وسلم، فقال: " هو كما قال» .(56/298)
(43) الاختلاف في الدعوى:
إذا دخل دار رجل ثم سقط في بئر في الدار وهلك، فيقال مالك الدار: دخل بدون إذن - أي فهو معتد بدخوله فدمه هدر - وقال ولي الهالك: إنك أذنت له. فالقول قول المالك؛ لأنه منكر، ذكر ذلك الحنابلة (1) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني 12 \ 94 الفتوحي الحنبلي، معونة أولي النهى 8 \ 227.(56/298)
(44) اختلفا في كشف البئر:
وإن قال المالك: كانت مكشوفة، وقال ولي الهالك: كانت مغطاة، فالقول قول ولي الهالك؛ لأن الظاهر معه، فإن الظاهر أنها لو كانت مكشوفة لم يسقط فيها. ويحتمل أن القول قول المالك؛ لأن الأصل براءة ذمته، فلا تشتغل بالشك، ولأن الأصل عدم تغطيتها. نص على ذلك الحنابلة أيضا (1) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني 12 \ 94 الفتوحي الحنبلي، معونة أولي النهى 8 \ 227.(56/298)
(45) اختلفا في إعلام الداخل:
وإن قال ولي الهالك: لم تعلمه بوجود البئر، وقال المالك: أعلمته، فالذي يظهر تصديق ولي الهالك؛ لأن الأصل(56/298)
عدم الإعلام. نص على ذلك الشافعية (1) .
__________
(1) حاشية شرواني على تحفة المحتاج 9 \ 9.(56/299)
(46) اختلفا في تعمد السقوط: لو اختلف الحافر- وكان متعديا بحفره- وورثة الميت، فقال الحافر: هو ألقى نفسه فيها متعمدا، وقال الورثة: بل وقع فيها، اختلف قول أبي يوسف ومحمد في المسألة، واختلف قول أبي يوسف مع نفسه وكما يلي. قال أبو يوسف في القول الأول: القول قول الورثة.
وتعليله أن الظاهر شاهد للورثة، لأن العاقل لا يلقي نفسه في البئر عمدا.
وقال أبو يوسف في قوله الآخر، وبه قال محمد: القول قول الحافر (1) .
وتعليله على ذلك، هو أن حاصل الاختلاف يرجع إلى وجوب الضمان فالورثة يدعون على الحافر الضمان وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه. ثم إن هذا الظاهر الراجع إلى الضمان معارض بالظاهر الذي يقول: إن المار على الطريق الذي يمشي فيه يرى البئر، فتعارض الظاهران، فبقي الضمان على أصل العدم.
والراجح أن لا ضمان على الحافر؛ لقوة دليل قول أبي
__________
(1) الكاساني، البدائع 7 \ 276 الفتاوى الهندية 6 \ 45، الزيلعي، تبيين الحقائق 6 \ 144.(56/299)
يوسف الآخر ومحمد، وهذا حسب ما أمامنا من الدليل، ولكن لو تعمقنا أكثر لوجدنا أن الضمان على الحافر؛ لأن الحافر متعد بحفره، فهو ضامن لكل تلف يكون الحفر سببا فيه، وهذا شيء ثابت معلوم بيقين، لكن لم نتيقن أن الواقع في البئر هو ألقى نفسه فيها متعمدا، وعلى قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) (1) يكون الضمان على الحافر، والله أعلم.
__________
(1) علي حيدر، شرح مجلة الأحكام 1 \ 20.(56/300)
(47) الإجارة على الحفر وغيرها من المنافع:
إذا استأجر رجل أجيرا ليحفر له بئرا في ملكه فتلف الأجير بذلك، لم يضمنه المستأجر. قال بهذا الحنابلة، وبه قال عطاء، والزهري وقتادة وأصحاب الرأي ويشبه مذهب الشافعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البئر جبار (1) » ، ولأنه لم يتلفه، وإنما فعل الأجير باختيار نفسه فعلا أفضى فيه إلى تلفه فأشبه ما لو فعله تبرعا من عند نفسه (2) . ذكر ذلك الحنفية والحنابلة.
(قلت) هو الصحيح.
(48) فإن كانت المسألة بحالها، وكان المستأجر للحفر
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري ومسلم. البخاري (24) ، كتاب الزكاة (66) ، باب في الركاز الخمس 2 \ 137، ومسلم (29) ، كتاب الحدود (11) ، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار (45) رقم الحديث (1710) 3 \ 1334- 1335.
(2) ابن عابدين، رد المحتار 5 \ 383، ابن قدامة، المغني 12 \ 93. الفتوحي، المعونة 8 \ 228.(56/300)
عبدا بغير إذن سيده أو صبيا بغير إذن وليه فالضمان على المستأجر؛ لأنه متعد باستعماله متسبب إلى إتلاف حق غيره. ذكر ذلك الحنابلة (1) .
(قلت) هذا صحيح.
__________
(1) ابن قدامة، المغني 12 \ 93.(56/301)
(49) وقعت على الأجراء والحفر في الطريق:
إذا استأجر أربعة يحفرون له بئرا في الطريق فوقعت عليهم من حفرهم فمات أحدهم، فعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية وهدر الربع؛ لأن الميت مات من أربع جنايات، إلا أن جناية المرء على نفسه هدر، فبطل الربع، وبقي جنايات أصحابه عليه، فتعتبر، ويجب عليهم ثلاثة أرباع الدية، على كل واحد منهم الربع. وقد روى الشعبي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قضى على القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثا، وهن ثلاث جوار (1) ، ركبت إحداهن الأخرى، فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت، فسقطت الراكبة، فقضى للتي وقصت بثلثي الدية على
__________
(1) في البدائع 7 \ 278 جواري، وهو خطأ مطبعي، وصاحبتها. والصواب ما أثبته.(56/301)
صاحبتها- صاحبتيها- وأسقط الثلث؛ لأن الواقصة أعانت على نفسها. ذكر ذلك الحنفية (1) .
(قلت) هذا صحيح؛ لفعل علي رضي الله عنه.
(50) فلو كانت المسألة المتقدمة بحالها ولكن الحفر كان في ملك المستأجر، فينبغي أن لا يجب شيء، لأن الفعل- الحفر- مباح فما يحدث غير مضمون. ا. هـ (2) .
لكن قال ابن عابدين: (3) قوله: فينبغي أن لا يجب شيء. . . إلخ، قد علمت التصريح بأن ذلك قتل مباشرة فيستوي فيه الملك وعدمه فهو بحث مخالف للمنقول. ذكر ذلك الحنفية فقط.
(قلت) الصحيح ما في ابن عابدين؛ لأن الثلاثة مباشرون للقتل فيجب عليهم ثلاثة أرباع الدية. ومثله ما لو كان الأربعة أعوانا للمستأجرين (4)
__________
(1) الكاساني، البدائع 7 \ 277، 278، الحصكفي، الدر المختار 5 \ 383.
(2) الحصكفي، الدر المختار 5 \ 383. قاضي خان، الفتاوى 2 \ 402. ذكر أن من حفر نهرا في ملكه لا يضمن.
(3) ابن عابدين، رد المحتار 5 \ 383.
(4) ابن عابدين، رد المحتار 5 \ 383.(56/302)
(51) حفر في دار مستأجرة (ملك المنفعة) :
وإذا استأجر رجل دارا فقد ملك منفعتها مدة الإجارة، ولكن العين المأجورة وهي الدار أمانة في يده (1) ، فإذا حفر فيها بئرا بدون إذن المالك فقد تعدى ولا يضمن ما هلك فيها؛ لأنه مالك لمنفعتها. نص على ذلك الشافعية (2)
__________
(1) النووي، المنهاج ص 68 قال: ويد المكتري على الدابة والثوب يد أمانة مدة الإجارة. . . إلخ.
(2) ابن حجر، التحفة، شرواني، الحاشية 9 \ 8.(56/303)
(52) حفر في الدار الموقوفة أو الموصى بها (ملك المنفعة) :
إذا أوقف إنسان دارا على رجل معين أو أوصى له بها فقد استحق منفعتها، فإذا حفر فيها بئرا، فهو متعد؛ لأنه استعمل ملك غيره فيما لم يؤذن له فيه، إذ ملك المنفعة لا يشمل(56/303)
الحفر، وإن توقف تمام الانتفاع عليه ولا ضمان عليه، لأنه مستحق للمنفعة. ذكر ذلك الشافعية (1) .
__________
(1) ابن حجر، التحفة، شرواني، الحاشية 9 \ 8.(56/304)
(53) حفر في الدار المستعارة (ملك الانتفاع) :
إذا استعار رجل دارا ليسكنها مدة بدون أجر فهي عارية بيده، والعارية يملك فيها المستعير الانتفاع ولا يملك المنفعة، وعلى ذلك فلو حفر المستعير بئرا في الدار المستعارة بدون إذن مالكها فهلك بها رجل فهو ضامن لذلك، نص على ذلك الشافعية أيضا (1) .
(قلت) هنا فرق الشافعية بين ملك المنفعة وملك الانتفاع وهو جيد.
__________
(1) شرواني، حاشية على التحفة 9 \ 8.(56/304)
(54) حفر في داره المؤجرة أو المرهونة:
إذا ملك إنسان دارا فأخرها لآخر أو رهنها عنده فهي محبوسة لدى المستأجر مدة الإجارة، وبيد المرتهن مدة بقاء الذين على الراهن. فلو أن المالك حفر بئرا في داره هذه التي هي بيد غيره، ولم يأخذ إذنا من المستأجر أو الراهن فهو غير(56/304)
متعد؛ لأنه حفر في ملكه. قال ذلك ابن حجر في التحفة، والشربيني في المغني قال في الأصح.
(قلت) الصحيح أنه بحفره متعد؛ لأن الدار ليست بيده الآن فإن حفرها وأعلم الداخل بها فلا ضمان عليه، وإلا ضمن.(56/305)
(55) حفر داخل الحرم:
إذا حفر بئرا في ملكه أو في موات وكان ذلك البئر داخل حدود الحرم ضمن الصيد الواقع فيه في الأصح (1) . ذكر هذا الشافعية.
(قلت) هل يعتبر ذلك صيدا للحيوان الواقع؟ وهل يعد صائدا وهو لم ينو الصيد بحفره؟ والقاعدة تقول: " المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد أو بالتعدي " (2) ، فيه نظر والله أعلم.
__________
(1) الرملي، النهاية 7 \ 353، الشربيني، المغني 4 \ 83.
(2) المجلة 1 \ 83 م 93.(56/305)
(56) منع الجار جاره من الحفر:
ليس للجار منع جاره من حفر بئر في داره إذا كانت الأرض صلبة لا تضر ببئره، وإن كانت رخوة وخشي أن ينشف ماء بئره منع إذا قال ذلك أهل البصر- أي الخبرة-. ذكر ذلك المالكية.(56/305)
(قلت) هو الصحيح دفعا للضرر.(56/306)
(57) أمر السلطان والإكراه:
إذا أمر السلطان رجلا بحفر بئر في غير ملكه فحفره المأمور ثم سقط فيه إنسان ومات، فلا ضمان على الحافر؛ لأنه غير متعد حيث فعل ما فعل بأمر من له الولاية في حقوق العامة. صرح بذلك الحنفية والحنابلة (1) .
ويكون الضمان على السلطان- إذا كان ضمان- سواء علم الحافر أن الأرض ملك لغير السلطان أو لا؛ لأنه لا تسعه مخالفته، أشبه ما لو أكرهه على ذلك والمراد بقوله أمره أي أذن له، وهي مخالفة لقوله لو أكرهه عليه الآتي. ذكر ذلك الحنابلة (2) .
__________
(1) المرغيناني، الهداية، والبهوتي، الكشاف 4 \ 135، البهوتي، شرح المنتهى 2 \ 428.
(2) البهوتي، الكشاف 4 \ 135، البهوتي، شرح المنتهى 2 \ 428.(56/306)
(58) إكراه السلطان:
ويكون السلطان ضامنا لو أكره شخصا على حفر بئر- بالأولى- لأن المكره آلة بيد المكره فالضمان إذن على المكره، وكذا لو أكره رجل آخر على دخوله الدار وسقط في بئر فيها. صرح بذلك الحنفية والحنابلة في السلطان، وصرح به(56/306)
الشافعية فيما لو أكرهه المالك.
(قلت) هذا هو الصحيح؟ لأن المكره آلة بيد المكره.(56/307)
(59) نقصان الدار بالحفر:
رجل مات وترك دارا وعلية من الدين ما يستغرق قيمتها، فحفر فيها أحد ورثته، فهو ضامن نقصان الحفر للغرماء، فإن وقع فيها إنسان فعليه ضمان ذلك على عاقلته، ذكر ذلك ابن نجيم في البحر الرائق (1) .
__________
(1) 8 \ 349- 350.(56/307)
(60) حفر العبد:
إذا حفر العبد القن بئرا- متعديا- وهلك فيه إنسان أو مال، نظرنا: فإن كان بأمر سيده فالضمان على السيد؛ لأن فعل عبده بأمره كفعل نفسه سواء أعتقه أم لا. ذكر ذلك الحنابلة (1) .
(قلت) وهذا هو الصحيح؛ لما عللوا به.
وإن كان بغير أمر سيده فيتعلق ضمانه برقبته، فإن عتق
__________
(1) البهوتي، الكشاف 4 \ 135.(56/307)
فمن حين العتق على عاقلته إذا كان الضرر على آدمي، وبرقبته إذا كان مالا، ذكر ذلك ابن حجر في التحفة (1) .
(قلت) نعم، لأنه قبل العتق بيد سيده والسيد لم يأمره بذلك فجنايته في رقبته يتبع بها بعد عتقه.
وقال الحنفية: فإن أعتقه المولى بعد الحفر قبل الوقوع، أي وقوع أحد في البئر الذي حفره العبد، ثم لحقته الجنايات فعلى المولى قيمته يوم عتق، يشترك فيها أصحاب الجنايات التي كانت بعد العتق وقبله، يضرب في ذلك كل واحد بقدر أرش جنايته (2) .
(قلت) الظاهر من كلام الحنفية أن الحفر كان بإذن السيد فيكون الضمان عليه كقول الحنابلة المتقدم.
__________
(1) 9 \ 8.
(2) ابن نجيم، البحر الرائق 8 \ 350 ثم ذكر ما لو لم يعتق.(56/308)
(61) سقط اثنان فعفا أحد الوليين:
حفر عبد بئرا على قارعة الطريق- متعديا- فجاء إنسان ووقع فيها- فمات- فعفا عنه الولي- أي ولي المقتولة- ثم وقع فيها آخر ومات، فما الحكم؟ اختلف الحنفية الذين ذكروا هذه المسألة كما يلي:
قال أبو حنيفة: مولى العبد مخير بين أن يدفع كل العبد أو(56/308)
يفديه. وقال الصاحبان: يدفع إليه نصف العبد أو نصف الفداء (1) ؛ لأنهما وقعا معا فعفا عنه أحد الوليين (2) .
(قلت) الراجح فيه تفصيل، فإن كان الحفر بأمر السيد فالضمان على السيد كما تقدم في المسألة قبل هذه، وإن لم يكن بأمر السيد- كما هو الواضح هنا- فالراجح قول أبي حنيفة رحمه الله، لأننا الآن أمام دية رجل قتيل، نعم يعاد الزائد بعد أخذ الدية إلى المولى إذا كان في قيمة العبد بقية، والله أعلم.
__________
(1) في الكتاب: يدفع إليه نصف، ولم يبين.
(2) ابن نجيم، البحر الرائق 8 \ 349.(56/309)
(62) حفر بإذن مولاه ثم أعتقه وسقط المعتق في البئر:
عبد حفر بئرا- أي بأمر المولى متعديا- ثم أعتقه، ثم وقع العبد المعتق في البئر- التي حفرها- ومات، فما الحكم؟
نقل محمد عن أبي يوسف أن المولى ضامن لقيمة العبد لورثته. وقال محمد: لا أرى عليه شيئا.
(قلت) قول أبي يوسف أقيس، ذلك لأن أمر السيد للعبد كأمر السلطان تجب طاعته وتخشى مخالفته، فحينئذ يكون حفر العبد كحفر السيد، قال البهوتي: لأن فعل عبده بأمره كفعل نفسه (1) .
ولكن قول أبي يوسف: إن المولى ضامن لقيمته لا ينسجم مع عتق العبد؛ لأنه الآن أصبح حرا، وقد سقط في البئر وهو
__________
(1) البهوتي، كشاف القناع 4 \ 135.(56/309)
حر، فعلى عاقلة السيد ديته لورثته، والله أعلم.(56/310)
(63) أعتقه قبل الحفر:
فإن كانت المسألة بحالها لكن أعتقه المولى قبل الحفر، ثم حفر ووقع العبد الحافر فيها، فلا شيء على المولى بلا خلاف، ذكر ذلك الحنفية (1) .
(قلت) لأن المولى أصبح- بعد عتق العبد- أجنبيا عنه فلا يؤاخذ بشيء من أفعاله، خاصة وأنه لم يأمره، بل وإن أمره؛ لأدت القاعدة أن الفعل يضاف إلى الفاعل لا إلى الآمر ما لم يكن مجبرا (2) ، والله أعلم.
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق 8 \ 350.
(2) علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام ص80 مادة (89) .(56/310)
(64) حفر المكاتب والمدبر:
إذا حفر المكاتب بئرا- متعديا- فقتل فيها إنسان، فقضي على المكاتب بأن يدفع قيمة نفسه إلى ولي المقتول، ثم وقع بعد ذلك إنسان آخر في البئر ومات.
قال أبو يوسف: يشارك الثاني الذي سقط في البئر أخيرا ومات، يشارك الساقط الأول في قيمة المكاتب التي أخذها.
(قلت) نعم؛ لأن للمكاتب قيمة واحدة، وكذا لو مات فيه ثالث ورابع، ليس لهم إلا قيمة المكاتب. ويؤاخذ المكاتب بكل الجنايات التي يحدثها، ولا شيء فيها على الموتى.(56/310)
ذكر ذلك كله الحنفية (1) وقالوا: وكذلك المدبر. ثم ذكروا أحكاما أخرى عن العبد بأنواعه. والله أعلم.
__________
(1) ابن نجيم 8 \ 350، وذكر أحكاما أخرى.(56/311)
الخاتمة:
بعد هذه الجولة في أحكام حريم البئر وضمانه أجدني توصلت إلى النتائج التالية:
1 - أن الشريعة الإسلامية استوعبت كل ما يتعلق بالحياة الدنيا والحياة الآخرة سواء كان ذلك نصا أو إيماء أو قياسا، أو غير ذلك.
2 - أن الشريعة الإسلامية إذا طبقت لا نجد أي نزاع أو خصام بين الناس؛ لأن كل ما يدعو إلى النزاع والخصام مرفوض فيها.
3 - من حفر بئرا فعليه سدها أو عمل حائطا عليها حتى تعلم، فإن لم يفعل ضمن ما يتلف فيها بشروط ذكرها الفقهاء.
4 - سبب الضمان عند الفقهاء غير المالكية العدوان في حفر البئر، بأن يحفرها في الطريق لمصلحة نفسه أو في طريق يضر بالمارة أو يضيق الطريق، أو في ملك غيره وبدون إذنه، أو في ملكه ولم يعلم الداخل فيها، أو في طريق مشترك بلا إذن الشركاء. وقال المالكية سبب الضمان الضرر، وقصد الضرر، وأوجبوا القصاص إذا قصد ضرر(56/311)
شخص ومات المقصود في البئر، والدية في غيره.
5 - إذا حفرت عدوانا وتعمد شخص الوقوع فيها أو كانت مكشوفة وهو مبصر وسقط فيها، أو رداه غير الحافر، أو حفر في هلك غيره ثم ملك البئر قبل سقوط أحد، أو رضي المالك بالحفر زال العدوان ولا ضمان على الحافر.
6 - الحفر في المسجد مضمون إلا إذا كان الحافر من أهل المسجد أو كان الحفر بإذنهم أو لمصلحة المسجد ولا ضرر فيه فلا ضمان.
7 - على قاعدة (يضاف الفعل إلى الفاعل لا إلى الآمر) لو أمر غيره بالحفر، فإن أعلمه أن هذا ملكه ولم يكن ملكه فالضمان على الآمر؛ لأنه غيره، سواء كان الحافر أجيرا أو معاونا للأجير أو متبرعا، وإن لم يعلمه فكذلك، لأن الظاهر أنه ما أمره إلا لأنه مالك له، ومهما علم الحافر بالأمر فهو ضامن، فإذا علم أن الدار ليست للآمر أو أن هذا فناء الدار وليس ملكه أو حفر في الطريق ولو بأمر آمر فهو ضامن.
8 - إذا مات إنسان بسبب السقوط في بئر حفرت عدوانا، أو مات فيه جوعا، أو عطشا، أو غما فالحافر ضامن للساقط بالدية للحر وبالقيمة لغيره، وكذا لو نهشته حية بداخل البئر.
9 - كل من تسبب في السقوط في البئر فهو ضامن، فإذا حفر بئرا عدوانا ووضع آخر حجرا، أو نصب حديدة، فعثر بها(56/312)
إنسان، وسقط في البئر، أو صب ماء فزلق به إنسان ووقع في البئر، فالضمان على واضع الحجر وناصب الحديدة وصاب الماء، فإن كان الماء ماء مطر فالضمان على الحافر.
10 - إذا حفر إنسان بئرا في ملكه- غير معتد- ووقع فيها شخص على إنسان بداخلها فالضمان على الساقط، فإن حفرت عدوانا فالضمان على الحافر، وإن مات الساقط فإن كان متعمدا السقوط فهدر وإلا فالضمان على الحافر إذا حفره عدوانا، وإذا أراد الخروج فتعلق برجل ليخرجه لكن المتعلق سقط مرة أخرى في البئر ومات فلا ضمان على أحد.
11 - إذا سقط إنسان في بئر وتعلق بآخر وتعلق الثاني بثالث والثالث برابع وهلكوا فالحكم يختلف فيما إذا كان الحفر عدوانا أو غير عدوان، أو كان يعلم كيف ماتوا أو لم يعلم، وتسمى مسألة الزبية.
12 - إذا حفر بئرا حفرا قليلا فعمقها آخر، أو حفر ضيقة فوسعها آخر، فالضمان عليهما، وإن حفرها ثم كبسها ففتحها آخر، فإن كان الحفر الأولى عدوانا فهما ضامنان، وإلا فالأخير ضامن.
13 - إذا حفر إنسان بئرا في ملكه وهلك بها إنسان فقال ولي الهالك أذنت له وأنكر المالك فالقول قول المالك، وإن قال المالك كانت مكشوفة- أي ولم يرها- فلا ضمان، وقال الولي كانت مغطاة، فالقول قول الولي ويحتمل أن القول قول المالك.(56/313)
14 - إذا استأجر أجيرا لحفر بئر فسقط عليه البئر فلا ضمان على الآمر، وإذا كان الأجراء أربعة فسقط على واحد منهم بفعلهم، فعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية ويسقط ربع دية نفسه، وكذا أعوان الأجراء.
15 - إذا حفر بئرا في دار استأجرها، أو كانت موقوفة عليه، أو كان مالكا لها وأخرها أو رهنها وحفر فيها، فلا ضمان عليه فيما يسقط فيها، فإن كان مستعيرها ضمن.
16 - أمر السلطان وإكراهه سبب للضمان عليه، وكذا أمر السيد عبده.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.(56/314)
غزوة تبوك وما فيها من المعجزات
للدكتور: محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن مدينة تبوك الواقعة بين وادي القرى والشام، وقيل كانت بركة لأبناء سعد من بني عذرة، قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، بعد أن كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة إلى هذه البلدة، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في شهر رجب بالتهيؤ لغزو الروم، وعاد منها في شهر رمضان من السنة التاسعة.
فقد كانت هذه الغزوة المقترنة بتبوك ذات أحداث جسام، ومعجزات نبوية كبيرة، وإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما سوف تتبوؤه هذه المنطقة من مكانة ونماء زراعي واقتصادي، وتوافد بشري، نرى اليوم ملامح ذلك قد برزت للعيان، كما نرى أيضا أمورا هي من معجزات النبوة التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة عندما كانت المنطقة في قفر من الأرض، وشدة في الحصول على الماء الصالح للشرب، فضلا عن المتطلبات الأخرى. وإذا هي اليوم تتحول إلى حقول(56/315)
خضراء، تمتلئ بما لذ وطاب من المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، ولم يكن ذلك ليتحقق، لو لم يهيئ الله المياه الوافرة، التي هي عنصر الحياة الوحيد، الذي به قوام الحياة في كل كائن حي، وبه مصدر النمو والحيوية، حيث يقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1) ولو لم يهيئ الله الدولة بقياداتها الحريصة على عمران البلاد وإنمائها وبذل الكثير في سبيل ذلك لما برزت بهذه الصورة.
فما هي تبوك أصلا ونشأة، وماذا تم في غزوة تبوك التي تحدثت عنها كتب التاريخ قديما وحديثا، واقترن ذكرها بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته التي أظهر الله بها الإسلام في بقاع المعمورة، ولم يغفلها المفسرون، بل أولوها عناية خاصة؛ لأنها تعني أمورا كثيرة في واقع المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، ونزل فيها آيات كثيرات فضح الله بها أقواما ملأ النفاق قلوبهم، وعاندوا رسول الله وتمالأوا عليه باطنا، بينما هم يظهرون المودة نفاقا ومكابرة.
ولذا سميت سورة التوبة، التي نزل أغلبها مقترنا بغزوة تبوك: الفاضحة، حيث أظهر الله جلت قدرته من خصال المنافقين: القولية والفعلية، ما جعلهم يتعرون أمام الملأ، فكانت فاضحة لما خفي من أعمالهم. كاشفة ما كانوا يحرصون على ستره من نواياهم حتى يحذرهم المسلمون. . ويعرفوا شر ما
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 30(56/316)
تنطوي عليه نفوسهم. كما أن وقائع هذه الغزوة، محص الله بها- في الجانب الآخر- قوما، هم الصادقون مع الله في العقيدة، والمتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقا: في القول والعمل.
وسوف نحاول باقتضاب إبراز بعض الجوانب في غزوة تبوك، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها، وتحقق الكثير منها، وقد يأتي حسب مسيرة النمو في المنطقة ما يزيد ذلك تأصيلا، وصدق الله في قوله الكريم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) .
المسمى:
يرى الجوهري [. . . - 393 هـ] في الصحاح أن هذا الموقع لم يكن معروفا باسم تبوك إلا بعد غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك، أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما زلتم تبوكونها بوكا» ، فسميت تلك الغزوة: غزوة تبوك، وهو تفعل من البوك.
وأورد دلالات لغوية فقال: قال أبو زيد: يقال لقيته أول بوك، أي أول شيء، قال الكسائي: باكت الناقة تبوك بوكا: سمنت. . وحكى ابن السكيت: ناقة بائك، إذا كانت فتية حسنة،
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4(56/317)
والجمع البوائك، ومن كلامهم: إنه لمنحار بوائكها (1) . ويقول ياقوت الحموي [574- 626 هـ] في معجم البلدان: تبوك بالفتح ثم الضم، وواو ساكنة وكاف: موضع بين وادي القرى والشام، وقيل بركة لأبناء سعد من بني عذرة. وقال أبو زيد: تبوك بين الحجر وأول الشام، على أربع مراحل من الحجر، نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل، وحائط ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن أصحاب الأيكة، الذين بعث إليهم شعيب عليه السلام، كانوا فيها ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من مدين، ومدين على بحر القلزم - هو البحر الأحمر - على ست مراحل من تبوك.
وتبوك بين جبل حسمى وجبل شرورى، وحسمى غربيها وشرورى شرقيها، وقال أحمد بن يحيى بن جابر: توجه النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع للهجرة إلى تبوك من أرض الشام - وهي آخر غزواته- لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم، وعاملة ولخم وجذام، فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق كيدا، ونزلوا على عين ماء، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أحد يمس من مائها، فسبق إليها رجلان، وهي تبض بشيء من ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زلتما تبوكان منذ اليوم،» فسميت بذلك
__________
(1) الصحاح للجوهري 4 \ 1576.(56/318)
تبوك، والبوك: إدخال اليد في شيء وتحريكه، وركز النبي صلى الله عليه وسلم عنزته ثلاث ركزات، فجاشت ثلاث أعين، فهي تهمي بالماء إلى الآن.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك أياما حتى صالحه أهلها. وأنفذ خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وقال له: ستجد صاحبها يصيد البقر، فكان كما قال، فأسره وقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال بجير الطائي يذكر ذلك:
تبارك سابق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
وبين تبوك والمدينة اثنتا عشرة مرحلة وكان ابن عريض اليهودي قد طوى بئر تبوك لأنها كانت تنطم في كل وقت، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمره بذلك (1) .
وجاء في المصباح المنير للرافعي في مادة بوك: باكت الناقة تبوك بوكا: سمنت فهي بائك بغير هاء، وبهذا المضارع سميت غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية من غير قتال، فكانت خالية عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هزال. ثم سميت البقعة تبوك بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريب من مدين،
__________
(1) معجم البلدان للحموي 2 \ 14، 15.(56/319)
الذين بعث الله إليهم شعيبا (1) .
وذكر محمد نبهان النجار في كتابه: الاصطفاء في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي نشرته إدارة إحياء التراث الإسلامي في قطر قوله: تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينه وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وتبوك الآن في المملكة العربية السعودية، وهي مركز هام للسياحة والنقل، وهي تبعد عن المدينة المنورة سبعمائة وستا وثمانين كيلو مترا على حسب المقياس في عصرنا الحاضر (2) .
وذكر ابن قتيبة [213- 276 هـ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار في رجب سنة تسع إلى أرض الروم، فكان أقصى أثره تبوك فأقام بها وبنى مسجدا هو بها إلى اليوم (3) .
__________
(1) المصباح المنير للرافعي بتصحيح مصطفى السقا 1 \ 74.
(2) الاصطفا في سيرة المصطفى لمحمد النجار 3 \ 142.
(3) المعارف لابن قتيبة 165.(56/320)
سبب الغزوة:
ذكر ابن كثير [700 هـ- 774 هـ] في تفسيره، وفي تاريخه أن الله سبحانه لما أنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) الآيتين قالت قريش، كما ورد عن ابن عباس ومجاهد وسعيد
__________
(1) سورة التوبة الآية 28(56/320)
بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم، وكان ذلك بعد فتح مكة: لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك، بالأمر بقتال أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال ابن كثير فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل الكتاب؛ لأن هذه الآية هي أول الأمر بقتالهم بعد ما أذل الله المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واستقامت جزيرة العرب. وقد أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك عام جدب، ووقت قيظ وحر، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك، فنزل بها، وأقام بها قريبا من عشرين يوما (1) .
لكن لويس معلوف يريد في معجمه المنجد أن يطمس حقيقة تاريخية ثابتة، وينفي أن المقصود بغزوة تبوك: الروم، وأهل الكتاب من النصارى واليهود، مع أن الآية الكريمة أبانت أنهم المقصودون: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) فجعل السبب: إخضاع عرب الشمال، حيث قال: تبوك مدينة
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 2 \ 347.
(2) سورة التوبة الآية 29(56/321)
في طريق الحج من دمشق إلى المدينة، اشتهرت بالغزوة العظيمة التي قام بها النبي لإخضاع عرب الشمال (1) .
ولا غرابة في هذا فالمثقفون من النصارى واليهود يحبون أن يطمسوا الحقائق الإسلامية في دسهم، برفق ولين، كمن يدس السم في العسل أو الدسم، ويستبين مثل هذا في شبهاتهم التي ترد، وفي محاولاتهم قلب الأمور بموازين الجدل والتمويه، ثم كيف يتجاهل هذا؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى يوحنا ابن رؤبة وأهل أيلة كتاب أمان على أن يدفعوا (300) دينار في كل عام جزية عن يد وهم صاغرون، كما أعطى الجزية أهل الجرباء وأذرح وانسحبت الروم خوفا من لقائه صلى الله عليه وسلم (2) .
من مر بها من الرحالين:
كثير من الرحالين والحجاج قد مروا بتبوك في طريقهم إلى المدينة المنورة، ومكة المكرمة، وغيرهما فهي مفتاح الجزيرة العربية وبوابتها للقادمين عن طريق الشام ومصر، سواء منهما أو مما وراءهما. . وقل أن يترك ذكرها رحالة من الرحالين أو الحجاج، ولكن المعلومات عندهم متقاربة، إلا في رصد ما مر به أي منهم، حيث يصف المدينة وما حولها في وقته.
ولكثرة من سجل رحلته للحج من تلك الديار، فإننا سوف
__________
(1) المنجد في اللغة والأدب والعلوم، 2 \ 103.
(2) الاصطفا في سيرة المصطفى للنجار، 3 \ 146.(56/322)
نقتصر على ما رصده اثنان من الرحالين:
الأول: ابن بطوطة [703- 779 هـ] ، الذي قام برحلته من طنجة بالمغرب عام 725 هـ.
والثاني: محمد السنوسي [1267هـ- 1318 هـ] الذي قام برحلته من تونس عام 1299هـ قاصدا الديار المقدسة للحج والزيارة، ثم عاد إلى تونس يوم الاثنين 26 ربيع الأول عام 1300 هـ.
يقول ابن بطوطة: وقد وصلنا إلى تبوك، وهو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها عين ماء تبض بشيء من الماء، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها جادت بالماء المعين، ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن عادة حجاج الشام أنهم إذا وصلوا إلى منزل تبوك، أخذوا أسلحتهم، وجردوا سيوفهم، وحملوا على المنزل، وضربوا النخيل بسيوفهم، ويقولون: هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروي منها جميعهم، ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال، واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك.
ومن عادة السقائين، أنهم ينزلون على جوانب هذه العين، ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس، كالصهاريج الضخام، يسقون منها الجمال، ويملأون الروايا والقرب، ولكل أمير أو(56/323)
كبير حوض، يسقي منه جماله وجمال أصحابه، ويملأ رواياهم، وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على سقي جمله وملء قربته بشيء معلوم من الدراهم. ثم يرحل الركب من تبوك، ويجدون السير ليلا ونهارا، خوفا من هذه البرية، وفي وسطها الوادي الأخضر، كأنه وادي جهنم، أعاذنا الله منها، وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة، بسبب ريح السموم التي تهب، فانتشفت المياه، وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار، ومات مشتريها وبائعها، وكتب ذلك في بعض صخر الوادي.
ومن هناك ينزلون بركة المعظم، وهي ضخمة، نسبتها إلى الملك المعظم، من أولاد أيوب، ويجتمع بها ماء المطر، في بعض السنين، وربما جف في بعضها.
وفي الخامس من يوم رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر: حجر ثمود وهي كثيرة المياه، ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته، وأمر ألا يسقي منها أحد (1) .
أما محمد السنوسي في كتابه الرحلة الحجازية، فقد تحدث عن تبوك في ثلاث صفحات، وبعض كلامه عنها مما جاء في كتب التاريخ في السيرة النبوية لابن هشام وغيره، وعند ابن كثير في تاريخه، والطبري في تاريخه.
__________
(1) رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار ط عام 1386 هـ كتاب التحرير ص78.(56/324)
ومما قاله: تبوك: يقال باك العين يبوكها، إذا ثور ماؤها بعود، وقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن وجده يبوك عينا هنالك، قل ماؤها: تبوك: " كذا "، فاطرد ذلك الاسم للمكان، وهو محل أصحاب الأيكة وخبر شعيب مع أصحاب الأيكة، مذكور في القرآن الكريم.
ولغزوة تبوك خبر مبسوط في كتب السير النبوية، ويقال لها: غزوة العسيرة أو العسرة، ويقال لها: الفاضحة لأنها فضحت كثيرا من المنافقين، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك في رجب سنة تسع " للهجرة " بسبب ما بلغه عليه الصلاة والسلام من أن الروم تجمعت جموعهم بالشام، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فرأى غزوهم.
ثم قال: وخرج لهذه الغزوة بسبعين ألفا من الرجال وعشرة آلاف فرس، وعند ارتحاله صلى الله عليه وسلم عن ثنية الوداع عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر، ورايته للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ودفع لكل بطن من العرب لواء وراية.
ولما نزلوا تبوك، وجدوا عينها قليلة الماء فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده غرفة من مائها، ومضخ بها فاه، ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت، وقال لمعاذ: «يوشك إن طالت بك حياة أن ترى هنا ملئ جنانا (2) » . قلت- والكلام
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الفضائل (706) ، سنن الترمذي الجمعة (553) ، سنن النسائي المواقيت (587) ، سنن أبو داود الصلاة (1208) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1070) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (330) ، سنن الدارمي الصلاة (1515) .
(2) كذا في الأصل، وصحة الحديث: '' ترى ما هاهنا- قد ملئ. . ''. انظر ص (345) من هذا البحث. (1)(56/325)
للسنوسي -: وجدنا بها جنانا من نخيل، غير أن نخلها ذكر لا تمر فيه، وبها وجدنا عنبا ويقطينا ومياها لم يكن مثلها فيما مررنا عليه من المراحل السابقة، وبذلك شاهدنا آثار إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات.
ثم قال: وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة، واستشار أصحابه في مجاوزتها فقال عمر: إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا وأفزعهم ذلك، فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرا. ثم انصرف صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة. ثم بدأ في وصف المدينة ومبانيها فقال: أما بناء تبوك فهو من لبن غير مطبوخ وجدرانها قصيرة، دون قامة الإنسان، ومسجدها الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عمر بن عبد العزيز، ومنها إلى المدينة كان مزروعا في عهد عمر بن الخطاب.
وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في ثنية تبوك وأشار إلى جهة الشام وقال: " هذا شامي " وأشار إلى جهة اليمن وقال: " هذا يمني» واستدل العلماء بذلك على أن الحجاز من اليمن.
وقلعة تبوك ذات بئر، بناها السلطان سليمان، ولبركتها عين جارية، ولا أدري هي التي كان يبوكها البايك أو غيرها.
وعند نزول الركب في هاته المنزلة السعيدة قبل أمير الركب(56/326)
سعيد باشا مكاتيب الدولة العلية التي وجدها في انتظاره تأمره بالكرنتينه في الزرقاء عشرة أيام. وكان الباشا قبل ذلك حرر شهادة في سلامة الركب من الأمراض، ولقد أراد أن يوجه بها بريده جوخدار غير أنه سبق السيف العذل، وتقدمت الأوامر على الاستئذان وامتثل ما ورد إليه من الأمر (1) .
ولقد قرأت في إحدى الصحف مقابلة مع أحد أبناء مدينة تبوك، وهو الآن عضو في المجلس الإداري للمنطقة، أن مدينة تبوك التي هي حاضرة الإمارة ويتبعها محافظات عدة كان سكانها إلى عهد قريب عربا رحلا، ولا يوجد في البلد إلا دكان صغير واحد يصعب على المسافر فضلا عن المقيم الحصول عنده على الضروريات كالدقيق، ولا يوجد بالبلد مخبز فضلا عن الكماليات.
ولذا فإن المقارنة بين حال تبوك قبل أربعين عاما، وبينها الآن لا يكاد يصدقها إلا من عاينها بنفسه، فالتقدم فيها كشأن مدن المملكة، في مرافق الحياة جميعها، لا تسير سيرا وإنما تقفز قفزات متسارعة، بفضل الله، ثم بفضل ما تيسره الدولة وتهيئ أسبابه، مع توفر العامل الرئيسي الذي أرسى دعائمه الملك عبد العزيز رحمه الله، حيث كان من هواجس نفسه الأولوية في مسيرة البناء وتوحيد أجزاء المملكة، ذلك هو الأمن، الذي تستقيم معه جميع الأمور، ويترابط أبناء البلاد حكاما ومحكومين فيما بينهم بوشاج المحبة والألفة. . فهو أمن في النفوس، وأمن
__________
(1) الرحلة الحجازية لمحمد التونسي، 2 \ 240- 242.(56/327)
في الاقتصاد، وأمن في القلوب. . وأمن في البلاد المترامية، وطرقاتها، وأمن لكل وافد لهذه المملكة التي من الله عليها بخدمة الحرمين الشريفين، وبذل النفس والنفيس لخدمة ضيوف الرحمن.
ذلك أن ما تحقق لكل جزء من أطراف البلاد، وتبوك التي هي بوابة المملكة الشمالية الغربية، في أمور عديدة: علمية وزراعية، واقتصادية واجتماعية وغيرها، يطغى على جميع المقاييس العلمية الحديثة بمفاهيم المختصين، وهي نعم من الله تذكر فتشكر، لأن بالشكر تدوم النعم كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) ووعد الله حق لا مراء فيه، إذا أدى الإنسان ما عليه لله من حق النعمة شكرا لله واستجابة لأمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومع شكر النعمة القولية باللسان، والفعلية بالجوارح، والعقدية بالقلب، فقد أمر الله بالتحدث بنعمه سبحانه، فقال تعالى آمرا نبيه بذلك: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2) . والأمة تبع له صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي إلا ما هو من خصوصياته عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة الضحى الآية 11(56/328)
منازل الناس في الغزوة:
لما كانت هذه الغزوة في سنة جدباء، والناس في حاجة وعوز، والوقت صيفا، بحرارة شديدة، والثمار قد طابت بالنسبة(56/328)
لأصحاب المزارع، والروم بعددهم وعدتهم ممن يخشاهم عرب الجزيرة ويرهبون التعرض لهم منذ أيام الجاهلية قد تهيأوا. . فكانت هذه الأسباب محكا للنفوس، وميزانا تغربل به الأعمال، وبلوى يمتحن الله بها الإيمان ومكانته من القلوب، كما قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) .
ولذا فقد ظهر الناس على ما بطن في قلوبهم، فكانوا ثلاثة أنواع:
1 - المؤمنون المستجيبون.
2 - والبكاؤون الذين لا يحبون التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون عدة الجهاد من زاد وراحلة.
3 - المخلفون المنافقون الذين فضحهم الله في هذه الغزوة بمواقف عديدة.
1 - فالفئة الأولى يوضح حالهم: المبادرة بالسمع والطاعة لله ولرسوله، ولمن ولاه الله أمرهم، استجابة فورية بالنطق بقولهم سمعنا وأطعنا، وفعلية بالبذل: نفسا ومالا، وعملية بالمبادرة تهيئوا للجهاد، وتجهيزا لمن لا يستطيع. يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حض أهل الغنى على النفقة، والحملان في سبيل الله، بادر أهل الغنى دفعا بالمال، وحملا
__________
(1) سورة الملك الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 24(56/329)
بالرواحل والزاد لمن لا يستطيع، كل على قدر طاقته، وما يسره الله له، وكان أول من بادر أبو بكر الصديق الذي جاء بماله كله، وهو خمسة آلاف درهم، ثم جاء عمر بنصف ماله، ثم جاء عثمان بألف دينار في ثوبه فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم (1) » رواه الترمذي.
وبدأ الناس يتدافعون، كل على قدر استطاعته والمنافقون يستهزؤون بمن يدفع قليلا. . ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة. فقال عثمان: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم نزل عليه الصلاة والسلام درجة من المنبر ثم حث. فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال عبد الرحمن بن حباب السلمي راوي الحديث: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا، يحركها- وفي رواية- كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا (2) » وكل من أجاب دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستجابة لهذه الدعوة بدون ريب أو تردد، فهو داخل في الفئة الأولى، كأبي خيثمة وحكايته في اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركه ملذات الدنيا استجابة لله ولرسوله حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزوله تبوك، وكغيره ممن كمل جهازهم بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لحقوا به. . أو ممن أثقل السير
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3701) ، مسند أحمد بن حنبل (5/63) .
(2) البداية والنهاية لابن كثير 5 \ 7.(56/330)
رواحلهم، مما دفعهم إلى الخنوس فظنهم بعض الصحابة من المتخلفين، والمتسللين لواذا، ولكن صدقهم وإيمانهم دفعهم إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فقد روي في قصته عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال مثل مقالته السابقة. فتلوم أبو ذر بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض منازله. ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماشي على الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده (1) » .
2 - ذكر ابن هشام في سيرته: أن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، من بني عمرو بن عوف، وذكر أسماءهم ومنهم عرباض بن سارية الفزاري، وعبد الله بن المغفل المزني، فاستحملوا
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 5 \ 13.(56/331)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان. فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه. . وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له- وهو الجمل الذي يستقي عليه الماء- فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وجاء المعذرون من الأعراب، فاعتذروا فلم يعذرهم الله، وقد ذكر أنهم نفر من بني غفار.
وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم: كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني سالم بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم وقد امتحن الله إيمان الثلاثة الأول منهم فكانوا صادقين حتى أنزل الله توبتهم في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (1) ، واستعمل رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) سورة التوبة الآية 118(56/332)
وسلم على المدينة سباع بن عرفطة. . وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، على أهله وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف المنافقون وقالوا: ما خالفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو نازل بالجرف فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني فقال: «كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك. . أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1) » . فرجع علي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
أما أبو خيثمة فإنه بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما جاء إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح- أي الشمس- والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم، ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق
__________
(1) صحيح البخاري كتاب المغازي (4416) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (2404) ، سنن الترمذي كتاب المناقب (3724) ، سنن ابن ماجه المقدمة (121) ، مسند أحمد بن حنبل (1/185) .(56/333)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله. ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، فترافقا. فلما أقبل قال الصحابة: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة " فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة. فسلم على رسول الله وأخبره الخبر. . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير (1) » (2) ، كما ذكرنا بعضا من ذلك من قبل.
وقد تخلف أقوام من العصاة، قيل عشرة، منهم أبو لبابة فلما رجع رسول الله أوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل: إنهم حلفوا ألا يطلقهم إلا رسول الله ويعذرهم فقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا أقسم ألا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين» ، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فأنزل الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وعسى من الله واجب، فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم فجاءوا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا (4) .
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4418) ، صحيح مسلم التوبة (2769) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3102) ، سنن النسائي كتاب المساجد (731) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) .
(2) يراجع في هذا السيرة النبوية لابن هشام 4 \ 161- 164.
(3) سورة التوبة الآية 102
(4) البداية والنهاية لابن كثير 5 \ 33.(56/334)
3 -أما الفئة الثالثة: فهم المنافقون، وعلى أسهم عبد الله بن أبي ابن سلول الذي رجع بأتباعه من بداية الطريق وهم كثيرون، ليوهنوا عن الجهاد وللرغبة في التخلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه الغزوة، ومنهم الجد بن قيس أحد بني سلمة الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للغزو بتبوك: «يا جد ألك العام في جلاد بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " قد أذنت لك " ففيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (1) » .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (2) . وحدث ابن هشام بسنده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن ناسا من المنافقين، يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من
__________
(1) سورة التوبة الآية 49
(2) سورة التوبة الآية 81(56/335)
أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل طلحة (1) » .
وهؤلاء المنافقون تآمر نفر منهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتضييق على راحلته وأن يطرحوه صلى الله عليه وسلم من رأس عقبة في الطريق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بأسمائهم قيل عددهم (14) ، وقيل (12) رجلا. وقد روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في أصحابي اثنا عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سم الخياط (2) » .
وكان ذلك النفر المتلثمون، قد اعترضوا في العقبة، فصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولوا مدبرين، «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر اللذين كانا يحرسان رسول الله في الطريق: " هل عرفتم القوم؟ " قلنا: لا؛ لأنهم كانوا متلثمين. قال: " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ ". قلنا: لا. قال: " أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها " قلنا: يا رسول الله، أو لا تبعث إلى عشائرهم، حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: " لا، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم، أقبل عليهم يقتلهم " ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة "، قلنا يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: " هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك (3) »
__________
(1) البداية والنهاية 5 \ 6، 7.
(2) صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779) ، مسند أحمد بن حنبل (5/390) .
(3) انظر البداية والنهاية لابن كثير 5 \ 24- 27.(56/336)
معجزات نبوية:
يمتحن الله سبحانه إيمان ابن آدم بمواقف يبرز من ورائها المحك الذي يتضح به النقاوة أو الكدر، وليتميز الخبيث من الطيب، بحسب الحال في النفس، وفي الزمان والمكان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، كانت للروم الذين امتد نفوذ سلطانهم ذلك الوقت إلى ديار الشام في نفوس العرب مهابة لكثرتهم وقوتهم، إلى جانب ما الناس فيه من عسرة وشدة، وجدب في البلاد، والوقت صيفا بحرارته اللافحة. وهذه أمور ترهبها بعض النفوس، وتسعى جاهدة في تحاشيها إلى جانب المنافقين المندسين في صفوف أهل المدينة، يساعدهم يهود المدينة في عداوة مضمرة وظاهرة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته جاهدين في النكاية والإضرار.
أما ما يرغب فيه ويدعو إلى الدعة والركون إلى ملذات الدنيا: فإن الثمار قد طابت، والبساتين قد أينعت ثمارها، والناس يحبون الإقامة في ثمارهم وظلالهم، ولا يرغبون البعد عنها.
فكان أهل النفاق الذين آمنت ألسنتهم، وكذبت قلوبهم، يعتذر بعضهم ويرجف آخرون، ويساعدهم في التثبيط بعض اليهود حتى تخلف من تخلف إيهانا للعزائم، ورغبة في الإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم، والصفوة المختارة معه.
كما بان لنا في اجتماع ترأسه سويلم اليهودي في بيته، حاكوا فيه الخطط للتثبيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في(56/337)
غزوة تبوك، فأطلع الله نبيه على أعمالهم حيث بعث إليهم من يحرق عليهم بيت سويلم، فتم ذلك.
في هذا الجو المشحون بالتدابير البشرية، والمخططات الهادفة إلى إسكات صوت الحق، والإرجاف برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى ينفض الناس من حولهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) .
في هذا الجو المليء بالمؤامرات والمكائد وتحركه قلوب امتلأت حقدا وكراهية للرسالة وحاملها صلى الله عليه وسلم كان الجيش الذي التف حول رسول الله ودعوته الطاهرة النقية تكتنفه العسرة والضيق الشديد من جميع المتطلبات المرغوبة لمثل هذه الحالة فهو في حاجة إلى ما يؤمن غذاء المجاهدين وهو ما يعرف في المصطلحات الجديدة للجيوش: الإمدادات والتموين.
فالدولة الفتية في المدينة لا ميزانية لها تجعلها قادرة على تحمل جميع النفقات، ولا ثراء عند الصحابة لأن المهاجرين تركوا أموالهم وتجارتهم، وهاجروا لمدينة رسول الله رغبة فيما عند الله، وأهل المدينة من أهل الحرث والزرع، ولذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى النفقة والمساهمة والحمل في سبيل الله، لبعد المسافة، ولمجابهة عدو أكثر عددا وعدة. فتسابق المؤمنون الصادقون كل بمقدرته: من مال وزاد، وإبل ومتطلباتها، ليحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقراء-
__________
(1) سورة الأنفال الآية 30(56/338)
وهم كثرة- الراغبين في الجهاد، والاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه الغزوة العظيمة- غزوة تبوك - التي بان فيها زيف النفاق، وبروز خصاله: من كذب ومعاذير، وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلل من أثناء الطريق، وتفضيل للدنيا وملذاتها على أمر الآخرة، وخداع ومداهنة، وعداوة سافرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة القضاء عليه في مؤامرة دنيئة، لكن الله أطلع رسوله على كيدهم، وفضحت مؤامرتهم في آخر لحظة، إلى جانب ما امتهنوه من غيبة ونميمة، وموالاة لأهل الكفر، وبغض لأهل الإيمان ومحاربة لله ولرسوله، وإخلاف للوعد، وغير هذا من صفات أبانها الله سبحانه في سورة التوبة حيث فضح الله ما كانت تضمره قلوب أولئك المنافقين.
كما بان في هذه الغزوة في الجانب الآخر، قوة الإيمان، وصدق اليقين بوعد الله والسمع والطاعة واستجابة لله ولرسوله، والتحمل في هذا السبيل، بالجود بذلا، وبالنفس فداء وتضحية، حيث تغلب الإيمان على هاجس النفاق والكفر، وطغى حب الله وحب رسوله، على حب الدنيا وموالاة أهل النفوذ والمال، من أعداء الله ورسوله ففاز حزب الله بتحقيق وعد الله، على حزب الشيطان، وكذب وعده.
في أيام تلك الغزوة العصيبة: انتصر الإيمان على الكفر، وتغلب صوت الحق على أدعياء الباطل، وعلت العقيدة الصافية على النفاق، وأعطى الروم بكثرتهم وعدتهم ومهابتهم الجزية عن(56/339)
يد وهم صاغرون للفئة القليلة المؤمنة، لأن النصر من الله، ينصر سبحانه أولياءه، ويمكنهم بدينهم الحق، ليستخلفهم في الأرض.
في غزوة تبوك، برزت معجزات عديدة يثبت الله بها إيمان الصادقين، ويقوى معها يقين المخلصين في نواياهم وحسن اتباعهم، وتقوم الحجة على المنافقين الذين يرجفون في المجتمع المدني، ويسعون بكل قدراتهم، حتى يخلخلوا قاعدة الإيمان من النفوس، بالتشكيك في الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله طاهرا نقيا لا شبهة فيه ولا مراء: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
وهذه المعجزات التي ظهرت في غزوة تبوك، هي من معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن ما جاء به من عند ربه حق لا مراء فيه، وبرهان على أن غزوة تبوك، وإن لم يأت فيها مجابهة مع العدو، كانت نصرا مؤزرا للإسلام وأهله، فانتصر فيها الحق على الباطل، وانتصر رسول الله على أعدائه وأعداء دعوته الكفار والمنافقين، وأبانت أن الله متم نوره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد من ربه، يأتيه خبر السماء، بفضيحة تدابير أهل الأرض، وأن غزوة تبوك كانت محكا إيمانيا ميز الله به الضدين، فبان الجوهر الصافي بصدق المؤمنين وعرف الزيف والزبد بعناد المنافقين، ففضحهم الله بآيات عديدة في سورة التوبة عن أقوالهم وأعمالهم حتى سماها بعضهم الفاضحة.
__________
(1) سورة الصف الآية 8(56/340)
ومن تلك المعجزات:
1 - ما يتعلق بمجموعة من الصحابة، يعرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة صدق الإيمان وسلامة العقيدة، كالصحابيين اللذين تخلفا، وخشي عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم اللحاق بأهل الريبة الذين ظهر نفاقهم بصفة جلية في هذه الغزوة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم إلا ما علمه ربه، والقلوب لا يعلم ما فيها إلا خالقها:
الأول: هو أبو خيثمة الذي رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار (1) .
الثاني: هو أبو ذر الغفاري: ففي الطريق إلى تبوك، كان يتخلف الرجل بين الفينة والفينة فيخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» حتى قيل: تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
«فأخذ أبو ذر متاعه من على ظهر البعير، وتركه وحمله على ظهره، ثم تبع رسول الله ماشيا، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد منازله فقال الناظر من المسلمين: يا رسول الله إن
__________
(1) تراجع حكايته في ص (333، 334) .(56/341)
هذا الرجل ماش على الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم: " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا: هو والله أبو ذر. . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده» وقد مر بنا شيء من حكايتيهما (1) .
وقد مات رحمه الله في الربذة وحيدا، ووضعه أهله على الطريق فمر به عبد الله بن مسعود وصلى عليه ودفنه، وترحم عليه، وذكر لمن معه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه في غزوة تبوك.
2 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لمن سأله عن شأن ساعة العسرة: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع. . حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: «يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا. فقال: " أو تحب ذلك؟ " قال: نعم. قال: فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعها حتى تهيأت السماء، فأطلت ثم سكبت الماء، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر» . إسناده جيد. وقد ذكر ابن إسحاق بالإسناد: أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، في
__________
(1) تراجع ص (331) من هذا البحث لوجود اختلاف بين الروايتين.(56/342)
الطريق إلى تبوك، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق، ويحك، هل بعد هذا من شيء؟ فقال: سحابة مارة.
3 - ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا في طلبها، ولم يجدوها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة بن حزم الأنصاري وكان عنده: «إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويخبركم خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله لا أعلم، إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، هي في الوادي قد حبسها شجرة بزمامها ". فانطلقوا فجاؤوا بها. فرجع عمارة إلى رحله، فحدثهم عما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر الرجل، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، إنما قال ذلك: زيد بن اللصيت وكان في رحل عمارة، قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد، يجأ في عنقه، ويقول إن في رحلي لداهية، وأنا لا أدري، أخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني» .
4 - وروى الإمام أحمد رحمه الله بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما كان يوم غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر إبلنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.(56/343)
فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم. . فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال لهم: " خذوا في أوعيتكم ".
فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوها، وأكلوا حتى شبعوا. . وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد، غير شاك فيحجب عن الجنة (1) » .
5 - «لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر، وهي ديار قوم صالح عليه السلام: أمر أصحابه ألا يخرجن أحد منهم تلك الليلة، إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره، فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيء. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له ". . ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك،» وفي رواية أن طيئا أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة.
6 - أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه، أنهم سيأتون تبوك غدا، إن شاء الله، وأنهم لن يأتوها حتى يضحى ضحى النهار، وقال لهم: «فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي (2) » قال
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (27) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .
(2) صحيح مسلم كتاب الفضائل (706) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (330) .(56/344)
راوي الحديث وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك- من الكلأ الأخضر- تبض بشيء من ماء. يقول: ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.
7 - كانت تبوك عندما وصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قليلة السكان، وأرضها شبه جرداء، ومياهها قليلة، فجرت مياه عينها، كما في المعجزة رقم (6) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا- يعني ما حوله من أرض تبوك - قد ملئ جنانا (1) » . . وقد أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه، ومالك من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
والذي يزور تبوك الآن يرى حواليه الجنان العديدة الوارفة، والمياه الجارية، والخيرات الزراعية من كل نوع، حتى إن محاصيل المزارع الكبرى في تبوك تدفع بإنتاجها الوفير إلى خارج المملكة، وأوروبا فضلا عن كبريات المدن في المملكة.
وقد كسبت مزارع استرا، وشركة تبوك الزراعية وغيرهما سمعة كبيرة في جودة الفواكه، ووفرة المحاصيل الزراعية وتنوعها، وقد فاقت ما عرف بمثلها في بلاد الشام والبلاد المشهورة بالزراعة وهذا جزء من تحقق إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في معجزاته، وقد يكون في المستقبل ما هو أكثر والعلم عند الله.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الفضائل (706) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (330) .(56/345)
8 - وروى الإمام أحمد بسنده إلى أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " اخرصوا " فخرص القوم، وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة: " أحصي ما يخرج منها حتى أرجع إليك إن شاء الله ". . ثم لما رجع وقال للمرأة التي في وادي القرى: " كم جاءت حديقتك؟ ". قالت: عشرة أوسق. . خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان خرصه صائبا قبل أن يحصد (1) » .
9 - بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك رسالة إلى هرقل عظيم الروم، فلما قرأها أراد الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاور قساوسة الروم وبطارقتها، فأبوا واستكبروا، فاستجاب لهم وأرسل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا مع رجل من تنوخ، عربي اللسان حافظا للحديث، وأوصاه بأن يحفظ عنه ثلاث خصال:
1 - هل يذكر رسالته إلي السابقة؟
2 - إذا قرأ كتابي هل يذكر الليل؟
3 - وانظر في ظهره هل به شيء يريبك؟
فلما وصل وسلم الرسالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضعها في حجره، وقال: «يا أخا تنوخ إني كتبت بكتاب إلى
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1482) ، صحيح مسلم الفضائل (1392) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/425) .(56/346)
كسرى، فمزقها والله ممزقه وممزق ملكه، (1) » وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه ومخرق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة، فأمسكها فلم يزل الناس يجدون منه بأسا، ما دام في العيش خير " فقال التنوخي: هذه واحدة من الثلاث التي أوصاني بها هرقل، ثم كتبها في جنب سيفه، ثم قرئت الصحيفة من هرقل، فإذا فيها: تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين. . فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله أين الليل إذا طلع النهار " فأخذ التنوخي سهما من جعبته، فكتبه في سيفه وقال: هذه الثانية. ثم لما خرج مع مضيفه الأنصاري. . ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تعال يا أخا تنوخ ". فلما أقبل ووقف بمجلسه عليه الصلاة والسلام، ومثل بين يديه صلى الله عليه وسلم، حل النبي حبوته عن ظهره، وقال: " هاهنا امض لما أمرت به ". فجال بنظره في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بخاتم النبوة في موضع غضون الكتف، مثل الحممة الضخمة- أي موضع شديد السواد - رواه أحمد بن حنبل. فقال: هذه الثالثة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/442) .(56/347)
10 - بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة - وكان ملكا عليها ويعتنق النصرانية- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر» . فلما وصل خالد إلى حصنه إذا هو محكم، وهو فيه في ليلة مقمرة، وكان على السطح ومعه امرأته، فجاء بقر الوحش إلى باب قصره، وباتت تحك باب القصر بقرونها، وكان مغرما بالصيد. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ . قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسان. فركب وخرجوا معه يطاردون البقر، فتلقاهم خالد بن الوليد، فأخذوا أكيدر الدومة، وقتلوا أخاه.
وكان على أكيدر قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه. فجعل المسلمون يتعجبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، أحسن من هذا (1) » .
11 - ذكر البيهقي أن رجلا من بني طئ، ويقال له بجير بن بجرة قال في حكاية أكيدر:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2616) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2469) ، سنن الترمذي كتاب اللباس (1723) ، سنن النسائي كتاب الزينة (5302) ، مسند أحمد بن حنبل (3/122) .(56/348)
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «لا يفضض الله فاك» فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.
12 - ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في تبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل- وهو الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره- فلا يروي إلا الراكب والراكبين والثلاثة، في وادي المشقق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه " فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه، فلم ير فيه شيئا. فقال: " من سبقنا إلى هذا الماء ". فقالوا: يا رسول الله، فلان وفلان. فقال: " أولم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه ". ثم لعنهم ودعا عليهم. ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء، كما يقول من سمعه: ماء له حسا (1) كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه» .
13 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وادي المشقق لأصحابه: «لئن بقيتم، أو من بقي منكم ليسمعن بهذا
__________
(1) كذا في الأصل عند ابن إسحاق ولعل الأصح حس بالرفع.(56/349)
الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه» .
وفي هذا نوجه كلمة للمدركين والمهتمين من أهل تبوك: هل وادي المشقق لا يزال باسمه القديم، أم تغير اسمه. . وهل وصله الخصب والنماء والعمران، كما وصل غيره في المنطقة أم لا؟ ؟ ! .
14 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل وهو في غزوة تبوك، عمن يتخلف من الخارجين معه، ويقول: «ما منع أحد أولئك، حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله، امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والأنصار وغفار وأسلم (1) » . وما ذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام يخشى على هؤلاء النفاق، الذي أظهره الله على أهله، في هذه الغزوة، لمكانتهم عنده، ولنصرتهم له عليه الصلاة والسلام.
15 - «تمالأ نفر من المنافقين على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرحوه من رأس العقبة، في الطريق أثناء العودة من تبوك، عندما يجتاز بها عليه الصلاة والسلام، فأطلعه الله على أمرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو من العقبة، ومعه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وجاء ذلك النفر وسلكوها واعترضوا فيها متلثمين، وكان عددهم اثني عشر رجلا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمارا وحذيفة أن يمشيا معه: عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهرهم وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/350) .(56/350)
فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: " هل عرفتهم؟ " قال: لا لأنهم متلثمون وعرفت رواحلهم فقال صلى الله عليه وسلم: " هل علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب " قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه، وسماهم لحذيفة بن اليمان» . . ولذا سمي أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أعلمه بالمنافقين في المدينة كلهم فيما بعد. فكان كبار الصحابة لا يصلون على من توفي إلا إذا رأوا حذيفة صلى عليه، وإن لم يصل عرفوا أنه من المنافقين فلا يصلون عليه.
16 - وعن هؤلاء المنافقين جاء في صحيح مسلم من طريق شعبة حديث منه قوله صلى الله عليه وسلم: «في أصحابي اثنا عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سم الخياط (1) » . وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وسلم عن مرض يصيب ثمانية منهم يموتون منه، بعد معاناة وألم، وهذا عقاب عاجل، كما في حديث قتادة رحمه الله مرفوعا: «إن في أمتي اثنا عشر منافقا، لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم (2) » . وجاء في رواية البيهقي: «إن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (3) » .
17 - إن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يضمره أصحاب مسجد الضرار، حيث جعله أصحابه الذين بنوه، وهم
__________
(1) صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779) ، مسند أحمد بن حنبل (4/320) .
(2) صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779) ، مسند أحمد بن حنبل (5/390) .
(3) صحيح مسلم صفات المنافقين وأحكامهم (2779) ، مسند أحمد بن حنبل (5/391) .(56/351)
اثنا عشر رجلا، وكرا للفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر لتبوك، فلما رجع من تبوك، نزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة- وبعد ما استقر نازلا في هذا المكان، أنزل الله عليه الوحي في شأن هذا المسجد [الآيات 107- 110 من سورة التوبة] .
وسماه الله ضرارا، لأنهم أرادوا المضاهاة لمسجد قباء، وكفرا بالله لا للإيمان، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله، وتفريقا للجماعة عن مسجد قباء.
وبعد أن أطلع الله نبيه على مقاصد أهل هذا المسجد، أرسل عليه الصلاة والسلام رجلين لهدمه، وتحريقه بالنار فحرقاه وتفرق أهله عنه.
18 - وفي هذه الغزوة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صلاة الفجر، أدرك معه الركعة الثانية منها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة، فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يكمل ما فاته من الصلاة أعظم الصحابة ذلك. فقال عليه الصلاة والسلام: " أحسنتم وأصبتم " حسب رواية البخاري رحمه الله. .
19 - وفي غزوة تبوك حصلت قصة الثلاثة الذين خلفوا، وما حصل لهم من بلاء وامتحان مدة خمسين ليلة، وتاب الله(56/352)
عليهم، كما حكى القرآن الكريم ذلك في قوله جل وعلا: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (1) .
20 - وفي غزوة تبوك أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه، بسر هو من معجزات النبوة ففرحوا به لأنه بشارة بانتشار الإسلام، وغلبة المسلمين على الأمم ذات الجاه والسلطان، فقد روى البيهقي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو في تبوك: «هذه الحيرة رفعت لي بقصورها البيضاء، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود» ، قال الصحابي راوي الحديث: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة، فوجدتها كما تصف فهي لي؟ قال: «هي لك» قال: فلما قفلنا من حروب الردة، مع خالد بن الوليد إلى الحيرة، فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلق بها، وقال: هذه وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلب منه خالد البينة، فجاء بشاهدين هما: محمد بن مسلمة، ومحمد بن بشير الأنصاري فدفعها إليه. . ثم اشتراها منه أخوها: عبد المسيح بثمن باهظ. . ولو طلب زيادة لزاده.
فمثل هذه المعجزات التي يسوقها الله سبحانه للأمة، على ألسنة الأنبياء والمرسلين، هي من الله سبحانه تفضل، وجزء من
__________
(1) سورة التوبة الآية 118(56/353)
الوحي الذي يوحيه الله للأمم بواسطة الأنبياء، لإبانة الحق، وإقامة الحجة على المعاند، وللأنبياء على أممهم توضيح من الله عز وجل، وبرهان على أن ما يأتي به النبي أمته، إنما هو من عند الله، وأن النبي لا يعلم إلا ما يعلمه ربه، يقول تعالى موجها نبيه محمدا بأن يقول لأمته: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 188(56/354)
خاتمة:
وبعد فإن هذه المعجزات التي ساقها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك التي محص الله بها القلوب، وثبت الإيمان، وانفضح المرجفون بنفاقهم، الممالئون لأهل الكفر؛ حيث جعل الله في غزوة تبوك مسببات، يتزعزع معها الإيمان الهش، ولا يصمد معها إلا الإيمان الصادق، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (1) .
وهذه المعجزات التي برزت في غزوة تبوك كانت مما زاد الله بها المؤمنين إيمانا وتصديقا وحسن اتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، وملأت قلوب المنافقين حقدا ومعاندة فكانت هذه الغزوة وما نزل فيها من آيات كريمات في سورة التوبة: مجلية للأعمال الخفية، ومبرزة لمكنون الضمائر، ومحبطة لدنيء الأعمال، حيث محص الله القلوب وبرزت النوايا. كما كان من
__________
(1) سورة الرعد الآية 17(56/354)
المعجزات ما يزيد المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في كل عصر إلى أن تقوم الساعة: ثباتا وبرهانا على صدق رسالته، وأنها من عند الله، وأن ما جاء به صدق ووعد حق. . حيث تبرز حقائق هذه المعجزات بين وقت وآخر، ونلمس في عصرنا هذا الشيء الكثير منها، وخاصة في مدينة تبوك رغم بعد المسافة بيننا وبين ذلك الزمن الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، ومعه جيش الحق، الذي أرهب أضعافه المضاعفة من جيش الرومان، ومن يليهم من العرب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله الكريم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي- وذكر منهن- ونصرت بالرعب مسيرة شهر (1) » . والله الهادي سواء السبيل.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (438) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .(56/355)
صفحة فارغة(56/356)
بيان من هيئة كبار العلماء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ 2 \ 4 \ 1419هـ ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظرا إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة للناس، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك نصحا لله ولعباده، وإبراء للذمة وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق:
أولا: التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة.
ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لما يترتب على ذلك من الأحكام(56/357)
الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات؟ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه (1) » . وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة- مثلا- وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به. وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك (2) » . أخطأ من شدة الفرح. والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة.
وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشد؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من منابذتهم، فقال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (3) » . فأفاد قوله: " إلا أن تروا "،
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، سنن أبو داود السنة (4687) ، مسند أحمد بن حنبل (2/105) ، موطأ مالك الجامع (1844) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6309) ، صحيح مسلم التوبة (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (3/213) .
(3) صحيح البخاري الفتن (7056) .(56/358)
أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: " كفرا " أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: " بواحا " أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح أي صريح ظاهر، وأفاد قوله: " عندكم فيه من الله برهان ". أنه لا بد من دليل صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة. وأفاد قوله: " من الله " أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
ثانيا: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفاس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33(56/359)
ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها.
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك، وكان من آخر ما بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا (1) » . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد (2) » . متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (3) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (4) » . وقد توعد الله سبحانه من قتل نفسا معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (5) ، وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (6) فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمدا، فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(5) سورة النساء الآية 93
(6) سورة النساء الآية 92(56/360)
قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة (1) » .
ثالثا: إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وخطورة إطلاق ذلك، لما يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف، وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة، المستمسكين بحبل الله المتين، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (2) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (4) .
والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق، والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف
__________
(1) صحيح البخاري الجزية (3166) ، سنن النسائي القسامة (4750) ، سنن ابن ماجه الديات (2686) ، مسند أحمد بن حنبل (2/186) .
(2) سورة البقرة الآية 204
(3) سورة البقرة الآية 205
(4) سورة البقرة الآية 206(56/361)
والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة ". قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم " وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (7) » ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكف البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان وأن ينصر بهم الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(7) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(56/362)
الحث على العناية بكتاب الله وتعلمه
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإني أشكر الله سبحانه على هذا اللقاء بأبنائي الكرام، على تعلم القرآن الكريم وحفظه، والدعوة إليه والعمل به. ولا ريب أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، أوحاه إلى عبده ورسوله وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وفيه الحجة على جميع عباده، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (2) ،
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة الإسراء الآية 9(56/363)
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (3) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (4) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (5) ، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (6) ، وقال عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (7) .
فالواجب على جميع المكلفين العمل بهذا الكتاب، والسير على توجيهه وما بين الله فيه سبحانه، والحذر من مخالفة ذلك. كما يجب عليهم أيضا العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (8) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (9) ، وأخبر سبحانه أنه أرسله إلى جميع الناس، جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (10) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 44
(2) سورة الشعراء الآية 192
(3) سورة الشعراء الآية 193
(4) سورة الشعراء الآية 194
(5) سورة الشعراء الآية 195
(6) سورة ص الآية 29
(7) سورة الأنعام الآية 155
(8) سورة النور الآية 54
(9) سورة الحشر الآية 7
(10) سورة الأعراف الآية 158(56/364)
فالهداية باتباعه صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء في كتاب الله عز وجل، فقد قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) . وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «بعثت إلى الناس عامة (3) » فالواجب على جميع المكلفين التمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. وفي حديث آخر: «وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله عز وجل، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به (4) » .
والله خلق الخلق ليعبدوه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) ، وأمرهم بذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (6) ، وأرسل رسله بذلك، قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (7) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) رواه البخاري في (التيمم) برقم (323) .
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) برقم (18464) ، ومسلم في (كتاب فضائل الصحابة) برقم (4425) .
(5) سورة الذاريات الآية 56
(6) سورة البقرة الآية 21
(7) سورة النحل الآية 36(56/365)
وهذه العبادة هي طاعة الله، وهي توحيد الله، وهي تقوى الله، وهي البر والهدى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) ، فلا بد من تعلم هذه العبادة والتبصر فيها، وهي دين الإسلام، فأنت مخلوق للعبادة، فعليك أيها الرجل وعليك أيتها المرأة عليكما جميعا أن تتعلما هذه العبادة، وأن تعرفاها جيدا، حتى تؤدياها على بصيرة، وهذه العبادة هي دين الإسلام، وهي الحق والهدى، وهي تقوى الله، وتوحيد الله، وطاعته، واتباع شريعته. هذه هي العبادة التي أنت مخلوق لها. سمى الله دينه عبادة؛ لأن العبد يؤديها في الدنيا بخضوع لله وانكسار، فدين الإسلام كله عبادة وتقوى لله، والصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والجهاد عبادة، وهكذا جميع ما فرض الله علينا عبادة تؤدى لله وطاعة لله. فهذا الدين العظيم دين الإسلام، هو العبادة التي أنت مخلوق لها، وهي التقوى، وهي البر والهدى؛ فالواجب على جميع الثقلين، جنهم وإنسهم، ذكورهم وإناثهم، أن يتقوا الله، وأن يعبدوه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه، والإخلاص له، وعدم عبادة سواه. فيجب على كل مكلف أن يصرف عبادته لله وحده، وهذا معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، كما قال تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (2) ، وقال جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (3) ،
__________
(1) سورة النجم الآية 23
(2) سورة الحج الآية 62
(3) سورة البقرة الآية 163(56/366)
وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1) فهذا معنى لا إله إلا الله، والإله هو الذي تألهه القلوب وتعظمه بأنواع العبادة، ولا يستحق ذلك إلا الله وحده، ولا تصح العبادة لغيره؛ فيجب على أهل الأرض، الجن، والإنس، وجميع المكلفين، من ذكور وإناث، من عرب وعجم، يجب على الجميع أن يعبدوا الله، وأن يتقوه، وأن يطيعوا أوامره، وأن ينتهوا عن نواهيه، وأن يقفوا عند حدوده عن إخلاص وصدق ورغبة ورهبة؛ لأنهم خلقوا لهذه العبادة، وخلقوا ليتقوه ويطيعوه، وخلقوا لدين الإسلام الذي هو عبادة الله، وأمروا بذلك، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
هذا الإسلام الذي رضيه الله لنا، ولن يقبل منا سواه، هو عبادة الله، وتوحيد الله، وطاعته، واتباع شريعته: قولا وعملا وعقيدة، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (5) ولا سبيل إلى هذا العلم ومعرفة هذه العبادة إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 85
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة آل عمران الآية 19(56/367)
والدراسة، حتى تعلم دين الله الذي خلقت له، وهو دين الإسلام وتوحيد الله وطاعته؛ فيجب التعلم والتفقه والعناية بالقرآن الكريم والسنة، حتى تعلم هذه العبادة التي أنت مخلوق لها، وحتى تقوم بذلك، وتعمل بذلك عن إخلاص لله ومحبة لله، وعن تعظيم لله في جميع الأحوال، يجب أن تستقيم على توحيده، وطاعته، واتباع شريعته، وترك ما نهى عنه، أبدا أبدا، وأينما كنت، حتى تموت على ذلك، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1) ، أي: الموت، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) ، هذه هي العبادة التي أنت مخلوق لها، تقوى الله، والاعتصام بحبله، والاستقامة على دينه. ومن وسائلها أن تعنى بكتاب الله، وأن تدرس كتاب الله، وأن تتفقه فيه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » متفق على صحته.
