من الشرك، فإن الطواف من أنواع العبادات، فصرفه لغير الله شرك، وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله، وطلبها من غير الله شرك كما تقدم في حديث أبي واقد الليثي.
وأما النذر للقبر فلا يجوز، فإن النذر عبادة، وصرفه لغير الله شرك أكبر، كما قال الله سبحان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (4)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 138
(2) سورة الشعراء الآية 71
(3) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(4) سورة الإنسان الآية 7(61/53)
وكما في الصحيح من حديث عائشة: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) » .
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: وأما ما نذر لغير الله؛ كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة الحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة. وقال فيمن نذر للقبور ونحوها دهنا تنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين. فهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به. وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (2) ، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (3) .
والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه قال
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(2) سورة الأنبياء الآية 52
(3) سورة الشعراء الآية 71(61/54)
تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (1) .
فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند أو المجاورين عندها. أهـ.
والأدلة على تحريم النذر لغير الله؛ كالنذر للأموات والشياطين ونحوها أكثر من أن تحصر. فاتضح أن النذر المذكور لأصحاب القبور أنه شرك أكبر. وذكر الشيخ قاسم الحنفي (2) وصنع الله الحلبي (3) هذا النذر أنه شرك وكفر بالله رب العالمين، وكذلك غيرهم من علماء المسلمين ذكر الإجماع على بطلان هذا النذر وتحريمه.
وأما جمع الصدقات وأنواع التبرعات ونحو ذلك لإقامة هذه المحافل فلا شك في تحريم ذلك، وأنه إعانة على الإثم والعدوان، ودعاية سافرة للشرك بالله سبحانه، وتقدم كلام الشيخ أن هذا فيه شبه من النذر لسدنة اللات والعزى ومناة ونحو ذلك. وقد صرح العلماء بتحريم الذبح في المقبرة؛ لما فيه من
__________
(1) سورة الأعراف الآية 138
(2) في شرح درر البحار
(3) الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء(61/55)
مشابهة المشركين، ولأنه وسيلة إلى الشرك بالذبح للموتى والتقرب إليهم. ولا يخفى أن الذبح لغير الله كالذبح للأموات والجن والشياطين أنه شرك وكفر بالله رب العالمين، وأدلة ذلك واضحة.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقر في الإسلام (1) » رواه أحمد وأبو داود. وقال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة في الجاهلية، قال أحمد: كانوا إذا مات لهم ميت نحروا جزورا فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال العلماء: وفي معنى الذبح عنده الصدقة، فإنه محدث وفيه رياء. قال الشيخ تقي الدين في الاختيارات: ويحرم الذبح عند القبر. وقال في موضع آخر: وإخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة، وهي تشبه الذبح عند القبر، ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور؛ لا الصدقة ولا غيرها. اهـ.
وأما التوسل بالأموات إلى الله سبحانه، وجعلهم واسطة بينهم وبين الله، فهذا من أكبر المحرمات، بل هو عين ما يفعله المشركون، فإن المشركين ما كانوا يعتقدون أن اللات والعزى ونحوها تخلق وترزق، وإنما كانوا يتوسلون بها إلى الله، كما قال تعالى حاكيا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2)
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .
(2) سورة الزمر الآية 3(61/56)
وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) ، وقال ابن القيم في نونيته:
والشرك فهو توسل مقصوده ... زلفى إلى الرب العظيم الشأن
وقال الشيخ تقي الدين: أجمع العلماء أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعا (2) .
وأما الاستغاثة بأصحاب القبور أو الجن والشياطين أو نحو ذلك فهذا شرك أكبر مخرج من الملة الإسلامية، فإن الاستغاثة عبادة قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (3) . وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) أي المشركين، كما قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (5) ، {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) .
وفي حديث ابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (7) » ، وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) حكاه عنه في الإقناع، وانظر كشاف القناع ج 6 ص 148
(3) سورة النمل الآية 62
(4) سورة يونس الآية 106
(5) سورة لقمان الآية 13
(6) سورة المؤمنون الآية 117
(7) رواه الترمذي(61/57)
عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله» قال ابن القيم في " المدارج ": ومن أنواعه- أي: الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع؛ مثل تعظيم الموتى وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. اهـ.
ومما تضمنه السؤال زيارة النساء القبور واجتماعهن مع الرجال عند القبور:
فأما زيارة النساء للقبور فلا تجوز، بل صرحت الأحاديث بالنهي عن ذلك وتحريمه، ففي السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه الخمسة إلا ابن ماجه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه(61/58)
وسلم لعن زوارات القبور» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
وأما اختلاط النساء بالرجال سافرات الوجوه فلا شك في تحريم ذلك، وأنه أعظم وسيلة إلى الفاحشة، قال الله سبحانه: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) .
وأعظم من ذلك اعتقاد ذلك دينا، وأنه يرضي الله، وهو من المحرمات الظاهرة، بل من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، بل بعض ما ذكر شرك صريح ظاهر.
وبالجملة فجميع ما تضمنه هذا السؤال هو من المنكرات في الدين. ومما يغضب رب العالمين وأولياءه الصالحين، ولا يرضى بذلك من في قلبه أدنى غيرة لله سبحانه، وأدلة ذلك واضحة من الكتاب والسنة، ولكن الحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس (2) » .
وروي عن ابن مسعود أنه قال: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يصير المعروف فيها منكرا والمنكر معروفا ينشأ على هذا الصغير
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) روي هذا الحديث بعدة ألفاظ أحدها: '' إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها وليعقلن الدين في الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ''. رواه الترمذي وقال حديث حسن(61/59)
ويهرم عليه الكبير إذا غيرت قيل غيرت السنة ". فالله المستعان. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(61/60)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا - رحمه الله -
ليلة القدر هي أفضل الليالي
س: بمناسبة ليلة القدر نود من سماحتكم التحدث لعامة المسلمين بهذه المناسبة الكريمة؟
ج: ليلة القدر هي أفضل الليالي، وقد أنزل الله فيها القرآن، وأخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر، وأنها مباركة، وأنه - يفرق فيها كل أمر حكيم، كما قال سبحانه في أول سورة الدخان: {حم} (1) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (3) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (4) {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (5) {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (7) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (8) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (9) {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (10) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (11) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) سورة الدخان الآية 1
(2) سورة الدخان الآية 2
(3) سورة الدخان الآية 3
(4) سورة الدخان الآية 4
(5) سورة الدخان الآية 5
(6) سورة الدخان الآية 6
(7) سورة القدر الآية 1
(8) سورة القدر الآية 2
(9) سورة القدر الآية 3
(10) سورة القدر الآية 4
(11) سورة القدر الآية 5(61/61)
قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » متفق على صحته. وقيامها يكون بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير.
قد دلت هذه السورة العظيمة أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر مما سواها. وهذا فضل عظيم ورحمة من الله لعباده. فجدير بالمسلمين أن يعظموها وأن يحيوها بالعبادة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأن أوتار العشر الأواخر أرجى من غيرها، فقال عليه الصلاة والسلام: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في كل وتر (2) » وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن هذه الليلة متنقلة في العشر، وليست في ليلة معينة منها دائما، فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين وهي أحرى الليالي، وقد تكون في تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع، فمن قام ليالي العشر كلها إيمانا واحتسابا أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا برقم (1901) ، ومسلم في (صلاة المسافرين) باب الترغيب في قيام رمضان برقم (760)
(2) رواه البخاري في (الاعتكاف) باب الاعتكاف في العشر الأواخر برقم (2027) والترمذي في (الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، باب ما جاء في ليلة القدر برقم (792)(61/62)
بما وعد الله أهلها. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه الليالي بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول. قالت عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى الله عليه وسلم: يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها (1) » . وقالت: «كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر (2) » . وكان يعتكف فيها عليه الصلاة والسلام غالبا، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) .
وسألته عائشة رضي الله عنها فقالت يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر فما أقول فيها، قال: «قولي، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (4) » وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، وكان السلف بعدهم، يعظمون هذه العشر ويجتهدون فيها بأنواع الخير.
فالمشروع للمسلمين في كل مكان أن يتأسوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام رضي الله عنهم وبسلف هذه الأمة الأخيار، فيحيوا هذه الليالي بالصلاة وقراءة القرآن وأنواع الذكر والعبادة إيمانا واحتسابا حتى يفوزوا بمغفرة الذنوب، وحط الأوزار والعتق من النار. فضلا منه سبحانه وجودا وكرما. وقد دل الكتاب والسنة أن هذا الوعد العظيم مما يحصل باجتناب الكبائر. كما قال سبحانه:
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (796) .
(2) صحيح البخاري صلاة التراويح (2024) ، صحيح مسلم الاعتكاف (1174) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1639) ، سنن أبو داود الصلاة (1376) ، سنن ابن ماجه الصيام (1768) ، مسند أحمد بن حنبل (6/41) .
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) رواه الترمذي في (الدعوات) باب في عقد التسبيح باليد برقم (3513)(61/63)
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض المسلمين قد يجتهد في رمضان ويتوب إلى الله سبحانه مما سلف من ذنوبه، ثم بعد خروج رمضان يعود إلى أعماله السيئة وفي ذلك خطر عظيم. فالواجب على المسلم أن يحذر ذلك وأن يعزم عزما صادقا على الاستمرار في طاعة الله وترك المعاصي، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (4) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (5) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (6) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (7) ومعنى الآية أن الذين اعترفوا بأن ربهم الله وآمنوا به وأخلصوا له
__________
(1) سورة النساء الآية 31
(2) رواه مسلم في (الطهارة) باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة برقم (233)
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة آل عمران الآية 102
(5) سورة فصلت الآية 30
(6) سورة فصلت الآية 31
(7) سورة فصلت الآية 32(61/64)
العبادة واستقاموا على ذلك تبشرهم الملائكة عند الموت بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن مصيرهم الجنة من أجل إيمانهم به سبحانه واستقامتهم على طاعته وترك معصيته، وإخلاص العبادة له سبحانه، والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على وجوب الثبات على الحق، والاستقامة عليه، والحذر من الإصرار على معاصي الله عز وجل. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (1) {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3) .
فنسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين في هذه الليالي وغيرها لما يحبه ويرضاه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 133
(2) سورة آل عمران الآية 134
(3) سورة آل عمران الآية 135(61/65)
ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان
س: فضل سبحانه وتعالى شهر رمضان المبارك عن بقية الأشهر، ولياليه العشر الأخيرة عن ليالي العام، وليلة القدر التي(61/65)
هي خير من ألف شهر، هل ليلة القدر محددة التاريخ أم أنها خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم؟
ج: ليلة القدر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأخيرة من رمضان، وبين عليه الصلاة والسلام أن أوتار العشر آكد من أشفاعها فمن قامها جميعا أدرك ليلة القدر. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » والمعنى أن من قامها بالصلاة وسائر أنواع العبادة من قراءة ودعاء وصدقة وغير ذلك إيمانا بأن الله شرع ذلك واحتسابا للثواب عنده لا رياء ولا لغرض آخر من أغراض الدنيا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
وهذا عند جمهور أهل العلم مقيد باجتناب الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. فنسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا في كل مكان بقيامها إيمانا واحتسابا إنه جواد كريم.