وأنا أهنئ القائمين على مدارس الجيل لعنايتهم بكتاب
__________
(1) سورة الحجر الآية 99
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) رواه البخاري في (كتاب العلم) برقم (69) ، ومسلم في (الزكاة) برقم (1719) ، واللفظ متفق عليه.(56/368)
الله، وإني أشكرهم على ما يقومون به نحو تعظيم كتاب الله، وتعليمه للأجيال، فإن هذا هو طريق السعادة لمن استقام على ذلك، وأخلص في ذلك. نسأل الله أن يعينهم على ما فيه رضاه، وعلى ما فيه سعادتهم، وما فيه توفيقهم للفقه في الدين.
وإنني أهيب بجميع الدارسين والمدرسين إلى أن يعنوا بكتاب الله: أستاذا وطالبا وموظفا، وأنصح الجميع أن يعنوا بكتاب الله: تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا وحفظا، ففي كتاب الله الهدى والنور، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) ، وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) . فهذا الكتاب العظيم فيه الهدى والنور، وكل حرف بحسنة، وكل من تعلم حرفا فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
وأوصي الجميع بالعناية بكتاب الله عز وجل: دراسة وتلاوة وتدبرا وحرصا على معرفة المعنى وعملا بذلك، مع الحفظ لما تيسر من كتاب الله. وهو أعظم كتاب، وأصدق كتاب، فقد أنزله الله رحمة للناس وشفاء لما في الصدور، وجعل الرسول أيضا رحمة للعالمين، وهداية للبشر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) ،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة يونس الآية 57(56/369)
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) . فيجب أن نتعلم هذا الكتاب، ونتفقه فيه، حتى نعلم ما خلقنا له؛ فنعلم العبادة التي خلقنا لهذا، حتى نستقيم عليها. وهكذا السنة، سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، نتعلمها ونحفظها ونتفقه فيها، ونسأل عما أشكل علينا، والطالب يسأل عما أشكل عليه من كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) فتعلم كتاب الله من أعظم نعم الله، فهنيئا لكل طالب يعنى بكتاب الله: تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا، وهذه نعمة عظيمة.
وإني أوصيكم بالاستقامة على هذا الخير العظيم، وسؤال الله التوفيق، والإخلاص في ذلك لله عز وجل، والعناية بالتفقه في كتاب الله، والتفقه في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العمل بأداء فرائض الله، وترك محارم الله، والمسارعة إلى كل خير، والحذر من كل شر، مع الإكثار من تلاوة كتاب الله، ومدارسته والتفقه فيه، ومراجعة كتب التفسير المفيدة، كتفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، وغيرهم؛ لمعرفة الحق، ولمعرفة ما أشكل عليكم.
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة النحل الآية 43(56/370)
وينبغي للطالب أن يسأل أستاذه عما أشكل عليه عن قصد صالح ورغبة؛ كي يتفقه في كتاب الله. وعلى الأستاذ أن يعنى بذلك للتلاميذ، من جهة توجيههم وتعليم الخير والعمل، وأن يكونوا شبابا صالحين، يتعلمون ويعلمون ويسارعون إلى كل خير. فأهم شيء بعد الشهادتين هو أداء الصلوات الخمس، والمحافظة عليها في مساجد الله في الجماعة. ويجب على أهل العلم أن يكونوا قدوة في ذلك- العالم وطالب العلم- يجب أن يكونوا قدوة، وأن يكونوا مسارعين إلى أدائها في الجماعة، حتى يتأسى بهم غيرهم ويحتذي حذوهم في ذلك.
فالعلماء ورثة الأنبياء، وعلى رأسهم الرسل عليهم أفضل الصلاة والتسليم. والعلماء بعد الرسل هم خلفاؤهم، يدعون إلى الله بالقول والعمل والسيرة. والطلبة كذلك- طلبة العلم- يجب عليهم أن يعلموا ويعملوا، وأن يكونوا قدوة لغيرهم، وأن تظهر عليهم آثار العلم والتعلم والتفقه في دين الله، وفي كتاب الله.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يمنحنا جميعا الفقه في الدين، وأن يرزقنا العناية بكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والعمل بهما، والدعوة إليهما، والتواصي بهما: قولا وعملا وعقيدة وتفقها، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، ومن نزغات الشيطان. كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق حكام المسلمين وأمراءهم لما فيه رضاه، ويصلح أحوالهم، ويمنحهم الاستقامة(56/371)
على دينه، وتحكيم شريعته. كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في المملكة العربية السعودية لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأتباعه إلى يوم الدين.(56/372)
بيان من الديوان الملكي
صدر بيان من الديوان الملكي ينعى سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. وفيما يلي نص البيان:
انتقل إلى رحمة الله تعالى صباح اليوم الخميس الموافق 27 محرم 1420هـ سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي عن عمر يناهز تسعة وثمانين عاما إثر مرض ألم به، وسيصلى على سماحته حاضرا في الحرم المكي الشريف غدا بعد صلاة الجمعة، وقد وجه خادم الحرمين الشريفين حفظه الله بأن تقام عليه صلاة الغائب أيضا في المسجد النبوي الشريف وجميع مساجد المملكة غدا بعد صلاة الجمعة، إن شاء الله.
وقد خسر المسلمون بوفاة سماحته خسارة كبيرة، حيث فقدوا بفقده عالما جليلا كرس كل حياته في سبيل العلم وخدمة الإسلام والمسلمين على اختلاف أوطانهم في جميع أنحاء المعمورة.
وإن خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو(56/373)
النائب الثاني إذ يعزون أسرة الفقيد والشعب السعودي والعالم الإسلامي بوفاته ليسألون الله جل وعلا أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جنته وينزله منازل الشهداء، إنه سميع مجيب.
والحمد لله على قضائه وقدره. إنا لله وإنا إليه راجعون.(56/374)
أمر ملكي بتعيين فضيلة الشيخ
عبد العزيز آل الشيخ مفتيا عاما للمملكة
صدر أمر ملكي فيما يلي نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الرقم أ \ 20
التاريخ 29 \ 1 \ 1420 هـ
بعون الله تعالى، نحن فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية.
بعد الاطلاع على المادتين 45 و 58 من النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي رقم 1 \ 90 وتاريخ 27 \ 8 \ 1412هـ.
وبعد الإطلاع على المادة الأولى من نظام الوزراء ونواب الوزراء وموظفي المرتبة الممتازة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م \ 10 وتاريخ 18 \ 3 \ 1391 هـ.
وبعد الإطلاع على الأمر- الملكي رقم 1 \ 4 وتاريخ 20 \ 1 \ 1414 هـ.
وبعد الإطلاع على الأمر الملكي رقم 1 \ 14 وتاريخ 3 \ 3 \ 1414 هـ.(56/375)
أمرنا بما هو آت:
أولا: يعين فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية ورئيسا لهيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء بمرتبة وزير.
ثانيا: يرأس فضيلته أو من ينيبه دورات انعقاد هيئة كبار العلماء وفقا لما تضمنه الأمر الملكي رقم 1 \ 4 وتاريخ 20 \ 1 \ 1414 هـ.
ثالثا: يبلغ أمرنا هذا للجهات المختصة لاعتماده وتنفيذه.
فهد بن عبد العزيز(56/376)
سماحة المفتي في سطور
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي صدر أمر خادم الحرمين الشريفين بتعيينه مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية ورئيسا لهيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء برتبة وزير- هو من مواليد مكة المكرمة بتاريخ 3 \ 12 \ 1362 هـ.
توفي والده وهو صغير لم يتجاوز الثامنة من عمره في عام 1370 هـ، وحفظ القرآن صغيرا في عام 1373 هـ على يد الشيخ محمد بن سنان، وقرأ على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية كتاب التوحيد والأصول الثلاثة والأربعين النووية وذلك من عام 1374 هـ حتى عام 1380هـ، كما قرأ على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء الفرائض في عام 1377 هـ وعام 1380 هـ، وقرأ على الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشد رحمه الله الفرائض والنحو والتوحيد وذلك في عام 1379 كل، وفي عام 1375 هـ(56/377)
و1376 هـ قرأ على الشيخ عبد العزيز الشثري عمدة الأحكام وزاد المستقنع، وفي عام 1374 هـ التحق بمعهد إمام الدعوة العلمي بالرياض، ثم تخرج منه والتحق بكلية الشريعة بالرياض في عام 1380 هـ وحصل على شهادة الليسانس في العلوم الشرعية واللغة العربية منها وذلك في العام الجامعي 1383 \ 1384 هـ، ثم عين مدرسا في معهد إمام الدعوة العلمي بالرياض من عام 1384 هـ حتى 1392 هـ، وانتقل إلى كلية الشريعة بالرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حيث كان يعمل أستاذا مشاركا فيها، وبالإضافة إلى التدريس بها يقوم بالإشراف والمناقشة لرسائل الماجستير والدكتوراه في كل من كلية الشريعة، وأصول الدين، والمعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكلية الشريعة التابعة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة، بالإضافة إلى التدريس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض، والعضوية والمشاركة بالمجالس العلمية بالجامعة، وفي شهر شوال عام 1407هـ عين عضوا في هيئة كبار العلماء، وقد تولى سماحته الإمامة والخطابة في جامع الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة بالرياض بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وذلك في عام 1389 هـ، وفي شهر رمضان عام 1390 هـ عين خطيبا في الجامع الكبير بالرياض، وفي عام 1402هـ عين إماما وخطيبا بمسجد نمرة بعرفة، وفي(56/378)
شهر رمضان عام 1412هـ عين إماما وخطيبا بجامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض. ولسماحته حضور مميز في المحافل العلمية، إضافة إلى المشاركة في الندوات وإلقاء المحاضرات والدروس، وكذلك المشاركة في البرامج الدينية في الإذاعة والتلفاز.
ولسماحة الشيخ أربعة أبناء هم: عبد الله ويحضر رسالة الدكتوراه في المعهد العالي للقضاء، ومحمد ويدرس في المستوى السابع في كلية أصول الدين، وعمر ويدرس في السنة الثانية الثانوية، وعبد الرحمن ويدرس في السنة الثانية المتوسطة.
ومن الصفات التي اتصف بها سماحة الشيخ عبد العزيز النشأة الصالحة منذ الصغر والورع والتقوى والإخلاص والنصح لولاة الأمر ولعموم المسلمين ومحبة الناس والعطف عليهم وبخاصة طلاب العلم.
أما التدرج الوظيفي فقد كان على النحو التالي:
1 - مدس بمعهد إمام الدعوة العلمي في 1 \ 7 \ 1384 هـ.
2 - أستاذ مساعد بكلية الشريعة في 7 \ 5 \ 1399 هـ.
3 - أستاذ مشارك بكلية الشريعة في 13 \ 11 \ 1400هـ.
4 - انتقل من الجامعة بتاريخ 15 \ 7 \ 1412هـ لتعيينه عضوا للإفتاء في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء بالقرار رقم(56/379)
1 \ 76 وتاريخ 15 \ 7 \ 1412هـ.
5 - صدر الأمر الملكي رقم 838 وتاريخ 25 \ 8 \ 1416 هـ بتعيينه نائبا للمفتي العام.
وبعد وفاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله صدر أمر ملكي برقم أ \ 20 وتاريخ 29 \ 1 \ 1420 هـ بتعيينه مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية ورئيسا لهيئة كبار العلماء والبحوث العلمية والإفتاء.
وعن تعاونه المستمر مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فقد استمرت علاقته العلمية مع الجامعة بعد أن انتقل منها، وذلك من خلال التدريس في المعهد العالي للقضاء، والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه في المعهد العالي للقضاء وكلية الشريعة وكلية أصول الدين، والاشتراك في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، وكانت آخر رسالة دكتوراه ناقشها في كلية أصول الدين يوم الأربعاء 26 \ 1 \ 1420 هـ.(56/380)
حديث شريف
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله (1) » .
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(56/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1)
(سورة الرعد، الآية 41)
__________
(1) سورة الرعد الآية 41(57/1)
الشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(57/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(57/3)
المحتويات
الافتتاحية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
بحث اللجنة
الخمر والكلونيا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 15
الفتاوى
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 77
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (يرحمه الله) 109
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 153(57/4)
البحوث
عبد العزيز بن باز - عالم فقدته الأمة للدكتور / محمد بن سعد الشويعر 175
الصور التي ينقض فيها الحاكم النكاح بين الزوجين للدكتور / عبده بن عبد الله الأهدل 203
الشك في عدد الركعات في الصلاة للدكتور / عبد العزيز بن محمد الربيش 243
حكم الكلام وما شابهه في الصلاة للدكتور / عبد السلام بن سالم السحيمي 287
زيادة الجلد في التعزير على المقدر في جرائم الحدود للدكتور / محمد بن سليمان بن عثمان المنيعي 341(57/5)
صفحة فارغة(57/6)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
في هذا العدد المبارك وهو العدد " 57 " من مجلة البحوث الإسلامية أفتتح أيها القراء الكرام كلمتي هذه مشيرا إلى أن هذا العدد أول عدد يخلو من افتتاحية سلفي سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، التي تعودنا الاطلاع عليها في كل عدد يصدر من هذه المجلة المفيدة، وهي من حسنات سماحته التي افتقدناها بعد رحيله من هذه الدنيا، رحمه الله رحمة واسعة، وجعل جنة الفردوس مثواه، ولا شك أن رحيل شيخنا عنا وفقدنا لمآثر سماحته وعلمه مصيبة عظيمة، وخطب جلل، يحزن له القلب، وتدمع له العين، وتتحسر النفوس لأفول شمس العلوم، وسحائب الخير والكرم، وليس ذلك اعتراضا على قدر الله، ولا تسخطا من قضاء الله - حاشا والله - وإنما لأجل محبته التي تمكنت من القلوب، ولفقد عالم من علماء الإسلام الكبار، ولكننا نسلي أنفسنا ونعزيها بالصبر(57/7)
والاحتساب؛ طمعا في ثواب الله ورجاء ما أعده للصابرين عندما نتذكر قول الله جل وعلا: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) ، وليس المقصود من كلمتي هذه التحدث عن مآثر سماحته الطيبة، وسيرته العطرة، وجهاده ومصابرته في سبيل نصرة دين الله، وأداء واجبه رحمه الله، فذلك أمر واضح جلي لمسه وعايشه كل فرد في هذه المملكة الطيبة، بل أدرك ذلك واستفاد منه كل من هو خارج المملكة من أرجاء المعمورة.
ولقد تحدثت الصحف والمجلات والدوريات عن فضائل سماحته وأخلاقه وسيرة حياته منذ ولادته إلى أن لقي ربه نثرا وشعرا، فنرجو الله لنا وله ولجميع المسلمين المغفرة والرضوان والفوز بالجنان.
ولكن المقصود من كلمتي في هذا العدد أن نقتبس من سيرة ذلك العالم الرباني الفاضل التي سار عليها في حياته؛ تلكم السيرة العطرة التي استمدها من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده رضوان الله عنهم أجمعين.
لقد كان شيخنا الفاضل رحمه الله متخلقا بأخلاق العلماء الصادقين العاملين، متصفا بصفات السلف الصالح، متأدبا بآداب النبوة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157(57/8)
فإن نظرت إلى تطبيقه للسنة وجدته متحريا لها في كل أعماله وفي جميع أحواله، وظهر لك ذلك جليا في تعبده لربه وفي صلواته، فقد كان رحمه الله يحرص أشد الحرص على تطبيق السنة في صلاته، صلاة يتعلم منها المشاهد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.
وإن نظرت إلى حلمه على الجاهل، ولين جانبه معه، ورفقه به، رأيت آثار السنة ظاهرة عليه في ذلك، فهو يتحمل الناس على اختلاف طبقاتهم، وتنوع طبائعهم، يحلم على الجاهل، ويصغي إلى كلامه في تواضع واحترام، ويفتيه ويرشده بأسلوب يتناسب مع فهمه ومستواه، فيستفيد ذلك المستفتي ما يهمه من أمور دينه ودنياه، ويخرج من جهله بما وضح له من أحكام الشريعة دون تعصب أو استعلاء، وإن نظرت إلى رحمته للفقراء والمساكين وإحسانه للمحتاجين والضعفاء والرأفة بحالهم والشفاعة لهم، رأيت العجب العجاب، فله في ذلك قصب السبق، وهو البطل المغوار والفارس الذي لا يشق له غبار، فهو أبو المساكين والوالد الحنون للضعفاء والمنكسرين، الرحيم بالفقراء والمشفق عليهم، فكم أحسن إليهم ومد يد المساعدة لهم، وكم شفع لمن ألمت بهم الملمات ونزلت بهم الكربات، متمثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء (1) » .
وإن نظرت إلى سعة علمه وبذله لعلمه، رأيت ما يعجز القلم عن وصفه، فقد كان رحمه الله شديد الحرص على اغتنام
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1432) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/400) .(57/9)
كل فرصة لتعليم الناس ما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم، وتنبيههم وتحذيرهم عما يضرهم في أمور دينهم، أو يقدح في عقيدتهم الصافية من البدع والشركيات، فهو باذل لعلمه في كل أوقاته، ما بين مستفت يستفتيه، وما بين قارئ يقرأ عليه، وما بين مستمع له في محاضرة، أو ندوة علمية، وما بين سائل يسأله بالهاتف، أو بواسطة وسائل الإعلام؛ فقمع الله به البدعة، وأحيا به السنة رحمه الله.
وإن نظرت إلى محبته للسنة النبوية المطهرة وتعظيمه لها، رأيت أمرا عظيما، فكتب السنة تقرأ عليه صباحا ومساء، ولا سيما كتاب الصحيحين - أي صحيح البخاري وصحيح مسلم رحمهما الله - فله في كل يوم قراءة في متون هذين الصحيحين وشروحهما ترداد لهما، فهو رحمه الله يحبهما؛ لما يعلمه من ثبوت صحتهما، وعلو إسنادهما، فتراه يحب سماعهما، ويعلق عليهما، ويراجعهما، حفظا لرجال سندهما، وحفظا لمتونهما. فرحمه الله وعفا عنه.
وإن رأيت محبته لكتب السلف الصالح من كتب التفسير والفقه والعقيدة وسائر كتب السنة؛ رأيت الأمر العظيم، والجلد الذي ليس له نظير، فهو يحب تفسير ابن كثير، فله قراءة متتابعة فيه، كما أنه رحمه الله تقرأ عليه كتب السنة، من سنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وغيرها، وكتب الرجال في الحديث في مجالسه، سواء كان ذلك في بيته، أو في الدروس التي يلقيها في المساجد، فيعلق عليها ويصحح ما قد يرد من(57/10)
أخطاء فيها، أو في كتب التفسير أو كتب الفقه أو العقيدة أو الأحكام، فيصحح الخطأ، ويبين الراجح من الأقوال من حفظه وذاكرته رحمه الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) ولذلك كانت مجالسه رحمه الله حلق ذكر ومجالس علم، تفقه الناس من حضورهم لها، واستفادوا منها، فأقبل الناس على مجالسه وأحبوها. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يخلفوا دينارا ولا درهما، وإنما خلفوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر (2) » .
وإن بحثت عن تواضعه وخفض جناحه لأهل العلم والفضل وغيرهم رأيت ذلك واضحا في إصغائه لمن يكلمه مهما كانت منزلته، وعدم فحشه في القول، فلا تكاد تسمع منه كلمة بذيئة، أو تضجر من أحد، فليس فاحشا في قوله، ولا في عمله، وإن بدا من أحد جفاء له أو أمر لا يعجبه أو أضجره بعض من لا بصيرة عنده، فإنه يكثر من التسبيح والتكبير والتحميد، ويقول لمن جهل عليه: سبح يا أخي، استغفر الله يا أخي، أو يقول: هداك الله. هكذا يرد على الجاهل والجافي بأدب واحترام دون انتصاف لنفسه؛ عملا بقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (3) .
وهكذا يتخلص من تلك المواقف المحرجة بالالتجاء إلى الله وتعظيمه والثناء عليه. فحياة
__________
(1) سورة البقرة الآية 269
(2) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .
(3) سورة فصلت الآية 34(57/11)
هذا الرجل العظيم حياة خير وطاعة لله. قضى عمره متعلما ومعلما وموجها، فرحمه الله رحمة واسعة، وغفر لنا وله ولجميع المسلمين، واستبقانا وإياكم بعده لعمل صالح وخاتمة حسنة.
ولذا فإنني أوجه كلمتي لطلاب العلم أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يعلموا أن هذه الحياة منقضية ولا بد، وأن الله سائل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فليكن لطلبة العلم خاصة وللمسلمين عامة تميز في أخلاقهم وأعمالهم كما شرع الله، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته من بعده رضي الله عنهم، وليأخذوا من سيرة علماء الأمة العالمين بكتاب الله وسنة رسوله العاملين بهما، ليأخذوا من سيرتهم منهجا يسيرون عليه في حياتهم، لكي يؤدوا واجب العلم والأمانة التي ائتمنهم الله عليها. فإن واجب العلم عظيم على حملته، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
فيا أهل العلم اتقوا الله في علمكم، وكونوا قدوة صالحة لغيركم، بما تؤدونه من واجب العلم، بالعمل بهذا العلم على بصيرة وإخلاص لله سبحانه وتعالى، ودعوة الناس إلى الخير، وتبصير الناس بما يهمهم في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 174(57/12)
أمور دينهم ودنياهم، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، والتأسي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسلفنا الصالح، كما أوصيكم بالحلم على الجاهل والرفق به، وخفض الجناح لكل من سألكم وبذل المعروف له، والشفاعة في كل خير يوصل الأمة إلى صلاحها وعزتها في دينها ودنياها. وأسأل الله أن يوفق الجميع إلى ما يرضيه ويقرب إليه.
إخواني القراء الأعزاء، إن مجلة البحوث الإسلامية وهي دائما تزخر بافتتاحية من شيخنا الفاضل الراحل في موضوعات هامة وفتاوى متنوعة تحملها المجلة في طياتها، لأمر عظيم وخير كثير وعلم نافع، نسأل الله أن يجزيه عن ذلك أحسن الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته يوم لقاه، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيرا، فإن لطلاب العلم إذا عملوا بعلمهم وأخلصوا النية لله فإن الله ينفع بعلمهم وينفعهم علمهم، حيث يمتد لهم ثواب علمهم في حياتهم وبعد موتهم، فقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » .
وإنني أبشر القراء الكرام المتابعين لهذه المجلة "مجلة البحوث الإسلامية" بأنها ستسير على ما كانت عليه في السابق إن شاء الله، وذلك من حيث صدورها كل أربعة أشهر، ومن حيث اشتمالها على الموضوعات المفيدة، والبحوث العلمية القيمة، والفتاوى النافعة التي يشارك فيها طلبة العلم جزاهم الله أحسن
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(57/13)
الجزاء ونفع بعلمهم.
وختاما أسأل الله للجميع التوفيق والسداد والإعانة على كل خير، وأن يختم لنا ولكم جميعا بخاتمة حميدة، وأن يجعل أفضل أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقى الله فيه وهو عنا راض غير غضبان، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(57/14)
الخمر والكلونيا
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة التاسعة لهيئة كبار العلماء من إدراج موضوع الخمر والكلونيا، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي:
أولا: تعريف الخمر لغة وشرعا
ثانيا: عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين.
ثالثا: خلاف العلماء في أن العقوبة في شرب الخمر هل هي حد أو تعزير؟ مع بيان ما يترتب على ذلك.
رابعا: هل تجوز تجزئة عقوبة شارب الخمر؟
خامسا: ما يثبت به شربها، من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك.
سادسا: حكم من تكرر منه شربها " القتل أو الجلد ".
سابعا: نجاستها.
ثامنا: هل ينطبق على الكلونيا تعريف الخمر أو لا؟
وما حكم شربها واستعمالها على كل من التقديرين؟
وهل يحكم بنجاستها على تقدير أنها خمر أو لا؟(57/15)
أولا: معنى الخمر لغة وشرعا:
1 - المعنى اللغوي: ترجع مشتقات هذه المادة إلى التغطية والستر والإدراك، ذكره أحمد بن فارس بن زكريا وابن الأثير والفيروزآبادي وغير هؤلاء من علماء اللغة.
أ - قال أحمد بن فارس: الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر، فالخمر الشراب المعروف. قال الخليل: الخمر معروفة واختمارها إدراكها وغليانها. . . ويقولون: دخل في خمار الناس وخمرهم أي زحمتهم. . . . والتخمير التغطية. ويقال في القوم إذا تواروا في خمر الشجر: قد أخمروا. . . . ويقال: خامره الداء إذا خالط جوفه (1) انتهى المقصود منه.
ب - قال ابن الأثير تحت مادة " خمر ": فيه «خمروا الإناء وأوكئوا السقاء (2) » التخمير التغطية، ومنه حديث أويس القرني " أكون في خمار الناس " أي في زحمتهم حيث أخفى ولا أعرف. وفيه حديث أم سلمة قال لها وهي حائض: «ناوليني الخمرة» وسميت خمرة؛ لأن خيوطها مستورة بسعفها، وفيه: أنه كان يمسح على الخف والخمار، أراد به العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه، كما أن المرأة تغطيه بخمارها، وذلك إذا كان قد اعتم عمة العرب، فأدارها تحت الحنك فلا يستطيع نزعها كل وقت. . . . إلخ (3) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 2 \ 215.
(2) صحيح البخاري الأشربة (5623) ، صحيح مسلم الأشربة (2012) ، سنن الترمذي الأطعمة (1812) ، سنن أبو داود الصيد (2857) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3410) ، مسند أحمد بن حنبل (3/386) ، موطأ مالك الجامع (1727) .
(3) النهاية 1 \ 355.(57/16)
ج - قال الفيروزآبادي تحت مادة " الخمر ": ما أسكر من عصير العنب أو عام، كالخمرة. وقد يذكر، والعموم أصح؛ لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر. سميت خمرا؛ لأنها تخمر العقل وتستره، أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت، أو لأنها تخامر العقل، أي تخالطه (1) انتهى المقصود منه.
وجاء هذا المعنى في لسان العرب (2) .
2 - تعريفها اصطلاحا: نذكر فيما يلي تعريفها في المذاهب الأربعة مرتبة:
أ - تعريفها عند الحنفية: قال الزيلعي: هي التي من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد.
وقال بعضهم: كل مسكر خمر؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام (3) » رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
وفي لفظ: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4) » رواه مسلم.
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة (5) » رواه مسلم وأبو داود والترمذي وجماعة.
__________
(1) القاموس 2 \ 23.
(2) لسان العرب 5 \ 338 وما بعدها.
(3) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (1985) ، سنن الترمذي الأشربة (1875) ، سنن النسائي الأشربة (5572) ، سنن أبو داود الأشربة (3678) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3378) ، مسند أحمد بن حنبل (2/526) ، سنن الدارمي الأشربة (2096) .(57/17)
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن العسل خمرا (1) » رواه أبو داود والترمذي وجماعة أخر؛ ولأنها سميت خمرا لمخامرتها العقل، والسكر يوجد بشرب غيرها فكان خمرا. ولنا أن الخمر حقيقة اسم للنيء من ماء العنب المسكر باتفاق أهل اللغة، وغيره يسمى مثلثا أو باذقا إلى غير ذلك من أسمائه، وتسمية غيرها خمرا مجازا، وعليه يحمل الحديث، أو على بيان الحكم إن ثبت؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث له لا لبيان الحقائق.
ولا نسلم أنها سميت خمرا لمخامرتها العقل، بل لتخمرها، ولئن سلمنا أنها سميت بالخمر لمخامرتها العقل لا يلزم منه أن يسمى غيرها بالخمر قياسا عليها؛ لأن القياس لإثبات الأسماء اللغوية باطل، وإنما هو لتعدي الحكم الشرعي. . . . ألا ترى أن البرج سمي برجا لتبرجه وهو الظهور، وكذا النجم سمي نجما لظهوره، ثم لا يسمى كل ظاهر برجا ولا نجما. . .
وما ذكره في المختصر من تعريف الخمر هو قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط فيه القذف بالزبد؛ لأن اللذة المطربة والقوة المسكرة تحصل به، وهو المؤثر في إيقاع العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما القذف بالزبد فهو وصف لا تأثير له في إحداث صفة السكر. وله أن الغليان بداية الشدة، وكماله بقذف الزبدة؛ لأنه يتميز به الصافي عن الكدر، وأحكام الشرع المتعلقة بها قطعية كالحد وإكفار
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1872) ، سنن أبو داود الأشربة (3676) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3379) .(57/18)
مستحلها ونحو ذلك، فتناط بالنهاية به.
وقيل: يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد، وفي وجوب الحد على الشارب بقذف الزبد احتياطا (1) .
ب - تعريفها عند المالكية:
أ - في المدونة: قلت لابن القاسم: هل كان مالك يكره المسكر من النبيذ؟ قال: قال مالك: ما أسكر من الأشربة كلها فهو خمر (2) انتهى المقصود.
2 - وقال الزرقاني: وهي ما خامر العقل، كما خطب بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحضرة الصحابة الأكابر ولم ينكره أحد، فشمل كل مسكر. سميت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، كخمار المرأة؛ لأنه يغطي رأسها، ويقال للشجر الملتف: الخمر؛ لأنه يغطي ما تحته، أو لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: خمر الرأي واختمر، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه، واختمر الخبز إذا بلغ إدراكه. أو لأنها اشتقت من المخامرة التي هي المخالطة؛ لأنها تخالط العقل، وهذا قريب من الأول والثلاثة موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار وهي مخالطة للعقل، وربما غلت عليه وغطته. قاله أبو عمر (3) .
__________
(1) انظر كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي، وبهامشه حاشية الشبلي 6 \ 44.
(2) المدونة 4 \ 410.
(3) الزرقاني على الموطأ 4 \ 169.(57/19)
ج - تعريفها عند الشافعية:
قال المزني: قال الشافعي: كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام (1) . انتهى المقصود.
وقال الرملي: وحقيقة الخمر المسكر من عصر العنب وإن لم يقذف بالزبد، وتحريم غيرها بنصوص دلت على ذلك (2) .
د - تعريفها عند الحنابلة:
قال ابن قدامة: كل مسكر حرام قليله وكثيره، وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه (3) انتهى المقصود.
قال شيخ الإسلام: والخمرة التي حرمها الله ورسوله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها: كل شراب مسكر من أي أصل كان، سواء كان من الثمار كالعنب والرطب والتين، أو الحبوب كالحنطة والشعير، أو الطلول كالعسل، أو الحيوان كلبن الخيل. بل لما أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر لم يكن عندهم في المدينة من خمر العنب شيء؛ لأنه لم يكن في المدينة شجر عنب، وإنما كانت تجلب من الشام، وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر، وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمر (4) .
__________
(1) مختصر المزني مع الأم 5 \ 174، والمهذب للشيرازي 2 \ 286.
(2) نهاية المحتاج 8 \ 11.
(3) المغني 9 \ 139.
(4) السياسة الشرعية ص 50.(57/20)
ثانيا: عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين:
1 - روى البخاري في الصحيح بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «ضرب في الخمر بالجريد والنعال (1) » ، وجلد أبو بكر أربعين.
وذكر ابن حجر أن هذا الحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق جعفر بن محمد القلانسي عن آدم شيخ البخاري فيه بلفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر، فضربه بجريدتين نحوا من أربعين، ثم صنع أبو بكر مثل ذلك، فلما كان عمر استشار الناس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، ففعله عمر (2) » . ولفظ رواية خالد التي ذكرتها (3) إلى قوله: " نحوا من أربعين "، وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة مثل رواية آدم، إلا أنه قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر - أي في خلافته - استشار الناس، فقال عبد الرحمن - يعني ابن عوف - أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر. وأخرج النسائي من طريق يزيد بن هارون عن شعبة: «فضربه بالنعال نحوا من أربعين، ثم أتي به أبو بكر فصنع به مثل ذلك (4) » . ورواه همام عن قتادة بلفظ: «فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال (5) » أخرجه أحمد والبيهقي. وهذا يجمع ما اختلف فيه على شعبة، وأن جملة الضربات كانت نحو أربعين، لا أنه جلده بجريدتين
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/176) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(3) رواية خالد بن الحارث عن شعبة هي المذكورة في الفتح 12 \ 63.
(4) صحيح البخاري الحدود (6773) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/180) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/247) .(57/21)
أربعين فتكون الجملة ثمانين كما أجاب به بعض الناس. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: «جلد بالجريد والنعال أربعين (1) » علقه أبو داود بسند صحيح، ووصله البيهقي، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام بلفظ: «كان يضرب في الخمر مثله» (2) انتهى المقصود.
2 - أخرج البخاري بسنده عن عقبة بن الحارث، «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنعيمان - أو بابن نعيمان - وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه (3) » .
3 - أخرج البخاري بسنده عن عمير بن سعيد النخعي، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر، فإنه لو مات وديته؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه (4) » .
4 - أخرج البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين (5) » .
وقد علق ابن حجر على قوله؛ " حتى كان آخر خلافة عمر فجلد أربعين ": ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليس كذلك؛ لما في قصة خالد بن الوليد وكتابته
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) الفتح 12 \ 63، 64.
(3) صحيح البخاري الحدود (6775) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) .
(4) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/125) .
(5) صحيح البخاري الحدود (6779) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .(57/22)
إلى عمر رضي الله عنه، فإنه يدل على أن أمر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته؛ لأن خالدا مات في وسط خلافة عمر (1) انتهى المقصود.
5 - قال ابن حجر: أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان، فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال (2) » الحديث.
ولعبد الرزاق بسند صحيح عن عبيد بن عمير - أحد كبار التابعين -: «كان الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه (3) » .
6 - قال ابن حجر: وقع في مرسل عبيد بن عمير - أحد كبار التابعين - فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحو حديث السائب، وفيه أن عمر جعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا، وقال: هذا أدنى الحدود (4) .
7 - أخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد، أن عمر استشار في الخمر، فقال له علي بن أبي طالب: " نرى أن تجعله ثمانين، فإذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى " فجلد عمر في الخمر ثمانين.
__________
(1) الفتح 12 \ 65 - 69.
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/34) .
(3) الفتح 12 \ 67.
(4) الفتح 12 \ 69.(57/23)
قال ابن حجر (1) : وهذا معضل، وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مطولا، ولفظه «أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم، فقال أبو بكر: لو فرضنا عليهم حدا، فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك حتى أتي برجل» . . . فذكر قصة وأنه تأول قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (2) وأن ابن عباس ناظره في ذلك واحتج ببقية الآية وهو قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} (3) والذي يرتكب ما حرمه الله ليس بمتق، فقال عمر: ما ترون؟ فقال علي، فذكره وزاد بعد قوله (وإذا هذى افترى) : وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلده ثمانين ". ولهذا الأثر عن علي طرق أخرى، منها ما أخرجه الطبراني والطحاوي والبيهقي من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن " أن رجلا من بني كلب يقال له: ابن دبرة أخبره أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين، فكان عمر يجلد فيها أربعين، قال: فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال: ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد، فقال
__________
(1) الفتح 12 \ 69 وما بعدها.
(2) سورة المائدة الآية 93
(3) سورة المائدة الآية 93(57/24)
علي. . . " فذكر مثل رواية ثور الموصولة.
ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة " أن عمر شاور الناس في الخمر، فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى. . . " الحديث. ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: " شرب نفر من أهل الشام الخمر، وتأولوا الآية المذكورة، فاستشار عمر فيهم، فقلت: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين، وإلا ضربت أعناقهم؛ لأنهم استحلوا ما حرم الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين ". وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين وفيه: " فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة - قال -: وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين، وقال علي. . . " فذكر مثله.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج، ومعمر عن ابن شهاب، قال: " فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطا، وفرض فيها عمر ثمانين " قال الطحاوي: جاءت الأخبار متواترة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا، ويؤيده. . . . فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد؛ حديث أبي هريرة وحديث عقبة بن الحارث المتقدمين وحديث عبد الرحمن بن أزهر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فقال للناس: اضربوه. فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله صلى الله(57/25)
عليه وسلم ترابا فرمى به في وجهه (1) » ، وتعقب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله، وهو ما عند أبي داود والنسائي في هذا الحديث: " ثم أتي أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين، ثم أتي عمر بسكران فضربه أربعين "، فإنه يدل على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضير - بمهملة وضاد معجمة مصغر - ابن المنذر «أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده. فجلده، فلما بلغ أربعين قال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي (2) » ، فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها " نحو الأربعين "، والجمع بينها أن عليا أطلق الأربعين، فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب.
وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة؛ لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج - بنون وجيم - ضعيف، وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن، وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه، وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. قال البيهقي: وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم، وتضعيفه
__________
(1) سنن أبو داود كتاب الحدود (4487) .
(2) صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4480) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/145) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .(57/26)
الداناج لا يقبل؛ لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع. قلت: وثق الداناج المذكور: أبو زرعة والنسائي، وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال: أخرجه البخاري، وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان، وأن بعض الرواة قال فيه: إنه جلد ثمانين، وذكرت ما قيل في ذلك هناك، وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال: " وهذا أحب إلي " أي جلد أربعين، مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون.
والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي.
والثاني: على تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين ولا يزاد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين. وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان، وأخرجه الطحاوي أيضا من طريق عروة مثله، لكن قال: " له ذنبان، أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان ". قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن عليا جلده ثمانين؛ لأن كل سوط سوطان. وتعقب بأن السند الأول منقطع؛ فإن أبا جعفر ولد بعد موت علي بأكثر من عشرين(57/27)
سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وعروة لم يكن في الوقت المذكور مميزا، وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربة.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين، فأراد بالأربعين ما اجتمع من عشرين وعشرين، ويوضح ذلك قوله في بقية الخبر: " وكل سنة وهذا أحب إلي "؛ لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كل من الفريقين جلد ثمانين، فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه. وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله هذا الإشارة إلى الثمانين فيلزم من ذلك أن يكون علي رجح ما فعل عمر على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهذا لا يظن به، قاله البيهقي.
واستدل الطحاوي لضعف حديث أبي ساسان بما تقدم ذكره من قول علي: " إنه إذا سكر هذى. . . " إلخ، قال: فلما اعتمد علي في ذلك على ضرب المثل واستخرج الحد بطريق الاستنباط دل على أنه لا توقيف عنده من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين غلطا من الراوي؛ إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه. وتعقب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدا، فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار. وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون، وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع يزيد على ما كان مقررا. ويشير إلى ذلك ما وقع من(57/28)
التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة وانهمكوا، فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحد المذكور قدره، إما اجتهادا بناء على جواز دخول القياس في الحدود، فيكون الكل حدا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير تحذيرا وتخويفا؛ لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أن يكونوا ارتدعوا بذلك ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، فرأى علي الرجوع إلى الحد المنصوص، وأعرض عن الزيادة لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاصا بمن تمرد وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عند الدارقطني وغيره: " فكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف تكون منه الزلة جلده أربعين " قال: وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين. وقال المازري: لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا لما قالوا فيه بالرأي، كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه. انتهى.
وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه، ورجح القول بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحد إنما هو التعزير، على القول بأنهم اجتهدوا في الحد المعين لما يلزم منه من المخالفة التي ذكرها كما سبق تقريره.
وقد أخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنبأنا عطاء، أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم(57/29)
ونعالهم، فلما كان عمر فعل ذلك حتى خشي فجعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أخف الحدود.
والجمع بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأنه سنة وبين حديثه المذكور في هذا الباب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين، أي لم يسن شيئا زائدا على الأربعين، ويؤيده قوله: " وإنما هو شيء صنعناه نحن " لما يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله: " لو مات لوديته " أي في الأربعين الزائدة، وبذلك جزم البيهقي وابن حزم.
ويحتمل أن يكون قوله: " لم يسنه " أي الثمانين؛ لقوله في الرواية الأخرى: " وإنما هو شيء صنعناه " فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن لا يكون مطابقا، واختص هو بذلك لكونه الذي كان أشار بذلك واستدل له، ثم ظهر له أن الوقوف عند ما كان الأمر عليه أولا أولى، فرجع إلى ترجيحه وأخبر بأنه لو أقام الحد ثمانين فمات المضروب وداه للعلة المذكورة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: " لم يسنه " لصفة الضرب، ولكونها بسوط الجلد، أي لم يسن الجلد بالسوط وإنما كان يضرب فيه بالنعال وغيرها مما تقدم ذكره، أشار إلى ذلك البيهقي.
وقال ابن حزم أيضا: لو جاء عن غير علي من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون وأنه غير مسنون لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر، فضلا عن علي مع سعة علمه وقوة فهمه، وإذا تعارض خبر عمير بن سعيد وخبر أبي ساسان فخبر أبي ساسان أولى بالقبول؛ لأنه مصرح فيه برفع الحديث عن علي، وخبر عمير موقوف على علي، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قدم(57/30)
المرفوع، وأما دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة، والجمع أولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصحيحة، وعلى تقدير أن تكون إحدى الروايتين وهما فرواية الإثبات مقدمة على رواية النفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف ألفاظ النقلة عن قتادة، وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التعارض، فحديث أنس سالم من ذلك.(57/31)
ثالثا: خلاف العلماء في أن العقوبة في شرب الخمر: هل هي حد أو تعزير؟ مع بيان ما يترتب على ذلك:
اختلف أهل العلم في عقوبة شارب الخمر على قولين: أحدهما: أنها حد، والثاني: أنها تعزير. والذين قالوا بأنها حد اختلفوا على قولين هما المشهوران: منهم من قال بأنه ثمانون، ومنهم من قال بأن الحد أربعون وما زاد على ذلك يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى الزيادة زاد وإلا فلا.
وفيما يلي بيان هذه الأقوال مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: أنه تعزير، قال الحافظ ابن حجر: إن الطبري وابن المنذر حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير.
واستدلوا بأحاديث الباب، فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب، وأصرحها حديث أنس، ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه. وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج ومعمر، سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم: ارفعوا. وورد أنه لم يضربه أصلا، وذلك(57/31)
فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي عن ابن عباس، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا. قال ابن عباس: وشرب رجل فسكر، فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم يأمر فيه بشيء (1) » . وأخرج الطبري من وجه آخر عن ابن عباس: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرا، ولقد غزا تبوك فغشي حجرته من الليل سكران، فقال: ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رحله» .
والجواب: أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد؛ لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران فصيره حدا واستمر عليه، وكذلك استمر من بعده، وإن اختلفوا في العدد.
وجمع القرطبي بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في الشرب حد، وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزير على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد، ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن ثم توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط وإما تعزيرا. انتهى المقصود من كلام ابن حجر (2) .
القول الثاني: أنها حد، وأنه ثمانون، وهو مذهب الحنفية والمالكية والمقدم عند الحنابلة، ففي بداية المبتدي: وحد الخمر
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4476) ، مسند أحمد بن حنبل (1/322) .
(2) فتح الباري، 12 \ 72 ص73.(57/32)
والسكر إلى ثمانين سوطا (1) . وفي قوانين الأحكام الفقهية: وهو ثمانون جلدة للحر (2) . وقال ابن قدامة: إحداهما أنه ثمانون، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم (3) . انتهى.
واستدل لهذا بإجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام. وروي عن علي في المشورة أنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد المفتري. روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما. انتهى، من كلام ابن قدامة (4) .
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
أولا: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام. ذكر هذا الوجه ابن قدامة (5) .
ثانيا: أن عليا أشار على عمر بذلك، ثم رجع علي عن ذلك واقتصر على الأربعين؛ لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر، مستندين إلى تقدير ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار
__________
(1) البداية، 2 \ 111.
(2) قوانين الأحكام الفقهية، ص 391.
(3) المغني 9 \ 141.
(4) المغني 9 \ 141.
(5) المغني 9 \ 142.(57/33)
به فقد تبين من سياق قصته أنه أشار بذلك ردعا للذين انهمكوا؛ لأن في بعض طرق القصة كما تقدم: " أنهم احتقروا العقوبة " (1) .
القول الثالث: أنه أربعون وما زاد عن ذلك يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام. وبهذا قال الشافعي، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وبه قال أبو ثور وداود ومن وافقهم من أهل العلم. قال الشيرازي: وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون - ومضى إلى أن قال - فإن رأى الإمام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز (2) . انتهى.
وقال ابن قدامة: والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي (3) . انتهى، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا أوجه القولين (4) .
واستدل لهذا القول بما روى أبو ساسان قال: لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلي: دونك ابن عمك فاجلده، قال: قم يا حسن فاجلده، قال: فيما أنت وذاك ول هذا غيري، قال: ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت، فقال: قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده وعلي يعد ذلك فعد أربعين وقال: «جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة (5) » أخرجه البيهقي.
__________
(1) فتح الباري، 12 \ 73.
(2) المهذب، 18 \ 448.
(3) المغني، 9 \ 142.
(4) السياسة الشرعية، ص 50.
(5) سنن أبو داود الحدود (4481) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .(57/34)
وأخرج مسلم عن حضين بن المنذر قال: «شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فقال: يا علي، قم فاجلده. فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها. فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده. وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي (1) » .
وأما كون الزيادة عن الأربعين راجعة إلى رأي الإمام فقد استدلوا لذلك بما رواه أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه، فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقلت: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه. قال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال علي: تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: بلغ صاحبك ما قال، فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين. وقال: وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين (2) .
وأما بيان ما يترتب على القول بأنها تعزير أو حد، فعلى
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4480) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/145) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .
(2) المهذب ومعه الشرح، 18 \ 348 وما بعدها.(57/35)
القول بأنها حد لا يدخله العفو والإسقاط والصلح؛ لأنه من حقوق الله جل وعلا، وإذا مات المضروب ثمانين عند من يقول بذلك وأربعين عند من يقول بهذا؛ فإنه يموت هدرا لا دية له. وعلى القول بأنها تعزير يدخله العفو والإسقاط والصلح من جهة أصله عند من يقول بأنها تعزير، وما زاد على الأربعين ففيه الدية.
وفيما يلي نقول عن أهل العلم في ذلك:
1 - قال الشيرازي: فإن جلده أربعين ومات لم يضمن؛ لأن الحق قتله، وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية، لأن نصفه حد ونصفه تعزير، وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير (1) . انتهى المقصود.
2 - قال الخرقي: مسألة، فإن مات في جلده فالحق قتله، يعني ليس على أحد ضمانه. قال ابن قدامة: وهذا قول مالك وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي إن لم يزد على الأربعين، وإن زاد على الأربعين فمات فعليه الضمان؛ لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه، وفي قدر الضمان قولان:
أحدهما: نصف الدية؛ لأنه تلف من فعلين: مضمون وغير مضمون، فكان عليه نصف الضمان.
والثاني: تقسط الدية على عدد الضربات كلها، فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت، فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر، ولو مات وديته؛ لأن النبي صلى الله
__________
(1) المهذب، 2 \ 287.(57/36)
عليه وسلم لم يسنه لنا (1) » .
ولنا: أنه حد وجب لله فلم يجب ضمان من مات به، كسائر الحدود، وما زاد على الأربعين قد ذكرنا أنه من الحد وإن كان تعزيرا، فالتعزير يجب وهو بمنزلة الحد.
وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال: «جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين (2) » وثبت الحد بالإجماع فلم تبق فيه شبهة (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4481) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .
(3) المغني، 9 \ 145.(57/37)
رابعا: هل تجوز تجزئة عقوبة شارب الخمر؟
الكلام في تجزئة عقوبة شارب الخمر مبني على الكلام في أن العقوبة هل هي حد أو تعزير، وقد سبق بيانه.
فعلى القول بأنها تعزير يقال بجواز التجزئة؛ لأن التعزير يدخله الاجتهاد، وكذلك القول فيما زاد عن الأربعين عند من يقول بأن الحد أربعون وما زاد عليها فهو تعزير.
وعلى القول بأنها حد وأن الحد لا يدخله الاجتهاد لا تجوز التجزئة.
ونظرا إلى أن الحكم بتجزئة العقوبة أو عدمها ينبني على قاعدة أصولية، وهي تمييز ما يدخله الاجتهاد وما لا يدخله، فإننا ننقل عن بعض علماء الأصول في ذلك، ومنها يتحدد ما فيه للاجتهاد مجال وما لا مجال فيه للاجتهاد.
قال الشاطبي: محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في(57/37)
أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات.
وبيانه أن نقول: لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا. فإن لم يأت فيها خطاب فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره.
وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا، فإن لم يظهر له قصد البتة فهو قسم المتشابهات، وإن ظهر فتارة يكون قطعيا وتارة يكون غير قطعي.
فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات، وليس محلا للاجتهاد وهو قسم الواضحات؛ لأنه واضح الحكم حقيقة، والخارج عنه مخطئ قطعا.
وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضة أو لا، فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه؛ لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك، إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين وتارة لا يقوى، فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات، والمقدم عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن قوي في إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين. فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد(57/38)
فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب، وأما على قول المخطئة فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح، وإلا فمعذور.
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات، إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات، بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا، وأن الإضافي إنما صار إضافيا؛ لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين، فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه، فلذلك صار إضافيا، لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف.
ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه، فثبوت العلم مع نفيه نقيضان، كوقوع التكليف وعدمه، وكالوجوب وعدمه وما أشبه ذلك. وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان، كالوجوب مع الندب أو الإباحة أو التحريم وما أشبه ذلك. وهذا الأصل واضح في نفسه غير محتاج إلى إثباته بدليل، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله.
فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة، والطير في الهواء، والسمك في الماء، وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين، وعلى(57/39)
دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري، فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره؛ لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني، فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما، فمن أجاز مال إلى جانب اليسار، ومن منع مال إلى الجانب الآخر.
- ومضى في ذكر الأمثلة إلى أن قال -: ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات لا مبنيا على الظن ولا على القطع إلا دائرا بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف (1) .
ونظرا إلى أن الحدود لا تثبت إلا بتوقيف في أصلها وكيفيتها فلا يدخل اجتهاد. أما العقوبات التي تعتبر تعزيرا لا حدودا فإنها محل اجتهاد الإمام، فيجوز فيها التجزئة إذا رأى المصلحة في ذلك.
__________
(1) الموافقات، 4 \ 157.(57/40)
خامسا: ما يثبت به شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك:
يثبت شرب الخمر بشهادة الشهود والإقرار والرائحة، والسكر، والقيء. ونظرا إلى أن الرائحة والقيء من قرائن الأحوال التي يثبت بها الشرب عند من يقول بالاستدلال بها على ذلك - فإننا نذكر نقولا عن أهل العلم بالعمل بالقرائن، ثم نذكر أدلة العمل(57/40)
بها من الكتاب والسنة، وطائفة من أمثلة العمل بها، وبعد ذلك نتكلم على هذه الأدلة الخمسة مبينين خلاف العلماء في كل دليل ومستندهم مع المناقشة:
أ - أما كلام العلماء، فمن ذلك ما جاء في معين الحكام:
" قال بعض العلماء: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتفق عليها الطوائف الأربع " (1) انتهى.
وقال ابن فرحون نقلا عن ابن العربي ما يتفق مع هذا الكلام (2) .
وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه وعلى لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله - ومضى في ذكر الأدلة والأمثلة إلى أن قال: " ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى
__________
(1) معين الحكام، ص 161.
(2) تبصرة الحكام، 2 \ 101 على هامش فتاوى عليش.(57/41)
الشريعة التي بعث الله بها رسوله " (1) . انتهى.
ب - وأما ما يدل على ذلك من الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2) {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3) {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على هذه الآية: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (5) ؛ لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة؛ ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها،
__________
(1) إعلام الموقعين، 1 \ 94، 95.
(2) سورة يوسف الآية 26
(3) سورة يوسف الآية 27
(4) سورة يوسف الآية 28
(5) سورة يوسف الآية 18(57/42)
وهي عدم شق القميص، فقال: سبحان الله، متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟! ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن (2) . انتهى.
والأظهر أن تكذيب يعقوب لبنيه في دعواهم أن الذئب أكل يوسف ليس من أجل كون الدم ليس دم إنسان، ولا من أجل كون الثوب لم يخرق؛ لأن هذين الأمرين منقولان عن بني إسرائيل ونحوهم، وأخبارهم لا تصدق ولا تكذب، ولا يعتمد عليها إلا بدليل يدل على صحتها، وإنما كذبهم لأمر آخر، إما لكون الرؤيا التي رآها يوسف في سجود الكواكب والشمس والقمر له لم تتحقق بعد، وإما لوحي أوحاه الله إليه عرف منه ما يدل على كذبهم في دعواهم.
ج - وأما الأدلة من السنة فمن ذلك:
1 - أنه صلى الله عليه وسلم حكم باللوث في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة.
2 - «أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده، فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك» .
__________
(1) سورة يوسف الآية 18
(2) أضواء البيان، 3 \ 69، 70؛ ويرجع إلى تبصرة الحكام لابن فرحون، 2 \ 101.(57/43)
3 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة.
4 - حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بالقافة، وجعلها دليلا على ثبوت النسب، وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات.
5 - ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أرياني سيفيكما. فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله. وحكم له بسلبه» . (1)
د - وأما المسائل التطبيقية للعمل بها فقد ذكر صاحب معين الحكام وابن فرحون والإمام ابن القيم مسائل كثيرة، نذكر منها ما يلي:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء المرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقد عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة.
الثانية: أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون في الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أموالهم ويأكلون الطعام المرسل به. ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذن الصبيان في الدخول إلى المنزل.
الرابعة: أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت ويتكئ
__________
(1) تبصرة الحكام، 2 \ 103.(57/44)
على وسادته ويقضي حاجته في مرحاضه من غير استئذان، ولا يعد متصرفا في ملكه بغير إذنه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه ومما لا يتبعه الإنسان نفسه كالفلس والتمرة والعصا التافهة الثمن ونحو ذلك.
هـ - وأما الأدلة التي يستدل بها على شربها فقد سبق أنها: الشهادة، والإقرار، والرائحة، والقيء، والسكر.
فأما الشهادة فيشترط أن لا يقل عدد الشهود عن رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة، ويزيد أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا بأن تكون الرائحة قائمة وقت تحمل الشهادة، ويخالفهما محمد فلا يشترط ذلك.
وأما الإقرار فيكفي مرة واحدة في المذاهب الأربعة، ويرى أبو يوسف أن كل إقرار يسقط بالرجوع، فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود، فلا بد من الإقرار مرتين عنده.
وأما الرائحة فالمقدم في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، ويخالفهم مالك رحمه الله فيرى وجوب الحد(57/45)
بوجود الرائحة، وقوله هذا رواية عن أحمد رحمه الله.
وكذلك القيء لا يعتبر وجوده دليلا شرعيا عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، ورواية عن أحمد رحمه الله، ويخالفهم مالك رحمه الله، وهو الرواية الثانية في مذهب أحمد رحمه الله، وهو القول بوجوب الحد اعتمادا على القيء.
وأما السكر فالشافعي ومن وافقه يرون عدم حده، والرواية المقدمة في مذهب أحمد ومن يقول بها من العلماء أنه يحد.(57/46)
وفيما يلي نقول عن فقهاء الإسلام في ذلك مع أدلتهم ومناقشتها:
1 - جاء في البداية وشرحها الهداية: ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران، فشهد الشهود عليه بذلك؛ فعليه الحد، وكذلك إذا أقر وريحها موجودة؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ومن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه.
فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يحد. وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يحد. فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزناة، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان، والرائحة قد تكون من غيره كما قيل:
يقولون لي إنكه شربت مدامة ... فقلت لهم: لا , بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر بزوال الرائحة؛ لقول ابن مسعود رضي الله(57/46)
عنه فيه: فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه.
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل، وإنما تشتبه على الجهال.
وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولا إجمال إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه، وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا.
فإن أخذه الشهود وريحها توجد منه أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام، فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعا؛ لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا، والشاهد لا يتهم به في مثله.
". . . ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها "، لأن الرائحة محتملة، وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار. . . ويثبت الشرب بشهادة شاهدين، ويثبت بالإقرار مرة واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة. . . ولا يقبل فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان " (1) . انتهى.
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية: " والرائحة قد
__________
(1) البداية ومعها الهداية، 2 \ 111، 112.(57/47)
تكون من غيره. . . . " إلخ، قال: فظهر أن رائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها، ولا بذهابها. ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها؛ لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة، والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة، بل بسبب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا، وذلك منتف في تأخير يوم ونحوه، وبه تذهب الرائحة.
أجاب المصنف وغيره بما حاصله: أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود، وهو ما روى عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري، عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر، عن أبي ماجد الحنفي قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، ففعلوا، فرفعه إلى السجن، ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه.
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن راهويه، أخبرنا جرير، عن عبد الحميد، عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة، والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها، لعدم الرائحة وقت أدائها بل ولا إقرار، إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة، والمزمزة التحريك بعنف، والترترة والتلتلة التحريك، وهما بتاءين مثناتين من فوق؛(57/48)
قال ذو الرمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو غوج شمردل ... تقطع أنفاس المهارى تلاتله
أي حركاته، والمساف: جمع مسافة، والغوج بالغين المعجمة: الواسع الصدر، ومعنى تقطيع تلاتله أنفاس المهارى أنه إذا باراها في السير أظهر في أنفاسها الضيق والتتابع لما يجهدها. وإنما فعله لأن بالتحريك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفيت، وكان ذلك مذهبه. ويدل عليه ما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت. فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت. فبينما هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر، فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟ فضربه الحد.
وأخرج الدارقطني بسند صحيح، عن السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر. وفي لفظ: ريح شراب. والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما. ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك، وقول للشافعي، ورواية عن أحمد، والأصح عن الشافعي، وأكثر أهل العلم نفيه. وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكرنا عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة، ويترجح؛ لأنه أصح، وإن قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه جلد من وجد منه رائحة الخمر حدا تاما. وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى، وهو أن الأصل في(57/49)
الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد أو يدرأ ما أستطيع، فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزة عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيحده؟ فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه، فاستجاز ذلك فيه (1) . انتهى.
ويمكن أن يقال: إنه إنما أمر بترترته ومزمزته لكونه لم يأت تائبا، وإنما جاء به عمه ليقام عليه الحد، فأراد ابن مسعود أن يستثبت في وقوع الشرب منه بالعمل المذكور لتظهر الرائحة.
__________
(1) فتح القدير 4 \ 180.(57/50)
2 - قال ابن فرحون: ويجب الحد على من وجدت منه رائحة الخمر أو قاءها، وحكم به عمر رضي الله تعالى عنه. وفي حديث ماعز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر (1) » . قال اللخمي: فيه دليل أن الرائحة يقضى بها، ودليل آخر أن إقرار السكران غير لازم. (مسألة) قال اللخمي رحمه الله تعالى: ذهب مالك رضي الله تعالى عنه وجماعة من أصحابه إلى أن الحد يجب على من وجد منه ريح المسكر. والدليل على ذلك ما روي عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب، فجلده الحد تاما.
والدليل من جهة المعنى: أن هذا معنى يعلم به صفة ما شرب المكلف وجنسه، فوجب أن يكون طريقا إلى إثبات الحد. وأصل ذلك الرؤية لما شربه، بل الرائحة أقوى في معرفة حال المشروب من الرؤية، لأن الرؤية لا يعلم بها الشراب أمسكر هو أم لا،
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1695) .(57/50)
وإنما يعلم ذلك برائحته.
(فصل) والكلام في ذلك يتعلق بثلاثة أمور: الأول: فيمن يجب استنكاهه. الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته. الثالث: فيما يجب بذلك إذا تيقن رائحة المسكر أو أشكلت.
(الأول) فيمن يجب استنكاهه، وذلك فيمن يرى الحاكم منه تخليطا في قول أو مشي يشبه السكران: ففي الموازية من رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه إذا رأى ذلك منه أمر باستنكاهه؛ قال: لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحققه، فإذا ثبت الحد حد أمامه: (مسألة) وكذلك لو شم منه رائحة ينكرها أو أنكرها بحضرته من ينكرها، قال الباجي: فعندي أنه قد تعين عليه استنكاهه وتحقق حاله؛ لأن هذه صفة ينكر بها حاله ويستراب بها ويقوى بها الظن في وجوب الحد عليه، فيجب بذلك اختباره وتحقق حاله، كالتخليط في الكلام والمشي. (مسألة) فإن لم يظهر منه شيء من هذه الأحوال - يريد التخليط في القول والمشي - لم يستنكه، رواه أصبغ عن ابن القاسم في العتبية والموازية، قال: ولا يتجسس عليه. ووجه ذلك إن لم ير منه ريبة ولا خروجا عن أحوال الناس المعتادة فلا يجوز التجسس على الناس والتعرض لهم من غير ريبة.
(الثاني) فيمن يثبت ذلك بشهادته: قال القاضي أبو الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم. فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا حتى يكونا ممن(57/51)
يعرف الخمر بريحها. قال القاضي أبو الوليد: وهذا عندي فيه نظر؛ لأن من هذه صفته معدوم قليل، ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك، كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة) وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين، فإن لم يكن إلا واحدا وجب به الحد، وأما إن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين، كالشهادة على الشرب. وقد روى ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحد فليرفعه إلى من هو فوقه. قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه؛ فلذلك جاز عنده علم من استنابه، وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
(الثالث) فيما يجب بشهادة الاستنكاه. ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها، فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر أو يختلفوا في ذلك، فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه، وإن اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: رائحة مسكر،(57/52)
وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر، فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد. ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها، كما لو شهد شاهدان، أنهما رأياه شرب خمرا، وقال آخران: لم يشرب خمرا. (مسألة) فإن شك الشهود في الرائحة: هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله، فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله، حكاه ابن القاسم في العتبية والموازية.
ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه، ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية، وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(مسألة) قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: فإذا ثبت ذلك فإن الحد يتعلق بما يقع به الفطر من تجاوز الشراب من الفم إلى الحلق.
(مسألة) ولو شهد شاهدان أنه قاء خمرا وجب عليه الحد؛ لأنه لا يقيئها حتى يشربها، وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وسيأتي في باب القضاء بالسياسة صفة الشهادة وصفة الضارب والضرب وما يضاف إلى الحد إن شاء الله تعالى.(57/53)
3 - جاء في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج:
" ويحد بإقراره وشهادة رجلين " أو علم السيد دون غيره، كما مر نظيره في السرقة لا بريح خمر وهيئة سكر وقيء، لاحتمال(57/53)
أنه احتقن أو أسعط بها أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه، وأما حد عثمان بالقيء فاجتهاد له، " ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا " أو شرب مما شرب منه غيره فسكر، وسواء أقال وهو مختار عالم أو لا، كما في نحو بيع وطلاق؛ إذ الأصل عدم الإكراه، والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه.
" وقيل: يشترط " في كل من المقر والشاهد أن يقول: شربها " وهو عالم به مختار "، لاحتمال ما مر، كالشهادة بالزنا، إذ العقوبة لا تثبت إلا بيقين، وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته، كما في الخبر على أنهم سامحوا في الخمر لسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها، لا سيما مع أن الابتداء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها، فوسع فيه ما لم يوسع في غيره.
ويعتبر على الثاني زيادة من غير ضرورة احترازا من الإساغة والشرب لنحو عطش أو تداو (1) . انتهى.
__________
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج، 8 \ 16.(57/54)
4 - وقال ابن قدامة: ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإقرار أو البينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم، لأنه حد لا يتضمن إتلافا، فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه؛ لأنه حد لله سبحانه، فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود، ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة. وحكي عن أبي حنيفة: لا حد عليه، إلا أن توجد رائحة.
ولا يصح؛ لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة،(57/54)
كالشهادة، ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه إقرار بحد فاكتفي به، كسائر الحدود.
(فصل) ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه. في قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي. وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك، وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر. وروي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب، فأقر أنه شرب الطلا، فقال عمر: إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته. ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار.
والأول أولى؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرها، أو أكل نبقا بالغا، أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات، وحديث عمر حجة لنا، فإنه لم يحده بوجود الرائحة، ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر.
(فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه، لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الشافعي.
ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد هاهنا بطريق الأولى؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها، فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها.
وقد روى سعيد، حدثنا هشيم، حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال:(57/55)
أشهد أني رأيته يتقيؤها. فقال عمر: من قاءها فقد شربها. فضربه الحد.
وروى حضين بن المنذر الرقاشي، قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد - فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه. رواه مسلم. وفي رواية له: فقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة.
وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا، ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو لا يسكر منها حتى يشربها.
(فصل) وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه؛ لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه، بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدق ذلك ويكذبه (1) » . فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره. وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه، ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا إلى ذكر علمه أنه مسكر؛ لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج إلى بيانه؛ ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات، ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة، ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون، ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة، ولو شهدا بعتق أو طلاق
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6243) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/344) .(57/56)
لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا هاهنا (1) . انتهى.
وجاء في حاشية المقنع على قوله: " وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على روايتين " إحداهما: لا يحد، وهو قول عامة أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي. وعنه: يحد، وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر. وعنه: يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى: وهي أظهر عن أحمد، واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين.
ووجه الأول أنه يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء، فلما صارت في فيه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرها (2) . انتهى.
وجاء في الإنصاف على قول ابن قدامة: " وهل يحد بوجود الرائحة؟ على روايتين " وأطلقهما في مسبوك الذهب، وتجريد العناية، ونهاية ابن رزين.
إحداهما: لا يحد، وهو المذهب، صححه المصنف والشارح، وابن منجى في شرحه وصاحب الخلاصة والتصحيح وغيرهم. وجزم به في الوجيز، والمنور.
والرواية الثانية: يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى في الإرشاد: هذه أظهر عن الإمام أحمد رحمه الله. واختارها ابن عبدوس في تذكرته، والشيخ تقي الدين رحمه الله. وقدمها في
__________
(1) المغني، 9 \ 143 وما بعدها.
(2) المقنع ومعه الحاشية، 3 \ 479.(57/57)
المستوعب. وعنه: يحد وإن ادعى شبهة، ذكرها في الفروع، وذكر هذه المسألة في باب حد الزنا وأطلقهن في تجريد العناية. ونقل الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله: يؤدب برائحته. واختاره الخلال كالحاضر مع من شربه.
فائدتان:
إحداهما: لو وجد سكران وقد تقيأ الخمر، فقيل: حكمه حكم الرائحة. قدمه في الفصول، وجزم به في الرعاية الكبرى. وقيل: يحد هنا وإن لم نحده بالرائحة. واختاره المصنف والشارح، وهو ظاهر كلامه في الإرشاد، وهذا المذهب على ما اصطلحناه في الخطبة، وأطلقهما في الفروع.
والثانية: يثبت شربه للخمر بإقراره، مرة على الصحيح من المذهب، كحد القذف، جزم به في الفصول والمذهب والحاوي الصغير والمغني والشرح، وقدمه في الفروع.
وعنه: مرتين، واختاره القاضي وأصحابه، وصححه الناظم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين، وجزم به في المنور وغيره، وجعل أبو الخطاب: أن بقية الحدود لا يثبت إلا بإقراره مرتين. وقال في عيون المسائل في حد الخمر بمرتين، وإن سلمناه فلأنه لا يتضمن إتلافا، بخلاف حد السرقة. قال في الفروع: ولم يفرقوا بين حد القذف وغيره إلا بأنه حق آدمي كالقود فدل على رواية فيه، قال: وهذا متجه.
ويثبت أيضا شربها: بشهادة عدلين مطلقا، على الصحيح من المذهب. وقيل: ويعتبر قولهما عالما بتحريمه مختارا،(57/58)
وأطلقهما في الرعاية الكبرى (1) . انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والحد واجب إذا قامت البينة، أو اعترف الشارب، فإن وجدت منه رائحة الخمر، أو رؤي وهو يتقيؤها، ونحو ذلك؛ فقد قيل: لا يقام عليه الحد؛ لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر، أو شربها جهلا بها، أو مكرها ونحو ذلك.
وقيل: يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود، وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اصطلح عليه الناس، وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصوصه (2) . انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة بوجوب الحد برائحة الخمر من قيء الرجل أو قيئه خمرا اعتمادا على القرينة الظاهرة (3) . انتهى.
__________
(1) الإنصاف، 10 \ 233.
(2) السياسة الشرعية، 51.
(3) الطرق الحكمية، 6.(57/59)
سادسا: حكم من تكرر منه شربها القتل أو الجلد؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
أحدهما: أنه يقتل، وبه قال ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم.
والثاني: أنه لا يقتل، وبه قال جمهور أهل العلم.
وفيما يلي بيان القولين(57/59)
مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: أن شارب الخمر إذا شرب ثم حد، ثم شرب ثم حد، ثم شرب ثم حد، ثم شرب الرابعة قتل، وهذا يقول به ابن حزم ومن يوافقه من أهل العلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقيل هو محكم، وقد يقال هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة، وقال أيضا: وطائفة يقولون إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك (1) . انتهى المقصود.
والحجة لهذا القول:
1 - قال ابن حزم: نا أحمد بن قاسم، نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا الحرث - هو ابن أبي أسامة - نا عبد الوهاب بن عطاء، نا قرة بن خالد، عن الحسن بن عبد الله بن النصري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: " ائتوني برجل أقيم عليه الحد في الخمر فإن لم أقتله فأنا كاذب " (2) . انتهى.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه قال عبد الله: ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة، فلكم علي أن أقتله (3) » . وأجيب عن هذا الحديث بأنه منقطع فلا حجة لهم فيه. قال ابن حجر: وهذا منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو،
__________
(1) السياسة الشرعية، 49، 50.
(2) المحلى لابن حزم 11 \ 366.
(3) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .(57/60)
كما جزم به ابن المديني وغيره، فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله بن عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول، فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال: لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته (1) . انتهى.
2 - عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم (2) » ، رواه الخمسة إلا النسائي.
قال الشوكاني: قال البخاري هو أصح ما في هذا الباب، وأخرجه أيضا الشافعي والدارمي وابن المنذر وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سعيد، والمحفوظ أنه عن معاوية، وأخرجه أبو داود من رواية أبان العطار، وفيه: «فإن شربوا - يعني بعد الرابعة - فاقتلوهم (3) » ، ورواه أيضا أبو داود من حديث ابن عمر: قال: وأحسبه قال في الخامسة: «ثم إن شربها فاقتلوه (4) » ، قال: وكذا في حديث غطيف في الخامسة (5) . انتهى.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه (6) » ، رواه الخمسة إلا الترمذي.
__________
(1) الفتح، 12 \ 80.
(2) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) .
(3) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/280) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .
(4) سنن أبو داود الحدود (4482) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) .
(5) نيل الأوطار، 7 \ 325.
(6) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .(57/61)
وأجيب عن هذه الأحاديث وما في معناها أن القتل منسوخ، وأدلة النسخ:
أ - قال الترمذي: إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد. هكذا روى محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه. قال: ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله (1) » ، وأخرجه النسائي أيضا.
2 - عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في - الثالثة أو الرابعة - فاقتلوه. فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل وكانت رخصة (2) » رواه أبو داود وذكره الترمذي بمعناه، وأخرجه أيضا الشافعي وعبد الرزاق وعلقه الترمذي، وأخرجه أيضا الخطيب، عن ابن إسحاق عن الزهري، عن قبيصة، قال سفيان بن عيينة: حدث الزهري بهذا، وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث. وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة ولد عام الفتح، وقيل إنه ولد أول سنة من الهجرة، ولم يذكر له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعده الأئمة من التابعين، وذكروا أنه سمع الصحابة. قال المنذري: وإذا ثبت أن مولده أول سنة من الهجرة أمكن أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إنه أتي به
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/96) .
(2) سنن أبو داود الحدود (4485) .(57/62)
النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام يدعو له، وذكر عن الزهري أنه كان إذا ذكر قبيصة بن ذؤيب قال: كان من علماء هذه الأمة. وأما أبوه ذؤيب بن حلحلة فله صحبة. انتهى. ورجال الحديث مع إرساله ثقات، وأعله الطحاوي بما أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري راويه قال: بلغني عن قبيصة ولم يذكر أنه سمع منه. وعورض بأنه رواه ابن وهب عن يونس قال: أخبرني الزهري أن قبيصة حدثه، أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي، وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر مثله (1) . انتهى، من كلام الشوكاني.
وقال ابن حجر: وأخرجه الخطيب في المبهمات من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري، وقال فيه: «فأتي برجل من الأنصار يقال له: نعيمان، فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب» .
وقال ابن حجر على قوله (بلغه) : والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح؛ لأن إبهام الصحابة لا يضر، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: حدثت به ابن المنكدر، فقال: ترك ذلك، فقد «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثا ثم أتي به في الرابعة فجلده ولم يزد (2) » ، ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر عن جابر «فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله» .
__________
(1) نيل الأوطار، 7 \ 326.
(2) صحيح البخاري الحدود (6775) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) .(57/63)
وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: «فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع» . انتهى (1) .
القول الثاني: أنه لا يقتل، وأن القتل منسوخ، وهذا قول جمهور العلماء. وفيما يلي بيان بعض من قال بذلك مع الأدلة والمناقشة:
قال الشوكاني: ذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الشارب وأن القتل منسوخ، قال الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره - يعني حديت قبيصة بن ذؤيب - ثم ذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم. وقال الخطابي: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به الفعل، وإنما يقصد به الردع والتحذير، وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل. انتهى.
وحكى المنذري عن بعض أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا تكرر منه، إلا طائفة شاذة قالت: يقتل بعد حده أربع مرات للحديث، وهو عند الكافة منسوخ. انتهى.
وقال الترمذي: أنه لا يعلم في ذلك اختلافا بين أهل العلم في القديم والحديث، وذكر أيضا في آخر كتابه الجامع في العلل أن جميع ما فيه معمول به عند البعض من أهل العلم إلا حديث
__________
(1) الفتح، 12 \ 80.(57/64)
" إذا سكر فاجلدوه " المذكور في الباب، وحديث الجمع بين الصلاتين (1) . انتهى.
وقال ابن حجر: وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده، فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة، وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد خلافه خلافا (2) انتهى.
وقال شيخ الإسلام: والقتل عند أكثر العلماء منسوخ (3) انتهى.
وقال شيخ الإسلام أيضا: وقد روي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها - في الثالثة أو الرابعة - فاقتلوه (4) » فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخا وهو المشهور من مذاهب الأئمة. وبعد ذكره للقول بالقتل ودليله قال: والحق ما تقدم - ثم ذكر حديث عبد الله الحمار الثابت في الصحيح وسيأتي ذكره (5) .
وقال ابن حزم: وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم: لا قتل عليه، وذكروا ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي
__________
(1) نيل الأوطار، 7 \ 326 - 327.
(2) فتح الباري، 12 \ 80.
(3) السياسة الشرعية، 50.
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/214) .
(5) مجموع الفتاوى، 34 \ 217.(57/65)
وقاص (1) . انتهى.
الأدلة:
الدليل الأول: روى ابن حزم: بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب الرجل فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه. فأتي برجل منا فلم يقتله (2) » . ونوقش بأنه لا يصح؛ لأنه لم يروه عن ابن المنكدر أحد متصلا إلا شريك القاضي وزياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر، وهما ضعيفان. ذكر ذلك ابن حزم (3) .
وقد يجاب عن ذلك أولا بأن زياد صدوق، وثبت في روايته عن ابن إسحاق لا مطعن فيها عند أئمة الحديث. وقد يجاب عن ذلك ثانيا بأن الضعف الذي ادعاه بعض أئمة الحديث في شريك، وبعضهم في زياد يزول هنا بمتابعة أحدهما للآخر في رواية هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، كما تزول تهمة التدليس من ابن إسحاق برواية قبيصة بن ذؤيب الآتية، لأن المدلس إذا تابعه غيره من المعتبرين صار حديثه حسنا لغيره.
الدليل الثاني: ما رواه ابن حزم بسنده عن ابن شهاب، أن قبيصة بن ذؤيب حدثه، أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «قال لشارب الخمر: إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه. فأتي برجل قد شرب
__________
(1) المحلى، 11 \ 366.
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(3) المحلى، 11 \ 369.(57/66)
ثلاث مرات فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده، ووضع القتل عن الناس (1) » .
وناقشه ابن حزم بأنه منقطع ولا حجة في المنقطع.
وقد مضى الجواب عن ذلك في الكلام على درجة هذا الحديث عند الاستدلال به على النسخ.
الدليل الثالث: ما رواه ابن حزم عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، أن «رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمته إلا يحب الله ورسوله (2) » .
وناقش ابن حزم هذا الحديث قائلا: " وأما حديث زيد بن أسلم الذي من طريق معمر عنه فمنقطع، ثم لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أن ذلك كان بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل، فإذ ليس ذلك فيه فاليقين الثابت لا يحل تركه للضعيف الذي لا يصح، ولو صح لكان ظنا فسقط التعلق به جملة.
ولو أن إنسانا يجلده النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر ثلاث مرات قبل أن يأمر بقتله في الرابعة لكان مقتضى أمره صلى الله عليه وسلم استئناف جلده بعد ذلك ثلاث مرات ولا بد، لأنه عليه الصلاة والسلام من لفظ بالحديث المذكور أمر في المستأنف بضربه إن شرب ثم بضربه إن شرب ثانية ثم بضربه ثالثة،
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4485) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6780) .(57/67)
ثم بقتله رابعة هذا نص حديثه وكلامه عليه السلام، فإنما كان يكون حجة لو بين أنه أتي به أربع مرات بعد أمره عليه السلام بقتله في الرابعة، وهكذا القول سواء بسواء في حديث عمر الذي من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم " (1) .
وأجيب عن ذلك بما يلي:
أولا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثني الليث، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب: «أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله (2) » .
قال ابن حجر على هذا الحديث: وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتي به أكثر من خمسين مرة (3) . انتهى. ثانيا: أن بعض الصحابة عمل بالناسخ، فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب، أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثماني مرار، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي
__________
(1) المحلى، 368، 369.
(2) صحيح البخاري الحدود (6780) .
(3) فتح الباري، 12 \ 78.(57/68)
وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات، أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار، ثم قال له: أنت خليع، فقال: أما إذا خلعتني فلا أشربها أبدا (1) . انتهى. ذكر ذلك ابن حجر.
ثالثا: سبق نقول عن أهل العلم بالقول بالنسخ، وذكر الشافعي أنه مما لا اختلاف فيه.
رابعا: إذا كان ثابتا فقد مضى حديث جابر عند الترمذي والنسائي، وفيه بيان أن القتل كان متقدما وأن تركه كان متأخرا.
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو نفس بنفس (2) » .
وجه الدلالة: أنه لا يجوز أن يقتل أحد لم يذكر في هذا الخمر، ذكر ذلك ابن حزم، وقد يجاب عن ذلك بأن هذا مسلم لو لم يرد دليل يدل على القتل وقد ورد، ويناقش ذلك بتسليم ورود القتل ولكنه نسخ، وقد تقدم بيان ذلك.
__________
(1) فتح الباري، 80، 81.
(2) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/70) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .(57/69)
سابعا: نجاسة الخمر:
اختلف أهل العلم في نجاسة الخمر، فمنهم من قال: إنها نجسة. ومنهم من قال: إنها طاهرة. وفيما يلي ذكر نقول عن أهل العلم لكل قول مع بيان أدلتهم ومناقشتها:
القول الأول: أنها نجسة، وممن قال بهذا القول جمهور العلماء:
أ - جاء في الهداية: أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها(57/69)
بالدلائل القطعية (1) .
ب - قال القرطبي: فهم الجمهور من تحريم الخمر واستخباث الشرع لها وإطلاق الرجس عليها والأمر باجتنابها؛ الحكم بنجاستها (2) . انتهى.
ج - قال ابن العربي على قوله: رجس وهو النجس - إلى أن قال: ولا خلاف في ذلك بين الناس، إلا ما يؤثر عن ربيعة أنه قال: إنها محرمة وهي طاهرة كالحرير عند مالك محرم مع أنه طاهر (3) انتهى المقصود.
د - قال ابن قدامة: والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم (4) . انتهى المقصود.
هـ - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كفر، بل في أصح قولي العلماء أنها نجسة كالخمر، والخمر كالبول، والحشيشة كالعذرة (5) . انتهى.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) .
__________
(1) الهداية على البداية، 4 \ 109، ويرجع إلى بدائع الصنائع، 5 \ 113.
(2) تفسير القرطبي، 6 \ 288.
(3) أحكام القرآن لابن العربي، 2 \ 651.
(4) المغني، 9 \ 152.
(5) مختصر الفتاوى، 499.
(6) سورة المائدة الآية 90(57/70)
وجه الدلالة: ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى قال: " يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين؛ لأن الله تعالى قال: إنها رجس، والرجس في كلام العرب: كل مستقذر تعافه النفس، وقيل: إن أصله من الركس وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (1) ؛ لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها الله تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا؛ كقوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (2) ، وقوله: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} (3) بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول، وأهلها يصدعون أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها " (4) انتهى المقصود.
وأما السنة: فما رواه البخاري وغيره عن أبي ثعلبة الخشني قال: «قلت: يا نبي الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها (5) » .
وفي لفظ لأحمد عن أبي ثعلبة الخشني قال: «قلت: يا رسول الله، إن أرضنا أرض أهل كتاب، وأنهم يأكلون لحم الخنزير
__________
(1) سورة الإنسان الآية 21
(2) سورة الصافات الآية 47
(3) سورة الواقعة الآية 19
(4) أضواء البيان 2 \ 127، 128.
(5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5478) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4266) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، مسند أحمد بن حنبل (4/193) ، سنن الدارمي السير (2499) .(57/71)
ويشربون الخمر، فكيف أصنع بآنيتهم وقدورهم؟ قال: إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا (1) » . وعنه من طريق أخرى قال: «قلت: يا رسول الله، إنا أهل سفر نمر باليهود والنصارى والمجوس، ولا نجد غير آنيتهم قال: فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء، ثم كلوا فيها واشربوا (2) » .
وجه الدلالة: ما ذكره الخطابي بقوله: والأصل في هذا أنه إذا كان معلوما من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف (3) .
وقد يناقش ذلك بأن الأمر بغسلها من أجل أنهم يأكلون بها لحم الخنزير لا من أجل نجاسة الخمر.
ولا يجاب عن ذلك بأن نجاسة الخمر كانت متقررة عند الصحابة، ولهذا قال أبو ثعلبة الخشني عن المخرج من ذلك وكان السؤال عن أمرين، والجواب عنهما ولو لم تكن الخمر نجسة لما أمر بغسل الإناء الذي شرب فيه الخمر.
وأما الأثر: فروى ابن عساكر في تاريخه بسنده عن عمر رضي الله عنه كتب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه بلغني أنك تدلك بالخمر، والله قد حرم ظاهر الخمر وباطنها، وقد حرم مس الخمر كما حرم شربها فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجس (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5488) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4266) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، مسند أحمد بن حنبل (4/194) ، موطأ مالك الصيد (1075) ، سنن الدارمي السير (2499) .
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5488) ، سنن الترمذي الصيد (1464) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، سنن الدارمي السير (2499) .
(3) عون المعبود، 3 \ 728.
(4) التاريخ الكبير، 5 \ 105.(57/72)
وأما المعنى:
1 - أن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير (1) .
2 - أن من تمام تحريمها وكمال الردع عنها الحكم بنجاستها حتى يتقذرها العبد، فيكف عنها قربانا بالنجاسة، وشربا بالتحريم، فالحكم بنجاستها يوجب التحريم (2) .
القول الثاني: أنها طاهرة، قال القرطبي بعد ذكره لقول من قال أنها نجسة، قال: وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها، وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة. قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى النبي صلى الله عليه وسلم كما نهى عن التخلي في الطريق (3) . انتهى.
وقد يناقش هذا الاستدلال بالوجوه الآتية:
الوجه الأول: قد يقال: المواضع التي أريق فيها الخمر ليست مواضع للصلاة بل هي مسالك استطراق، فإما أن يقال بأنه لا يشق الاحتراز منها أو لا، وعلى القول بأنه لا يشق الاحتراز منها ووطئها المار فإنه يطهره ما بعده، فروى الإمام أحمد وأبو داود «أن امرأة قالت لأم سلمة: إني أطيل ذيلي وأمشي في
__________
(1) المغني، 9 \ 152، ويرجع لبدائع الصنائع، 5 \ 113.
(2) أحكام القرآن لابن العربي، 2 \ 651.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 \ 288.(57/73)
المكان القذر. فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده (1) » ، وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب لهما طهور (2) » . وفي لفظ: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورها التراب (3) » .
وروى أبو داود أيضا عن امرأة من بني عبد الأشهل «قالت: يا رسول الله، إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة، كيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: أو ليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (4) » .
وروى الترمذي مثله عن أم سلمة.
الوجه الثاني: قد يقال: إن إراقتها في الأسواق فيه زجر بليغ ليرى الناس الخمر التي تعلقت بها نفوسهم تراق، فيبادروا إلى الامتثال، فمن كان عنده شيء منها عرف أنه لا ينتفع به بأي وجه من وجوه الانتفاع.
الوجه الثالث: قد قال: إن الخمر لما أريقت في الطلاقات ضربتها الرياح وتعلقها التراب فزالت منها المادة المسكرة فتكون متخللة بنفسها، وقد ذكر العلماء أن الخمر إذا تخللت بنفسها أنها طاهرة. وقد مضى الكلام مفصلا على ذلك في البحث الذي أعد في موضوع الاستحالة والذي بحثه المجلس في دورته التاسعة.
الوجه الرابع: وقد يقال أيضا: إنها قليلة بحيث يسهل التحرر منها بالنسبة لمن يمر بالطريق الذي أريقت فيه.
الوجه الخامس: أن التغوط في الأسواق لا يتناسب مع
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (143) ، سنن أبو داود الطهارة (383) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531) ، مسند أحمد بن حنبل (6/316) ، موطأ مالك الطهارة (47) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .
(2) سنن أبو داود الطهارة (385) .
(3) سنن أبو داود الطهارة (385) .
(4) سنن أبو داود الطهارة (384) ، مسند أحمد بن حنبل (6/435) .(57/74)
المروءة، ولأنه لو ساغ لكل أحد أن يتغوط في السوق لأدى ذلك إلى ضرر على الناس واستمر الناس عليه إلى الأبد. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم» .
وبناء على ذلك لا يقال: لو كانت نجسة لنهى عن إراقتها في الأسواق كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التغوط في الأسواق.(57/75)
ثامنا: هل ينطبق على الكلونيا تعريف الخمر أو لا؟ وما حكم شربها واستعمالها على كل من التقديرين؟ وهل يحكم بنجاستها على تقدير أنها خمر أو لا؟
كل أنواع الكلونيا تحتوي على كحول فيما نعلم، ولكن نسبة هذا الكحول متفاوتة، وليس كل ما فيه كحول يسكر شاربه، وعلى هذا إذا بلغت نسبة الكحول في نوع من أنواعها حدا يجعل كثيرها مسكرا، فإنه ينطبق عليها تعريف الخمر عند جمهور الفقهاء فتسمى خمرا أيضا، ويحرم شرب قليلها وكثيرها، ويحد شاربها، ويجري فيها الخلاف في نجاستها، ولا ينطبق عليها تعريف الخمر عند أبي حنيفة ومن يوافقه من أهل العلم فلا تسمى خمرا، ولكن يحرم شرب الكثير منها دودن القليل.
وإذا لم تبلغ درجة أن يسكر شرب كثيرها، فلا ينطبق عليها تعريف الخمر عند جميع الفقهاء، ولا تسمى خمرا، ولا يحرم شربها ولا استعمالها للتطهير ولا لطيب رائحتها ولا يحكم بنجاستها.
وتقدير النسبة التي إذا بلغتها يكون كثيرها مسكرا يتوقف(57/75)
على تحليلها، ويرجع إلى رأي أهل الخبرة في ذلك.
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/76)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات
تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(57/77)
صفحة فارغة(57/78)
من الفتوى رقم 5729
السؤال الثالث: ما قولكم في: (حب الوطن من الإيمان) ، و (النظافة من الإيمان) ، و (التدبير نصف المعيشة) أو (الاقتصاد نصف المعيشة) ، هل هذه أحاديث صحيحة أم حكم فقط؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما ذكرته من الجمل ليست بأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي كلمات جرت على ألسنة الناس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/79)
الفتوى رقم 2768
السؤال السابع: «لا تجعلوا آخر طعامكم ماء» ، «نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» ، حديثان ينسبان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع العلم أنه بحث عنهما في مراجع من كتب السيرة والسنة فلم يعثر عليهما، أفيدونا بصحتهما أو نفيهما؟ .(57/79)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: حديث: «لا تجعلوا آخر طعامكم ماء» لم نطلع عليه بعد البحث في مظانه، والظاهر أنه موضوع.
ثانيا: حديث: «نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» جاء في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس لما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) بهذا اللفظ: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» ، وقد جزم العراقي بأنه لا أصل له بهذا اللفظ، وكذا المزي وغيره، ولكن معناه ورد في عدة أحاديث، ويمكنك الرجوع إلى (كشف الخفاء) لمزيد الإيضاح، وحديث أم سلمة المشهور المخرج في الصحيحين يدل على هذا المعنى.
السؤال الثامن: " علموا أبناءكم السباحة وركوب الخيل "، هل هذا حديث أو قولة لأحد الصحابة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث بهذا اللفظ لم نطلع عليه، ولكن لبعضه شواهد تدل على أن له أصلا، كما في " كشف الخفاء " للعجلوني، و " الجامع الصغير " للسيوطي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/80)
من الفتوى رقم 8983
السؤال السادس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«إذا صافحتم النصارى فتطهروا» ، فهل نغسل أيدينا بعدما نصافحهم أم نتوضأ وضوءنا للصلاة، نرجو الجواب بإيضاح وإقناع من سماحتكم، لأننا نعيش وسط الكفار ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث غير صحيح، جاء في كتاب الفوائد المجموعة حديث: «من صافح يهوديا أو نصرانيا فليتوضأ وليغسل يده» ، رواه ابن عدي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وقال: لا يصح، وفي إسناده إبراهيم بن هانئ مجهول يحدث بالأباطيل، وذكره الكناني في كتابه (تنزيه الشريعة) وقال: لا يصح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/81)
فتوى رقم 8689
س: ما صحة الحديث الآتي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمسة عشر عقوبة: منها ستة في الدنيا، وثلاثة عند الموت، وثلاثة في القبر، وثلاثة عند خروجه من القبر، أما الستة التي تصيبه في الدنيا فهي كالآتي
1 - ينزع الله البركة من عمره.
2 - يمسح الله اسم الصالحين من وجهه.
3 - كل عمل لا يؤجر من الله.
4 - لا يرفع له دعاء إلى السماء.
5- تمقته الخلائق في الدنيا.
6- ليس له حظ في دعاء الصالحين.
أما الثلاثة التي تصيبه عند الموت:
1 - أنه يموت ذليلا
2- أنه يموت جائعا.
3 - أنه يموت عطشان ولو سقي مياه بحار الدنيا ما روي من عطشه.
أما الثلاثة التي تصيبه في قبره فهي:
1 - يضيق الله عليه قبره ويعصره حتى تختلف ضلوعه.
2 - يوقد الله عليه في قبره نارا في جمرها.
3 - يسلط الله عليه ثعبان يسمى الشجاع الأقرع يضربه على ترك صلاة الصبح من الصبح إلى الظهر، وعلى تضييع(57/82)
صلاة الظهر من الظهر إلى العصر وهكذا. . . كلما ضربه يغوص في الأرض سبعين ذراعا.
أما الثلاثة التي تصيبه يوم القيامة فهي:
1 - يسلط الله عليه من يسحبه إلى نار جهنم على جمر بوجهه.
2 - ينظر الله تعالى إليه بعين الغضب وقت الحساب فيقع لحم وجهه.
3 - يحاسبه الله عز وجل حسابا شديدا ما عليه من مؤيد، ويأمر الله به إلى النار وبئس القرار؟» .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث باطل؛ قال الحافظ ابن حجر في اللسان هو من تركيب محمد بن علي بن العباس البغدادي العطار، زعم أبا بكر بن زياد النيسابوري أخذه عن الربيع عن الشافعي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «من تهاون بصلاته عاقبه الله بخمسة عشر خصلة» . . . الحديث. وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية، وهكذا قال الذهبي في الميزان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/83)
فتوى رقم 1754
س: " سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: " سل لنا ربك مم خلقك؟ فسأل رسول الله ربه قائلا: رب مم خلقتني؟ فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك من نور وجهي، وإني قسمت نور وجهي إلى ثلاثة أقسام: قسم خلقتك منه، وقسم خلقت منه أزواجك، وقسم خلقت منه من يحبك من أمتك ". نرجو بيان صحة هذا الحديث.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أصل له في كتب الحديث المعتبرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/84)
فتوى رقم 2637
س: قد ورد حديث في (صحيح الجامع الصغير) للسيوطي تحقيق محمد ناصر الدين الألباني المجلد السادس ص 292 رقم الحديث 7814- 2- 35، عن ابن عباس ورمز له بالصحة.
أرجو إبداء رأيكم فيه سندا ومتنا، ثم على فرض صحته، هل هو موافق للقرآن والسنة الصحيحة؛ لأني عندما قرأته لا زال في نفسي شيء من معناه وفي ألفاظه كذلك، أولا: في تخصيص العباس به، وكل الروايات في هذا المعنى عن العباس.
ثانيا: في قوله: «أوله وآخره وخطأه وعمده، وصغيره وكبيره (1) » .
ثالثا: «في كل يوم مرة، فإن لم تستطع ففي كل جمعة أو شهر أو سنة أو في عمرك (2) » .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث ليس بثابت، بل هو منكر، وذكره بعض أهل العلم في الموضوعات، ولا نعلم ما يدل على ما تضمنه من كتاب أو سنة، وهو الحديث المشهور بحديث (صلاة
__________
(1) سنن أبو داود كتاب الصلاة (1297) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1387) .
(2) سنن أبو داود كتاب الصلاة (1297) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1387) .(57/85)
التسبيح) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/86)
فتوى رقم 7586
س: قد عثرت على حديث قدسي في كتاب (منهاج الصالحين من أحاديث وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين) ، لمؤلفه عز الدين بليق، وقد وجدته في باب الأحاديث القدسية ونصه كالآتي: «أوحى الله إلى داود: وعزتي، ما من عبد يعتصم بي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات والأرض بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه، وأسخت الهوى تحت قدميه، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني، ومستجيب له قبل أن يدعوني، وغافر له قبل أن يستغفرني» . رواه تمام وابن عساكر والديلمي عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه.
وعلى حسب ما جاء في مقدمة هذا الكتاب من كلام(57/86)
المؤلف أنه لا يروي الأحاديث المتناقضة، ويستبعد الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة؛ اعتمدنا على هذا الكتاب، ولكني وجدت بعد فترة في كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني أن هذا الحديث موضوع، لهذا نود أن نعرف درجة هذا الحديث، وهل نستطيع أن نقوله أو لا؟ وما رأيكم في كتاب منهاج الصالحين وهل نستطيع أن نأخذ به؟ ورأيكم في كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني؟ أفيدونا أفادكم الله.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج. الحديث الذي ذكرت موضوع كما ذكر الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني؛ لأن في سنده يوسف السفر، وهو ممن يضع الأحاديث، ومن ذلك يتبين أن كتاب منهاج الصالحين فيه الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة، فلا ينبغي الاعتماد عليه، أما كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فمؤلفه واسع الإطلاع في الحديث، قوي في نقدها والحكم عليها بالصحة أو الضعف، وقد يخطئ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/87)
من الفتوى رقم 8707
السؤال الأول: سمعت حديثا يقول: «من أبكى كفيفا لم أشفع له» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا أصل له فيما نعلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/88)
فتوى رقم 8224
س: لقد قرأت في مجلة (قافلة الزيت) في عددها رقم (120) الصادر في ذي الحجة من عام 1404 هـ، وتحت عنوان: بني سعد والحارث وثقيف وبني مالك، حيث قرأت في تلك المقالة وفي الصفحة الثامنة والعشرين من المجلة(57/88)
وعلى لسان الشيخ زايد بن أحمد بن محمد الحارثي قاضي محكمة بني مالك أنه «عندما وفدت وفود القبائل على النبي صلى الله عليه وسلم كان من بينهم وفد بلحارث وهم الأزد يرأسهم - قال: - سويد بن حارثة، فلما كانوا بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: ما القوم؟ قال رئيسهم سويد: مؤمنون، قال عليه الصلاة والسلام: إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانكم؟ قال سويد: خمس عشرة خصلة، عشر منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها- يعني أركان الإيمان وأركان الإسلام- وخمس تخلقنا بها في جاهليتنا فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما الخمس؟ قال سويد: الثبات في موطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، والصبر على البلاء، والرضاء بمر القضاء، والشكر عند الرخاء. قال عليه الصلاة والسلام: يا لها من خمس وأنا أزيدكم خمسا فتعودون من عندي بعشرين، لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تتنافسوا في شيء أنتم عنه غدا راحلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون. وعندما ذهب القوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» . وبرفق طلبي هذا صورة من المجلة المذكورة.
أطلب من فضيلتكم إفادتي عن مدى صحة ما ذكر(57/89)
بعاليه، وهل أنه حديث صدر عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما هو منصوص ومكتوب بذلك؟ ولكم مني جزيل الشكر، وأن يكتب لكم الله الأجر والثواب والتوفيق والسداد.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما جاء في القصة التي في سؤالك من المحادثة التي دارت بين سويد رئيس الوفد وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الوفد: «فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» ، ذكرها ابن كثير في حديثه عن قدوم الأزد على رسول لله صلى الله عليه وسلم ج5 ص106 من كتاب البداية، وذكر صدرها ابن حجر في ترجمة سويد الأزدي في كتاب الإصابة، ومدار سندها على علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي عن أبيه عن جده سويد الأزدي، وعلقمة مجهول فلا يحتج به؛ لما ذكره ابن حجر في لسان الميزان قال: علقمة بن يزيد بن سويد عن أبيه عن جده لا يعرف، وأتى بخبر منكر فلا يحتج به. وعلى هذا فالخبر غير صحيح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/90)
فتوى رقم 8050
س: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال.
«لما خلق الله تعالى جبرائيل عليه السلام على أحسن صورة، وجعل له ستمائة جناح، طول كل جناح ما بين المشرق والمغرب؛ نظر إلى نفسه فقال- أي جبريل-: إلهي هل خلقت أحسن صورة مني؟ فقال الله تعالى: لا فقام جبرائيل وصلى ركعتين شكرا لله تعالى، فقام في كل ركعة عشرين ألف سنة، فلما فرغ من الصلاة قال الله تعالى: يا جبرائيل عبدتني حق عبادتي، ولا يعبد في أحد مثل عبادتك لكن يجيء في آخر الزمان نبي كريم حبيب إلي يقال له: محمد، وله أمة ضعيفة مذنبة يصلون ركعتين مع سهو ونقصان في ساعة يسيرة وأفكار كثيرة وذنوب كبيرة، فوعزتي وجلالي إن صلاتهم أحب إلي من صلاتك؛ لأن صلاتهم بأمري وأنت صليت بغير أمري. قال جبرائيل. يا رب، ما أعطيتهم في مقابلة عبادتهم، فقال الله تعالى: أعطيتهم جنة المأوى، فاستأذن من الله تعالى أن يراها، فأذن الله تعالى له، فأتى جبرائيل وفتح جميع أجنحته ثم طار، فكلما فتح جناحين قطع مسيرة ثلاثة آلاف سنة، وكلما ضم قطع مثل ذلك، فطار على هذا ثلاثمائة عام فعجز ونزل(57/91)
في ظل شجرة، وسجد لله تعالى فقال في سجوده: إلهي هل بلغت نصفها أو ثلثها أو ربعها؟ فقال الله تعالى: يا جبرائيل، لو طرت ثلاثمائة ألف عام ولو أعطيتك قوة مثل قوتك وأجنحة مثل أجنحتك فطرت مثل ما طرت لا تصل إلى عشر من أعشار ما أعطيته لأمة محمد في مقابلة ركعتين من صلاتهم» . انتهى.
وحديث آخر يا سيدي نصه كما يلي:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فضائل التراويح في شهر رمضان فقال: يخرج المؤمن من ذنبه في أول ليلة كيوم ولدته أمه، وفي الليلة الثانية يغفر له ولأبويه إن كانا مؤمنين، وفي الليلة الثالثة ينادي ملك من تحت العرش: استخلص العمل غفر الله ما تقدم من ذنبك. وفي الليلة الرابعة، له من الأجر مثل قراءة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وفي الليلة الخامسة أعطاه الله تعالى مثل من صلى في المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، وفي الليلة السادسة أعطاه الله تعالى ثواب من طاف بالبيت المعمور، ويستغفر له كل حجر ومدر، وفي الليلة السابعة فكأنما أدرك موسى عليه السلام ونصره على فرعون وهامان، وفي الليلة الثامنة أعطاه الله تعالى ما أعطي إبراهيم عليه السلام، وفي الليلة التاسعة فكأنما عبد الله تعالى عبادة النبي عليه السلام، وفي الليلة العاشرة يرزقه الله خير الدنيا والآخرة، وفي الليلة الحادية عشر يخرج من الدنيا كيوم(57/92)
ولد من بطن أمه، وفي الليلة الثانية عشر جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، وفي الليلة الثالثة عشر جاء يوم القيامة آمنا من كل سوء، وفي الليلة الرابعة عشر جاءت الملائكة يشهدون له أنه قد صلى التراويح فلا يحاسبه الله يوم القيامة، وفي الليلة الخامسة عشر يصلي عليه الملائكة وحملة العرش والكرسي، وفي الليلة السادسة عشر كتب الله له براءة النجاة من النار وبراءة الدخول إلى الجنة، وفي الليلة السابعة عشر يعطى مثل ثواب الأنبياء، وفي الليلة الثامنة عشر نادى ملك: يا عبد الله إن الله رضي عنك وعن والديك، وفي الليلة التاسعة عشر يرفع الله درجاته في الفردوس، وفي الليلة العشرين يعطى ثواب الشهداء الصالحين، وفي الليلة الحادية والعشرين بنى الله له بيتا في الجنة من النور، وفي الليلة الثانية والعشرين جاء يوم القيامة آمنا من كل هم وغم، وفي الليلة الثالثة والعشرين بنى الله له مدينة في الجنة، وفي الليلة الرابعة والعشرين كان له أربع وعشرون دعوة مستجابة، وفي الليلة الخامسة والعشرين يرفع الله تعالى عنه عذاب القبر، وفي الليلة السادسة والعشرين يرفع الله ثواب أربعين عاما، وفي الليلة السابعة والعشرين جاز يوم القيامة على الصراط كالبرق الخاطف، وفي الليلة الثامنة والعشرين يرفع الله له ألف درجة في الجنة، وفي الليلة التاسعة والعشرين أعطاه الله ثواب ألف حجة مقبولة، وفي الليلة الثلاثين يقول الله: يا عبدي كل من(57/93)
ثمار الجنة واغتسل من ماء السلسبيل، واشرب من الكوثر، أنا ربك وأنت عبدي» .
سيدي: صادفت من بين ما كنت أقرأ من إخواننا ممن يؤلفون يقولون بألسنتهم ما ليس في سنتنا ويخطئون بل وقد يكفرون والعياذ بالله، ويقدمون في نصائحهم ومواعظهم إلي المنغمسين في الناس ويسرون الخناس الذي يوسوس في صدور الناس نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، صرف الله عنا إلقاء الفتن في قلوبنا، لقد استعرت يا سيدي كتابا يسمى: (درة الناصحين) من شخص لا أعتقد والله أعلم أن له دراية أو فهما في أمور الدين، ومؤلف الكتاب يدعى: (عثمان بن حسن بن أحمد الحوبري) ، يذكر المؤلف أنه من البلدة العظيمة القسطنطينية، وبعض ما ذكر من مقدمة لهذا الكتاب: أخذت العناية في الكتاب بعناية الملك المنان كل آية بتنظيم القرآن الكريم، وانتقيت ما دل على أوصاف الجنان والجحيم، وألحقت بعض الأحاديث الشريفة والقصص اللطيفة فيمن يعمل عمل قوم لوط من الخبث والخبيثة، وبينت ما شأنه في الدنيا والآخرة، وهل يجب الحد أو الرجم على قياس الزاني والزانية، إلا أني ألتمس من بعض الأذكياء فضلا عن الفضلاء والكبراء أن يصلح ما وقع خطأ مني، وأن يرفع ما نشأ سهوا عني. . . إلخ.
سيدي إن ما دفعني للكتابة إليك خوفي من الله عز وجل(57/94)
حيث إنني ذكرت حديثا من هذا الكتاب، وكان قصدي ويعلم الله الترغيب في الصلاة لبعض إخواني وأصدقائي هداني الله وإياكم وإياهم لما يحبه ويرضاه، وقد ذكرت لفضيلتكم الحديث بالنص كما جاء في كتاب (درة الناصحين) الذي ذكرت، وألحق به أحاديث أخرى رويت أيضا عن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرجو من الله ثم من فضيلتكم أن تنور لي طريقي، وهل علي ذنب في ما ذكرته، جعلك من السعداء دنيا وآخرة، وأنزلك منازل الشهداء والصديقين، وجزاك الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: كلا الحديثين لا أصل له، بل هما من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/95)
من الفتوى رقم 7811
السؤال السادس: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلا بنى قبة فسأل الصحابة: من صاحب هذه القبة؟ فأجابوه، فلما أراد أن يسلم عليه صاحب هذه القبة أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما سأل صاحب القبة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قالوا له: إنك بنيت هذه القبة، فذهب إلى القبة فهدمها، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم. . . إلخ، ما صحة هذا الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه أبو داود (1) وابن ماجه مع اختلاف في اللفظ، وفي سنده عند ابن ماجه عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة وهو مجهول الحال، وفي سنده أيضا أبو طلحة الأسدي عندهما وهو مجهول الحال، وبذلك يعتبر الحديث ضعيفا.
السؤال السابع: قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
«من بنى بيتا كلف أن يحمله يوم القيامة» . أو كما قال صلى
__________
(1) كتاب الأدب رقم الحديث 5237 ج5 ص402، ومعه معالم السنن طبعة دار الحديث، حمص(57/96)
الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف يوم القيامة أن يحمله على عنقه» ، وقد ذكره الذهبي في الميزان وقال فيه: حديث منكر. وقال فيه الحافظ العراقي: في إسناده لين وانقطاع.
السؤال الثامن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ارتفع أكثر من سبعة أذرع» الحديث أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ما صحة هذا الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه الطبراني في الكبير عن أنس رضي الله عنه بلفظ: «من بنى فوق عشرة أذرع ناداه مناد السماء: يا عدو الله أين تريد؟» ، وبلفظ: «إذا بنى الرجل المسلم سبعة أذرع أو تسعة أذرع ناداه مناد من السماء أين تذهب يا أفسق الفاسقين» وفي سنده الربيع بن سليمان الحميري أورده الذهبي في ذيل الضعفاء. فهذه الأحاديث لا تنهض حجة على تحريم رفع البنيان.
لكن روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جوابه لجبريل عليه السلام(57/97)
لما سأله عن أمارات الساعة: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان (1) » ، فهذا حديث صحيح، وفيه ذم التطاول في البنيان، وقد حمل العلماء هذا على ما بني على سبيل التباهي والتفاخر والتبذير والإسراف، ويدل على ما قالوه ما في كلمة " يتطاولون " من التكلف والمباراة.
أما إطالة الأبنية وتكثيرها لتوفير المرافق والمساكن للمحتاجين والعاملين في جهاز الدولة ونحوها وللإيجار وأمثال ذلك فلا حرج فيه.
السؤال التاسع: قال صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء إذا لم يتبعوا السلطان» وقال أيضا: «العلماء ورثة الأنبياء إذا لم يتبعوا الدنيا» ما صحة هذين الحديثين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده عن مخلد بن مالك، عن إبراهيم بن رستم، عن عمر العبدي، عن إسماعيل بن سميع، عن أنس بن مالك بلفظ: «العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان أو يدخلوا الدنيا، فإذا خالطوا السلطان ودخلوا الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم» ، رواه العقيلي عن الحسن بن سفيان عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكره العجلوني في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس) بهذا اللفظ وقال: وفي رواية للحاكم فاعتزلوهم" اهـ.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .(57/98)
وفي سنده إبراهيم بن رستم، قال أبو حاتم: ليس بذاك، محله الصدق، وكان آفته الرأي، وكان يذكر بفقه وعبادة.
وسأل عثمان الدارمي يحيى بن معين عن إبراهيم بن رستم، فقال: ثقة. وقال ابن عدي: إبراهيم بن رستم منكر الحديث. وقال الدارقطني: مشهور وليس بالقوي عن قيس بن الربيع. وقال العقيلي: خراساني كثير الوهم. وأورد لذلك شاهدا، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وفي سنده أيضا عمر بن حفص أبو حفص العبدي البصري، قال الإمام أحمد: تركنا حديثه وخرقناه. وقال زكريا الساجي: متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: أبو حفص العبدي ليس بشيء. وقال مرة: لم يكن ثقة. وقال علي بن عبد الله المديني: ليس بثقة. وقال أبو زرعة الرازي فيه: واهي الحديث، لا أعلم حدث عنه كبير أحد إلا من لا يدري الحديث. وقال مسلم بن الحجاج: أبو حفص عمر بن حفص ضعيف. وقال أحمد بن شعيب النسائي: عمر بن حفص أبو حفص العبدي ليس بثقة. وقال محمد بن سعد: عمر بن حفص العبدي كان ضعيفا عندهم في الحديث، كتبوا عنه ثم تركوه.
وقال البخاري: عمر بن حفص أبو حفص العبدي ليس بالقوي مات سنة 198 هـ ويقال سنة 200هـ، وقال ابن الجوزي: هذا الحديث موضوع؛ إبراهيم لا يعرف والعبدي متروك. اهـ.
هذا ولشدة ضعفه لا تنهض شواهده لرفعه إلى مرتبة الحسن لغيره، وعلى تقدير أنه مقبول يحمل على علماء السوء الذين(57/99)
يخالطون الولاة تزلفا إليهم، وطلبا للمنزلة والجاه لديهم، وطمعا في الدنيا، ولهذا تجدهم لا ينكرون عليهم منكرا بل يزينون لهم القبيح ولا يدفعونهم عما قد يكون معهم من ظلم وجور ومخالفات للشرع؛ فهؤلاء بطانة السوء وعيبة الشر، لا على من يخالطهم على وجه النصح لهم وإرشادهم إلى الحق ودعوتهم إلى العمل به وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فهؤلاء بطانة خير ورشد، ولا بد لولاة الأمر منهم لحاجتهم إلى نصحهم وإرشادهم تحقيقا لمصلحة الأمة وسياسة الرعية على هدي الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(57/100)
من الفتوى رقم 181
السؤال الأول: أشكلت علي أحاديث قرأتها في كتب السنن، حيث إنه روى أبو داود مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا بد منه (1) » مما يستره من الحر والبرد والسباع ونحو ذلك، وفي رواية أيضا للطبراني بإسناد جيد مرفوعا: «إذا أراد الله بعبده شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني» ، وفي رواية له
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5237) .(57/100)
أيضا: «إذا أراد الله بعبده هوانا أنفق ماله في البنيان» ، وفي رواية أيضا: «من بنى فوق كفايته كلف أن يحمله يوم القيامة» ، روى الدارقطني والحاكم مرفوعا: «وما أنفق العبد من نفقة فإن خلفها على الله والله ضامن، إلا ما كان في البنيان أو معصية» ، وفي الترمذي أيضا: «يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب، أو قال في البناء (1) » ، وروى الترمذي مرفوعا: «النفقة كلها في سبيل الله، إلا البناء فلا خير فيه (2) » ، وروى أبو داود وغيره: «أن العباس بنى قبة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدمها، فقال: يا رسول الله، إذن أتصدق بثمنها. فقال: لا، اهدمها» ، وروى أبو داود أيضا وابن ماجه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبة على باب رجل من الأنصار فقال: ما هذه؟ قالوا: قبة بناها فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ما كان هكذا فهو وبال على صاحبه. فبلغ الأنصاري ذلك فوضعها، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهرها، فسأل عنها، فأخبر أنه وضعها لما بلغه عنه، فقال: يرحمه الله، يرحمه الله (3) » . وفي رواية لابن أبي الدنيا عن عامر بن عمار مرفوعا: «إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع نودي: يا أفسق الفاسقين إلى أين» انتهى.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذه الأحاديث التي ذكرتم نبين درجتها أولا ثم نتبع
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2483) ، سنن ابن ماجه الزهد (4163) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2482) .
(3) سنن أبو داود الأدب (5237) ، سنن ابن ماجه الزهد (4161) .(57/101)
ذلك الجواب عما صح في هذا الباب. أما بيان درجة كل حديث منها فكما يلي:
1 - حديث «أما إن كل بناء وبال على صاحبه (1) » الحديث رواه أبو داود عن أنس، قال المناوي في فيض القدير نقلا عن ابن حجر أنه قال: " رجاله موثقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي، غير معروف، والشواهد عند الطبراني ".
2 - حديث: «إذا أراد الله بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني» رواه الطبراني بإسناد جيد حسبما ذكرت في السؤال، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالضعف.
قال المناوي نقلا عن الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير شيخ البخاري، ولم أجد من ضعفه، وقال المنذري: رواه في الثلاثة- يعني الطبراني - بإسناد جيد، وقال المناوي أيضا: عزاه جمع لأبي داود من حديث عائشة، قال العراقي: وإسناده جيد.
3- حديث: «إذا أراد الله بعبد هوانا» الحديث، قال السيوطي في الجامع الصغير: رواه البغوي والبيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن بشير الأنصاري وماله غير، وابن عدي في الكامل عن أنس، ورمز له السيوطي بالضعف، قال المناوي في رواية محمد بن بشير: قال الهيثمي: رواه عنه ابنه يحيى إن صح، وفيه سلمة بن شريح، قال الذهبي: مجهول. وقال المناوي: في رواية ابن عدي عن أنس في ترجمة زكريا المصري الوقاد وقال: يضع الحديث، كذبه صالح جزرة وغيره، ولما عزاه الهيثمي إلى الطبراني قال: فيه من لم أعرفهم.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5237) .(57/102)
4 - حديث: «من بنى فوق كفايته» رمز له السيوطي في الجامع الصغير بالضعف، وقال المناوي: قال في الميزان: هذا حديث منكر، وقال الحافظ العراقي: إسناده فيه لين وانقطاع.
5 - حديث: «وما أنفقه العبد من نفقة» الحديث رواه الدارقطني والحاكم، وفي سنده عبد الحميد بن حسن الهلالي، وقد ضعفه جماعة.
6 - حديث: «يؤجر الرجل في نفقته (1) » الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير للترمذي عن خباب ورمز له السيوطي بالصحة، وسكت عنه المناوي، وروى معناه البخاري ومسلم عن خباب موقوفا بلفظ: «إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب (2) » وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي.
7 - «النفقة كلها في سبيل الله (3) » الحديث رواه الترمذي عن أنس، ورمز السيوطي براموز الحسن، وقال الترمذي بعد روايته في أبواب صفة القيامة باب النهي عن تمني الموت- قال: غريب.
وقال المناوي: قال الصدر المناوي: وفيه محمد بن حميد الرازي وزافر بن سليمان وشبيب بن بشر ومحمد، قال البخاري: فيه نظر، وكذبه أبو زرعة، وزافر فيه ضعف، وشبيب لين.
8 - حديث: «أن العباس بنى قبة» الحديث رواه أبو داود مرسلا عن أبي العالية، والمراسيل من جملة الأحاديث الضعيفة.
9 - حديث أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبة. . . الحديث هذا هو سبب الحديث الأول، وقد مضى الكلام عليه.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2483) ، سنن ابن ماجه الزهد (4163) .
(2) صحيح البخاري المرضى (5672) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2483) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2482) .(57/103)
10 - «إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع» . . . . إلخ، وهذا أثر، ولم نقف على من صححه، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، ج11 ص92 ما نصه: " وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة بن عامر: «إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي: يا فاسق إلى أين» ، وفي سنده ضعف مع كونه موقوفا " اهـ.
هذه الأحاديث وما جاء في معناها، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما ليس بصحيح، فما كان منها حجة فهو محمول على ذم من فعل ذلك للتباهي والإسراف والتبذير، فإن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن علامات الساعة: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان (1) » ، قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه، وذكر النووي هذا المعنى في شرح صحيح مسلم حينما تكلم على هذا الحديث.
أما إذا طال البنيان لغرض شرعي كتوفير المرافق والمساكن للمحتاجين أو لاتخاذها سبيلا للكسب أو لكثرة من يعول ونحو ذلك فلا شيء في ذلك فيما يظهر لنا، فإن الأمور بمقاصدها، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » والحديث
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(57/104)
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(57/105)
فتوى رقم (21026)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عرض عليها من بعض الناصحين كتاب باسم: " الإنصاف في ما جاء في الأخذ من اللحية وتغيير الشيب بالسواد من الخلاف " تأليف: دبيان بن محمد الدبيان، انتهى فيه إلى: جواز أخذ ما زاد على القبضة من اللحية، وإلى أن تغيير الشيب بالسواد مكروه وليس محرما.
وبعد الدراسة والتأمل أجابت اللجنة بما يأتي: أن هذا الذي قاله المؤلف في هاتين المسألتين خطأ واضح؛ لأنه من المستقر في الشرع المطهر وجوب إعفاء اللحية بدلالة الفطرة وسنة الأنبياء وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوفير اللحية، والأصل في الأمر أنه للوجوب، والأمر بمخالفة المشركين من(57/105)
المجوس وغيرهم، والأصل في النهي أنه للتحريم، وأنه يحرم على المسلم التعرض للحيته بحلق أو قص أو نتف؛ لمخالفته الدلائل المذكورة، وأدلة هذا الحكم كما يأتي:
أما دلالة الفطرة: فقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك (1) » . . . الحديث. رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم.
وأما سنة الأنبياء: فقد «ثبت من صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية،» وفي لفظ: «كثير شعر اللحية (2) » . وكانت قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلاة السرية يعرفها من خلفه باضطراب لحيته، كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي معمر رضي الله عنه.
وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم: فقد كثرت السنن الصحيحة بذلك صريحة في الأمر بها بلفظ: «أعفوا اللحى (3) » . ولفظ: «أرخوا (4) » ، ولفظ: «وفروا (5) » ، ولفظ: «أوفوا (6) » ، وهذه الألفاظ تعني عدم التعرض للحية بحلق أو قص أو نتف.
وهذا الأمر بإعفاء اللحية قد حكى الإجماع على وجوبه ابن حزم رحمه الله تعالى، كما نقله عنه ابن مفلح رحمه الله تعالى في: الفروع (1 \ 131) .
لهذا فيجب على كل مسلم إعفاء لحيته إبقاء للفطرة، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في فعله، وامتثالا لأمره صلى
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(2) صحيح مسلم الفضائل (2344) ، سنن النسائي الزينة (5114) ، مسند أحمد بن حنبل (5/104) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5893) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2763) ، سنن النسائي الزينة (5046) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(4) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(5) صحيح البخاري التعبير (7005) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/305) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .
(6) سبق تخريجه.(57/106)
الله عليه وسلم بإعفائها، ومعلوم أن الأمر يقتضي الوجوب حتى يوجد صارف لذلك عن أصله، ولا نعلم ما يصرفه عن ذلك.
وأنه لا يجوز لمسلم التعرض للحية بحلق أو قص أو نتف، فإن ذلك حرام على المسلم فعله، لمخالفته الدلائل المذكورة، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة المشركين من المجوس وغيرهم، وأصل النهي للتحريم حتى يوجد صارف له عن أصله، ولا نعلم دليلا يصلح للاحتجاج به يصرفه عن ذلك الأصل.
وبناء على ما ذكر فإن القول بجواز قص ما زاد على القبضة قول معارض لهذه الأدلة الجلية من السنة النبوية، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، ويقول عز شأنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) ، ويقول عز من قائل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) .
فالواجب على المسلم طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك الالتفات إلى ما يخالف الأدلة الشرعية، فإن الواجب هو اتباع المعصوم صلى الله عليه وسلم.
كما أن ما ذهب إليه المؤلف من كراهة الصبغ بالسواد قول مخالف للصواب؛ لأن الأدلة من السنة صحيحة صريحة في النهي عنه، وأصل النهي للتحريم ولم يوجد دليل صارف عنه، وقد
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة الأحزاب الآية 36(57/107)
صدرت بهذا عدد من الفتاوى.
لهذا رأت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إصدار هذه الفتوى بيانا للسنة ونصرة لها وتحذيرا من الاغترار بالأقوال المهجورة المخالفة للسنة، ومنها ما ذهب إليه صاحب الكتاب المذكور، وننصحه بأن عليه مراجعة الحق، والرجوع إليه، والكف عن نشر مثل هذا الرأي الذي يخالف السنة القولية والفعلية، وما جرى عليه عامة المسلمين من الصدر الأول الصحابة رضي الله عنهم إلى عصرنا، ولما في نشر الآراء المخالفة للأدلة الشرعية من ترقيق الديانة وتجرئة الناس على مخالفة السنة. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(57/108)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (يرحمه الله)
حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور
س: ما حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور؟
ج: إذا كانت الزيارة لسؤال الموتى والتقرب إليهم بالذبائح والنذر لهم والاستغاثة بهم ودعوتهم من دون الله فهذا شرك أكبر.
وهكذا ما يفعلونه مع من يسمونهم بالأولياء، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، حيث يعتقدون فيهم أنهم ينفعونهم أو يضرونهم أو يجيبون دعوتهم أو يشفون مرضاهم، كل هذا شرك أكبر والعياذ بالله.
وهذا كعمل المشركين مع اللات والعزى ومناة ومع أصنامهم وآلهتهم الأخرى. والواجب على ولاة الأمر والعلماء في بلاد المسلمين أن ينكروا هذا العمل، وأن يعلموا الناس ما يجب عليهم من شرع الله، وأن يمنعوا هذا الشرك، وأن يحولوا بين العامة وبينه، وأن يهدموا القباب التي على القبور ويزيلوها؛ لأنها فتنة، ولأنها من أسباب الشرك، ولأنها محرمة. فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور وأن تجصص، وأن يقعد عليها وأن يصلى إليها، ولعن من اتخذ عليها المساجد، فلا يجوز(57/109)
البناء عليها لا مساجد ولا غيرها، بل يجب أن تكون بارزة ليس عليها بناء، كما كانت قبور المسلمين في المدينة المنورة، وفي كل بلد إسلامي لم يتأثر بالبدع والأهواء.(57/110)
حكم الاحتفال بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بمناسبة المولد النبوي
س: هل يحل للمسلمين أن يحتفلوا في المسجد ليتذكروا السيرة النبوية الشريفة في ليلة 12 ربيع الأول بمناسبة المولد النبوي الشريف بدون أن يعطلوا نهاره كالعيد؟ واختلفنا فيه، قيل: بدعة حسنة. وقيل: بدعة غير حسنة.
ج: ليس للمسلمين أن يقيموا احتفالا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة 12 من ربيع الأول ولا في غيرها، كما أنه ليس لهم أن يقيموا أي احتفال بمولد غيره عليه الصلاة والسلام؛ لأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته صلى الله عليه وسلم، وهو المبلغ للدين والمشرع للشرائع عن ربه سبحانه وتعالى، ولا أمر بذلك، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه جميعا، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، فعلم أنه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وفي رواية مسلم وعلقها البخاري جازما بها «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(57/110)
والاحتفال بالموالد ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم بل هو مما أحدثه الناس في دينه في القرون المتأخرة فيكون مردودا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » رواه مسلم في صحيحه، وأخرجه النسائي بإسناد جيد وزاد: «وكل ضلالة في النار (2) » .
ويغني عن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم تدريس سيرته عليه الصلاة والسلام وتاريخ حياته في الجاهلية والإسلام في المدارس والمساجد وغير ذلك، ويدخل في ذلك بيان ما يتعلق بمولده صلى الله عليه وسلم وتاريخ وفاته من غير حاجة إلى إحداث احتفال لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقم عليه دليل شرعي.
والله المستعان، ونسأل الله تعالى لجميع المسلمين الهداية والتوفيق للاكتفاء بالسنة والحذر من البدعة.
__________
(1) رواه مسلم في (الجمعة) باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867) .
(2) رواه النسائي في (صلاة العيدين) باب كيف الخطبة برقم (1578) .(57/111)
معنى البدعة وإطلاقها في أبواب العبادات
س: متى يوصف العمل بأنه بدعة في الشرع المطهر؟ وهل إطلاق البدعة يكون في أبواب العبادات فقط، أم يشمل العبادات(57/111)
والمعاملات؟
ج: البدعة في الشرع المطهر هي كل عبادة أحدثها الناس ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة ولا في عمل الخلفاء الأربعة الراشدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وتطلق البدعة في اللغة العربية على كل محدث على غير مثال سابق، لكن لا يتعلق بها حكم المنع إذا لم تكن من البدع في الدين، أما في المعاملات فما وافق الشرع منها فهو عقد شرعي، وما خالفه فهو عقد فاسد، ولا يسمى بدعة في الشرع؛ لأنه ليس من العبادة.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) رواه أحمد في (مسند الشاميين) حديث العرباض بن سارية برقم (16695) .(57/112)
حكم الذبح عند الأضرحة ودعاء أهلها
س: ما حكم التقرب بذبح الذبائح في أضرحة الأولياء الصالحين، وقول: بحق وليك الصالح فلان اشفنا أو أبعد عنا الكرب الفلاني؟
ج: من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك هو " الذبح "، بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله. قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له، خلافا لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (5) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) ، والآيات في هذا المعنى
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة البينة الآية 5(57/113)
كثيرة. والذبح من العبادة فيجب إخلاصه لله وحده. وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » .
وأما قول القائل: أسأل الله بحق أوليائه أو بجاه أوليائه أو بحق النبي أو بجاه النبي فهذا ليس من الشرك، ولكنه بدعة عند جمهور أهل العلم ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة، وكيفيته من الأمور التوقيفية، ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق، فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه؛ لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري في صحيحه جازما بها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، ومعنى قوله: " فهو رد " أي مردود على صاحبه لا يقبل، فالواجب على أهل الإسلام التقيد بما شرعه الله والحذر مما أحدثه الناس من البدع.
أما التوسل المشروع فهو التوسل بأسماء الله وصفاته وبتوحيده وبالأعمال الصالحات ومنها الإيمان بالله ورسوله ومحبة
__________
(1) رواه مسلم في (الأضاحي) باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978) .
(2) سورة الشورى الآية 21
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(57/114)
الله ورسوله ونحو ذلك من أعمال البر والخير. والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم «سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب (2) » أخرجه أهل السنن الأربع وصححه ابن حبان.
ومنها حديث أصحاب الغار الذين توسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بأعمالهم الصالحة، فإن الأول منهم توسل إلى الله سبحانه ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته عن الزنا بعد قدرته عليه، والثالث توسل إلى الله سبحانه بكونه نمى أجرة الأجير ثم سلمها له، ففرج الله كربتهم وقبل دعاءهم وأزال عنهم الصخرة التي سدت عليهم باب الغار، والحديث متفق على صحته (3) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) رواه الترمذي في (الدعوات) باب ما جاء في جامع الدعوات برقم (3475) ، وابن ماجه في (الدعاء) باب اسم الله الأعظم برقم (3857) .
(3) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء) باب حديث الغار برقم (3465) .(57/115)
بدع في شهر رجب
س: يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات، كصلاة الرغائب وإحياء ليلة (27) منه، فهل لذلك أصل في(57/115)
الشرع؟ جزاكم الله خيرا.
ج: تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة (27) منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم، وقد كتبنا في ذلك غير مرة، وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب، وهكذا الاحتفال بليلة (27) اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها، ولو علمت لم يجز الاحتفال بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها.
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » أخرجه مسلم في صحيحه، ومعنى فهو رد أي مردود على صاحبه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(57/116)
الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » أخرجه مسلم أيضا. فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها، والتواصي بها، والحذر من البدع كلها؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » أخرجه مسلم في صحيحه.
أما العمرة فلا بأس بها في رجب؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب» ، وكان السلف يعتمرون في رجب، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه اللطائف عن عمر وابنه وعائشة رضي الله عنهم، ونقل عن ابن سيرين أن السلف كانوا يفعلون ذلك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55) .(57/117)
س: ما هو توجيه فضيلتكم في حفلات أعياد الميلاد؟ وما رأيكم فيها؟
ج: حفلات الميلاد من البدع التي بينها أهل العلم، وهي داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق عليه من حديث عائشة رضي الله
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(57/117)
عنها. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، زاد النسائي بإسناد صحيح: «وكل ضلالة في النار (3) » .
فالواجب على المسلمين ذكورا كانوا أو إناثا الحذر من البدع كلها، والإسلام بحمد الله فيه الكفاية وهو كامل؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
فقد أكمل الله لنا الدين بما شرع من الأوامر، وما نهى عنه من النواهي، فليس الناس في حاجة إلى بدعة يبتدعها أحد، لا الاحتفال بالميلاد ولا غيره، فالاحتفالات بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أو بميلاد الصديق أو عمر أو عثمان أو علي أو الحسن أو الحسين أو فاطمة أو البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو فلان أو فلانة كل ذلك لا أصل له، وكله منكر، وكله منهي عنه، وكله داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «وكل بدعة ضلالة (5) » ، فلا يجوز للمسلمين تعاطي هذه البدع ولو فعلها من فعلها من الناس، فليس فعل الناس تشريعا للمسلمين، وليس فعل الناس قدوة إلا إذا وافق الشرع. فأفعال الناس وعقائدهم كلها تعرض على الميزان الشرعي وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(57/118)
فما وافقهما قبل، وما خالفهما ترك، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) .
وفق الله الجميع، وهدى الجميع صراطه المستقيم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59(57/119)
حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
س: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟
ج: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى فيها قبور، لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وحذر وذم اليهود والنصارى على عملهم ذلك. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » قالت عائشة رضي الله عنها: "يحذر ما صنعوا". متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة فيها صور وأنها كذا وكذا فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد برقم (1330) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور برقم (529) .(57/119)
شرار الخلق عند الله يوم القيامة (1) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام.
ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجدا، ومن بنى عليه ليصلي فيه فقد اتخذه مسجدا. فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد وألا يجعل فيها قبور؛ امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وحذرا من اللعنة التي صدرت من ربنا عز وجل لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور قد يزين له الشيطان دعوة الميت، أو الاستغاثة به، أو الصلاة له، أو السجود له، فيقع في الشرك الأكبر، ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم وأن نبتعد عن طريقهم وعن عملهم السيئ. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب بناء المسجد على القبر برقم (1341) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (528) .
(2) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور برقم (532) .(57/120)
س: إذا مات رجل وهو لا يستغيث بالأموات ولا يفعل مثل هذه الأمور المنهي عنها، إلا أنه فعل ذلك مرة واحدة فيما أعلم، حيث استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم في زيارته لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أن ذلك حرام وشرك،(57/120)
ثم حج بعد ذلك دون أن ينبهه أحد على ذلك، ودون أن يعرف الحكم فيما أظن حتى توفاه الله، وكان هذا الرجل يصلي ويستغفر الله، لكنه لا يعرف أن تلك المرة التي فعلها حرام، فيا ترى هل من فعل ذلك ولو مرة واحدة، وإذا مات وهو يجهل مثل ذلك، هل يعتبر مشركا؟ نرجو التوضيح والتوجيه جزاكم الله خيرا.
ج: إن كان من ذكرته تاب إلى الله بعد المرة التي ذكرت، ورجع إليه سبحانه، واستغفر من ذلك، زال حكم ذلك وثبت إسلامه. أما إذا كان استمر على العقيدة التي هي الاستغاثة بغير الله ولم يتب إلى الله من ذلك فإنه يبقى على شركه ولو صلى وصام حتى يتوب إلى الله مما هو فيه من الشرك.
وهكذا لو أن إنسانا يسب الله ورسوله، أو يسب دين الله، أو يستهزئ بدين الله، أو بالجنة أو بالنار، فإنه لا ينفعه كونه يصلي ويصوم إذا وجد منه الناقض من نواقض الإسلام بطلت الأعمال حتى يتوب إلى الله من ذلك، هذه قاعدة مهمة، قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (3) ، وأم النبي صلى الله عليه وسلم ماتت في الجاهلية، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليستغفر لها فلم يؤذن له.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة الزمر الآية 66(57/121)
وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه: «إن أبي وأباك في النار (1) » وقد ماتا في الجاهلية.
والمقصود أن من مات على الشرك لا يستغفر له، ولا يدعى له، ولا يتصدق عنه، إلا إذا علم أنه تاب إلى الله من ذلك، هذه هي القاعدة المعروفة عند أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في (الإيمان) باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار برقم (203) .(57/122)
صاحب هذا الاعتقاد كافر
س: إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر وأنه يعلم الغيب، وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عز وجل، فهل يدخل النار ويعتبر مشركا؟ علما بأنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد، وأنه عاش في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك، فما حكمه؟ وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته؟
ج: من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببشر- أي ليس من بني آدم- أو يعتقد أنه يعلم الغيب فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافرا كفرا أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به أو ينذر له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام؛ لأن هذا من جنس(57/122)
عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر، ويسمي بعض الناس هذا النوع من الشرك توسلا، وهو حقيقة عين الشرك الأكبر. وهناك نوع ثان من التوسل ليس من الشرك، بل هو من البدع ووسائل الشرك، وهو التوسل بجاه الأنبياء والصالحين أو بحق الأنبياء والصالحين أو بذواتهم، فالواجب الحذر من النوعين جميعا. ومن مات على النوع الأول لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له ولا يتصدق عنه؛ لقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) .
وأما التوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده والإيمان به فهو توسل مشروع، ومن أسباب الإجابة؛ لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سمع من يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (3) » .
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة من بر الوالدين وأداء الأمانة والعفة عما حرم الله ونحو ذلك، كما ورد ذلك في حديث
__________
(1) سورة التوبة الآية 113
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن أبو داود الصلاة (1493) .(57/123)
أصحاب الغار المخرج في الصحيحين، وهم ثلاثة، آواهم المبيت والمطر إلى غار، فلما دخلوا فيه انحدرت عليهم صخرة من أعلى الجبل فسدت الغار عليهم فلم يستطيعوا الخروج، فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم، فتوجهوا إلى الله سبحانه فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أسقى قبلهما أهلا ولا مالا، وإني ذات ليلة نأى بي طلب الشجر، فلما رحت عليهما بغبوقهما وجدتهما نائمين، فلم أوقظهما وكرهت أن أسقي قبلهما أهلا أو مالا، فلم أزل على ذلك حتى طلع الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
أما الثاني فتوسل بعفته عن الزنى حيث كانت له ابنة عم يحبها كثيرا وأرادها في نفسها فأبت عليه، ثم ألمت بها حاجة شديدة فجاءت إليه تطلب منه المساعدة فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها، فوافقت على هذا من أجل حاجتها، فأعطاها مائة دينار وعشرين دينارا، فلما جلس بين رجليها قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فخاف من الله حينئذ، وقام عنها وترك لها الذهب خوفا من الله عز وجل. فقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
ثم قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيت كل(57/124)
واحد منهم أجره إلا واحدا ترك أجره، فنميته له حتى بلغ إبلا وبقرا وغنما ورقيقا، فجاء يطلب أجره، فقلت له: كل هذا من أجرك- يعني الإبل والبقر والغنم والرقيق- فقال: يا عبد الله، اتق الله ولا تستهزئ بي. فقلت له: إني لا أستهزئ بك إنه كله مالك. فساقه كله. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا جميعا يمشون (1) .
وذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحة الطيبة أمر مشروع، وأن الله جل وعلا يفرج به الكربات، كما جرى لهؤلاء الثلاثة. أما التوسل بجاه فلان وبحق فلان أو بذات فلان فهذا غير مشروع، بل هو من البدع كما تقدم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء) باب حديث الغار برقم (3465) .(57/125)
س: هل التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم جائز؟
ج: لا يجوز، بل هو بدعة من وسائل الشرك، فالتبرك بزيد أو عمرو أو بجدران الكعبة أو بما يشبهه أو بالأسطوانات هذه بدعة قد تفضي إلى الشرك إذا ظن أن البركة تحصل منها، أما إذا ظن أنها مشروعة فهذه بدعة، والواجب ترك ذلك، وإنما شرع التبرك به صلى الله عليه وسلم في حياته، وكذلك شرع الله التبرك بماء زمزم الذي جعله الله مباركا. لكن يجب على المؤمن التمسك بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحذر مما خالفها. والله ولي التوفيق.(57/125)
س: يوجد عندنا مسجد به ضريح، ولا نعلم هل المسجد بني على القبر أم المسجد بنى أولا، وقد قمنا لعدم توفير النفقة لبناء مسجد آخر ببناء جدار يفصل القبر عن المسجد، علما أن بناء الجدار الفاصل داخل حدود المسجد، فهل هذا العمل جائز؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: الواجب نبش القبر وإبعاده إلى المقابر، وإخراج الرفات، ودفن صاحبه في المقبرة العامة، هذا إذا كان الميت دفن في المسجد بعد بناء المسجد؛ فإنه ينبش القبر ويؤخذ الرفات ويوضع في المقابر العامة، يحفر له، ويوضع في المقابر العامة كسائر القبور. ولا يجوز دفن الموتى في المساجد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن اليهود والنصارى إذا مات منهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، قال: «أولئك شرار الخلق عند الله (2) » ، فالواجب إذا كان هناك مسجد وضع فيه قبر فإنه يجب إخراج رفات القبر ووضعها في قبر خاص في المقبرة العامة حتى لا يوجد في المساجد شيء من القبور، أما إذا كان المسجد بني على القبر والقبر هو القديم فإن المسجد يهدم ويلتمسون مسجدا آخر، يبنى لهم مسجد آخر، أرض الله واسعة؛ لأن الرسول صلى
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد برقم (1330) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور برقم (529) .
(2) رواه البخاري في (الجنائز) باب بناء المسجد على القبر برقم (1341) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (528) .(57/126)
الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر، وأن يجصص، وأن يقعد عليه؛ لأن هذه وسيلة إلى الشرك، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (1) » ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان المسجد هو الذي بني على القبر فيهدم المسجد ويبنونه في محل آخر ليس فيه قبور، والقبر إذا كان وحده ينبش ويوضع في محل القبور حتى لا يغالى فيه ولا يفتتن فيه أحد. نسأل الله العافية ونسأل الله أن يهدي المسلمين.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في (الجنائز) باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه برقم (972) .(57/127)
حكم قراءة سورة يس عند المحتضر
س: هل قراءة سورة (يس) عند الاحتضار جائزة؟
ج: قراءة سورة (يس) عند الاحتضار جاءت في حديث معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا على موتاكم يس (1) » صححه جماعة وظنوا أن إسناده جيد وأنه من رواية أبي عثمان النهدي عن معقل بن يسار، وضعفه آخرون، وقالوا: إن الراوي له ليس هو أبا عثمان النهدي ولكنه شخص آخر مجهول.
فالحديث المعروف فيه أنه ضعيف لجهالة أبي عثمان، فلا يستحب قراءتها على الموتى. والذي استحبها ظن أن الحديث صحيح فاستحبها، لكن قراءة القرآن عند المريض أمر طيب، ولعل الله ينفعه بذلك، أما تخصيص سورة (يس) فالأصل أن الحديث
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3121) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1448) .(57/127)
ضعيف، فتخصيصها ليس له وجه.(57/128)
حكم وضع المصحف على بطن الميت
س: ما حكم وضع المصحف على الميت؟
ج: لا أصل لذلك، ولا يشرع، بل هو بدعة.
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ (هـ. هـ. هـ) من الرياض تقول في سؤالها: ما حكم قراءة القرآن على الميت، ووضع المصحف على بطنه؟
ج: ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح، بل ذلك غير مشروع، بل من البدع، وهكذا وضع المصحف على بطنه ليس له أصل، وليس بمشروع، وإنما ذكر بعض أهل العلم وضع حديدة أو شيء ثقيل على بطنه بعد الموت حتى لا ينتفخ.(57/128)
حكم قراءة القرآن على الأموات
س: أرجو من سماحة الشيخ أن ينبه المسلمين إلى حكم قراءة القرآن على الأموات هل هو جائز أم لا؟ وما حكم الأحاديث الواردة في ذلك؟
ج: القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا(57/128)
كتاب الله ويتعقلوه، أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له فهذا لا نعلم له أصلا، وقد صنف العلماء في ذلك وكتبوا في هذا كتابات كثيرة منهم من أجاز القراءة ورغب في أن يقرأ للميت ختمات وجعل ذلك من جنس الصدقة بالمال، ومن أهل العلم من قال: هذه أمور توقيفية؛ يعني أنها من العبادات فلا يجوز أن يفعل منها إلا ما أقره الشرع. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وليس هناك دليل في هذا الباب فيما نعلمه يدل على شرعية القراءة للموتى، فينبغي البقاء على الأصل وهو أنها عبادة توقيفية، فلا تفعل للأموات بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين، فإن هذه الأمور تنفعهم، وقد جاءت بها النصوص. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » ، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (3) - أي بعد الصحابة- {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) فقد أثنى
__________
(1) رواه البخاري معلقا في (البيوع) باب النجش (4 \ 355- فتح) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .
(2) رواه مسلم في (الوصية) باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته برقم (1631) .
(3) سورة الحشر الآية 10
(4) سورة الحشر الآية 10(57/129)
الله سبحانه على هؤلاء المتأخرين بدعائهم لمن سبقهم، وذلك يدل على شرعية الدعاء للأموات من المسلمين وأنه ينفعهم، وهكذا الصدقة تنفعهم للحديث المذكور.
وفي الإمكان أن يتصدق بالمال الذي يستأجر به من يقرأ للأموات على الفقراء والمحاويج بالنية لهذا الميت، فينتفع الميت بهذا المال ويسلم باذله من البدعة، وقد ثبت في الصحيح «أن رجلا قال: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم (1) » . فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصدقة عن الميت تنفعه، وهكذا الحج عنه والعمرة، وقد جاءت الأحاديث بذلك، وهكذا قضاء الدين ينفعه، أما كونه يتلو له القرآن ويثوبه له أو يهديه له أو يصلي له أو يصوم له تطوعا فهذا كله لا أصل له، والصواب أنه غير مشروع.
__________
(1) رواه مسلم في (الزكاة) ثواب الصدقة عن الميت إليه برقم (1004) .(57/130)
حكم وضع الحناء في يد المرأة المتوفاة التي تحتضر
س: ما حكم وضع الحناء في يد المرأة المتوفاة، أو التي تحتضر؟
ج: لا أعلم لهذا أصلا يرجع إليه.(57/130)
بعض البدع التي تقال عند المحتضر
س: (ح. أ. م) من أم درمان بالسودان يقول في سؤاله:
بعض الناس يجعلون الورد (بسم الله الرحمن الرحيم) 786 مرة، ويقرءون الواقعة 42 مرة، وسورة الذاريات 60 مرة، وسورة يس 41 مرة، عند الميت وغيره، ويقرءون في الورد (يا لطيف) 16641 مرة، فهل هذا جائز أم لا؟ أفيدونا أفادكم الله.
ج: لا أعلم لهذا العمل أصلا بهذا العدد المعين في الشرع المطهر، بل التعبير بذلك واعتقاد أنه سنة بدعة، وهكذا فعل ذلك على هذا الوجه عند الميت وقت الموت أو بعد الموت كل ذلك لا أصل له على هذا الوجه، ولكن يشرع للمؤمن الاستكثار من قراءة القرآن ليلا ونهارا، وأن يسمي الله سبحانه عند ابتداء القراءة، وعند الأكل والشرب، وعند دخول المنزل، وعند جماع أهله، وغير ذلك من الشئون التي وردت بها السنة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ: باسم الله، فهو أبتر (1) » ، وهكذا استعمال (يا لطيف أو يا الله أو نحو ذلك) بعدد معلوم يعتقد أنه سنة؛ لا أصل له بل هو بدعة، ولكن يشرع الإكثار من الدعاء بلا عدد معين، كقوله: يا لطيف الطف بنا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8355) ، والنسائي، في السنن الكبرى في (كتاب عمل اليوم والليلة) ، باب ما يستحب من الكلام عند الحاجة برقم (10259)(57/131)
أو اغفر لنا أو ارحمنا أو اهدنا ونحو ذلك.
وهكذا: يا الله يا رحمن يا رحيم يا غفور يا حكيم يا عزيز الطف بنا وانصرنا وأصلح قلوبنا وأعمالنا، وما أشبه ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ، وقوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) ، ولكن بدون تحديد عدد لا يزيد عليه ولا ينقص، إلا ما ورد فيه تحديد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) في كل يوم مائة مرة، فهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا (قول سبحان الله وبحمده) مائة مرة في الصباح والمساء، وهكذا (سبحان الله والحمد لله والله أكبر) ثلاثا وثلاثين مرة بعد كل صلاة من الفرائض الخمس، الجميع تسع وتسعون بعد كل صلاة، ويختم المائة بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. كل هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما جاء في معناه.
وإن قرأ عند المحتضر قبل أن يموت بعض آيات من القرآن فلا بأس؛ لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، ويستحب تلقينه: لا إله إلا الله؛ حتى يختم له بذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (3) »
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) برقم (10570) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (1523)(57/132)
رواه مسلم في صحيحه.
والمراد بالموتى هنا المحتضرون في أصح قولي العلماء، ولأنهم الذين ينتفعون بالتلقين. والله ولي التوفيق.(57/133)
يستحب توجيه المحتضر للقبلة
س: هل يشرع توجيه المحتضر للقبلة؟
ج: نعم، يستحب ذلك عند أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتا (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود في (الوصايا) برقم (2874) بلفظ: ''البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا''(57/133)
كيفية توجيه المحتضر إلى القبلة
س: ما هي كيفية التوجيه إلى القبلة بالنسبة المحتضر؟
ج: يجعل على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة كما يوضع في اللحد.(57/133)
حكم تقبيل الميت
س: هل يجوز تقبيل الميت؟(57/133)
ج: لا بأس بتقبيل الميت إذا قبله أحد محارمه من النساء أو قبله أحد من الرجال كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم.(57/134)
تارك الصلاة لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين
س: الأخ (م. ص. ع) من معان بالأردن يقول في سؤاله:
ما حكم من مات وهو لا يصلي، مع العلم أن أبويه مسلمان؟ وكيف تكون معاملته من ناحية التغسيل والتكفين والصلاة عليه والدفن والدعاء والترحم عليه؟
ج: من مات من المكلفين وهو لا يصلي فهو كافر، لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه أقاربه، بل ماله لبيت مال المسلمين في أصح أقوال العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) في مسند جابر بن عبد الله برقم (14762) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (82) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (22428) ، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2621)(57/134)
بإسناد صحيح من حديث بريدة رضي الله عنه.
وقال عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل رحمه الله تعالى: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا تركه كفر إلا الصلاة" (1) والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة، وهذا فيمن تركها كسلا ولم يجحد وجوبها، وأما من جحد وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام عند جميع أهل العلم، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويسلك بهم صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
__________
(1) رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2622) .(57/135)
حكم سؤال المغسل عن حال الميت
س: هل للمغسل أن يسأل أهل الميت هل المتوفى يصلي أم لا؟
ج: ما دام ظاهره الإسلام، والذين أحضروه مسلمون فلا حاجة إلى سؤالهم، وقد يتساهل البعض في ذلك فيترتب على ذلك فضائح، وكذلك عند الصلاة عليه، فلا يسأل عنه إذا كان ظاهره الإسلام.(57/135)
من الأولى بتغسيل الميت
س: هل الأولى أن يتولى التغسيل أهل الميت؟
ج: لا يلزم، وإنما يتولى ذلك الأمين الجيد الخبير.
س: إذا أوصى الميت بتحديد من يغسله فهل تنفذ وصيته؟
ج: نعم تنفذ وصيته.(57/136)
جواز غسل أحد الزوجين للآخر بعد الوفاة
س: هل الأولى بتغسيل الرجل زوجته أو الرجال؟
ج: تغسيل المرأة زوجها أمر لا بأس به إذا كانت خبيرة بذلك، وقد غسل علي رضي الله عنه زوجته فاطمة رضي الله عنها، وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
س. الأخ (ص. أ. ع) من طنطا في جمهورية مصر العربية يقول في سؤاله: هل يجوز للمرأة أن تغسل زوجها بعد وفاته، وكذلك هل يجوز للرجل أن يغسل زوجته بعد وفاتها؟ أفتونا مأجورين.
ج: قد دلت الأدلة الشرعية على أنه لا حرج على الزوجة أن تغسل زوجها وأن تنظر إليه، ولا حرج على الزوج أن يغسلها(57/136)
وينظر إليها، وقد غسلت أسماء بنت عميس رضي الله عنها زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وأوصت فاطمة رضي الله عنها أن يغسلها علي رضي الله عنه. والله ولي التوفيق.(57/137)
حكم غسل الرجل لامرأته والبنت الصغيرة
س: هل يصح للرجل أن يغسل امرأته إذا ماتت أو بنت سنة أو سنتين ولو أجنبية عنه؟
ج: لا بأس أن يغسل الرجل زوجته والمرأة زوجها؛ لأن ذلك جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن سلف الأمة في ذلك. أما غير الزوجة كالأم والبنت فلا يجوز للرجل تغسيلهما ولا غيرهما من محارمه النساء.
ويلحق بالزوجة المملوكة التي يباح له وطؤها فلا بأس بغسلها إذا ماتت لأنها كالزوجة، وهكذا البنت الصغيرة التي دون السبع لا حرج على الرجل في تغسيلها، سواء كان محرما لها أو أجنبيا عنها؛ لأنها لا عورة لها محترمة، وهكذا المرأة لها تغسيل الصبي الذي دون السبع. والله ولي التوفيق.(57/137)
العلاقة الزوجية لا تنتهي بالموت
س: رأي بعض الفقهاء أن العلاقة الزوجية انتهت بالموت، ما توجيهكم في ذلك؟
ج: هذا رأي يعارض السنة فلا يلتفت إليه.(57/137)
س: لقد سمعنا كثيرا من عامة الناس بأن الزوجة تحرم على زوجها بعد الوفاة، أي بعد وفاتها، ولا يجوز أن ينظر إليها ولا يلحدها عند القبر، فهل هذا صحيح؟ أجيبونا بارك الله فيكم.
ج: قد دلت الأدلة الشرعية على أنه لا حرج على الزوجة أن تغسل زوجها وأن تنظر إليه ولا حرج عليه أن يغسلها وينظر إليها، وقد غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنهما، وأوصت فاطمة أن يغسلها علي رضي الله عنهما. والله ولي التوفيق.(57/138)
المطلقة طلاقا رجعيا يغسلها زوجها
س: المتوفاة المطلقة هل يغسلها زوجها؟
ج: إذا كانت رجعية فلا بأس، يعني طلقة واحدة أو اثنتين.(57/138)
عدد من يتولى غسل الميت
س: هل فيه عدد محدد لمن يتولى غسل الميت؟
ج: يكفي واحد ومن يساعده على ذلك.(57/138)
حكم استخدام السدر في الغسل
س: هل في حديث ابن عباس دليل على وجوب(57/138)
استخدام السدر؟
ج: هو مشروع، والأمر عند العلماء للاستحباب؛ لأنه أبلغ في الإنقاء، وإذا لم يتيسر سدر فيجعل بدله صابون أو أشنان أو ما يقوم مقامهما.
س: هل رغوة السدر على الرأس بالنسبة للميت سنة؟
ج: ذكره بعض الفقهاء وقالوا إنه أبلغ في التنظيف، وهو ليس بلازم، وإنما المشروع أن يغسل الميت بالماء والسدر.(57/139)
حكم الأخذ من شارب وإبط وأظفار وعانة الميت
س: هل يجوز أخذ شارب وإبط وأظفار الميت وعانته؟
ج: يستحب قص شاربه وقلم أظفاره، وأما حلق العانة، ونتف الإبط فلا أعلم ما يدل على شرعيته، والأولى ترك ذلك؛ لأنه شيء خفي وليس بارزا كالظفر والشارب.