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا برقم (1901) ، ومسلم في (صلاة المسافرين) باب الترغيب في قيام رمضان برقم (760)
(2) رواه مسلم في (الطهارة) باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة برقم (233)(61/66)
علامة ليلة القدر
س: ما علامة ليلة القدر وما الواجب على المسلم فيها؟
ج: السنة قيام ليلة القدر وهي تختص بالعشر الأواخر من رمضان، وأوتارها آكد من غيرها، وأرجاها ليلة سبع وعشرين، والمشروع الاجتهاد في طاعة الله جل وعلا في أيام العشر ولياليها، وليس قيام الليل واجبا وإنما هو مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأخيرة شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله (1) » ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » والأحاديث في ذلك كثيرة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (صلاة التراويح) باب العمل في العشر الأواخر من رمضان برقم (2024) ، ومسلم في (الاعتكاف) باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان برقم (1174)
(2) رواه البخاري في (الصوم) باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا برقم (1901) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب الترغيب في قيام رمضان برقم (760)(61/67)
قد ترى ليلة القدر بالعين
س: هل ترى ليلة القدر عيانا أي: أنها ترى بالعين البشرية المجردة حيث إن بعض الناس يقولون: إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورا في السماء ونحو هذا، وكيف رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر، وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها. نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
ج: قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا، فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان- كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك- طالبا للأجر والثواب فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها. قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى خارج الصحيحين: «. . . من قامها ابتغاءها ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (2) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا برقم (1901) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب الترغيب في قيام رمضان برقم (760)
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) باب حديث عبادة بن الصامت برقم (22205)(61/68)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، وكان أبي بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين، ويستدل بهذه العلامة، والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها، وأوتارها أحرى، وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقراءة والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير، أدرك ليلة القدر بلا شك، وفاز بما وعد الله به من قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(61/69)
تعريف الاعتكاف
وبيان المقصود منه وأحكام أخرى
س: ما حكم الاعتكاف في المساجد، وما معناه شرعا؟ وهل هو شامل للنوم مع الأكل في المساجد وإباحته أم لا؟
ج: لا ريب أن الاعتكاف في المسجد قربة من القرب، وفي رمضان أفضل من غيره؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(61/69)
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وترك ذلك مرة فاعتكف في شوال، والمقصود من ذلك هو التفرغ للعبادة والخلوة بالله لذلك، وهذه هي الخلوة الشرعية. وقال بعضهم في تعريف الاعتكاف: هو قطع العلائق عن كل الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، والمقصود من ذلك قطع العلائق الشاغلة عن طاعة الله وعبادته، وهو مشروع في رمضان وغيره كما تقدم، ومع الصيام أفضل، وإن اعتكف من غير صوم فلا بأس على الصحيح من قولي العلماء؛ لما ثبت في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام - وكان ذلك قبل أن يسلم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوف بنذرك (1) » . ومعلوم أن الليل ليس محلا للصوم، وإنما محله النهار، ولا بأس بالنوم والأكل في المسجد للمعتكف وغيره؛ لأحاديث وآثار وردت في ذلك، ولما ثبت من حال أهل الصفة، مع مراعاة الحرص على نظافة المسجد والحذر من أسباب توسيخه من فضول الطعام أو غيرها؛ لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عرضت علي أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد (2) » رواه أبو داود
__________
(1) رواه البخاري في (الاعتكاف) باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم برقم (2043) ، ومسلم في (الأيمان) باب نذر الكافر ما يفعل فيه إذا المسلم برقم (1656)
(2) رواه الترمذي في (فضائل القرآن) باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن برقم (2916) ، وأبو داود في (الصلاة) باب في كنس المسجد برقم (461)(61/70)
والترمذي وصححه ابن خزيمة، ولحديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (1) » رواه الخمسة إلا النسائي وسنده جيد. والدور: هي الحارات والقبائل القاطنة في المدن. وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رواه الترمذي في (الجمعة) باب ما ذكر في تطييب المسجد برقم '' (594) ، وأبو داود في (الصلاة) باب اتخاذ المساجد في الدور برقم (455)(61/71)
حكم الاعتكاف
وما يجب على المعتكف التزامه
وحكم اشتراط الصيام له
س: ما هو الاعتكاف؟ وإذا أراد الإنسان أن يعتكف فماذا عليه أن يفعل وماذا عليه أن يمتنع؟ وهل يجوز للمرأة أن تعتكف في البيت الحرام؟ وكيف يكون ذلك؟
ج: الاعتكاف: عبادة وسنة وأفضل ما يكون في رمضان في أي مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، كما قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) فلا مانع من الاعتكاف في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، من
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(61/71)
الرجل والمرأة، إذا كان لا يضر بالمصلين ولا يؤذي أحدا فلا بأس بذلك. والذي على المعتكف أن يلزم معتكفه ويشتغل بذكر الله والعبادة، ولا يخرج إلا لحاجة الإنسان كالبول والغائط ونحو ذلك أو لحاجة الطعام إذا كان لم يتيسر له من يحضر له الطعام فيخرج لحاجته فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لحاجته، ولا يجوز للمرأة أن يأتيها زوجها وهي في الاعتكاف، وكذلك المعتكف ليس له أن يأتي زوجته وهو معتكف؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) والأفضل له ألا يتحدث مع الناس كثيرا بل يشتغل بالعبادة والطاعة، لكن لو زاره بعض إخوانه أو زار المرأة بعض محارمها أو بعض أخواتها في الله وتحدثت معهم أو معهن فلا بأس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره نساؤه في معتكفه ويتحدث معهن ثم ينصرفن، فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك.
والاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة؛ لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك، وهو عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجبا بالنذر، وهو في حق المرأة والرجل سواء، ولا يشترط أن يكون معه صوم على الصحيح فلو اعتكف الرجل أو المرأة وهما مفطران فلا بأس في غير رمضان.
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(61/71)
محل الاعتكاف ووقته وحكم قطعه
س: ما حكم الاعتكاف للرجل والمرأة، وهل يشترط له(61/71)
الصيام، وبماذا يشتغل المعتكف، ومتى يدخل معتكفه، ومتى يخرج منه؟
ج: الاعتكاف سنة للرجال والنساء؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف في رمضان، واستقر أخيرا اعتكافه في العشر الأواخر، وكان يعتكف بعض نسائه معه، ثم اعتكفن من بعده عليه الصلاة والسلام. ومحل الاعتكاف المساجد التي تقام فيها صلاة الجماعة، وإذا كان يتخلل اعتكافه جمعة فالأفضل أن يكون اعتكافه في المسجد الجامع إذا تيسر ذلك.
وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم، ولا يشترط له الصوم ولكن مع الصوم أفضل. والسنة له أن يدخل معتكفه حين ينوي الاعتكاف ويخرج بعد مضي المدة التي نواها، وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن الاعتكاف سنة ولا يجب بالشروع فيه إذا لم يكن منذورا. ويستحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب لمن اعتكفها دخول معتكفه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ويخرج متى انتهت العشر. وإن قطعه فلا حرج عليه إلا أن يكون منذورا كما تقدم. والأفضل أن يتخذ مكانا معينا في المسجد يستريح فيه إذا تيسر ذلك، ويشرع للمعتكف أن يكثر من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والصلاة في غير أوقات النهي. ولا حرج أن يزوره بعض أصحابه، وأن يتحدث معه كما كان(61/73)
النبي صلى الله عليه وسلم يزوره بعض نسائه، ويتحدثن معه. وزارته مرة صفية رضي الله عنها وهو معتكف في رمضان، فلما قامت قام معها إلى باب المسجد، فدل على أنه لا حرج في ذلك. وهذا العمل منه صلى الله عليه وسلم يدل على كمال تواضعه، وحسن سيرته مع أزواجه عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان.(61/74)
يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
س: ما صحة الحديث: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» وإن صح الحديث هل يعني فعلا لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؟
ج: يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة إلا أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه إقامة صلاة الجماعة فيه، فإن كانت لا تقام فيه صلاة الجماعة لم يصح الاعتكاف فيه، إلا إذا نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة فإنه يلزمه الاعتكاف بها وفاء لنذره. وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(61/74)
حكم خروج المعتكف
من معتكفه للإتيان بعمرة
س: رجل معتكف يريد أن يأتي بعمرة لوالده ما حكم ذلك؟
ج: إن كان الاعتكاف منذورا محددا بمدة لزمه تكملتها؛ لأن الوفاء بنذر الطاعة أمر لازم، وإن كان تطوعا فإن شاء أكمله، وإن شاء قطعه وأتى بالعمرة.(61/75)
الذنوب تتضاعف في
الزمان والمكان الفاضل كيفا لا كما
س: الصيام هل يحصل به المسلم تكفير الذنوب صغيرها وكبيرها؟ وهل إثم الذنوب يتضاعف في رمضان؟
ج: المشروع للمسلم في رمضان وفي غيره مجاهدة نفسه الأمارة بالسوء حتى تكون نفسا مطمئنة آمرة بالخير راغبة فيه، وواجب عليه أن يجاهد عدو الله إبليس حتى يسلم من شره ونزغاته، فالمسلم في هذه الدنيا في جهاد عظيم متواصل للنفس والهوى والشيطان، وعليه أن يكثر من التوبة والاستغفار في كل وقت وحين، ولكن الأوقات يختلف بعضها عن بعض، فشهر رمضان هو أفضل أشهر العام، فهو شهر مغفرة ورحمة وعتق من النار، فإذا كان الشهر فاضلا والمكان فاضلا ضوعفت فيه(61/75)
الحسنات، وعظم فيه إثم السيئات، فسيئة في رمضان أعظم إثما من السيئة في غيره، كما أن طاعة في رمضان أكثر ثوابا عند الله من طاعة في غيره، ولما كان رمضان بتلك المنزلة العظيمة كان للطاعة فيه فضل عظيم ومضاعفة كثيرة وكان إثم المعاصي فيه أشد وأكبر من إثمها في غيره، فالمسلم عليه أن يغتنم هذا الشهر المبارك بالطاعات والأعمال الصالحات والإقلاع عن السيئات، عسى الله عز وجل أن يمن عليه بالقبول ويوفقه للاستقامة على الحق، ولكن السيئة دائما بمثلها لا تضاعف في العدد لا في رمضان ولا في غيره، أما الحسنة فإنها تضاعف بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة؛ لقول الله عز وجل في سورة الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وهكذا في المكان الفاضل كالحرمين الشريفين تضاعف فيهما أضعافا كثيرة في الكمية والكيفية، أما السيئات فلا تضاعف بالكمية ولكنها تضاعف بالكيفية في الزمان الفاضل، والمكان الفاضل كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 160(61/76)
مضاعفة الأعمال الصالحة بمكة
س: الاعتياد على صيام رمضان في مكة المكرمة كل عام، هل فيه فضل خاص لمن هم خارجها؟(61/76)
ج: لا شك أن مكة المكرمة أفضل بقاع الله فإن الصلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه، كما أنه لا شك أن الأعمال الصالحة تضاعف في الحرمين الشريفين مضاعفة؟ لا يعلم مبلغها إلا الله ما عدا الصلاة فقد جاء بيان مقدار مضاعفتها. وصيام رمضان في مكة المكرمة يجتمع فيه فضل الزمان والمكان، فمن وفق لصيام رمضان في مكة المكرمة ولم يترتب على صيامه فيها تعطيل واجب كلف به، أو إخلال بمسئولية أوكلت إليه فذلك مع النية الصالحة فيه خير عظيم.
أما إن كان بقاء المسلم خارج الحرم أنفع له أو للمسلمين في الدين ويترتب عليه مصالح كبيرة وفوائد كثيرة. فإن الأفضل للمسلم أن يبقى في المكان الذي يكثر فيه نفعه للمسلمين وتكثر فيه حسناته.(61/77)
حكم التفرغ للعبادة في رمضان
س: هل من السنة التفرغ في رمضان للأعمال الصالحة والانصراف للراحة والعبادة؟
ج: المسلم عمله كله عبادة، وواجباته التي يؤديها إذا صلحت نيته كلها عبادة؛ فليست العبادة مجرد صلاة أو صيام فقط، فتعلم العلم وتعليمه والدعوة إلى الله، وتربية الأولاد ورعايتهم، والقيام بشئون الأهل والإحسان لعباد الله، وبذل الجهد في مساعدة الناس، والتنفيس عن المكروبين والمهمومين، ونفع الناس بكل عمل مباح، وطلب الرزق الحلال كل ذلك عبادة لله تعالى إذا(61/77)
صلحت النية، والمسلم الذي يوفقه الله للجمع بين العبادات الخاصة والعامة يكون قد حصل على خير عظيم، وهكذا أداء الوظيفة المسندة إليه في رمضان بنصح وصدق من جملة العبادة التي يثاب عليها، ومن اقتصر على العبادة الخاصة لعجزه عما سواها فهو على خير عظيم إذا أخلص لله وصدق في العمل الصالح، ولقد مر بالنبي صلى الله عليه وسلم رمضان كان فيهما مجاهدا. فغزوة بدر الكبرى كانت في السابع عشر من رمضان عام اثنين من الهجرة، وغزوة فتح مكة كانت في رمضان في العام الثامن من الهجرة، وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وأفطر فيه؛ لما رأى ما حل بالناس من المشقة بالصيام، والمقصود أن المسلم يجتهد في رمضان في الأعمال الصالحة ولا يتخذ من الشهر المبارك وقتا للبطالة والنوم والغفلة والإعراض.(61/78)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل شيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: هل يجوز الدعاء في السجود بأمور الدنيا؟
ج: السنة أن يبدأ المصلي في سجوده بالأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيبدأ بقول: سبحان ربي الأعلى، يقولها عشر مرات هذا هو الكمال، قال العلماء وأدنى الكمال في ذلك تكرارها ثلاث مرات، والمجزئ منها مرة واحدة.
ودليل هذا ما جاء عند الخمسة إلا الترمذي، عن حذيفة رضي الله عنه في حديث صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم بالليل قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى (1) » . . . الحديث. وفي حديث عقبة بن عامر قال: «لما نزلت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم (3) » . ودليل كون الكمال عشرا ما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي عن سعيد بن جبير عن أنس قال: «ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى-
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (772) ، سنن الترمذي الصلاة (262) ، سنن النسائي الافتتاح (1008) ، سنن أبو داود الصلاة (871) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (888) ، مسند أحمد بن حنبل (5/398) ، سنن الدارمي الصلاة (1306) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (869) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (887) ، مسند أحمد بن حنبل (4/155) ، سنن الدارمي الصلاة (1305) .
(3) سورة الأعلى الآية 1 (2) {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}(61/79)
يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات (1) » .
ثم إذا زاد العبد بعد ذلك دعاء مأثورا أو ذكرا يشرع في السجود فحسن ومن ذلك قول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ومثل قول: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي. ومثل أن يقول العبد: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله وأوله وآخره وسره وعلانيته. ولا بأس أن يدعو العبد ربه بما شاء من حوائجه فإن الطلب من الله والتذلل له مقتضى الألوهية والتعبد لله عز وجل، وإجابة الداعي من مقتضى ربوبية الله سبحانه لجميع خلقه، ومتى استشعر العبد ذلك عظم في قلبه نور التوحيد والإيمان وفزع إلى ربه في كل ما يهمه من أمور دينه ودنياه ومن كانت هذه حاله فليبشر وليؤمل خيرا.
والسجود موضع من المواضع التي يرجى فيها الإجابة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » .
__________
(1) سنن النسائي التطبيق (1135) ، سنن أبو داود الصلاة (888) ، مسند أحمد بن حنبل (3/225) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1120) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1325) .(61/80)
س: لدينا إمام مسجد يجهر بالقراءة في جميع أوقات الصلوات كالظهر والعصر وأواخر المغرب والعشاء فما حكم عمله هذا؟
ج: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الخلف عن السلف أنه كان يسر في صلاتي الظهر والعصر، ويجهر في الأوليين المغرب والعشاء، وكذلك يجهر في ركعتي الفجر.(61/80)
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة، ويسمعنا الآية أحيانا (1) » .
وله أيضا عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة قال: «قلت لخباب بن الأرت: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته (2) » .