س: هل يتعرض للميت بقص شاربه أو أظفاره؟
ج: ليس على ذلك دليل، ولو أخذ شيء من ذلك فلا بأس، ونص بعض العلماء على الأظافر والشارب، أما حلق العانة والختان فلا يشرع فعلهما في حق الميت لعدم الدليل على ذلك.(57/139)
حكم نزع أسنان الذهب من الميت
س: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب، فهل تنزع منه إذا كان عليه دين ولو كان نزعها لا يحصل بسهولة، أم تترك إذا لم يكن عليه دين؟
ج: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب أو فضة ونزعها لا يحصل بسهولة فلا بأس بتركها سواء كان مدينا أم غير مدين، وفي الإمكان نبشه بعد حين وأخذها للورثة أو الدين، أما إذا تيسر نزعها وجب ذلك؛ لأنها مال لا ينبغي إضاعته مع القدرة.(57/140)
تطييب الميت وكفنه
س: ما حكم تطييب الميت وكفنه؟
ج: تطييب الميت وكفنه سنة إذا كان غير محرم.(57/140)
حكم تسويك الميت
س: ما حكم تسويك الميت؟
ج: لا أعلم لهذا أصلا، وإنما يوضأ ثم يغسل، وإذا سوكه عند المضمضة فلا بأس كالحي.(57/140)
حكم الزيادة على سبع غسلات
س: إذا لم يطهر الميت بسبع غسلات فهل يزاد عليها؟
ج: لا بأس إذا دعت الحاجة إلى ذلك.(57/141)
حث النساء على المشاركة في غسل الميتات
س: يوجد عدد كبير من مغاسل الموتى في الرياض للرجال والنساء، وحيث إنه من النادر وجود نساء يقمن بتغسيل النساء، وخاصة ممن عندهن علم واحتساب، ولأهمية الأمر نأمل من سماحتكم بيان هذا العمل، وحث الأخوات على المشاركة وإرسال الاسم ورقم الهاتف لمن يرغب لسماحتكم أو لإمام المسجد الذي يوجد به مغاسل للموتى أو لغيره.
ج: نوافق على ما اقترح الأخ. ولا شك أن العناية بتغسيل الميتات مطلوب كالرجال. والمرأة تغسلها المرأة، والرجل يغسله الرجل، إلا أن المرأة لا مانع من أن يغسلها زوجها وهكذا الزوجة لا مانع من أن تغسل زوجها؛ لأنه ثبت أن الصديق رضي الله عنه قد غسلته زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه غسل زوجته فاطمة رضي الله عنها. وهكذا السيد يغسل مملوكته المباحة له، وهي تغسله،(57/141)
كالزوج والزوجة، وما سوى ذلك فالنساء يغسلن النساء، والرجال يغسلون الرجال.
فأرجو ممن تجد من نفسها القدرة أن تحتسب، وأن تتولى هذا الأمر، وتبلغ المسئولين في البلدية وغير البلدية؛ حتى يعرفوها ويطلبوها عند الحاجة، فتعطيهم رقم هاتفها وتعتني بهذا الأمر وتراجع كلام أهل العلم في كيفية تغسيل الميت؛ حتى تكون على بصيرة في ذلك، وحتى تعرف كيف تغسل الميتة، فإذا درست هذا من كلام أهل العلم فعليها تطبيق ذلك واحتساب الأجر عند الله، وإن دفع لها أجرة فلا بأس من أخذها.
س: إحدى النساء كانت تغسل الأموات متطوعة وأخيرا رفضت القيام بهذا العمل رغم الحاجة إليها بحجة تبلد الإحساس والغلظة تجاه الأموات، فهل توافق على هذا الرأي أم لا؟
ج: المشروع لها أن تحتسب وتصبر في تغسيل الأموات، إذا كانت الحاجة داعية إليها، وكانت معروفة بالخير والإتقان لهذا العمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) رواه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء) برقم (2699) ، والترمذي في (الحدود) برقم (1425) .
(2) رواه البخاري في (المظالم والغصب) برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) برقم (2580) .(57/142)
حكم إقامة دورات لتعليم تغسيل الأموات
س: ما حكم إقامة دورات لتعليم تغسيل الأموات؟
ج: تعليم تغسيل الموتى طيب ومشروع، وليس فيه شيء؛ لأن بعض الناس لا يحسن التغسيل، والحاجة ماسة إلى معرفة كيفية تغسيل الميت.(57/143)
حكم تصوير غسل الميت للتذكير أو للتعليم
س: ما حكم تصوير تغسيل الميت على شريط فيديو ثم بيعه بحجة أنه من باب التذكير بالموت؟
ج: إن كان المقصود تصوير الميت حين التغسيل فذلك لا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تصوير ذوات الأرواح ولعن المصورين، وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (1) » .
أما إن كان مراد السائل بيان صفة تغسيل الميت كما شرع الله عز وجل في شريط يوزع أو يباع فلا بأس، كما يسجل تعليم الناس الصلاة وغيرها مما يحتاجه الناس من غير تصوير. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) برقم (3377) ، والبخاري في (اللباس) برقم (5994) ، ومسلم في (اللباس والزينة) برقم (3943) .(57/143)
س: ما حكم تعليم التغسيل والتكفين عن طريق الفيديو؟
ج: التعليم يكون بغير الفيديو، لما في الأحاديث الكثيرة الصحيحة من النهي عن التصوير ولعن المصورين.(57/144)
تغسيل المحرم إذا توفي
س: بالنسبة لتغسيل المحرم إذا توفي حال إحرامه؟
ج: المحرم إذا توفي فإنه يغسل ولا يطيب ولا يغطى وجهه ولا رأسه، ويكفن في إحرامه ولا يلبس قميصا ولا عمامة ولا غير ذلك؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقضى عنه ما بقي من أعمال حجه سواء كانت وفاته قبل عرفة أو بعدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك.
س: من مضى في حج فاسد فمات فما الحكم؟
ج: يعامل معاملة من مات في حج صحيح، يكفن في ثوبيه، ولا يطيب، ولا يغطى وجهه، ولا رأسه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي سقط عن راحلته ومات وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا وجهه ولا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » . متفق على
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (1853) ، والبخاري في (الجائز) برقم (1265) ، ومسلم في (الحج) برقم (1206) واللفظ له(57/144)
صحته واللفظ لمسلم، والتحنيط هو التطييب.(57/145)
حكم تغسيل جريح المعركة إذا مات بعدها
س: من مات من المعركة متأثرا بجراحه هل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟
ج: نعم يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويرجى له أجر الشهيد إذا خلصت نيته.(57/145)
المظلوم يغسل ويصلى عليه
س: هل يغسل المظلوم؟
ج: نعم يغسل ويصلى عليه، فعمر الفاروق رضي الله عنه قتل مظلوما وعثمان رضي الله عنه قتل مظلوما ومع هذا غسلا وصلى عليهما الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا علي رضي الله عنه قتل مظلوما وغسل وصلي عليه.(57/145)
حكم تغسيل المنتحر والصلاة عليه
س: هل قاتل نفسه يغسل ويصلى عليه؟(57/145)
ج: قاتل نفسه يغسل ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين؛ لأنه عاص وهو ليس بكافر، لأن قتل النفس معصية وليس بكفر.
وإذا قتل نفسه والعياذ بالله يغسل ويكفن ويصلى عليه، لكن ينبغي للإمام الأكبر ولمن له أهمية أن يترك الصلاة عليه من باب الإنكار؛ لئلا يظن أنه راض عن عمله. والإمام الأكبر أو السلطان أو القضاة أو رئيس البلد أو أميرها إذا ترك ذلك من باب إنكار هذا الشيء وإعلان أن هذا خطأ فهذا حسن، ولكن يصلي عليه بعض المصلين.(57/146)
كيفية تغسيل من مات في حادث وقد تشوه جسده
س: الأخ: (ع. ع. س) من الرياض يقول في سؤاله: كيف يتم تغسيل الإنسان الذي يموت في حادث ويتشوه جسمه، وربما تقطع بعض أجزائه؟ نسأل الله السلامة والعافية.
ج؛ يجب تغسيله كما يغسل غيره إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن فإنه ييمم؛ لأن التيمم يقوم مقام التغسيل بالماء عند العجز عن ذلك. والله ولي التوفيق.(57/146)
المغسل يخبر بعلامات الخير لا الشر
س: هل يبين المغسل بعض العلامات من الخير والشر؟(57/146)
ج: علامات الخير لا بأس بالإخبار عنها، أما الشر فلا؛ لأنها غيبة، لكن لو قال: إن بعض الأموات يكون أسود أو غير ذلك فلا بأس، لكن الممنوع أن يقول غسلت فلانا ورأيت فيه كذا من علامات الشر، لأن ذلك يحزن أهله ويؤذيهم وهو من الغيبة.(57/147)
مدى صحة حديث من غسل مسلما فستر عيوبه
س: ما مدى صحة الحديث الذي يقول: من غسل مسلما فستر عيوبه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟
ج: لا أعلم له أصلا، ولكن يستحب للغاسل الستر على الموتى وعدم إفشاء ما قد يظهر من مساوئهم للناس، أما إظهار محاسنهم فلا حرج في ذلك بل هو حسن؛ لكونه يبشر بالخير ويسر أهل الميت، ولا شك أن إظهار المساوئ نوع من الغيبة.
س: حديث: "من غسل ميتا فستر عليه ستر الله عليه يوم القيامة" ما صحة هذا الحديث؟
ج: لا أعرفه ولكن عندنا حديث صحيح يغني عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه وهو عام في الحي والميت.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) برقم (5614) ، والبخاري في (المظالم والغصب) برقم (2442) ، ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) برقم (2699) واللفظ له.(57/147)
كيفية تكفين الميت
س: ما كيفية تكفين الميت بالنسبة للذكر والأنثى؟
ج: السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض، كما كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإن كفن في ثوب واحد واسع يعمه ويستره كفى، وإن كفن في قميص وإزار ولفافة جاز. أما المرأة فالأفضل تكفينها في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين، فهذا هو الأفضل كما ذكره أهل العلم، وجاء في ذلك أحاديث تدل عليه. وإن كفنت في أقل من ذلك فلا بأس.
س: كيف يكفن الرجل وكيف تكفن المرأة؟
ج: الأفضل أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، هذا هو الأفضل، والمرأة تكفن في خمس قطع إزار وقميص وخمار ولفافتين، وإن كفن الميت في لفافة واحدة ساترة جاز، سواء كان رجلا أو امرأة، والأمر في ذلك واسع.(57/148)
كيفية تكفين المحرمة
س: كيف تكفن المرأة المحرمة؟
ج: تكفن كأمثالها في إزار وخمار وقميص ولفافتين ويغطى وجهها كغيرها ولكن بغير نقاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة عن النقاب، أما ستر وجهها بغير النقاب فلا بأس به؛ ولا تطيب لأنها محرمة.(57/148)
عدد العقد في الكفن
س: كم عدد العقد في الكفن؟
ج: ليس في ذلك حد، لكن الثلاث تكفي في أعلاه وأسفله ووسطه، وإن أكتفى باثنتين فلا بأس لكن المهم ضبط الكفن حتى لا ينتشر.(57/149)
حكم جعل كيس بلاستيك على من به جروح
س: يجعل بعض المغسلين على الميت في حوادث السيارات كيسا من البلاستيك حتى لا يخرج الدم على الأكفان؟
ج: لا بأس أن يجعل على الجرح ما يمسكه.(57/149)
يغير الكفن أو يغسل إذا خرج دم بعد التكفين
س: إذا خرج دم بعد تكفين الميت هل يلزم تغيير الكفن؟
ج: يغير الكفن، أو يغسل، ويجعل على محل النزيف شيء يمسكه مثل الشمع وغيره.(57/149)
الصلاة على الجنازة
مشروعة للجميع الرجال والنساء
س: الأخت التي رمزت لاسمها (مسلمة) من الرياض تقول: يلحظ أن المرأة لا تحضر صلاة الجنازة، والسؤال لفضيلة الشيخ: هل ذلك ممنوع شرعا؟
ج. الصلاة على الجنازة مشروعة للرجال والنساء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: يا رسول الله، وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين (1) » يعني من الأجر. متفق على صحته. لكن ليس للنساء اتباع الجنائز إلى المقبرة؛ لأنهن منهيات عن ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2) » أما الصلاة على الميت فلم تنه عنها المرأة، سواء كانت الصلاة عليه في المسجد أو في البيت أو في المصلى، وكان النساء يصلين على الجنائز في مسجده صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده.
وأما الزيارة للقبور فهي خاصة بالرجال كاتباع الجنائز إلى المقبرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والحكمة في ذلك- والله أعلم-
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8955) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1325) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (945) .
(2) رواه أحمد في (مسند القبائل) برقم (26758) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1278) ، ومسلم في الجنائز برقم (38) .(57/150)
ما يخشى في اتباعهن الجنائز إلى المقبرة وزيارتهن للقبور من الفتنة بهن وعليهن، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » ، متفق على صحته. وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) برقم (21322) ، والبخاري في (النكاح) برقم (5096) ، ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة) برقم (2740) و (2741) .(57/151)
له بكل جنازة قيراط
س: الأخ (س. غ) من الرياض، يقول في سؤاله: رجل صلى على خمس جنائز صلاة واحدة، فهل له بكل جنازة قيراط أم أن القيراط على عدد الصلوات؟ جزاكم الله خيرا.
ج: نرجو له قراريط بعدد الجنائز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان (1) » وما جاء في معنى ذلك من الأحاديث، وكلها دالة على أن القراريط تتعدد بعدد الجنائز، فمن صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراط، ومن صلى عليها وتبعها حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان، وهذا من فضل الله سبحانه وجوده وكرمه على عباده، فله الحمد والشكر لا إله غيره ولا رب سواه، والله ولي التوفيق.
س: هل يصلي على الميت وليه أو الإمام الراتب؟
ج: يصلي عليه في المسجد الإمام الراتب.
__________
(1) رواه مسلم في (الجنائز) باب فضل الصلاة على الجنازة برقم (946) .(57/151)
حكم السفر لأجل الصلاة على الميت
س: ما حكم السفر لأجل الصلاة على الميت؟
ج: لا حرج في ذلك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه(57/152)
حكم تكثير الصفوف ولو لم تتم
س: بالنسبة لاستحباب تكثير الصفوف حتى مع عدم اكتمال الصف الأول ما حكمه؟
ج: الأصل أن يصفوا في صلاة الجنازة كما يصفون في الصلاة المكتوبة فيكملون الصف الأول فالأول، أما عمل مالك بن هبيرة رضي الله عنه ففي سنده ضعف وهو مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب إكمال الصف الأول فالأول في الصلاة.
س: هل يشرع أن يصف عن يمين الإمام في صلاة الجنازة؟
ج: إذا دعت الحاجة فيصف عن يمينه وشماله والسنة الصلاة خلف الإمام، لكن لو كان المكان ضيقا فلا بأس.(57/152)
حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في صلاة الجنازة
س: ما حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في صلاة الجنازة؟
ج: قراءة سورة بعد الفاتحة أفضل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(57/152)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
س: إذا أجري لفتاة عملية جراحية مثلا في بطنها، واستلزم عمل شق جراحي وخياطته، وكانت هذه العملية وهي صغيرة جدا عند الولادة أو بعدها بشهور، فهل يلزم على أهلها إذا تقدم خاطب لهذه الفتاة أن يخبروه بشأن هذه العملية وأنها تركت أثرا موجودا إلى الآن؟ وهل هذا من حقه الشرعي أم لا؟
ج: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
على المسلم أن يلزم الصدق في كل أموره فإن الصدق نجاة وسلامة، فإذا تقدم للفتاة خاطب، وفيها ما ذكر من آثار تلك العملية، فينبغي لهم أن يخبروه؛ لأن هذه الآثار ربما بعض الناس لا يطيقها ويتقزز منها إذا لم يعلم، وربما يكون مشكلا بينه وبين أهلها، ويدعي ذلك عيبا فيها، فالذي ينبغي منهم أن يخبروا الزوج بحالها، حتى يكون على بصيرة، ولا يلحقهم ملامة بعد ذلك.(57/153)
س: امرأة تقرأ القرآن وهي كاشفة عن شعرها ومرت بآية(57/153)
فيها سجدة، فهل تسجد وهي كاشفة عن شعرها أم تغطيه؟
ج: أما قراءتها للقرآن وهي كاشفة شعرها فلا مانع؛ لأن تغطية الشعر إنما هو في الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» . رواه أبو داود (1) وأخرجه الترمذي (2) وابن ماجه (3) .
أما سجودها للتلاوة فمن يرى من العلماء أن سجود التلاوة صلاة يلزمها أن تغطي شعر رأسها عند إرادة السجود، ومن لا يرى سجود التلاوة صلاة لا يلزمها ذلك.
ولكن الاحتياط لها أن تغطي عند السجود شعر رأسها، حتى تخرج من خلاف من أوجب ذلك.
__________
(1) (كتاب الصلاة) ج 1، ص 85، باب المرأة تصلي بغير خمار.
(2) حديث (377) وقال حديث حسن بلفظ: '' لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار ''.
(3) ابن ماجه (كتاب الطهارة) (655) .(57/154)
س: هل يجوز للمرأة أن تطلب من زوجها مبلغا معينا كل شهر؛ لأنها لا تعمل وتريد أن يكون لها مال خاص، وذلك لبعض الأغراض الخاصة بها، أو لتتبرع منه على أنه مالها، وهل يجوز أن تشتري به ما لا يرضى زوجها أن يجلبه لها؟ وهل يجوز للزوج أن يؤدي زكاة الذهب عن زوجته؟
ج: المرأة لها على زوجها أن ينفق عليها ويكسوها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «استوصوا بالنساء(57/154)
خيرا، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (1) » رواه ابن ماجه وأحمد بن حنبل.
فيلزم الزوج كسوة المرأة والنفقة عليها: طعاما وكسوة وسكنا، فإذا أمن لها سكنها وقوتها وكسوتها فهذا هو الواجب. وأما أن تطلب منه مبلغا شهريا لكونها لا تعمل لتدخره، أو تشتري منه حاجات خاصة، أو توفر مالا فلا يلزمه ذلك، إنما عليه أن ينفق عليها؛ لقوله جل وعلا: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (2) الآية.
فإذا أعطاها مبلغا من المال لتنفقه على البيت والحوائج الخاصة فلا تشتري به ما لا يريده ولا تتصدق به إلا بإذن زوجها؛ لأن هذا ماله. أما إذا ملكها المال وقال: هذه نفقة هي لك أنفقي على نفسك ولم يسألها عما بقي فتصرفت فيه فإن تصرفها فيه جائز.
ملخص القول: أنه لا يلزمه أن يخصص لها مرتبا معينا، وأن الواجب النفقة من الكسوة والسكن والقوت هذا هو الواجب، وأنها لا تتصرف فيما أعطاها زوجها مما تنفقه على بيتها في غير بيتها، فلا تتصدق ولا تتبرع منه، وإنما تستعمله فيما خصه الزوج له.
أما زكاة الذهب كحلي النساء المعد للبس والاستعمال فلا
__________
(1) رواه ابن ماجه برقم (84) ، والإمام أحمد 5 \ 73.
(2) سورة الطلاق الآية 7(57/155)
زكاة عليه، فلا يلزمها إخراجه. ولكن لو قدر أن عند المرأة مالا وزكاه عنها زوجها، فإن كان بنيتها أجزأ، وإن لم تنو ذلك فلا يجزئ.(57/156)
س: لي أخ شقيق اشترك باسمه فقط مع اسم والدي - يرحمه الله - في قرض مشترك قبل حوالي عشرين عاما لبناء مسكن من البنك العقاري مع ملاحظة ما يلي:
- لم يدفع أي مبلغ لقيمة الأرض التي رهنت للبنك العقاري.
- لم يدفع أية مبالغ طوال العشرين سنة لتسديد دفعات البنك.
- فقط خسر فرصة التقديم للبنك مرة أخرى.
السؤال: هو الآن يطالب الورثة بالتعويض عن خسارته الفرصة للتقديم للبنك العقاري مع ملاحظة ما يلي.
- معظم الورثة قصر وأوضاع الآخرين المادية سيئة.
- قيمة البيت حاليا ضئيلة.
هل من حقه مطالبة الورثة بتعويض، وإذا كان له الحق بذلك فكيف تقيم أو يقيم هذا التعويض وعلى أي أساس؟ حفظكم الله.
ج: يعتبر هذا الابن مفرطا حيث وافق أباه أن يكون القرض باسمه وباسم أبيه، مع أن الأرض قيمتها لأبيه والأب هو الذي(57/156)
تكفل بجميع مصاريف البناء وتسديد الأقساط، إلا أن هذا الابن فقط استغل الأب اسمه، فلو كان الأب حيا وتفاوض مع الأب في تعويضه لكان ممكنا ذلك، أما وقد مات الأب وأصبح الملك كله للورثة، فطلب تعويض من الورثة، أو اقتطاع شيء من حقوق القصر لا حق للابن في ذلك، فالابن هو الذي فرط في تضييع اسمه وإعطائه أباه ليتصرف فيه، فيعتبر مفرطا، ولا يلزم الورثة أن يعطوه شيئا.(57/157)
س: امرأة توفيت ولها أولاد إناث وذكر واحد وزوج، وكان الأولاد حين وفاتها صغارا، فقام الزوج بأخذ ما خلفت الزوجة من إرث - لأنه كان في غنى عن هذا الإرث - لكي يضعه لها في تجارة، ليشتري لها بيتا يوقفه لها (سبالة) والأولاد لما كبروا وعرفوا ذلك وافقوا والدهم على فعله، ومضت السنون وكبر الأولاد، والذكر من الأولاد توفي وترك أولادا.
أموال المرأة لم تأت لها بمال ينفع في بيت، فلم تأت في الوقت الحاضر إلا بخمسة آلاف ريال، فقام الوالد قبل مدة يسيرة من وفاته فأعطى كبرى بناته هذه الخمسة آلاف لكي تضعها لأمها في شيء ينفع حجة ونحوها، فقامت البنت بإعطائها لأحد فاعلي الخير للمشاركة في بناء مسجد للأم.
فما الحكم في هذا المال؟ هل هو إرث لا بد من تقسيمه على البنات وعلى أولاد الابن، أم يكتفى فيه بقبول الأولاد لفعل والدهم؟ مع العلم أن بعض البنات يوافقن أختهن الكبرى فيما(57/157)
فعلت، ولكن يبقى أولاد الذكر، هل لا بد من إبلاغهم وأخذ الإذن منهم أو إعطائهم نصيبهم من الإرث؟
ج: الأصل أن ما خلفه الميت حق لجميع الورثة ولا حق لأحد أن يتصرف في شيء من مال الميت بأن يضعه صدقة، إلا إذا كان الميت أوصى بالثلث فأقل، أما إن لم يكن للميت وصية فجميع المال حق للورثة، فلا يتصرف أحد فيه بصدقة أو نحو ذلك إلا بإذن عام من جميع الورثة، وإذا كان أولاد ابنها الذي توفي بعد وفاة أمه لهم نصيب أبيهم فلا بد أيضا من استئذانهم.(57/158)
س: منذ سنتين مضت كنت أكلف بالعمل الإضافي خارج وقت الدوام الرسمي، وكنت أحضر أحيانا وأتغيب أحيانا، وأحيانا آخذ المعاملات معي إلى البيت، وفي نهاية كل شهر تعمل شهادة موقعة من المشرف علينا في الفترة المسائية، وعلى ضوء هذه الشهادة يصرف لنا البدل. وأنا الآن قلق النفس وشديد الخوف من أن أحاسب على هذا التقصير. وسؤالي هل التوبة والندم كافيان على ما بدر مني من تقصير أم لا بد من إرجاع ما استلمته من الأيام التي لم أعمل بها؟ علما بأنني لا أستطيع حصر تلك الأيام لمضي السنين الطويلة عليها، كما أنه ليس لدي مال إلا أن أتنازل عن المكافأة التي تصرف عادة للموظف عند إحالته على التقاعد عن نهاية الخدمة أو أن أعمل مدة إجازتي العادية بدون تعويض مقابل تلك الأيام. أفيدوني ماذا علي أن أعمل، جزاكم الله عنا خير الجزاء.(57/158)
ج: الواجب على المسلم أن يؤدي العمل بأمانة وإخلاص، متقيا الله، مراقبا الله في كل أحواله، فيحافظ على الدوام وقتا وأداء، ويؤدي العمل على الوجه المطلوب، ولا ينبغي له أن يخل بالعمل الرسمي، ويتعلل بكثرة الأعمال، ويحاول أن يطلب خارج الدوام لكي يكمل فيه ما عجز عنه من أعمال أثناء الدوام الرسمي، فإن من أهمل الدوام الرسمي لأجل أن يعطى خارج الدوام مع قدرته على أداء العمل بالوقت، فيعتبر طلبه لخارج الدوام طلبا في غير محله، وأخذ مال بغير حق، ثم من أعطي خارج الدوام وكلف بخارج الدوام، فيجب أن يحافظ على هذا الوقت، ولا يقول: هذا وقت ليس رسميا أحضر يوما وأغاب أياما، لا بل حافظ على هذا الوقت خارج الدوام في كل أيام الأسبوع الرسمي وأد العمل على الوجه المطلوب وواظب عليه وقتا وأداء. وأما أن تقول: أخرج بالمعاملات للبيت وأؤدي العمل بمنزلي، فإن هذا يعتبر تقصيرا منك؛ فإنك كلفت بالعمل لتعمل به داخل الدائرة وتؤدي العمل بإخلاص، فإذا خرجت بالمعاملات فمعناه أن العمل لا يقتضي العمل خارج الدوام، وإنما هي أشياء يسيرة وبالإمكان أداؤها وقت الدوام الرسمي، ثم ما تأخذه آخر الشهر من مبلغ نتيجة توقيع المسئول شهادة أداء العمل وأنت لم تؤده يعتبر هذا كذبا منك وخيانة لأمانتك، وهذه المبالغ التي حصلت عليها مع تقصيرك في العمل وعدم مواظبتك على الوقت يجب أن تتصدق بها فلعل الله أن يعفو عنك مع التوبة إلى الله، ولو أمكن إرجاعها إلى الدائرة لكان أولى، فإذا تعذر(57/159)
الإرجاع وقد يترتب على إرجاعها تساؤلات، فتصدق بها على المساكين والفقراء، ولعل الله أن يكفر بتلك التوبة وهذه الصدقة ما حصل منك من تقصير.(57/160)
س: إنني طالب علم ولكني أشعر بعجز وضعف في تلقي العلم، فكل ما أقرأه سرعان ما أنساه وقد أتأثر به مدة يسيرة أو أطبقه ثم بعد مدة أنساه وأترك تطبيقه، ودائما أبدأ في قراءة الكتاب ولكن لا أتمه، وأبدأ في عمل البحوث وكتابة بعض الأشرطة ولا أتمها، فما هو سبب ذلك؟ وما الأسباب التي تعين على التغلب على هذا العجز والضعف؟
ج: يا أخي من أراد العلم فليجتهد وليستعن بالله وليفعل الأسباب التي ترسخ العلم بنفسه، ولا سيما أن العمل بالعلم من أسباب ثبات العلم، فمن تعلم علما وعمل به فعمله به يسبب ثباته في قلبه وتصوره دائما له، وأما من علم علما وضيعه ولم يعمل به فإنه سبب لنسيانه، وعليك أن تلجأ إلى الله " اللهم معلم إبراهيم علمني، اللهم مفهم سليمان فهمني " وأن تجتهد وتكرر البحث وأن تحرص على مواصلة الجد بالجد، فالعمل بالعلم ومذاكرته مع أهله من أسباب ثباته في النفس، فاعمل بعلمك وذاكر بالعلم أهل العلم واستفسر منهم وحاول البحث معهم فإن بحثك معهم بتوفيق من الله يؤدي إلى رسوخ العلم في نفسك، وأسأل الله لك التوفيق.(57/160)
س: إذا صادف يوم عرفة يوم جمعة هل يجوز صيامه(57/160)
منفردا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: صيام يوم الجمعة منهي عنه إذا كان القصد لذات الجمعة - مطلقا لذات الجمعة - فلا بد أن يصام يوم قبله أو يوم بعده، أما كونه يصادف يوم فريضة أو صيام ست من شوال أو صيام اليوم التاسع أو العاشر من محرم أو صيام يوم عرفة فلا مانع من ذلك ما لم يكن محرما " حاجا ".(57/161)
س: إذا أم المؤذن أو غيره المصلين قبل وقت الإقامة المعلن ثم دخل الإمام بعد انقضاء الصلاة، هل يحق للإمام أن يعيد الصلاة، ولماذا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: يقول العلماء - رحمهم الله -: يحرم إقامة الصلاة قبل الإمام الراتب، إلا أن يأذن لهم الإمام، أو يكون للإمام عذر، فإن أذن أو كان عذر للإمام فتأخر عن الوقت المعتاد تأخرا يضر بالمأمومين جاز أن يتقدم من يصلي بالجماعة، فإذا كان المؤذن يعلم من الإمام إذنه، أو أن الوقت التي تقام فيه الصلاة تأخر تأخرا كثيرا فتقدم وصلى فلا مانع، فإن تقدم قبل وقت الإقامة وصلى بالجماعة وانقضت الصلاة فالأولى للإمام أن يقرهم على ذلك، ولا ينبغي له أن يستأنف الصلاة بل يقرهم على هذا الفعل، مع أن الواجب عليهم جميعا تقوى الله وأن لا يتقدموا على الإمام إلا بعذر شرعي.(57/161)
س: الأب من الرضاعة هل تتحجب عنه زوجة الابن وكذلك زوجة ابن الابن أم لا؟(57/161)
ج: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة (1) » الحديث رواه البخاري، وقال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » رواه البخاري ومسلم. فالأب من الرضاعة كالأب من النسب فزوجة الابن من الرضاع تكشف لأبي الزوج من الرضاع، كما تكشف لأبي الزوج من النسب سواء بسواء، وزوجة ابن الابن من الرضاع تكشف للأب من الرضاع كما لكشف زوجة الابن من النسب.
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الشهادات) برقم (2646) ، باب الشهادة على الأنساب، وفي (كتاب فرض الخمس) برقم (3105) .
(2) رواه البخاري في (كتاب الشهادات) برقم (2645) ، ومسلم في (كتاب الرضاع) ، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة برقم (1447) .(57/162)
س: تقدمت للزواج من بنت ابن عمي، ورد بالقول: إن أمه قبل وفاتها قالت: إن أخي الأكبر قد رضع مع أبي البنت " ابن عمي " من زوجة عمي أم أبي البنت، ولم تحدد عدد الرضعات، فما الحكم؟ رغم أن والدتي قالت إنها لم ترضع أحدا من أولادها عند أحد وأن أخي الأكبر يكون أصغر من ابن عمي " أبو البنت " بعامين ونصف فكيف يكون رضع معه؟ وهل يجوز لي الآن أن أتزوج من هذه البنت إذا صحت الرضاعة أو بطلت؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: لا علاقة له بذلك، فيجوز للرجل أن يتزوج أخت أخيه من الرضاع إذا كان أخوه هو المرتضع دونه، فيجوز لك أن تتزوج(57/162)
أخت أخيك من الرضاع إذا كان أخوك قد أرضعته امرأة أخرى مع ابنها وخطبت أنت أخت أخيك من الرضاع فلا مانع؛ لأن العلاقة بين المرضعة وبين أخيك الذي ارتضع منها، أما إخوانه وأخواته فلا صلة لهم بذلك فهو الذي ارتضع منها.(57/163)
س: أنا فتاة أبلغ من العمر 14 سنة وقعت مشاكل بيني وبين أهلي فصرت لا أفكر فيما يقولون إذا تكلموا وأرد عليهم بصوت مرتفع في وجه أبي وأمي كل يوم، أما الآن ندمت على كل شيء فعلته معهم فأرجو من سماحتكم أن ترشدوني هل هذا من عقوق الوالدين؟ جزاكم الله ألف خير.
ج: الله يقول لنا في كتابه العزيز مبينا لنا حقوق الوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (1) . فالواجب على الأبناء والبنات أن يخاطبوا الآباء والأمهات بكل خطاب يشف عن رحمة ورقة وإحسان وعطف، ولا يجوز للأبناء والبنات أن ينهروا آباءهم وأمهاتهم ويرفعوا أصواتهم عليهم، فإن هذا نوع من أنواع العقوق، وعليك التوبة إلى الله والاستغفار وسؤال أبويك المسامحة والعفو، وأن تبدلي ما مضى من السيئات بصالح الأعمال بأن تبري الأب والأم وأن تخاطبيهما بكل خطاب طيب لين ومن تاب تاب الله عليه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23(57/163)
س: ما حكم عمرة المرأة التي تحرم بالبنطال والنقاب؟ هل عمرتها صحيحة وهل يلزمها فدية لذلك أم لا؟(57/163)
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق المحرمة: «لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين (1) » رواه البخاري، والطبراني، وأبو داود. فإن لبست النقاب عن عمد فقد أخطأت وأساءت، وعليها فدية: ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، وإن كان عن جهل أو نسيان منها فلا شيء عليها. وينبغي أن يكون لباسها لباسا ساترا بالإحرام وغيره، ولا ينبغي لها أن تلبس لباسا يبين تقاطيع جسمها ويسبب الافتتان بها، بل ينبغي أن يكون لباسها لباسا ساترا بعيدا عن التشبه بغير المسلمات.
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الحج) ، باب ما ينهى من الطيب برقم (1838) ، وأبو داود في (كتاب المناسك) ، باب ما يلبس المحرم برقم (1823) .(57/164)
س: رجل أقسم بكلمة " علي الطلاق بالثلاث لا أشرب الخمر ثانية "، وبعد ذلك وقع بالمحظور بأن عاد لشرب الخمر مرة ثانية، ما هو الحكم في الطلاق؟ ما هي كفارة الحلف؟ مع العلم بأن الرجل بعد ذلك لم يجامع زوجته خوفا من الحرام مرة أخرى. هذا وجزاكم الله خيرا.
ج: إذا كان مقصوده منع نفسه من أم الخبائث (الخمر) وعلق الطلاق ليمنع نفسه، فإن هذا في حكم اليمين. فإذا قدر أنه عاد لهذا الداء الخبيث فليكفر كفارة اليمين. وأوصيه بتقوى الله وعقد العزيمة على أن لا يعود إلى هذا الداء الخبيث، وليعلم أنه أداء خبيث، وأنها أم الخبائث، جامعة لكل بلاء مسهلة الوقوع(57/164)
بكل جريمة. فعليه أن يتوب إلى الله ويلجأ إليه أن يعصمه منها ويحفظه من شرها ويحول بينه وبينها، وعليه أن يكفر كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين كيلو ونصف من الأرز.(57/165)
س: رجل اشترى سيارة بالأقساط الشهرية بمبلغ (50000) ريال وحاجته أصلا ليس للسيارة، بل لبعض ثمنها فباعها بمبلغ (30000) ريال، وقد أتيت إليه أطلبه مبلغ (15000) ريال سلفة، فقال: لقد اشتريت السيارة بـ (50000) لكي أحصل على (15000) ريال، فإذا كنت ترغب الحصول على (15000) مني لا مانع لدي بشرط أن تشاركني في التسديد، فيصبح عليك نصف القسط الشهري وعلي نصفه، فما الحكم والحال كذلك؟ مع العلم بأنني سأستمر حتى نهاية الأقساط، فيصبح المبلغ الذي أدفعه (25000) ريال. جزاكم الله خيرا.
ج: شراؤك السيارة بثمن مؤجل لأجل أن تبيعها لتستفيد من ثمنها وانتفاعك بثمنها لا مانع منه، أما الشخص الذي طلب منك (15000 ريال) فوافقت واشترطت على أن يساهم معك بالتسديد فتحول (15000 ريال) إلى (25000 ريال) فهذا لا يجوز؛ لأن هذا ربا، بل إن هذا عين الربا.(57/165)
س: ما حكم ذهابي لملحق المسجد وهو عبارة عن مبنى منفصل تماما عن الرجال ويبعد عن المسجد بضعة أمتار ومتصل(57/165)
من الجانبين بسور وهو مخصص للصلاة للنساء في الدور الأسفل والأعلى لعمل حلقات تحفيظ القرآن، فإذا ذهبت إلى هناك لأدرس أو أدرس القرآن والدورة معي فهل لي ذلك؟ وأن أمسك المصحف المفسر دون حائل؟
كذلك هل تعتبر صلاة النساء خلف الإمام في هذا المبنى جماعة لأنهن يسمعن الصلاة بواسطة مكبر الصوت لكن لا يرين الرجال وذلك لانفصاله كما ذكرت فما الحكم؟ وما حكم مجيء الحائض لدراسة القرآن في الدور الأرضي لأنهم عند البناء أرادوا أن يكون الدور الأول مصلى للنساء إذا ضاق المكان في المسجد؟
ج: إذا كان هذا الملحق جزءا من المسجد، بمعنى أن سور المسجد يشمله، فهذا يعتبر من ضمن المسجد، فلا يحل للحائض دخوله والمكث فيه. أما إن كان منفصلا عن المسجد، بمعنى أن سور المسجد ليس شاملا له، فهذا جائز دخوله والمكث فيه للحائض.
وإذا كان هذا المكان جزءا من المسجد صح للنساء الاقتداء بالإمام بمجرد سماع الصوت وإن لم يرين الإمام ولا المأمومين. وإذا كان هذا المكان منفصلا عن المسجد، بمعنى أن سور المسجد مخرجا له، فهو خارج المسجد، فلا يجوز لهن الاقتداء بالإمام بمجرد سماع الصوت.(57/166)
س: قرأت أنه من أفضل الشكوى، الشكوى إلى الله سبحانه وتعالى من نفس الإنسان وحاله وضعفه، وأنا مبتلاة بأمور(57/166)
كثيرة أدرك أنني على خطأ فيها لكني لا أعلم من أين أبدأ في إصلاحها وما هي الوسائل التي تساعد على إصلاحها، والتزمت في ذلك بالدعاء والشكوى إلى الله من حالي وضعفي، فهل أنا مخطئة في ذلك أم لا بد علي من سؤال العلماء والمختصين؟
ج: قال الله تعالى عن يعقوب: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (1) . فالمسلم كلما حلت به المصائب التجأ إلى الله ورفع شكايته إلى الله، والله جل وعلا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، فيدعو ربه أن يفرج همه، ويزيل غمه، ويبدله بالهم فرحا وسرورا، ولكن عليها أيضا أن تسأل عما أشكل عليها من الأمور التي خفي عليها علمها، أن تسأل أهل العلم عما أشكل عليها لتعبد الله جل وعلا على بصيرة، فإن الله قريب ومجيب لمن دعاه، وقال جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (3) . فعليك أن تدعي الله وترجيه وتتضرعي بين يديه وتسأليه عما أشكل عليك أمره حتى تكوني على بصيرة.
__________
(1) سورة يوسف الآية 86
(2) سورة الأنبياء الآية 83
(3) سورة الأنبياء الآية 84(57/167)
س: أرى الكثير من المصلين - هدانا الله وإياهم - حينما يقف للصلاة لا يحرك شفتيه بالقراءة ولا بالتسبيح ولا بالتكبير ويقول إنه يقولها في نفسه، وقد رددت على البعض من هؤلاء(57/167)
بقولي: إن الملائكة الكاتبين لا يعلمون الغيب ولا يعرفون ماذا تقول في نفسك إذا لم تنطق به، والله جل وعلا يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) ، وكذلك بعد الصلاة في التسبيح والدعاء بما ورد في السنة يفعلون كذلك، فما هو الرد الصحيح لهؤلاء؟
ج: لا بد للمسلم في قراءة القرآن والتسبيح في الصلاة أن ينطق بلسانه، أما دعوى في نفسه فحديث النفس لا اعتبار له، إنما المعتبر أن تنطق بلسانك وتحرك شفتيك بالقراءة أو بأذكار الركوع والسجود، وإذا لم تفعل ذلك فلم تكن مؤديا لهذه الأذكار.
__________
(1) سورة ق الآية 18(57/168)
س: والدتي رضعت من جدتها رضعات مشبعات في الحولين - أكثر من خمس رضعات - ولكن هذه الجدة لم تلد في هذه الرضاعة ودرت حليبا بلا ولادة، والفرق بين والدتي وبين أصغر أولاد الجدة قرابة سبعة أعوام. فما الحكم في هذه الرضاعة؟ حيث قيل لها - منذ زمن بعيد جدا -: إن هذه الرضاعة رضاعة صحيحة؛ ولهذا لم تتحجب عن أبناء عمومتها وأولادهم، وعمر والدتي قرابة الخمسين، ونحن نسأل الآن زيادة في الاحتياط، حيث إن بعض الناس قال: إن الرضاعة الصحيحة هي ما كانت من حمل.
ج: اللبن سواء ثاب من وطء أو ثاب من حمل كله لبن(57/168)
مؤثر، فمتى درت المرأة لبنا ثاب من وطء أو من حمل فإن هذا اللبن ينشر المحرمية إذا كان خمس رضعات في الحولين، يعني أن هذه البنت المرتضعة من جدتها تكون أخت أبيها وأعمامها من الرضاع، وعليه تكون هذه البنت المرتضعة عمة لجميع أبناء عمومتها؛ ولهذا لا تتحجب عنهم فإنهم محارم لها.(57/169)
س: امرأة أدت مناسك الحج في يوم رمي الجمرة الكبرى وقد حاضت فما حكم طواف الإفاضة والوداع بالنسبة لها؟
ج: إذا رمت المرأة جمرة العقبة وقصرت من شعر رأسها حل لها كل شيء إلا الزوج، لكن يبقى الطواف بالبيت (طواف الإفاضة) وهو مرهون بالطهارة، فإن يسر الله لها طهرا قبل الارتحال من مكة أدت طواف الإفاضة، وإن لم يتيسر لها وذهبت إلى بلدها ثم عادت فلها ذلك، لكن لا يقربها زوجها حتى تؤدي طواف الإفاضة، أما لو أدت طواف الإفاضة وحاضت قبل أن تؤدي طواف الوداع فإن طواف الوداع يسقط عن الحائض؛ لأن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للحائض والنفساء (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(57/169)
س: ما حكم من ينتسب إلي غير قبلته من أجل طلب العلم أو طلب الرزق وهل أحاديث النهي تنطبق عليه؟
ج: الذي ينتسب إلى غير قبلته بأن يقول: أنا نصراني،(57/169)
وأنا مجوسي، أو يهودي، ويرضى بهذا، فهذا والعياذ بالله قد عرض نفسه لضلال عظيم، من انتسب إلى غير ملة الإسلام، من قال هو يهودي، نصراني في حلفه إلا رجع عليه، فلا يجوز لمسلم أن ينتسب إلى غير الإسلام؛ شرفك الله بالإسلام، وكرمك بالإسلام، وأعزك بالإسلام ورفعك بالإسلام، فلا يجوز لك أن تنتسب إلى ملة غير الإسلام، أحمد الله على الإسلام {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) ، ثم الرزق اطلبه بأسباب شرعية {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) فلو صدقت الله في قولك وأحسنت الظن بربك يسر أمرك، وإن ابتليت فأبشر بالفرج من رب العالمين.
__________
(1) سورة المنافقون الآية 8
(2) سورة الطلاق الآية 2(57/170)
س: فضيلة الشيخ أنا أحج عن ولد لي توفي وعمره ثمانية عشر سنة وقد أخذت عمرة فأرجو من فضيلتكم تعليمي بماذا أفعله في بقية الحج؟
ج: يعني أنت اعتمرت متمتعا بالعمرة إلى الحج فإذا أديت نسك العمرة فأحرم بالحج إن شاء الله اليوم (1) أو غدا وقل لبيك حجا عن ابني فلان وأد المناسك على الوجه المرضي.
__________
(1) اليوم الثامن من ذي الحجة لعام 1419 هـ.(57/170)
س: أنا أبو عائلة تسعة أنفار ووالدي متوفى وعلي دين أقساط ودين قرضة حسنة فهل أضحي أم أسدد بقية الدين؟
ج: الأضحية سنة مع القدرة، فإذا كان مثلا تشتري(57/170)
الأضحية بخمسمائة ريال، وأنت مطلوب منك هذا الثمن فكونك تسدد الدين الذي عليك أولى من أن تذبح أضحية والدين لا يزال في ذمتك.(57/171)
س: ما الفرق بين المتمتع والقارن والمفرد؟
ج: بينا في آخر النهار اليوم أن القران والإفراد والتمتع نسك وأن التمتع أكملها حيث إنه يأتي بعمرة مستقلة طوافا وسعيا ثم يقصر ثم يحل، ويحرم بالحج في اليوم الثامن ويهدي ويكون عليه طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجه.
وأن القارن والمفرد عملهما واحد إلا أن القارن يزيد على المفرد بالدم وإلا فالقارن يطوف ويسعى إن شاء للقدوم ويبقى على إحرامه ثم يطوف ويسعى لحجه إن لم يكن سعى مع طواف القدوم وكذلك المفرد، وأن الإفراد والقران إنما الفرق بينهما أن القارن أتى بنسكين والمفرد بنسك واحد ولكن زاد القارن على المفرد بالدم فالمفرد لا دم عليه.(57/171)
س: هل يجوز رمي الجمرات عن والدي خوفا من الزحام؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا.
ج: إن كان أبوك عاجزا ولا يقدر على الرمي فارم عنه، ولا مانع من ذلك، وإن كان بإمكانه الرمي عن نفسه فليرم عن نفسه.(57/171)
س: هل يمكن لبس الإحرام بعد الوضوء في المدينة لأداء العمرة أم يلتزم بالغسل فيها فقط؟(57/171)
ج: لو لبس الإحرام توضأ واغتسل ولبس الإحرام لكنه لم ينو إلا عند ذي الحليفة فحسن، المهم ليس لبس الإزار والرداء وإنما المهم إيقاع النية عند الميقات.(57/172)
س: ما حكم تقديم ذبح هدي التمتع أو القران قبل يوم النحر وقبل يوم عرفة وهل يؤثر ذلك على الحج؟ أفتونا مشكورين.
ج: سنة محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذبح هديه أي نحر هديه يوم النحر وقال: «لا أحل حتى أنحر (1) » فلم ينحر إلا يوم النحر، فمن ذبح هديه يوم عرفة أو اليوم أو قبله فليعده فإن هديه غير صحيح، ومن قال من العلماء بالجواز فقول غير صحيح مخالف لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب التمتع والإقران والإفراد بالحج برقم (1566) ، ومسلم في (الحج) باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج برقم (1229) .(57/172)
س: أنا من أهل مكة وأريد الحج فهل يجوز لي الإحرام من منى لأنني أعمل فيها؟ جزاكم الله خيرا.
ج: إذا كنت نويت الحج وأنت داخل منى ولم تنو الحج قبل فأحرم من منى، أو من مكان نيتك.(57/172)
س: هل خطبة عرفة خاصة بإمام المسلمين أو هي عامة بحيث يجوز لكل من أم أن يخطب فيمن أمهم لا سيما إذا تعددت الجماعات؟ أفتونا مأجورين.(57/172)
ج: النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة واكتفى المسلمون بها وخلفاؤه الراشدون وأئمة الهدى يكتفون بخطبة الإمام أو من ينيبه الإمام، وأما أن تتعدد الخطب وكل يخطب في مخيمه فهذا ليس من فعل السلف الصالح، ولهذا شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - كان يسمع الخطبة كاملة ويعلق عليها إذا سمعها ويعظ بعدما يسمع الخطبة ويصلي بالناس وما كان يبتدئ خطبة جديدة من تلقاء نفسه؛ لأنه يرى أن السنة هي الاكتفاء بخطبة المسجد الذي عينه الإمام، وتعدد الخطب في المجمعات ربما يكون وراءه شيء غير حسن، وربما يخطب من لا يحسن ويقول من لا يفهم فالذي أنصح به الاكتفاء بخطبة الإمام وسماعها ولا سيما الآن والنقل ممكن بمكبرات الصوت في المسجد والمذياع وغيره يمكن للإنسان أن يسمع الخطبة وينتفع منها وإذا أراد أن ينبه على شيء فلا مانع، لكن أن تتخذ كخطبة تؤسس فهذا خلاف ما عليه المسلمون.(57/173)
س: إني أحبك في الله وسؤالي هو ما حكم من انتسب إلى غير قبيلته لأجل المعيشة أو طلب العلم؟ جزاك الله خيرا.
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (1) » هذا الموالي فكيف بمن انتسب إلى غير أبيه ولغير قبيلته؟ هذا كله لا يجوز، هذا تغرير
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث عمرو بن خارجة برقم (17211) .(57/173)
وخداع للناس، فلا يجوز أن تنتسب لغير قبيلتك ولا إلى غير أهلك ولو كنت مولى فلا يجوز أن تنتسب لغير مواليك، بل الواجب الانتساب الشرعي الذي يكون به التعارف والتآلف ولا يجوز للإنسان أن يغرر، ويخدع، ويكذب.(57/174)
س: في الحرم كانوا يأخذون المصاحف التي لا تكون بطبعة الملك فهد ويوزعونهما في الخارج بعيدا عن الحرم، فأنا أخذت بعض تلك المصاحف من الحرم التي لا تكون بطبعة مجمع الملك فهد فهل علي إثم في ذلك؟
ج: الأصل أن المصاحف في المسجد وقف عليه فلا ينبغي أن نأخذ من مصاحف الحرم بلا إذن؛ لأنها وقف على الحرم.
ولا شك أن طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة هي اليوم ولله الحمد صارت خير الطبعات، وفاقتها بحسن طباعتها، ودقة إخراجها، وحسن أداء المخرجين لها مما أعطاها ثقة المسلمين واطمئنانهم بهذه الطباعة، فوفق الله الملك لما يرضيه.(57/174)
عبد العزيز بن باز - عالم فقدته الأمة
1330 - 1420 هـ
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) . والصلاة والسلام على سيد ولد آدم، الذي جعل الله في موته موعظة للمعتبرين، وسلوى لمن يريد أن يتصبر ويحتسب ليطلب من ربه أجر الصابرين المحتسبين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فما أقسى فراق من ألفته القلوب، وما أشد فقدان من ظلال دوحته وارفة على المساكين والمحتاجين، وما أصعب الكلمات التي تعبر عن ذلك الألم، لأن اللسان يتعثر، والقلم يتلكأ ويعجز عن تصور الفاجعة التي حلت، ولكن العزاء يتم بالامتثال لأمر الله جل وعلا، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فعله الصحابة الكرام، عند مصابهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أعظم مصيبة على المسلمين.
والمصيبة بفراق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز،
__________
(1) سورة الملك الآية 2(57/175)
مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، الذي انتقل إلى رحمة الله فجر يوم الخميس 27 \ محرم 1420 هـ الموافق لتاريخ 13 \ مايو 1999 م، ليس أمرها بهين، لأنه علم لا كالأعلام، وإمام حبس نفسه على خدمة الإسلام والمسلمين، والضعفاء والمساكين، يتحسس آلامهم، ويتوجع لما يصيبهم، ويسعى بجهده وجاهه في مصالحهم، ويهتم بالإجابة على تساؤلاتهم كتابيا وشفويا وهاتفيا، فيحل بذلك ما اشتد لديهم من مشكلات، وقضايا سواء كانت فردية أو أسرية، أو اجتماعية. . فيصدر الجميع عن ورده مقتنعين، ومن منهل علمه مرتوين، عللا بعد نهل.
وقد برزت آثار ذلك، ونماذج عن مكانته في النفوس، في كل مكان يوجد فيه مسلمون على وجه الأرض، بأصداء ما قيل وكتب بعد وفاته. . وهذا من باب: «اذكروا محاسن موتاكم (1) » . بل إن جنازته التي صلي عليها بعد صلاة الجمعة بالمسجد الحرام 28 محرم 1420 هـ، والجماهير التي شيعته إلى مثواه حيث وري جثمانه في مقبرة العدل بمكة، تذكر بمقولة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: الموعد يوم الجنائز، وبما ذكر ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه، والذهبي في سير أعلام النبلاء، عن جنائز علماء الإسلام، وما انعكس في يوم وفاة مشاهيرهم، وعدد المشيعين، كالإمام أحمد بن حنبل الذي توفي في بغداد، والإمام أبي حنيفة الذي توفي بها أيضا، وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي توفي في دمشق، والعز بن عبد السلام الذي توفي بمصر، وغيرهم.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1019) ، سنن أبو داود الأدب (4900) .(57/176)
وقد ذكرت الصحف الصادرة بعد تشييع جنازة الشيخ عبد العزيز بن باز، أن مجموع من صلى عليه في الحرم المكي تجاوز المليونين، وأن الحركة في شوارع مكة قد توقفت من شدة الازدحام، وأن وسائل الإعلام العالمية من فضائيات ومسموعة ومرئية ومقروءة قد تسابقت في نقل ذلك الحدث، الذي اهتزت له القلوب، ودمعت منه العيون، في مواقع شتى من العالم، وكأن الشاعر يعنيه بقوله:
لعمرك ما الرزية فقد شاة ... ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شخص ... يموت بموته خلق كثير
ولكن الله قد أمر المؤمنين في كتابه الكريم بالصبر والاحتساب، ويجازي سبحانه على الصبر بالأجر الجزيل، فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) .
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث روته أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمر الله: إنا
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157(57/177)
لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله خيرا منها " فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها. فأخلف الله علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أبي سلمة (1) » .
ونسأل الله أن يخلف على المسلمين خيرا، وأن يجعل في علمائهم العوض والكفاية في كل أمر، وأن يعز دينه، ويعلي كلمته.
ولا شك أن فقد العلماء، شديد الوطأة، لأنهم ورثة الأنبياء، وصمام الأمان عندما تدلهم الأمور، والمصيبة بفقد عالم جليل كالشيخ عبد العزيز بن باز، والتألم من فراقه في ساحة العلم والدعوة إلى الله، ولتحمله هموم المسلمين في كل مكان، ألم ذلك أكثر على المحيطين به، والسابرين أغوار نفسه، والعارفين بحقيقة طبعه، وحبه للخير والمساعدة في ذلك، لأنه يحثهم على التأدب بذلك الأدب الرفيع، المستمد من مدرسة دين الإسلام، وفق أعمال القدوة الصالحة من سلف الأمة، ووفق ما تحث تعاليم هذا الدين الذي رضيه الله لخير أمة أخرجت للناس. . في مثل هذه النصوص الكريمة. قال الله سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2)
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، ومالك في الموطأ، وأبو داود وابن ماجه في الجنائز.
(2) سورة البقرة الآية 195(57/178)
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (1) . ويقول صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2) » .
وإن القارئ ليهمه أن يعرف شيئا عن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عن سيرته الذاتية، وعن بعض الجوانب في حياته، وعلمه وما تركه من بعده، من علم ينتفع به، وأثر يحمد عليه، ويدعا له بسببه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه في (كتاب الذكر) برقم (2699) عن أبي هريرة.(57/179)
من هو الشيخ:
إن بعضا من الكاتبين عن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - أدخلوا في سيرته، أمورا ليست منها، وبالغوا في نعته بأشياء لا يرضاها عندما كان حيا، وبحكم رابطتي بسماحته، وملازمته طوال ثمانية عشر عاما، وقيامي بجمع إنتاجه العلمي: من فتاوى ومحاضرات، وغير ذلك، ثم عرض ذلك عليه لإقرار ما يراه، وحذف ما لا يرضاه، وتوثيق ذلك باليوم والشهر والسنة، في أوقات خصصها - رحمه الله - لذلك.
فإنه كان يؤكد علي في كل مناسبة، ألا أكتب عن إنسان، أو أمدحه في حياته، لأن الإنسان لا تؤمن عليه الفتنة، وألا أزيد في المديح في حالة الرضا، أو أحيف في القدح في حالة الغضب،(57/179)
بل يجب الحرص، والصدق مع الله سبحانه، ومراقبته في الحالين. وعبارته في ذلك دائما: الله الله القسط فإن الله يحب المقسطين. لذا طلبت من سماحته، عندما اكتملت مسودة الجزء الأولى من مجموع فتاوى ومقالات لسماحته في عام 1407 هـ أن يحفل الجزء الأول، بسيرة ذاتية لسماحته، وأن يختار الاسم لهذه المجموعة من عدة أسماء قدمتها له للاختيار.
فعن الاسم، ارتاحت نفسه إلى: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، تأليف الفقير إلى عفو ربه: عبد العزيز بن عبد الله بن باز. . وأن يوضع اسمي: مشرفا على تجميعه وطبعه، ولما وضعت المطابع كلمة الشيخ، لم يرتح لذلك، وأمر بإغفالها في الطبعات التالية للأولى، وفي الأجزاء الأخرى، تواضعا منه، وحبا في عدم إضفاء الألقاب على نفسه.
أما عن السيرة الذاتية، فقد أملاها بنفسه، وإن أصدق السير ما كانت بلسان المرء عن ذاته، لأنه أدرى وأعرف بحال نفسه، فهو يقول كما جاء في الجزء الأول من المجموع، ثم قرأتها عليه بعد كتابتها، فأقرها:
أنا عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن باز، ولدت بالرياض في ذي الحجة سنة 1330 هـ (1) وكنت بصيرا في أول الدراسة، ثم أصابني المرض في عيني عام
__________
(1) جاء في شريط بصوته - رحمه الله -، أنه ولد في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة عام 1330 هـ.(57/180)
1346 هـ، فضعف بصري بسبب ذلك، ثم ذهب بالكلية في مستهل محرم من عام 1350 هـ والحمد لله على ذلك، وأسأل الله جل وعلا أن يعوضني عنه، بالبصيرة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة، كما وعد سبحانه، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أسأله سبحانه أن يجعل العاقبة حميدة في الدنيا والآخرة.
وقد بدأت الدراسة منذ الصغر، وحفظت القرآن الكريم قبل البلوغ، ثم بدأت في تلقي العلوم الشرعية والعربية، على أيدي كثير من علماء مدينة الرياض، من أعلامهم:
1 - الشيخ: محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -.
2 - الشيخ: صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاضي الرياض - رحمهم الله -.
3 - الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض.
4 - الشيخ: حمد بن فارس (وكيل بيت المال بالرياض) .
5 - الشيخ: سعد وقاص البخاري (من علماء مكة المكرمة) ، أخذت عنه علم التجويد في عام 1355 هـ.
6 - سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ. . وقد لازمت حلقاته نحوا من عشر سنوات، وتلقيت عنه(57/181)
جميع العلوم الشرعية، ابتداء من سنة 1347 هـ إلى سنة 1357 هـ، حيث رشحت للقضاء من قبل سماحته.
جزى الله الجميع أفضل الجزاء، وأحسنه، وتغمدهم جميعا برحمته ورضوانه.
وقد توليت عدة أعمال هي:
1 - القضاء في منطقة الخرج مدة طويلة، استمرت أربعة عشر عاما وأشهرا، وامتدت بين سنتي 1357 هـ إلى عام 1371 هـ، وقد كان التعيين في جمادى الآخرة من عام 1357 هـ وبقيت إلى نهاية عام 1371 هـ.
2 - التدريس في المعهد العلمي بالرياض سنة 1372 هـ، وبقيت إلى نهاية عام 1380 هـ في المعهد، ثم في كلية الشريعة بالرياض بعد إنشائها سنة 1373 هـ في علوم الفقه والتوحيد، والحديث واستمر عملي على ذلك تسع سنوات، انتهت في عام 1380 هـ.
3 - عينت في عام 1381 هـ نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وبقيت في هذا المنصب إلى عام 1390 هـ.
4 - توليت رئاسة الجامعة الإسلامية في سنة 1390 هـ بعد وفاة رئيسها شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - في رمضان عام 1389 هـ وبقيت في هذا المنصب إلى سنة 1395 هـ.
5 - وفي 14 \ 10 \ 1395 هـ صدر الأمر الملكي بتعييني في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء(57/182)
والدعوة والإرشاد، ولا أزال إلى هذا الوقت في هذا العمل. أسأل الله العون والتوفيق والسداد.
ولي إلى جانب هذا العمل في الوقت الحاضر عضوية في كثير من المجالس العلمية والإسلامية، من ذلك:
1 - عضوية هيئة كبار العلماء (1) .
2 - رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الهيئة المذكورة.
3 - عضوية ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
4 - رئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد.
5 - رئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، التابع لرابطة العالم الإسلامي.
6 - عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
7 - عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
أما مؤلفاتي فمنها:
1 - الفوائد الجلية في المباحث الفرضية.
2 - التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة " توضيح المناسك ".
3 - التحذير من البدع، ويشتمل على أربع مقالات مفيدة: " حكم الاحتفال بالمولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج،
__________
(1) وفي عام 1414 هـ صدر أمر ملكي بتعيينه مفتيا عاما للمملكة ورئيسا لهيئة كبار العلماء بالمملكة.(57/183)
وليلة النصف من شعبان، وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ أحمد ".
4 - رسالتان موجزتان في الزكاة والصوم.
5 - العقيدة الصحيحة وما يضادها.
6 - وجوب العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها.
7 - الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة.
8 - وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
9 - حكم السفور والحجاب، ونكاح الشغار.
10 - نقد القومية العربية.
11 - الجواب المفيد في حكم التصوير.
12 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب " دعوته وسيرته ".
13 - ثلاث رسائل في الصلاة:
1 - كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - وجوب أداء الصلاة في جماعة.
3 - أين يضع المصلي يديه حين يرفع من الركوع.
14 - حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن، أو في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
15 - حاشية مفيدة على فتح الباري، وصلت فيها إلى كتاب الحج.
16 - رسالة الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض، وإمكان الصعود إلى الكواكب.
17 - إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله، أو صدق(57/184)
الكهنة والعرافين.
18 - الجهاد في سبيل الله.
19 - الدروس المهمة لعامة الأمة.
20 - فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.
21 - وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة (1) .
وقد دخلت جميع هذه المؤلفات وغيرها ضمن كتاب سماحته: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ما عدا رقم (15) حاشية مفيدة على فتح الباري.
وهذه المجموعة تم طبع الجزء الأول منها عام 1408 هـ الموافق 1987 م، وطبعتها تباعا الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد التي تغير مسماها بأمر ملكي عام 1414 هـ إلى رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء.
وقد صدر منها أربعة عشر مجلدا مرتبة حسب أبواب الفقه، وسيكون الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام الذي توسع فيه سماحته لكثرة ما يطرح عليه في أيام الحج من كل عام في مخيم سماحته في منى وعرفات من أسئلة، ووقائع تحصل للحجاج والمعتمرين، المنتظر أن يزيد على ثلاثة مجلدات؛ سيكون بداية الحج من المجلد السابع عشر من المجموع، وعلاوة على ما سوف يلحقه من فتاوى عديدة في المسائل الكثيرة
__________
(1) يراجع في ذلك الجزء الأول من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته - رحمه الله - ص 9 - 12.(57/185)
من أبواب الفقه بأنواعها لغزارة علمه، واهتمامه - رحمه الله - بنشر ما آتاه الله من علم، وعدم كتمانه وإفادة المسلمين في كل مكان. . فإن القارئ والمتابع لهذا المجموع سوف يرى فيه اجتهادات كثيرة، وحلا لأمور جدت في حياة المسلمين في العصر الحاضر، مما نرجو معه أن يكون من العلم النافع. . كما قال - رحمه الله - في مقدمة هذا المجموع:
أما بعد: فهذه فتاوى ومقالات صدرت مني في أوقات متعددة، ولما فيها من الفائدة رأيت أن أجمعها وأطبعها في غلاف واحد لأستفيد منها، ويستفيد منها من شاء الله من العباد، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن ينفعني بها حيا وميتا، وأن ينفع بها عباده، إنه سميع قريب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل، وقد رأيت ترتيبها على ترتيب الفقهاء بادئا بما يتعلق بالعقيدة، لكونها أهم الأمور والله المستعان وعليه التكلان (1) .
ولأن العرض لكل ما يتوفر من مقالات وفتاوى سماحته عليه مما كنت أحرص على جمعه من مصادر عديدة اعتبارا من عام 1403 هـ حتى يوم وفاته - رحمه الله -، وحتى وهو في المستشفى في الرياض، وفي الطائف فقد كان يهتم بذلك العرض عليه، ليصححه ويعدل فيه، ولذا فإنه يتوفر الآن لدينا مما قد تم عرضه ما يقارب عشرة مجلدات إضافة لما نوهنا عنه بأنه قد صدر،
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته الطبعة الأولى ج 1 ص 7.(57/186)
وسوف نكون في الاهتمام والمتابعة بإذن الله على النهج الذي رسمه، ونفي له بالعهد الذي بدأناه معه - رحمه الله - أمانة للعلم، ووفاء له ولمكانته.(57/187)
أخلاق الشيخ وطبائعه:
جبل الله الشيخ عبد العزيز على صفات حميدة، وطبائع فريدة، منذ حداثة سنه، فكانت خلقا فيه غير متكلفة، وسجية من سجاياه المتمكنة من نفسه، وهذه هبة من الله سبحانه، يمن بها على من يشاء من عباده {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) ، وهذه الصفات كلها خير، وتحث على الخير، يحبها الشيخ، ويدعو إليها، ولا تكلف فيها عنده. . ومن تلك الخصال:
1 - الكرم: هذه الخصلة التي حفل بها تاريخ العرب وطبائعهم، حتى كان الكرم العربي مضرب الأمثال، واشتهر بذلك رجال عرفوا في التاريخ كحاتم الطائي وغيره كثير.
ولكن الكرم في الشيخ عبد العزيز يختلف عن أولئك بأمور فهو كريم بماله، وكريم بطعامه، وكريم بجاهه، وكريم بعلمه. . ويتمثل فيه الكرم بشتى صوره. . ينطبق عليه قول الفرزدق في علي زين العابدين عندما مدحه بقصيدة جاء فيها:
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
لا يرد سائلا، ولا يرجع من عنده طالب حاجة خائبا، أذكر
__________
(1) سورة المائدة الآية 54(57/187)
في يوم من الأيام وكنت عائدا مع سماحته وفق العادة من مجلس خادم الحرمين الشريفين الملك فهد في الديوان الملكي بالرياض للعلماء، لما وصلنا بيت سماحته وعند تعريجه على المجلس الذي يمتلئ بالضيوف وأصحاب الحاجات ليقول لهم: تفضلوا لتناول طعام الغداء كما هي عادته يوميا لأن سروره يزداد كلما زاد عددهم، إذا بواحد منهم، من شرق أفريقيا يقوم ليسلم على سماحته، ويطلب منه أن يعطيه " المشلح " وهو العباءة التي يرتديها سماحته لأنه معجب بها ويريد أن يلبسها في بلاده. ليقول لهم هذه عباءة الشيخ ابن باز، ولما قال له الشيخ: سأعطيك غيرها. . أصر الرجل عليها بعينها، فخلعها أمام الضيوف جميعهم، وأعطاها له:
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
2 - التواضع والحلم: فهو في تواضعه لين الجانب، يألفه الصغير والكبير، النساء والرجال، يحرص في تواضعه بأن يتلطف إلى السائلين والسائلات، ويرق لهم في الإجابة، ويتبسط في عرض الجواب بحسب مقدرة وفهم السائل ومستواه. . لا يتشدد في الجواب ولا يعنف.
ويحرص في تواضعه أن يترسم خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقف للطفل إذا كان له حاجة، وينعطف بجسمه وحواسه ليستمع للمرأة: سائلة أو شاكية، ولا يصدر عن ورده أحد مهما كان صغيرا أو كبيرا، إلا ويشعر أن الشيخ عبد العزيز مختص في تفهم حاله هو، توجيها ورعاية بحيث لو عاد إليه،(57/188)
تذكره، وأخبره بما عمل من أجله.
أما عن حلمه، فهو أحنف هذا الزمان، يغضب أمامه المراجعون، ويرفع أصحاب الحاجات عليه أصواتهم، فيقابلهم باللين والرفق والابتسامة، وأشد كلمة يقولها ليسكت من لم يرض بالسكوت، وليخفض من يتعالى صوته، هي قوله: سبح. . سبح. . أي قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
أما الذين ينالون منه بأي أسلوب كان، فلا يزيد عن قول: غفر الله لهم. وإذا اشتكى إليه أحد ما يناله من الآخرين، مهما كانوا، كان يأمر بالصبر والاحتساب، وما أكثر ما تردد على مسمعي منه توجيها لي، وتعليما للآخرين: عليكم بالصبر فإن أجره عظيم. ويستشهد بالآية الكريمة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، وقول الله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (2) .
وكثيرا ما حدثه أناس: من الرجال والنساء، داخل المملكة وخارجها مباشرة أو هاتفيا أو برسالة يخبرونه بأنهم كانوا يتعرضون له بالقدح، ووضع المثالب ويطلبون منه المسامحة والصفح، فيجيبهم بكل ارتياح وبساطة: سامحكم الله، وغفر لنا ولكم.
3 - حبه للعلم والعلماء، واهتمامه ببذل العلم: فقد جلس لطلاب العلم منذ تعين قاضيا في الخرج عام 1357 هـ والتأم جمعهم، حيث زاد عددهم من كل مكان داخل المملكة وخارجها
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) سورة آل عمران الآية 146(57/189)
في فترة وجيزة عن أربعين دارسا. يجلس لهم في أوقات متعددة، بعد فراغه من أعمال القضاء اليومية، ثم بعد ما انتقل للرياض مدرسا في المعهد العلمي وكلية الشريعة، كان يخصص أوقاتا للدارسين عنده. . وزاد اهتمامه بالتعليم عندما تعين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. إذ كان يرعى الطلاب ويوجههم ويحنو عليهم حيث أصبحت الجامعة خلية نحل، ونفع الله بالمتخرجين منها في بلادهم تعلما وتعليما ودعوة إلى دين الله؛ لأنهم استرشدوا بتوجيهاته بعد أن محضهم نصحه وتوجيهه.
وفي الرياض بعد ما انتقل إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد زاد اهتمامه بالعلم والإرشاد والدعوة إلى دين الله، فحرص على تصيد العلماء العاملين، للإفادة منهم في الدعوة إلى دين الله باللسان والقلم، والترجمة وحسن التوجيه.
ولا أظن عالما في هذا الزمان اهتم بالعلم والتعليم وإرشاد الناس إلى الدرب الصحيح بصدق وإخلاص وبذل ومتابعة بلغ ما بلغ الشيخ عبد العزيز بن باز، يبرز ذلك في مثل:
أ - كثرة أحاديثه ومحاضراته في كل موقف، فلا يصلي في مسجد إلا حدث فيه، ولا يحضر وليمة زواج أو غيرها إلا تكلم وحث على الخير، وأجاب على الأسئلة. . ولا جلس مجلسا إلا طلب قراءة آيات من كتاب الله، وشغل الوقت بتفسير الآيات وما فيها من عظات وأحكام. . ثم يجيب على الأسئلة المطروحة. . حتى يشغل الناس بما فيه نفع(57/190)
وخير، وحتى يرغبهم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب - لا يترك مناسبة ذات صلة بكتاب الله، أو بالعلم في أي مدرسة أو جامعة أو جمعية إلا شارك فيها وتكلم ووجه ونصح، وأجاب على فتاوى الناس وأسئلتهم. وكذا المجلات والصحف الإسلامية التي يطمئن على سلامة عقيدة القائمين عليها.
ج - يحرص كلما التقى في أي مجلس أو مسجد، ببعض الشباب الصغار، على أن يوجه إليهم أسئلة في أمور العقيدة والفقه بالدين. . فالصغير يسأله: من ربك، ومن نبيك، وما دينك؟ ؟ . والأكبر عن أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وما هو الإحسان، وأسئلة عن الصلاة والصيام وغير ذلك ويطلب منه الدليل. . وهكذا للجميع. . فيدعو لهم إذا أجابوا ويصحح لمن أخطأ، ويوجه لأهمية العلم، ويشجع على دخول كليات الشريعة، والاهتمام بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة، وبالحديث وبالكتب المفيدة ويسميها للطلاب. . كما يتابع ما ينشر في وسائل الإعلام ويرد على ما يتعارض مع الإسلام لينير الطريق للمسترشدين.
د - اهتم كثيرا بإيجاد برنامج في الإذاعة هو: نور على الدرب، وكان له فيه حلقتان أسبوعيا وللمشايخ الآخرين من كبار علماء المملكة نصيبهم، توزع أيام الأسبوع بينهم لإفادة الناس أمور دينهم والإجابة على أسئلة المسلمين في كل مكان. .
وقد نفع الله به وهو يقدم من إذاعة القرآن الكريم مرتين في(57/191)
اليوم ومن البرنامج العام، وصوت الإسلام.
كما كان يهتم ويشجع على الأحاديث الدعوية والدينية في وسائل الإعلام كلها. . وعلى طباعة الرسائل الصغيرة وبثها بين المسلمين. ويرى - رحمه الله - أن وسائل الإعلام من وسائل الدعوة التي تبلغ صوت الحق في كل مكان. ويعين على الترجمة والطباعة، وإرسال الكتب لطالبها في أي مكان من العالم.
هـ - يحمل هموم المسلمين في كل مكان، ويهتم بقضاياهم ومصالحهم على اختلاف مستوياتهم سواء في داخل المملكة أو خارجها: سواء بالدعاء لهم أو إعانة جمعياتهم ومدارسهم أو بحث الناس على التبرع لهم أو بتزويدهم بالكتب النافعة، أو بتعيين الدعاة والمدرسين لهم أو بالشفاعة لأبنائهم للدراسة في جامعات المملكة في كليات الشريعة وغيرها من الكليات والمعاهد ذات الصبغة الشرعية في مناهجها وبناء المساجد لهم. فكان يسره الخبر الحسن عنهم في كل مكان، ويسوءه ما فيه ضرر عليهم، كما يهتم إعلاميا بتتبع ما يصدر في وسائل الإعلام عن أخبار المسلمين سواء كانت فردية أو جماعية. . ويسره كثيرا اعتناق الإسلام مجددا لأناس منهم، سواء كان ذلك من قبل الجاليات ومكاتب الدعوة في داخل المملكة، أو في أي مكان في العالم. . ومن بلغه عنه منهم حاجة سعى فيها بكل ما يستطيع حتى تتحقق دراسة أو مواساة مالية.
وتطبيقه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من(57/192)
أموره: الدينية والدنيوية، واهتمامه بتعليم الناس بأسلوب يفوق منهج التربويين في العصر الحاضر. . إذ لديه طريقة في تعليم الناس ذلك العمل. . فمثلا عندما يأتيه سائل أو أكثر وهو في المسجد بعد الصلاة ويلقي سؤاله. . يؤشر إليه بيده: أن تمهل قليلا. . ويستمر في التسبيح والتكبير. . والأدعية المشروعة بعد الصلاة، ويرفع قليلا ليسمع من حوله، حتى يتأسوا به، ويعد بأصابعه ليعرف السائل والحاضر عن الأذكار بعد الصلاة التي يحسن الاهتمام بها عدا. . كما ورد في السنة النبوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله. وهكذا في دخول المسجد والخروج منه وغير ذلك من الآداب الشرعية.
وعلى العموم فإن الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - يعتبر من المحدثين القلائل في هذا العصر، والمعرفة بأسماء رجال الحديث جرحا وتعديلا.
وقد مكن هذا القول أحدهم بقوله: إنه يعرف الأحاديث: متنا وسندا. . كما يعرف أفراد أسرته.
4 - حبه للصدقات، وسعيه في حوائج الآخرين، حيث يردد دائما على من حوله من العاملين معه حتى يشجعهم على عمل الخير: «إنما تنصرون بضعفائكم (1) » ، و «من كان في عون أخيه كان الله في عونه (2) » ، و «اشفعوا تؤجروا (3) » .
فكم من فقير جبر خاطره، وكم من سائل أجاب سؤاله، وكم من يتيم وأرملة، وشيخ كبير، أعانهم وكفكف دموعهم،
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2896) ، سنن النسائي الجهاد (3178) ، مسند أحمد بن حنبل (1/173) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1432) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/400) .(57/193)
وكم من لا يملك سكنا، سعى لدى أهل الخير، فحقق لهم سكنا يؤيهم، ويظلهم عن الحاجة. . وكم من مسكين ضاقت به المعيشة بدخله القليل فقرر له شهريا أو سنويا ما يعينه على متاعب المعيشة، ومتطلبات الحياة الحاضرة. . وهلم جراء.
فكان بحق أبا لليتامى، وعائلا للأرامل والمحتاجين، ومفرجا لكربات المعوزين، وسندا للفقراء والمساكين، وشافعا لذوي الحاجات والغارقين في الديون.
صفات عديدة قلما تتوفر في فرد واحد، عرفناها بالعمل مدة طويلة مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وعودنا عليها طبعا، وحبا للمساعدة والسعي في مصالح المسلمين.