وفي الصحيح أيضا عن جبير بن مطعم أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور (3) » . وهذا يدل على جهره بها صلى الله عليه وسلم. وفي العشاء صح الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: والتين والزيتون في العشاء، وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه أو قراءة (4) » . وفي الفجر أيضا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الجهر بالقراءة فيها.
ومن جهر أحيانا في موضع الإسرار أو أسر أحيانا في موضع الجهر كره له ذلك، وصحت صلاته.
وما ذكر في السؤال من أن الإمام مواظب على الجهر في جميع الصلوات هذا بدعة؛ لمخالفته الواضحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه عمل المسلمين من الصحابة فمن بعدهم، والواجب على الإمام الانكفاف عن هذا، وإلا فالواجب
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (762) ، صحيح مسلم الصلاة (451) ، سنن النسائي الافتتاح (976) ، سنن أبو داود الصلاة (798) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (829) ، مسند أحمد بن حنبل (5/307) ، سنن الدارمي الصلاة (1293) .
(2) صحيح البخاري الأذان (761) ، سنن أبو داود الصلاة (801) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (826) ، مسند أحمد بن حنبل (5/112) .
(3) صحيح البخاري الأذان (765) ، صحيح مسلم الصلاة (463) ، سنن النسائي الافتتاح (987) ، سنن أبو داود الصلاة (811) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (832) ، مسند أحمد بن حنبل (4/84) ، موطأ مالك النداء للصلاة (172) ، سنن الدارمي الصلاة (1295) .
(4) صحيح البخاري الأذان (769) ، صحيح مسلم الصلاة (464) ، سنن الترمذي الصلاة (310) ، سنن النسائي الافتتاح (1001) ، سنن أبو داود الصلاة (1221) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (835) ، موطأ مالك النداء للصلاة (176) .(61/81)
عزله وعدم تمكينه من هذا الفعل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(61/82)
س: نرى بعض الناس إذا أراد قطع صلاته لعارض ما كمتابعة الإمام أو لفساد هذه الصلاة، نراهم يسلمون، فهل هذا العمل صحيح، أم يكتفي بالنية؟
ج: إذا عرض للمصلي عارض وهو في صلاته يقتضي منه الانفتال من صلاته، كمن شرع في صلاة نفل فأقيمت الصلاة فإنه في هذه الحالة يكتفي بنية قطع الصلاة، ولا يسلم؛ لأن محل السلام هو آخر الصلاة؛ لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (1) » رواه أصحاب السنن إلا النسائي، بسند صحيح.
أما من فسدت صلاته فإنه ينصرف من صلاته بلا سلام ولا نية؛ لأن الصلاة قد فسدت.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (3) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (275) ، مسند أحمد بن حنبل (1/123) ، سنن الدارمي الطهارة (687) .(61/82)
س: ما حكم وضع المكياج بعد الوضوء، وهل المكياج ينقض الوضوء، وهل يجوز تأخير الصلاة لانشغالي بوضع المكياج؟
ج: المكياج هذا نوع من الزينة للنساء يباح استعماله لهن إذا لم يكن محتويا على مواد محرمة، وكان الغرض منه تجمل المرأة لزوجها أو التجمل في مجتمع نسائي.(61/82)
ولا يعد هذا من نواقض الوضوء، وغالبا أن المكياج لا جرم له، لهذا إذا حضر وقت الصلاة فتوضئي وضوءك للصلاة، وصلي لكن إذا كان من ضمن المكياج أشياء لها جرم يمنع وصول الماء للبشرة؛ فإنه يجب إزالتها قبل الوضوء.
ولا يجوز تأخير الصلاة لأي عذر فإن المسلم واجب عليه أداء الصلاة في وقتها في أي حالة كان، حتى المريض.
ووضع المكياج لا يبرر تأخير الصلاة عن وقتها، ومن فعل فهو آثم متعرض للعقاب، يجب عليه التوبة إلى الله، فإن الله سبحانه يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) . ذكر السلف أن هذه الآية فيمن أخر الصلاة حتى خرج وقتها.
__________
(1) سورة مريم الآية 59(61/83)
س: أثناء صلاة الجمعة وفي بداية الركعة الأولى انقطعت الكهرباء فتوقف الصوت، بحيث إن من خارج المسجد ومن في ساحة المسجد لا يسمعونه، فتوقف بعض المصلين عن متابعة الإمام ثم صلوها ظهرا على أن صلاة الجمعة قد فاتتهم، فما حكم هذا الفعل؟ جزاكم الله خيرا.
ج: من أدرك من هؤلاء ومن كان في مثل حالهم ركعة من الجمعة ثم عرض عارض كانقطاع الكهرباء ونحوه، فإنه يتمها جمعة منفردا بمعنى أنه يصلي الركعة الثانية ثم يسلم؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله(61/83)
صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة (1) » . وفي الترمذي وابن ماجه وعند مالك في الموطأ: «من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى (2) » .
والركعة إنما تدرك بالركوع، ومن لم يدرك الركوع الإمام فإنه غير مدرك للركعة، وعلى هذا فإذا كان من ذكروا في السؤال لم يدركوا مع الإمام إلا تكبيرة الإحرام فقط فإنهم يصلونها ظهرا.
__________
(1) سنن النسائي المواقيت (553) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) ، مسند أحمد بن حنبل (2/280) .
(2) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1121) ، موطأ مالك النداء للصلاة (238) .(61/84)
س: هل تجب على المهاجر في إحدى الدول الأجنبية صلاة جمعة خاصة أن المسجد يبعد نحو (10 كم) عن مقر السكن؟
ج: من شروط الجمعة الاستيطان، بمعنى أن يكون المسلم مستوطنا أو مقيما في البلد، والذي يظهر من حالك أنك مقيم إقامة دائمة أو طويلة في بلد تقام فيه الجمعة، فتجب عليك صلاة الجمعة ويلزمك السعي لها.(61/84)
س: إذا دخل المسجد عدة أشخاص ووجدوا شخصا يصلي منفردا وقد مضى بعض صلاته، هل يقتدون به إماما لهم أو يتقدمهم واحد منهم ويصلون جماعة؟
ج: كلا الأمرين سائغ جائز، فإن صلوا جماعة فهذا جائز وأدلته واضحة من عمومات صلاة الجماعة.
وإن دخلوا مع هذا المنفرد فصاروا جماعة وهو إمامهم فإن هذا جائز أيضا، إذا كان الرجل أهلا للإمامة.(61/84)
ولا يشكل على هذا أن المنفرد دخل الصلاة بغير نية الإمامة، فإنه وإن كانت النية شرط؛ لعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » متفق عليه - لكن لهذا المنفرد أن ينوي الإمامة من حين أن يصف معه من يأتم به، هذا هو الصواب لأدلة منها:
ما أخرجه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود وغيرهم عن أبي سعيد الخدري، «أن رجلا جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه (2) » .
وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت خلفه، وجاء رجل فقام إلى جنبي، ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا خلفه تجوز في صلاته، ثم قام فدخل منزله فصلى صلاة لم يصلها عندنا، فلما أصبحنا قلنا: يا رسول الله أفطنت بنا الليلة؟ قال: نعم، فذلك الذي حملني على ما صنعت (3) » أخرجه الإمام أحمد ومسلم.
وهذا وإن كان في النفل، فإنه يعم الفرض أيضا على الصحيح. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (574) ، مسند أحمد بن حنبل (3/85) ، سنن الدارمي الصلاة (1368) .
(3) صحيح مسلم الصيام (1104) ، مسند أحمد بن حنبل (3/193) .(61/85)
س: صليت مع الإمام وبعد الصلاة تذكر الإمام أنه على غير طهارة فما العمل؟
ج: إذا صلى الإمام بالجماعة ولم يذكر أنه على غير طهارة إلا بعد انقضاء الصلاة؛ فإنه يجب عليه إعادة صلاته؛ لما رواه(61/85)
مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل صلاة بغير طهور (1) » .
أما المأمومين فصلاتهم صحيحة ولا تجب عليهم الإعادة.
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .(61/86)
س: ما حكم صلاة الرغائب وصلاة التسابيح وما كيفيتهما؟
ج: الأصل في العبادات التوقيف، بمعنى أن المسلم لا يتعبد بعبادة لله إلا إذا ثبت عنده مشروعيتها بالنقل الثابت، فالعبادات في ديننا مبناها على المنقول لا على ما تستحسنه الأهواء والعقول.
ثم إن صلاة الرغائب لم يأت في مشروعيتها نقل ثابت، ولا فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا أئمة السلف رحمهم الله.
وما جاء فيها إنما هو كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة، وقد أنكرها الأئمة وبينوا بدعيتها، وكذلك كذب الحديث الوارد بها، أما صفتها فهي أن يصلي المصلي في أول ليلة جمعة من رجب اثنتي عشرة ركعة بين المغرب والعشاء.
وأما صلاة التسابيح فقد جاء بها حديث، لكنه لا يصح، بل هو منكر؛ فإن الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن صلاة التسابيح قال: ما تعجبني، قيل له: لم؟ قال: ليس فيها شيء يصح ونفض يده كالمنكر. وصفتها: أنها أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغ قال: سبحان(61/86)
الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خمس عشرة مرة، ثم يركع ويقول مثل ذلك عشر مرات، ثم يرفع ويقول مثل ذلك عشر مرات، ثم يسجد ويقولها عشرا، ثم يرفع رأسه ويقولها عشرا ثم يسجد ويقولها عشرا ثم يرفع رأسه ويقولها عشرا، فيكون المجموع خمسا وسبعين مرة في الركعة الواحدة.
قالوا: وتفعل هذه الصلاة في كل يوم مرة، وإلا ففي كل أسبوع مرة، وإلا ففي كل شهر مرة وإلا ففي كل سنة مرة، وإلا ففي العمر مرة.
ولا شك أن صفتها هذه شاذة خارجة عن صفات الصلوات المعهودة، وكذلك تحديد وقتها، ففي متنها نكارة، ثم إن الإمام أحمد وهو إمام في هذا الفن أنكرها ولم يثبتها، بل ضعفها، والتعبد لله بما لم يثبت أنه مشروع يكون من البدع. والله أعلم.(61/87)
س: تتعرض ملابسي لبعض البلل والماء المتناثر الناتج من جريان بعض الماء في الشارع، ولا أدري هل هذا الماء نجس أم لا، فما الحكم؟ وخاصة أنا أكون في طريقي للمسجد وليس لدي وقت لغسله أو استبداله؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الأصل في الماء أنه طاهر؟ يقول الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (1) ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (2) وأخرج الثلاثة والإمام أحمد
__________
(1) سورة الأنفال الآية 11
(2) سورة الفرقان الآية 48(61/87)
من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء (1) » . هذا هو الأصل في الماء، وإذا أصابك شيء من الماء الجاري في الشارع ونحوه، فإنه طاهر بناء على الأصل، إلا إذا تيقنت نجاسته؛ فإنك حينئذ تغسل ما أصابه النجاسة من بدنك أو ثوبك، ولا يؤثر ذلك على صحة وضوئك. فقد أخرج الإمام أحمد وغيره بإسناد ثابت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما كان في بعض صلاته خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك خلعوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما بالكم ألقيتم نعالكم، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذرا، أو قال: أذى، فألقيتها، فإذا جاء أحدكم المسجد، فلينظر في نعليه، فإن رأى فيهما قذرا، أو قال: أذى، فليمسحهما، وليصل فيهما (2) » .
وهذا دليل على أن النجاسة لا تنقض الوضوء وأن حملها في الصلاة بغير علم لا يؤثر في الصلاة.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (348) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (650) ، مسند أحمد بن حنبل (3/20) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) .(61/88)
س: أشعر بين الحين والآخر بطعم الأكل والاسترجاع في حلقي ولكني أعيد بلعه مرة أخرى. فهل هذا من القيء الذي ينقض الوضوء؟ جزاكم الله خيرا.(61/88)
ج: القيء إذا خرج من الإنسان، فإن العلماء اختلفوا فيه - على قولين: القول الأول: أنه إن كان كثيرا نقض الوضوء. وهذا هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد وقول كثير من الفقهاء من التابعين وجملة من الصحابة رضي الله عنهم، واستدلوا بأدلة منها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ، قال الراوي: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك، فقال ثوبان: صدق، أنا صببت له وضوءه (1) » رواه أحمد والترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب.
ومنها: ما رواه إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى عليه وسلم: «من أصابه قيء، أو رعاف، أو قلس، أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم (2) » أخرجه ابن ماجه والدارقطني، وقال: الحفاظ من أصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
قالوا: وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ولا نعلم لهم مخالفا من الصحابة، فكان إجماعا. قال ذلك ابن قدامة رحمه الله.
وأيضا قالوا: إن هذا خارج نجس خرج إلى محل يلحقه حكم التطهير. فكان ناقضا للوضوء كالخارج من السبيلين.
والقول الثاني: أنها لا تنقض الوضوء، وهو قول المالكية
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (87) ، سنن أبو داود الصوم (2381) ، مسند أحمد بن حنبل (6/449) ، سنن الدارمي الصوم (1728) .
(2) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1221) .(61/89)
والشافعية، وجمع من الصحابة والتابعين دليلهم حديث أنس رضي الله عنه قال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ. ولم يزد على غسل محاجمه» ، رواه الدارقطني. ووجهه أن الدم والقيء ونحوهما من النجاسات الخارجة من غير السبيلين لها نفس الحكم وهنا لم يتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من الدم الخارج بالحجامة. قالوا: وعدم الوضوء من ذلك مروي عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: أيضا إن الأصل عدم النقض إلا بما ثبت به الدليل، ولا دليل مع من رأوا نقض الوضوء بالقيء ونحوه.
وأجابوا عن حديث ثوبان بأنه مضطرب قاله البيهقي وغيره ونقل ذلك عنه النووي.
وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها، بأنه ضعيف من وجهين:
الأول: أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وهو حجازي ورواية ابن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة.
أما ما نقل عن الصحابة، فإنه قد نقل عن غيرهم خلافه.
وأما القياس فلا يقبل لأن العلة في المقيس عليه تعبدية، غير معقولة.
وأصحاب القول الأول أجابوا عن حديث أنس بالضعف وبكل حال فإنه ينبغي للمسلم أن يحتاط لنفسه وعبادته، والوضوء أمره يسير لا يكلفه كثيرا، فالذي ينبغي له الحزم، خصوصا إذا(61/90)
علمنا أن الإمام أحمد وهو من أئمة الحديث قد سئل عن حديث ثوبان هل ثبت عندك؟ فقال: نعم.
أما ما ذكر السائل في سؤاله فإنه يظهر أن القيء الذي يخرج منه قليل وعلى هذا فلا ينقض وضوءه. وحد الكثير هو ما فحش في النفس، وقال بعضهم: ينبغي أن يقال: ما فحش في نفس أوساط الناس لا الموسوسين ولا المبتذلين وهذا الحد جيد. والله أعلم.(61/91)
س: من صلى العشاء في جماعة والفجر مع الجماعة، هل يكتب له قيام الليل كله؟ جزاكم الله خيرا.
ج: عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: دخل عثمان بن عفان المسجد بعد صلاة المغرب، فقعد وحده فقعدت إليه،. فقال: يا ابن أخي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله (1) » أخرجه مسلم، وأخرجه أبو داود أيضا، وقال في آخره: «ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة (2) » . وبنحوه أيضا أخرجه الترمذي.
وهذا الحديث يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم فضل صلاة العشاء والفجر في جماعة وأنها تعدل قيام الليل في فضلها، لما يحصل من العبد فيها وفي تحريها من مجاهدة لنفسه ومغالبة للنوم فيظهر بذلك شدة حرصه على الطاعة، وهذين الفرضين،
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (656) ، سنن الترمذي الصلاة (221) ، سنن أبو داود الصلاة (555) ، مسند أحمد بن حنبل (1/58) ، موطأ مالك النداء للصلاة (297) ، سنن الدارمي الصلاة (1224) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (656) ، سنن الترمذي الصلاة (221) ، سنن أبو داود الصلاة (555) ، مسند أحمد بن حنبل (1/68) ، موطأ مالك النداء للصلاة (297) ، سنن الدارمي الصلاة (1196) .(61/91)
العشاء والفجر. يأتيان في وقت الراحة والدعة فالعشاء يأتي بعد عناء النهار بالعمل والكد، والفجر يأتي بعد أن ينام العبد ويستغرق في نومه، وهذا كله يجعل هاتين الصلاتين من أثقل الصلوات على المنافقين، لعدم حرصهم على الطاعة وإنما صلواتهم لمراءاة الناس.
ولهذا أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار (1) » .
وأخرج مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجه في نار جهنم (2) » .
وفي هذا الحديث ترغيب في صلاة الفجر، وأن من صلاها فهو في ذمة الله، وتحذير من التخلف عنها.
ويحسن هنا أن أنبه على أمر، ألا وهو أن حديث عثمان المتقدم وإن كان فيه بيان الفضل العظيم والأجر الجزيل لمن أدى صلاة العشاء والفجر في جماعة، لكن ينبغي للمسلم ألا يحط ذلك على التهاون بقيام الليل فإنها دأب الصالحين. والله قد
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (657) ، سنن الترمذي الصلاة (222) ، مسند أحمد بن حنبل (4/313) .(61/92)
ذكرها وجعلها من أهم خصال المؤمنين الذين فازوا بالجنان، ونالوا من ربهم الرضوان فقال سبحانه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (1) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (2) .
وفي آخر آية من سورة المزمل حث على قيام الليل، وكان الخطاب موجها للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم أكمل الخلق وأحرصهم على صلاة الفرائض جماعة؛ فالمسلم ينبغي له الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها أخبرت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ربما قام الليل حتى تتفطر قدماه، وأيضا ينبغي للمسلم أن يكون مسابقا بالخيرات، منافسا في ميادين الطاعات والصالحات لأنها هي التي تقربه من رضوان الله وجنانه والله سبحانه يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (3) ويقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (4) ، ولا ينبغي للمؤمن أن يحرم نفسه الأجر والمغنم للذة نوم أو غفلة ساعة، فإن الدنيا مزرعة للمؤمن ينوع فيها الطاعات والقرب فيجني ثمارها أوفر ما كانت وأحسنها يوم، القيامة.
جعلنا الله وإياكم من أهل الله وخاصته، المتنافسين في طاعته المجتنبين لمعصيته.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 17
(2) سورة الذاريات الآية 18
(3) سورة الصافات الآية 61
(4) سورة المطففين الآية 26(61/93)
س: سمعت أن من يصلي بثوب طويل لا تقبل صلاته سواء كان عن كبر وخيلاء، وعادة من هذا طبعه، وإذا صليت بثوب قصير إلى حد الكعبين، وبعد الصلاة ألبس ثوبا عاديا تحت القدمين في المناسبات وغيرها، هل يجوز ذلك؟ أم لا بد من لبس الثوب القصير بجميع أحوال الشخص؟
ج: إسبال الثياب محرم؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (1) » رواه الجماعة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (2) » رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا (3) » .
ولأحمد والبخاري «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار (4) » .
والواجب على المسلم أن يبتعد عن أسباب غضب الله وسخطه، وإذا كان الإسبال للثوب أو القميص أو الإزار أو السراويل لكبر في نفس المسبل فهذا أشد إثما وأعظم خطرا فإن الله لا يحب من هذا وصفه، وهو داخل في عموم قوله تعالى:
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5784) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3576) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5788) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2087) ، مسند أحمد بن حنبل (2/409) ، موطأ مالك الجامع (1698) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .(61/94)
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (1) وقوله سبحانه: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (2) {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (3) .
والواجب على المسلم أن يكون لباسه فوق كعبيه، ويستحب له أن يبلغ به أنصاف ساقيه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، لا جناح- أو لا حرج- عليه - فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك فهو في النار، لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا (4) » . أخرجه الإمام أحمد، بسند صحيح.
وفي صحيح مسلم، وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعته، ثم قال: أزد فزدت، فما زلت أتحراها بعد، فقال بعض القوم إلى أين، فقال: أنصاف الساقين (5) » .
وهذا هو اللباس الشرعي للرجل المسلم في كل أحيانه ليس في الصلاة وحدها، ولا يشرع له أن يجعل ثوبا لصلاته وثوبا لسائر أحواله، ثم إن ما ذكره في سؤاله من قوله: وبعد الصلاة
__________
(1) سورة لقمان الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 37
(3) سورة الإسراء الآية 38
(4) سنن أبو داود اللباس (4093) ، سنن ابن ماجه اللباس (3573) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) ، موطأ مالك الجامع (1699) .
(5) صحيح مسلم اللباس والزينة (2086) .(61/95)
ألبس ثوبا عاديا تحت القدمين، فإن هذا كلام لا يستقيم، ولا ينبغي أن يصدر من المسلم فالثوب المعتاد الشرعي هو ما بيناه سابقا ويكون ما بين نصف الساق إلى ما فوق الكعب، أما ما نزل عن ذلك فهو ثوب محرم لبسه، مخالف للشرع.
ثم إن الصحيح أن صلاة من كان على هذه الحالة صحيحة مع كونه آثم فيما فعل متعد لحدود الله، يجب عليه التوبة من فعله هذا، والمؤمن ينبغي له أن يكون أحرص ما يكون على صلاته وسائر الطاعات، والبعد عن كل ما ينقص ثوابها فإن الله بمنه وفضله قد شرع لنا من نوافل العبادات ما هو من جنس الفرائض لنكمل بها النقص والخلل في العبادة. وحثنا سبحانه على استباق الخيرات والتنافس في الطاعات واجتناب المحرمات، لذا ينبغي للمسلم أن يحرص على تكميل نفسه بالعمل الصالح، والبعد عن المحرمات، والتنزه عن المكروهات. حتى يكون من عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين الذين أثنى الله عليهم وبين فضلهم فقال سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) .
وفقنا الله وإياكم لعمل الصالحات والبعد عن المحرمات.
__________
(1) سورة يونس الآية 62(61/96)
س: امرأة تسأل وتقول بدأ نزول الحيض عندي في شهر رمضان ولم أفطر فما الحكم في ذلك؟
ج: المرأة إذا نزل عليها دم الحيض وجب عليها ترك(61/96)
الصلاة والصيام، بل وحرم عليها فعلهما إجماعا؛ ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري في صلاة العيد: لما خطب الناس فكان مما قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها (1) » أخرجه البخاري.
وفي الصحيحين من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أن فاطمة بنت حبيش جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة. وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (2) » .
والحائض إذا طهرت وجب عليها قضاء الصيام إن كان من رمضان، ولم يشرع لها قضاء الصلاة؛ دليل ذلك حديث معاذة قالت: «سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية. ولكني أسأل؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (3) » أخرجاه في الصحيحين.
وبناء على ما تقدم فإن السائلة قد أخطأت بصومها أياما من
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (228) ، صحيح مسلم الحيض (333) ، سنن الترمذي الطهارة (125) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (359) ، سنن أبو داود الطهارة (282) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (624) ، مسند أحمد بن حنبل (6/204) ، موطأ مالك كتاب الطهارة (137) ، سنن الدارمي الطهارة (774) .
(3) صحيح البخاري الحيض (321) ، صحيح مسلم الحيض (335) ، سنن الترمذي الطهارة (130) ، سنن النسائي الصيام (2318) ، سنن أبو داود الطهارة (262) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (631) ، مسند أحمد بن حنبل (6/232) ، سنن الدارمي الطهارة (986) .(61/97)
رمضان وهي حائض فعليها التوبة إلى الله من ذلك الفعل وعليها أيضا قضاء تلك الأيام؛ لأن صيامها السابق غير معتبر شرعا.
ويحسن أن ننبه هنا أخواتنا المسلمات بأن الشارع الحكيم قد علق على حيض المرأة أحكاما يجب عليها أن تتعلمها وتدركها، منها: أنه علامة على البلوغ. ومنها: أنه يحرم وطؤها فيه. ومنها: أنه يحرم عليها فعل الصلاة والصيام فيه. ومنها: أنه يمنع اللبث في المسجد والطواف بالبيت. ومنها: أنه يمنع صحة الطهارة ما دام لم ينقطع. ومنها: أنه يوجب الغسل عند انقطاعه. وعلى المرأة المسلمة معرفة تلك الأحكام وطلبها بأدلتها لتعبد الله على بصيرة، وفق الله الجميع للفقه في دينه والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(61/98)
فتوى برقم (21407)
وتاريخ 23 \ 3 \ 1421هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتين؛ مجموعة من طلبة العلم، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (1359) وتاريخ 3 \ 3 \ 1421هـ. وقد سأل المستفتون سؤالا هذا نصه: (نرسل إلى سماحتكم سؤالنا المرفق راجين منكم - حفظكم الله - دراسته مع اللجنة الدائمة للإفتاء لإصدار فتوى عاجلة حوله للأمرين التاليين:
1 - أننا في محافظة وادي الدواسر الآن نعيش موسم الحبحب.
2 - كثرة المزارعين الذين يسألون عن هذا الموضوع المهم، خاصة المستقيمين منهم لحرصهم- جزاهم الله خيرا- على سلامة وبراءة ذممهم مما حرم الله.
يستخدم أصحاب مزارع الحبحب:
1 - هرمونات غير مسموح بها زيادة في الإنتاج وحجم الثمرة(61/99)
وتحسين النوعية، واستخدامها فيه ضرر على الإنسان، وغير مصرح به رسميا من قبل وزارة الزراعة والمياه.
2 - كما يستخدمون مبيدات حشرية وفطرية ويكون لها فترة تحريم معينة تترواح بين أسبوع إلى ثلاثة أسابيع، يجب على المزارع الالتزام بها، ولكن بعض المزارعين لا يلتزمون بتلك الفترة فيقطفون الثمار في نفس اليوم أو في اليوم التالي لرش المبيدات.
- فما الحكم في استعمال هذه الهرمونات والمبيدات بالصفة المذكورة؟
- وما حكم المال المكتسب من وراء بيع هذه الثمار حسب ما ذكر؟
ونرجو توجيه نصيحة عامة للمزارعين حول هذه التصرفات وأمثالها.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي:
هذا عمل محرم؛ لأنه غش للمسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من غشنا فليس منا (1) » . وهذا العمل مضارة للمسلمين ومن ضار مسلما ضار الله به، وفاعله آثم وكسبه حرام وحري أن يعاقب فاعله لما عمله من الغش والإثم، ولا يجوز لمن علم هذه الحال في هذه الأنواع من المنتجات أن يسوقها ويروجها ويبيعها لما في ذلك من التعاون على الإثم والعداون والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (101) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .
(2) سورة المائدة الآية 2(61/100)
فعلى المزارعين المذكورين وغيرهم من المسلمين أن يتقوا الله وأن يكونوا متعاونين على البر والتقوى مبتعدين عن أسباب الإثم والعدوان، متطلبين الكسب الحلال والرزق المستطاب، مجتنبين الكسب الحرام وألا يغتروا بزهرة الحياة الدنيا وجمع المال من أي طريق حلال أو حرام، فحلال قليل خير من حرام كثير، وعلى المسلمين تبليغ المسئولين عمن يفعل ذلك للأخذ على يده؛ لأن هذا من المنكر الذي يجب إنكاره، وعلى المسلمين التواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة لإخوانهم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(61/101)
فتوى برقم (21436) وتاريخ 8 \ 4 \ 1421هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين المقيدة استفتاءاتهم بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (5411) وتاريخ 7 \ 11 \ 1420هـ، ورقم (1016) وتاريخ 17 \ 2 \ 1421هـ، ورقم (1026) وتاريخ 17 \ 2 \ 1421هـ، ورقم (1395) وتاريخ 8 \ 3 \ 1421هـ، ورقم (1650) وتاريخ 17 \ 3 \ 1421هـ، ورقم (1893) وتاريخ 25 \ 3 \ 1421هـ، ورقم (2106) وتاريخ 7 \ 4 \ 1421هـ، وقد سأل المستفتون أسئلة كثيرة مضمونها: (ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الإرجاء بشكل مخيف، وانبرى لترويجها عدد كثير من الكتاب يعتمدون على نقولات مبتورة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية مما سبب ارتباكا عند كثير من الناس في مسمى الإيمان، حيث يحاول هؤلاء الذين ينشرون هذه الفكرة أن يخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، ويرون نجاة من ترك جميع الأعمال، وذلك مما يسهل على الناس الوقوع في المنكرات، وأمور الشرك، وأمور الردة إذا علموا أن الإيمان متحقق لهم ولو لم يؤدوا الواجبات، ويتجنبوا المحرمات، ولو لم يعملوا بشرائع الدين بناء(61/102)
على هذا المذهب، ولا شك أن هذا المذهب له خطورته على المجتمعات الإسلامية وأمور العقيدة والعبادة، فالرجاء من سماحتكم بيان حقيقة هذا المذهب وآثاره السيئة وبيان الحق المبني على الكتاب والسنة، وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه، وفقكم الله وسدد خطاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي:
هذه المقالة المذكورة هي مقالة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، ويقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه، فمن صدق بقلبه ونطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم ولو فعل ما فعل من ترك الواجبات وفعل المحرمات، ويستحق دخول الجنة ولو لم يعمل خيرا قط. ولزم على ذلك الضلال لوازم باطلة منها حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي، ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة وما عليه أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، وأن هذا يفتح بابا لأهل الشر والفساد للانحلال من الدين وعدم التقيد بالأوامر والنواهي والخوف والخشية من الله سبحانه، ويعطل جانب الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسوي بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، والمستقيم على دين الله والفاسق المتحلل من أوامر الدين ونواهيه، ما دام أن أعمالهم هذه لا تخل(61/103)
بالإيمان كما يقولون، ولذلك اهتم أئمة الإسلام قديما وحديثا ببيان بطلان هذا المذهب والرد على أصحابه وجعلوا لهذه المسألة بابا خاصا في كتب العقائد، بل ألفوا فيها مؤلفات مستقلة كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره- قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل. قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ". وقال في كتاب الإيمان: " ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان. فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح " وكل هذا صحيح. وقال رحمه الله: " والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية، ولا في العلم؛ بل يتفاضلون من وجوه كثيرة ". وقال رحمه الله: " وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة وهذه طريقة أهل البدع " انتهى.
ومن الأدلة على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان وعلى زيادته ونقصانه بها، قوله تعالى:(61/104)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3) ، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (6) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (7) {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (8) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (9) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (10) {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (11) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (12) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (13) » . قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب (الإيمان) أيضا: " وأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح. وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من الإيمان المطلق وبعض له ". وقال أيضا: " بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول. ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان. وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبا كافرا، ويعلم أنه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 3
(3) سورة الأنفال الآية 4
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2
(6) سورة المؤمنون الآية 3
(7) سورة المؤمنون الآية 4
(8) سورة المؤمنون الآية 5
(9) سورة المؤمنون الآية 6
(10) سورة المؤمنون الآية 7
(11) سورة المؤمنون الآية 8
(12) سورة المؤمنون الآية 9
(13) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .(61/105)
لو قدر أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم. بل نقتلك أيضا ونقاتلك مع أعدائك. هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟ بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك " انتهى.
وقال أيضا: " فلفظ الإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ البر، وبلفظ التقوى وبلفظ الدين كما تقدم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان. وكذلك لفظ البر يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ التقوى. وكذلك الدين أو دين الإسلام. وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (1) الآية. . .
__________
(1) سورة البقرة الآية 177(61/106)
إلى أن قال: والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إلى إيمان خال عن عمل ". فهذا كلام شيخ الإسلام في الإيمان، ومن نقل عنه غير ذلك فهو كاذب عليه.
وأما ما جاء في الحديث أن قوما يدخلون الجنة لم يعملوا خيرا قط فليس هو عاما لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه. وإنما هو خاص بأولئك؛ لعذر منعهم من العمل، أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة وما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب.
هذا واللجنة الدائمة إذ تبين ذلك فإنها تنهى وتحذر من الجدال في أصول العقيدة لما يترتب على ذلك من المحاذير العظيمة، وتوصي بالرجوع في ذلك إلى كتب السلف الصالح، وأئمة الدين المبنية على الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وتحذر من الرجوع إلى الكتب المخالفة لذلك، وإلى الكتب الحديثة الصادرة عن أناس متعالمين لم يأخذوا العلم عن أهله ومصادره الأصيلة. وقد اقتحموا القول في هذا الأصل العظيم من أصول الاعتقاد وتبنوا مذهب المرجئة، ونسبوه ظلما إلى أهل السنة والجماعة ولبسوا بذلك على الناس، وعززوه عدوانا بالنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- وغيره من أئمة السلف بالنقول المبتورة، وبمتشابه القول وعدم رده إلى المحكم من كلامهم. وإننا ننصحهم أن يتقوا الله في أنفسهم وأن يثوبوا إلى رشدهم ولا يصدعوا الصف بهذا المذهب الضال، واللجنة أيضا تحذر المسلمين من الاغترار والوقوع في شراك المخالفين لما(61/107)
عليه جماعة المسلمين أهل السنة والجماعة. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(61/108)
فتوى برقم (21546) وتاريخ 26 \ 6 \ 1421هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من بعض الناصحين، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 1962 وتاريخ 3 \ 3 \ 1421هـ، وقد سأل المستفتون سؤالا هذا نصه:
" تجدون برفقه صورة للرد الذي كتبه الدكتور محمد عباس جزاه الله خيرا، وجعل عمله هذا في موازين حسناته وكتب له النجاة يوم الفزع الأكبر، والرد موجه إلى رواية (وليمة لأعشاب البحر)(61/108)
للكاتب السوري حيدر حيدر، نسأل الله له ولكل ضال الهداية، وسيجد فضيلتكم في الرد المرفق ما قاله الكاتب السوري في ذات الله سبحانه وتعالى، وفي القرآن الكريم، وفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما لم يقله يهودي في توراة، ولا نصراني في إنجيل؛ ليأتي هذا الفاجر الفاسق في زمان الفجور والفسق ليستغل غفلة المسلمين علماء وعامة، ويتجرأ ليقول كلاما ما كان ليقوله لو رأى في المسلمين مرجعا وحبا لربهم وكتابهم ونبيهم، يقول هذا الكلام في بلد مسلم؛ ليسمع كل المسلمين رواية الغواية التي كتبها، لقد تحدى هذا الكاتب كل المسلمين وفي مقدمتهم العلماء والهيئات والمؤسسات الدينية، فما هو جواب فضيلتكم وفضيلة علماء هذا البلد الطيب المعروف بدفاعه عن دين الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم. أرجو أن يكون الجواب بقدر التحدي الذي أظهره الكاتب وأقوى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، إنني إذ أبلغ فضيلتكم هذا الأمر أضع الأمر في أعناقكم، فأنتم أقدر وأبرأ إلى الله مما قاله الكاتب ويقوله المضللون، وأبرأ إلى الله من مواقف التخاذل والضعف التي كانت عليها الهيئات والمؤسسات الدينية في بلاد المسلمين أمام الفجرة وفجورهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل ".
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت:
بأنه بعد الاطلاع على نصوص كافية من رواية: (وليمة لأعشاب البحر) تأليف حيدر حيدر. وبعد الوقوف على بعض البيانات الصادرة من جهات إسلامية بشأن هذه الرواية وما فيها من(61/109)
ضلالات وكفريات؛ تبين للجنة اشتمال الرواية المذكورة على أمور خطيرة منها:
ا- الاستهزاء بالله جل وعلا ووصفه بما لا يليق به سبحانه.
2 - السخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم والافتراء عليه.
3 - إنكار اليوم الآخر والاستهزاء بالجنة والنار والثواب والعقاب.
4 - الدعوة إلى الإباحية ونشر الفاحشة بين المؤمنين.
5 - حمل الناس على الخروج على أحكام الإسلام وعدم الالتزام بتشريعاته. . . إلخ.
ولا يختلف المسلمون أن ما سبق ذكره كفر بالله وإلحاد في دينه وخروج عن ملة الإسلام؛ لأنه استهزاء بالله ورسوله ودينه، وتكذيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وطعن في القرآن، ورد لأحكام الإسلام، قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) ، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} (3) ، وأجمع العلماء على أن من جحد شيئا معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر.
فالواجب على أهل الإسلام تمكين القضاء الشرعي من النظر في قضية صاحب الرواية المذكورة؛ ليحكم فيه بحكم الله ورسوله جزاء له وردعا لغيره ممن تسول له نفسه النيل من دين
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) سورة التوبة الآية 74(61/110)
الإسلام، وليعلم كل مسلم أن هذه الرواية لا يجوز طبعها ولا نشرها ولا تداولها، ويجب إتلافها. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(61/111)
من الفتوى رقم 3030
السؤال الأول: ينام بعض الناس في المسجد وهم يسبحون بالمسابح فهل يجب عليه إعادة الوضوء قبل الصلاة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
النوم المستغرق مظنة لنقض الوضوء فمن نام نوما مستغرقا، في المسجد أو غيره وجب عليه إعادة وضوئه، سواء كان قائما قاعدا أو مضطجعا، وسواء كان في يده سبحة أم لا. أما إن كان غير مستغرق؛ كالنعاس الذي لا يفقد معه الشعور فلا تجب عليه إعادة الوضوء؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة عن(61/111)
النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على التفصيل المذكور.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/112)
الفتوى رقم 9040
السؤال الثامن: المر الذي يخرج عند شرب أو أكل أي شيء وهو قليل لا يملأ الفم أو قد يصل أعلى الحلق ثم يرجع هل يقطع الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا يقطع الوضوء ولا ينقضه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/112)
فتوى رقم 12885(61/112)
س: ما حكم الذين ينامون في خطبة الجمعة ولا يوقظهم إلا الإقامة؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إن النوم الخفيف الذي لا يزول معه الشعور لا ينقض وضوء. فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر صلاة العشاء بعض الأحيان حتى كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/113)
الفتوى رقم 6320
السؤال السادس: ما حكم من مس ذكره أثناء التنشيف بعد اغتساله.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(61/113)
ينتقض وضوءه إذا مسه بدون حائل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من مس ذكره فليتوضأ (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب الطهارة، حديث (154) ، والترمذي، كتاب الطهارة، حديث (77) ، والنسائي كتاب الطهارة، حديث (163) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، حديث (472) ، وأحمد من مسند القبائل، حديث (26030) ، ومالك، كتاب الطهارة، حديث (81) ، والدارمي، حديث (718) .(61/114)
الفتوى رقم 6990
السؤال الثاني: اختلف العلماء في نقض وضوء من مس ذكره واحتج من قال بعدم النقض بحديث «ما هو إلا بضعة منك (1) » ، فما الراجح من القولين؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة قول الجمهور، وهو نقض وضوء من مس ذكره؛ لأن حديث: «ما هو إلا بضعة
__________
(1) رواه أبو داود برقم (182) والنسائي 1 \ 191، والترمذي 1 \ 274 (تحفة الأحوذي) وابن ماجه 1 \ 163.(61/114)
منك (1) » ضعيف، لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على أن من مس ذكره فعليه الوضوء. والأصل أن الأمر للوجوب وعلى تقدير عدم ضعفه فهو منسوخ بحديث «من مس ذكره فليتوضأ (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه أبو داود برقم (182) والنسائي 1 \ 191، والترمذي 1 \ 274 (تحفة الأحوذي) وابن ماجه 1 \ 163.
(2) رواه أبو داود، كتاب الطهارة، حديث (154) ، والترمذي، كتاب الطهارة، حديث (77) ، والنسائي كتاب الطهارة، حديث (163) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، حديث (472) ، وأحمد من مسند القبائل، حديث (26030) ، ومالك، كتاب الطهارة، حديث (81) ، والدارمي، حديث (718) .(61/115)
الفتوى رقم 10447
السؤال الخامس: هل لمس عورة صغيري أثناء تغيير ملابسه ينقض وضوئي؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لمس العورة بدون حائل ينقض الوضوء سواء كان الملمولس صغير أو كبيرا. لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(61/115)
«من مس فرجه فليتوضأ (1) » وفرج الممسوس مثل فرج الماس.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (82) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (444) ، سنن أبو داود الطهارة (181) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (479) ، مسند أحمد بن حنبل (6/406) ، موطأ مالك الطهارة (91) ، سنن الدارمي الطهارة (725) .(61/116)
من الفتوى رقم 13462
السؤال الرابع: هل مجرد لمس العورة أو حكها حتى ولو فوق الملابس ولو لم تتحرك شهوته هل ينقض الوضوء؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا مسست أحد فرجيك بدون حائل انتقض الوضوء ولو بغير شهوة. أما إن كان المس من وراء حائل فإنه لا ينتقض الوضوء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/116)
الفتوى رقم 1405
السؤال الأول: الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن أخذ وإعطاء شيء طوال يومه إلى زوجته فإذا لمس المتوضئ يد زوجته فهل ينتقض وضوءه؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إذا مس الرجل المرأة مباشرة ففيه خلاف بين أهل العلم، ينتقض وضوءه أم لا؟ والأرجح أنه لا ينقض الوضوء سواء كان مسه إياها بشهوة أو بدونها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ولم يتوضأ؛ ولأن هذا مما تعم به البلوى فلو كان ناقضا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله سبحانه في سورة النساء والمائدة: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) فالمراد به الجماع في أصح قول العلماء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(61/117)
الفتوى رقم 4497
السؤال الثاني: ورد في الآية (6) من سورة المائدة قول الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) فهل المراد بالملامسة المصافحة ونحوها. أو المخالطة الخاصة؟ علما بأن جمهورنا الأعظم من أتباع المذهب الشافعي.
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
المقصود بالملامسة في آية النساء المخالطة الخاصة، فقد فسره ابن عباس بالجماع، وروي عن علي وأبي بن كعب ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك. وقال ابن مسعود رضي الله عنه وجماعة: " إن المراد بذلك نفس المسيس لأي عضو من أعضائها " ورأوا ذلك ناقضا للوضوء. والقول الأول أصح؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ولأن الأصل سلامة الطهارة فلا تنقض إلا بناقض معلوم بالأدلة الشرعية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(61/118)
الفتوى رقم 4603
السؤال الثاني: هل ينتقض الوضوء بملامسة أو (مصافحة) المرأة الأجنبية (مع العلم بأنه حرام) فقد وجدنا في كتب الفقه من الأحاديث ما يدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء ولم يقيد ذلك. فهل هذا العموم مقيد بما يحل لمسه من النساء أم لا؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الصحيح من أقوال العلماء أن لمس المرأة أو مصافحتها لا ينقض الوضوء مطلقا سواء كانت أجنبية أم زوجة أم محرما؛ لأن الأصل استصحاب الوضوء حتى يثبت من الشرع ما يدل على نقضه ولم يثبت ذلك في حديث صحيح. وأما الملامسة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) الآية من سورة المائدة. فالمراد
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة المائدة الآية 6(61/119)
بها الجماع على الصحيح من أقوال العلماء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/120)
الفتوى رقم 9513
السؤال الأول: جاء في الحديث الصحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا. وكان يتوضأ ويقبل إحدى نسائه ويصلي (1) » . وكذلك في رمضان. والسؤال هنا كيف كان يصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبا وهو كان إماما يصلي بالمهاجرين والأنصار وغيرهم ممن أسلم؛ وهل في الحديث أنه كان يجامع بعد صلاة الفجر؟ أم كيف كان يصبح جنبا وهل القبلة لا تنقض الوضوء؟ لأننا نسمع من بعض الفقهاء أن القبلة من نواقض الوضوء، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل نساءه بعد الوضوء ويصلي ولا يعيد الوضوء؟ بينوا لنا حكم هذا السؤال بوضوح وأجركم على الله تعالى.
__________
(1) سنن النسائي الطهارة (183) .(61/120)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
أولا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع بعض زوجاته ليلا، ثم لا يغتسل ليلا أحيانا فيصبح جنبا ثم يغتسل لصلاة الصبح.
ثانيا: القبلة لا تنقض الوضوء على الصحيح من أقوال العلماء ولو وجد لذة إذا لم ينزل ولا تفسد الصوم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/121)
الفتوى رقم 10368
س: في بعض الأحيان وأثناء الوضوء تطرأ على الذهن أفكار عديدة بعيدة عن الصلاة وأداء الوضوء والغرض مثلا تفكير الرجل بالمرأة أثناء الوضوء فهل يكون الوضوء منتقضا أم لا؟ ما هو الحكم الشرعي؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
إن التفكير في أمور النكاح إذا لم ينزل منيا ولا مذيا لا يؤثر(61/121)
على وضوئه؛ لأن مجرد التفكير لا يكون ناقضا للوضوء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/122)
الفتوى رقم 6541
السؤال الخامس: هل يفسد الوضوء بمجرد النظر إلى النساء والرجال العراة، وهل يفسد الوضوء إذا نظر الرجل إلى عورته؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
لا يفسد الوضوء بمجرد نظر المتوضئ إلى النساء والرجال العراة ولا بمجرد نظره إلى عورة نفسه لعدم الدليل على ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/122)
السؤال الخامس من الفتوى رقم 8693
س: هل يجوز تشريح الجثث لطلاب الطب وهل يستوجب ذلك الوضوء أو الغسل؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد:
صدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في حكم التشريح رقم (47) وتاريخ 2 \ 8 \ 1396 هـ. هذا مضمونه: (الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه.. وبعد:
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ. جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم (3231 \ 2 \ خ) المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم (34 \ 1 \ 2 \ 13446 \ 3) وتاريخ 6 \ 8 \ 95 هـ المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية.
كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: -(61/123)
الأول: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي:
- بالنسب للقسمين الأول والثاني: فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
- وأما بالنسبة للقسم الثالث -وهو- التشريح للغرض التعليمي: فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها وحيث أن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث أن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا وذلك لما(61/124)
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » . ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته وحيث أن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر) .
ثانيا: لا يوجب التشريح وضوءا ولا غسلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) .(61/125)
الفتوى رقم 557
السؤال الثالث: هل يلزم الوضوء من أكل لحم الجزور وما سببه؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
من أكل لحم جزور لزمه الوضوء للصلاة فريضة كانت الصلاة أم نافلة؛ «لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الوضوء من لحوم الإبل قال: نعم. ولما سئل عن الوضوء من لحوم(61/125)
الغنم قال: إن شئت (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في حكمة ذلك: إن الإبل معروفة بالحقد الشديد، وإضمار الكيد لمن آذاها والحرص على الانتقام منه ولو طالت المدة، وذكر أن الإنسان يكسب طبعه مما يتغذى به فشرع الوضوء لمن أكل لحم جزور لإزالة ما قد ينشأ عنه من الحقد والضغينة. والواجب التسليم في الأحكام الشرعية كلها لله، وإن لم تعرف الحكمة والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) لفظ مسلم: '' أأتوضأ من لحوم الغنم؟ '' قال: '' إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ '' قال: '' أتوضأ من لحوم الإبل؟ '' قال. '' نعم '' فتوضأ من لحوم الإبل.: الحديث 1 \ 189.(61/126)
الفتوى رقم 1163
س: ما قولكم أثابكم الله عن لحم الجزور، هل هو من نواقض الوضوء أم لا، أفيدونا مأجورين مع التكرم بالإشارة إلى الدليل؟(61/126)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
أكل لحم الجزور من نواقض الوضوء سواء أكل نيئا أم مطبوخا، وبهذا قال جابر بن سمرة أحد أصحاب الرسول صلى عليه وسلم ومحمد بن إسحاق ويحيى بن يحيى والإمام أحمد وابن المنذر وطائفة من أهل العلم، لما روى أحمد وأبو داود من البراء بن عازب أنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه عن لحوم الإبل، فقال: توضأ منها، وسئل عن لحوم الغنم. فقال: لا يتوضأ منها (1) » . وما رواه الإمام أحمد من طريق أسيد بن حضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغنم (2) » . فأمر صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أكل لحم الجزور، والأصل في الأمر الوجوب حتى يوجد من الأدلة الشرعية ما يصرفه عن ذلك، والأصل في الوضوء إذا ورد في الأدلة الشرعية أن يحمل على الوضوء الشرعي المعهود في عرف الشرع وهو الذي أوجبه الله للصلاة، حتى يوجد من الأدلة الشرعية ما يصرفه عن ذلك، ولا نعلم دليلا شرعيا في هذه المسألة يصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب، ولا ما يصرف الوضوء عن معناه الشرعي إلى المعنى اللغوي وهو غسل اليدين والمضمضة فقط، فوجب البقاء على
__________
(1) أحمد 4 \ 288، وأبو داود 1 \ 27، وابن ماجه 1 \ 166.
(2) أحمد 4 \ 352، والترمذي 1 \ 268، وابن ماجه 1 \ 166.(61/127)
وجوب الوضوء الشرعي من أكل لحم الجزور.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/128)
الفتوى رقم 8143
السؤال الرابع: لم يتوضأ الإنسان من لحم الإبل؟ لماذا يستطيع الإنسان أن يصلي في مربض الغنم ولا يستطيع أن يصلي في مربض الإبل؟
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
مرد هذه الأمور إلى الشرع المطهر فيجب علينا العمل به ولو لم نفهم الحكمة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(61/128)
رسالة في القرآن وكلام الله
للإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة
المقدسي المعروف بالموفق ابن قدامة
(541 هـ - 620هـ)
درسها وحققها د: يوسف بن محمد السعيد (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن من أعظم الأمور التي وقع فيها الخلاف بين هذه الأمة: مسألة القرآن، فإن سلف هذه الأمة وأئمتها كانوا على صراط مستقيم في هذه المسألة، ولم يكن عندهم أي إشكال فيها فكانوا يعتقدون أن هذا القرآن كلام الله تعالى وأنه منزل منه جل وعلا حتى نبغت نابغة الجهمية، فأتوا بقول خالفوا فيه من سبقهم، وشاقوا بذلك المسلمين، وخالفوا إجماعهم وما كانوا عليه متفقين، وكان لهؤلاء الجهمية الدولة في وقت من الأوقات، فامتحنوا بذلك علماء هذه الأمة، وجعلوا القول بخلق القرآن دليل - الإيمان من عدمه، وقتلوا من قتلوا من العلماء، وسجنوا من سجنوا، وجلدوا من جلدوا، وأجلبوا على ذلك بخيلهم ورجلهم.
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بالرياض(61/129)
ووقف علماء هذه الأمة الربانيون من أولئك الجهمية موقفا يحمدون عليه، حيث إنهم نصروا السنة، وفضحوا أهل البدع، وكشفوا عوارهم، وبان خزيهم، وافتضح أمرهم.
وقد كفر العلماء من قال بمقالة الجهمية في خلق القرآن، وأجمعوا على ذلك، وصنفوا الكتب والمصنفات في ذلك.
ولما خمدت نار الجهمية، وانطفأت فتنة القول بخلق القرآن، وكان في هذه الأمة من لم يفهم كلام السلف، ولم يرفع بالسنة رأسا، وكان يريد مجادلة الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الطوائف على القول بخلق القرآن، فإنه قد وقع في أخطاء جسيمة لا تقل شناعة عن قول الجهمية والمعتزلة، بل جهم العلماء من قال بها، حيث ظهرت " اللفظية " الذين يقولون: بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وقد شدد العلماء في ذلك.
وقال الإمام أحمد (ت 241) رحمه الله تعالى: " افترقت الجهمية على ثلاث فرق: الذين يقولون: مخلوق، والذين شكوا، والذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة " (1) .
وقال أبو زرعة (ت 264) وأبو حاتم (ت 277) الرازيان: " من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي " (2) .
__________
(1) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، ومجانبة الفرق المذمومة ـ الرد على الجهمية ـ (1 \ 297) رقم (72)
(2) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1 \ 179) .(61/130)
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280) : " إن الحق والصواب الواضح المستقيم الذي أدركنا عليه أهل العلم: أن من زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا مخلوقة، فهو جهمي مبتدع خبيث " (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728) رحمه الله تعالى: " وأما البدعة الثانية المتعلقة بالقرآن المنزل: تلاوة العباد له، وهي مسألة اللفظية فقد أنكر بدعة اللفظية- الذين يقولون: إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق- أئمة زمانهم، جعلوهم من الجهمية، وبينوا أن قولهم يقتضي القول بخلق القرآن، وفي كثير من كلامهم تكفيرهم، وكذلك من يقول: إن هذا القرآن ليس هو كلام الله، وإنما هو حكاية عنه، أو عبارة عنه، أو أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أن الله ورسوله في المصاحف والصدور ونحو ذلك، وهذا محفوظ عن الإمام أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي مصعب الزهري، وأبي ثور، وأبي الوليد الجارودي، ومحمد بن بشار، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله من أئمة الإسلام وهداته ".
__________
(1) رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (2 \ 353)(61/131)
وحقيقة قول القائلين بأن القرآن عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه هو قول اللفظية.
قال الإمام ابن بطة (ت 387) رحمه الله تعالى: " واعلموا رحمكم الله أن صنفا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم وخبث آرائهم وقبيح أهوائهم أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها وتمويها وبهرجة على العامة؛ ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله، هو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة، فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه " (1) وقد كان لأبي محمد موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى قدم صدق في رد هذه البدعة، وبيان فسادها، وصنف في ذلك مصنفات، منها:
1 - البرهان في بيان القرآن.
2 - الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم.
__________
(1) الإبانة ـ الرد على الجهمية (1 \ 317- 318)(61/132)
3 - حكاية المناظرة في القرآن الكريم.
4 - هذه الرسالة التي بين أيدينا.
وفي هذه الكتب كلها يقرر بطلان قول الأشعرية.
وقد أحببت نشر هذه الرسالة؛ لأمور:
أولا: أهمية موضوعها، وعظم فائدتها.
ثانيا: جلالة مؤلفها، وكونه من الأئمة الكبار.
ثالثا: لتكمل ما سبق نشره من تلك الكتب المتعلقة بالموضوع نفسه. وقد سلكت- بعد هذه المقدمة- الخطة التالية في العمل في هذه الفتيا:
أولا: ترجمت للمؤلف.
ثانيا: قمت بالتعريف بهذه الرسالة من حيث وصف النسخة الخطية، وإثبات نسبتها للموفق.
ثالثا: قراءة المخطوط، وتصويب ما فيه من أخطاء، وكتابته وفق الرسم الإملائي الحديث.
رابعا: عزوت الآيات إلى مواطنها من السور، وخرجت الأحاديث والآثار، وترجمت لبعض الأعلام، وعلقت على ما يحتاج إلى تعليق.