5 - أما بناء المساجد، واهتمامه بإعمارها: بناء وتعليما وعبادة. فهذا مما يحث عليه ويدعو إليه، بلسانه وجاهه، وبكل قدرة تحت يديه. . ولا تجد مكانا إلا وللشيخ بصمات في هذا المجال. . فالمساجد التي بنى والتي سعى فيها لا تحصى، والشفاعات منه مقبولة في هذا الميدان، وحثه طلاب العلم الجلوس في المساجد تعلما وتعليما من لوازمه في كل حديث. ودعوته الناس صغارا وكبارا إلى الاهتمام بالصلوات، وحضورها في المساجد جماعة جزء من أحاديثه وفتاواه ويؤكد هذا دائما. . وفي كل مناسبة حتى لا يغفل الناس عن هذا الأمر الهام.
6 - أما عباداته وورعه: فإنه يتمثل فيه طريقة السلف الصالح من هذه الأمة، وطالما توقف عند عبادات بعضهم، في سيرهم - رحمهم الله -، داعيا لهم، ومرغبا في اقتفاء أثرهم.(57/194)
ففي الصلاة يطبق ما عرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إليها مع سماع الأذان مباشرة، والدعوة لذلك، مع المحافظة على الرواتب والنوافل، فما كان يؤديه رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت أداه في البيت، وما كان يحرص عليه قياما في آخر الليل أداه، حيث رتب لنفسه ساعة قبل الفجر، أما التراويح فقد رأى تطبيق السنة وهو في الخرج عام 1364 هـ صلاها 13 ركعة واستمر على ذلك.
وفي الصدقات، كان لا يرد سائلا، ويعطي كلا بحسبه، وإذا قيل له بأن هذا السائل لم يقدم تزكية وتعريفا بحاجته، يرد بقوله: ما أمرنا بالسؤال عن هذا. . بل من مد يده فهو أدرى بحال نفسه {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (1) {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (2) ، وإن لم يكن محتاجا فإثمه على نفسه.
وفي الحج حدثني بأن أول سنة حجها كانت وهو لا يزال مبصرا في عام 1349 هـ وهي أول سنة يعتمر فيها، وحج بعدها أربع مرات في عام 1351 هـ، وعام 1354 هـ، وعام 1363 هـ، وعام 1368 هـ، ثم من عام 1372 هـ واصل الحج حتى وفاته عدا عام 1419هـ حيث أوصى الأطباء لمرضه بعدم ذهابه للحج. . وقد جاء بعد الحج وأدى العمرة. . فتكون حججه (52) حجة، أما العمر فهي أكثر من ذلك، حيث يقصد مكة كثيرا لمحبته لها. وهكذا سائر العبادات جعلها الله مقبولة عنده.
__________
(1) سورة الضحى الآية 9
(2) سورة الضحى الآية 10(57/195)
7 - ويمكن الإجمال بأن الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - لا يرى طريقا فيه خير للإسلام والمسلمين، إلا سلكه ولا مصلحة تهم فردا أو جماعة من المسلمين في أي مكان على وجه الأرض، إلا سعى فيها.
ولا يظن أي إنسان أن الشيخ متساهل في ذلك، بل يطلب التزكية والتعريف، بأن هذا الشخص أو تلك الجماعة يسيرون على منهج أهل السنة والجماعة، وإلا فهو شديد على أهل البدع والمنكرات، حريص على سلامة العقيدة، ولا يرضى عن أهل الباطل وأعمالهم وينصحهم كلما رأى فرصة لذلك.
8 - كان كثير القراءة والاطلاع على أقوال العلماء، متورعا في الفتوى، يستخير الله ويصلي ركعتين عندما يشكل عليه أمر، حسن الخلق، ولا يغضب إلا لله أو عندما تنتهك حرمات الله، قريبا من قلوب الناس عند من يفتيهم، يحب الستر على ما يقع فيه الناس من خلل في العبادة والعمل، وينصح ويوجه برفق فتلين معه القلوب؛ لأن ما صدر من القلب استقر في القلب. . لا يستعجل ولا يتأثر بكلام الآخرين. . ينطبق عليه قول أبي تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس (1)
9 - أما العاملون معه فإنه يرأف بهم، ولا يحب الإثقال عليهم، ويدعو لهم ويمازحهم. ولم أره طوال عملي معه، ألزم
__________
(1) من قصيدته في مدح المعتصم العباسي.(57/196)
موظفا بالحضور في أوقات معينة للعمل، لا في المساء ولا في النهار، ولا في الإجازات الأسبوعية أو الأعياد. . رغم أنه لا يتوقف عن العمل، ولا يمله مع تقدم السن عنده، إلا أنه يعرض، ولقد قال لي أكثر من مرة، ولا بد أنه قال مثل ذلك للموظفين الآخرين: لا تكلف نفسك بالمجيء؛ لأن مسكنك بعيد عنا، أو وقت الشتاء والبرد، لأنه - رحمه الله - يخشى المشقة وبعد المواصلات.
ولقد حكى لي الموظف عنده سابقا: عبد الله بن خريف - رحمه الله - أنه قد جاء إلى الشيخ في إحدى الليالي، وكاد ابن خريف يحس بالتعب، وبرأسه صداع. . فقال له الشيخ كعادته: هات ما عندك من المعاملات، فجلس عند الشيخ ساعات، وهو يقرأ عليه، حتى حس الشيخ بالنعاس، واستأذن منه للذهاب للنوم. ثم يقول عبد الله بن خريف - رحمه الله -: ولقد أحسست في تلك الليلة بنشاط غريب، وذهب عني الصداع الذي كنت أشكو منه أول مجيئي، فأيقنت أن الرجل معان من الله. وقد حصل لي معه - رحمه الله - مواقف من هذا النوع تجعل الإنسان نشيطا ويعمل براحة نفس مهما طال الوقت.
10 - أما الوفاء لمشايخه ولمن عرفهم فهو في ذلك مثالي، فالشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - مفتي الديار السعودية عندما يمر ذكره يترحم عليه، وتدمع عيناه ويتأثر كثيرا. . وكذلك مشايخه وزملاء الطلب يترحم عليهم ويصل أولادهم وأقرباءهم.
كما كان واصلا لرحمه قربوا أو بعدوا، ويسأل عن الصغير والكبير ولا تلهيه مشاغل العمل والرسميات عن المواصلة والبر(57/197)
والصلة. . فمكارم الأخلاق التي يحبها الله ووصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفرة فيه - رحمه الله -، ويهتم بها: سؤالا وتطبيقا ومواصلة مع لين جانب ومودة وسعي في حوائج من يلزمه شيء.(57/198)
مكانته عند الآخرين:
لقد كانت للشيخ عبد العزيز - رحمه الله - مكانة كبيرة في عيون الآخرين، مهما كان موقع كل منهم، ولقد أجمعت القلوب على محبته، بان صدى ذلك بعدما توفي - رحمه الله -، وما خطته أقلام الكاتبين في كل مكان من أنحاء المعمورة، والناس شهود الله في أرضه، وإن استقصاء ما قيل عنه لمما يقع في عدة كتب لكثرته. . ولكن يكفي الإشارة لنموذجين:
الأول: ما تناقلته الصحف من تأثير أشرطة وفتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في الإرهابيين الجزائريين: حيث أدركوا عمق الدين ورحابته، فاستجابوا للتوبة وطلب العفو الذي دعا إليه الرئيس عبد العزيز بو تفليقة. . حيث أبان الشيخ ابن باز لهم بوضوح ديني، وثوابت مستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد قال أحدهم: إن لفتاوى الشيخ ابن باز وأشرطته دورا كبيرا في توبة كثير من الإرهابيين (1) .
الثاني: ما قاله الشيخ القرضاوي في قناة الجزيرة التي تبث
__________
(1) على سبيل المثال تنظر المدينة الأسبوعية يوم الأحد 12 ربيع الآخر 1420 هـ 25 يوليه 1999 م ص 21.(57/198)
إرسالها من قطر وما تناقلته الصحف عنه بعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - ومن ذلك قوله: أبى الشيخ على نفسه ألا يغادر المملكة، وكم دعي من أقطار وجهات شتى ولكنه اعتذر، وعندما أقيم المؤتمر العالمي للسنة والسيرة في قطر في افتتاح القرن الخامس عشر الهجري وجهنا إليه الدعوة، وألححنا عليه، ولكنه قال: إنه كان يود الاستجابة للدعوة ولكن هذا سيفتح عليه أبوابا لا يستطيع سدها. . وأصر على موقفه ونهجه في الاعتذار.
لم أر مثل الشيخ ابن باز في وده وحفاوته بإخوانه من أهل العلم، ولا في بره وإكرامه لأبنائه من طلبة العلم، ولا في لطفه ورقته بطالبي الحاجات من أبناء وطنه، أو أبناء المسلمين عموما، فقد كان من أحاسن الناس أخلاقا الذين يألفون ويؤلفون.
ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها: ما يوافقه منها وما يخالفه، ويتلقاها جميعا باهتمام ويعلق عليها بأدب، ويعارض ما يعارض منها، برفق وسماحة، دون استعلاء ولا تطاول على أحد متأدبا بأدب النبوة، متخلقا بأخلاق القرآن.
ولا أعرف أحدا يكره الشيخ ابن باز، من أبناء الإسلام، إلا أن يكون مطعونا في عقيدته، أو ملبوسا عليه، فقد كان الرجل من الصادقين، الذين يعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيصدقون، ليس معنى ذلك أن الشيخ كان معصوما من الخطأ، فما ادعى ذلك لنفسه، وما ادعاه له أحد من محبيه، ولكن خطأه مغمور في جنب صوابه، وهو مأجور على خطئه هذا أجرا واحدا، إن شاء الله.(57/199)
ولقد اختلفت مع الشيخ العلامة في بعض المسائل، نتيجة لاختلاف الزوايا التي ينظر منها كل منا ومدى تأثر كل منا بزمانه، ومكانه إيجابا أو سلبا، ولم أر هذا الاختلاف عبر نظرتي إليه، أو نظرته إلي، وظللت - والله - أكن له المحبة والتقدير، وأدعو له بطول العمر في خدمة العلم والإسلام، وظل كذلك يعاملني بود وحب، كلما التقينا، وكلما لقيه أحد من أبناء قطر، حمله السلام إلي - رحمه الله -، وأكرم مثواه.
الحديث عن العلامة ابن باز ذو شجون، ومجال القول ذو سعة، ولا نستطيع أن نوفي الشيخ ما يستحقه في هذه العجالة، إنما هي كلمات سريعة، كتبتها على عجل، أودع بها الشيخ الجليل، وفاء لبعض حقه، ومعرفة بقدره، وتقديرا لمكانته وفضله.(57/200)
وفاته:
ما رأيت كالشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في صبره وتحمله، لما يصيبه من أمراض، ولعل الله أراد له خيرا، بما يجازاه الصابرون، ولئن كان يصف للناس الأدوية الشرعية، من أدعية ورقى ووصفات، فإنه يطبق ذلك على نفسه، لكنه يتجه للأطباء عندما يكون المرض عضويا، ليأنس بما منح الله الأطباء من علم، أخذا من الحديث الشريف: «ما أنزل الله عز وجل داء إلا قد أنزل له شفاء علمه(57/200)
من علمه، وجهله من جهله (1) » .
ومع كثرة ما يصيب الشيخ - رحمه الله - من أمراض، فإنه يتحمل، ولم يتوقف عن العمل يوميا في حياته، لقد كان الاهتمام بأمور المسلمين، والرغبة في إفادتهم وقضاء حوائجهم هاجسه الدائم، حتى إذا اضطره المرض للمكث في المستشفى: ساعات للكشف والتداوي، أو أياما للراحة وتنظيم العلاج، فإنه لا يتوقف عن العمل، ولا راحة لديه إلا بقدر ما ينتج من عمل.
في يوم الأربعاء 26 محرم 1420 هـ وهو يوم خروجه من المستشفى بالطائف، دعانا بعد الظهر مع ما يحس به من مرض شديد في الجهاز الهضمي للعمل، وتلاوة المعاملات عليه، فأنجزها. وفي مغرب ذلك اليوم جلس للناس كعادته، وهو بكامل حواسه وذاكرته، فأنجز أمورا عديدة في فتاوى الطلاق، وفي الفتاوى الشفهية، وفي الرد على الهاتف. . ولم يبن عليه مظهر الإعياء والتعب، ولم يلاحظ الناس عليه سوى حضوره في العربة، ولم يأت ماشيا كالمعتاد، وما ذلك إلا أن قلة الشهية للطعام أضعفت قواه.
وفي فجر تلك الليلة قام كعادته للصلاة قبل الفجر بساعة، فصلى ما كتب الله له أن يختم حياته به، ثم نزل به أمر الله، وفي الطريق إلى المستشفى مع إطلالة فجر يوم الخميس 27 محرم 1420 هـ فاضت روحه بدون ضجر أو ألم. . وقد تجاوز التاسعة
__________
(1) حديث صحيح رواه الإمام أحمد في (المسند) برقم (3578، 3922، 4236، 4267) ، والحاكم في (المستدرك) 4 \ 399، وابن حبان في صحيحه برقم (6062) عن ابن مسعود.(57/201)
والثمانين من عمره وأخذ من التسعين عاما شهرا وعدة أيام (89 عاما وشهرا و 14 يوما) .
وكانت وفاته في مدينة الطائف وقد صدر بيان من الديوان الملكي بنعي سماحته، وتحديد الصلاة عليه بعد صلاة الجمعة بالمسجد الحرام بمكة 28 محرم 1420 هـ وإقامة صلاة الغائب عليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة وسائر المساجد بالمملكة، كما أقيمت صلاة الغائب عليه في مساجد كثيرة من العالم الإسلامي، والجمعيات الإسلامية في أوروبا وأمريكا واستراليا. رحمه الله رحمة واسعة، وألحقه بسلف هذه الأمة مع الشهداء والصديقين في مقعد صدق عند مليك مقتدر. . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(57/202)
الصور التي ينقض فيها الحاكم النكاح بين الزوجين
للدكتور: عبده بن عبد الله الأهدل (1)
التمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد قمت بجمع الصور التي ينقض الحاكم فيها النكاح بين الزوجين ويفرق بينهما، والمشتتة في بطون كتب الفقه الإسلامي، ليسهل الاطلاع عليها، عارضا فيها أقوال العلماء مع الأدلة والمناقشة، محاولا الترجيح فيما بينها ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وجمعت هذه الصور في مقدمة وفصلين:
المقدمة: عرفت فيها النكاح لغة واصطلاحا.
الفصل الأول: الصور المختلف فيها بين الفقهاء.
الفصل الثاني: الصور التي لم ترد إلا في مذهب واحد.
أسأل الله عز وجل أن ينفع بها كل مطلع عليها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.
__________
(1) وكيل كلية التربية بجامعة الحديدة في الجمهورية العربية اليمنية.(57/203)
المقدمة:
تعريف النكاح لغة واصطلاحا:
النكاح في اللغة: الضم والجمع، منه: تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.
وفي الاصطلاح: عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر قصدا.
ويطلق النكاح في لغة العرب على: الوطء والعقد جميعا، إلا أن يكون اللفظ ظاهرا في أحدهما، فيصرف إليه دون الآخر، كقوله: نكح فلان فلانة، أو بنت فلان، أو أخته، فيصرف إلى العقد؛ لأنه هو المراد هنا. وقولهم: نكح فلان زوجته، فيصرف إلى الوطء؛ لأن قرينة الزوجية دالة عليه.(57/204)
الفصل الأول: وفيه ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: عدم حضور الشهود عند النكاح:
اختلف العلماء في حضور الشهود عند النكاح، هل هو شرط الصحة، أو يصح بدونهم؟ للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا ينعقد النكاح إلا بحضور الشهود (1) .
وحجتهم على ذلك حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) جامع الترمذي 3 \ 411، الإشراف 4 \ 45، شرح السنة 9 \ 46، المغني 6 \ 450، البناية 4 \ 24.(57/204)
«لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل (1) » .
المذهب الثاني: وبه قال الزهري ومالك: ينعقد النكاح بدون حضور الشهود، ولكن يجب الإشهاد قبل الدخول، فإن دخل بدون إشهاد طلق عليه الحاكم طلقة بائنة؛ لصحة النكاح، لكون الإشهاد شرط وجوب وليس شرط صحة (2) .
المذهب الثالث: يصح عقد النكاح بدون حضور الشهود مطلقا.
روي هذا المذهب عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن بن علي، وبعض التابعين، وأبي ثور، وابن المنذر (3) .
__________
(1) صحيح ابن حبان (موارد الظمآن) حديث 1247، الدارقطني 3 \ 226، البيهقي 7 \ 125، وإسناده صحيح، إرواء الغليل 6 \ 258.
(2) المدونة 3 \ 192، الإشراف 4 \ 46، الكافي 2 \ 519، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 216.
(3) المصدران السابقان.(57/205)
وحجة هؤلاء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج جارية، ولم يعرف الصحابة زواجه بها إلا عندما حجبها (1) ؛ فدل ذلك على صحة عقد النكاح بدون حضور الشهود، إذ لو كان واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم عند زواجه بهذه الجارية (2) .
وأجيب: بأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من غير ولي وشهود من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك تشريعا لجميع الأمة، فلا يلحق به غيره في ذلك (3) .
__________
(1) صحيح مسلم 2 \ 1045 - 1046 حديث 1365.
(2) الإشراف 4 \ 46.
(3) المغني 6 \ 451.(57/206)
المسألة الثانية: تزويج الوليين المرأة:
إذا كان للمرأة وليان، فأذنت لكل منهما أن يزوجها من يرضاه لها، فعقد كل منهما لرجل، فأي الوليين يكون نكاحه صحيحا وتكون المرأة زوجة له؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: أنه إن عرف من عقد له على المرأة أولا فهي له، وهو الأحق بها، سواء دخل بها الثاني أم لا (1) .
وحجتهم على ذلك: أن هذا مروي عن علي بن أبي
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 6 \ 231، الإشراف 4 \ 41، المبسوط 4 \ 226، المغني 6 \ 510.(57/206)
طالب (1) ، ولأن الزوج الثاني تزوج امرأة قد أصبحت في عصمة رجل آخر، فكان زواجه بها باطلا، كما لو علم أن لها زوجا (2) .
المذهب الثاني: إن عرف الزوج الأول ولم يدخل بها الثاني فهي للأول، وإن دخل بها الثاني فهي له.
وهذا مذهب عطاء، ومالك (3) .
وحجة هؤلاء: أن هذا قول عمر بن الخطاب (4) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 6 \ 231.
(2) المبسوط 4 \ 226.
(3) المدونة 3 \ 168، الإشراف 4 \ 41.
(4) المدونة 3 \ 169.(57/207)
وأجيب: بأن عمر قد خالفه علي، ولا يقدم قول صحابي على آخر دون دليل، فسقط الاستدلال به حينئذ (1) .
الراجح:
الذي يبدو أن قول الجمهور هو الأولى؛ لأن نكاح الثاني على المرأة قد صادف امرأة قد أصبحت متزوجة، فعقده عليها باطل، كما لو علم أنها متزوجة، ودخوله بها لا يغير حقيقة الأمر، كما لو دخل بها وهو يعلم أنه قد عقد عليها غيره قبله، والله أعلم.
ويجب لها المهر على الثاني بدخوله عليها، لاستمتاعه بها في قول: قتادة، والشافعي، وأحمد،
__________
(1) المغني 6 \ 510.(57/208)
وابن المنذر (1) .
فإن جهل من عقد له على المرأة أولا فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن النكاح باطل. وبه قال أبو حنيفة (2) والشافعي (3) ، وابن المنذر (4) .
وحجة هؤلاء: أن وقوع العقدين معا لا يمكن تصحيحهما، ولأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فتعينت جهة البطلان فيهما.
المذهب الثاني: يفسخ الحاكم نكاحهما جميعا، ثم تتزوج المرأة من شاءت منهما أو من غيرهما. وبه قال مالك (5) ، وأحمد (6) .
__________
(1) الإشراف 4 \ 42، المغني 6 \ 511.
(2) مختصر الطحاوي، ص 174، المبسوط 4 \ 226.
(3) الإشراف 4 \ 42.
(4) الإشراف 4 \ 42.
(5) المدونة 3 \ 168.
(6) المغني 6 \ 511 - 512.(57/209)
وحجة هؤلاء: أنه تعذر إمضاء العقد الصحيح منهما للجهالة بالأول منهما، وليس لكونه باطلا في حد ذاته، فوجب إزالة الضرر بالفسخ والتفريق (1) من قبل الحاكم؛ لأن رفع الضرر موكول إليه.
ونتيجة هذين المذهبين هي: إبطال هذا النكاح، واختيار المرأة في التزوج بأي منهما أو من غيرهما، غير أن لكل من المذهبين وجهة نظر في إبطاله.
المذهب الثالث: أن المرأة تخير بينهما، فأيهما اختارت فهو زوجها.
روي هذا المذهب عن: شريح، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن عبد العزيز (2) ، ولم أجد من ذكر لهذا المذهب حجة.
__________
(1) المغني 6 \ 511 - 512.
(2) الإشراف 4 \ 42.(57/210)
المسألة الثالثة: إذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلموا:
أنكحة الكفار صحيحة يقرون عليها إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا، إذا كانت المرأة ممن يجوز ابتداء نكاحها في الحال، بأن لم تكن إحدى المحارم ولا معتدة للغير، ولا ينظر صفة عقدهم وكيفيته، ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول. ودليل صحة أنكحة الكفار قوله تعالى {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (1) ، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (2) ؛ حيث أضاف سبحانه النساء إلى أزواجهن، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولدت من نكاح لا من سفاح (4) » . وهذا عند جمهور العلماء (5) .
وعند المالكية وآخرين: إذا استوفت شروط نكاح المسلم حكم لها بالصحة، وإلا كانت فاسدة، ولكنهم يقرون عليها إذا أسلموا ترغيبا لهم في الإسلام (6) . فإذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلما أو ترافعا إلينا وهما على كفرهما، فرق القاضي بينهما عند جميع العلماء؛ لأنه لا يجوز ابتداء هذا النكاح في الإسلام، فكذلك
__________
(1) سورة المسد الآية 4
(2) سورة التحريم الآية 11
(3) السنن الكبرى للبيهقي 7 \ 190، قال الألباني في الإرواء 6 \ 329: (حسن) .
(4) السفاح: الزنا والفجور. لسان العرب 2 \ 485. (3)
(5) مجمع الأنهر 1 \ 369، الأم 5 \ 55، مغني المحتاج 3 \ 193، المغني 6 \ 613، 637.
(6) منح الجليل 3 \ 362، المغني 6 \ 636 - 637.(57/211)
بقاؤه. فإن تزوج الكافر معتدة لغيره وأسلما قبل انقضاء العدة، فرق القاضي بينهما أيضا عند الجمهور؛ لأنه لا يجوز نكاح المعتدة بالغير بالإجماع؛ لكونها مشغولة بعدة غيره.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم التفريق؛ لأن إثبات حرمة نكاح المعتدة للغير للشرع غير ممكن شرعا؛ لأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وإثبات الحرمة حقا للزوج غير ممكنة أيضا؛ لأن الزوج لا يعتقد حرمة ذلك (1) .
__________
(1) مجمع الأنهر 1 \ 369.(57/212)
المسألة الرابعة: إسلام أحد الزوجين قبل صاحبه:
اتفق جميع العلماء على أن الزوجين المشركين إذا أسلما دام النكاح بينهما. وكذلك إذا أسلم الزوج ولم تسلم الزوجة، وكانت يهودية أو نصرانية، سواء - في الصورتين - بعد الدخول بالزوجة أو قبله؛ لأن في الأولى لم يحصل بينهما اختلاف في الدين، وفي الثانية لأنه يجوز للمسلم نكاح الكتابية في الإسلام، فبقاؤه أولى من ابتدائه. فإن أسلم الزوج وكانت الزوجة غير كتابية، أو أسلمت هي ولم يسلم هو، سواء كان كتابيا أو غيره، فإن لم يكن قد دخل بها الزوج(57/212)
حصلت بينهما الفرقة مباشرة عند الجمهور (1) .
وحجتهم على ذلك: قياس غير المدخول بها هنا على غير المدخول بها في الطلاق، فإن غير المدخول بها إذا طلقت لم تجب عليها العدة، فكذلك هنا (2) ، ولأنه إن كان هو المسلم فليس له إمساك كافرة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (3) .
وإن كانت هي المسلمة فلا يجوز إبقاؤها على نكاح مشرك (4) ، وإن كانت مدخولا بها فأي الزوجين أسلم قبل انتهاء عدة المرأة من يوم إسلام أحدهما دام النكاح بينهما، فإن لم يسلم المتخلف إلا بعد انتهاء العدة تبين أن الفرقة وقعت من وقت اختلاف الدين بينهما (5) .
وحجتهم على ذلك: حديث ابن عباس: «كان المشركون على
__________
(1) شرح السنة 9 \ 94، المغني 6 \ 614، الإشراف 4 \ 210.
(2) الكافي 2 \ 549.
(3) سورة الممتحنة الآية 10
(4) المغني 6 \ 614.
(5) صحيح البخاري 6 \ 172، البيهقي 7 \ 187، الإشراف 4 \ 208، شرح السنة 9 \ 94، الفروع 5 \ 247.(57/213)
منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه. . . (1) » الحديث.
وذهب المالكية إلى أنها إذا أسلمت قبله وكانت غير مدخول بها بانت منه مباشرة؛ لأنه لا عدة عليها، وإن كانت مدخولا بها وأسلم الزوج في عدتها دام النكاح بينهما، وإلا فلا، وإن أسلم هو قبلها وأسلمت بعده بنحو شهر ثبت النكاح بينهما، سواء كانت مدخولا بها أو لا (2) .
وحجتهم على دوام النكاح على المدخول بها إذا أسلم في عدتها حديث ابن عباس السابق.
وحجتهم على القسم الأخير قوله تعالى في سورة الممتحنة: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (3) فإن الخطاب فيها للرجال دون النساء (4) .
وذهب الأحناف إلى أنه لا فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها في الحكم. فإذا كانا في دار الإسلام وأسلمت المرأة وزوجها كافر، عرض عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى فرق القاضي بينهما، وإن أسلم الزوج وتحته غير كتابية عرض عليها
__________
(1) صحيح البخاري 6 \ 172، البيهقي 7 \ 187.
(2) حاشية العدوي 2 \ 65 ـ 66، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 267 -269.
(3) سورة الممتحنة الآية 10
(4) الموطأ 2 \ 545.(57/214)
الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته، وإلا فرق القاضي بينهما.
فإن أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر، أو أسلم الزوج وتحته غير كتابية لم يعرض على أحد منهما الإسلام؛ لعدم ولاية الإسلام في ذلك المكان، بل تكون الفرقة بينهما بأن تحيض ثلاث حيض، أو تمر بها ثلاثة أقراء إن لم تكن من ذوات الحيض، فتبين منه بعدها.
وحجتهم على ذلك: أن الإسلام ليس سببا للفرقة؛ لأنه طاعة، وكذلك كفر من أصر عليه؛ لأنه كان موجودا قبل ذلك، ولم يمنع من صحة النكاح وبقائه، وكذلك اختلاف الدين ليس سببا للفرقة، كما لو كان الزوج مسلما، والزوجة كتابية، فتعين أن يكون سبب الفرقة هو إباء من لم يسلم بعد عرض الإسلام عليه، فلا دخل حينئذ لكون الزوجة مدخولا بها (1) .
وذهب عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، وقتادة، وعمر
__________
(1) المبسوط 5 \ 45 - 46، البناية 4 \ 316 - 320.(57/215)
بن عبد العزيز، والحكم، وابن شبرمة، وأبو ثور، إلى أن الفرقة تقع بينهما بمجرد إسلام أحدهما وتخلف الآخر (1) .
وحجة هؤلاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) . فإن في الآية بيان عدم حل المسلمات للكافرين، والمسلمين للكافرات، فتقع الفرقة بمجرد عدم حل أحدهما للآخر لأجل الإسلام (3) .
__________
(1) الإشراف 4 \ 208، المغني 6 \ 616، فتح الباري 9 \ 420.
(2) سورة الممتحنة الآية 10
(3) المغني 6 \ 616، فتح الباري 9 \ 420، عمدة القارئ 20 \ 272.(57/216)
المسألة الخامسة: التفريق للعيب:
إذا وجد أحد الزوجين في الآخر جنونا أو جذاما أو برصا أو أي عيب من العيوب الآتي ذكرها، فهل يثبت للسليم منهما الخيار في النكاح، فإن شاء أمسك صاحبه، وإن شاء رفع أمره إلى الحاكم ليفرق بينهما، أو لا خيار له في ذلك، بل يثبت النكاح ويستمر في حق كل منهما؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا من العيوب الآتي تفصيلها ثبت للسليم منهما فسخ النكاح.
وحجتهم على ذلك قول عمر: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها - دخل بها - فلها صداقها كاملا، وذلك لزوجها غرم على وليها. قالوا: لأن مثل هذا القول من عمر لا يكون من قبل الاجتهاد في الرأي، بل من قبل أن يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منه، فدل ذلك على أن هذا حكم من وجد به من أحد الزوجين أحد هذه العيوب أو ما كان في معناها، مما(57/217)
يمنع الوطء (1) .
المذهب الثاني: لا يثبت لأحد الزوجين الخيار في فسح النكاح إذا وجد بالآخر أي عيب كان.
وروي هذا المذهب عن: عبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم النخعي، وعطاء، وأبي الزناد، وابن أبي ليلى، وبه قال أهل الظاهر (2) .
__________
(1) الأم 5 \ 4، مغني المحتاج 3 \ 203.
(2) مصنف عبد الرزاق 6 \ 243، مصنف ابن أبي شيبة 4 \ 175، المحلى 10 \ 113. .(57/218)
وحجة هؤلاء: قول عبد الله بن مسعود: لا ترد الحرة بعيب (1) ولأنه لا دليل على التفريق بهذه العيوب لا من كتاب ولا سنة ولا قياس (2) ، ولأن هذه العيوب لا تخل بموجب العقد وهو حل الوطء، ولأن إمكان الجماع وقضاء الحاجة مع من وجد به أحد العيوب من الزوجين ممكن بل وحاصل، وإنما تقل الرغبة في المعيب فقط، فلا يثبت الخيار للسليم منهما، كما لو كان من به العيب سيئ الأخلاق (3)
وأجيب: بأن العيوب تمنع الرغبة في الجماع، وتوجب النفرة المانعة من قربان المعيب بالكلية، كما يخاف السليم من العدوى إلى نفسه ونسله، والمجنون يخاف منه الجناية، فصارت العيوب كالموانع الحسية من القربان (4) .
الراجح:
الذي يبدو أن مذهب الجمهور هو الأولى؛ لأن العيب تنفر منه الطبيعة البشرية، والزواج مودة وراحة وسكن، فلا يتحقق المقصود من الزواج مع وجود العيب، فلا يجوز إرغام الصحيح منهما على إبقاء النكاح والحالة هذه؛ لأن الله عز وجل لا يكلف بما لا يطاق، والله أعلم.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 4 \ 176. .
(2) المحلى 10 \ 60.
(3) المبسوط 5 \ 96. .
(4) المغني 6 \ 650. .(57/219)
من الذي يحق له طلب التفريق بالعيب؟
اختلف الجمهور القائلون بثبوت التفريق بالعيب، هل هو حق لكل من الزوجين أم للزوجة فقط؟
ذهب الأحناف إلى أن الذي يثبت له حق التفريق بالعيب هو الزوجة فقط، أما الزوج فلا يثبت له ذلك؛ لأنه يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق، أما الزوجة فلا يمكنها دفع الضرر عن نفسها إلا بإعطائها حق طلب التفريق؛ لأنها لا تملك الطلاق (1) .
وذهب الأئمة الثلاثة إلى ثبوت طلب التفريق بالعيب لكل من الزوجين؛ لأن كلا منهما يتضرر بالعيب، ويوجد فيه نفرة من الآخر تمنعه من قربانه بالكلية، ويخاف السليم منها العدوى إلى نفسه ونسله، والمجنون يخاف منه الاعتداء.
أما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى إلزام الزوج بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبله، وفي التفريق يعفى الزوج من نصف المهر قبل الدخول وبعده، يجب لها المسمى عند المالكية والحنابلة، ومهر المثل عند الشافعية (2) .
العيوب التي تجيز التفريق:
اتفق الجمهور القائلون بجواز التفريق بالعيب على جواز التفريق بعيبين، وهما: الجب (3) ، والعنة، واختلفوا في عيوب أخرى على
__________
(1) البناية 4 \ 766.
(2) الكافي 2 \ 565 - 566، مغني المحتاج 3 \ 250، المغني 6 \ 656.
(3) الجب: القطع، والرجل المجبوب: المقطوع الذكر.(57/220)
مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: وبه قال أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف:
لا فسخ إلا بالعيوب الثلاثة التناسلية، وهي: (الجب والعنة والخصاء) إن كانت في الرجل؛ لأنها عيوب غير قابلة للزوال، فالضرر فيها دائم، ولا يتحقق معها المقصود الأصلي من الزواج، وهو: التوالد والإعفاف عن المعاصي، فكان لا بد من التفريق. أما العيوب الأخرى: من جنون أو جذام أو برص أو رتق أو قرن، فلا فسخ للزواج بها إن كانت بالزوجة أو الزوج، ولا خيار للآخر بها، وهذا هو الصحيح عند الأحناف.
وقال محمد بن الحسن: " للزوجة الخيار في فسخ النكاح إن كانت هذه العيوب بالزوج؛ دفعا للضرر عنها، كما في الجب والعنة،(57/221)
وليس للزوج الخيار إن كانت بالمرأة؛ لأنه متمكن من دفع الضرر عنه بالطلاق " (1) .
المذهب الثاني: وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز الفسخ لأي واحد من الزوجين إذا وجد بالآخر عيبا من العيوب الآتي بيانها، إلا أنهم اختلفوا في عدد العيوب التي يثبت بها طلب التفريق بين الزوجين. فعددها عند المالكية ثلاثة عشر عيبا، أربعة يشتركان فيها وهي: الجنون والجذام والبرص والعذيطة (2) ، وأربعة خاصة بالرجل وهي: الجب والخصاء والاعتراض والعنة، وخمسة خاصة بالمرأة وهي: الرتق والقرن والعفل والإفضاء (3) والبخر (4) .
__________
(1) البناية 4 \ 763 - 766، مجمع الأنهر 2 \ 463.
(2) العذيطة بفتح الياء: التغوط عند الجماع. منح الجليل 3 \ 381.
(3) الإفضاء: اختلاط مسلك البول بمسلك الجماع، وصيرورتهما مسلكا واحدا. منح الجليل 3 \ 382.
(4) البخر: نتن الفرج. منح الجليل 3 \ 382.(57/222)
وليس من العيوب: القرع (1) والسواد والعمى والعور والعرج والزمانة ونحوها من العاهات، إلا إذا اشترط السلامة منها (2) .
وعند الشافعية سبعة وهي: الجب والعنة والجنون والجذام والبرص والرتق والقرن. وليس منها: البخر ولا الاستحاضة والقروح السيالة والعمى والزمانة والبله والخصاء والإفضاء والتغوط عند الجماع؛ لأن هذه الأمور لا تفوت مقصود النكاح (3) .
وعند الحنابلة ثمانية، ثلاثة يشترك فيها الزوجان وهي: الجنون والجذام والبرص، واثنان يختصان بالرجل وهما: الجب والعنة، وثلاثة تختص بالمرأة وهي: الفتق (4) والقرن والعفل (5) .
المذهب الثالث: وبه قال الزهري وشريح وابن القيم: يجوز التفريق من كل عيب منفر بأحد الزوجين، سواء كان
__________
(1) القرع: عدم نبات شعر الرأس من علة. منح الجليل 3 \ 388.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 277، منح الجليل 3 \ 379.
(3) روضة الطالبين 7 \ 177، مغني المحتاج 3 \ 203.
(4) وهو: انخراق ما بين مجرى البول ومجرى المني. المغني 6 \ 651.
(5) المغني 6 \ 651. الإنصاف 8 \ 186.(57/223)
مستحكما أم لا، كالعقم والخرس والعرج والطرش وقطع اليدين أو الرجلين أو إحداهما؛ لأن هذه الأمور من أعظم المنفرات، والسكوت عنها من أقبح التدليس والغش، ولأن العقد قد تم على أساس السلامة من العيوب، فإذا انتفت السلامة فقد ثبت الخيار، ولأن عمر بعث رجلا على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيما، فقال له عمر: أعلمتها؟ فقال: لا، قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرها (1) . فقد أثبت التخيير في الفراق بالعقم، وهو أقل تنفيرا من قطع الرجلين ونحو ذلك (2) .
الراجح:
الذي يبدو أن المذهب الأخير هو الراجح؛ لأن وجهة نظره قوية، ولأن معظم العيوب التي قال أصحاب المذاهب الآنف ذكرهم يجوز التفريق بها لا دليل عليها، فيبقى الضابط الصحيح: أن كل عيب ينفر أحد الزوجين من الآخر، ولا تحصل به مقاصد النكاح - من الرحمة والمودة - يثبت الخيار به. والله أعلم.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 6 \ 162 رقم 10346.
(2) زاد المعاد 5 \ 182.(57/224)
المسألة السادسة: التطليق للشقاق والضرر:
إذا اشتد النزاع بين الزوجين بسبب الطعن في الكرامة، أو لإيذاء الزوج زوجته بالقول أو بالفعل، كالشتم المقذع، والتقبيح المخل بالكرامة، والضرب المبرح، والحمل على فعل ما حرم الله، والإعراض والهجر بدون سبب يبيحه، ونحو ذلك - فهل يطلق الحاكم على الزوج بذلك إذا طلبت الزوجة الفراق، أم يجب عليه تأديب الظالم(57/224)
منهما فقط، ولا يحق له التفريق؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا يجوز التفريق للشقاق أو الضرر مهما كان شديدا؛ لأن دفع الضرر عن الزوجة يمكن بغير الطلاق، عن طريق رفع الأمر إلى القاضي، والحكم على الرجل بالتأديب حتى يرجع عن الإضرار بها.
المذهب الثاني: وبه قال المالكية: إذا أثبتت الزوجة بالبينة الضرر وطلبت الفراق، فرق الحاكم بينهما منعا للنزاع، ورفعا للضرر؛ حتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيما لا يطاق (1) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 345، منح الجليل 3 \ 550.(57/225)
المسألة السابعة: الخلع:
إذا اتفق الزوج مع زوجته أن تعطيه عوضا مقابل خلعه عقدة النكاح بينهما، فهل يجوز ذلك بدون إذن السلطان، أم إنه لا يجوز(57/225)
الخلع إلا عند السلطان وحكمه بذلك؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: يجوز الخلع دون إذن السلطان وحكمه به.
وحجتهم على ذلك: أن الخلع معاوضة بين الزوج وزوجته، والمعاوضة لا تحتاج إلى إذن الحاكم وحكمه، كما لا يحتاج ذلك البيع والنكاح والطلاق.
المذهب الثاني: وقال به محمد بن سيرين، وسعيد بن جبير، والحسن البصري (1) : لا بد من إذن الحاكم وحكمه بذلك.
وحجتهم في ذلك: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) ، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) ، فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل: فإن خافا، فالخطاب في الآيتين في التفريق بالخلع موجه إلى الولاة والحكام (4) .
ورد الجمهور: بأن الخلع هو ما يتراضى عليه الزوجان ولا إجبار
__________
(1) فتح الباري 6 \ 396، الجامع لأحكام القرآن 3 \ 138.
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 35
(4) فتح الباري 6 \ 396، الجامع لأحكام القرآن 3 \ 138.(57/226)
للحاكم عليه. ولأن خوف غير الزوجين من الشقاق بينهما وعدم مراعاة حسن العشرة لا تأثير له في حلية أخذ الزوج الفداء من الزوجة (1) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 3 \ 138.(57/227)
المسألة الثامنة: التطليق على المولي:
إذا حلف الرجل على عدم وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر سمي موليا، وحق للزوجة بعد مضي الأربعة الأشهر أن تطالبه لدى الحاكم بالعودة إلى الجماع والتكفير عن يمينه أو الطلاق. فإن(57/227)
رفض الأمرين فهل يطلق الحاكم المرأة نيابة عن الزوج، أم أنها تبين منه بمجرد مضي الأربعة الأشهر؟ للعلماء في ذلك أربعة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: يطلق عنه الحاكم طلقة رجعية نيابة عنه إذا رفعته المرأة إليه (1) .
وحجتهم على ذلك: أنه لا سبيل إلى دوام إضرارها ولا إجباره على الرجوع إلى الجماع؛ لأنها لا تدخل تحت الإجبار، والطلاق يقبل النيابة، فناب عنه الحاكم عند الامتناع، كما يزوج عن العاضل ويستوفي الحق من المماطل (2) .
المذهب الثاني: وبه قال شريح القاضي وعطاء والحسن البصري والنخعي وابن أبي ليلى وجمع من التابعين والأحناف: أنها تبين منه بتطليقة واحدة (3) .
وحجة هؤلاء: أن هذا قول عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة (4) ، ولأنه لما ظلمها بمنعها حقها، جازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة، ولأن الإيلاء كان طلاقا بائنا على الفور في الجاهلية، بحيث لا يقربها بعد الإيلاء أبدا، فجعله الشرع مؤجلا بقوله تعالى:
__________
(1) الإشراف 4 \ 230، المحلى 10 \ 46، الكافي 2 \ 599، المغني 7 \ 330، مغني المحتاج 3 \ 351.
(2) مغني المحتاج 3 \ 351.
(3) الإشراف 4 \ 230، البناية 4 \ 635.
(4) هم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. البناية 4 \ 636.(57/228)
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، إلى انقضاء المدة، فحصلت الإشارة إلى أن الواقع بالإيلاء بائن، لكنه مؤجل (2) .
المذهب الثالث: وبه قال أبو ثور: يطلقها الحاكم طلقة بائنة.
وحجته على ذلك: أنه إذا لم يطلقها طلقة بائنة، بل رجعية لم يرفع عنها الضرر؛ لأنه سيراجعها ويعود الأمر كما كان، لذلك يجب أن يكون الطلاق بائنا لئلا يتمكن من المراجعة (3) .
المذهب الرابع: وبه قال الظاهرية: لا يطلق الحاكم على المولي لا بائنا ولا رجعيا، بل يجبره بالسوط على العودة إلى الجماع أو الطلاق، ولو أدى ذلك إلى موته، إلا أن يكون عاجزا عن الجماع، فيجبر على الرجوع باللسان وحسن الصحبة.
وحجتهم على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (4) ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5) . فمنع عز وجل من كل شيء إلا عزيمة الزوج على الطلاق؛ فصح أن طلاق الحاكم عليه فضول وباطل وتعد لحدود الله عز وجل، ومن الباطل أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 226
(2) البناية 4 \ 635.
(3) البناية 4 \ 636.
(4) سورة الأنعام الآية 164
(5) سورة البقرة الآية 227(57/229)
يطلق عليه غيره أو يفيء عنه غيره (1) .
الراجح:
الذي يبدو أن مذهب الجمهور القائل بجواز تطليق الحاكم على المولي طلقة رجعية هو الراجح؛ لأنه لا سبيل لرفع الإضرار عن المرأة إلا بالطلاق، ومهمة الحاكم رفع الضرر والظلم، ولأنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد، فكان رجعيا كالطلاق في غير الإيلاء، والضرر يرتفع بالطلاق الرجعي، فإذا ارتجعها وآلى منها ضربت مدة أخرى (2) . فهذا مذهب وسط؛ لأن في ذلك مراعاة رفع الضرر عن المرأة بالطلاق، ومراعاة حق الرجل في الرجعة والتأني؛ لأنه طلاق من غير عوض. والله أعلم.
__________
(1) المحلى 10 \ 42 - 43.
(2) المغني 7 \ 331.(57/230)
المسألة التاسعة: التطليق على المظاهر:
إذا ظاهر الرجل من زوجته وامتنع من التكفير والوطء، فهل(57/230)
يجوز لزوجته مطالبته لدى الحاكم بالتكفير عن مظاهرته والعودة إلى وطئها أو طلاقها، وأنه إذا رفض ذلك طلق عليه الحاكم؟ للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا يصير المظاهر موليا بالمظاهرة، وإن مضت عليه أكثر من أربعة أشهر، ولا يطلق عليه الحاكم، بل يجبره الحاكم على التكفير بالحبس، إذا تضررت المرأة بعدم العودة إلى الوطء.
وحجتهم على ذلك: أن الله عز وجل نص أن حكم المولي هو: الفيئة بالوطء أو عزيمة الطلاق، وأن حكم الظهار وجوب الكفارة قبل المسيس، فلا يجوز إعطاء حكم أحدهما للآخر، إذ المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض (1) ، ولأن الظهار ليس له وقت محدد (2) .
المذهب الثاني: وبه قال الإمام مالك وأبو عبيد: إن قصد بامتناعه من وطئها الإضرار بها صار بذلك موليا، وجاز للمرأة رفعه إلى الحاكم، فيخيره بين التكفير والوطء والطلاق، فإن رفض طلق عليه.
وحجة هؤلاء: أن الامتناع عن وطء الزوجة فيه ضرر عليها، والضرر يجب رفعه (3) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 5 \ 307.
(2) اختلاف العلماء للمروزي، ص 185، الإشراف 4 \ 229.
(3) المدونة 3 \ 61، اختلاف العلماء للمروزي ص 185، حاشية الدسوقي 2 \ 433.(57/231)
المذهب الثالث: وبه قال قتادة وجابر بن زيد: (يصير بذلك موليا، ويجب عليه حكم الإيلاء إذا مضت المدة ولم يجامع ولم يكفر) (1) .
الراجح:
الذي يبدو أن مذهب مالك ومن معه هو الأولى؛ لأنه ليس معقولا أن يترك الأمر للزوج ليلحق الضرر بالزوجة بعدم الوطء؛ لأن لها حقا في الحياة والمتعة مثل الرجل، فيجب إزالة الضرر ولو بالتطليق عليه، ولأنه ليس في إمكان الحاكم إجبار الزوج على الوطء، فلم يبق في إمكانه لرفع الظلم عن الزوجة إلا التطليق عليه.
__________
(1) اختلاف العلماء للمروزي ص 185.(57/232)
المسألة العاشرة: التفريق بين المتلاعنين:
إذا رمى الرجل زوجته بالزنا جاز له ملاعنتها ليدفع عن نفسه(57/232)
حد القذف، ويجوز للمرأة ملاعنته أيضا لتدفع عن نفسها حد الزنا. وذلك بأن يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والخامسة أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين. وتشهد المرأة كذلك أربع شهادات بالله إنه لكاذب فيما رماها به من الزنا، والخامسة أن عليها غضب الله إن كان من الصادقين.
فإذا تلاعنا حرمت عليه ولم يجز بقاء النكاح بينهما أبدا، ولكن هل تحصل الفرقة وانقطاع النكاح بتمام اللعان، أم لا تحصل إلا بتفريق الحاكم بينهما؟ للعلماء في ذلك أربعة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: تقع الفرقة بينهما بتمام اللعان.
وحجتهم على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن لاعن زوجته (1) : «لا سبيل لك عليها» . فهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة (2) . ورد بأن الحديث إنما وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ، وهو نكرة في سياق النفي، فيشمل المال والبدن،
__________
(1) هو: عويمر بن الحارث العجلاني. صحيح مسلم 2 \ 1132، الإصابة 3 \ 45.
(2) الجامع لأحكام القرآن 12 \ 194.(57/233)
ويقتضي نفي تسلطه عليها بوجه من الوجوه (1) .
المذهب الثاني: وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (2) ، والثوري: لا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريق من الحاكم.
وحجة هؤلاء:
1 - حديث عبد الله بن عمر قال: «لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل من الأنصار وامرأته وفرق بينهما (3) » ، حيث أضاف التفريق إليه (4) .
2 - حديث ابن عمر الثاني، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل: «لا سبيل لك عليها (5) » .
3 - حديث سهل بن سعد الساعدي، أنه «عندما انتهى عويمر العجلاني وزوجته من اللعان، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) » .
__________
(1) فتح الباري 9 \ 459.
(2) الجامع لأحكام القرآن 12 \ 193، البناية 4 \ 740.
(3) صحيح البخاري 6 \ 181، صحيح مسلم حديث (1493) .
(4) الجامع لأحكام القرآن 12 \ 193.
(5) صحيح البخاري 6 \ 181، صحيح مسلم حديث (1493) .
(6) صحيح البخاري 6 \ 178، صحيح مسلم حديث (1492) .(57/234)
فهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت بتمام اللعان لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها (1) .
المذهب الثالث: وبه قال الإمام الشافعي: إذا أكمل الزوج الالتعان وقعت الفرقة بينهما، ولا تحل له أبدا، وإن أكذب نفسه، سواء التعنت المرأة أو لم تلتعن، حدت أو لم تحد.
وحجته على ذلك: أن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها، فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش، فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح (2) ، وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير (3) .
المذهب الرابع: وبه قال عثمان البتي، وجابر بن زيد: لا يحصل باللعان فرقة.
وحجة هؤلاء: أنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، ولأن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه (4) .
__________
(1) المغني 7 \ 410.
(2) الأم 5 \ 291، فتح الباري 9 \ 459.
(3) الجامع لأحكام القرآن 12 \ 193.
(4) المغني 7 \ 411، الجامع لأحكام القرآن 12 \ 194.(57/235)
الراجح:
الذي يبدو أن الراجح هو مذهب الأحناف ومن معهم، وذلك لظاهر الأدلة وتظافرها على ذلك، وأدلة مخالفيهم غير ناهضة للمعارضة، ومحتملة للتأويل.(57/236)
المسألة الحادية عشرة: التطليق على المفقود:
إذا غاب الرجل عن زوجته وانقطع خبره ولم يعلم له موضع، فهل يجوز لزوجته أن ترفع أمرها إلى الحاكم، فيضرب لها مدة تنتظر فيها، فإن جاء وإلا فبعد انتهاء تلك المدة تعتد منه عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج بغيره، أو أنه لا يجوز لها ذلك، بل تصبر حتى يبلغها موته أو حياته بيقين؟
أولا: اتفق الأئمة الأربعة أن الأسير في أيدي الكفار لا تتزوج زوجته، ولا يقسم ماله ما لم تعلم وفاته بيقين، أو يمضي عليه زمان لا يمكن أن يعيش بعده. أما من غاب عن زوجته، أو فقد في المعركة بين المسلمين أو في الفتن التي تقع بين المسلمين، أو يخرج لتجارة أو طلب علم أو سياحة، فلا يعود وينقطع خبره، ولا يعلم له موضع، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: من فقد - أي فقد كان - لا يجوز لزوجته الزواج ما لم تعلم وفاته بيقين، بقيام بينة على ذلك، أو(57/236)
مضي مدة - يقدرها الحاكم - لا يمكن أن يعيش بعدها.
وحجتهم على ذلك: أن النكاح قد ثبت بيقين، وغيبة الزوج لا توجب الفرقة بينهما كما في غير المفقود، وموت المفقود في غيبة محتمل مشكوك فيه، فلا يزال يقين النكاح بين المفقود وزوجته بالشك في موته (1) .
المذهب الثاني: إذا رفعت أمرها إلى الحاكم ضرب لها مدة تنتظر فيها، فإن جاء فيها فذاك، وإلا اعتدت بعدها عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج.
وأصحاب هذا القول انقسموا إلى قسمين، تبعا للحالة التي يفقد عليها:
الحالة الأولى: إذا كان فقده في خرجة ظاهرها السلامة، كالتجارة وطلب العلم ونحو ذلك، فإن أحمد يوافق أصحاب المذهب الأول في عدم إباحة الزواج لزوجته وتقسيم ماله، ما لم تعلم وفاته بيقين (2) .
وذهب مالك إلى أن زوجته إذا رفعت أمرها إلى الحاكم ضرب لها مدة أربع سنوات من وقت رفع أمرها إليه، فإن جاء فيها فذاك، وإلا اعتدت عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج (3) .
__________
(1) الإشراف 4 \ 103 - 104، البناية 6 \ 66.
(2) الروض الندي ص 342.
(3) الكافي 2 \ 567.(57/237)
وحجته على ذلك: أن هذا قضاء عمر بن الخطاب (1) .
الحالة الثانية: أن يفقد في حالة ظاهرها الهلاك، كأن يفقد في المعركة بين المسلمين والكفار، أو ينكسر بهم مركب وهم في البحر، فيغرق بعض رفقته ونحو ذلك. فعند المالكية: تعتد زوجته عدة المتوفى عنها زوجها بعد مضي سنة كاملة بعد الفحص عن حاله. وعند الحنابلة: تنتظر زوجته أربع سنوات، ثم تعتد عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج ويقسم ماله.
وحجتهم على ذلك: أن هذا قضاء عمر بن الخطاب أيضا (2) .
فإن فقد في الفتن التي تقع بين المسلمين فإن مالكا لا يضرب لهذا مدة ينتظر فيها، بل يجتهد الحاكم في القدر الذي يمكن أن يتصرف فيه من هرب وانهزام، فإذا غلب على ظنه أنه مات أذن لزوجته في الزواج بعد العدة وقسم ماله.
وحجته على ذلك: قياس هذا على من فقد في أيام الوباء بجامع غلبة الهلاك في مثل هذه الأحوال (3) .
المذهب الثالث: وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، والجمهور من التابعين: أن المقصود
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 4 \ 237.
(2) المغني 7 \ 489.
(3) الخرشى 4 \ 154.(57/238)
على أي حالة فقد، إذا رفعت زوجته أمرها للحاكم ضرب لها مدة أربع سنوات من حين رفعها، فإن جاء فذاك، وإلا اعتدت عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج (1) .
الراجح:
الذي يبدو أن المذهب الأخير هو الأولى؛ لأنه ليس مع أحد من أصحاب هذه المذاهب دليل، لا من الكتاب ولا من السنة، فبقي الأمر في ذلك عائدا إلى الاجتهاد والنظر في المصلحة، والمصلحة للمرأة الزواج؛ لأن عدم زواجها ومنعها منه إلى أن تعلم وفاته بيقين بقيام بينة أو مضي مدة لا يمكن أن يعيش بعدها - فيه ضرر بالغ وظاهر بالمرأة، فترجح مذهب من قال: إنها تنتظر أربع سنوات، فإن جاء وإلا اعتدت عدة الوفاة، ثم يباح لها الزواج، ولأن هذا مذهب خمسة من الصحابة، منهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين، فاتباعهم أولى. والله أعلم.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 7 \ 85، الإشراف 4 \ 103، المحلى 10 \ 139.(57/239)
المسألة الثانية عشرة: التطليق للعجز عن النفقة:
إذا عجز الزوج عن الإنفاق على الزوجة لعسره بها، أو كان غنيا ولم يقدر الحاكم على أخذ النفقة منه، لصبره على الحبس وإخفاء ماله، فهل يجوز للحاكم أن يطلق زوجته منه بعد طلب الزوجة ذلك؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: يجوز للحاكم تطليق الزوجة من زوجها للإعسار بالنفقة إذا طلبت ذلك من الحاكم (1) .
__________
(1) المغني 7 \ 573 - 576، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 518 - 519، مغني المحتاج 3 \ 442 - 444.(57/239)
وحجتهم على ذلك:
1 - قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (1) . وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها.
2 - قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) . وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف؛ فيتعين التسريح.
3 - أن سعيد بن المسيب سئل عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يفرق بينهما. فقيل له: سنة؟ قال: نعم سنة. يقصد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - ولأن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا (3) .
5 - ولأنه يجوز لها الفسخ بالعجز عن الوطء - بالجب والعنة - وهو أقل ضررا فيجوز لها بالعجز عن النفقة من باب أولى؛ لأن البدن لا يقوم بدونها، بخلاف الوطء (4) .
المذهب الثاني: وبه قال الأحناف: لا يجوز التفريق بعدم النفقة. وحجتهم على ذلك: أن الزوج إن كان معسرا فلا ظلم منه
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) مسند الشافعي 2 \ 65، وعنه البيهقي 7 \ 469، وهو صحيح، إرواء الغليل 7 \ 228.
(4) المغني 7 \ 547، مغني المحتاج 3 \ 442.(57/240)
بعدم الإنفاق؛ لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (1) ، فلا نظلمه بإيقاع الطلاق عليه، وإن كان موسرا فهو ظالم بعدم الإنفاق، ولكن دفع ظلمه لا يتعين بالتفريق، بل يبيع ماله جبرا للإنفاق على زوجته، أو إرغامه بالحبس للقيام بذلك (2) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 7
(2) أحكام القرآن للجصاص 5 \ 361، البناية 4 \ 870، الفقه الإسلامي وأدلته 7 \ 512.(57/241)
المسألة الثالثة عشرة: التطليق بالإعسار بالمهر إذا أعسر الزوج بالمهر، فهل يجوز أن يطلق عليه الحاكم إذا طلبت الزوجة ذلك؟
للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال المالكية والشافعية: يجوز للحاكم التطليق على العاجز عن أداء المهر إذا طلبت المرأة ذلك، إذا كان الطلب قبل الدخول للعجز عن تسليم العوض مع بقاء المعوض، قياسا على البائع إذا لم يقبض الثمن حتى حجر على المشتري بالفلس والمبيع باق بعينه. ويمهل عند المالكية قبل الفسخ مدة يقدرها الحاكم باجتهاده، وعند الشافعية ثلاثة أيام، فإن قدر وإلا طلق عليه.
أما بعد الدخول فليس لها الحق في طلب الفراق، لتلف المعوض - البكارة - وصيرورة العوض دينا في الذمة (1) .
المذهب الثاني: وبه قال الحنابلة في أصح الأوجه عندهم: لا يجوز فسخ بالإعسار بالمهر؛ لأنه يعد دينا فلا يفسخ النكاح به، كالنفقة الماضية، ولأن تأخيره ليس فيه ضرر مجحف بالمرأة، فلا فسخ به كذلك (2) .
__________
(1) الكافي 2 \ 560، مغني المحتاج 3 \ 442.
(2) المغني 7 \ 579.(57/241)
الفصل الثاني: الصور التي لم تذكر إلا في مذهب واحد:
وفيه مسألتان للمالكية فقط:
المسألة الأولى: الاختلاف في قدر المهر قبل البناء:
ذهب أكثر المالكية إلى أن الزوجين إذا اختلفا قبل الدخول والموت والطلاق في قدر المهر، بأن قالت: ثلاثين دينارا، وقال: عشرين، أو اختلفا في صفته، بأن قالت: بعشرة دنانير يزيدية، وقال: محمدية، أو اختلفا في جنسه، بأن قالت: بذهب، وقال: بفضة، ولا بينة لأحدهما أو لهما بينتان متكافئتان، حلفا معا، وفسخ النكاح بينهما بحكم من الحاكم، وكذا الحكم إذا نكلا معا، سواء أشبه قولهما ما تعارف عليه أهل بلدهما في أمر المهر، أو لم يشبها، فإن أشبه أحدهما فالقول قوله مع يمينه، ولا فسخ. هذا إذا كان التنازع في القدر والصفة، فإن كان في الجنس فسخ النكاح مطلقا، حلفا أو أحدهما أو نكلا، أشبه قول أحدهما أو لا على الأرجح (1) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 233، منح الجليل 3 \ 517 - 518.(57/242)
المسألة الثانية: إذا وطئ بعد الإشهاد على الطلاق:
إذا أشهد الزوج بينة على إقراره بالطلاق بأن قال: اشهدوا أني قد طلقتها ثلاثا، أو طلاقا بائنا، أو على إنشائه للطلاق بأن قال: اشهدوا أنها طالق، ثم وطئها وأنكر الشهادة؛ فرق الحاكم بينهما، واعتدت من يوم الحكم بشهادة البينة (1) .
تم هذا البحث بحمد الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 \ 354.(57/242)
الشك في عدد الركعات في الصلاة
حكمه، أسبابه، علاجه
للدكتور: عبد العزيز بن محمد الربيش (1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أدى الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده.
وبعد:
فإنه لا يصح الإسلام ولا يقوم إلا على أركانه الخمسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا (2) » متفق عليه.
__________
(1) الأستاذ المساعد في قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود.
(2) أخرجه البخاري في كتاب (الإيمان) ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' بني الإسلام على خمس '' 1 \ 8، ومسلم في كتاب (الإيمان) ، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، (ح 6) ، 1 \ 45.(57/243)
والصلاة أحد هذه الأركان التي يجب على المسلم المحافظة على أدائها في اليوم والليلة خمس مرات، كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) .
وأن يكون أداؤها بكمال أركانها وواجباتها وسننها، مع الخشوع والتذلل لله والطمأنينة فيها، حتى يؤدي الصلاة كما جاءت في الكتاب والسنة؛ لأن المسلم مطلوب منه أن يؤدي الفرض الواجب عليه بيقين.
وكثير من المصلين يؤدي الصلاة لوقتها، ولكنه يؤديها ناقصة، إما لخلل في أركانها وواجباتها، وإما بسبب ما يلبسه الشيطان عليه في صلاته، فيشغله وينسيه حتى يضيع عليه صلاته - وهو الحريص على ذلك - {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (2) .
ومن مهمات الشيطان إفساد صلاة العبد، بإدخال الشكوك والوساوس، وإشغال المصلي عن أداء صلاته. فإنه إذا أقيمت الصلاة أقبل إلى المصلين ليفسد عليهم صلاتهم، كما ثبت ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول اذكر كذا وكذا، حتى لا يدري أثلاثا صلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة فاطر الآية 6(57/244)
أم أربعا، فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا سجد سجدتي السهو (1) » .
حتى إذا انتهى بعض المصلين من صلاتهم انطبق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها (2) » .
وإن المتأمل في حال المصلين اليوم يجد كثرة من يشتكي من هذا الأمر، فأحببت أن أبحث المسألة لعلي أخرج بنتيجة تنفعني وتنفع إخواني المسلمين، وقد جعلت هذا البحث يشتمل على مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة.
المقدمة: تشتمل على أهمية الموضوع وبيان خطة البحث.
المبحث الأول: في بيان معاني بعض الألفاظ التي لها صلة بالبحث. وهي:
__________
(1) أخرجه البخاري، في كتاب (بدء الخلق) ، باب صفة إبليس وجنوده 4 \ 94.
(2) أخرجه أبو داود من حديث عمار بن ياسر، في كتاب (الصلاة) ، باب ما جاء في نقصان الصلاة، (ح 796) 1 \ 503، وأحمد في المسند 4 \ 319، وحسنه الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود باختصار السند 1 \ 151.(57/245)
أولا: الشك.
ثانيا: اليقين.
ثالثا: التحري.
رابعا: الظن.
خامسا: غلبة الظن.
سادسا: الوهم.
سابعا: الاشتباه.
المبحث الثاني: خلاف الفقهاء في المسألة. ويتضمن:
- تحرير محل النزاع.
- بيان الأقوال في المسألة.
- بيان أدلة كل قول مع المناقشة.
- بيان القول الراجح.
المبحث الثالث: موضع سجود السهو.
المبحث الرابع: أسباب وقوع المصلي في الشك والنسيان وعلاجه. ويتضمن:
أولا: أهم أسباب الشك والنسيان في الصلاة.
ثانيا: علاج المشكلة.
الخاتمة: وفيها بيان لأهم نتائج البحث.
هذا وأسأل الله الكريم المنان أن يمن علي بالتوفيق والإخلاص والسداد والقبول. وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.(57/246)
المبحث الأول: في بيان معاني بعض الألفاظ التي لها صلة بالبحث وهي:
أولا: الشك:
تعريفه لغة واصطلاحا:
تعريفه لغة: الشك في اللغة خلاف اليقين، ويجمع على شكوك.
وقولهم: خلاف اليقين: هو التردد بين شيئين، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر (1) . قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (2) .
قال المفسرون: أي غير مستيقن، وهو يعم الحالتين (3) . أي: الاستواء والرجحان (4) .
وسمي بذلك؛ لأن الشاك كأنه شك له الأمران في مشك واحد، وهو لا يتيقن واحدا منهما، فمن ذلك اشتقاق الشك.
تقول: شككت بين ورقتين، إذا أنت غرزت العود فيهما
__________
(1) المصباح المنير ص 122.
(2) سورة يونس الآية 94
(3) انظر: المصباح المنير ص 122.
(4) انظر: الموسوعة الكويتية 26 \ 184.(57/247)
فجمعتهما (1) .
تعريف الشك اصطلاحا:
والشك في اصطلاح الفقهاء مستعمل على النحو الذي استعملت فيه هذه الكلمة في اللغة، فيقولون: هو التردد بين الطرفين مستويا كان أو راجحا، فيقولون: شك في الحدث، أو في النجاسة، أو في صلاته (2) .
أي: من لم يستيقن بقطع النظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما (3) .
والشك في اصطلاح الأصوليين: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر (4) .
فإذا تردد الذهن بين أمرين على حد السواء فهو الشك، وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 3 \ 173.
(2) تهذيب الأسماء واللغات، مادة (شكك) 1 \ 167.
(3) الموسوعة الكويتية 26 \ 184، والمجموع شرح المهذب 1 \ 168.
(4) العدة في أصول الفقه 1 \ 83.(57/248)
ثانيا: اليقين:
تعريفه لغة واصطلاحا:
تعريفه لغة: اليقين في اللغة: العلم وإزاحة الشك وتحقيق(57/248)
الأمر.
واليقين: نقيض الشك.
قال في المصباح المنير (1) : " اليقين: العلم الحاصل عن نظر واستدلال، ولهذا لا يسمى علم الله يقينا. ويقن الأمر ييقن يقنا من باب تعب، إذا ثبت ووضح، فهو يقين فعيل بمعنى فاعل.
ويستعمل متعديا أيضا بنفسه وبالباء، فيقال: يقنته ويقنت به وأيقنت به وتيقنته واستيقنته، أي: علمته " اهـ.
وعرفه ابن قدامة في روضة الناظر، بأنه: " ما أذعنت النفس إلى التصديق به، وقطعت بأن قطعها به صحيح، بحيث لو حكي لها عن صادق خلافه لم تتوقف في تكذيب الناقل ".
وعرفه أيضا: " بأن تصدق بالشيء تصديقا جزميا، لا تتمارى فيه، ولا تشعر بنقيضه ألبتة " (2) .
فاليقين عند علماء الأصول: " الاعتماد الجازم المطابق للواقع الثابت " (3) .
__________
(1) ص 261.
(2) ابن قدامة وآثاره الأصولية، القسم الثاني، ص 22.
(3) الموسوعة الكويتية 26 \ 185.(57/249)
ثالثا: التحري:
تعريفه لغة واصطلاحا:
تعريفه لغة: التحري في اللغة: الطلب والابتغاء.
قال في المصباح المنير (1) : " تحريت الشيء: قصدته، وتحريت في الأمر: طلبت أحرى الأمرين، وهو أولاهما " اهـ.
فهو: " التثبت في الاجتهاد لطلب الحق والرشاد عند تعذر الوصول إلى حقيقة المطلوب والمراد " (2) .
تعريفه اصطلاحا: طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته.
وعرفه الجرجاني (3) بأنه: " طلب أحرى الأمرين وأولاهما ".
وعرف بأنه: " طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن " (4) . وكل هذه التعريفات معناها ومؤداها واحد.
__________
(1) ص 51.
(2) أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء ص 85.
(3) في التعريفات ص 80.
(4) أنيس الفقهاء ص 85.(57/250)
رابعا: الظن:
تعريفه لغة واصطلاحا:
تعريفه لغة: الظن في اللغة مصدر من باب فعل، وهو خلاف اليقين، وقد يستعمل بمعنى اليقين، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (1) (2) .
الظن في الاصطلاح: الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض (3) .
وقيل: هو أحد طرفي الشك بصفة الرجحان (4) .
وقد تقدم في تعريف الشك أن الذهن إذا تردد بين أمرين على حد السواء فهو الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم.
قال ابن نجيم (5) : " والظن الطرف الراجح وهو ترجيح جهة الصواب " اهـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 46
(2) المصباح المنير ص 147.
(3) التعريفات للجرجاني ص 188.
(4) التعريفات للجرجاني ص 188.
(5) في الأشباه والنظائر ص 73.(57/251)
خامسا: غلبة الظن:
ولقد فرق العلماء بين الظن وغلبة الظن، وقالوا: " إن غلبة الظن غير الظن. فغلبة الظن عبارة عن طمأنينة الظن وهي رجحان أحد الجانبين على الجانب الآخر رجحانا مطلقا يطرح(57/251)
معه الجانب الآخر " (1) .
وقال ابن نجيم (2) : هو " الطرف الراجح إذا أخذ به القلب " اهـ.
وذكر ابن عابدين نقلا عن بعض الفقهاء (3) : " أن أحد الطرفين إذا قوي وترجح على الآخر ولم يأخذ القلب ما ترجح به ولم يطرح الآخر فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو أكبر الظن وغالب الرأي " اهـ.
اعتبار الظن وغلبة الظن عند الفقهاء:
تبين لنا من خلال التعريف الفرق بين الظن وغلبة الظن؛ ولذلك يختلف اعتبارهما عند الفقهاء. فعندهم أن الظن من قبيل الشك؛ لأنهم يريدون به التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء استويا أو ترجح أحدهما. فالفقهاء لا يفرقون غالبا بين الظن والشك (4) .
أما غالب الظن فإنهم يلحقونه باليقين (5) .
__________
(1) الفروق في اللغة ص 79.
(2) في الأشباه والنظائر ص 73.
(3) رد المختار 1 \ 164.
(4) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 73.
(5) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 73.(57/252)
سادسا: الوهم:
تعريفه لغة واصطلاحا:
تعريفه لغة: مصدر وهم.(57/252)
وهو ما سبق القلب إليه مع إرادة غيره (1) .
الوهم في الاصطلاح: الطرف المرجوح من طرفي الشك.
وقد تقدم في تعريف الشك: أن الذهن إذا تردد بين أمرين على حد السواء فهو الشك، وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم.
وقد عبر ابن نجيم (2) عنه بأنه: " رجحان جهة الخطأ ".
مدى اعتبار الوهم عند الفقهاء: الوهم دون كل من الظن والشك، فهو لا يرتقي إلى تكوين اشتباه، فلا عبرة للتوهم (3) .
ولذلك ذكر الفقهاء أنه لا يثبت حكم شرعي استنادا على وهم، فلا يجوز تأخير الشيء الثابت بصورة قطعية بوهم طارئ، وما دام الشك غير منظور إليه في الشرع، فالوهم أولى بأن يلغى ولا يكترث به؛ لأنه أحط درجة من الأول؛ إذ هو إدراك الطرف المرجوح من طرفي أمر متردد فيه (4)
__________
(1) المصباح المنير ص 258.
(2) في الأشباه والنظائر ص 73.
(3) انظر: الموسوعة الكويتية 4 \ 291، 26 \ 185.
(4) القواعد الفقهية، علي أحمد الندوي ص 416.(57/253)
سابعا: الاشتباه:
تعريفه لغة واصطلاحا:
تعريفه لغة: الاشتباه مصدر اشتبه. واشتبه الشيئان: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا (1) .
__________
(1) القاموس المحيط ص 1610.(57/253)
والمشتبهات من الأمور: المشكلات (1) .
والاشتباه: الالتباس (2) .
واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست فلم تتميز ولم تظهر (3) .
تعريف الاشتباه اصطلاحا: الاشتباه في الاستعمال الفقهي أخص منه في اللغة، فقد جاء في رد المحتار (4) أن الشبهة هي: " ما يشبه الشيء الثابت وليس بثابت في نفس الأمر ".
وعرف الشبهة الجرجاني (5) بقوله: " ما لم يتيقن كونه حراما أو حلالا ".
الفرق بين الاشتباه والالتباس: الالتباس هو الإشكال. والفرق بينه وبين الاشتباه أن الاشتباه معه دليل يرجح أحد الاحتمالين، والالتباس لا دليل معه (6) .
__________
(1) لسان العرب، مادة (شبه) 13 \ 503.
(2) المصباح المنير ص 115.
(3) المصباح المنير ص 115.
(4) 3 \ 150، وانظر: الموسوعة الكويتية (4 \ 290) .
(5) التعريفات.
(6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 \ 82، والموسوعة الكويتية 4 \ 290.(57/254)
المبحث الثاني: خلاف الفقهاء في المسألة:
تحرير محل النزاع:
أولا: إذا كان الشك الطارئ على الإنسان في الصلاة في هذه المسألة وهما، بأن طرأ على الذهن ولم يستقر، فإن هذا(57/254)
الشك لا عبرة فيه عند الفقهاء، فلا يلتفت الإنسان إليه؛ لأن الإنسان لو طاوع التوهم لتعب تعبا عظيما (1) .
وقد تقدم (2) أن الفقهاء لا يعتبرون التوهم شيئا، ولا يثبتون حكما شرعيا استنادا على الوهم. فلا يجوز عندهم تأخير الشيء الثابت بصورة قطعية بوهم طارئ.
ثانيا: إذا كثرت الشكوك مع الإنسان حتى لازمه ذلك في الوضوء والصلاة والصيام وغيره، فإن ذلك أيضا لا عبرة به؛ لأنه تحول إلى مرض وعلة، ومثل هذا يعتبر ذهنه غير مستقر فلا عبرة به (3) .
أما إذا كان الشك خاليا من ذلك، فشك في عدد الركعات في الصلاة، فلم يدر هل صلى واحدة أم اثنتين، أو لم يدر صلى اثنتين أم ثلاثا، أو لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا، فإن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة إلى سبعة أقوال:
القول الأول: أنه يبني على اليقين، وهو الأقل (4) ، سواء أكان إماما أم مأموما، ويسجد للسهو.
__________
(1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لفضيلة الشيخ محمد العثيمين 3 \ 514.
(2) في تعريف الوهم.
(3) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لفضيلة الشيخ محمد العثيمين 3 \ 514.
(4) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ بن رجب 9 \ 471، وبداية المجتهد 1 \ 234.(57/255)
روي هذا القول عن عمر، وعلي (1) ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وشريح، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، والحسن البصري، والزهري (2) .
وهو قول مالك، والشافعي، ورواية لأحمد بن حنبل (3) ، وهي المذهب (4) ، وإسحاق بن راهويه، والثوري في رواية، والليث (5) ، والأوزاعي، والحافظ ابن عبد البر (6)
__________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ بن رجب 9 \ 471، وبداية المجتهد 1 \ 234.
(2) فتح الباري للحافظ ابن رجب 9 \ 471.
(3) انظر: المغني 2 \ 407، والمقنع 1 \ 179، والإنصاف 2 \ 146، وكشاف القناع 1 \ 406.
(4) انظر: الإنصاف 2 \ 146.
(5) فتح الباري للحافظ بن رجب 9 \ 471.
(6) التمهيد 5 \ 37، 39، والاستذكار 2 \ 244 - 245.(57/256)
وداود الظاهري (1) .
القول الثاني: أنه يتحرى، سواء أكان إماما، أم مأموما. وذلك بأن يبني على غالب ظنه.
روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب (2) ، وبه قال الحسن بن صالح بن حي، والثوري في رواية (3) ، ورواية لأحمد بن حنبل.
القول الثالث: أنه إن غلب على ظنه أحد الاحتمالين عمل به وبنى عليه وسجد سجدتين للسهو، وإن لم يترجح عنده أحد الاحتمالين واستوى عنده الأمران بنى على اليقين وهو الأقل وسجد للسهو، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، واختيار شيخ
__________
(1) التمهيد 5 \ 35، والاستذكار 2 \ 243، وبداية المجتهد 1 \ 234.
(2) انظر: الأوسط لابن المنذر 3 \ 281، والمغني 2 \ 407، وفتح الباري لابن رجب 9 \ 470.
(3) انظر: التمهيد 5 \ 36، والاستذكار 2 \ 244، وفتح الباري لابن رجب 9 \ 470.(57/257)
الإسلام بن تيمية (1) .
واختاره من المعاصرين الشيخ محمد العثيمين (2) .
القول الرابع: التفريق بين الإمام والمنفرد (3) .
فالإمام يبني على غالب ظنه، والمنفرد يبني على اليقين.
وهو رواية عن أحمد بن حنبل، وهي ظاهر المذهب (4) ، واختيار الخرقي (5) .
القول الخامس: أنه إذا كان هذا الشك يعرض له أول مرة بطلت صلاته واستأنفها. وإن كان الشك يعرض له كثيرا
__________
(1) انظر: الاختيارات الفقهية للبعلي ص 115، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 15.
(2) انظر: الشرح الممتع 3 \ 517.
(3) أما المأموم فهو تبع لإمامه.
(4) انظر: المقنع 1 \ 179، والإنصاف 2 \ 147، والمبدع 1 \ 524.
(5) المقنع 1 \ 179، والإنصاف 2 \ 147، والمبدع 1 \ 524.(57/258)
تحرى وبنى على غالب ظنه إن كان له ظن، فإن لم يكن له ظن يرجح أحدهما بنى على اليقين وهو الأقل.
قال بهذا الحنفية.