والله تعالى أسأل الهداية والسداد، وأن يستر العورات، وأن يغفر الزلات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(61/133)
ترجمة المؤلف:(61/134)
أولا: اسمه وكنيته ولقبه ونسبه:
هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر الجماعيلي الصالحي الدمشقي الحنبلي، أبو محمد، موفق الدين.
ثانيا: مولده:
ولد أبو محمد رحمه الله تعالى في شهر شعبان من سنة 541هـ، بقرية من قرى فلسطين اسمها " جماعيل " ثم انتقل إلى دمشق سنة 551 هـ، وعمره إذ ذاك عشر سنوات.
ثالثا: طلبه للعلم ورحلاته فيه:
بدأ أبو محمد رحمه الله تعالى طلب العلم قديما، فحفظ القرآن الكريم وهو صغير، ثم حفظ بعض المتون، ومن أهمها: مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة.
والمتتبع لحال أهل ذلك الوقت يجد أنهم كانوا يحرصون على الرحلات العلمية، غير أن أبا محمد كان حظه منها قليلا مقارنة بغيره من طلبة العلم في ذلك العصر، ولعل العلة في ذلك أن العلماء في ذلك الوقت كان أكثرهم ما بين مقيم بأرض العراق ومقيم بأرض الشام، حيث إن أبا محمد رحل- أولا- من أرض فلسطين إلى دمشق مع أهله، وهذه الرحلة ليست رحلة علمية قام بها بنفسه إنما كانت تبعا لأهله، ثم رحل سنة 561 هـ إلى بغداد،(61/135)
وأخذ عن كبار علمائها، ومن أجلهم: عبد القادر الجيلي الحنبلي، ثم عاد إلى دمشق، وفي طريقه إليها أخذ عن بعض علماء الموصل. وفي سنة 567 هـ رحل مرة أخرى إلى بغداد، ثم عاد بعد إلى دمشق الشام.
رابعا: عقيدته:
عقيدته في توحيد الأسماء والصفات على سبيل الإجمال: خصصت الكلام هنا عن عقيدته بتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنها متعلق هذه الرسالة، وقد كتب في عقيدته الباحث علي بن محمد الشهراني بحثا بعنوان: " منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف وموقفه من المخالفين لها ".
فالإمام الموفق رحمه الله تعالى على عقيدة السلف أهل الحديث في باب أسماء الله تعالى وصفاته، وطريقته هي طريقتهم، وكتبه في الاعتقاد شاهدة على ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وأما أبو عبد الله بن بطة، فطريقته طريقة المحدثين المحضة، كأبي بكر الآجري في الشريعة، واللالكائي في السنة، والخلال مثله قريب منه، وإلى طريقته يميل الشيخ أبو محمد ومتأخروا المحدثين (1) ، غير أن بعض المتأخرين رماه بشيء من التفويض، بل إن بعض العلماء حكم عليه بذلك؛ قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى (ت 1415هـ) : " وقد غلط ابن قدامة في لمعة
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6 \ 52، 53) .(61/136)
الاعتقاد، وقال بالتفويض، ولكن الحنابلة يتعصبون للحنابلة؛ لذلك يتعصب بعض المشايخ في الدفاع عن ابن قدامة، ولكن الصحيح أن ابن قدامة مفوض (1) ، وذلك لما في بعض عبارته من الإجمال الذي قد يفهم منه ذلك، كقوله في لمعة الاعتقاد: -". . . وما أشكل من ذلك - يعني مما جاء في القرآن والسنة من الصفات - وجب إثباته لفظا، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله (2) .
وإن الناظر في كتبه والفاحص لها، يجزم أن الموفق رحمه الله تعالى لم يرد بذلك تفويض المعنى الذي يقول به أهل التفويض، وإنما كلامه لا يخرج عن أحد أمرين:
أحدهما: نفي الكلام بالكيفيات.
ثانيهما: نفي المعاني الباطلة التي صرف المتكلمون نصوص الصفات إليها.
والأمران كلاهما صحيحان، حيث إن العلم بالكيفية لا سبيل إليه، وقد اتفق السلف على ذلك، ومقولتهم في هذا مشهورة حيث روى جماعة من السلف قولهم: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة "، وعلى الاستفهام قس باقي الصفات، فهذا منهجهم
__________
(1) فتاوى ورسائل سماحة عبد الرزاق عفيفي (ص 348) .
(2) لمعة الاعتقاد (ص4)(61/137)
فيها كلها.
وممن أورد هذا القول: ابن قدامة، ولو كان يريد نفي المعاني، لكان استدلاله به حجة عليه.
وأما نفي المعنى ويقصد به نفي المعاني الباطلة، فهذا- أيضا- مأثور عن السلف، فقد قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189) - رحمه الله تعالى: " اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب، على الإيمان بالقرآن والأحاديث، التي(61/138)
جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا وصف، ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئا منها، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا، ولم يفسروا، ولكنهم أفتوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم، فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء " (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد إيراده لهذا: " وقوله: من غير تفسير، أراد به تفسير الجهمية المعطلة، ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة التابعون من الإثبات " (2) .
ومثل هذا قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأحاديث في الصفات: " هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئا منها ".
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى: قوله: لا معنى، أي: لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها، كما
__________
(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2 \ 432) .
(2) الفتوى الحموية الكبرى ص (332، 333) .(61/139)
فعله أهل التأويل، وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها الذي فسرها به السلف، فإن هذا ثابت (1) .
وقال أبو محمد البربهاري (ت 329) رحمه الله تعالى: " وكل ما سمعت من الآثار شيئا مما لم يبلغه عقلك- وذكر أحاديث في الصفات- فعليك بالتسليم والتفويض والرضا، ولا تفسر شيئا من هذه بهواك، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئا من هذا بهواه ورده فهو جهمي " (2) .
فهذه الآثار تدل على أن العلماء حينما ينهون عن تأويل الصفات وتفسيرها، فإنهم إنما أرادوا بذلك التفسير المحدث.
فتبين بهذا أن ابن قدامة رحمه الله تعالى ليس مفوضا، حيث إنه برد متشابه كلامه إلى محكمه يتبين مراده، وكذا برد كلامه إلى كلام السلف، يتبين أنه لم يأت ببدع من القول، والله تعالى أعلم.
خامسا: شيوخه:
تتلمذ أبو محمد رحمه الله تعالى على عدد من العلماء الأجلاء، ونال منهم حظا وافرا من العلم، ومن هؤلاء العلماء: - أحمد بن صالح الجيلي البغدادي، المتوفى سنة 565 هـ.
__________
(1) شرح لمعة الاعتقاد (ص 21) ، انظر: الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد للشيخ عبد الله الجبرين (ص84، 85) .
(2) شرح السنة للبربهاري ص (31، 32) .(61/140)
- أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي والده، المتوفى سنة 558هـ (1) .
- شهدة بنت أحمد بن الفرج الدينوري، الملقبة بفخر النساء، المتوفاة سنة 574 هـ.
- طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي المتوفى سنة 566 هـ (2) .
- عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن الجوزي، أبو الفرج، المتوفى سنة 597 هـ.
- عبد القادر الجيلي، أبو محمد، المتوفى سنة 561 هـ.
- عبد الله بن أحمد الخشاب، أبو محمد النحوي، المتوفى سنة 567هـ.
__________
(1) انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 61) ، شذرات الذهب (4 \ 182) .
(2) انظر في ترجمته: العبر (4 \ 192، 193) .(61/141)
- عبد الله بن أحمد الطوسي، أبو الفضل، المتوفى سنة 578 هـ (1) .
- محمد بن عبد الباقي البغدادي، أبو الفتح، المعروف بابن بطي، المتوفى سنة 564 هـ.
سادسا: تلامذته:
تتلمذ على يد أبي محمد رحمه الله تعالى طلبة كثيرون جدا ومن هؤلاء:
- إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي الحنبلي، تقي الدين أبو إسحاق المتوفى سنة 692 هـ (2) .
- أحمد بن محمد بن عبد الغني المقدسي، أبو العباس، تقي الدين، المتوفى سنة 643 هـ.
- عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد المقدسي، أبو محمد، بهاء الدين المتوفى سنة 624 هـ.
__________
(1) انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (21 \ 87- 89) ، طبقات الشافعية الكبرى (7 \ 119، 120) .
(2) انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 329- 331) .(61/142)
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، أبو القاسم، المعروف بأبي شامة، المتوفى سنة 665هـ.
- عبد الرحمن بن محمد بن أحمد المقدسي، أبو محمد، المتوفى سنة 682هـ.
- عبد العظيم المنذري، أبو محمد، المتوفى سنة 656 هـ.
- عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الموصلي، أبو عمرو، المعروف بابن الصلاح المتوفى سنة 643هـ.
- محمد بن سعيد بن يحيى الواسطي الشافعي، أبو عبد الله، المعروف بابن الدبيثي، المتوفى سنة 637هـ.
- محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، أبو عبد الله،(61/143)
ضياء الدين، المتوفى سنة 643 هـ (1) .
- محمد بن محمود بن حسن البغدادي، أبو عبد الله، المعروف بابن النجار، المتوفى سنة 643 هـ.
سابعا: مصنفاته:
ألف ابن قدامة رحمه الله تعالى مصنفات كثيرة، منها ما يتعلق بالتوحيد ومسائله، ومنها ما يتعلق بالفقه، ومنها ما يتعلق بأصول الفقه، ومنها ما يتعلق بالزهاد والرقائق، وغير ذلك، وإليك بعض هذه الكتب مرتبة ترتيبا هجائيا:
أولا: الكتب المطبوعة:
- الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار.
- البرهان في بيان القرآن.
- التبيين في أنساب القرشيين.
- تحريم النظر في كتب الكلام.
- حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة.
- ذم التأويل.
__________
(1) انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (23 \ 126- 130) ، ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 236- 240) .(61/144)
- ذم الوسواس.
- ذم ما عليه مدعو التصوف.
- الرد على ابن عقيل، وهو كتاب تحريم النظر في علم الكلام.
- الرقة والبكاء في أخبار الصالحين.
- روضة الناظر وجنة المناظر.
- الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم.
- عقيدة الموفق.
- العمدة في الفقه.
- فتيا في ذم الشبابة والرقص، وهو كتاب ذم ما عليه مدعو التصوف.
- قنعة الأريب في تفسير الغريب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
- الكافي في الفقه.
- كتاب التوابين.
- كتاب المتحابين في الله.
- لمعة الاعتقاد.
- مسألة العلو.
- المغني شرح مختصر الخرقي في الفقه.(61/145)
- المقنع في الفقه.
- وصية ابن قدامة.
ثانيا: الكتب غير المطبوعة:
- جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن (1) .
رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار.
- رسالة في التصوف (2) ، ولعلها هي ذم ما عليه مدعو التصوف.
- رسالة في المذاهب الأربعة (3) .
- الشافي (4) .
- صفة الفلق (5) .
- فضائل العشر.
__________
(1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 139) ، شذرات الذهب (5 \ 90) .
(2) تاريخ الأدب العربي (1 \ 398) .
(3) تاريخ الأدب العربي- الملحق (1 \ 689) .
(4) انظر: البداية والنهاية (13 \ 100) .
(5) انظر: معجم البلدان (2 \ 160) .(61/146)
- فضائل عاشوراء.
- القدر.
- مختصر العلل للخلال.
- مختصر الهداية في أصول الفقه للكلوذاني.
- مشيخة ابن قدامة.
- مقدمة في الفرائض (1)
__________
(1) انظر: هدية العارفين (1 \ 460) .(61/147)
- مناسك الحج (1) .
- مناظرة بين الحنابلة والشافعية (2) .
- منهاج القاصدين في فضائل الخلفاء الراشدين (3) .
- الميزان في أصول الفقه (4) .
وقد أثنى العلماء على الموفق خيرا (5) ، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق " (6) .
ثامنا: وفاته:
توفي شيخ الإسلام موفق الدين، رحمه الله تعالى يوم السبت- وكان يوم عيد الفطر- سنة 620 هـ.
__________
(1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 139) ، شذرات الذهب (5 \ 91) .
(2) انظر: تاريخ الأدب العربي- الملحق- (1 \ 689) .
(3) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 139) ، شذرات الذهب (5 \ 90) ، هدية العارفين (1 \ 460) .
(4) انظر: تاريخ الأدب العربي (1 \ 398 من الأصل) و (1 \ 689 من الملحق) .
(5) انظر: كتب التراجم التي ترجمت له، فإنها ذكرت شيئا كثيرا من ذلك.
(6) ذيل طبقات الحنابلة (2 \ 136) .(61/148)
التعريف بالرسالة:
هذه الرسالة لم تطبع- حسب علمي- من قبل، وهي موجودة في قسم المخطوطات بالمكتبة المركزية بجامعة الإمام(61/148)
محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم (10635 \ ف 12 توحيد) بعنوان: (رسالة في القرآن وكلام الله) .
وتقع ضمن مجموع من ص 101 إلى ص 105، وفي كل لوحة 20 سطرا، متوسط عدد الكلمات في كل سطر تسع كلمات. وهي مكتوبة يوم الاثنين 17 رجب 1227 هـ بقلم عبد صالح بن حسن بن صالح المقدسي الحنبلي السلفي.
وقد كتبت بخط معتاد.
إثبات نسبة هذه الرسالة للموفق:
يدل على نسبة هذه الرسالة للموفق أمور:
أولا: ما جاء في مقدمتها، حيث قال بعد ذكر السؤال ما نصه: " أجاب الشيخ الإمام العالم موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين. . . ".
فهذا نص على أنه هو الذي أفتى بذلك.
ثانيا: أن هذه الرسالة طرقت الموضوعات التي بحثها الموفق في كتبه الأخرى، كالبرهان في بيان القرآن، وكتاب (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم) ، وكتاب (حكاية المناظرة) .