القول السادس: أنه إذا كان الشك شيئا يلزمه ولا يزال يشك، بأن كثر وأصبح عادة له، فإنه يجزئه سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين. وإن لم يكن شيئا يلزمه استؤنفت تلك الركعة بسجدتيها.
قال بهذا الليث بن سعد.
القول السابع: أنه يعيد الصلاة.
روي هذا القول عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، والشعبي، وشريح، ومحمد بن الحنفية (1) .
__________
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 27، 28، وفتح الباري لابن رجب 9 \ 470.(57/259)
الأدلة والمناقشة:
أدلة القول الأول: استدل من قال بالبناء على اليقين بالأدلة التالية:(57/259)
الدليل الأول:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى؟ ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان (1) » .
الدليل الثاني:
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم
__________
(1) قوله: '' كانتا ترغيما للشيطان '' أي: إغاظة له وإذلالا. مأخوذ من الرغام وهو التراب، ومن أرغم الله أنفه. والمعنى: '' أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقصها، فجعل الله تعالى للمصلي طريقا إلى جبر صلاته وتدارك ما لبس عليه وإرغام الشيطان ورده خاسئا مبعدا عن مراده '' اهـ. من صحيح مسلم بشرح النووي 5 \ 60. والحديث أخرجه أحمد في المسند 3 \ 72، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له برقم 571، 1 \ 400، ومالك في الموطأ مرسلا عن عطاء بن يسار في كتاب الصلاة، باب: إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته 1 \ 95. قال ابن عبد البر في التمهيد 5 \ 18: '' هكذا روى هذا الحديث عن مالك جميع رواة الموطأ عنه، ولا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم، فإنه وصله وأسنده عن مالك، وتابعه على ذلك يحيى بن راشد إن صح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم '' اهـ.(57/260)
يدر ثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم (1) » .
ونوقش هذا الحديث: بأنه معلول.
قال الحافظ بن حجر (2) : " وهو معلول، فإنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب. وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلا. قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله، فقال لي: هل أسنده لك؟ قلت: لا. فقال: لكنه حدثني أن كريبا حدثه به. وحسين ضعيف جدا ".
وذكر ابن رجب (3) تضعيف هذا الحديث بسبب هذه العلة عن ابن المديني.
ويجاب عنه من وجهين:
الأول: بأنه قد صححه الترمذي والحاكم والذهبي (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1 \ 190 (بلفظ مقارب) ، والترمذي (واللفظ له) في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، برقم 398، 2 \ 245، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن يشك في صلاته فرجع إلى اليقين برقم 1209، 1 \ 381، والحاكم في المستدرك في كتاب السهو 1 \ 324 - 325، وابن عبد البر في التمهيد 5 \ 35.
(2) في تلخيص الحبير 2 \ 5.
(3) فتح الباري لابن رجب 9 \ 465.
(4) انظر: سنن الترمذي 1 \ 245، والمستدرك 1 \ 324.(57/261)
فقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب صحيح ".
وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي.
وقال أحمد محمد شاكر (1) بعدما ذكر كلام ابن حجر الآنف الذكر وبعدما ذكر شواهد لهذا الحديث: " ومجموع هذه الروايات تؤيد تصحيح الترمذي والحاكم والذهبي للحديث " اهـ.
الثاني: على افتراض عدم صحة الحديث فإن مدار الحكم الناتج عن هذا الحديث لا يعتمد على هذا الحديث وحده، فهناك حديث أبي سعيد الخدري المتقدم، وهو صحيح.
الدليل الثالث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا، فليركع ركعة يحسن ركوعها وسجودها، ثم يسجد سجدتين (2) » .
ونوقش هذا الحديث: بأن الصحيح وقفه على ابن عمر، فرفعه غير صحيح. قال ابن عبد البر (3) : " لا يصح رفع هذا الحديث - والله أعلم - لأن مالكا رواه عن عمر بن محمد، عن
__________
(1) في تعليقه على سنن الترمذي 1 \ 246.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة 1 \ 260، 261، وابن عبد البر في التمهيد 5 \ 38، 39، ومالك في الموطأ موقوفا في كتاب الصلاة، باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته 1 \ 95.
(3) في التمهيد 5 \ 39.(57/262)
سالم، عن أبيه، فوقفه على ابن عمر جعله من قوله وخالف أيضا لفظه، والمعنى واحد، ولكنه لم يرفعه إلا من لا يوثق به، وإسماعيل ابن أبي أويس وأخوه وأبوه ضعاف لا يحتج بهم " اهـ.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دلالة صريحة على أن من شك في صلاته فلم يدر كم صلى، فإنه يبني على اليقين - وهو الأقل - وإن كان الحديث الثاني قد ضعفه البعض لإرساله فإن هناك من صححه من أئمة الحديث.
أما الحديث الثالث فالصحيح وقفه على ابن عمر، وعلى فرض عدم صحتهما فإن مدار الحكم الناتج عن هذه الأحاديث وهو البناء على اليقين لا يعتمد على الحديثين الأخيرين وحدهما، فهناك حديث أبي سعيد الخدري، وهو صحيح.
أدلة القول الثاني: استدل من قال بالتحري بحديث عبد الله بن مسعود.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «صلى النبي(57/263)
صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني. وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين (2) » . متفق عليه.
وجه الاستدلال من الحديث: قالوا: أفاد الحديث بأن من شك في صلاته فلم يدر كم صلى فإنه يتحرى بأن يبني على غالب ظنه.
مناقشة الحديث وكيفية الجمع بينه وبين أحاديث القول الأول:
لقد سلك الفقهاء في نقدهم لوجه الاستدلال بهذا الحديث مسلكين:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة 1 \ 104، 105، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 572، 1 \ 400، وأحمد في المسند 1 \ 379، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا صلى خمسا، برقم 1020، 1 \ 620، والنسائي في كتاب السهو، باب التحري 3 \ 28، 29.
(2) أي: إبراهيم النخعي، وقد رواه عن علقمة عن ابن مسعود. انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر 1 \ 600. (1)(57/264)
المسلك الأول: ذهب بعض الفقهاء ومنهم الإمام مالك (1) إلى أن المقصود بالتحري في حديث ابن مسعود هذا هو الرجوع إلى اليقين؛ جمعا بين هذا الحديث وأحاديث البناء على اليقين المتقدمة.
المسلك الثاني: أنه يحمل حديث ابن مسعود هذا على من عنده ظن غالب فيتحرى؛ بأن يبني على غالب ظنه، وتحمل أحاديث البناء على اليقين المتقدمة على من لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه فيبني على اليقين وهو الأقل؛ جمعا بين الأحاديث.
ويبدو لي - والله أعلم - أن المسلك الثاني أرجح وأصوب؛ لأن فيه إعمالا لجميع الأحاديث، بينما المسلك الأول يجعل التحري هو البناء على اليقين، وهذا غير صحيح، فإن معنى التحري يختلف عن معنى البناء على اليقين، كما اتضح لنا في المباحث المتقدمة.
أدلة القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث بأدلة القول الأول وأدلة القول الثاني. أي: استدلوا بأدلة القول الأول التي تفيد البناء على اليقين وهو الأقل، واستدلوا بأدلة القول الثاني التي تفيد التحري بالبناء على غالب الظن.
وجه الاستدلال بهذه الأدلة وطريقة الجمع بينها: أنهم حملوا أحاديث القول الأول التي تفيد البناء على اليقين على من لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه، فيبني على اليقين وهو
__________
(1) انظر: التمهيد 5 \ 37، وبداية المجتهد 1 \ 235.(57/265)
الأقل. وحملوا دليل القول الثاني وهو حديث ابن مسعود على من عنده ظن غالب فيتحرى؛ بأن يبني على غالب ظنه، وفي ذلك جمع بين الأحاديث وإعمال لها كلها (1) .
دليل القول الرابع: استدل من قال بالتفريق بين الإمام والمنفرد بأن الإمام يبني على غالب ظنه؛ لأنه له من ينبهه، ويذكره بالصواب إذا أخطأ، فيعمل بالأظهر عنده؛ لأنه إن أصاب أقره من خلفه من المأمومين، فيتأكد له صواب نفسه، وإن أخطأ سبحوا له، فيعلم أنه أخطأ، فيرجع إليهم، فيحصل له الصواب على كلتا الحالتين، وليس كذلك المنفرد؛ إذ ليس له من يذكره فيبني على اليقين ليحصل له إتمام صلاته. وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد وعبد الرحمن بن عوف على المنفرد، وحديث ابن مسعود على الإمام؛ جمعا بين الأحاديث وعملا بها جميعا (2) .
ونوقش هذا الدليل: بأن الخطاب في أحاديث هذه المسألة لجميع المصلين فلم يخاطب الأئمة بقسم منها وبالآخر المنفردين، وليس في لفظ واحد منها ما يدل على ذلك، فإخراج الأئمة من حديث أبي سعيد وغيره غير صحيح ولا يجوز، وكذلك إخراج المنفردين من حديث ابن مسعود غير صحيح أيضا (3) .
أدلة القول الخامس: استدل أصحاب القول الخامس بالأدلة
__________
(1) انظر: المغني 2 \ 406، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 15، والشرح الممتع 3 \ 517.
(2) المغني 2 \ 409، انظر: مصادر الحنابلة المتقدمة.
(3) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 15.(57/266)
التالية:
الدليل الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة (1) » .
فاستدلوا بهذا الحديث على من يعرض له الشك أول مرة.
ونوقش هذا الدليل: بأنه حديث غريب كما قال الزيلعي (2) ، والكمال بن الهمام (3) ، والعيني (4) ، فلا يصح بهذا اللفظ، ومن ثم فإنه لا ينتج حكما.
الدليل الثاني: استدلوا لقولهم فيما لو كان الشك يعرض له كثيرا فإنه يتحرى بالبناء على غالب ظنه، إذا كان له ظن، وإن لم يكن له ظن فإنه يبني على اليقين.
استدلوا لقولهم هذا بما استدل به أصحاب القول الثالث، وهي الأدلة التي تفيد البناء على اليقين، ودليل ابن مسعود الذي يفيد التحري، ووجهوها وجمعوا بينها وقالوا فيها وعملوا بها كما عمل بها أصحاب القول الثالث بحمل حديث ابن مسعود لمن كان
__________
(1) أخرجه الزيلعي في نصب الراية 1 \ 173، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف 2 \ 28، عن ابن عمر قال في الذي لا يدري كم صلى أثلاثا أو أربعا، قال: يعيد حتى يحفظ. . وفي لفظ قال: '' أما أنا إذا لم أدر كم صليت فإني أعيد '' اهـ.
(2) في نصب الراية 1 \ 173.
(3) في شرح فتح القدير 1 \ 519.
(4) في البناية في شرح الهداية 2 \ 757.(57/267)
عنده ظن غالب فيعمل به، وأحاديث البناء على اليقين على من لم يوجد عنده ظن غالب، فإنه يبني على اليقين وهو الأقل.
ونوقش هذا الدليل: بأنه تبين لنا فيما تقدم أن في ذلك جمعا للأحاديث وإعمالا لها كلها، ولكن الإشكال هنا في قول الحنفية بالتفريق بين وقوع الشك أول مرة أو التكرار، فيختلف الحكم عندهم تبعا لوقوع الشك أول مرة أو تكراره. وهذا التفصيل لا يعضده دليل صحيح، بل فيه مخالفة للأحاديث الصحيحة الثابتة، وهي القول بالتحري أو البناء على اليقين (1) .
قال الحافظ ابن عبد البر (2) : " وليس في شيء من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم تفرقة بين أول مرة وغيرها، فلا معنى لقول أبي حنيفة في ذلك " اهـ.
الدليل الثالث: أن من شك في صلاته فأبطلها واستأنفها من جديد كان مؤديا للفرض بيقين كاملا. أما لو بنى على اليقين وهو الأقل لم يؤد الصلاة كاملة؛ لأنه ربما يزيد فيها، وإدخال الزيادة في الصلاة نقصان فيها، وربما يؤدي إلى إفساد الصلاة (3) .
ونوقش هذا الدليل: بأنه قد وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة في المسألة المخالفة لهذا الدليل بالبناء على اليقين والتحري - على التفصيل السابق - فلا معنى لما يخالف حديث
__________
(1) انظر: المغني 2 \ 409.
(2) في التمهيد 5 \ 380.
(3) انظر: بدائع الصناع 1 \ 165.(57/268)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ولا يصح ترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والاشتغال بما يخالفه.
دليل القول السادس: استدل لهذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس (1) » . متفق عليه.
وجه الاستدلال من الحديث: في هذا الحديث دلالة على أن من شك في صلاته فإنه يكفيه سجود السهو.
ونوقش وجه الاستدلال: بأن القول به فيه إبطال للأحاديث الأخرى في المسألة، سواء أحاديث البناء على اليقين أو حديث التحري، والأولى هو الجمع بينها وبين حديث أبي هريرة هذا، فيحمل حديث أبي هريرة على من طرأ عليه الشك وقد قارب على الفراغ من الصلاة قبل أن يسلم، فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك ويسجد للسهو قياسا على من طرأ عليه الشك بعد السلام. ولو طرأ عليه الشك قبل ذلك فإنه يكون على التفصيل السابق في الجمع بين الأحاديث، إما التحري أو البناء على اليقين.
وعلى هذا فقوله في حديث أبي هريرة: " وهو جالس "،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع 1 \ 67، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 389، 1 \ 398.(57/269)
يتعلق بقوله: " إذا شك "، لا بقوله: " سجد " (1) .
ثم إن حديث أبي هريرة لو سلم وجه الاستدلال به فإنه يدل على جزء من هذا القول، وأما باقيه فلا أعلم أنه فيه دليل صحيح، والله أعلم.
دليل القول السابع: لعله يستدل لهم بما ورد في مصنف ابن أبي شيبة (2) ، من الآثار عن ابن عمر وسعيد بن جبير والشعبي أنهم يعيدون الصلاة.
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الأول: غاية ما في هذا الدليل أنه أثر واحد وهو الموقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، وقد ثبت عن ابن عمر خلاف ذلك، فقال بعدم إعادة الصلاة (3) ، وباقيها مقطوع وهو ما أضيف إلى التابعي أو من دونه. والمقطوع ليس بحجة (4) .
الثاني: على فرض ثبوت وصحة الموقوف على ابن عمر، وأنه لم يرد عنه خلافه، فإنه معارض بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث البناء على اليقين، وحديث التحري، فلا يترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤخذ بقول
__________
(1) انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر 3 \ 125.
(2) 2 \ 27، 28.
(3) انظر: المصنف لعبد الرزاق، رقم 3469، 3470، 3471، 2 \ 306، ومصنف ابن أبي شيبة 2 \ 27.
(4) انظر: تيسير مصطلح الحديث، للطحان ص 133، 134.(57/270)
الصحابي عند التعارض، بل يؤخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك ما عداه، والله أعلم.
بيان القول الراجح: بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة بعضها تبين لي - والله أعلم بالصواب - أن أرجح الأقوال في المسألة هو القول الثالث؛ وهو: أن المصلي إذا شك في عدد الركعات في الصلاة فلم يدر كم صلى، فإما أن يكون عنده ظن غالب فيتحرى بأن يبني على غالب ظنه، ويحمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ذلك، وإما أنه لا يكون عنده ظن غالب يعمل عليه؛ فيبني على اليقين، وهو الأقل، وتحمل أحاديث البناء على اليقين على ذلك؛ لأن كل هذه الأحاديث خطاب للشاك، وتوجيهها بما تقدم فيه إعمال للأحاديث كلها، وإعمال الأحاديث كلها والجمع بينها أولى من إعمال بعضها وإهمال البعض الآخر.
أما ترجيح غير ذلك من الأقوال المتقدمة فإنه يؤدي إلى إعمال بعض الأحاديث وإهمال بعضها، وهذا غير جائز مع إمكان الجمع، أو أنه يؤدي إلى علل أخرى تم بيانها عند عرضها ومناقشتها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بعد أن ذكر بعض الأقوال في المسألة ورد عليها ثم قال:
" فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن كلاهما (1) خطاب
__________
(1) أي حديثي ابن مسعود وأبي سعيد الخدري.(57/271)
للشاك، فذاك أمر له بالتحري إذا أمكنه فيزول الشك. والثاني أمر له إذا لم يزل الشك ماذا يصنع، وهو كما يقال للحاكم: احكم ببينة، واحكم بالشهود، ونحو ذلك، فهذا مع الإمكان، فإذا لم يمكن ذلك رجع إلى الاستصحاب، وهو البراءة، كذلك المصلي الشاك يعمل بما يبين له الصواب، فإن تعذر ذلك رجع إلى الاستصحاب " (1) اهـ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 15.(57/272)
المبحث الثالث: موضع سجود السهو لمن شك في عدد الركعات:
إذا شك المصلي في عدد الركعات في صلاته، فإنه يجب أن يسجد للسهو، ولكن هل يكون سجوده قبل السلام أو بعده؟ وقبل بيان ذلك لا بد من معرفة أصل المسألة، وهي: مكان وموضع سجود السهو عاما في أي سهو يقع للمصلي واختلاف الفقهاء فيه، ومن ثم نستطيع إلحاق مسألتنا هذه على حسب اختلاف الفقهاء في مسألة الأصل.
اختلاف الفقهاء في موضع سجود السهو: اختلف(57/272)
الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن سجود السهو كله قبل السلام، سواء أكان عن النقصان أم الزيادة. قال بهذا أبو هريرة وسعيد بن المسيب والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن (1) ، والأوزاعي، والليث بن سعد (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد بن حنبل (4) .
القول الثاني: أن سجود السهو كله بعد السلام، سواء أكان عن النقصان أم الزيادة، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، والحسن البصري، والنخعي، وابن أبي ليلى (5) ، وإليه ذهب أبو حنيفة (6) ، والثوري (7) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 5 \ 155.
(2) التمهيد 5 \ 32، والمجموع 4 \ 155، والمغني 2 \ 416.
(3) الأم 1 \ 130، والمجموع 4 \ 110، 155.
(4) المغني 2 \ 416، والإنصاف 2 \ 154.
(5) المغني 2 \ 416، 417.
(6) شرح معاني الآثار 1 \ 443، وشرح فتح القدير 1 \ 498.
(7) انظر: التمهيد 5 \ 31.(57/273)
القول الثالث: أنه يسجد للسهو كله قبل السلام إلا في موضعين:
الأول: إذا سلم من نقص في صلاته.
الثاني: إذا تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه.
فإنه يسجد بعد السلام، وهذا قول أحمد بن حنبل.
القول الرابع: أنه إن كان السهو زيادة فالسجود له بعد السلام، وإن كان نقصانا من الصلاة فالسجود قبل السلام.
قال بهذا مالك (1) ، وأبو ثور (2) ، ورواية لأحمد بن حنبل (3) ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (4) .
فعلى هذا يكون موضع سجود السهو لمن شك في عدد الركعات في الصلاة موضع اختلاف بين الفقهاء بناء على اختلافهم في الأصل.
فعلى هذا يكون سجود السهو لمن شك في عدد الركعات في الصلاة عند أبي حنيفة والثوري بعد السلام.
__________
(1) المدونة 1 \ 128، والتمهيد 5 \ 29، 30، وقوانين الأحكام الشرعية ص 72.
(2) انظر: التمهيد 5 \ 30، والمغني 2 \ 416.
(3) المغني 2 \ 416، والإنصاف 2 \ 154.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 24.(57/274)
وعند الشافعية ورواية لأحمد بن حنبل يكون السجود قبل السلام. وعلى القول بالتحري في هذه المسألة عند الإمام أحمد يكون سجود السهو بعد السلام.
أما المالكية فقالوا: إنه يسجد بعد السلام في المشهور، وقيل: قبل السلام كما قال الشافعي (1) .
__________
(1) انظر قوانين الأحكام الشرعية ص 77.(57/275)
المبحث الرابع: في أسباب وقوع المصلي في الشك والنسيان وعلاجه:
من المهم أن يعرف المسلم الأسباب التي توقعه في الشك والنسيان في الصلاة حتى يحاول أن يبتعد عنها، ويوجد العلاج لها. فنريد في هذا المبحث أن نعرف أهم تلك الأسباب ومن ثم علاجها.
أولا: أهم أسباب الشك والنسيان في الصلاة:
1 - الشيطان: لا يشك أي مسلم مطلع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة الشيطان ومكره وخديعته للمسلمين؛ لأنه خالد مخلد في النار، فيريد أن يجر الأمة معه إلى الهاوية، فيسعى إلى إضلالها وإفساد أعمالها وعباداتها. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) . وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) . وقال
__________
(1) سورة فاطر الآية 6
(2) سورة يوسف الآية 5(57/275)
تعالى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (1) . وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم (4) » .
فلذلك نجد الشيطان يحاول بكل مكر وخديعة أن يحول بين الإنسان وبين ما يعود عليه بالنفع، حتى إنه يحاول أن ينسي الإنسان كل ما فيه خير وصلاح، كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (5) .
ومن هذه المحاولات المتعددة التي لا تعرف الكلل أو الملل محاولة إفساد ثاني أركان الإسلام بعد الشهادتين، فيحاول أن يصد المسلم عن الصلاة بالكلية إن استطاع. قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (6) .
فإن لم يستطع فإنه لا يتوقف، بل إنه يطرق مجالا آخر،
__________
(1) سورة النساء الآية 120
(2) سورة الحجر الآية 39
(3) سورة الحجر الآية 40
(4) جزء من حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 4 \ 93، ومسلم في كتاب السلام (ح 2175) ، 2 \ 1712.
(5) سورة المجادلة الآية 19
(6) سورة المائدة الآية 91(57/276)
وهو محاولة إفسادها مع أدائها، بإدخال الشكوك والوساوس، وإشغال المصلي عن أداء صلاته على الوجه المشروع، بكل السبل والوسائل، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضى أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا وكذا، حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا سجد سجدتي السهو (1) » .
وهو بهذا العمل يريد أن يفسد على المصلي صلاته حتى لا يؤديها على الصفة التي شرعها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم بكامل أركانها وواجباتها وسننها.
2 - عدم تسوية الصفوف ووجود الفرج في صلاة الجماعة سبب لدخول الشيطان من الفرج، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف (2) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 4 \ 94.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (ح 667) ، 1 \ 434، والنسائي في كتاب الإمامة، باب حث الإمام على رص الصفوف والمقاربة بينها 2 \ 92، وأحمد في المسند 3 \ 260، وصححه الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود باختصار السند 1 \ 131. والحذف: غنم صغار سود. انظر: عون المعبود 2 \ 367.(57/277)
3 - الحضور المتأخر إلى صلاة الجماعة: فإذا تأخر الإنسان في الحضور إلى صلاة الجماعة فإنه يدخل مباشرة في الصلاة، وربما فاته شيء منها، فيؤدي ذلك إلى الدخول مباشرة في الصلاة وهو لم يتهيأ لها تهيؤا كاملا، فيدخل في الصلاة وما زال تفكيره منشغلا بما كان يفكر فيه قبل الدخول في الصلاة فيجد الشيطان الفرصة المناسبة لإفساد صلاته.
4 - هناك أسباب أخرى كثيرة تختلف من شخص إلى آخر، ومعرفتها ترجع إلى كل شخص حسب ما يجده من خلال تتبع وسبر هذه الأسباب.(57/278)
ثانيا: علاج هذه المشكلة:
بعدما عرفنا أسباب وقوع هذه المشكلة، فإن من المناسب أن نحاول أن نوجد العلاج الناجع لكل سبب من أسباب هذه المشكلة، حتى نقضي عليها - بإذن الله - ونؤدي صلاتنا على الوجه الأكمل كما شرعها الله دون لبس أو نقصان.
1 - الشيطان: أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى علاج ناجع لمشكلة دخول الشيطان على الإنسان في صلاته وهو الالتجاء إلى الله والاحتماء به والاستعاذة بذكره من الشيطان. عن أبي العلاء «أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له خنزب (1) ، فإذا أحسسته
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة (ح 2203) ، 2 \ 1728. والتفل الوارد في هذا الحديث معناه: نفخ معه أدنى بزاق، وهو أكثر من النفث. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1 \ 192.(57/278)
فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني» .
قال النووي (1) - رحمه الله -: " وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عند وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا، ومعنى يلبسها: أي: يخلطها ويشككني فيها. ومعنى: حال بيني وبينها، أي: نكدني فيها ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها " اهـ.
كما وردت الآيات في القرآن العظيم الدالة على مدافعة ما يجده الإنسان من وساوس الشيطان عموما بالالتجاء إلى الله سبحانه والاستعاذة به من الشيطان. قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) . وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) . وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (4) {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (5) .
__________
(1) في شرحه لصحيح مسلم 14 \ 190.
(2) سورة الأعراف الآية 200
(3) سورة فصلت الآية 36
(4) سورة المؤمنون الآية 97
(5) سورة المؤمنون الآية 98(57/279)
فنزغات الشيطان هي: وساوسه. والهمز والوسوسة والنزغ سواء.
وقوله تعالى: {هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (1)
الهمز في اللغة: النخس، والدفع، فالشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر بني آدم فيشغله عن ذكر الله (2) .
2 - عدم تسوية الصفوف ووجود الفرج في الصفوف: وعلاجه أرشدنا إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق. . . (3) » الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف (4) » .
وتسوية الصفوف والتراص في الصفوف مسئولية مشتركة بين أطراف عديدة:
أولها: المصلي، فينبغي له أن يهتم بذلك ويسعى إليه، لنفسه ولجيرانه في الصف.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 97
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 \ 348، 12 \ 148.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (ح 667) ، 1 \ 434، والنسائي في كتاب الإمامة، باب حث الإمام على رص الصفوف والمقاربة بينها 2 \ 92، وأحمد في المسند 3 \ 260، وصححه الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود باختصار السند 1 \ 131. والحذف: غنم صغار سود. انظر: عون المعبود 2 \ 367.
(4) جزء من حديث جابر بن سمرة، أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة. . . إلخ، (ح 430) ، 1 \ 322.(57/280)
وثانيها: الإمام، فعليه مسئولية الاهتمام بذلك، ببيان الأحاديث الدالة عليه وشرحها وبيان معانيها وما تدل عليه وتفقد الصفوف والاجتهاد في ذلك والاهتمام به ولا يكون ذلك من قبيل العادة فقط، وكلمات تردد قبل الشروع في الصلاة والصفوف معوجة وغير متراصة، فإن الإمام يقع عليه جزء من هذه المسئولية.
وثالثها: الداخل المسبوق في الصلاة، فإذا دخل المسجد ووجد شيئا من ذلك فتقع عليه مسئولية التعديل ومراصة الصفوف، فإن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن التعاون على البر والتقوى.
3 - الحضور المتأخر إلى صلاة الجماعة: وعلاجه بالتبكير إليها، فيتحقق بالتبكير عدة فوائد عظيمة، منها الأجر والثواب العظيم، فإن قدر الأجر والمثوبة يكون على قدر المجيء إلى الصلاة، ومنها ما يحصل له من الخير والأجر بفعل نوافل وطاعات وقربات إلى الله، كصلاة النافلة وقراءة القرآن وذكر الله، ومنها أنه لا تفوته تكبيرة الإحرام ولا يفوته شيء من الصلاة، ومنها وهو علاج مشكلتنا هذه أن كل هذا الوقت الذي يقضيه في هذه الطاعات يكون فيه استعداد واستقبال لصلاة الفريضة، فيكون قد اشتغل بطاعة الله قبل الدخول في الفريضة؛ فيكون متهيئا لأدائها وقلبه منصرفا إليها، بخلاف المتأخر، فإنه إذا دخل في الصلاة - إلا من رحم الله - فإنه قد يفكر ويشتغل ذهنه بما كان يشتغل به قبل الصلاة؛ فيجد الشيطان مدخلا لوساوسه وإشغال(57/281)
المصلي عن صلاته.
4 - الأسباب الأخرى: وهذه الأسباب لكونها تختلف من شخص إلى آخر ومعرفتها ترجع إلى كل شخص حسب ما يجده من خلال تتبعه ومرورها عليه أثناء صلاته، فإن علاجها يرجع إليه أيضا، فيدرس أي سبب يرد عليه، ويحاول أن يجتهد في علاجه، ومتى ما صدقت نيته، وجد في طلب العلاج، وتضرع إلى الله بالدعاء، وأخلص في ذلك، فإن الله لن يرده خائبا، متى ما علم من عبده صدق النية وإلحاحه في الدعاء.(57/282)
الخاتمة: وفيها بيان لأهم نتائج وفوائد البحث:
وبعد الانتهاء من هذا البحث فإنه من المناسب أن أختمه بذكر أهم ما توصلت إليه من فوائد ونتائج:
1 - أن العلماء يفرقون بين الظن وغلبة الظن.
2 - ولذلك يختلف اعتبارهما عند الفقهاء.
3 - فالظن عند الفقهاء ملحق بالشك، فغالبا لا يفرقون بين الظن والشك.
4 - أما غالب الظن فإنهم يلحقونه باليقين.
5 - أن الوهم دون الظن والشك.
6 - أنه لا عبرة للتوهم عند الفقهاء.
7 - فلا يثبت حكم شرعي استنادا على وهم.
8 - أن هناك فرقا بين الاشتباه والالتباس.
9 - فإن الاشتباه معه دليل يرجح أحد الاحتمالين، أما الالتباس فإنه لا دليل معه.(57/282)
10 - إذا كان الشك الطارئ على الإنسان في عدد الركعات في الصلاة وهما بأن طرأ على الذهن ولم يستقر فلا يلتفت إليه؛ لأن الإنسان لو طاوع التوهم لتعب تعبا عظيما.
11 - إذا كثرت الشكوك مع الإنسان حتى أصبح ملازما له في أكثر العبادات فإنه لا عبرة به؛ لأنه تحول إلى مرض وعلة ومثل هذا يعتبر ذهنه غير مستقر فلا عبرة به.
12 - أما إذا كان الشك خاليا من ذلك، فشك في عدد الركعات، فإن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة إلى سبعة أقوال.
13 - أن أرجح هذه الأقوال في نظري هو من جعل الحكم يدور مع وجود الظن الغالب وعدم وجوده عند الشاك.
14 - فقال: إما أن يكون الشاك عنده ظن غالب فيتحرى؛ بأن يبني على غالب ظنه، ويحمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ذلك.
وإما أن لا يكون عنده ظن غالب يعمل عليه؛ فيبني على اليقين - وهو الأقل - وتحمل أحاديث البناء على اليقين على ذلك.
15 - أن سبب ترجيحي لهذا القول: أن جميع الأحاديث الواردة في هذه المسألة تعتبر خطابا للشاك، وتوجيهها بما تقدم فيه إعمال لجميع تلك الأحاديث، وإعمالها والجمع بينها أولى من إعمال بعضها وإهمال البعض الآخر.
16 - أن ترجيح غيره من الأقوال في المسألة يؤدي إلى إعمال بعض الأحاديث وإهمال البعض الآخر، وهذا غير جائز مع(57/283)
إمكانية الجمع.
17 - وهذا له نظائر في الفقه الإسلامي، فإنه يقال للحاكم: احكم ببينة واحكم بالشهود ونحو ذلك، فإن هذا مع الإمكان، فإذا لم يمكن ذلك رجع إلى الاستصحاب وهو البراءة، كذلك المصلي الشاك يعمل بما يتبين له الصواب، فإن تعذر ذلك رجع إلى الاستصحاب.
18 - إذا شك المصلي في عدد الركعات في الصلاة فإنه يجب عليه أن يسجد سجدتين للسهو.
19 - وهل يكون سجوده قبل السلام أو بعده؟
20 - اختلف الفقهاء في ذلك بناء على اختلافهم في أصل المسألة: وهو مكان وموضع سجود السهو عاما في أي سهو يقع للمصلي.
21 - فإن الفقهاء اختلفوا في مسألة الأصل إلى أربعة أقوال.
22 - فعلى هذا: يكون سجود السهو لمن شك في عدد الركعات في الصلاة عند أبي حنيفة والثوري بعد السلام.
23 - وعند الشافعية ورواية لأحمد يكون قبل السلام.
24 - وعلى القول بالتحري في هذه المسألة عند الإمام أحمد يكون بعد السلام.
25 - أما المالكية فإنه يكون بعد السلام في المشهور. وقيل: قبل السلام.
26 - أن وقوع الشك للمصلي في صلاته يرجع إلى عدة أسباب، منها:(57/284)
أ - الشيطان.
ب - عدم تسوية الصفوف ووجود الفرج في صلاة الجماعة.
ج - الحضور المتأخر إلى صلاة الجماعة.
د - أسباب أخرى كثيرة تختلف من شخص إلى آخر.
27 - أن هناك علاجا لكل سبب من هذه الأسباب، بينت ذلك مفصلا في البحث.(57/285)
صفحة فارغة(57/286)
حكم الكلام وما شابهه في الصلاة
للدكتور: عبد السلام بن سالم السحيمي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
أما بعد:
فإن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي عماد الإسلام وأحد أركانه العظام، وهي آخر ما يفقد من هذا الدين، وأول ما يحاسب عليه العبد
__________
(1) أستاذ مساعد بقسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(57/287)
يوم القيامة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، نعوذ بالله من الخسران.
وقد افتتح الله صفات المؤمنين الواردة في سورة المؤمنون بقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) ، واختتمها بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (2) ، ثم عقب على هذه الصفات بقوله سبحانه: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (3) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) .
فالواجب على كل مسلم أن يحافظ على الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها، وأن يتجنب ما يبطلها أو ينقص منها.
ولقد رأيت أنه من المناسب الكتابة في موضوع مهم يتعلق بالصلاة، وهو حكم الكلام وما شابهه في الصلاة، وذلك للأسباب التالية:
1 - أهمية الصلاة في الدين؛ ولأنه يجب على كل مكلف أن يعلم أحكام الله تعالى في كل فعل يقدم عليه، فإن لم يتعلم ذلك كان عاصيا، وعلم الإنسان بحالته التي هو فيها فرض العين من العلم (5) .
2 - أنني لا أعلم أن أحدا ألف مؤلفا مستقلا في هذا الموضوع.
3 - أنني قد طالعت بعض كتب الفقه وشروح الحديث فرأيت اختلاف أهل العلم - رحمهم الله - في هذا الموضوع، فمنهم من تساهل حتى صحح الصلاة مع الكلام المتعمد ولو لغير إصلاح الصلاة،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 2
(2) سورة المؤمنون الآية 9
(3) سورة المؤمنون الآية 10
(4) سورة المؤمنون الآية 11
(5) انظر الذخيرة 2 \ 139.(57/288)
ومنهم من تشدد حتى أبطل صلاة من تكلم ناسيا، والواجب القول بما دل عليه الدليل.
لهذه الأسباب رأيت أنه من المناسب جمع كلام أهل العلم في هذا الباب، ودراسته دراسة فقهية مقارنة بذكر الأقوال والأدلة، مع مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة لمعرفة الحق والعمل به.(57/289)
الفصل الأول:
المبحث الأول: حكم الكلام الأجنبي المتعمد في الصلاة إذا كان لغير مصلحتها:
حكى ابن المنذر (1) وغيره (2) إجماع العلماء على بطلان الصلاة بالكلام الأجنبي المتعمد فيها مع العلم بتحريمه ولا يراد به إصلاح شيء من أمرها.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (3) » .
2 - حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كنا نتكلم في الصلاة
__________
(1) انظر: الأوسط 3 \ 234.
(2) كالنووي وابن قدامة، انظر: المجموع 4 \ 85، والمغني 2 \ 444.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.(57/289)
يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (2) » .
3 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا نسلم على رسول الله - وهو في الصلاة - فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله! كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة شغلا (3) » .
وفي رواية: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله عز وجل أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة (4) » .
وجه الدلالة من هذه الأحاديث:
دلت هذه الأحاديث على بيان الكلام الجائز في الصلاة كالتسبيح والتكبير وقراءة القرآن وغير ذلك وبيان الكلام المحرم كمخاطبة الآدميين وتشميت العاطس ورد السلام باللسان ونحو ذلك (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عن الكلام في الصلاة 1 \ 402 حديث رقم 1142، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383 حديث رقم 539 واللفظ له.
(2) سورة البقرة الآية 238 (1) {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
(3) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة 1 \ 402، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 382 حديث رقم 538.
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رد السلام 1 \ 568، والنسائي في كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة 3 \ 23، وصححه ابن حبان برقم 2243، انظر: الإحسان 6 \ 15. وحسنه النووي في المجموع 3 \ 104.
(5) انظر: شرح النووي على مسلم 5 \ 27.(57/290)
المبحث الثاني: حكم كلام الجاهل في الصلاة:
اختلف الفقهاء في حكم صلاة من تكلم في صلاته عمدا جاهلا تحريم الكلام إلى قولين:
القول الأول: من تكلم عمدا في صلاته جاهلا تحريم ذلك بطلت صلاته. وبه قال الحنفية (1) والمالكية في قول (2) ، والحنابلة في المذهب (3) .
القول الثاني: صلاته صحيحة وعليه سجود السهو. وبه قال المالكية في المشهور (4) ، والشافعية (5) والحنابلة في رواية (6)
الأدلة:
أ - أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي:
1 - حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلي جنبه في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (8) » .
2 - قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إن في الصلاة
__________
(1) انظر: الهداية 1 \ 61، والمبسوط 1 \ 170.
(2) انظر: عقد الجواهر 1 \ 161.
(3) انظر: المغني 2 \ 442، والمبدع 2 \ 217، والإنصاف 2 \ 135.
(4) انظر: عقد الجواهر 1 \ 161، وبداية المجتهد 1 \ 146، وقوانين الأحكام الشرعية 82.
(5) انظر: الحاوي 2 \ 183، والروضة 1 \ 290، ومغني المحتاج 1 \ 196.
(6) انظر: الإنصاف 2 \ 135.
(7) أخرجه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عن الكلام في الصلاة 1 \ 402 حديث رقم 1142، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383 حديث رقم 539 واللفظ له.
(8) سورة البقرة الآية 238 (7) {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(57/291)
شغلا (1) » .
3 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة (2) » .
وجه الدلالة:
دلت هذه الأحاديث بعمومها على تحريم الكلام المتعمد في الصلاة من غير فرق بين كلام الجاهل والعالم.
اعترض على هذا الاستدلال: بأن هذا العموم مخصص بما ورد في حديث معاوية بن الحكم؛ لأنه نص في محل النزاع.
4 - أن كلام الجاهل كلام من غير جنس الصلاة فيبطل الصلاة، أصله العمل الكثير في الصلاة (3) .
ب - أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بحديث معاوية بن الحكم السابق، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (4) » .
وجه الدلالة منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بن الحكم رضي الله عنه بالإعادة مع جهله بحكم الكلام، وهذا دليل على أن كلام الجاهل لا يبطلها؛ لأنه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة 1 \ 402، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 382 حديث رقم 538.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رد السلام 1 \ 568، والنسائي في كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة 3 \ 23، وصححه ابن حبان برقم 2243، انظر: الإحسان 6 \ 15. وحسنه النووي في المجموع 3 \ 104.
(3) انظر: الكافي لابن قدامة 1 \ 209.
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.(57/292)
معذور لجهله (1) .
الراجح:
من خلال عرض آراء الفقهاء وأدلتهم يتضح لي أن ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة هو القول الراجح.
وذلك لما يلي:
1 - دلالة السنة الصحيحة الثابتة في ذلك.
2 - أن الجهل عذر من الأعذار المعتبرة في الشريعة الإسلامية.
__________
(1) انظر: المغني 2 \ 446، وسبل السلام 1 \ 285.(57/293)
المبحث الثالث: حكم كلام المكره في الصلاة:
اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين:
القول الأول: أنه يبطل الصلاة. وبه قال جمهور الفقهاء من الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية في الصحيح (3) ، والحنابلة في المذهب (4) .
القول الثاني: أن كلام المكره لا يبطل الصلاة. وبه قال الشافعي في وجه (5) ، والحنابلة في رواية (6) .
__________
(1) انظر: الهداية 1 \ 61، والمبسوط 1 \ 170.
(2) انظر: الإشراف 1 \ 91، وعقد الجواهر 1 \ 161.
(3) انظر: المجموع 4 \ 80، ومغني المحتاج 1 \ 196.
(4) انظر: الفروع 1 \ 487، والإنصاف 2 \ 136.
(5) انظر: الروضة 1 \ 290، ومغني المحتاج 1 \ 196.
(6) انظر: المغني 2 \ 448، والإنصاف 2 \ 136.(57/293)
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - استدلوا بعموم الأحاديث السابقة الدالة على تحريم الكلام في الصلاة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس (1) » . وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال: «أمرنا بالسكوت في الصلاة ونهينا عن الكلام (2) » .
2 - أنه فعل ما يفسد الصلاة عمدا فتفسد صلاته قياسا على ما لو أكره على صلاة الفجر أربعا (3) .
3 - أن وقوع ذلك نادر فتبطله الصلاة لندوره (4) .
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدلوا بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (5) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عن الكلام في الصلاة 1 \ 402 حديث رقم 1142، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383 حديث رقم 539 واللفظ له.
(3) انظر: المغني 2 \ 448.
(4) انظر: المجموع 4 \ 81.
(5) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب المكره والناسي 1 \ 659 حديث رقم 2045، وابن حبان وصححه. انظر: الإحسان 16 \ 202. والحاكم 2 \ 198 وقال: ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي في التلخيص 2 \ 198، وقال البوصيري: ((هذا إسناد جيد إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع)) ، وحسنه النووي، وصححه الألباني. انظر: مصباح الزجاجة 2 \ 126، والمجموع 6 \ 521، وصحيح سنن ابن ماجه 1 \ 348.(57/294)
وجه الدلالة:
أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المكره والناسي في العفو يقتضي صحة صلاة المكره على الكلام في صلاته؛ إذ لا ينسب إليه ذلك الكلام حقيقة كما لو أكره على إتلاف مال لم يضمنه (1) .
اعترض عليه من وجهين:
1 - أن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته يحمل على رفع الإصر والإثم، لا على نفي الفساد بالإكراه أو نحو ذلك (2) .
2 - أن قياس الإكراه على النسيان قياس مع الفارق ولا يصح؛ لأن النسيان يكثر ولا يمكن التحرز منه بخلاف الإكراه (3) .
وأجيب عن الاعتراض: بأن الحديث صحيح، وأن رفع الخطأ والنسيان والإكراه يقتضي رفع حكم كل منهما من الإثم وغيره (4) .
الراجح:
من خلال ما سبق بيانه يتضح لي أن رأي الجمهور هو القول الراجح في هذه المسألة وذلك:
1 - لقوة ما استدلوا به، وهو عموم الأحاديث السابقة الدالة على تحريم
__________
(1) انظر: المغني 2 \ 448.
(2) انظر: المبسوط 1 \ 171.
(3) انظر: المغني 2 \ 448.
(4) انظر: الحاوي 2 \ 178.(57/295)
الكلام في الصلاة من غير فرق بين المكره وغيره.
2 - ولأن الصلاة يسهل استدراكها وقضاؤها بخلاف غيرهما من العبادات كالحج والصيام - والله أعلم -.(57/296)
المبحث الرابع: حكم كلام الناسي:
اختلف الفقهاء فيمن تكلم في صلاته بكلام أجنبي ناسيا أنه في صلاة هل تبطل أم لا؟ إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: تبطل صلاته وعليه الإعادة. وبه قال الحنفية (1) والحنابلة في المذهب (2) .
القول الثاني: لا تبطل صلاته. وبه قال المالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة في رواية (5) .
القول الثالث: إن كان لمصلحة الصلاة لم تبطل، وإن كان لغير مصلحتها بطلت. وبه قال الحنابلة في رواية (6) .
الأدلة:
أ - أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يأتي:
1 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 233، والمبسوط 1 \ 170.
(2) انظر: المغني 2 \ 446، وشرح الزركشي 2 \ 28، والإنصاف 2 \ 135.
(3) انظر: الإشراف 1 \ 91، وقوانين الأحكام الشرعية ص 82.
(4) انظر: الحاوي 2 \ 177، والمجموع 4 \ 85.
(5) انظر: شرح الزركشي 2 \ 28، والإنصاف 2 \ 135.
(6) انظر: الفروع 1 \ 487، وشرح الزركشي 2 \ 28، والإنصاف 2 \ 135.(57/296)
شغلا (1) » .
2 - حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (3) » .
وجه الدلالة:
أن النهي شامل لعموم كلام الآدميين في الصلاة بما في ذلك كلام الناسي؛ لعدم ورود التفريق بين ذلك (4) .
اعترض عليه:
1 - أن حديث ذي اليدين متأخر عنها فيقدم عليها.
2 - أن النهي وارد في العمد دون السهو؛ لأن السهو غير مقصود ولا يمكن الاحتراز منه (5) .
أجيب عن هذا الاعتراض: بأنه لا مانع من تعليق النهي على السهو كتعليقه على العمد؛ إذ لا خلاف بينهما إلا في الإثم واستحقاق الوعيد (6) .
3 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة 1 \ 402، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 382 حديث رقم 538.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عن الكلام في الصلاة 1 \ 402 حديث رقم 1142، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383 حديث رقم 539 واللفظ له.
(3) سورة البقرة الآية 238 (2) {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
(4) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1 \ 444.
(5) انظر الحاوي 2 \ 180.
(6) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1 \ 444.(57/297)
«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (1) » .
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن الكلام بغير التسبيح والذكر وقراءة القرآن يبطل الصلاة مطلقا، سواء كان ذاكرا أو ناسيا (2) .
اعترض عليه: بأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه تكلم جاهلا، فلم تبطل صلاته ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بالإعادة، والناسي كالجاهل؛ فهما سواء في الحكم (3) .
4 - أنه كلام يبطل الصلاة إن طال، ولو كان النسيان فيه عذر لاستوى فيه الطويل والقصير، فلما لم يكن كذلك دل على أنه مبطل للصلاة كيف ما وقع، أصله الأكل والشرب (4) .
اعترض عليه: أن الكلام الطويل يقطع الخشوع دون القصير (5) .
5 - أنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة، فلم يسامح فيه بالنسيان قياسا على العمل الكثير من غير جنس الصلاة (6) .
أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يأتي:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.
(2) انظر: شرح معاني الآثار 1 \ 447.
(3) انظر: الحاوي 2 \ 180، والمغني 2 \ 446.
(4) انظر: المبسوط 1 \ 171، والبدائع 1 \ 234.
(5) انظر: الحاوي 2 \ 181.
(6) انظر: المغني 2 \ 446.(57/298)
1 - عموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) .
2 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (2) » .
فالآية والحديث يقتضيان رفع الخطأ والنسيان عن هذه الأمة، والمراد حكمهما.
اعترض عليه: بأن كلا من الآية والحديث محمول على كون الخطأ والنسيان عذرا في رفع الإصر والإثم لا غير (3) .
أجيب عنه: بأن رفع الخطأ والنسيان يقتضي رفع حكم كل منهما من الإثم وغيره (4) .
3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم (5) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب المكره والناسي 1 \ 659 حديث رقم 2045، وابن حبان وصححه. انظر: الإحسان 16 \ 202. والحاكم 2 \ 198 وقال: ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي في التلخيص 2 \ 198، وقال البوصيري: ((هذا إسناد جيد إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع)) ، وحسنه النووي، وصححه الألباني. انظر: مصباح الزجاجة 2 \ 126، والمجموع 6 \ 521، وصحيح سنن ابن ماجه 1 \ 348.
(3) انظر: المبسوط 1 \ 171، والبدائع 2 \ 234.
(4) انظر: الحاوي 2 \ 178.
(5) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له 2 \ 87، طبعة دار المعرفة.(57/299)
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم ناسيا معتقدا أنه قد فرغ من صلاته ثم لما ذكر بنى على صلاته وسجد للسهو، فلو كان إذا وقع عن سهو أبطل الصلاة لوجب عليه أن يستأنف صلاته (1) .
اعترض عليه: بأنه محمول على الحالة التي كان يباح فيها الكلام في هذه الصلاة، وهي ابتداء الإسلام، بدليل أن ذا اليدين وأبا بكر وعمر تكلموا عامدين لذلك، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاستئناف، مع أن الكلام العمد مفسد للصلاة بالإجماع (2) .
أجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو بعد سلامه، ولو كان الكلام مباحا لم يسجد لأجله، وأما كلام ذي اليدين فهو واقع على وجه السهو لظنه حدوث النسخ وقصر الصلاة من أربع إلى ركعتين (3) .
اعتراض آخر:
أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه منسوخ بحديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنهما - (4) .
أجيب عنه: بأن دعوى النسخ باطلة؛ لأنه لا خلاف بين أهل الحديث والسير أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه كان بمكة حين رجع من الحبشة قبل الهجرة، وأن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدينة، وإنما أسلم أبو هريرة عام خيبر سنة سبع من الهجرة بلا
__________
(1) انظر: الإشراف 1 \ 91، والحاوي 2 \ 178، والمغني 2 \ 446.
(2) انظر: المبسوط 1 \ 171، والبدائع 1 \ 234.
(3) انظر: الحاوي 2 \ 179، 180.
(4) انظر: المبسوط 1 \ 171، ونصب الراية 2 \ 68.(57/300)
خلاف (1) .
وأما حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه فليس فيه بيان أنه كان قبل حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولا بعده، والنظر أنه قبله (2) .
4 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (3) » .
وجه الدلالة:
أن معاوية تكلم جاهلا بالحكم، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وما عذر فيه بالجهل، عذر فيه بالنسيان (4) .
اعترض عليه: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الصلاة؛ لأن الحجة ما قامت عنده، بخلاف غيره (5) .
5 - أنه كلام على وجه النسيان فأشبه لفظ السلام سهوا قبل إتمام الصلاة (6) .
6 - أن الكلام مباح في غير الصلاة، فلم تبطل الصلاة بسهوه، قياسا على ما إذا أراد القراءة وسبق لسانه بالكلام (7) .
__________
(1) انظر التمهيد 1 \ 353، والمجموع 4 \ 87.
(2) انظر التمهيد 1 \ 355، والمجموع 4 \ 87.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.
(4) انظر: المجموع 4 \ 86، والمغني 2 \ 446.
(5) انظر: شرح معاني الآثار 1 \ 452.
(6) انظر الإشراف 1 \ 91، والمجموع 4 \ 86.
(7) انظر الحاوي 2 \ 180.(57/301)
7 - لأن سهو الكلام لا يمكن الاحتراز منه ولا يوقن مثله في القضاء؛ فسقطت في ذلك الإعادة، كالخطأ في وقوف الناس بعرفة في اليوم العاشر (1) .
أدلة أصحاب القول الثالث:
أولا: دليلهم على أن الكلام إن كان لإصلاح الصلاة لا يبطلها:
استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المشهور في قصة ذي اليدين رضي الله عنه حيث قال: «صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن (2) » . . . الحديث.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم هو وأصحابه لإصلاح الصلاة وبنوا صلاتهم على ذلك ولم يستأنفوا (3) .
ثانيا: دليلهم على أن الكلام لغير مصلحة الصلاة يبطلها:
استدلوا لذلك بعموم الأحاديث السابقة الدالة على تحريم كلام الآدميين في الصلاة، ومنها:
1 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس (4) » .
2 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قد
__________
(1) انظر الحاوي 2 \ 180.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له 2 \ 87، طبعة دار المعرفة.
(3) انظر: شرح الزركشي 2 \ 28.
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.(57/302)
يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله عز وجل قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة (1) » .
الراجح:
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها تبين لي - والعلم عند الله تعالى -: أن الكلام سهوا لا يبطل الصلاة، وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، وذلك لما يلي:
1 - عموم الأدلة الدالة على رفع الخطأ والنسيان عن هذه الأمة.
2 - صحة دلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشهور في قصة ذي اليدين، وهو نص في محل النزاع.
3 - أن دعوى نسخ حديث ذي اليدين دعوى غير صحيحة ولا تثبت بمجرد الاحتمال.
4 - أن حديث ذي اليدين أولى بالتقديم؛ لأنه متأخر (2) .
5 - أن المنسوخ عمد الكلام دون سهوه، ولا يثبت نسخه بخبر محتمل (3) .
6 - أن عدم وجود دليل معين لا يستلزم عدم المدلول؛ إذ لو سلم نسخ حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدال على أن كلام الناسي لا يفسد الصلاة، فقد دل على هذا الحكم أدلة أخرى (4) يجب الانقياد
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رد السلام 1 \ 568، والنسائي في كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة 3 \ 23، وصححه ابن حبان برقم 2243، انظر: الإحسان 6 \ 15. وحسنه النووي في المجموع 3 \ 104.
(2) انظر: التمهيد 1 \ 355، والحاوي 2 \ 180.
(3) انظر: الحاوي 2 \ 180.
(4) مثل حديث ((رفع عن أمي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) ، والأدلة الأخرى التي بمعناه.(57/303)
لها والأخذ بها - والله أعلم -.(57/304)
المبحث الخامس: حكم الكلام الأجنبي المتعمد لإصلاح الصلاة:
اختلف الفقهاء في حكم كلام من تكلم عمدا لمصلحة الصلاة - كأن يقوم الإمام إلى خامسة فيقول المأموم: قد صليت أربعا، ونحو ذلك - على قولين:
القول الأول: تبطل صلاته وعليه الإعادة. وبه قال جمهور الفقهاء: الحنفية (1) والمالكية في قول (2) ، والشافعية (3) والحنابلة في المذهب (4) .
القول الثاني: لا تبطل صلاته. وبه قال المالكية في المشهور (5) ، والحنابلة في رواية، وبه قال الأوزاعي (6) .
الأدلة:
أدلة الجمهور:
استدلوا بعموم الأحاديث الصحيحة الواردة في النهي عن الكلام في الصلاة، منها:
1 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) انظر: الهداية 1 \ 61، والمبسوط 1 \ 170، والبحر الرائق 2 \ 217.
(2) انظر: عقد الجواهر 1 \ 161.
(3) انظر: الحاوي 2 \ 182، والمجموع 4 \ 85.
(4) انظر المغني 2 \ 450، وشرح الزركشي 2 \ 25، والإنصاف 2 \ 134.
(5) انظر: المدونة 1 \ 133، وعقد الجواهر 1 \ 161، وقوانين الأحكام 82.
(6) المجموع 4 \ 85، والمغني 2 \ 450.(57/304)
«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (1) » .
2 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله عز وجل قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة (2) »
3 - حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، حيث قال بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) «أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (4) » .
وجه الدلالة:
دلت هذه الأحاديث بعمومها على تحريم جميع أنواع الكلام، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها (5) .
اعترض عليه: أن النهي عن الكلام في هذه الأحاديث خاص بالكلام الأجنبي المتعمد إذا كان لغير مصلحة الصلاة، أما إذا كان لمصلحتها فلا يبطلها، وأخرجه من هذا العموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين (6) .
4 - حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رد السلام 1 \ 568، والنسائي في كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة 3 \ 23، وصححه ابن حبان برقم 2243، انظر: الإحسان 6 \ 15. وحسنه النووي في المجموع 3 \ 104.
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) أخرجه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عن الكلام في الصلاة 1 \ 402 حديث رقم 1142، ومسلم في كتاب المساجد وموا ضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383 حديث رقم 539 واللفظ له.
(5) انظر: شرح النووي على مسلم 5 \ 21، والحاوي 2 \ 182.
(6) انظر: التمهيد 1 \ 348.(57/305)
«إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله (1) » .
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التنبيه بالتسبيح دون الكلام، ولو كان الكلام جائزا لمصلحة الصلاة لكان أسهل وأبين (2) .
5 - أنه خطاب آدمي في الصلاة على وجه العمد فوجب أن يبطلها، أصله ما ليس لمصلحة الصلاة (3) .
أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يأتي:
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين، حيث قال أبو هريرة: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا وفي القوم أبو بكر وعمر - فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس: أقصرت الصلاة؟ فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد (4) » . . . الحديث.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تكلموا في صلاتهم لإصلاحها، ثم بنوا على
__________
(1) أخرجه البخاري. انظر البخاري مع الفتح 3 \ 107.
(2) انظر الحاوي 2 \ 183، والمجموع 4 \ 85.
(3) انظر الحاوي 2 \ 183.
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له 2 \ 87، طبعة دار المعرفة.(57/306)
صلاتهم؛ وهذا دليل أن الكلام المتعمد لإصلاح الصلاة لا يبطلها (1) .
اعترض عليه: أن هذا خطاب وجواب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك غير مبطل للصلاة (2) .
2 - أنهم تكلموا لعدم كونهم على يقين من البقاء في صلاة؛ لأنهم كانوا مجوزين لنسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين (3) .
3 - أنه كلام أتي به قصدا للتنبيه وإصلاح الصلاة، فلم تبطل به الصلاة قياسا على التسبيح (4) .
4 - ولأنه كلام لم يقصد به التعمد الممنوع، فلا تبطل به صلاته، كالسهو (5) .
الراجح:
من خلال ما سبق بيانه من آراء الفقهاء وأدلتهم تبين لي أن من تكلم في صلاته عمدا لإصلاحها تبطل صلاته وعليه الإعادة وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ وذلك لما يلي:
1 - لقوة ما استدلوا به، وهو عموم الأحاديث الصحيحة الثابتة في النهي عن الكلام في الصلاة من غير تفريق بين أن يكون لمصلحتها أو لغير مصلحتها.
2 - أن السنة بينت ما يفعله من نابه شيء في صلاته، وهو التسبيح
__________
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1 \ 277، والمغني 2 \ 450.
(2) انظر: المجموع 4 \ 88.
(3) انظر: المجموع 4 \ 88.
(4) انظر: الإشراف 1 \ 91.
(5) انظر: الإشراف 1 \ 91.(57/307)
للرجال والتصفيق للنساء، ولا ينبغي العدول عن هذا إلى الكلام الذي ليس من جنس الصلاة.
3 - ولأن ما استدل به المخالف وإن كان صحيحا فإنه لا حجة فيه على صحة الكلام المتعمد لمصلحة الصلاة؛ لأنه يمكن حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على اعتقاده إتمام صلاته بدليل عدم تصديقه ذي اليدين في قوله.(57/308)
المبحث السادس: حكم الكلام الواجب في الصلاة:
اختلف الفقهاء في حكم صلاة من تكلم بكلام واجب في صلاته كإنقاذ الأعمى والطفل ونحو ذلك إلى قولين:
القول الأول: تبطل به الصلاة. وبه قال جمهور الفقهاء الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية في وجه (3) ، والحنابلة في المذهب (4) .
القول الثاني: لا تبطل به الصلاة. وبه قال الشافعية في الصحيح (5) ، والحنابلة في رواية (6) .
الأدلة:
استدل الجمهور بالأحاديث السابقة الواردة في النهي عن الكلام من غير فرق بين الكلام الواجب وغيره، كحديث معاوية بن الحكم،
__________
(1) انظر: المبسوط 1 \ 170، والبحر الرائق 2 \ 218.
(2) انظر: عقد الجواهر 1 \ 161، والخرشي 1 \ 330.
(3) وصححه الرافعي، انظر: المهذب 1 \ 291، والمجموع 4 \ 82.
(4) انظر: المغني 2 \ 448، والإنصاف 2 \ 136.
(5) انظر: المهذب 1 \ 291، والمجموع 4 \ 82، والروضة 1 \ 291.
(6) انظر: الفروع 1 \ 487، والإنصاف 2 \ 136.(57/308)
وحديث عبد الله بن مسعود، وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنهم (1) .
أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا:
1 - بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين، قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا وفي القوم أبو بكر وعمر - فهابا أن يتكلما - وخرج سرعان الناس: أقصرت الصلاة؟ فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر (2) » . . . الحديث.
وجه الدلالة:
1 - أن القوم كلموا النبي صلى الله عليه وسلم حين كلمهم؛ لأن إجابته صلى الله عليه وسلم واجبة ولو في الصلاة، فلم تبطل صلاتهم بذلك الكلام الواجب عليهم، فكذلك هاهنا؛ لوجوب الكلام في كل منهما (3) .
2 - ولأنه تكلم بكلام واجب عليه أشبه كلام المجيب للنبي صلى الله عليه وسلم (4) .
__________
(1) انظر: الحاوي 2 \ 182.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أبواب المساجد، باب تشبيك الأصابع في المسجد 1 \ 182، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له 1 \ 403 حديث رقم 573 واللفظ له.
(3) انظر: المغني 2 \ 449.
(4) انظر: المهذب 2 \ 291 والمغني 2 \ 449.(57/309)
الراجح:
من خلال عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم يتضح أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الكلام المتعمد في الصلاة يبطلها سواء كان واجبا أو غير واجب - هو القول الراجح، وذلك لما يلي:
1 - لقوة ما استدلوا به، وهو عموم الأحاديث السابقة الدالة على تحريم كلام الآدميين في الصلاة مطلقا، سواء كان لمصلحتها أو لغير مصلحتها، وسواء كان واجبا أو غير واجب.
2 - ولأن القياس الذي استدل به المخالف قياس مع الفارق؛ لأن الكلام في الصلاة لإنقاذ الأعمى ونحوه لم يجب علينا، بخلاف الكلام الواجب لإجابة النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) انظر: الفروع 1 \ 487، والإنصاف 2 \ 137.(57/310)
المبحث السابع: حكم رد السلام في الصلاة:
اتفق الفقهاء على بطلان صلاة من سلم عليه في صلاته ورد السلام بالكلام (1) .
ودليل ذلك:
1 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة - فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة شغلا (2) » .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 237، والمدونة 1 \ 99، والمجموع 3 \ 104، والمغني 2 \ 460.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة 1 \ 402، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 382 حديث رقم 538.(57/310)
2 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي (1) » .
3 - ولأنه كلام آدمي فيكون ممنوعا قياسا على تشميت العاطس (2) .
واختلفوا في حكم رد السلام بالإشارة إلى قولين:
القول الأول: يكره للمصلي رد السلام بالإشارة وهو في الصلاة. وبه قال الحنفية (3) .
القول الثاني: يشرع للمصلي رد السلام بالإشارة بيده أو برأسه، وإن شاء رد عليه باللفظ بعد فراغه من الصلاة. وبه قال جمهور الفقهاء من المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) .
الأدلة:
أولا: استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة شغلا (7) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب لا يرد السلام في الصلاة 1 \ 407 واللفظ له، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383 حديث رقم 540.
(2) انظر: المغني 2 \ 460.
(3) انظر: الهداية 1 \ 64، وبدائع الصنائع 1 \ 237.
(4) انظر المدونة 1 \ 99، وقوانين الأحكام الشرعية 83.
(5) انظر: المجموع 4 \ 103، والروضة 1 \ 292.
(6) انظر: المغني 2 \ 460، والمبدع 1 \ 513.
(7) صحيح البخاري الجمعة (1199) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (538) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1019) ، مسند أحمد بن حنبل (1/409) .(57/311)
وجه الدلالة:
دل الحديث بعمومه على منع رد السلام في الصلاة مطلقا، سواء كان باللفظ أو بالإشارة، وإلا لاستثنيت (1) .
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد لها (2) » -يعني الصلاة-.
3 - أن الإشارة كلام معنى (3) .
4 - أنها تفضي إلى ترك سنة وضع اليد في الصلاة وهي الكف (4) .
ثانيا: أدلة الجمهور: استدلوا بما يأتي:
1 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني لحاجة ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني فقال: إنك سلمت آنفا وأنا أصلي (5) » .
2 - حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء ليصلي فيه، فدخل عليه رجال يسلمون عليه، فسألت صهيبا وكان معه: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا سلم عليه؟ قال:
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 237.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة 1 \ 581، وقال: هذا الحديث وهم.
(3) انظر: الهداية 1 \ 64.
(4) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 237.
(5) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 383.(57/312)
كان يشير بيده (1) » .
3 - حديث صهيب رضي الله عنه قال: «مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة (2) » .
أما دليلهم على جواز تأخير رد السلام إلى ما بعد الانتهاء من الصلاة: فحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فلم يرد السلام فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة (3) » فرد عليه السلام.
الراجح:
من خلال ما سبق بيانه من آراء الفقهاء وأدلتهم يتبين أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من مشروعية رد السلام بالإشارة في الصلاة هو القول الراجح، وذلك لما يلي:
1 - صحة دلالة السنة الصحيحة الصريحة على ذلك.
2 - أن ما ذهب إليه المخالف مخالف لما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، إذ إنه
__________
(1) أخرجه النسائي كتاب السهو، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة 3 \ 9، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد 1 \ 325، حديث رقم (1017) ، وصححه ابن خزيمة 2 \ 49 والترمذي في علله الكبرى 1 \ 249.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب رد السلام في الصلاة 1 \ 568، والنسائي في كتاب السهو، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة 3 \ 9 والترمذي، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة 2 \ 203 حديث رقم 367، وصححه ابن حبان، انظر: الإحسان 6 \ 33.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رد السلام 1 \ 568، والنسائي في كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة 3 \ 23، وصححه ابن حبان برقم 2243، انظر: الإحسان 6 \ 15. وحسنه النووي في المجموع 3 \ 104.(57/313)
- عليه الصلاة والسلام - سن للمصلي أن يرد السلام بالإشارة (1) .
3 - أن ما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه يحمل على نفي الرد بالكلام دون الإشارة جمعا بين الأدلة.
4 - ضعف ما استدل به المخالف من المعقول لمعارضته للنقل الصحيح. والله أعلم.
__________
(1) انظر: الأوسط 3 \ 253.(57/314)
المبحث الثامن: حكم تحميد العاطس وتشميته في الصلاة:
أما تحميد العاطس فاتفق فقهاء المذاهب الأربعة - في المعتمد عندهم - على أنه يكره التلفظ به ولا مانع من أن يحمد في نفسه سرا.
قالوا: لأنه ليس من أذكار الصلاة المعتادة فيها فأشبه الكلام (1) .
أما جوازه سرا فلأنه من جنس أذكار الصلاة مشروع فيها بالجملة (2) .
وذهب بعض العلماء، كأبي يوسف من الحنفية (3) ، وأحمد في رواية (4) ، واختاره ابن العربي المالكي (5) ، وابن حجر (6) ، إلى أن العاطس يحمد الله بغير كراهية.
__________
(1) انظر: الذخيرة 2 \ 143.
(2) انظر: كشاف القناع 1 \ 443، والمبدع 1 \ 187.
(3) انظر: فتح القدير 1 \ 283.
(4) انظر: كشاف القناع 1 \ 443.
(5) انظر: عارضة الأحوذي 2 \ 195.
(6) انظر: فتح الباري 2 \ 287.(57/314)
واستدلوا بحديث رفاعة بن رافع، حيث قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد ثم قالها الثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: من المتكلم في الصلاة؟ وفي رواية: من القائل الكلمة فإنه لم يقل بأسا؟ فقال رفاعة بن رافع ابن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ قال: قلت: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها (1) » .
قال ابن حجر: " يدل الحديث على أن العاطس يحمد الله بدون كراهية " (2) .
وقال ابن العربي: " إن ابتدار الملائكة لحمد العاطس كما في الحديث هو لاستحسانهم إياه، وإلا لما كتبوه ولا بلغت عرش الرحمن، فما كان بهذه الصفة لا يكره أن يؤتى في الصلاة (3) ، ولأنه دعاء الله عز وجل
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء 1 \ 489، 490، والنسائي في كتاب الافتتاح، باب قول المأموم إذا عطس خلف الإمام 2 \ 483، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يعطس في الصلاة 2 \ 254، 255، وقال حديث حسن.
(2) انظر: فتح الباري 2 \ 287.
(3) انظر: عارضة الأحوذي 2 \ 195.(57/315)
لأمر عارض ولحاجة نزلت فلا يكره أن يؤتى به في الصلاة " (1) .
قلت: وما دل عليه الحديث من أن العاطس في الصلاة يحمد الله بدون كراهية هو الأقرب إلى الصواب - والله أعلم -.
وأما تشميت العاطس في الصلاة فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:
القول الأول: تبطل الصلاة به، أي صلاة المشمت. وبه قال جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في الصحيح (2) والحنابلة في المذهب (3) .
القول الثاني: لا تبطل به الصلاة. وبه قال أبو يوسف من الحنفية (4) وهو قول للإمام الشافعي (5) ورواية عن الإمام أحمد (6) .
الأدلة:
استدل الجمهور بما يلي:
1 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه: «إن هذه الصلاة
__________
(1) انظر: عارضة الأحوذي 2 \ 195.
(2) انظر: المهذب 1 \ 292، والحاوي 2 \ 83، والمجموع 4 \ 84.
(3) انظر: الفروع 1 \ 480، وكشاف القناع 1 \ 378.
(4) انظر: تبيين الحقائق 1 \ 156.
(5) انظر: المهذب 1 \ 292.
(6) انظر: الإنصاف 2 \.(57/316)
لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (1) » .
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الكلام في الصلاة، والتشميت كلام، فلا يصلح فيها (2) .
2 - أن قول المشمت: يرحمك الله، وضع لمخاطبة الآدمي، فتبطل الصلاة بذلك قياسا على ما لو رد السلام قولا، أو قال: أطال الله بقاءك (3) .
أدلة القول الثاني: استدلوا بما يلي:
أن تشميت العاطس دعاء له بالرحمة، فلا يبطل الصلاة، كما لو دعا لأبويه بالرحمة في الصلاة (4) .
الراجح:
ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن تشميت العاطس يبطل الصلاة مطلقا هو الراجح في هذه المسألة، وذلك لما يلي:
1 - دلالة السنة الصحيحة على ذلك.
2 - أن المراد من عدم صلاحية كلام الناس في الصلاة عدم صحة الصلاة التي يقع فيها ذلك الكلام ومنه تشميت العاطس (5) .
3 - أن قول المشمت للعاطس: " يرحمك الله " وإن كان دعاء إلا أن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.
(2) انظر: بدائع الصنائع 1 \ 235، وعارضة الأحوذي 2 \ 195.
(3) انظر: الهداية 1 \ 62، والمهذب 1 \ 292.
(4) انظر: المهذب 1 \ 292، وتبيين الحقائق 1 \ 156.
(5) انظر: سبل السلام 1 \ 285.(57/317)
النبي صلى الله عليه وسلم جعله من كلام الناس الذي يجب تركه في الصلاة (1) .
__________
(1) تعليق سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - على فتح الباري 2 \ 287.(57/318)
المبحث التاسع: حكم التسبيح والفتح على الإمام في الصلاة:
اتفق الفقهاء على أن التسبيح مشروع في الصلاة لمن نابه شيء منها، كسهو الإمام وأراد أن يعلمه بسهوه، أو كلمه أحد وهو في الصلاة وأراد أن يعلمه أنه في صلاة.
ودليل ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نابه شيء في صلاته فليسبح الرجال ولتصفق النساء (1) » . فالحديث بعمومه يدل على مشروعية التسبيح للرجال لمن نابه شيء في صلاته والتصفيق للنساء.
أما إذا وقع التسبيح جوابا لمن رأى شيئا أعجبه فاختلفوا في حكمه على قولين:
القول الأول: تبطل به الصلاة. وبه قال الحنفية (2) والحنابلة في رواية (3) .
القول الثاني: لا تبطل به الصلاة. وبه قال جمهور الفقهاء من المالكية (4) والشافعية (5) والحنابلة في
__________
(1) أخرجه البخاري. انظر البخاري مع الفتح 3 \ 107.
(2) انظر: المبسوط 1 \ 200، وبدائع الصنائع 1 \ 235.
(3) انظر: الإنصاف 2 \ 102.
(4) انظر: المدونة 1 \ 100، والإشراف 1 \ 89.
(5) انظر: المجموع 4 \ 82، وروضة الطالبين 1 \ 291.(57/318)
المذهب (1) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
1 - بعموم حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه السابق، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس (2) » . . . الحديث.
وجه الدلالة منه:
قالوا: الحديث يدل على أن ما خرج مخرج الجواب واحتمله يجعل كلاما ولو كان بصيغة الذكر (3) .
2 - ولأنه قصد بتسبيحه التعجب فكان متعجبا لا مسبحا؛ لأن الكلام مبني على غرض المتكلم (4) .
أدلة القول الثاني: استدلوا بما يلي:
1 - بعموم حديث سهل بن سعد رضي الله عنه السابق.
2 - حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه السابق.
فدلا على أن التسبيح لا يقطع الصلاة مطلقا (5) .
ولأن ما لا يبطل الصلاة ابتداء لا يبطلها إذا أتي به عقب سبب
__________
(1) انظر: المغني 2 \ 457، والإنصاف 2 \ 102.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 381، 382 حديث رقم 537.
(3) انظر: الهداية 1 \ 62.
(4) انظر: المبسوط 1 \ 201.
(5) انظر: الأوسط 3 \ 240.(57/319)
أصله التسبيح لتنبيه إمامه (1) .
الراجح:
من خلال عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم يتضح أن قول الجمهور بأنه لا يبطل الصلاة هو القول الراجح، وذلك لما يلي:
1 - لقوة ما استدلوا به، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الذي دل بعمومه على أن من نابه شيء في صلاته فيشرع له التسبيح.
2 - ولأن النهي عن الكلام لا يشمل التسبيح الواقع جوابا. والله أعلم.
أما فتح المأموم على إمامه إذا ارتج عليه فذهب فقهاء المذاهب الأربعة في المعتمد عندهم إلى أنه مشروع، ولا يعد من الكلام الذي تفسد به الصلاة.
ودليل ذلك:
1 - حديث المسور بن يزيد الأسدي رضي الله عنه قال: «شهدت
__________
(1) انظر: المغني 2 \ 458.(57/320)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئا لم يقرأه، فقال رجل: يا رسول الله، تركت آية كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا أذكرتنيها (1) » .
2 - حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبي رضي الله عنه: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟ (2) » .
3 - وبما أثر عن علي رضي الله عنه قال: إذا استطعمك الإمام فأطعمه (3) .
4 - وبما أثر عن أنس رضي الله عنه قال: «كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) » .
5 - ولأنه تنبيه فيها بما هو مشروع أشبه التسبيح (5) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الفتح على الإمام 1 \ 558، وابن خزيمة وصححه 3 \ 73 برقم 1648، وقال النووي: إسناده جيد. انظر: المجموع 4 \ 241.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام 1 \ 558، وابن حبان وصححه. انظر: الإحسان 6 \ 13، وقال: الخطابي: إسناده جيد. وقال النووي: إسناده صحيح كامل الصحة. انظر: معالم السنن 1 \ 558، والمجموع 4 \ 241.
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2 \ 143، وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير 1 \ 303.
(4) أخرجه الحاكم 1 \ 276 وصححه ووافقه الذهبي.
(5) انظر: المبدع 1 \ 487.(57/321)
الفصل الثاني:
المبحث الأول: حكم الضحك في الصلاة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في حكم التبسم في الصلاة.
المطلب الثاني: في حكم القهقهة في الصلاة.
المطلب الأول: حكم التبسم في الصلاة:
التبسم هو أقل الضحك وأحسنه (1) .
والفرق بينه وبين الضحك هو أن الضحك هو أن يسمعها هو لا غير، والتبسم ما لا يسمعه هو ولا غيره، والضحك قهقهة هو أن يسمعها جاره، تقول: قهقه رجع في ضحكه أو اشتد ضحكه، فإذا كرره قيل: قهقه (2) .
هذا بالنسبة للمعنى. أما بالنسبة للحكم الشرعي:
فأولا: حكم التبسم في الصلاة:
فمن روي عنه أن التبسم لا يقطع الصلاة جابر بن عبد الله وعطاء ابن أبي رباح، ومجاهد، والنخعي، وقتادة، والحسن البصري، والأوزاعي (3) . وبه قال الأئمة الأربعة.
قال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم غير ابن
__________
(1) انظر: القاموس المحيط، مادة: بسم، تقول: بسم يبسم بسما وتبسم.
(2) انظر: القاموس المحيط، مادة: قهقه، 1616، والاختيار 1 \ 11.
(3) الأوسط 3 \ 254، والمغني 2 \ 451.(57/322)
سيرين على أن التبسم في الصلاة لا يفسدها " (1) .
وقال ابن قدامة: (وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها - أي لا يفسد الصلاة -) (2) .
وقال النووي: (قال أكثر العلماء: لا بأس بالتبسم) (3) .
والحجة لما ذهب إليه ابن سيرين هو ما ذكر ابن المنذر حيث قال: (وروينا عن ابن سيرين أنه قرأ: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (4) وقال: لا أعلم التبسم إلا ضحكا) (5) .
أما الحجة لما ذهب إليه أكثر أهل العلم - من أن التبسم لا يقطع الصلاة -:
1 - فما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: " لا يقطع الصلاة التبسم " (6) .
2 - أنه لا يفسد الصلاة لخفته (7) ، ولأنه عمل يسير.