ثالثا: أسلوب المؤلف في هذه الرسالة هو أسلوبه في كتبه السابقة، وذلك من حيث العرض والمناقشة والاستدلال.(61/149)
نماذج من صور المخطوطة
الصفحة الأولى(61/150)
الصفحة الأخيرة(61/151)
النص محققا
ما يقول الفقهاء أئمة الدين وسادات المسلمين، وفقهم (1) الله بتوفيق العارفين فيمن يعتقد أن كلام الله تعالى معنى قائم بالذات، وأن هذه السور والآيات والحروف والكلمات التي هي في مصاحف المسلمين وصدور الحافظين ليست كلام رب العالمين، أهم أهل السنة والجماعة الذين وافقوا أئمة دينهم، وتمسكوا بسنة نبيهم، وقفوا طريق صالح سالفهم أم الذين قالوا: إن القرآن الكريم والكلام القديم الذي هو كلام الله العظيم هو هذه السور والآيات والحروف والكلمات التي في مصاحف المسلمين وصدور العالمين، وأي الفريقين أتبع للحق من ربه وتمسك بسنة نبيه وقفا طريق صالح سلفه أفتونا مأجورين مثابين؟
أجاب الشيخ الإمام العالم العلامة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
إن القرآن العظيم الذي هو كلام الله القديم، المنزل على
__________
(1) في المخطوط: (وفهم) ولعل الصواب ما أثبته.(61/152)
صفحة فارغة(61/153)
قلب سيد المرسلين، هو هذا الكتاب العزيز المبين، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، وهو سور محكمات وآيات بينات، وكلمات تامات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، أوله سورة الفاتحة وآخره الناس، سماه الله تعالى قرآنا، وفرقانا، وكتابا، وذكرا، وروحا، ونورا، وضياء، وهدى، ووصفه بكونه عربيا وهاديا ورحمة وشفاء، ينذر ويبشر، ويهدي ويقص، ويقرأ ويتلى ويسمع، ويحفظ، ويكتب، نزله الله تنزيلا، ورتله، وسماه قولا ثقيلا، وفضله على سائر الكتب تفضيلا، وأحكمت آياته ثم فصلت تفصيلا، أمر الله بترتيله، وآمنت بتنزيله، وشهد الله والملائكة بإنزاله إلى رسوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1) ندب الله إلى الاستعاذة عند قراءته، وأمر بالاستماع والإنصات عند تلاوته، فمن اعتقد أنه هو القرآن فقد
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7(61/154)
أصاب، وهدي إلى الصراط المستقيم، واعتقد معتقد المسلمين.
ومن زعم أن هذا الكتاب غير القرآن، وأنه كلام المخلوقين، وأن القرآن معنى في النفس لا ينزل ولا يقرأ، ولا يسمع ولا يتلى، ولا ينفع، ولا له أول ولا آخر، ولا جزء ولا بعض، ولا هو سور، ولا آيات وحروف، ولا كلمات، فهذا زنديق راد على رب العالمين، وعلى رسوله الصادق الأمين، مخالف لجميع المسلمين، ناكب عن الطريق المستقيم.
أما رده على الله سبحانه فإن الله تعالى قال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) ، وقال: وقرآنا فرقناه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (2) ، وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (3) . والذي يرتل وينزل ويقرأ، إنما هو هذا الكتاب وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) ، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ} (5) ، وهذا إشارة إلى حاضر، والذي يقص ويهدي إنما هو هذا الكتاب العربي.
وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} (6) وقال:
__________
(1) سورة المزمل الآية 4
(2) سورة الإسراء الآية 106
(3) سورة النساء الآية 166
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة النمل الآية 76
(6) سورة الإسراء الآية 41(61/155)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (1) والذي صرفت فيه الأمثال وضربت إنما هو هذا الحاضر.
وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (2) ، ولا يتحداهم بالإتيان بما لا يعرفونه ولا يدرون ما هو، وسماه الله عربيا، وأخبر أنه هو الكتاب، فقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) ، وقال: {حم} (5) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (6) {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (7) ، فمن أنكر كون القرآن هو الكتاب العربي، فهو من الذين لا يعقلون.
ومن أوضح الدلائل على ذلك: أن الكفار قالوا: هذا شعر، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (8) وما ليس بحروف لا يجوز أن يكون شعرا عند أحد، فلما سموه شعرا علم يقينا أنهم إنما أرادوا بذلك هذا النظم العربي، فلما نفى الله عنه كونه شعرا، وأثبته قرآنا، لم تبق شبهة لذي عقل أن القرآن هو هذه السور والآيات. كذلك قالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} (9)
__________
(1) سورة الروم الآية 58
(2) سورة الإسراء الآية 88
(3) سورة يوسف الآية 1
(4) سورة يوسف الآية 2
(5) سورة الزخرف الآية 1
(6) سورة الزخرف الآية 2
(7) سورة الزخرف الآية 3
(8) سورة يس الآية 69
(9) سورة الفرقان الآية 5(61/156)
{بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (1) .
فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) . وقالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (3) . وقال بعضهم {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (4) . فقال سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (5) .
وما كانوا يشيرون بهذا القول إلا إلى هذا الكتاب العزيز، وأيضا فإنهم طلبوا الإتيان ببدله، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (6) . أفتراهم طلبوا تبديل ما في نفس الباري مما لا يعلمونه ولا يدرون ما هو؟! ثم كيف علموا أن في نفس الله تعالى قرآنا؟! وبأي طريق وصل إليهم؟! هذا وما كان قائل هذه المقالة خلق بعد.
والآيات الدالة على أن القرآن هو هذا الكتاب العربي كثيرة، ومن لم ينتفع بما قد ذكرنا منها لم ينتفع بزيادة عليها، لكنا نتحداهم بما تحدى الله تعالى به نظراءهم من الملحدين، فنقول: إن زعمتم أن هذا من كلام المخلوقين فأتوا بسورة مثله إن كنتم
__________
(1) سورة الفرقان الآية 5
(2) سورة الفرقان الآية 6
(3) سورة الأنفال الآية 31
(4) سورة المدثر الآية 25
(5) سورة المدثر الآية 26
(6) سورة يونس الآية 15(61/157)
صادقين، وإن زعمتم أنه مفترى من دون الله فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين.
وأما بيان مخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقد قرآنا سوى هذا القرآن، ولو اعتقد أن هذا ليس بقرآن، وأن القرآن سواه لبينه لأمته، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته، ثم كيف يكتم مثل هذا الأمر العظيم وقد أمره الله تعالى بتبليغ رسالته، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته شفيقا عليهم رؤوفا بالمؤمنين رحيما عزيزا عليه ما عنتهم، فكيف يكتم عنهم ما فيه رشدهم، ويتركهم على ضلالتهم، ويستر عنهم الحق والصواب لا يرشدهم إليه، ولا يدلهم عليه، ولا يذكر لهم قولا في ذلك قليلا ولا كثيرا؟! .
هذا ما لا يعتقده مسلم، ثم وإن ساغ له كتمان ذلك، فكيف ساغ له أن يظهر أن القرآن هذا بتلاوته الآيات الدالة على ذلك، وبقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) ، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (3) ، وغير هذا من الآيات؟! وقوله: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة الفرقان الآية 30(61/158)
حسنات (1) » ، وقوله: «اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقرؤونه
__________
(1) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في حكاية المناظرة (ص 37) ، وفي البرهان (ص42) وصححه فيهما، وقال في لمعة الاعتقاد (18) : '' ولم أقف عليه بهذه السياقة في شيء من كتب السنة'' غير أن معناه أخرجه ابن عدي في الكامل (7 \ 41) قال: '' حدثنا حمزة الكاتب، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا نوح بن أبي مريم، عن زيد العمي عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' من قرأ القرآن فأعربه، كان له بكل حرف أربعون حسنة ومن أعرب بعضا ولحن في بعض كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن لم يعرب منه شيئا فإن له بكل حرف عشر حسنات ''. ومن طريق نعيم أخرجه: أبو الفضل الرازي في فضائل القرآن (ص 143) رقم 111 والبيهقي في شعب الإيمان (5 \ 241) رقم (2097) والخطيب البغدادي في المتفق والمفترق (3 \ 1865) رقم 1454، والشجري في أماليه (1 \ 119) ، وأخرجه ابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (ص 219) رقم (202) من طريق عبد الله بن هارون الغساني عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم به، دون آخره. والحديث بهذا الإسناد ضعيف جدا؛ للضعف الشديد في نوح بن أبي مريم فقد رماه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما بالكذب. أنظر: تهذيب الكمال (.3 \ 56) ، تهذيب التهذيب (10 \ 486) ؛ ولضعف زيد العمي فقد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم. انظر: الجرح والتعديل (1 \ 560) ، ميزان الاعتدال (2 \ 102) . ورواه ابن منده في الرد على من يقول: ألم حرف (ص 66- 68) رقم 25، 26 موقوفا على ابن مسعود.(61/159)
ويقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم (1) » ، وغير هذا من الأخبار مما يطول مما يدل على أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو السور والآيات والحروف والكلمات، أفتراه صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن القرآن هو هذا وهو يعلم أنه غير هذا؛ ليصدهم عن الصواب، ويعميهم عن الهدى، ويضلهم عن سبيل الله؟! كلا، بل قائل هذه المقالة وسالك هذه الضلالة أعمى القلب، ضال عن القصد، وليس لمن ادعى هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام نصيب؛ فإن الله سبحانه شهد لرسوله، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) ، وقال: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} (3) وقال: {يس} (4)
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5 \ 338) ، وأبو داود في سننه (1 \ 220) رقم (831) ، وابن حبان في صحيحه كما في ترتيب ابن بلبان رقم (3 \ 36) (760) و (15 \ 120) رقم (6725) ، والطبراني في الكبير (6 \ 207) رقم (6024) كلهم من طريق بكر بن سوادة عن وفاء بن شريح الصدفي عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب من مسنده (ص171) رقم (466) ، وابن المبارك في الزهد (813) ، والطبراني في الكبير (6 \ 206) رقم (6021) ، (6 \ 206) رقم (6022) من طريق موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن سهل بن سعد الساعدي، وموسى بن عبيدة ضعيف جدا. انظر: تهذيب الكمال (29 \ 104- 114) ، تهذيب التهذيب (10 \ 356- 360)
(2) سورة الشورى الآية 52
(3) سورة الحج الآية 67
(4) سورة يس الآية 1(61/160)
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (1) {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (2) {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ومقتضى قول هذه الطائفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضل أمته بإخباره إياهم أن القرآن هذا الكتاب العربي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأما مخالفتهم للمسلمين فإن المسلمين أجمعوا على أن القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على أنه معجزته الدالة على صدقه ونبوته، وأجمعوا على أن في القرآن ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وقصصا وأمثالا، وهذه إنما هو هذا الكتاب.
ولما اختلف أهل السنة والمعتزلة في القرآن: هل هو
__________
(1) سورة يس الآية 2
(2) سورة يس الآية 3
(3) سورة يس الآية 4(61/161)
قديم أو مخلوق؟ إنما اختلفوا في هذه السور والآيات لا غير.
وقد صرحوا بذكر سور القرآن وآياته وحروفه، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: " إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ".(61/162)
وقال علي رضي الله عنه: " من كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به كله ".
وسمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن فقال: " أتراه مكفرا؟ إن عليه بكل آية كفارة ".
وقال: " من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن الألف حرف، واللام(61/163)
حرف، والميم حرف " (1) ، وروي نحو ذلك عن ابن عمر.
وروي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: " كنا نتعلم من ابن مسعود التشهد كما نتعلم حروف القرآن " (2) .
وقال الحسن: " قرأ القرآن قوم فحفظوا حروفه، وضيعوا
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) لم أجده.(61/164)
حدوده ".
وذكر الأئمة من السلف عدد آيات القرآن وحروفه وكلماته، ولم يزل ذلك مستفيضا مشهورا بينهم، واتفقوا على أن من جحد آية من القرآن أو كلمة أو حرفا متفقا عليه فهو كافر، وفي هذا الإجماع تسويد وجه كل مخالف (1) ، وما علمنا مخالفا في العصر حتى إن كفرة العرب سموه قرآنا، فقالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (2) وقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} (3) ، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (4)
__________
(1) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص 110) وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم (ص 174)
(2) سورة يونس الآية 15
(3) سورة سبأ الآية 31
(4) سورة الزخرف الآية 31(61/165)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (1) {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ} (2) {عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (3) ، والجن لما استمعوا القرآن، أنصتوا له، وآمنوا به، وسموه كتابا وقرآنا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (4) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (5) ، {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (6) .
ومن العجب أن المخالف في هذه المسألة اجترأ على مخالفة رب العالمين ورسوله الصادق الأمين والجنة والناس أجمعين بغير حجة ولا شبهة، ولا استنباط آية، ولا خبر، ولا قول صحابي ولا إمام مرضي، مع زعمه أنه مسلم يعتقد أن كلام الله حجة وكذلك سنة رسوله وإجماع أمته، ثم ترك ذلك كله، كأنه لم يسمع منه شيئا، ولم يفقهه ولم يمر به، وقد قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (7) {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (8) ، والكفار الذين لا يؤمنون بالقرآن أقرب إلى العذر في جحدهم للقرآن من هؤلاء الذين يزعمون أنهم يؤمنون به ثم يتركونه بغير
__________
(1) سورة فصلت الآية 26
(2) سورة الفرقان الآية 32
(3) سورة الفرقان الآية 32
(4) سورة الجن الآية 1
(5) سورة الجن الآية 2
(6) سورة الأحقاف الآية 30
(7) سورة الأنفال الآية 22
(8) سورة الأنفال الآية 23(61/166)