قلت: الراجح هو أن التبسم لا يقطع الصلاة، كما ذهب إليه أكثر أهل العلم؛ لما تقدم.
__________
(1) الأوسط 3 \ 253.
(2) المغني 2 \ 451.
(3) المجموع 4 \ 89.
(4) سورة النمل الآية 19
(5) الأوسط 3 \ 254.
(6) مصنف عبد الرزاق 2 \ 387، ومصنف ابن أبي شيبة 1 \ 387.
(7) الذخيرة 2 \ 143.(57/323)
المطلب الثاني: حكم الضحك قهقهة في الصلاة:
قال ابن المنذر: (أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة) (1) .
وقال ابن قدامة: " إن ضحك فبان منه حرفان فسدت صلاته " (2) ، وكذلك إن قهقه وإن لم يبن منه حرفان، قال ابن قدامة: (ولا نعلم فيه مخالفا - أي: في القهقهة ولو لم يبن منه حرفان -) (3) .
وقال النووي: " التبسم لا يضر وكذا الضحك إن لم يبن منه حرفان، فإن بان منه بطلت. قال النووي: نقل ابن المنذر الإجماع على بطلانها بالضحك وهو محمول على من بان منه حرفان) (4) .
وفي الأصل لمحمد بن الحسن: " قلت: فإن ضحك، قال: إن كان الضحك دون القهقهة مضى في صلاته، وإن كان قهقهة استقبل الوضوء والصلاة) (5) .
وفي الهداية: والقهقهة بمنزلة الكلام وهو قاطع - أي للصلاة - (6) .
وفي المدونة: قال مالك فيمن قهقه وهو في الصلاة: يقطع (7) .
وفي الذخيرة: القهقهة تبطل عمدها وسهوها وغلبتها (8) .
__________
(1) الأوسط 3 \ 254.
(2) المغني 2 \ 451.
(3) المغني 2 \ 451.
(4) المجموع 4 \ 89.
(5) 1 \ 170.
(6) الهداية 1 \ 59.
(7) 1 \ 98.
(8) 2 \ 142.(57/324)
قلت: فظهر مما تقدم أن القهقهة تفسد الصلاة بالإجماع.
قال ابن هبيرة: (أجمعوا على أن القهقهة في الصلاة تبطلها) (1) .
والحجة في أن القهقهة تبطل الصلاة:
1 - الإجماع كما تقدم.
2 - ما روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء (2) » رواه الدارقطني في سننه (3) ، والصحيح وقفه.
3 - أنها كالكلام بل أشد (4) .
4 - أن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة وتنافي الخشوع الواجب، وفيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما ينافي مقصودها، فأبطلت الصلاة لذلك (5) .
إذا فالضحك إن كان تبسما لم يبطل الصلاة على الصحيح، وهو قول أكثر أهل العلم، وإن كان الضحك قهقهة أبطل الصلاة بالإجماع
__________
(1) الإفصاح 1 \ 82.
(2) قال الإمام أحمد: ليس في الضحك حديث صحيح. وقال الذهلي: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك في الصلاة خبر. انظر: مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص 13، والتلخيص الحبير 1 \ 115، وسنن الدارقطني 1 \ 172 وما بعدها، وسنن البيهقي 1 \ 148، وتنقيح التحقيق 1 \ 495، ونصب الراية \ 47 - 51، وإرواء الغليل 1 \ 114.
(3) 1 \ 173.
(4) الهداية 1 \ 59، والذخيرة 2 \ 142.
(5) مجموع الفتاوى 22 \ 617.(57/325)
كما تقدم؛ وبقي إن كان بين التبسم والقهقهة، أي ليس تبسما ولا قهقهة، والذي يظهر لي أنه يلحق بالأقرب منهما، والله أعلم.(57/326)
المبحث الثاني: حكم التنحنح في الصلاة:
إن كان التنحنح لضرورة جاز ولم يبطل الصلاة باتفاق المذاهب الأربعة، أما إن كان لغير ضرورة أو حاجة تدعو إلى ذلك فقد اختلف فيها العلماء على قولين:
أحدهما: أن النحنحة لا تبطل الصلاة، وهو قول أبي يوسف وأحد قولي مالك، وأحمد في رواية عنه، والشافعية في وجه.
الثاني: أن النحنحة تبطل الصلاة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن إن حصل بالتنحنح حروف، وهو أحد قولي مالك، والأصح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة إن بان منه حرفان.
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
1 - حديث علي رضي الله عنه قال: «كانت لي ساعة في السحر أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان في صلاته تنحنح فكان ذلك إذني،(57/326)
وإن لم يكن في صلاته أذن لي (1) » .
فالحديث دل على أن التنحنح في الصلاة غير مفسد (2) .
واعترض على هذا الدليل: بأن الحديث ضعيف. قال النووي - بعدما أورد الحديث -: " وهو حديث ضعيف لضعف راويه، واضطراب إسناده، ومتنه ضعفه البيهقي وغيره ".
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأن الحديث صححه ابن خزيمة (3) ، وابن السكن (4) ، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني ما يدل على أن الحديث ثابت.
__________
(1) رواه أحمد في المسند 1 \ 77، والنسائي في سننه 3 \ 12، وابن ماجه في سننه 2 \ 1222، والبيهقي في سننه 2 \ 247، وابن خزيمة في صحيحه 1 \ 54.
(2) نيل الأوطار 2 \ 323.
(3) صحيح ابن خزيمة 1 \ 54.
(4) ذكره الشوكاني في نيل الأوطار 2 \ 323.(57/327)
2 - أنها لا تبطل الصلاة؛ لأنها ليست كلاما والحاجة تدعوا إليها (1) .
أدلة القول الثاني:
1 - عموم النهي عن الكلام في الصلاة، والنحنحة إن بأن منها حرفان فهي كلام فتبطل الصلاة.
2 - أنه ليس من جنس أذكار الصلاة فأشبه القهقهة (2) .
واعترض على الاستدلال الأول: بأن النحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلا؛ فإنها لا تدل بنفسها ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلما وإنما يفهم مراده بقرينة فصارت كالإشارة (3) .
واعترض على القياس على القهقهة بأنه قياس مع الفارق لأمرين:
أحدهما: أن القهقهة تدل على معنى بالطبع. والثاني: عدم التسليم بأنها أبطلت لكونها كلاما، وإنما أبطلت الصلاة بالإجماع ولكونها تنافي مقصود الصلاة (4) الراجح:
الراجح - فيما ظهر لي - هو القول الأول لقوة ما استدل به.
__________
(1) المغني 2 \ 452.
(2) مجموع الفتاوى 22 \ 617.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 22 \ 617.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 22 \ 617.(57/328)
المبحث الثالث: حكم النفخ (1) في الصلاة:
اختلف العلماء في النفخ في الصلاة على قولين:
أحدهما: أن النفخ لا يبطل الصلاة. وهو قول أبي يوسف، وإسحاق، ومالك في رواية، وأحمد في رواية عنه، وروي عن ابن مسعود وابن عباس والنخعي، وابن سيرين. وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (2) .
الثاني: أن النفخ يبطل الصلاة. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، ومالك في رواية عنه، وأحمد في رواية عنه وهي المذهب، وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين، عند الشافعية والحنابلة، أما الحنفية فيرون أنه إن سمع فهو بمنزلة الكلام - أي مبطل - وإلا فلا يضر.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1 - ما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال -:
__________
(1) النفخ في أصل اللغة: إخراج الريح من الفم. القاموس المحيط مادة '' نفخ '' 334.
(2) مجموع الفتاوى 22 \ 618.(57/329)
ثم نفخ في سجوده فقال: أف أف (1) » .
وجه الدلالة:
حيث جاء لفظ أف في الحديث، فدل على جواز ذلك وأنه لا يبطل الصلاة (2) .
2 - ما روى المغيرة بن شعبة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الكسوف فجعل ينفخ، فلما انصرف قال: إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي (3) » . رواه أحمد.
واعترض على الاستدلال بالحديثين بما يلي:
1 - أنها واقعة حال، لا عموم لها، فيجوز كونها قبل تحريم الكلام في الصلاة (4) ، أو فعله خوفا من الله أو من النار، فإن ذلك لا يبطل كالتأوه والأنين (5) .
وأجيب عن هذا الاعتراض بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (الجوابان ضعيفان. أما الأول فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها المقوقس بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح
__________
(1) رواه أحمد في المسند 2 \ 188، وأبو داود في سننه 1 \ 310، 311، والنسائي في سننه 3 \ 137، والبخاري تعليقا - البخاري مع الفتح 3 \ 83، وصححه ابن خزيمة 1 \ 53، والألباني في إرواء الغليل 1 \ 224.
(2) نيل الأوطار 2 \ 323.
(3) المسند 2 \ 245.
(4) شرح فتح القدير 1 \ 397.
(5) مجموع الفتاوى 2 \ 323.(57/330)
الحديبية، فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين، لا سيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام؛ لأن أبا هريرة شهدها، كيف يجوز أن يقال مثل هذا في صلاة الكسوف، بل قد قيل: إن الشمس كسفت بعد حجة الوداع قبل موته بقليل. وأما كونه من الخشية ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه؛ وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج، كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه، أو ينفخ في الشراب، ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين وليس هذا ذاك) (1) .
3 - عن الأبرش قال: حدثني أيمن بن نايل قال: قلت لقدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نتأذى بريش الحمام في مسجد الحرام إذا سجدنا، فقال: انفخوا (2) .
دل هذا الأثر المروي عن هذا الصحابي أن النفخ أثناء الصلاة لا يبطلها.
أدلة القول الثاني:
1 - أن النفخ إذا انتظم حرفين أفسد الصلاة؛ لأنه كلام، والكلام مبطل للصلاة، لعموم النهي عنه في الصلاة، وسواء أفهم الكلام أو لم يفهم؛ لأن الكلام يقع على المفهم وغيره.
واعترض على هذا الدليل بمنع كون النفخ من الكلام لما عرف أن
__________
(1) مجموع الفتاوى 22 \ 620.
(2) رواه البيهقي 2 \ 253.(57/331)
الكلام مركب من الحروف المعتمدة على المخارج ولا اعتماد في النفخ، ولو سلم صدق اسم الكلام على النفخ لكان فعله صلى الله عليه وسلم لذلك في الصلاة مخصصا لعموم النهي عن الكلام (1) .
2 - ما روي عن ابن عباس أنه قال: من نفخ في الصلاة فقد تكلم.
3 - وبما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: النفخ في الصلاة كلام (2) .
قلت: واعترض على الاستدلال المروي عن ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم - بما قاله ابن المنذر بأنه لا يثبت عن ابن عباس وأبي هريرة أن النفخ بمنزلة الكلام (3) ، ولو ثبت ذلك عنهما فإنه يكون معارضا بما روي عن عبد الله بن عمار الكلابي لما سئل إنا نتأذى بريش الحمام إن سجدنا، فقال: انفخوا وقد تقدم هذا الأثر في أدلة القول الأول.
الراجح:
الذي يظهر لي رجحانه هو القول الأول: أن النفخ لا يبطل الصلاة؛ لقوة ما استدلوا به، ولأن الصلاة صحيحة بيقين فلا يجوز إبطالها بالشك (4) .
__________
(1) انظر: الأوسط 3 \ 247، ومجموع الفتاوى 22 \ 619، ونيل الأوطار 2 \ 323.
(2) مصنف عبد الرزاق 2 \ 189.
(3) الأوسط 3 \ 247.
(4) مجموع الفتاوى 22 \ 622.(57/332)
المبحث الرابع: حكم البكاء والأنين والتأوه في الصلاة:
المطلب الأول: فيما إذا غلبت على المصلي.
إذا غلبت هذه الأمور على المصلي فإنها لا تبطل صلاته في قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتأوه فالصحيح عند جمهور العلماء أنه لا يبطل وهو منصوص أحمد وغيره) (1) .
والدليل على أنها لا تبطل الصلاة:
أنها إذا غلبت تكون غير داخلة في وسع الإنسان إذ لا يمكنه دفعها (2) . والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
المطلب الثاني:
إن كانت لم تغلب على المصلي لكن كانت لخشية الله. فقد اختلف فيها العلماء على قولين:
الأول: أنها لا تبطل الصلاة وهو قول أبي حنيفة ومالك، وأحمد في
__________
(1) مجموع الفتاوى 22 \ 623.
(2) الروض المربع 2 \ 158.(57/333)
الصحيح من المذهب.
القول الثاني: أن الصلاة تبطل إن بان منه حرفان. وهو قول الشافعية في الأصح ورواية عند الحنابلة.
أدلة القول الأول: استدلوا بما يلي:
1 - قول الله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1) حيث مدح الله الباكين (2) .
2 - عن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز، من البكاء (4) » ، وفي رواية عند أبي داود: «كأزيز الرحى (5) » .
__________
(1) سورة مريم الآية 58
(2) المغني 2 \ 453.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4 \ 25، 26، وأبو داود في سننه 1 \ 238، والنسائي في سننه 3 \ 13. قال ابن حجر: ((إسناده قوي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم)) . انظر: فتح الباري 2 \ 206، وصححه ابن خزيمة 2 \ 53، وموارد الظمآن 139 حديث رقم 522.
(4) (3) كأزيز المرجل
(5) سنن أبي داود 1 \ 238.(57/334)
وجه الدلالة من الحديث:
يدل الحديث على أن البكاء من خشية الله لا يبطل الصلاة (1) .
3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له: الصلاة، قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، فقال: مروه فليصل، فعاودته، فقال: مروه فليصل، إنكن صواحب يوسف (2) » .
فالحديث يدل على جواز البكاء في الصلاة، ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صمم على استخلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز (3) .
4 - قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (4) .
دل هذا الأثر على جواز البكاء في الصلاة (5) .
5 - دلت الأدلة المتقدمة على جواز البكاء والأنين والتأوه بمعناه (6) .
__________
(1) نيل الأوطار 2 \ 325.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: صحيح البخاري مع الفتح 2 \ 206.
(3) فتح الباري 2 \ 206، ونيل الأوطار 2 \ 325.
(4) سورة يوسف الآية 86
(5) فتح الباري 2 \ 206.
(6) انظر: المغني 2 \ 454.(57/335)
دليل القول الثاني:
أنه من جنس كلام الآدميين فيبطل الصلاة سواء كان للدنيا أو للآخرة (1) .
الراجح:
الذي يظهر لي رجحانه هو القول الأول لما تقدم من أدلة، ولأن البكاء وما في معناه إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه. وهذا خوف الله في الصلاة، ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة فإنه لو صرح بمعناه كان كلاما مبطلا (2) .
المطلب الثالث: إذا فعل البكاء والأنين والتأوه مختارا، ولم يكن لخشية الله. فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: أنها تبطل الصلاة وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ومالك في رواية والشافعي في الأصح وأحمد في رواية هي المذهب.
الثاني: أنها لا تبطل الصلاة وهو قول أبي يوسف، ومالك في رواية عنه، وأحمد في رواية عنه، وقد رجح شيخ الإسلام هذا القول حيث قال: (وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقا على أصله،
__________
(1) انظر: الروض المربع 2 \ 158.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 22 \ 622، 623.(57/336)
وهو أصح الأقوال في هذه المسألة) (1) .
الدليل للقول الأول:
1 - عموم النهي عن الكلام، ولم يرد في الأنين والتأوه ما يخصهما ويخرجهما من العموم (2) .
2 - ولأن البكاء والأنين والتأوه إذا كان من غير خشية لله يكون إظهارا للجزع والتأسف فكان من كلام الناس فيقطع الصلاة (3) .
الدليل للقول الثاني:
1 - أنه ليس من جنس الكلام ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل (4) .
2 - ولأنه لا يخلو مريض أو ضعيف من ذلك في الصلاة (5) .
واعترض على دليل القول الأول بأن الإبطال - أي إبطال الصلاة بهذه الأمور - إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك؛ فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة شغلا (6) » .
وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس، ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها
__________
(1) مجموع الفتاوى 22 \ 621.
(2) انظر: المغني 2 \ 453، 454.
(3) الهداية 1 \ 61.
(4) فتح الباري 2 \ 206.
(5) مختصر، اختلاف العلماء 309.
(6) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة 1 \ 402، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة 1 \ 382 حديث رقم 538.(57/337)
صوتا. وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل ولا نظير. . . وأيضا فالصلاة صحيحة بيقين فلا يجوز إبطالها بالشك (1) .
والراجح: هو القول الثاني لقوة ما استدلوا به.
قال الحافظ ابن حجر - بعد ما ذكر الأوجه عند الشافعية - قال: (والوجه الثاني أقوى دليلا - ويقصد بالوجه الثاني أنها لا تبطل الصلاة -) (2) .
قلت: ويظهر لي مما تقدم في المباحث الثاني، والثالث، والرابع من الفصل الثاني أن النحنحة، والنفخ، والبكاء، والأنين، والتأوه وما في معناها لا تبطل الصلاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن اللفظ على ثلاث درجات:
أحدها: أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه وإما مع لفظ غيره كـ: في، وعن، فهذا الكلام مثل: يد، ودم، وفم، وجد.
الثاني: أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه، والأنين، والبكاء، ونحو ذلك - وذكر من هذا النوع النفخ أيضا -.
الثالث: أن لا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع كالنحنحة، ثم ذكر - رحمه الله - الأقوال في هذا والأدلة إلى أن قال: وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعا أنها لا تبطل؛ فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير لا يبطل فالصوت اليسير لا يبطل) (3) اهـ.
__________
(1) مجموع الفتاوى 22 \ 623.
(2) انظر: فتح الباري (2 \ 206) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى 22 \ 616 - 624.(57/338)
الخاتمة:
وتتضمن أهم النتائج التي توصلت إليها من هذا المبحث وأجملها في النقاط التالية:
1 - أن الكلام الأجنبي المتعمد في الصلاة يبطلها وسواء أكان لمصلحتها أم لا، وسواء أكان واجبا أم غير واجب.
2 - أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة.
3 - أن الأحوط للمكره على الكلام في الصلاة إعادة صلاته.
4 - أن الكلام في الصلاة سهوا لا يبطلها.
5 - جواز رد السلام في الصلاة بالإشارة.
6 - أن تحميد العاطس وتشميته يبطل الصلاة.
7 - أنه يجوز الفتح على الإمام إذا ارتج عليه كما يجوز الرد عليه إذا غلط، وأن ذلك لا يبطل الصلاة.
8 - أن التبسم في الصلاة لا يبطلها.
9 - أن الضحك قهقهة يبطل الصلاة.
10 - أن النحنحة والنفخ والبكاء والأنين والتأوه والعطاس وما في معناها لا يبطل الصلاة، وأن الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع فيها نزاع بين العلماء، وأن الأظهر فيها جميعا أنها لا تبطل الصلاة؛ فإن الأصوات من جنس الحركات، فكما أن العمل اليسير لا يبطل فالصوت اليسير لا يبطل.(57/339)
صفحة فارغة(57/340)
زيادة الجلد في التعزير
على المقدر في جرائم الحدود
للدكتور: محمد بن سليمان بن عثمان المنيعي (1)
1 - المقدمة:
الحمد لله الذي خلق فسوى، وشرع فأحكم، وقضى فعدل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأوحى إلى الخلائق أن: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} (2) {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (3) ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه من خلقه، ابتعثه الله بالهدى والحق، والعدل والإحسان، قال وهو الصادق المصدوق: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها (4) » . فصلوات الله وسلامه على الهادي البشير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، إلى يوم الدين.
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم القضاء بكلية الشريعة بجامعة أم القرى.
(2) سورة الشعراء الآية 181
(3) سورة الشعراء الآية 182
(4) متفق عليه. صحيح البخاري، 24 كتاب الزكاة، 5 باب إنفاق المال في حقه، ج 2 ص 112؛ صحيح مسلم، 6 كتاب صلاة المسافرين، 47 باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، رقم 815، ج 1 ص 559.(57/341)
أما بعد: فإن من حكمة الله ورحمته بالعباد، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، لدلالتهم على ما فيه خيرهم ونجاتهم في المبدأ والمعاد، وشرع لهم من الدين ما تقع به طهارة قلوبهم، وصلاح عقائدهم، وقوة صلتهم بخالقهم، واستقامة معاملتهم في بيعهم وشرائهم وسائر شئونهم، وقيام حياتهم على أساس من الخير والعدل والإنصاف، فلا غش ولا غرر، ولا ظلم ولا عدوان، بل هو الحق ضالة المؤمن، يقيمه على نفسه، ويقضي به بين الآخرين، فلله الحمد والمنة، وله الثناء والشكران.
فلولا ما شرع الله من القضاء لما ظهر حق وزهق باطل، ولا ادعى أقوام دماء آخرين وأموالهم، ولولا ما بنى الله من الحدود لضاعت حقوق ودماء، وأموال وأعراض، ولولا ما سن الله من التعازير لما كان للحق هيبته وصولته، ولأهدرت في ذلك حقوق لا تعد، وجنايات لا تحصى، لم تبلغ - بعد - مبلغ الحدود، فكان التعزير مرتعا خصبا للقضاة والحكام، يحفظون به للحق هيبته، ويظهرون به للباطل مغبته، وينهلون من معينه حين لا يجدون للجريمة حدا، ولا للجناية قودا.
وجرائم التعزير كثيرة لا تعد، تتجدد بمر الأعصار، واختلاف الأمصار، وإحداث الخلائق، يجمعها ضابط واحد، هو ما عرف به الفقهاء التعزير، كما سيأتي (1) .
__________
(1) ص 345.(57/342)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل، كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنى، أو يسرق من غير حرز ولو شيئا يسيرا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال، أو الوقوف، ومال اليتيم، ونحو ذلك إذا خانوا فيها، وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذي يغش في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يتعزى بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات. فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا، بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، على حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك. وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، أكثر مما يعاقبه من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد " (1) .
وتتنوع العقوبات في باب التعزير؛ لأنها تقع بكل ما فيه إيلام للإنسان من قول أو فعل، أو ترك قول أو فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه، أو توبيخه، أو الإغلاظ له، أو هجره، أو ترك
__________
(1) السياسة الشرعية، ص 121.(57/343)
السلام عليه حتى يتوب، أو تسويد وجهه، أو إركابه الدابة مقلوبا، أو عزله عن ولايته، أو إتلاف ماله، أو تغريمه، أو حبسه، أو نفيه، أو جلده، أو قتله.
فيتخير الإمام من هذه العقوبات، بحسب ما يناسب جنس الجريمة، وقدرها، مما يقع به كفاية التأديب، وكمال الإصلاح، وجد الزجر والردع.
جاء في المنهاج وشرحه ما نصه: " يعزر في كل معصية لا حد لها ولا كفارة، بحبس، أو ضرب، أو صفع، أو توبيخ باللسان، أو تغريب دون سنة، أو قيام من المجلس، أو كشف رأس، أو تسويد وجهه، أو حلق رأس لمن يكرهه، وإركابه الحمار منكوسا والدوران به كذلك بين الناس، وتهديده بأنواع العقوبات.
ويتعين على الإمام أن يفعل بكل معزر ما يليق به من هذه الأنواع، وبجنايته، وأن يراعي في الترتيب والتدريج ما مر في دفع الصائل، فلا يرقى لمرتبة وهو يرى ما دونها كافيا.
ويجتهد الإمام في جنسه وقدره، لانتفاء تقديره شرعا، ففوض لرأيه واجتهاده، لاختلافه باختلاف المعاصي وأحوال الناس ومراتبهم " (1) .
__________
(1) نهاية المحتاج، ج 8 ص 16 - 19.(57/344)
ولئن تكرر علي من مسائل التعزير الكثير، فلقد كنت أقف طويلا عند القول بجواز زيادة الجلد في التعزير على جرائم الحدود، وتشكل علي تلك المرويات فيها من مرفوع وموقوف، فأزمعت أن استوعب بحث هذه المسألة، تحقيقا لها، وعرضا لأقوال الفقهاء فيها، وبيانا للأدلة، وحكما على أسانيدها، وترجيحا لما ينصره الدليل، ويسنده النظر الصحيح والتعليل.
هذا وعلى الله المعتمد، ومنه المعونة أستمد، وإياه أسأل أن يعصم من الزلل، ويوفق لصالح القول والنية والعمل، لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه مثاب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(57/345)
2 - التمهيد:
يحسن قبل أن يأخذنا القول في صلب هذا البحث، أن نمهد له بالوقوف على التعزير في لسان أهل العربية، ثم في مصطلح الفقهاء.
فالتعزير لغة: التأديب، والمنع والرد، والتوقير، والنصرة باللسان والسيف، فهو من أسماء الأضداد، مأخوذ من عزره يعزره عزرا. وعزره: رده، وأعانه وقواه ونصره، وفخمه وعظمه. والعزر: النصرة بالسيف، واللوم، والمنع، والرد، ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد تعزيرا؛ لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب (1) .
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: " العين والزاء والراء كلمتان: إحداهما التعظيم والنصر، والكلمة الأخرى جنس من الضرب.
__________
(1) انظر: الصحاح، ج 2، ص744؛ لسان العرب، ج 4، ص 561، 562.(57/345)
فالأولى: النصر والتوقير، كقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (1) .
والأصل الآخر: التعزير، وهو الضرب دون الحد. قال:
ليس بتعزير الأمير خزاية ... علي إذا ما كنت غير مريب (2)
والتعزير اصطلاحا: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وإن كان ثمة خلاف في بعض ألفاظ الحد، بيد أن هذا لا يضير ما دام أن الألفاظ تصب في قالب معنوي واحد، هو ما قدمناه.
__________
(1) سورة الفتح الآية 9
(2) معجم مقاييس اللغة، ج 4، ص 311.(57/346)
3 - أقل التعزير:
لا يختلف قول جمهور الفقهاء في أن التعزير بالجلد يقع ولو بجلدة، فلا يشترط قدر محدد لا يجوز أن ينقص عنه.
ففي الهداية ما نصه: " وذكر مشايخنا أن أدناه على ما يراه الإمام، فيقدر بقدر ما يعلم أنه ينزجر؛ لأنه يختلف باختلاف الناس " (1) .
__________
(1) الهداية شرح بداية المبتدي، ج 5، ص 349.(57/346)
ويقول الموفق ابن قدامة: " وإذا ثبت تقدير أكثره (1) فليس أقله مقدرا؛ لأنه لو تقدر لكان حدا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم يقدر أقله، فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام فيما يراه، وما يقتضيه حال الشخص " (2) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليس لأقل التعزير حد بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل، وترك قول وترك فعل ".
__________
(1) أي: تقدير أكثر التعزير بالجلد.
(2) المغني، ج 12، ص 525.(57/347)
4 - الزيادة في التعزير على عشر جلدات:
بيد أن الفقهاء اختلفوا - بعد ذلك - في حكم الزيادة في التعزير على عشر جلدات على قولين:
أحدهما: أنه لا يزاد في التعزير على عشر جلدات، وهذا هو المعتمد من مذهب الإمام أحمد (1) ، وإليه ذهب الظاهرية (2) ، وبه قال جمع من المحققين، كابن دقيق العيد (3) ، والشوكاني (4) ،
__________
(1) انظر: شرح منتهى الإيرادات، ج 3، ص 361؛ الروض المربع، ص 511.
(2) انظر: المحلى، ج 12، ص424.
(3) إحكام الأحكام، ج 4، ص 384.
(4) نيل الأوطار، ج 7، ص 330.(57/347)
والصنعاني (1) .
يقول الإمام الشوكاني: " والحق العمل بما دل عليه الحديث الصحيح المذكور في الباب، وليس لمن خالفه متمسك يصلح للمعارضة، وقد نقل القرطبي عن الجمهور أنهم قالوا بما دل عليه، وخالفه النووي فنقل عن الجمهور عدم القول به، ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، فلا ينبغي لمنصف التعويل على قول أحد عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2) .
بقي لنا من هذا القول أن نشير إلى أن الحنابلة وإن ذهبوا إلى عدم جواز الزيادة على عشر جلدات اتباعا للأثر، إلا أنهم قالوا بالزيادة في مواضع لثبوت النص، وما عداها يبقى على العموم، وهي:
أ - من شرب مسكرا في نهار رمضان: فإنه يعزر - والحالة هذه - بعشرين سوطا مع الحد.
ودليلهم: ما أخرجه الطحاوي - بسند حسن (3) - من
__________
(1) سبل السلام، ج 4، ص 37.
(2) نيل الأوطار، ج 7، ص 330.
(3) إرواء الغليل، ج 8، ص 57.(57/348)
طريق عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، قال: أتي علي بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثم قال: إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في رمضان وجرأتك على الله.
ب - من وطئ أمة امرأته التي أحلتها له: فإنه يجلد مائة إن علم التحريم.
ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (1) ، والترمذي، والنسائي (2) ، وابن ماجه (3) - بسند ضعيف - عن حبيب بن سالم: «أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين، وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير - وهو أمير على الكوفة - فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك
__________
(1) سنن أبي داود، 32 كتاب الحدود، 28 باب في الرجل يزني بجارية امرأته، رقم (4458) ، ج 4، ص 604.
(2) سنن النسائي، 26 كتاب النكاح، 70 باب إحلال الفرج، ج 6 ص 123، 124.
(3) سنن ابن ماجه، 20 كتاب الحدود، 8 باب من وقع على جارية امرأته، رقم 2551، ج 2، ص 853.(57/349)
بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له، فجلده مائة» .
ج - من وطئ أمة له فيها شرك: فإنه يعزر بمائة سوط إلا سوطا (1) .
ودليلهم: ما رواه الأثرم، عن سعيد بن المسيب، عن عمر: في أمة بين رجلين وطئها أحدهما: يجلد الحد إلا سوطا.
والقول الآخر: جواز الزيادة على عشر جلدات، وإليه ذهب جمهور الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والشافعية (4) ، ورواية عن أحمد (5) .
__________
(1) انظر: في هذه المواضع عند الحنابلة؛ التنقيح، ص 376؛ الروض المربع، ص 513.
(2) انظر: تنوير الأبصار، ج 4، ص 60، البحر الرائق، ج 5، ص 47.
(3) انظر: القوانين الفقهية، ص 235؛ الشرح الصغير، ج 6، ص 236.
(4) انظر: منهاج الطالبين، ص 135؛ فتح الجواد، ج 2، ص 318.
(5) انظر: المغني. ج 12، ص 524.(57/350)
5 - أساس الخلاف:
ومنشأ الخلاف بين الفريقين: اختلافهم في دلالة ما رواه البخاري (1) ومسلم (2) من طريق أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه
__________
(1) صحيح البخاري، 86 كتاب الحدود، 42 باب كم التعزير والأدب، ج 8، ص 31.
(2) صحيح مسلم، 29 كتاب الحدود، 9 باب قدر أسواط التعزير، ج 3، ص 1333.(57/350)
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله» . فذهب الفريق الأول إلى العمل بظاهر الحديث الصحيح، فلا تجوز حكم الزيادة في التعزير على عشر جلدات.
وذهب الآخرون إلى تأويله، فقالوا بالجواز - هو الراجح - مجيبين على الحديث بعدة أجوبة:
أحدها: أن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله، فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام، فيقال من الأول قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (1) ، ويقال في الثاني قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (2) .
أما تسمية العقوبة المقدرة حدا، فهو عرف حادث، ومراد الحديث: أن من ضرب لحق نفسه - كضرب الرجل امرأته في النشوز، وعبده، وولده، وأجيره - فإنه لا يزيد على عشر جلدات.
وهذا من أعدل ما أجيب به عن الحديث، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية (3) ، وبه قال تلميذه ابن القيم (4) ، ونصره بقوله: فإن التعزير يدخل تحته لفظ الحد في لسان الشارع، كما
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) السياسة الشرعية، ص 125.
(4) إعلام الموقعين، ج 2، ص 29، 30.(57/351)
في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى (1) » .
وقد ثبت التعزير بالزيادة على العشرة جنسا وقدرا في مواضع عديدة لم يثبت نسخها، ولم تجمع الأمة على خلافها (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد، ج 5، ص 43، 44.(57/352)
6 - إيرادات ابن دقيق العيد:
وقد أورد العلامة ابن دقيق العيد على هذا الرأي إيرادات عدة:
فأولها: أن هذا القول خروج في لفظة الحد عن العرف فيها، وهذا يوجب النقل، والأصل عدمه (1) . ويدفع هذا الإيراد: بأن تفسير الحد بما حرم لحق الله قد جاء به النقل في نحو ما تقدم، وفي نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ، وقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3) ، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) .
ومن السنة ما رواه الدارقطني (5) بسنده، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
__________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، م 4، ص 382.
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) سورة النساء الآية 14
(5) سنن الدارقطني، ج 4، ص 184.(57/352)
«إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها (1) » . قال الإمام النووي في الأربعين (2) - بعد أن عزاه للدارقطني -: حديث حسن. وما رواه الحاكم (3) بسنده عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى كنفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعوا على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب، قال: ويلك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام، والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله،
__________
(1) سنن الدارقطني، ج 4، ص 184.
(2) الأربعين النووية، ص 242.
(3) المستدرك، ك - الإيمان، ج 1، ص 73.(57/353)
والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم (1) » .
وإذا ثبت النقل لم يكن التفسير به خروجا عن عرف الشرع، بل هو المعنى الذي يؤيده الكتاب، وتؤكده السنة المطهرة، الأمر الذي يحتاج معه المخالف إلى إثبات دليل على تقييد التفسير بما قال.
الإيراد الثاني: أنا إذا حملناه على ذلك (2) ، وأجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد، لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط، إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة ليس إلا ما ليس بمحرم، وأصل التعزير فيه ممنوع، فلا يبقى بخصوص منع الزيادة معنى (3) .
ويجاب عن هذا: بأن الجلد بالعشرة فما دون محمول على التأديب الصادر من غير الولاة (4) ، فمن ضرب لحق نفسه كضرب السيد عبده والرجل امرأته ونحوهما لا يزيد على عشر جلدات (5) ،
__________
(1) قال الحاكم: '' هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه ''، ووافقه الذهبي، المستدرك وتلخيص الذهبي عليه، ج 1، ص 73. قال الألباني: '' وهو كما قالا '' مشكاة المصابيح، ج 1، ص 67.
(2) أي: حملنا المراد بحدود الله على ما حرم لحق الله.
(3) إحكام الأحكام، ج 4، ص 382.
(4) تلخيص الحبير، ج 4، ص 79.
(5) السياسية الشرعية، ص 126.(57/354)
وما أجمل قول العلامة ابن القيم: " فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية. قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره، للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط، فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث، وبالله التوفيق " (1) .
الإيراد الثالث: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر (2) » . وجه الشاهد من الحديث: أن قول عبد الرحمن يقطع دابر هذا الوهم، ويدل على أن مصطلحهم في الحدود إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها الفقهاء اسم " الحد " (3) .
قال الصنعاني: " فلو كان مراد الصحابة بالحدود حقوق الله تعالى، لكان أقل حدودها - على رأي - تسعة وثلاثين، ولعينه عبد الرحمن في جوابه لعمر " (4) . ويرد على هذا: بأن الحد في
__________
(1) إعلام الموقعين، ج 2، ص 30.
(2) رواه مسلم، 29 ك الحدود، 8 باب حد الخمر، رقم (35 - 1706) ، ج 2، ص 1330.
(3) إحكام الأحكام، ج 4، ص 383.
(4) العدة، ج 4، ص 383.(57/355)
لسان الشرع أعم من ذلك:
أ - فقد يطلق ويراد به جملة ما أذن في فعله الشرع، سواء كان على طريق الوجوب أو الندب أو الإباحة، واعتداؤها: هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهي عنه. ودليل ذلك من كتاب الله: قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (2) . والاعتداء هنا: بالطلاق على غير ما أمر الله به وأذن فيه. وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) . والاعتداء هنا: الإمساك بعد الطلاق بغير معروف، أو التسريح بغير إحسان، أو أخذ ما أعطى المرأة شيئا على غير وجه الفدية التي أذن الله فيها. وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (5) . والاعتداء هنا: مجاوزة ما فرض الله للورثة، ففضل وارثا وزاد على حقه أو نقصه منه.
ومن السنة حديث النواس بن سمعان المتقدم (6) ، واعتداء
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة النساء الآية 13
(5) سورة النساء الآية 14
(6) ص353.(57/356)
حدوده: مجاوزة ما أذن الله فيه إلى ما نهى عنه، فكما أن السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته، فكذلك الإسلام يمنع من دخل فيه من الخروج عن حدوده ومجاوزتها، فليس وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه.
وحديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم (1) ، والاعتداء فيه: تجاوز ما أذن في فعله إلى ارتكاب ما نهى عنه.
ب - وقد يطلق ويراد به نفس المحارم فيقال: لا تقربوا حدود الله. ودليل ذلك من كتاب الله قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (2) والمراد: النهي عن ارتكاب ما نهى الله عنه في الآية من محظورات الصيام والاعتكاف في المساجد.
ومن السنة: حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. . . (3) » الحديث. والمراد بالقائم على حدود الله: المنكر للمحرمات والناهي عنها.
وحديث أنس بن مالك، قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي، قال:
__________
(1) ص 352، 353.
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) رواه البخاري، 47 ك الشركة، 6 باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، ج 3، ص 111.(57/357)
وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله، قال: هل حضرت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر لك (1) » والمراد بالحد هنا: المعصية من المعاصي الموجبة للتعزير (2) .
وحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا آخذ بحجزكم أقول: اتقوا النار اتقوا الحدود (3) » الحديث، وأراد بالحدود: محارم الله ومعاصيه.
ج - وقد يطلق (4) الحد ويراد به العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة، كما يقال: حد الزنا، وحد السرقة، وحد
__________
(1) رواه البخاري، 86 ك الحدود، 27 باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه، ج 8، ص 23؛ ومسلم، 49 ك التوبة، 7 باب قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات، رقم 44 - 2764، ج 3، ص 2117.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، ج 17، ص 81.
(3) رواه الطبراني، المعجم الكبير، رقم 10953، ج 11، ص 28؛ المعجم الأوسط رقم 2895، ج 3، ص 416، 417. قال عنه الحافظ ابن حجر: '' لا نعلم رواه عن عبد الملك عن أبيه إلا ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف '' مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد، رقم 1420، ج 2، ص 61. وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي: '' رواه البزار، وفيه ليث بن أبي سليم، والغالب عليه الضعف ''. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 6، ص 257.
(4) انظر في هذه الإطلاقات الثلاثة: جامع العلوم والحكم، ص 246، 247.(57/358)
القذف. ودليل ذلك: حديث عائشة «لما شفع أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتشفع في حد من حدود الله (1) » يعني: في حد القطع في السرقة. وحديث أنس بن مالك المتقدم (2) وفيه قول عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون يعني بالحدود: الحدود المقدرة، وأخف الحدود: أي حد القذف. وإلى نحو هذا العموم للحد في لسان الشارع يشير العلامة ابن القيم بقوله: فإن قيل: فما تصنعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (3) » قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرنا، فإن الحد في لسان الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء، فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة، والحد في لسان الشارع أعم من ذلك، فإنه يراد به هذه العقوبة تارة، ويراد به نفس الجناية تارة، كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (4) ، وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (5) ،
__________
(1) رواه البخاري، 86 ك الحدود، 12 باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ج 8، ص 16؛ ومسلم، 29 - الحدود، 2 - باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، رقم (8 - 1688) ، ج 2، ص 1315.
(2) ص 355.
(3) تقدم تخريجه ص 350.
(4) سورة البقرة الآية 187
(5) سورة البقرة الآية 229(57/359)
فالأول حدود الحرام، والثاني حدود الحلال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها (1) » ، وفي حديث النواس بن سمعان (2) الذي تقدم في أول الكتاب، والسوران (3) حدود الله، ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (4) » يريد به الجناية التي هي حق الله (5) .
الجواب الثاني: أن هذا الحديث منسوخ، وذلك احتجاجا بعمل الصحابة بخلافه من غير نكير.
ورد هذا الجواب: بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل (6) ، وبأن الحكم بالعمل بما دل عليه حديث أبي بردة قد قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار (7) . قال العلامة ابن دقيق العيد في (شرح عمدة الأحكام) : " واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر عنه، فقال بعض مصنفي
__________
(1) تقدم تخريجه ص 352.
(2) تقدم تخريجه ص 353.
(3) المذكوران في حديث النواس بن سمعان.
(4) تقدم تخريجه ص 350.
(5) إعلام الموقعين، ج 2، ص 29.
(6) تلخيص الحبير، ج 4 ص 79.
(7) فتح الباري، ج 12 ص 178. وعليه فلا يصح بالنسخ إجماع، إذ لو صح لما جازت مخالفته.(57/360)
الشافعية: إنه منسوخ بعمل الصحابة بخلافه، وهذا ضعيف جدا؛ لأنه يتعذر عليه إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه، وفعل بعضهم أو فتواه بخلافه لا يدل على النسخ " (1) . ويقول الصنعاني: " ولا دليل لهم إلا فعل بعض الصحابة، ولا يخفى أن فعل بعض الصحابة ليس بدليل ولا يقاوم النص الصحيح، ولعله لم يبلغ الحديث من فعل ذلك من الصحابة " (2) .
الجواب الثالث: أن الحديث موجه فيما ضرب بالسياط، فإن كان بالدرة ونحوها كالعصا أو اليد فتجوز الزيادة فيها، لكن لا يجاوز أدنى الحدود. وهذا رأي الإصطخري من الشافعية (3) . قال الحافظ ابن حجر: " وتفريقه بين السياط والدرة مستفاد من تقييد الخبر بالأسواط، وفيه نظر (4) ، وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب " (5) . وهذه الرواية التي أشار إليها ابن حجر في البخاري من طريق عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله (6) » .
__________
(1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ج 4 ص 379.
(2) سبل السلام بتصرف، ج 4 ص 37.
(3) انظر فتح الباري، ج 12 ص 178؛ تلخيص الحبير، ج 4 ص 79.
(4) تلخيص الحبير، ج 4 ص 79.
(5) فتح الباري، ج 12 ص 178.
(6) صحيح البخاري، 86 ك الحدود، 42 باب كم التعزير والأدب، ج 8 ص 32.(57/361)
الجواب الرابع: أن الحديث مقصور على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر. قال العلامة ابن دقيق العيد: " وهذا في غاية الضعف؛ لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص، وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص " (1) .
الجواب الخامس: معارضة الحديث بما هو أقوى منه، وهو الإجماع على أن التعزير يخالف الحدود، وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها، فيصير مثل الحد. وتعقب: بأن الحد لا يزاد فيه ولا ينقص فاختلفا (2) .
الجواب السادس: ولابن حجر في هذا الحديث رأي جعله احتمالا، فقال: " ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير: لا يزاد عليه - وهو المستثنى في الأصل - وما لم يرد فيه تقدير: فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد - كما في الآيات المشار إليها - والتحق بالمستثنى، وإن
__________
(1) إحكام الأحكام، ج 4 ص 380.
(2) انظر فتح الباري، ج 12 ص 178.(57/362)
كان صغيرة: فهو المقصود بمنع الزيادة " (1) .
__________
(1) فتح الباري، ج 12 ص 178.(57/363)
7 - والخلاصة:
مما سبق (1) يظهر لنا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من القول بجواز الزيادة، فليس في الحديث متمسك يصلح لحد التعزير بالعشر فما دون، مع ما سيأتي من الأدلة التي سنجليها لدى وقوفنا على اختلاف رأي الجمهور في موضع هذا الحديث.
__________
(1) من إجابات الجمهور عن الحديث، ودفع ما أورده ابن دقيق العيد على قول الجمهور.(57/363)
8 - الزيادة في جلد التعزير على الحد:
وعلى ترجيح القول الثاني: فهل يجوز التعزير بالجلد بما فوق الحد؟ اختلف الجمهور فيه على أقوال عدة:
أحدها: أنه لا يجوز أن يبلغ الجلد في التعزير الحد فما فوق. وهذا هو المعتمد من مذهب أبي حنيفة (1) والشافعي (2) ، واحتمال في رواية عن أحمد (3) ذهب إليها بعض أصحابه. بيد أنهم اختلفوا - بعد ذلك - في اعتبار القدر الذي لا يجوز تجاوزه: هل يراعى فيه جنس الحد؟ أو حال المعزر؟ على
__________
(1) انظر: البحر الرائق، ج 5 ص 47؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه، ج 4 ص 60.
(2) انظر: نهاية المحتاج، ج 8، ص 19، 20، روضة الطالبين، ج 10 ص 174.
(3) انظر: المغني، ج 12 ص 524؛ الإنصاف، ص 246، 247.(57/363)
ثلاثة أقوال: فالذي عليه متون الحنفية: أن أكثره تسعة وثلاثين سوطا. والأصح من مذهب الشافعية: مراعاة حال المعزر، فيجب أن ينقص عن أقل حدوده، فينقص في حر عن أربعين، وفي عبد عن عشرين (1) . والرواية عن أحمد: أن لا يبلغ بالتعزير الحد، وهل المراد: أن لا يبلغ به أدنى حد مشروع؟ أو أن لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها؟ موضع احتمال صرح به ابن قدامة بقوله: " واختلف عن أحمد في قدره، فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات. والرواية الثانية: لا يبلغ به الحد، فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع، فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا، لأنها حد العبد في الخمر والقذف، ويحتمل أن لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، فعلى هذا ما كان في سببه الوطء جاز أن يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنى، وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود " (2) .
قلت: وقد جزم بالاحتمال الأول من الحنابلة الخرقي (3) .،
__________
(1) انظر: تحفة المحتاج، ج 10 ص 180؛ فتح الوهاب، ج 2 ص 166.
(2) المغني بتصرف، ج 12 ص 524.
(3) مختصر الخرقي، ص 127(57/364)
وقدمه في الهداية (1) ، والمذهب (2) ، والمحرر (3) . وإلى الاحتمال الثاني مال ابن تيمية (4) ، وقال الزركشي: وهو أقعد من جهة الدليل (5) .
أدلة هذا القول:
استدل هذا الفريق لقولهم بعدم جواز أن يبلغ بالجلد في التعزير الحد بدليلين، هما:
1 - حديث: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين (6) » .
2 - ما روي أن عليا - رضي الله عنه - أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان، فأفطر، فضربه ثمانين، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: إنما ضربتك هذه العشرين لجرأتك على الله وإفطارك في شهر رمضان.
__________
(1) الهداية للكلوذاني، ج 2 ص 103.
(2) المذهب الأحمد في مذهب الإمام أحمد لابن الجوزي، ص 189.
(3) المحرر، ج 2 ص 163.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 28، ص 108؛ ج 35 ص 405.
(5) شرح الزركشي على مختصر الخرقي، ج 6 ص 408، وانظر: الإنصاف، ج 10 ص 247.
(6) رواه البيهقي في السنن من حديث النعمان بن بشير، قال: والمحفوظ هذا الحديث مرسل. ونقله السيوطي في جامعه وضعفه، وقال الألباني: ضعيف. سنن البيهقي، ك - الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين، ج 8 ص 327؛ الجامع الصغير، ج 2 ص 586؛ ضعيف الجامع الصغير وزيادته، ج 5، ص 181.(57/365)
قلت: ويمكن أن يستدل لهم بالأدلة التالية:
1 - ما روى عبد الرزاق في مصنفه (1) ، بسنده إلى يحيى بن عبد الله بن صيفي، أن عمر كتب إلى أبي موسى: ولا يبلغ بنكال فوق عشرين سوطا. وفي رواية لابن أبي شيبة: أن عمر كتب إلى أبي موسى ألا تبلغ في تعزير أكثر من ثلاثين.
2 - ما روى الترمذي (2) بسنده عن ابن عباس - رضي الله
__________
(1) مصنف عبد الرزاق، باب لا يبلغ بالحدود العقوبات، رقم 13674، ج 7 ص 413.
(2) سنن الترمذي، 15 ك الحدود، 29 باب ما جاء فيمن يقول لآخر يا مخنث، رقم 1462، ج 4 ص 62.(57/366)
عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا قال الرجل للرجل: يا يهودي، فاضربوه عشرين، وإذا قال: يا مخنث، فاضربوه عشرين، ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه (1) » .
3 - ما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن الوليد بن أبي مالك، قال: كتب عمر بن الخطاب في شاهد الزور يضرب أربعين سوطا، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطاف به، ويطال حبسه.
القول الثاني: أن التعزير بالجلد جائز ولو زاد على الحد، شريطة أن لا يأتي على النفس، فللإمام أن يعزر ولو زاد على الحد، وهذا قول المالكية (2) . يقول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: " والحاصل أن الإمام إذا أداه اجتهاد إلى أن يعزره بما يزيد على الحد
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن إسماعيل - أحد رجال الحديث - يضعف في الحديث. انظر المرجع المتقدم. الألباني عن إسناده: ضعيف. ضعيف سنن الترمذي، ص 169.
(2) انظر القوانين الفقهية، ص 235؛ شرح الزرقاني على خليل، ج 8، 115، 116.(57/367)
ولا يأتي على النفس كمائتي سوط، أو بما يأتي على هلاكه كألف كرباج مثلا: فإنه يفعله ويجوز له القدوم على ذلك، ولا ضمان عليه إذا مات، حيث لم يظن الهلاك ابتداء، بل ظن سلامته، أو جزم بها، وأما إن لم يظنها ولم يجزم بها، فإنه يمنع من التأديب بما يأتي على النفس، فإن فعل ضمن النفس قودا إن جزم بعدمها أو ظن عدمها، وإن شك في السلامة وعدمها: فالدية على عاقلته ".
أدلة هذا القول:
استدل فقهاء المالكية (1) لمذهبهم في جواز التعزير بما يزيد على الحد بدليلين، هما:
1 - ما روي أن معن بن زائدة، عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال، فأخذ منه مالا، فبلغ عمر - رضي الله عنه - فضربه مائة، وحبسه، وكلم فيه، فضربه
__________
(1) انظر في هذين الدليلين للمالكية: مواهب الجليل من أدلة خليل، ج 4 ص 381.(57/368)
مائة أخرى، فكلم فيه من بعد، فضربه مائة، ونفاه.(57/369)
2 - الأثر - المتقدم (1) - عن علي بن أبي طالب مع النجاشي: قلت: ويمكن أن يستدل لهم بالدليلين التاليين:
أ - ما روى البزار (2) ، بسنده عن سعيد بن المسيب، قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} (3) . قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (4) قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} (5) قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} (6) قال: هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: ثم أمر به فضرب مائة، وجعله في بيت، فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى، وحمله على قتب (7) ، وكتب إلى أبي موسى
__________
(1) ص 365.
(2) البحر الزخار المعروف بمسند البزار، ج 1 ص 423، 424.
(3) سورة الذاريات الآية 1
(4) سورة الذاريات الآية 2
(5) سورة الذاريات الآية 4
(6) سورة الذاريات الآية 3
(7) القتب: إكاف البعير، وقيل: هو الإكاف الصغير الذي على قدر السنام، لسان العرب، ج 1 ص 660، 661.(57/370)
الأشعري: امنع الناس من مجالسته، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا، فكتب في ذلك إلى عمر: ما إخاله إلا قد صدق، فخل بينه وبين مجالسته الناس.
ب - جلد أبي بكر وعمر رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة.(57/371)
القول الثالث: وإليه ذهب فريق من فقهاء الشافعية والحنابلة (1) : أنه لا يجوز أن يبلغ في التعزير في كل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها. فعلى هذا: يعزر في مقدمات الزنا دون حد الزنا، وفي الإيذاء والسب بغير قذف دون حد القذف، وهكذا.
قلت: وإلى هذا مال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن
__________
(1) انظر: روضة الطالبين، ج 10 ص 174؛ الإنصاف، ج 10 ص 247.(57/372)
القيم، غير أن قولهما هذا إن كان التعزير فيما في جنسه مقدر - كما مثلنا - فإن لم يكن فيه مقدر: عزره الإمام بقدر ما يراه، حسب كثرة الذنب وقلته، وكبر الذنب وصغره.
أدلة هذا الفريق: احتج هؤلاء لقولهم بالدليلين التاليين:
أ - ما روى أبو داود بإسناده عن حبيب بن سالم، «أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين، وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له، فجلده مائة (1) » .
__________
(1) قال الترمذي: حديث النعمان في إسناده اضطراب، قال: سمعت محمدا يقول: لم يسمع قتادة عن حبيب بن سالم هذا الحديث، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، سنن الترمذي، ج 4 ص 54. وقال الخطابي: هذا الحديث غير متصل، وليس العمل عليه. معالم السنن، ج 6 ص 269. وقال الألباني: '' ضعيف ''. ضعيف سنن أبي داود ص 445، ضعيف سنن الترمذي، ص 165، ضعيف سنن ابن ماجه، ص 203؛ ضعيف سنن النسائي، ص 120.(57/373)
ب - ما رواه الأثرم، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، في أمة بين رجلين، وطئها أحدهما: يجلد الحد إلا سوطا واحدا.(57/374)
9 - الرأي المختار:
بعد عرضنا لما تقدم من أقوال الفقهاء، وبيان حجة كل فريق، يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن ما ذهب إليه فريق(57/374)
الشافعية والحنابلة من أنه لا يجوز أن يبلغ في التعزير في كل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، هو الأولى بالتقديم، للأوجه التالية:
أحدها: أن ما ذهب إليه الحنفية والشافعية من القول بعدم جواز أن يبلغ الجلد في التعزير الحد فما فوق، قول لا يقوى مع ضعف دليلهم " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين " كما قدمنا (1) . كما أن استدلالهم بما روي عن علي مع النجاشي، فغايته أنه حكاية فعل عن صحابي، فليس فيه تحديد من الخليفة الراشد، أو توقيف في جلد التعزير لا يصح تجاوزه، بل هو اجتهاد رآه في كفاية تأديب من هذه حاله، والله أعلم.
الثاني: أما ما ذهب إليه المالكية، فليس لديهم متمسك تصح المعارضة به (2) . ثم إن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها مما هو من جنسها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها، فإن ما قالوا يؤدي إلى أن من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنى، وهذا غير جائز؛ لأن الزنى مع عظمه وفحشه، لا يجوز أن يزاد على حده، فما دونه أولى (3) . وأما حديث معن (4) فلم يثبت، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أنه كانت له ذنوب كثيرة، فأدب على
__________
(1) ص 365.
(2) كما تقدم في ص 368.
(3) انظر: المغني، ج 12 ص 526.
(4) المتقدم في ص 368.(57/375)
جميعها، أو تكرر منه الأخذ، أو كان ذنبه مشتملا على جنايات، أحدها: تزويره، والثاني: أخذه لمال بيت المال بغير حقه، والثالث: فتحه باب هذه الحيلة لغيره، وغير هذا. وأما استدلالهم بحديث النجاشي فلا وجه له؛ لأن عليا ضربه الحد لشربه، ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا (1) .
الوجه الثالث: أن التعزير أدب يقصر عن مقدار الحد إذا كانت الجناية الموجبة للتعزير قاصرة عن مبلغ الجناية الموجبة للحد.
قياسه: أرش الجناية الواقعة في بعض العضو، فإنها قاصرة عن الجناية في كمال ذلك العضو، ذلك أن دية العضو إذا كانت معلومة، فوقعت الجناية على بعض، كان معقولا أنه لا يستحق فيه كل ما في العضو (2) .
الوجه الرابع: ثم إن في مجاوزة المائة جلدة في التعزير نظرا لا يخفى، فإن الله سبحانه لم يجاوز هذا العدد في أبواب ما يجب به الجلد من الحدود، كالزنى والسكر والقذف، فأشعر ذلك أنه قدر ينبغي أن يراعى في التعزير، فلا يزاد عليه. فهذه جريمة الزنى، كبيرة من كبائر الذنوب، يترتب على فعلها مفاسد لا تحصى، من التعدي على الحرمات، وهتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وضياع الأولاد، والتطاول على كرامة الناس، وإلحاق
__________
(1) انظر: المغني، ج 12 ص 526.
(2) انظر: معالم السنن، ج 6 ص 294.(57/376)
العار، وتدنيس الشرف، حتى قرن الله شأنها بالشرك بالله، وقتل النفس، بقوله في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (1) . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها قوله: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له (2) » . يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: " الزنى يجمع خلال الشرك كلها، من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيا معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته " (3) .
ومع ذلك كله لم يرتب الله عليه من الجلد إلا مائة جلدة (4) ، الأمر الذي يشعر الناظر في النصوص أن مراد الشارع من الجلد ليس هو العقوبة الجسدية والانتقام من المجرم، بقدر ما هو العقوبة النفسية للفاعل، والتأديب الإصلاحي له. فعقوبة الزنى وغيرها من العقوبات، كما يقول ابن تيمية: " إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق، وإرادة الإحسان
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) قال الألباني: '' وهذا إسناد مرسل ضعيف ''. سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم 1580 ج 4 ص 82.
(3) روضة المحبين، ص 360.
(4) للبكر، دون الثيب.(57/377)
إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض " (1) . ولذا كان شرع الجلد بمحضر طائفة من المؤمنين {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ليكون ذلك أبلغ في الردع، وأقوى في التأديب، وأجدى في الإصلاح. كما أن الجلد يكون بسوط وسط، لا جديد فيجرح، ولا خلق فلا يؤلم، وأن يكون الضرب وسطا، لا شديد فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع.
الوجه الخامس: ثم إليك عقوبة السرقة فيما لم يبلغ ثمنه النصاب، يجترئ السارق فيها على ضروري من الضروريات الخمس التي تتفق الشرائع على حفظها، وهو المال، ويفسد على الناس معاشهم، ويخل بأمنهم على أموالهم، ويهدر حقوقهم، وينتهك حرمة أموالهم، تلك الحرمة التي لا تقل عن حرمة دمائهم وأموالهم، ولذلك قرنت بها حين قام المصطفى صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الحج الأكبر بمنى، قائلا: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا (3) » متفق عليه. كل ذلك ولم يقض
__________
(1) الاختيارات الفقهية، ص 288.
(2) سورة النور الآية 2
(3) صحيح البخاري، 3 ك العلم، 9 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ أوعى من سامع، ج 1، ص 24؛ صحيح مسلم، 15 ك الحج، 19 باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 147 - 1218، ج 1 ص 889.(57/378)
فيه الشارع من العقوبة الجسدية إلا بجلدات يسيرة يحددها القاضي بحسب ما يراه. روى النسائي بسنده (1) ، عن عبد الله بن عمر: «أن رجلا من مزينة أتى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل، فقال: هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع، إلا فيما آواه المراح، فبلغ ثمن المجن، ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال، قال: يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: هو ومثله معه والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلق قطع، إلا فيما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن، ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال (2) » .
الوجه السادس: فإن قيل: التعزير قد يصل إلى حد القتل!!
فالجواب: أن للتعزير بالقتل أصلا يرجع إليه، مجاله الجرائم التي شرع في جنسها القتل (3) إذا تكرر ارتكابها، ولم يمكن دفع شر الجاني فيها وكف أذاه عن المجتمع الإسلامي إلا
__________
(1) قال الألباني في سنده: '' حسن صحيح '' سنن النسائي، ص 1020.
(2) سنن النسائي، 46 ك قطع السارق، 12 باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، ج 8 ص 86.
(3) كالردة، والقتل العمد، والزنى للمحصن، والمحاربة.(57/379)
بها، كالداعية إلى البدعة، والجاسوس المسلم، ومن تكررت منه اللواطة، والقتل بالمثقل أو خنقا عند الحنفية، ونحو ذلك وليس كذلك الضرب.
الوجه السابع: وفي هذا الوجه أنقل ما ذكره إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني، حين تعرض لهذه المسألة فقال: " ثم التعزيرات لا تبلغ الحدود على ما فصله الفقهاء، ثم إن نبغ في الناس داع في الضلالة، وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته ونشر غائلته، فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعده لو حاد عن ارتسام أمره وأباه، فلعله ينزجر وعساه، ثم يكل به موثوقا به من حيث لا يشعر به ولا يراه، فإن عاد إلى ما عنه نهاه، بالغ في تعزيره، وراعى حد الشرع وتحراه، ثم يثني عليه الوعيد والتهديد، ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر، ويرشح مجهولين. ثم إن انكف، فهو الغرض، وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطان تنكيله وعقوباته فتبلغ العقوبات مبالغ تربى على الحدود، وإنما يتسبب إلى تكثير العقوبات بأن يبادره بالتأديب مهما عاد، وإذا تخللت العقوبات في أثناء موجباتها، تعددت وتجددت، فلا يبرأ جلده عن تعزير وجلدات نكال، حتى تحل به عقوبة أخرى.
والمسلك الذي مهدناه يتضمن الزجر الأعظم، والردع الأتم واستمرار العقوبات مع تقدير المعاودات. فإن انكف بالقليل -(57/380)
والكثير محرم - فلا أرب في تعذيب مسلم، وإن أبى عدنا له.
وإنما ينسل عن ضبط الشرع، من لم يحط بمحاسنه، ولم يطلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة، لألفاها أو خيرا منها في وضع الشرع. ولو لم يأمن الإمام مع التناهي في المراقبة والمثابرة والمواظبة غائلة المبتدع أطال حبسه وحصر نفسه.
فهذا مسلك السداد، ومنهج الرشاد والاقتصاد، وما عداه سرف ومجاوزة حد، وغلو وعتو، والأنبياء عليهم السلام مبعوثون بحسم المراسم والدعاء إلى قصد الأمور " (1) ا. هـ باختصار.
__________
(1) غياث الأمم في اجتياث الظلم، ص 219 - 229.(57/381)
10 - الخاتمة: وخاتمة المطاف في هذا البحث، أحمد الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشكره من فضله على ما من به من إتمام هذا العمل والذي خلصت منه إلى ما يلي:
أ - أن التعزير باب واسع يطرقه الحكام في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
ب - أن أساس الخلاف في جواز الزيادة في التعزير على عشر جلدات، هو في دلالة حديث أبي بردة بن نيار الأنصاري، رضي الله عنه (1) .
ج - أن الحنابلة وإن ذهبوا إلى عدم جواز الزيادة - في التعزير - على عشر جلدات، إتباعا للأثر، إلا أنهم قالوا بالزيادة
__________
(1) المتقدم في ص 350، 351.(57/381)
في مواضع، لثبوت النص.
د - أن الحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في هذه المسألة، من القول بجواز الزيادة على عشر جلدات، فليس في الحديث متمسك يصلح لحد التعزير بالعشر فما دون، كما أن في إجابات الجمهور عن الحديث، ودفع ما أورده ابن دقيق العيد، والآثار الواردة في الزيادة على العشر في التعزير، ما يرجح مذهب الجمهور على قول الحنابلة ومن تبعهم.
هـ - أن الراجح أنه لا يجوز أن يبلغ في التعزير بالجلد في كل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، لما تقدم من ضعف دليل المخالف، وما ذكرناه من أوجه الرأي المختار.
وضعف جميع ما استدل به الفريق المخالف، من الآثار الدالة على جواز الزيادة في جلد التعزير على الحد.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.(57/382)
حديث شريف
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » .
رواه البخاري في كتاب
العلم حديث رقم (98)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/203) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(57/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1)
(سورة التوبة، الآية 60)
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(58/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(58/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(58/3)
المحتويات
الافتتاحية
منزلة الزكاة في الإسلام وبعض أحكامها لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 27
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 41
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 65
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 93(58/4)
البحوث
واجبات الطواف للدكتور / عبد الله بن إبراهيم الزاحم 119
تاريخ الدعوة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه للدكتور / عبد الرحمن بن سليمان الخليفي 225
العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ومعالم منهجه الأصولي للدكتور / عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس 289
الإحسان: أهميته، أقسامه، ثمراته.. للدكتور / مسفر بن سعيد الغامدي 349
من قرارات هيئة كبار العلماء 379
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عن نشرة مكذوبة حول عقوبة تارك الصلاة 381(58/5)
صفحة فارغة(58/6)
منزلة الزكاة في الإسلام وبعض أحكامها
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الزكاة لها منزلة عظيمة ومكانة كبيرة في الإسلام، إذ هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، ولا أدل على أهميتها من أن الله قرنها في كتابه العزيز بالصلاة غالبا، وكذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في أحاديث كثيرة. ومن رحمة الله بخلقه أن شرعها الله تزكية للمال وطهرة للمزكي ومراعاة لحاجة الفقراء ومصالح العباد. وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن ينعم على بعض عباده بالمال تفضلا ونعمة، فيشكر المؤمن هذه النعمة ويؤدي حقها بأداء الزكاة الواجبة عليه، فينال بذلك الثواب العظيم والدرجات العلى من الجنة. كما اقتضت حكمته سبحانه أن يبتلي بعض عباده بالفقر والحاجة والمصائب، فيصبر على بلائه ويرضى بقدره؛ فيلجأ إلى الله ويتضرع إليه وينيب إليه؛ فينال بذلك ثواب الصابرين ويجزيه على ذلك الأجر العظيم. ورحمة الله واسعة في السراء والضراء، قال الله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 27(58/7)
وقد دلت الآيات والأحاديث الكثيرة على وجوبها وركنيتها، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) .
ومن السنة ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (4) » متفق عليه، وما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال:. . . ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة النور الآية 56
(4) رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16.(58/8)
عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (1) » رواه البخاري. والآيات والأحاديث في وجوبها كثيرة.
ومن وجبت عليه الزكاة فامتنع عن أدائها عالما بوجوبها جاحدا لفرضيتها فهو مرتد كافر مخلد في النار والعياذ بالله، ويدل لذلك قول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (2) ، وقال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (3) {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (4) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (5) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (6) .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله (7) » متفق عليه.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد على الفقراء برقم 1496، ومسلم في (الإيمان) باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم 19.
(2) سورة التوبة الآية 11
(3) سورة فصلت الآية 6
(4) سورة فصلت الآية 7
(5) سورة التوبة الآية 34
(6) سورة التوبة الآية 35
(7) رواه البخاري في (الإيمان) باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة برقم 25، ومسلم (الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم 22.(58/9)
وما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم؛ فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار (1) » الحديث. ثم ذكر صاحب الإبل وصاحب البقر والغنم، وذكر أنه يعذب بها يوم القيامة، وهذا تهديد شديد، ووعيد عظيم يدل على أن مانع الزكاة على خطر عظيم، وأن ماله يكون شرا ووبالا عليه في الدنيا والآخرة.
وما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: (3) » . فكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه.
وقد حدث في عهد أبي بكر الصديق الخليفة الراشد الأول أن كفر بعض قبائل العرب، فامتنعوا عن أداء الزكاة، فعزم أبو بكر على
__________
(1) رواه مسلم في (الزكاة) باب إثم مانع الزكاة برقم 987.
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب إثم مانع الزكاة برقم (1403) .
(3) سورة آل عمران الآية 180 (2) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(58/10)
قتالهم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله (1) » ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: " والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله، لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله، ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.
أما من امتنع عن أداء الزكاة بخلا بها وتهاونا ولم يجحد وجوبها فإنه آثم، وقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وعرض نفسه لعذاب الله وعقابه وسخطه، وتؤخذ منه الزكاة قهرا، كدين الآدمي، بل هي أولى منه؛ لأنها حق لله تعالى لا تبرأ الذمة إلا بأدائها ولو بعد الموت، فتخرج من تركته بالنية عن صاحبها، إذ الزكاة تشترط فيها النية عند دفعها. ويجب أن تكون نية الإنسان عند دفع زكاته خالصة لله وحده، لا لقصد الرياء أو السمعة، ولا ليحمي ماله بالزكاة، أو يجلب بها نفعا، ولا يحابي بها أحدا لأغراض دنيوية. كما يجب على المزكي أن يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه، من غير تضجر بها أو منة بها على الفقير، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) الآية.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب وجوب الزكاة برقم 1400.
(2) سورة البقرة الآية 264(58/11)
وعلى المزكي أن لا يخرج الرديء والخبيث في زكاته؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (1) ، وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (3) الآية.
ومن توفر عنده مال تجب فيه الزكاة وعليه دين فلا يمنع الدين من وجوب الزكاة على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل عماله لخرص الحبوب والثمار وجبايتها، ولم يقل: انظروا هل على أصحابها دين أم لا؟
ويشترط لوجوب الزكاة خمسة شروط:
الأول: الإسلام، فلا تجب على الكافر.
الثاني: الحرية، فلا تجب الزكاة على العبد؛ لأن ماله مال سيده، والسيد يزكي ما في يد عبده.
الثالث: ملك النصاب، وقد حددت السنة المطهرة مقدار نصاب كل مال من الأموال التي تجب فيها الزكاة، فلا زكاة فيما دون النصاب.
الرابع: الملك التام، بمعنى استقرار الملك، فلا تجب الزكاة في
__________
(1) سورة البقرة الآية 267
(2) سورة آل عمران الآية 92
(3) سورة البقرة الآية 272(58/12)
المال المسروق والمغصوب حتى يرجع إليه، ولا زكاة في المال الذي اشتراه ولم يتمكن من قبضه من البائع، ولا زكاة على السيد في مال المكاتبة؛ لأن المكاتب يملك تعجيز نفسه.
الخامس: مضي الحول، إلا في الخارج من الأرض؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (1) » أخرجه الترمذي وابن ماجه. أما الخارج من الأرض كالحبوب والثمار فتزكى وقت حصادها ولا يشترط لها مضي الحول؛ لقول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) .
والأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة أصناف، هي:
الصنف الأول: سائمة بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وهي التي ترعى الحول أو أكثره واتخذت للدر والنسل؛ فتجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول وبلغت نصابا، وقد بينت السنة المطهرة نصاب كل منها.
الصنف الثاني: الخارج من الأرض، وهي الحبوب والثمار، وتخرج منها الزكاة إذا تم حصادها وعلم كيلها؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (4) وتجب فيها الزكاة إذا
__________
(1) رواه الإمام مالك في موطئه في (الزكاة) باب الزكاة في العين من الذهب والورق برقم 580.
(2) سورة الأنعام الآية 141
(3) سورة الأنعام الآية 141
(4) سورة البقرة الآية 267(58/13)
بلغت نصابا، ومقدار نصابها خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا، أي ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ومقدار الصاع أربعة أمداد، كل مد ملء كفي الرجل المعتدل.
ويجب فيها العشر إذا سقيت بلا مؤونة ولا كلفة كالأمطار والأنهار والعيون الجارية ونحو ذلك، ونصف العشر إذا سقيت بمؤونة وكلفة كالسواني والمكائن الرافعة للماء، وإن كانت تسقى بهما جميعا ففيها ثلاثة أرباع العشر، وإن تفاوت السقي فبأكثرها نفعا ونموا، ومع الجهل بذلك يخرج منها العشر احتياطا.
والحبوب هي: البر والقمح والشعير والأرز والدخن والعدس والحمص، وسائر الحبوب ولو لم تكن قوتا. وأما الثمار فمثل: التمر والزبيب واللوز والفستق والبندق، وكل ثمر يكال ويدخر. فأما سائر الثمار التي لا تكال ولا تدخر، كالفواكه والخضروات والبقول، فلا تجب الزكاة فيها.
الصنف الثالث: النقدان، وهما الذهب والفضة. ونصاب الذهب عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيهات السعودية أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، أي اثنان وتسعون غراما. ونصاب الفضة مائة وأربعون مثقالا، وتقدر بالدراهم العربية السعودية بستة وخمسين ريالا عربيا (أي فضيا) . فمن ملك منهما أو من أحدهما نصابا وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة ربع العشر.
والعملة الورقية التي يتعامل بها الناس اليوم كالريال السعودي والدينار والدرهم والدولار فهي في حكم الذهب والفضة، وإذا بلغت قيمتها نصاب الذهب أو الفضة وحال عليها الحول وجب فيها(58/14)
الزكاة ربع العشر.
وأما حلي النساء المعتاد لبسه المعد للاستعمال والعارية فلا زكاة فيه على الصحيح من قولي العلماء؛ لأنه مرصد للاستعمال المباح، وليس للنماء والتجارة، والزكاة إنما شرعت في الأموال النامية. قال الإمام أحمد: خمسة من الصحابة رضي الله عنهم لا يرون في الحلي زكاة وهم: عبد الله بن عمر وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر الصديق وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنهم وغيرهم من جمهور العلماء. أما إن أعد للتجارة أو الإيجار فتجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابا - كما سبق - وحال عليه الحول.
الصنف الرابع: عروض التجارة، وهي كل ما أعد للبيع والشراء من العقارات والسيارات والسلع، فإذا حال عليها الحول من نيتها للتجارة وبلغت قيمتها نصابا؛ فإن الزكاة تجب فيها، فتقوم عند تمام الحول، ويخرج ربع عشر قيمتها، ويدل لذلك ما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (1) » أخرجه أبو داود.
أما السيارات والعمارات المعدة للإيجار فلا زكاة في أصولها، وإنما يزكى ما تحصل من أجرتها إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول من حين عقد الإيجار.
فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يحرص على إحصاء أمواله إحصاء تبرأ به الذمة، وأن يحتاط في ذلك ويصرفها في مصارفها التي شرعها الله وذكرها في كتابه العزيز، فهو العليم بمصالح عباده وما يصلحهم، وهو العليم بمن يستحق الصدقة. وعلى الإنسان أن يتحرى
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562) .(58/15)
وأن يتأكد ممن يبذل له زكاة ماله فيتفقد أحوال المحتاجين والضعفاء ويتحسس آلامهم وحاجاتهم فيبذل لهم زكاته حتى تقع زكاته في محلها وأهلها الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (1) .
فالله سبحانه العليم الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها حدد مصارف الزكاة في ثمانية أصناف لا يجوز صرفها لغيرهم، وهم:
الأول: الفقير، وهو من يجد أقل من نصف كفايته وهو أشد حاجة من المسكين؛ لأن الله بدأ به.
الثاني: المسكين، وهو من يجد نصف كفايته أو أكثرها ولا يجد كفايته كاملة.
الثالث: العاملون عليها، وهم الذين يوكلهم ولي الأمر لجباية الزكاة، ويدخل فيهم الكتاب والخراص والحفاظ، فإذا لم يعطوا من بيت المال، فإنهم يعطون أجرتهم من الزكاة.
الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم السادة والكبراء والرؤساء الذين يطاعون في أقوامهم ممن يرجى بعطيته إسلامه أو كف شره أو قوة إيمانه، أو يرجى بعطيتهم إسلام نظرائهم أو الدفاع عن المسلمين.
الخامس: وفي الرقاب، وهم العبيد المكاتبون الذي يشرون أنفسهم من سادتهم، ولا يجدون وفاء لفك رقابهم من الرق،
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(58/16)
فيعطون ما يفك رقابهم. ويجوز أن يشرى من الزكاة أرقاء فيعتقون، ويدخل في ذلك فداء الأسير المسلم على الصحيح من أقوال العلماء؛ لما في ذلك من فك رقبته من الأسر.
السادس: الغارم، وهو من يتحمل دينا لإصلاح ذات البين من خصومة أو شحناء أو فتنة، أو يستدين دينا لحاجته وحاجة من يعول؛ فيعطى من الزكاة ما يفي دينه.
السابع: المجاهدون في سبيل الله الذين لا يصرف لهم شيء من بيت المال فيعطون ما يكفيهم من سلاح ومركب ونفقة لكف أذى أعداء الله عن المسلمين.
الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الغريب المنقطع في غير بلده إذا نفدت نفقته، أو فقدت بسرقة أو تلف، ويشق عليه أن يتزود من ماله الذي ببلده؛ فيعطى من الزكاة ما يسد حاجته إلى أن يصل بلده ولو كان غنيا في بلده.
ولا يجوز دفع الزكاة للكافر غير المؤلف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، (1) » ولا يجوز دفعها لمن تلزم دافع الزكاة نفقتهم كالزوجة والأبوين وإن علوا والأولاد وإن سفلوا؛ لأن دفع الزكاة إذا دفعها إليهم أغناهم ذلك عن نفقته الواجبة عليه، فعاد نفع زكاته إليه، وذلك لا يجوز.
وأما الزوج فيجوز للزوجة أن تدفع زكاتها له على الصحيح من قولي العلماء؛ لأنها لا تلزمها نفقته؛ فجاز إعطاؤه من زكاتها. ويسن لدافع الزكاة أن يعطي أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم ولا يعولهم من زكاته، بل هم أولى من غيرهم إذا كانوا من أهل الزكاة، فإن
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(58/17)
الصدقة عليهم صدقة وصلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة (1) » أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح (2) » أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
وبذلك يتبين أن الزكاة فيها خير عظيم ومصالح كثيرة للعباد. فمن آثارها الطيبة على آخذ الزكاة وعلى المجتمع: أنها تسد حاجة الفقراء والمحتاجين والضعفاء، وتعينهم على ما أوجب الله عليهم، وتخفف من همومهم، وتفرج كربتهم، وتدخل السرور عليهم وعلى من يعولون من أطفال وعجائز وشيوخ كبار ومرضى وأيتام، فيعيشون في سعادة وهدوء بال، وتصان كرامتهم، وتزول الفوارق الطبقية بينهم وبين الأغنياء أو تقل، وتقوى أواصر المحبة بينهم، فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
كما أن الزكاة تطهرهم من الحسد والبغضاء تجاه أصحاب الأموال، وبالتالي تقل جرائم السرقات والتخريب والقتل من أجل الاستيلاء على الأموال والحصول على لقمة العيش، وبذلك تصلح أحوال المجتمع الإسلامي، وتصلح حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية؛
__________
(1) رواه النسائي في (الزكاة) باب الصدقة على الأقارب برقم 2582، وابن ماجه في (الزكاة) باب فضل الصدقة برقم 1844.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) ، حديث أبي أيوب الأنصاري برقم 23019، والدارمي في (الزكاة) باب الصدقة على القرابة برقم 1679.(58/18)
فيعيش جميع أفراد المجتمع حياة مستقرة تسود بين أفراده المحبة والأخوة الإسلامية والتعاون، ويتماسك المجتمع بتماسك أفراده ويصمد أمام أعدائه وأمام مشاكل الحياة.
ونصيحتي لكل مسلم ومسلمة يأخذ الزكاة: أن لا يأخذ منها أكثر من حاجته، وأن لا يتخذ المسألة وسيلة للاستكثار من الأموال، فيأخذ من الزكاة وهو ليس من أهلها. فقد ورد الوعيد الشديد والترهيب فيمن سأل الناس من دون حاجة، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس تكثرا، فإنما يسأل جمرا؛ فليستقل أو ليستكثر (1) » رواه مسلم وابن ماجه، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع. ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر (2) » أخرجه الترمذي.
كما ينبغي لآخذ الزكاة أن يشكر الله على أن فرض له من الزكاة ما يكفيه هم الحاجة والفقر، ثم يشكر المعطي له من الزكاة ويدعو له ويثني عليه. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يشكر
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) ، مسند أبي هريرة برقم 7123، ومسلم في (الزكاة) باب كراهه المسألة للناس برقم 1041.
(2) رواه الترمذي في (الزكاة) باب ما جاء من لا تحل له الصدقة برقم 653.(58/19)
الله من لا يشكر الناس (1) » أخرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ، وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. ومن تمام الشكر لله تعالى أن لا يحتقر ما يعطى وإن قل، ولا يدعوه ذلك إلى ذم الناس أو سبهم؛ فالله سبحانه يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (2) . وعلى دافع الزكاة إذا ثبتت له حاجة الفقير والمسكين أن يعطيه ما يسد حاجته؛ فإنها حق فرضه الله لهم.
ونصيحتي لك يا أخي المسلم ويا أختي المسلمة، يا من أنعم الله عليه بالمال والغنى: أن تبرئ ذمتك مما وجب عليك، وأن تنقذ نفسك من النار؛ فتبادر بأداء الزكاة في وقتها دون تأخير، فتقي نفسك شر مالك ما دمت صحيحا، والمال في يدك، وأنت قادر على البذل والعطاء، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه، فنسبة الزكاة بالنسبة للمال قليلة، بل هي سبب لنماء المال وبركته وتزكيته وتطهيره من الآفات وحمايته من الهلاك بإذن الله. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) ، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (4) ، وقال
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم 7879. وأبو داود في (الأدب) باب في شكر المعروف برقم 4811.
(2) سورة التوبة الآية 91
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة سبأ الآية 39(58/20)
تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (1) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (2) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (3) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (4) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (5) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (6) {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} (7) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل (8) » رواه الإمام مسلم والترمذي. كما أنها سبب لتوفيق الله ورضائه عن عبده وحبه له، فإن بذل الزكاة ابتغاء وجه الله دليل على إيمان دافعها وعلى حبه لله حيث آثر حب الله وامتثال أمره على حب المال والدنيا الفانية؛ فإن النفوس مجبولة على حب المال، كما أن أداءها سبب لنزول المطر وحلول البركات، ومنعها سبب للقحط ومنع المطر، وسبب لهلاك المال ومحق بركته وفساده، ويدل لذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:. . . «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا (9) » . . . الحديث، أخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي وغيرهم. والحديث له شواهد تقويه، كما أن أداء الزكاة سبب للقضاء على الربا أو تقليله، حيث إن منع الزكاة أو بخس بعضها تجعل المحتاج والفقير يضطر إلى الارتماء
__________
(1) سورة الليل الآية 5
(2) سورة الليل الآية 6
(3) سورة الليل الآية 7
(4) سورة الليل الآية 8
(5) سورة الليل الآية 9
(6) سورة الليل الآية 10
(7) سورة الليل الآية 11
(8) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب استحباب العفو والتواضع برقم 2588.
(9) رواه ابن ماجه في (الفتن) ، باب العقوبات برقم 4019.(58/21)
في أحضان المرابين.
فيحسن بك أخي المسلم أن تكون معول بناء وإصلاح في مجتمعك لا معول هدم وإفساد في الأرض، وحري بك أن تطهر نفسك من البخل والشح، وأن تدرب نفسك على خلق البذل والسخاء والكرم والعطف على المساكين والرحمة بهم؛ فتؤدي حق الله في ماله الذي وهبه لك ورزقك إياه، فالمال في الحقيقة مال الله جعله وديعة عندك واستخلفك فيه اختبارا وامتحانا منه، وعليك أن تتحرى الأيام الفاضلة كشهر رمضان؛ فتؤدي زكاتك فيها، فإن الأعمال الصالحة تضاعف فيه، وذلك بشرط أن لا يترتب على ذلك تأخير دفع الزكاة عن وقت وجوبها، ولا مانع من تقديم الزكاة مسارعة لامتثال أمر الله واغتناما لمواسم الخيرات، وحري بك أخي المسلم، أن تحمد الله وتشكره على أن جعلك صاحب يد عليا تنفق وتعطي وتجود على عباده وتحسن إليهم، ولم يجعلك في موقف المحتاج الذليل الآخذ للزكاة. ومن شكره سبحانه أداء ما وجب عليك من الزكاة وغيرها، وترك ما نهاك عنه. قال صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله (1) » متفق عليه.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى برقم 1428، ومسلم في (الزكاة) باب اليد العليا خير من اليد السفلى برقم 1034.(58/22)
وعليك أخي المسلم أن تقابل إحسان الله عليك وجوده وكرمه بالجود والإحسان على الفقراء والمساكين والمحتاجين، ولا يقف إحسانك على بذل الزكاة الواجبة، بل تسابق إلى نوافل الطاعات، فتتصدق من مالك صدقة التطوع؛ فإنها سبب للنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، كما أنها تقي مصارع السوء وتدفع ميتة السوء، وتطفئ غضب الرب سبحانه، ويظل الله صاحبها في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وسببا لمضاعفة الحسنات، قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم:. . . «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (2) » أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر (3) » رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة فقلت: فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن
__________
(1) سورة البقرة الآية 245
(2) رواه الترمذي في (الجمعة) باب ما ذكر في فضل الصلاة برقم 614.
(3) رواه الطبراني في (الفتح الكبير) حرف الصاد باب صنائع المعروف تقي مصارع السوء برقم 7266.(58/23)
خلفه، وعن يمينه وشماله وقليل ما هم (1) » متفق عليه.
وختاما أسأل الله سبحانه أن يوفقني وسائر المسلمين للعمل بما يرضيه، وأن يرزقنا التنافس في الأعمال الصالحة، وأن يجعل ما من الله علينا به من نعمة المال وسيلة إلى عز الإسلام والمسلمين وبلاغا إلى رضا الله وجنته، كما أسأله أن يثبتنا على الحق وأن يتقبل منا صالح أعمالنا، كما أسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمور المسلمين جميعا، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يوفقهم للعمل بكتابه وتطبيق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يمتع خادم الحرمين الشريفين بالصحة والعافية ويطيل في عمره ويحسن عمله. إنه سميع قريب مجيب.
__________
(1) رواه البخاري في (الأيمان والنذور) باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم برقم 6638، ومسلم في (الزكاة) باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة برقم 990.(58/24)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(58/25)
صفحة فارغة(58/26)
من فتاوى الشيخ \ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية رحمه الله
الاعتراف بالخالق تعالى وأدلة وجوده
س: ما رأيكم في وجود الله سبحانه وتعالى حسب اعتقادكم لا حسب مطالعاتكم؟
ج: اعتقادنا وجود الله الإله الحق سبحانه لا إله إلا هو، واعترافنا بذلك أمر فطري وضروري، وكل إنسان ذي فطرة سليمة يعترف بذلك ومجبول على الإقرار به لما يشاهده في نفسه من خلقه على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة، وعجائب الإبداع في خلقه أضخم من إدراكه هو وأعجب من كل ما يراه حوله، ثم ما يشاهده من الحدوث والخلق والتسخير في مخلوقات الله الأخرى كالسماوات بما هي عليه من ارتفاع على غير عمد نراها، وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة وغير السيارة ومن الثوابت، ودورانها في الفلك العظيم في كل يوم وليلة، كما أن لها في نفسها سيرا يخصها، وكالبحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة فيها لتقر وتسكن مع اختلاف أشكالها وألوانها، وكالأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ الله في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والروائح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، وكذلك اختلاف الليل والنهار والشمس والقمر وتعاقبها بنظام لا يختلف ولا(58/27)
يتبدل، كل ذلك دليل على وجود الله العلي القدير وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب. هذا وشواهد المخلوقات على وجود الله سبحانه كثيرة لا تحصر.
ولما حضر أناس إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله وسألوه عن وجود الله سبحانه وتعالى، قال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر أخبرت عنه، لقد ذكر لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال لهم الإمام أبو حنيفة: ويحكم؟ ! هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة أليس لها صانع؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه لله رب العالمين.
هذه المصنوعات من أدلة التوحيد، فإنها مما يحقق أن الله على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقدرته تعالى ومشيئته ليست محصورة في وقت بل هي دائمة باستمرار، بل مما يحقق شهادة أن محمدا رسول الله، ولكن لمن شهد أنه رسول الله حقا وصدق بأخباره ورسالته، فإنه يرى في الوجود الآن نوع ما أخبر به لا عينه، فإنه أخبر بتقارب الأسواق، وأن الدجال يقطع الأرض في وقت قصير، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3340) ، صحيح مسلم الإيمان (194) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .(58/28)
دعاة الإلحاد الآن يخاف على الشباب منهم أكثر مما يخاف من دعاة الوثنية، فإنهم بثوه بأساليب عديدة في الناس فكان ضررهم أكثر، والصولات والجولات الآن معهم.(58/29)
الشرك في الربوبية أعظم من الشرك في الإلهية
س: الشرك في الربوبية أعظم، أم الشرك في الإلهية؟
ج: المتبادر أن الشرك في الربوبية أعظم، ولكن لم يجئ فيه من النصوص مثل ما جاء في الشرك في الإلهية؛ لأن أكثر الخلق لم ينازعوا فيه، وهو أمره عظيم، وإثبات متصرف مع الله تعالى وتقدس؛ ولهذا توحيد الربوبية هو الدليل على توحيد الألوهية، ولا يمكن أحدا أن يقر بتوحيد الإلهية ويجحد توحيد الربوبية أبدا. وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بعض مؤلفاته كلاما معناه: أما توحيد الربوبية فهو الأصل الأصيل.(58/29)
اعتقاد أن الرسول نور وليس بشرا
يشبه اعتقاد النصارى في المسيح
س: تذكر أن كثيرا من الناس يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور من الله وجزء منه، وليس بشرا إلى آخر السؤال؟
ج: ليس الأمر كما ذكرته من أن أكثر الناس يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور وليس بشرا، وإنما هذا معتقد فئة قليلة شاذة ضالة(58/29)
بعيدة عن ينبوع الشريعة الإسلامية ومواردها العذبة النقية الصافية، يشهد على ضلال أصحاب هذا القول وبعدهم عن الحق وانغماسهم في الباطل قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} (2) {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (3) {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} (4) إلى قوله تعالى {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (5) وقوله تعالى {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (6) .
وما روته أم سلمة قالت: «جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاما في عنقه يوم القيامة (7) » إلى آخر الحديث رواه أحمد وأبو داود، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله (8) » .
وما هذا الرأي الباطل الشاذ إلا نتيجة سيئة لترهات الصوفية ولمشايخ الطرق وخزعبلاتهم وأضاليلهم، تغذيها الاحتفالات بالموالد
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) سورة الإسراء الآية 89
(3) سورة الإسراء الآية 90
(4) سورة الإسراء الآية 91
(5) سورة الإسراء الآية 93
(6) سورة الإسراء الآية 94
(7) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(8) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .(58/30)
وما يتلى فيها من المنكرات والأضاليل والخزعبلات، وفي مقدمة المنكرات الغلو في شخص الرسول عليه الصلاة والسلام تقليدا للنصارى، ومصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى، قال: فمن؟ (1) » فلقد غلا النصارى في شخص عيسى عليه السلام وأنكروا بشريته، وقالوا عنه - زورا وبهتانا وإثما مبينا - بأنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
لقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحذر على أمته أن تسلك المسلك الذي سلكه النصارى في رسولهم عيسى عليه السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله (2) » . وقال أيضا: «إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3057) .(58/31)
المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب
س: هل مات عيسى على الصليب؟
ج: المسيح عليه السلام قد صانه الله وحماه، فلم يقتل ولم يصلب، وإنما قتل وصلب المشبه به. وذلك أنه عليه السلام لما قصد منه أعداؤه من اليهود مقصد السوء وقاه الله كيدهم ورفعه عنهم في السماء، وألقى شبهه على رجل من الحواريين فأمسكوه وقتلوه وصلبوه بناء منهم على أنه المسيح عليه السلام، قال الله تعالى في حق(58/31)
اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (2) {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (3) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (4) {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (5) .
فمن تأمل هذه الآيات عرف كذب اليهود بدعواهم قتله وصلبه، ولكن هموا بقتله وعزموا عليه وحاصروه ومن معه في البيت فأنقذه الله من كيدهم ورفعه إليه وألقى شبهه على واحد من أصحابه، وتأمل قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (6) تجد ذلك صريحا. وقد صرح المفسرون المحدثون والمؤرخون بمعنى ما ذكرنا.
قال ابن كثير: قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: كان يوجد في زمن عيسى ملك اسمه داود بن نورا، فلما سمع بخبر عيسى أمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار بيت المقدم، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقي شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده، ورفع عيسى من روزنة في ذلك البيت إلى السماء وأهل البيت ينظرون، ودخل الشرطة فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقي عليه شبهه فأخذوه ظانين أنه عيسى، فصلبوه ووضعوا الشوك
__________
(1) سورة النساء الآية 155
(2) سورة النساء الآية 156
(3) سورة النساء الآية 157
(4) سورة النساء الآية 158
(5) سورة النساء الآية 159
(6) سورة النساء الآية 157(58/32)
على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب، وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا، وقال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) ، ففي هذه الآيات أن الله وعده بأنه سيتوفاه ويرفعه إليه ويطهره من الذين كفروا، وقد صدق الله وعده وهو لا يخلف الميعاد.
وهذه الوفاة هي النوم كما قال غير واحد من العلماء بأنه نزل عليه النوم حينما رفع. والنوم يعبر عنه بالوفاة قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (2) .
ومما يدل على أنه رفع إلى السماء وأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض فيقتل الدجال، ما قاله ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (3) أي: بعد نزوله إلى الأرض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وتصير الملل في ذلك الوقت ملة واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم، فلا يبقى أحد من أهل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55
(2) سورة الزمر الآية 42
(3) سورة النساء الآية 159(58/33)
الكتاب إلا آمن به، وقيل بل اليهود خاصة. وقال الحسن على هذه الآية: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1) قال: قبل موت عيسى، والله إنه لحي الآن عند الله. وأصرح ما قيل في تفسير هذه الآيات ما قاله ابن جرير رحمه الله: إنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا من آمن به قبل موته عليه السلام فيكون الضمير عائدا إلى عيسى.
ثم ساق الأحاديث الواردة في هذا، ومنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة لله خير له من الدنيا وما فيها (2) » . وقد روي أنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق. وأنه يقاتل الدجال هو ومن معه من جنود الإسلام المنصورة فيدرك الدجال عند باب لد أو إلى جانب لد فيقتله. قال مجمع بن حارثة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد أو إلى جانب لد (3) » . وليس فيما يذكر من كذب اليهود بقتل عيسى عليه السلام ما يدل على براءتهم من إثم قتله وارتكاب جريمة اغتياله عليه السلام، فإنهم وإن لم يقتلوه بالفعل إلا أنهم صمموا على قتله، وبذلوا كل ما يستطيعون، وعملوا مع من ألقي عليه شبهه من قتله وصلبه وصفعه وإلقاء الشوك عليه وغر ذلك من الأشياء التي عملوها ظانين أنه عيسى عليه السلام، ثم صاروا يفتخرون بقتله، فقد باءوا بإثم قتله
__________
(1) سورة النساء الآية 159
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3448) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/538) .
(3) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .(58/34)
بلا شك. ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول. قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه (1) » . فكيف يستسيغ أحد أن يبرأ اليهود من إثم قتل المسيح عليه السلام مع هذا الحديث الصريح وغيره من الأدلة، وهم لم يقتلوا الذي ألقي عليه شبهه إلا على أنه هو. وكل من عرف اليهود عرف أنهم أعداء لله وأعداء لرسله وأعداء للمسلمين بل أعداء للنصارى، والله المستعان.
س: قولهم: هل قال شيخ علماء الأزهر الشيخ شلتوت شيئا من هذا القبيل، وإذا كان قال شيئا فما الذي قاله؟
ج: إننا لا نعنى بتتبع أقوال شلتوت، ولا نعلم عما قاله، وإذا كان قد قال شيئا فقوله مما يحتاج أن يستدل له لا أن يستدل به، فقد أغنتنا نصوص الوحيين وكلام العلماء المحققين عن كلام غيرهم.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (31) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2888) ، سنن النسائي تحريم الدم (4122) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4268) ، سنن ابن ماجه الفتن (3965) ، مسند أحمد بن حنبل (5/51) .(58/35)
الثناء في القرآن على طائفة من النصارى
استجابت للحق لا على جميع النصارى
س: إن الله تعالى يقول في كتابه عن النصارى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (1) الآيات، ومعلوم لدينا في الوقت الحاضر عداوتهم الشديدة للإسلام
__________
(1) سورة المائدة الآية 82(58/35)
والمسلمين. فما موقفنا منهم؟ ويقول: هل تجوز اللعنة عليهم كما جازت على اليهود؟ ويصف شدة حيرته في هذه المسألة.
ج: ليس في الثناء المذكور في هذه الآيات ما يوجب الحيرة في شأن النصارى والتوقف في لعنتهم، فإن الموصوفين بتلك الصفات ليس المقصود بهم جميع النصارى، بل طائفة منهم استجابت للحق ولم تستكبر عن اتباعه. وفي تعيين تلك الطائفة مسلكان للمفسرين:
1 - أن المقصود بهذه الطائفة أصحاب النجاشي: إما الذين آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين كما في رواية أبي الشيخ وابن جرير عن عطاء. وإما الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، لما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (1) قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
2 - أن تلك الطائفة قوم كانوا على شريعة عيسى عليه السلام من أهل الإيمان، فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به وصدقوه؛ لما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (2) قال: أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى يؤمنون به وينتهون إليه، فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة المائدة الآية 82
(2) سورة المائدة الآية 82(58/36)
صدقوه وآمنوا به وعرفوا ما جاء به من الحق أنه من عند الله فأثنى عليهم بما تسمعون. وعلى هذين التفسيرين اقتصر ابن جرير الطبري في تفسيره؛ اختار أن هذه الآيات في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا أصحاب النجاشي أو غيرهم. وعبارته: والصواب في ذلك عندي أن الله وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ولم يبين لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي. ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى عليه السلام فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ولم يستكبروا عنه.
وتوجيه هذه الآيات إلى أنها في طائفة معينة من النصارى استجابت للحق هو المشهور، وهو الذي يقتضيه سياق الآيات المسئول عنها. وإليه مال العلامة ابن القيم في (هداية الحيارى من اليهود والنصارى) . ثم قال بعد كلام طويل في هذه الآيات: والمقصود أن هؤلاء: أي الموصوفين بهذه الصفات الذين عرفوا أنه رسول الله بالنعت الذي عندهم فلم يملكوا أعينهم من البكاء وقلوبهم من المبادرة إلى الإيمان.
وقال ابن كثير في تفسيره: وهذا الصنف من النصارى أي الذين أثنى الله عليهم في هذه الآيات هم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (1) الآية وهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 199(58/37)
الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} (1) {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (2) إلى قوله {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (3) ، ولهذا قال تعالى هنا: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (4) أي: فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق جنات تجري من تحتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} (5) أي: ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (6) أي: في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأيا كان، ومع من كان اهـ.
وممن صرح بأن هذه الآيات لم يرد بها جميع النصارى الإمام البغوي في معالم التنزيل. قال في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (7) لم يرد به جميع النصارى؛ لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريبهم بلادهم، وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم لا، ولا كرامة لهم، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه. وحكى القول بأن ذلك في جميع النصارى لما فيهم من اللين حكاه بصفة التمريض.
وأما لعنة من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى فلا يحصى ما جاء من الأدلة القطعية، ومنها ما روى البخاري ومسلم في
__________
(1) سورة القصص الآية 52
(2) سورة القصص الآية 53
(3) سورة القصص الآية 55
(4) سورة المائدة الآية 85
(5) سورة المائدة الآية 85
(6) سورة المائدة الآية 85
(7) سورة المائدة الآية 82(58/38)
صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، (1) » وكيف لا يلعن من وصف الله قوله في كتابه إذ يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (2) ، وإذ يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (3) إلى غير ذلك من النصوص المتضمنة لكفرياتهم وضلالاتهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الضالين في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (4) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (5) بأنهم النصارى. وقال الإمام ابن أبي حاتم في تفسيره: لا أعلم بين المفسرين في هذا - أي تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى - اختلافا اهـ.
ومن الآيات المصرحة. بمصيرهم قوله تعالى آخر تلك الآيات التي ذكرها السائل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (6) .
والخلاصة: أن الآيات لا تعني جميع النصارى بل إنما تعني طائفة منهم استجابت للحق بعدما عرفته ولم تستكبر عن اتباعه، وأن لعنة النصارى جائزة مثل لعنة اليهود. والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة المائدة الآية 73
(4) سورة الفاتحة الآية 6
(5) سورة الفاتحة الآية 7
(6) سورة المائدة الآية 86(58/39)
س: حديث «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (1) » هل هو الناقل عن الملة؟
ج: اختلف أهل العلم فيه. فقيل: إنه لا يخرجه من الإسلام بل هو من العصاة من أهل الإسلام المتغلظة معاصيهم، وإلا لو كان كافرا لما قيد بأربعين. وقيل: إن هذا من أحاديث الوعيد فيمر كما جاء ولا يتعرض له بتأويل. وهذا قول أحمد وعامة السلف؛ لأن ذلك أبلغ في الردع عن الجرائم. فالأول ليس من التأويل. وهو تأدب في المعنى مع اللفظ. والثاني تأدب مع اللفظ، وكل مصيب.
ولكن الأولى أن يقال لمن يظن أنه يرى مذهب الخوارج: لا ينقل فإنه بيان لحكمه، فإن الخوارج زعموا أنه وأشباهه دليل على تكفير العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإن كان الحال مأمونا أن ينزع به أحد إلى تكفير العصاة قيل كما في النص: أطلق كما أطلق النص.
وكذلك المنجم والضارب بالحصى والودع، لكن عدم كفر الواحد منهما ما لم يعتقد إباحته، فإن اعتقد إباحته فهو مرتد؛ لأن برهانها ظاهر بالشرع؛ لأنه معلق على الاستخذاء للشياطين بهم. وكذلك ما لم يدع أنه يعلم الغيب، أو يدع التصرف في الوجود في بعض الأشياء. وكثير منهم أو أكثرهم لا ينفكون عن ادعاء علم المغيبات. ويعزر أصحاب هذه الأمور تعزيرا يردعهم وأمثالهم ثم يكف عنهم. والتعزير يرجع إلى الإمام الناظر النظر الشرعي، فإذا اقتضى القتل لا سيما من كان له شهرة في ذلك فإنه يقتل.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(58/40)
من فتاوى سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا
شرح معنى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (1)
س: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) ، والسؤال هو: أن بعض المسلمين يأخذون بهذه الآية أنه لا حرج على المسلم أن يذهب ويشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله أن يستغفر له رسول الله وهو في قبره، فهل هذا العمل صحيح كما قال تعالى. وهل معنى جاءوك في حياتك أم في موتك؟ وهل يرتد المسلم عن الإسلام إذا لم يحكم سنة رسول الله؟ وهل التشاجر على الدنيا أم على الدين؟
ج: هذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي، أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة النساء الآية 64
(3) سورة النساء الآية 65(58/41)
من الشرك أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام، والمراد بهذا المجيء: المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم وهو يدعو المنافقين وغيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله، ويطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم وأن يصلح أحوالهم؛ ولهذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) فطاعة الرسول إنما تكون بإذن الله، يعني الإذن الكوني القدري، فمن أذن الله له وأراد هدايته اهتدى، ومن لم يأذن الله في هدايته لم يهتد، فالأمر بيده سبحانه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) أما الإذن الشرعي فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا، وأراد منهم ذلك شرعا وأمرهم به، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) ، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (4) ، ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} (5) ، أي تائبين لا مجرد قول، واستغفر لهم
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة النساء الآية 26
(5) سورة النساء الآية 64(58/42)
الرسول، أي: دعا لهم بالمغفرة، لوجدوا الله توابا رحيما، فهو حث لهم أي للعباد على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه وسلم ليعلنوا عنده توبتهم وليسأل الله لهم، وليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما يظنه بعض الجهال، فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع، وإنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد والقراءة فيه ونحو ذلك، فإذا أتى المسجد سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط، بل من أجل المسجد وتكون الزيارة لقبره صلى الله عليه وسلم، وقبر الصديق وعمر رضي الله عنهما تابعة لزيارة المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق على صحته، فالقبور لا تشد إليها الرحال، ولكن متى وصل إلى المسجد النبوي فإنه يشرع له أن يسلم عليه صلى الله عليه وسلم، ويسلم على صاحبيه رضي الله عنهما، لكن لا يشد الرحال من أجل الزيارة فقط للحديث المتقدم.
وأما ما يتعلق بالاستغفار: فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته، والدليل على هذا أن الصحابة لم يفعلوا ذلك، وهم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه الناس في دينه، ولأنه عليه الصلاة والسلام لا يملك ذلك بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » ، وأما ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أن من صلى
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(58/43)
عليه تعرض صلاته عليه فذلك شيء خاص يتعلق بالصلاة عليه، ومن صلى عليه صلى الله عليها بها عشرا، وقال عليه الصلاة والسلام: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي قيل: يا رسول الله: كيف وقد أرمت أي: بليت. قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، (1) » فهذا حكم خاص بالصلاة عليه. وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام (2) » فهذا شيء خاص للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يبلغ ذلك، وأما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر ويستغفر عند القبر فهذا لا أصل له، بل هو منكر، ولا يجوز وهو وسيلة للشرك، مثل أن يأتي فيسأله الشفاعة أو شفاء المريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك، أو يسأله أن يدعو له فهذا لا يجوز؛ لأن هذا ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ولا من خصائص غيره، فكل من مات لا يدعى ولا يطلب منه الشفاعة لا النبي ولا غيره، وإنما الشفاعة تطلب منه في حياته، فيقال: يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي، اشفع لي أن يشفي الله مريضي وأن يرد غائبي، وأن يعطيني كذا وكذا، وهكذا يوم القيامة بعد البعث والنشور، فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضي بينهم فيعتذر، ويحيلهم إلى نوح فيأتونه فيعتذر، ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر، فيحيلهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر، ثم يحيلهم موسى إلى عيسى فيعتذر، عليهم جميعا الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيقول عليه الصلاة والسلام: أنا لها، أنا لها
__________
(1) سنن النسائي الجمعة (1374) ، سنن أبو داود الصلاة (1047) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1636) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) ، سنن الدارمي الصلاة (1572) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(58/44)
فيتقدم ويسجد تحت العرش ويحمد ربه بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه، ثم يقال له: ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فيشفع صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، وهكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم موجود، أما في البرزخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يسأل الشفاعة ولا يسأل شفاء المريض ولا رد الغائب ولا غير ذلك من الأمور، وهكذا بقية الأموات لا يسألون شيئا من هذه الأمور، بل يدعى لهم ويستغفر لهم إذا كانوا مسلمين، وإنما تطلب هذه الأمور من الله سبحانه، مثل أن يقول المسلم: اللهم شفع في نبيك عليه الصلاة والسلام، اللهم اشف مريضي، اللهم انصرني على عدوي، ونحو ذلك؛ لأنه سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ، ويقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) الآية، أما قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (3) الآية، فهي عامة على ظاهرها، فلا يجوز للمسلمين أن يخرجوا عن شريعة الله، بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات، وفيما يتعلق بالمعاملات، وفي جميع الشئون الدينية والدنيوية لكونها تعم الجميع، ولأن الله سبحانه يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4)
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 50(58/45)
ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) ، فهذه الآيات عامة لجميع الشئون التي يتنازع فيها الناس ويختلفون فيها، ولهذا قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (4) يعني الناس من المسلمين وغيرهم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (5) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك بتحكيمه صلى الله عليه وسلم حال حياته وتحكيم سنته بعد وفاته، فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أنزل من القرآن والسنة؛ {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (6) أي فيما تنازعوا فيه، هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم، في حياته وبعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان القرآن الكريم وتفسير له ودلالة على معانيه، أما قوله سبحانه: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7) فمعناه أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه صلى الله عليه وسلم، وألا يبقى في صدورهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه وهو حكم الله عز وجل، فالواجب التسليم له وانشراح الصدر بذلك وعدم الحرج، بل عليهم أن يسلموا
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) سورة المائدة الآية 47
(4) سورة النساء الآية 65
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة النساء الآية 65
(7) سورة النساء الآية 65(58/46)
لذلك تسليما كاملا رضا بحكم الله واطمئنانا إليه، هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى وخصومات، سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شئونهم.
وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس، فلا بد من هذا، فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال: إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية. فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه ويكون بذلك كافرا كفرا أكبر، فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حكم كان أفضل، أو رأى أن القانون أفضل، أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام. وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يقول: إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع.
النوع الثاني: أن يقول: إن الشرع والقانون سواء ولا فرق.
النوع الثالث: أن يقول: إن القانون أفضل وأولى من الشرع. وهذا أقبح الثلاثة، وكلها كفر وردة عن الإسلام.
أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله، وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله ولكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه، أو لرشوة، أو لأمور سياسية، أو ما أشبه ذلك من الأسباب وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ(58/47)
ومخالف للشرع فهذا يكون ناقص الإيمان، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب، وهو بذلك يكون كافرا كفرا أصغر، وظالما ظلما أصغر، وفاسقا فسقا أصغر، كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وجماعة من السلف رحمهم الله، وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم. والله المستعان.(58/48)
معنى قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1)
س: قال الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2) هل معنى هذا أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بكتاب الله ولا يجتهد رأيه فيما لم ينزل عليه كتاب؟ وهل اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بما أنزل الله عليه، قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) ، فكان يحكم بما أنزل الله، فإذا لم يكن هناك نص عنده اجتهد عليه الصلاة والسلام وحكم بما عنده من الأدلة الشرعية كما قال في الحديث الصحيح: «إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة النساء الآية 105
(3) سورة المائدة الآية 49(58/48)
من النار فليحملها أو يذرها (1) » متفق على صحته من حديث أم سلمة رضي الله عنها، ومعنى هذا أنه قد يجتهد في الحكم حسب القواعد الشرعية؛ لأنه لم ينزل عليه فيه شيء، فمن عرف أن الحكم ليس بمطابق، وأن الشهود زور؛ فقد أخذ قطعة من النار، فليحذر ذلك وليتق الله في نفسه، ولو كان الرسول هو الحاكم عليه؛ لأن الحاكم ليس له إلا الظاهر من ثقة الشهود وعدالتهم، أو يمين المدعى عليه، فإذا كان المدعي أحضر شهودا يعلم أنهم قد غلطوا ولو كانوا تقاة وأن الحق ليس له، أو يعلم أنهم شهود زور ولكن القاضي اعتبرهم عدولا؛ لأنهم عدلوا عنده وزكوا لديه، فإن هذا المال الذي يحكم به له أو القصاص كله باطل بالنسبة إليه لعلمه ببطلانه، وهو قد تعدى حدود الله وظلم، وإن حكم له القاضي؛ لأن القاضي ليس له إلا الظاهر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار (2) » والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله فيما أوصاه الله إليه، وما لم يكن فيه نص اجتهد فيه عليه الصلاة والسلام حتى تتأسى به الأمة، وهو في ذلك كله يعتبر حاكما بما أنزل الله؛ لكونه حكم بالقواعد الشرعية التي أمر الله أن يحكم بها، ولهذا قال للزبير بن العوام رضي الله عنه لما ادعى على شخص في أرض: «شاهداك أو يمينه فقال الزبير: إذا يحلف يا رسول الله ولا يبالي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا ذلك (3) » متفق عليه «ولما بعث معاذا وفدا إلى اليمن قال له: إن عرض لك قضاء فبم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد قال: فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن لم تجد. قال: أجتهد رأيي ولا
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7169) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/307) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(2) صحيح البخاري الحيل (6967) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن النسائي آداب القضاة (5401) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(3) صحيح البخاري الرهن (2516) .(58/49)
آلو، فضربه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله (1) » رواه الإمام أحمد وجماعة بإسناد حسن.
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1327) ، سنن أبو داود الأقضية (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (5/230) ، سنن الدارمي المقدمة (168) .(58/50)
تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1)
س: الأخ: أ. ع. ز. من بانياس الساحل في سوريا يقول في سؤاله: قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) ، وهذا يعني أنه سبحانه ألزم نفسه بنفسه إطعام كل ما يدب على هذه الأرض من إنسان أو حيوان أو حشرات. . . إلخ، فبماذا نفسر المجاعة التي تجتاح بلدان قارة إفريقيا؟
ج: الآية على ظاهرها، وما يقدر الله سبحانه من الكوارث والمجاعات لا تضر إلا من تم أجله وانقطع رزقه، أما من كان قد بقي له حياة أو رزق، فإن الله يسوق له رزقه من طرق كثيرة قد يعلمها وقد لا يعلمها، لقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) ، وقوله:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (5) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تموت نفس
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة هود الآية 6
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة العنكبوت الآية 60(58/50)
حتى تستكمل رزقها وأجلها» وقد يعاقب الإنسان بالفقر وحرمان الرزق لأسباب فعلها من كسل وتعطيل للأسباب التي يقدر عليها، أو لفعله المعاصي التي نهاه الله عنها، كما قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) الآية، وقال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) الآية، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (3) » رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد.
وقد يبتلى العبد بالفقر والمرض وغيرهما من المصائب لاختبار شكره وصبره لقول الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (4) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (5) وقوله عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (6) ، والمراد بالحسنات في هذه الآية النعم، وبالسيئات المصائب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/282) .
(4) سورة البقرة الآية 155
(5) سورة البقرة الآية 156
(6) سورة الأعراف الآية 168(58/51)
فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .(58/52)
س: هل الدعاء والصدقة ترد القضاء والقدر؟
ج: قدر الله عز وجل ماض في عباده كما قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) ، وقال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) ،، وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان: «الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء (5) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «كل شيء بقدر حتى العجز
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة الحج الآية 70
(3) سورة القمر الآية 49
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(5) صحيح مسلم القدر (2653) ، سنن الترمذي القدر (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (2/169) .(58/52)
والكيس (1) » رواه مسلم أيضا، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الحوادث معلقة بأسبابها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وإن البر يزيد في العمر ولا يرد القدر إلا الدعاء (2) » ومراده صلى الله عليه وسلم أن القدر المعلق بالدعاء يرده الدعاء، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أجله فليصل رحمه (3) » . فالأقدار تردها الأقدار التي جعلها الله سبحانه مانعة لها، والأقدار المعلقة على وجود أشياء كالبر والصلة والصدقة توجد عند وجودها، وكل ذلك داخل في القدر العام المذكور في قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (4) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وتؤمن بالقدر بخيره وشره (5) » ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (6) » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن صدقة السر تطفئ غضب الله وتدفع ميتة السوء (7) » وجميع الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب تدعو إلى إيمان العبد بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما تدعوه إلى أن يسارع في الخيرات، وينافس في الطاعات، ويحرص على أسباب الخير ويبتعد عن أسباب الشر، ويسأل ربه التوفيق والإعانة على كل ما فيه رضا الله سبحانه والسلامة من كل سوء، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/110) ، موطأ مالك الجامع (1663) .
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/282) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2067) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2557) ، سنن أبو داود الزكاة (1693) ، مسند أحمد بن حنبل (3/229) .
(4) سورة القمر الآية 49
(5) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/53) .
(6) سنن الترمذي الجمعة (614) .
(7) سنن الترمذي الزكاة (664) .(58/53)
لأصحابه ذات يوم: «ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه: (7) » ، والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4948) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3344) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/129) .
(2) سورة الليل الآية 5 (1) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(3) سورة الليل الآية 6 (2) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
(4) سورة الليل الآية 7 (3) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
(5) سورة الليل الآية 8 (4) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
(6) سورة الليل الآية 9 (5) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
(7) سورة الليل الآية 10 (6) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(58/54)
س: قرأت حديثا فما مدى صحته؟ وهو: من كان اسمه محمدا فلا تضربه ولا تشتمه.
ج: هذا الحديث مكذوب وموضوع على الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لذلك أصل في السنة المطهرة، وهكذا قول من قال: من سمي محمدا فإنه له ذمة من محمد، ويوشك أن يدخله بذلك الجنة، وهكذا من قال: " من كان اسمه محمدا فإن بيته يكون لهم كذا وكذا " فكل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، فالاعتبار باتباع محمد، وليس باسمه صلى الله عليه وسلم، فكم ممن سمي محمدا وهو خبيث؛ لأنه لم يتبع محمدا ولم ينقد لشريعته، فالأسماء لا تطهر الناس، وإنما تطهرهم أعمالهم الصالحة وتقواهم لله جل وعلا، فمن تسمى بأحمد أو بمحمد أو بأبي القاسم وهو كافر أو فاسق لم ينفعه ذلك، بل الواجب على العبد أن يتقي(58/54)
الله ويعمل بطاعة الله ويلتزم بشريعة الله التي بعث بها نبيه محمدا، فهذا هو الذي ينفعه، وهو طريق النجاة والسلامة، أما مجرد الأسماء من دون عمل بالشرع المطهر فلا يتعلق به نجاة ولا عقاب، ولقد أخطأ البوصيري في بردته حيث قال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو وفي الخلق بالذمم
وأخطأ خطأ أكبر من ذلك بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل هذا المسكين لياذه في الآخرة بالرسول صلى الله عليه وسلم دون الله عز وجل، وذكر أنه هالك إن لم يأخذ بيده، ونسي الله سبحانه الذي بيده الضر والنفع، والعطاء والمنع، وهو الذي ينجي أولياءه، وأهل طاعته، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو مالك الدنيا والآخرة، وأنها بعض جوده، وجعله يعلم الغيب، وأن من علومه علم ما في اللوح والقلم، وهذا كفر صريح، وغلو ليس فوقه غلو، نسأل الله العافية والسلامة.
فإن كان مات على ذلك ولم يتب فقد مات على أقبح الكفر، والضلال، على كل مسلم أن يحذر هذا الغلو، وألا يغتر بالبردة وصاحبها. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(58/55)
س: ما صحة حديث سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم: تعلموا السحر ولا تعملوا به؟
ج: هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يجوز تعلم السحر ولا العمل به، وذلك منكر بل كفر وضلال، وقد بين الله إنكاره للسحر في كتابه الكريم في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) ، فأوضح سبحانه في هذه الآيات أن السحر كفر، وأنه من تعليم الشياطين، وقد ذمهم الله على ذلك وهم أعداؤنا، ثم بين أن تعليم السحر كفر، وأنه يضر ولا ينفع، فالواجب الحذر منه؛ لأن تعلم السحر كله كفر، ولهذا أخبر عن الملكين أنهما لا يعلمان الناس حتى يقولا للمتعلم: إنما نحن فتنة فلا تكفر، ثم قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (3) فعلم أنه كفر وضلال، وأن السحرة لا يضرون أحدا إلا بإذن الله، والمراد بذلك إذنه سبحانه الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه سبحانه لم
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 103
(3) سورة البقرة الآية 102(58/56)
يشرعه، ولم يأذن فيه شرعا بل حرمه ونهى عنه، وبين أنه كفر ومن تعليم الشياطين، كما أوضح سبحانه أن من اشتراه أي اعتاضه وتعلمه ليس له في الآخرة من خلاق، أي من حظ ولا نصيب، وهذا وعيد عظيم، ثم قال سبحانه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) والمعنى باعوا أنفسهم للشيطان بهذا السحر، ثم قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) ؛ فدل ذلك على أن تعلم السحر والعمل به ضد الإيمان والتقوى ومناف لهما. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 103(58/57)
س: إذا توفي واحد عندنا في السودان بعد أربعين يوما تقوم الأسرة بزيارة القبر، النساء والأولاد يفتحون القبر ومعهم حبوب ذرة ينشرونها على الميت ويرمون فيما أعتقد حجارة على الميت، وهل الحريم يزرن القبر؟
ج: هذا بدعة لا أصل له في الشرع، فرمي الحبوب والطيب والملابس كله منكر لا أصل له، فالقبر لا يفتح إلا لحاجة كأن ينسى العمال أدواتهم كالمسحاة فيفتح لأجل ذلك، أو يسقط لأحدهم شيء له أهمية فيفتح القبر لذلك، أما أن يفتح للحبوب أو ملابسه أو نحو ذلك فلا يجوز. وليس للنساء زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وحسان بن ثابت رضي الله عنهم؛ فلا يجوز لهن زيارتها، لكنها مشروعة للرجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » رواه مسلم في صحيحه. والحكمة - والله أعلم - في نهي النساء عن ذلك هي أنهن فتنة وقليلات الصبر.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(58/57)
س: لو طلب مني رجل مسيحي مصحفا هل أعطيه أو لا؟
ج: ليس لك أن تعطيه، ولكن تقرأ عليه القرآن، وتسمعه القرآن، وتدعوه إلى الله وتدعو له بالهداية؛ لقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو لئلا تناله أيديهم (2) » فدل ذلك على أنه لا يعطى الكافر المصحف خشية أن يهينه أو يعبث به، ولكن يعلم ويقرأ عليه القرآن ويوجه ويدعى له، فإذا أسلم سلم له المصحف، ولا مانع أن يعطى بعض كتب التفسير أو بعض كتب الحديث إذا رجي انتفاعه بذلك أو بعض تراجم معاني القرآن الكريم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/10) .(58/58)
س: حدثونا لو تكرمتم عما وعد الله به الصابرين في الدنيا والآخرة، والعاملين في الآخرة، وسبق أن سأل عما يجب على الإنسان أن يفعله تجاه هذه الدنيا وحبها ومتاعها؟
ج: نعم، إن الله خلق الخلق لعبادته، أي ليعبدوه وحده لا شريك له، ليعبدوه وحده بأن يطيعوا أوامره وينتهوا عن نواهيه، ويكثروا من ذكره، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وعبادته هي توحيده سبحانه بدعائه وبخوفه ورجائه والصلاة والصيام
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(58/58)
وغير ذلك وطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ووعدهم في الدنيا الخير الكثير والعاقبة الحميدة، ووعدهم في الآخرة بالجنة والكرامة، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) ، وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (5) » فالصابر له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، أو له العاقبة الحميدة في الآخرة إذا صبر على تقوى الله سبحانه وطاعته، وصبر على ما ابتلي به من شظف العيش والفاقة، أو الفقر والمرض وتسديد بعض العازات، والصبر عاقبته حميدة، قال تعالى في حق بعض المؤمنين وعدوهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) .
الصبر له عواقب حميدة إذا صبر على طاعة الله وعلى مصائب الدنيا، وإذا استقام على أمر الله؛ فإن له النعيم في الآخرة، فالصابر مرتاح الضمير والقلب، جاهد نفسه بالله وصبر على ما ابتلي به من الفقر والأعمال الشاقة، وفي الآخرة في دار النعيم مع الإيمان والتقوى. والله أعلم.
__________
(1) سورة هود الآية 49
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة البقرة الآية 157
(5) صحيح البخاري الزكاة (1469) ، صحيح مسلم الزكاة (1053) ، سنن الترمذي البر والصلة (2024) ، سنن النسائي الزكاة (2588) ، سنن أبو داود الزكاة (1644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/94) ، موطأ مالك الجامع (1880) ، سنن الدارمي الزكاة (1646) .
(6) سورة آل عمران الآية 120(58/59)
س: يقول السائل: كثر كلام الناس واختلف حول قبر سيدنا الحسين أين مكانه؟ وهل يستفيد المسلمون من معرفة مكانه بالتحديد؟
ج: في الواقع قد اختلف الناس في ذلك، فقيل: إنه دفن في الشام، وقيل: في العراق، والله أعلم بالواقع. أما رأسه فاختلف فيه، فقيل: في الشام، وقيل في العراق، وقيل: في مصر، والصواب أن الذي في مصر ليس في قبرا له، بل هو غلط وليس به رأس الحسين، وقد ألف في ذلك بعض أهل العلم، وبينوا أنه لا أصل لوجود رأسه في مصر، ولا وجه لذلك، وإنما الأغلب أنه في الشام؛ لأنه نقل إلى يزيد بن معاوية وهو في الشام، فلا وجه للقول بأنه نقل إلى مصر، فهو إما حفظ في الشام في مخازن الشام، وإما أعيد إلى جسده في العراق. وبكل حال فليس للناس حاجة في أن يعرفوا أين دفن وأين كان، وإنما المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة، غفر الله له ورضي عنه، فقد قتل مظلوما؛ فيدعى له بالمغفرة والرحمة، ويرجى له خير كثير، وهو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهما وأرضاهما، ومن عرف قبره وسلم عليه ودعا له فلا بأس، كما تزار القبور الأخرى، من غير غلو فيه ولا عبادة له، ولا يجوز أن تطلب منه الشفاعة ولا غيرها كسائر الأموات؛ لأن الميت لا يطلب منه شيء، وإنما يدعى له ويترحم عليه إذا كان مسلما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » فمن زار قبر الحسين أو الحسن أو غيرهما من المسلمين للدعاء لهم والترحم عليهم
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(58/60)
والاستغفار لهم كما يفعل مع بقية قبور المسلمين فهذا سنة، أما زيارة القبور لدعاء أهلها أو الاستعانة بهم أو طلبهم الشفاعة فهذا من المنكرات، بل من الشرك الأكبر، ولا يجوز أن يبنى عليها مسجد ولا قبة ولا غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها، فلا يجوز أن يجصص القبر أو يطيب أو توضع عليه الستور أو يبنى عليه، فكل هذا ممنوع ومن وسائل الشرك، ولا يصلى عنده؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وهذا الحديث يدل على أنه لا تجوز الصلاة عند القبور ولا اتخاذها مساجد، ولأن ذلك وسيلة للشرك، وأن يعبدوا من دون الله بدعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم، والتمسح بقبورهم طلبا لبركتهم، فلهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وإنما تزار القبور زيارة شرعية فقط، للسلام عليهم والدعاء لهم والترحم عليهم من دون شد رحل لذلك. والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(58/61)
س: ما حكم من يدعي أنه قد رأى رب العزة في المنام؟ وهل كما يزعم البعض أن الإمام أحمد بن حنبل قد رأى رب العزة والجلال في المنام أكثر من مائة مرة؟
ج: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وآخرون أنه يمكن أن يرى الإنسان ربه في المنام، ولكن يكون ما رآه ليس هو الحقيقة؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، فليس يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن قد يرى في النوم أنه يكلمه ربه، ومهما رأى من الصور فليست هي الله جل وعلا؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، فلا شبيه له ولا كفو له. وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله في هذا أن الأحوال تختلف بحسب حال العبد الرائي، وكلما كان الرائي من أصلح الناس وأقربهم إلى الخير كانت رؤيته أقرب إلى الصواب والصحة، لكن على غير الكيفية التي يراها، أو الصفة التي يراها؛ لأن الأصل الأصيل أن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى.
ويمكن أن يسمع صوتا ويقال له كذا وافعل كذا، ولكن ليس هناك صورة مشخصة يراها تشبه شيئا من المخلوقات؛ لأنه سبحانه ليس له شبيه ولا مثيل سبحانه وتعالى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه في المنام، من حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه، وجاء في عدة طرق أنه رأى ربه، وأنه سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(58/62)
وضع يده بين كتفيه حتى وجد بردها بين ثدييه، وقد ألف في ذلك الحافظ ابن رجب رسالة سماها: " اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى " وهذا يدل على أن الأنبياء قد يرون ربهم في النوم، فأما رؤية الرب في الدنيا بالعيان فلا. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت، أخرجه مسلم في صحيحه «ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نورا (1) » وفي لفظ «نور أنى أراه (2) » رواهما مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فأخبرت أنه لا يراه أحد في الدنيا لأن رؤية الله في الجنة هي أعلى نعيم المؤمنين، فهي لا تحصل إلا لأهل الجنة ولأهل الإيمان في الدار الآخرة، وهكذا المؤمنون في موقف يوم القيامة، والدنيا دار الابتلاء والامتحان ودار الخبيثين والطيبين، فهي مشتركة فليست محلا للرؤية؛ لأن الرؤية أعظم نعيم للرائي فادخرها الله لعباده المؤمنين في دار الكرامة وفي يوم القيامة، وأما الرؤيا في النوم التي يدعيها الكثير من الناس فهي تختلف بحسب الرائي - كما قال شيخ الإسلام رحمه الله - بحسب صلاحهم وتقواهم؛ وقد يخيل لبعض الناس أنه رأى ربه وليس كذلك، فإن الشيطان قد يخيل لهم ويوهمهم أنه ربهم، كما روي أنه تخيل لعبد القادر الجيلاني على عرش فوق الماء، وقال: أنا ربك وقد وضعت عنك التكاليف، فقال الشيخ عبد القادر: إخسأ يا عدو الله لست بربي؛ لأن أوامر ربي لا تسقط عن المكلفين، أو كما قال رحمه الله.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد بن حنبل (5/175) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد بن حنبل (5/175) .(58/63)
والمقصود أن رؤية الله عز وجل يقظة لا تحصل في الدنيا لأحد من الناس حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما تقدم في حديث أبي ذر، وكما دل على ذلك قوله سبحانه لموسى عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه الرؤية. قال له: {لَنْ تَرَانِي} (1) ، الآية. لكن قد تحصل الرؤية في المنام للأنبياء وبعض الصالحين على وجه لا يشبه فيها سبحانه الخلق، كما تقدم في حديث معاذ رضي الله عنه، وإذا أمره بشيء يخالف الشرع فهذا علامة أنه لم ير ربه وإنما رأى شيطانا، فلو رآه وقال له: لا تصل قد أسقطت عنك التكاليف، أو قال ما عليك زكاة أو ما عليك صوم رمضان أو ما عليك بر والديك أو قال لا حرج عليك في أن تأكل الربا. . . فهذه كلها وأشباهها علامات على أنه رأى شيطانا وليس ربه.
أما عن رؤية الإمام أحمد لربه لا أعرف صحتها، وقد قيل: إنه رأى ربه، ولكني لا أعلم صحة ذلك.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 143(58/64)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
وجوب الزكاة ليس مربوطا برمضان
س: متى تجب الزكاة؟ وما وقت وجوبها؟ ومن هم مستحقوها؟
ج: تجب زكاة الأموال إذا ملك المسلم نصابا وحال عليه الحول، وكان المالك حرا. ومقدار النصاب عشرون مثقالا بالنسبة للذهب، وهو ما يقارب اثنين وتسعين جراما، ومن الفضة مائتا درهم، وهو ما يقارب ستة وخمسين ريالا سعوديا، فمتى ملك النصاب وتمت السنة من ملكه له وجبت الزكاة، وهي ربع العشر. ففي مائة ريال مثلا ريالان ونصف، وفي الألف خمسة وعشرون ريالا، وهكذا.
ووقت وجوبها: حسب ملك النصاب، فإن ملكه في محرم وجب في مقابله من العام المقبل، وهكذا، وليس وجوب الزكاة مربوطا برمضان، وإنما المسلمون يتحرون إخراج زكاة أموالهم في رمضان لمضاعفة الأجر فيه، ومن تم حول زكاته في غير رمضان وجب إخراجها، ولا يؤخرها إلى رمضان، وإن عجلها قبل تمام السنة ليوافق رمضان فلا بأس به إن شاء الله.
وأما مستحقوها: فهم المذكورون بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(58/65)
منكر وجوب الزكاة كافر
س: ما حكم من ينكر وجوب الزكاة؟
ج: من أنكر وجوب الزكاة فهو كافر؛ لأن وجوبها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (1) ، وجاءت الزكاة مقرونة بالصلاة، فلا تصح واحدة إلا بالأخرى، والآيات والأحاديث كثيرة جدا، أما من تساهل بإخراجها فإنه فاسق يؤدبه الحاكم ويأخذها منه قهرا، نسأل الله الهداية للجميع.
__________
(1) سورة فصلت الآية 7(58/66)
لا تعط خادمك من الزكاة
س: ما حكم دفع الزكاة للأقارب والخدم؟
ج: أما دفع الزكاة للأقارب ففيه تفصيل: إن كنت ترث القريب كوالديك وأولادك أو إخوتك إذا لم يكن لهم وارث غيرك، فلا تعطهم الزكاة، وإن كنت لا ترث القريب، فلك أن تعطيه من الزكاة. وأما خادمك فلا أرى أن يعطى من الزكاة؛ لأنها ستدفعه(58/66)
لتحسين خدمتك والنشاط فيها فتكون قد استخدمت زكاتك، إلا أن يكون لأجل فقره وكثرة عياله. هذا والله أعلم.(58/67)
حكم من صام وهو تارك للصلاة
س: ما الحكم فيمن يصوم رمضان وهو تارك للصلاة؟
ج: الصلاة أهم أركان الإسلام بعد التوحيد، فالذي لا يصلي أخشى أن لا يقبل صومه؟ لأن جماعة من أهل العلم يرون أن ترك الصلاة كفر، فلا أظن صحة صوم من لا يصلي، الصلاة أهم من الصيام.(58/67)
إذا طهرت الحائض ثم صامت
ثم حاضت فصيامها صحيح
س: إذا طهرت الحائض ثم صامت رمضان وبعد يومين عاد الدم إليها هل تفطر وهل يلزمها قضاء الأيام التي صامتها؟
ج: إن كان دم الحيض المعتاد الذي تعرفه المرأة فلتجلسه إلى أن يمضي خمسة عشر يوما مع الأيام الماضية واللاحقة، بمعنى لو كان في شعبان سبعة أيام، نقول هنا: اجلسي ثمانية أيام ثم صومي، وإن كان دما لا يشبه دم الحيض، لا في لونه ولا رائحته ولا في الأعراض، فإن هذا دم فساد لا اعتبار له.
أما بالنسبة للأيام التي صامتها في حال طهرها فصيامها صحيح.(58/67)
المريض الذي لا يرجى برؤه يطعم
س: رجل توفي له ابن وكان لا يصوم شهر رمضان لعذر شرعي، وقبل موته أخرج عنه كفارة، والسؤال: هل يجوز أن يصام عنه؟
ج: لا يصوم رمضان؛ لماذا؟ إن كان عدم قدرته على الصيام لأن مرضه مرض خطير ملازم لا يرجى برؤه، فهذا يطعم عنه عن كل يوم مسكين، بمعنى عن الشهر (45) كيلا من الأرز، هذا إذا كان لا يصوم لأجل أن المرض مرض لا يرجى برؤه، فهذا يطعم عنه إن كان يعقل، وإن كان فاقد العقل فإنه لا قضاء عليه ولا إطعام.(58/68)
من يتأخر في القضاء آثم ويلزمه القضاء والتوبة
س: تهاونت في قضاء بعض الأيام التي علي في رمضان السابق إلى أن جاء هذا الشهر، فماذا يلزمني؟
ج: الأصل أن الله جل وعلا قال لنا: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) ، فالله أباح للمسافر الفطر، وجعل قضاؤه أياما أخر، فلم يقيدنا بشهر معين، لكن ما بيننا وبين شعبان الآتي كله وقت اختيار،
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(58/68)
فإذا لم يبق في شعبان إلا قدر قضاء أيام رمضان الماضي فيجب أن يبادر بالقضاء، وإذا لم يفعل فإنه آثم، وعليه قضاؤه بعد رمضان الثاني مع الإطعام عن كل يوم مسكين، مع التوبة إلى الله في هذا التأخير الذي بلا عذر.(58/69)
السواك جائز في رمضان
س: ما حكم استعمال السواك في رمضان؟
ج: استعماله جائز في كل رمضان نهاره وليله، قبل الزوال وبعد الزوال؛ لحديث ابن ربيعة: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (725) ، سنن أبو داود الصوم (2364) ، مسند أحمد بن حنبل (3/445) .(58/69)
أنصحك بعدم استخدامه
س: ماذا بشأن استخدام معطر الفم الذي يذهب الرائحة من الفم؟
ج: أنصحه ألا يفعل ذلك.(58/69)
لا مانع من الكحل
س: ما حكم استخدام المرأة للكحل وبعض أدوات(58/69)
التجميل في نهار رمضان؟
ج: لا مانع من ذلك.(58/70)
أوله رحمة وأوسطه مغفرة
س: ما هي كلمتكم سماحة الشيخ ونحن نستقبل العشر الوسطى من رمضان المبارك؟
ج: أسأل الله أن يوفقنا للاستمرار على العمل الصالح، وأن يجعل كل أيام شهرنا أيام خير وبركة، والعشر الوسطى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوله رحمة وأوسطه مغفرة» فنسأل الله أن يغفر زلاتنا، وأن يقيل عثراتنا، ويوفقنا لشكر نعمته وحسن عبادته، ويصلح ولاة أمرنا ويهديهم لكل خير.(58/70)
أصل صلاة التراويح
س: لماذا سميت صلاة التراويح بذلك، وما الأصل فيها؟
ج: سميت بذلك قيل: لأنهم يرتاحون بعد كل ركعتين من طول قيامهم. والأصل فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث صلى بالناس في اليوم الأول ثم في اليوم الثاني، فلما امتلأ المسجد في اليوم الثالث لم يخرج عليهم خوفا من أن تفرض عليهم، فلما توفي جمعهم عمر بن(58/70)
الخطاب رضي الله عنه على إمام واحد.(58/71)
حضور المرأة للتراويح جائز
س: ما حكم حضور النساء التراويح، وما هو الأفضل في ذلك؟
ج: إن حضر النساء فجائز بشرط أن تبتعد المرأة عن التعطر والزينة، وإن صلين في بيوتهن فهو الأفضل.(58/71)
صفة دعاء القنوت
س: ما صفة دعاء القنوت في رمضان؟
ج: علم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي: «اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أعطيت، نستغفرك اللهم من جميع الذنوب ونتوب إليك (1) » . . . الحديث.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (464) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1746) ، سنن أبو داود الصلاة (1425) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1178) ، مسند أحمد بن حنبل (1/199) ، سنن الدارمي الصلاة (1591) .(58/71)
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته
س: لرؤية الهلال. هل من الواجب أن تكون بالعين المجردة؟ وماذا عن رؤية الهلال بمساعدة التلسكوب؟ وأيضا لو تم(58/71)
استخدام الحسابات الفلكية، فمثلا بالحساب يمكن تحديد موعد ولادة الهلال، وكما تعرفون لكي يمكن رؤية الهلال لا بد أن يكون عمره 7 ساعات؛ لذا فلو ادعى أحد أنه رأى الهلال قبل ذلك فهل يكون كاذبا؟
ج: نبينا صلى الله عليه وسلم قد أوضح لنا بجلاء فقال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا الشهر ثلاثين يوما (1) » فأمرنا أن نصوم برؤية الهلال، وأن نفطر برؤية الهلال، وقال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا (2) » فالعين المجردة هي الأصل، وإن استعين بأجهزة تعين على الرؤية البصرية فلا مانع، أما الحساب الفلكي في شريعة الإسلام فمرفوض بإجماع المسلمين، وأنه لا عبرة بالحساب، ولا يقام عليه وزن، وهذا أمر أجمع المسلمون عليه، فالحساب لا يعول عليه في إثبات شهر رمضان ولا في خروجه، ولا في إثبات شهر ذي الحجة؛ لأنه أمر مخالف للشرع، ونحن قد هدينا إلى سبيل يسير وهو الرؤية البصرية، صوموا إذا رأيتموه وإذا رأيتموه فأفطروا، وأما الحسابات الفلكية ففيها من التناقض والاختلاف والاضطراب وصعوبتها، وعدم تمكن الكثير من فهمها، بخلاف الرؤية فإن أمرها جلي واضح؛ ولهذا بلادنا ولله الحمد لا تزال تطبق هذه السنة، ففي شهر رمضان الحاضر ثبت رؤية هلال رمضان من أكثر من سبعة أشخاص من مختلف أنحاء المملكة، هذا الذي أعلن عنه، وقد أتى شهود كثيرون كلهم رأوه رؤية بصرية،
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2142) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/31) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .(58/72)
وقد وثقوا، وزكوا من قبل المحاكم الشرعية، فالحمد لله على موافقة شرع الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(58/73)
حكم ترك الصلاة
س: أنا شاب أبلغ من العمر 19 سنة أذكر أنني لم أصل العشاء، فماذا علي مع العلم أني لا أصلي الفجر أبدا قبل رمضان بحجة أنني نائم، وأما في رمضان وبعد رمضان فإنني أصليها في المسجد مع الجماعة، فماذا علي؟ وماذا أفعل جزاك الله كل الخير؟
ج: إن كانت هذه العشاء المتروكة فرضا أو فرضين أو نحو ذلك فأعدها، أي تقضيها، وإن كانت فروضا كثيرة، وشهورا عديدة فعليك أن تستقبل بقية عمرك بتوبة نصوح وتجدد إسلامك، إن تعمد ترك الصلاة كفر، فالواجب عليك تقوى الله، وأن تستدرك ما فاتك بتوبة نصوح، وأن تحافظ على الصلوات جماعة في المساجد، وأن تؤديها في وقتها، وأن تحذر من الكسل، وتتخذ من الوسائل التي تعينك على أدائها مع الجماعة، وأن تهتم بهذا وتعتني به. أسأل الله للجميع التوفيق.(58/73)
عليك القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم
س: أفيد فضيلتكم بأنه قد جاءني الحيض وأنا في سن(58/73)
صغيرة (13) سنة تقريبا، ومر علي شهر رمضان أربع سنوات ولم أصم؛ وذلك لجهلي وعدم معرفتي، حيث إننا كنا نسكن البادية في بيوت الشعر في النفود وفي ذلك الوقت لا أؤدي الصلوات المفروضة، علما بأني الآن أبلغ من العمر 38 سنة وأعاني من التهابات بالمجاري، والآن بماذا تنصحونني، هل يجب علي الصيام والحالة ما ذكرت أم الكفارة، علما بأنني نويت الحج هذا العام. أفيدونا مأجورين؟
ج: عليك أن تقضي الأربع سنوات وتطعمي عن كل يوم مسكين؛ لأنك أخرتيها بدون عذر، مع التوبة إلى الله، ولا يمنع ذلك من الحج. وأما تركك للصلاة في المدة المذكورة فعليك التوبة النصوح من ذلك، وليس عليك القضاء لصعوبة ذلك.(58/74)
كلتاهما لهما فضل
س: أيهما أفضل العشر الأول من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
ج: كلتا العشرين لهما فضل، العشر الأخيرة من رمضان لها فضل، والعشر الأول من ذي الحجة لها فضل، لكن يقول بعض العلماء: يمكن الجمع بأن يقال: إن الفضل في العشر الأخيرة من رمضان خص بالليالي؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيي ليالي العشر الأخيرة من رمضان بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن، وليالي العشر الأخيرة من(58/74)
رمضان ترجى ليلة القدر في إحدى لياليها، وإن كانت الأوتار آكد من الأشفاع. وعلى كل حال العشر الأخيرة من رمضان موضع ليلة القدر؛ لهذا فضلت ليالي العشر الأخيرة من رمضان، أما عشر ذي الحجة فقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر (1) » فخص الفضل بالأيام، ومع أن ليالي العشر الأخيرة من رمضان فيها خير، لكن اليوم يطلق على النهار.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (969) ، سنن الترمذي الصوم (757) ، سنن أبو داود الصوم (2438) ، سنن ابن ماجه الصيام (1727) ، مسند أحمد بن حنبل (1/224) ، سنن الدارمي الصوم (1773) .(58/75)
رجل أفطر ثم جامع زوجته
س: رجل أراد جماع زوجته في نهار رمضان، فاضطر إلى الإفطار عمدا، ثم جامع زوجته وهي غير راضية عن ذلك، ماذا يجب عليهما جزاكم الله خيرا؟
ج: هو آثم في ناحيتين، أولا: آثم في فطره عمدا، فإن تعمد الفطر في رمضان ذنب عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب، حتى يروى أن «من أفطر يوما من رمضان لم يكفه الدهر كله وإن صامه (1) » . ثانيا: انتهاك حرمة اليوم بالجماع، والجماع في نهار رمضان معصية لله جل وعلا، فيجب أن يتوب إلى الله من فطره الذي تعمده، ويتوب إلى الله من جماعه في نهار رمضان، وعليه الكفارة المغلظة، عتق رقبة، فإن لم يجدها أو عجز عن ثمنها فليصم لله شهرين كاملين متتابعين، عن كل يوم جامع فيه في نهار رمضان، ولا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (723) ، سنن أبو داود الصوم (2396) ، سنن ابن ماجه الصيام (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/470) ، سنن الدارمي الصوم (1714) .(58/75)
عجز لمرض أو كبر، فما دام مستطيعا الصوم فإن الله لا يعذره، بل يجب أن يصوم شهرين متتابعين عن ذلك اليوم، مع التوبة إلى الله وقضاء ذلك اليوم، وألا يعود إلى مثله مستقبلا. وإذا كانت زوجته مكرهة ويعلم الله أنها مكرهة، ودافعت عن نفسها لكن تغلب عليها، فإني أرجو أن يكفيها قضاء ذلك اليوم.(58/76)
هل تلزم النية عن كل يوم في رمضان
س: هل تلزمني النية بالصوم عن كل يوم من أيام شهر رمضان أم تكفي النية من أول الشهر؟
ج: نية المسلم من أول شهر رمضان نيته صيام الشهر كله، ما لم يطرأ عليه ما يوجب الفطر من سفر أو مرض أو نحو ذلك، وإلا فالأصل أن نية المسلم من أول الشهر نية لصيام الشهر كله؛ ولهذا هو مستحضر في قلبه في كل ليالي رمضان، مستعد لسحوره وصيامه، لا يشك في ذلك.(58/76)
أخطئ على زوجي ولا أعتذر
س: أحيانا أسيء الكلام مع زوجي مما يثير غضبه، فيقاطعني ويهجرني، وأنا لا أستطيع أن أعتذر له لخجلي الشديد، فهل إذا بات زوجي وهو غضبان علي يلحقني إثم في ذلك؟
ج: يجب عليك أن تسترضي زوجك، وأن تحاولي أن يصفح(58/76)
عنك ما حصل منك ولا تصري على الخطأ، بل حاولي إرضاءه ولعله أن يعفو عما حصل منك ويسامحك، ويضرب صفحا عما جرى، فهذا الأفضل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دعا رجل امرأته لفراشه ولم تجبه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح (1) » فالواجب على المرأة طاعة زوجها وعدم مخالفته. وأسأل الله للجميع التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3237) ، صحيح مسلم النكاح (1436) ، سنن أبو داود النكاح (2141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي النكاح (2228) .(58/77)
أذن المؤذن وأفطر الناس قبل الوقت
س: أذن المؤذن وأفطرنا في رمضان، وبعد ذلك تبين لنا أن المؤذن قد أذن قبل الوقت بدقائق، فماذا علينا وما نصيحتكم للمؤذنين؟ جزاكم الله خيرا.
ج: عليكم أن تقضوا ذلك اليوم. وأنصح إخواني المؤذنين أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يعلموا أنهم مؤتمنون على أوقات المسلمين صلاة وصياما، فلا يؤذنون قبل الوقت؛ لأن ذلك يسبب فساد الصيام لمن أفطر، ولربما سبب أيضا فساد صلاة من بادر بالصلاة بعد الإفطار مباشرة، فعليهم تقوى الله فلا يفسدوا صيام الناس ولا صلاتهم.(58/77)
ما السفر المبيح للفطر
س: إذا سافر الإنسان للنزهة أو غيرها هل يحق له الفطر؟(58/77)
وما هي شروط السفر المبيح للفطر؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) ، فالمسافر مسافة تقصر في مثلها الصلاة يباح له الفطر في رمضان، إذا كان هذا السفر سفرا مباحا، ليس سفر معصية، فإنه يباح الفطر في رمضان، فإن الله يقول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة البقرة الآية 185(58/78)
من آداب الصيام
س: سماحة الشيخ نرجو بيان بعض آداب الصيام المستحبة حتى ننتفع بذلك؟ جزاكم الله خيرا.
ج: من آداب الصيام المستحبة تأخير السحور، بحيث ينتهي منه قرب طلوع الفجر الثاني، والتبكير بالفطر، ومن السنن أيضا الإكثار من ذكر الله والتسبيح والتهليل والتحميد، وتلاوة القرآن، وفعل أنواع الخير، وأعظمها صلاة التراويح والمحافظة عليها.(58/78)
الحامل والمرضع عليهما القضاء والإطعام
س: هل يجب على الحامل والمرضع قضاء الصوم إن أفطرتا(58/78)
بسبب خوفهما على الولد، حيث سمعت من بعض الإخوة بأنه لا يجب عليهما ذلك؛ لأنهما يندرجان تحت قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (1) . جزاكم الله خيرا.
ج: يجب عليهما قضاء الصوم مع إطعام مسكين عن كل يوم؛ لأجل الفطر بسبب الولد، والمسافر والمرأة الحائض عليهما القضاء أيضا بدون إطعام.
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(58/79)
هذه المرأة مفرطة وعليها الكفارة
س: امرأة تقول قبل ما يقارب ثلاثين سنة من الآن كان لها طفل رضيع لم يبلغ السنة - في ذلك الوقت لم يكن يوجد لديها (هندول) وهو سرير الأطفال - وكان يقوم مقام السرير قطعة من الجلد والقماش تعمل ويوضع فيها الرضيع وتعلق بارتفاع ما يقارب المتر إلا ربع عن الأرض، وتسمى (الركوة) ، وتقول هذه المرأة: إنها وضعت طفلها في الركوة ووضعت له وسادة لرفع رأسه وذهبت لعملها، وبعد وقت ليس بالطويل رجعت ووجدت الطفل قد سقط على الأرض وجلس مدة أسبوع من سقوطه وتوفي إلى رحمة الله، ووجد أن في مؤخرة رأسه أثر من السقوط. هل على هذه المرأة كفارة أو صيام علما بأن ما حصل لهذا الطفل غير(58/79)
مقصود؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
ج: هذه المرأة مفرطة وعليها الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين.(58/80)
يصلي في الحرم ويترك نساءه في السوق
س: نرى بعض الناس يذهب بنسائه إلى العمرة ويذهب للصلاة في الحرم ويترك أهله يتسوقن من غير رقيب عليهن، مما يؤدي ذلك إلى فتنتهن أو الفتنة بهن، فماذا على ولي هؤلاء؟ جزاكم الله خيرا.
ج: نرجو من أولياء الأمور أن يتقوا الله في أنفسهم، ويحيطوا رعيتهم بالنصح والتوجيه، وإبعادهم عن مواطن الريبة، وأن يكونوا دائما متفقدين لأحوال نسائهم، حريصين عليهن، يعلمون بحالهن، أين ذهبن؟ ومتى ذهبن؟ حتى يكونوا على بصيرة من أمرهن.(58/80)
حكم ترك النساء وحدهم في السفر
س: امرأة تسافر مع محرمها في رمضان إلى مكة وتبقى مع بعض النساء في منزل مؤجر لهن، ويعود المحرم إلى بلده، فإذا انقضى رمضان عاد المحرم ثم أخذ النسوة إلى بلدهن، فهل تأثم(58/80)
هؤلاء النسوة؟ وهل يعد هذا سفرا محرما، نرجو الإفادة؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الأولى للنسوة ألا يبقين في المكان زمنا طويلا، كشهر بدون محرم؛ فإنهن قد يحتجن إلى أشياء، والمحرم في وجوده قريبا منهن يقضي حاجاتهن ويساعدهن، وبقاؤهن بلا محرم وإن كان في مكة، فبقاؤهن هناك ليس من المصلحة، وإذا لم يكن معهن محرم فبيوتهن خير لهن.(58/81)
المرأة وهي تطبخ في عبادة لله
س: تقضي المرأة المسلمة غالبا كثيرا من وقتها في المطبخ مشغولة بإعداد الأنواع المختلفة من الأطعمة، فيفوت عليها اغتنام أوقات شهر رمضان، فهل من توجيه للمرأة المسلمة؟
ج: خدمتها في بيتها عبادة لله، وقيامها بواجب بيتها وأولادها عبادة لله، فهي في عبادة إن شاء الله، وعليها أن تغتنم وقتا لذكر الله، وذكر الله ولو عند إصلاح الطعام جائز والحمد لله.(58/81)
هل هذا الحديث صحيح
س: هل حديث: «من أفطر يوما من رمضان لم يجزه صوم(58/81)
الدهر وإن صامه (1) » صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: هو يروى كذلك من باب التهديد والوعيد والتحذير من الفطر بلا عذر.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (723) ، سنن أبو داود الصوم (2396) ، سنن ابن ماجه الصيام (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/470) ، سنن الدارمي الصوم (1714) .(58/82)
هل البخاخ للربو، والمنظار للجوف يفطران
س: نسأل سماحة الشيخ عن شيئين:
الأول: هل البخاخ مزيل الحساسية (الربو) يفطر أم لا؟
والثاني: المنظار الذي يدخل جوف الإنسان هل يفطر أم لا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: بالنسبة لبخاخ الربو فهو لا يفطر، أما بالنسبة للمنظار فإنه يفطر؛ لأنه يدخل معه مادة سائلة إلى جوف الإنسان، فهو يفطر.(58/82)
عليك القضاء فقط
س: قبل سنوات مضت استيقظت من النوم في شهر رمضان وأنا غير متأكدة هل أذن للفجر أم لا؟ وشربت عصيرا وبعده سمعت إقامة الصلاة، أفيدوني حفظكم الله؟
ج: عليك قضاء هذا اليوم ولا يلزمك شيء، وعليك تحري الوقت بعد ذلك.(58/82)
صيام ثلاثة أيام من كل شهر متتابعة أو متفرقة
س: هل يجزئ صيام ثلاثة أيام من كل شهر متفرقة؟
ج: لو صام المسلم في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره أجزأه؛ لأن في حديث أبي هريرة: «وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام (1) » لكن في حديث أبي ذر بين أنها في اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فمن واظب على الأيام البيض فحسن، ومن فرقها فلا شيء عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1178) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (721) ، سنن الترمذي الصوم (760) ، سنن النسائي الصيام (2406) ، سنن أبو داود الصلاة (1432) ، مسند أحمد بن حنبل (2/311) ، سنن الدارمي الصوم (1745) .(58/83)
هذا هو الاختلاف المذموم
س: مقولة: " الاختلاف رحمة " هل هي صحيحة أم لا؟
ج: الاختلاف قسمان: القسم الأول: اختلاف في الأصول فهذا اختلاف باطل؛ لأن الواجب على الأمة اتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والاختلاف الذي حقيقته اختلاف يقتضي الخصام وتكفير البعض للبعض، وتبديع البعض للبعض، كاختلاف أهل البدع مع أهل السنة اختلاف مذموم. أما الاختلاف بين العلماء في مفهوم معنى آية أو مفهوم معنى حديث، كل يبدي فهمه الخاص، وكل هدفه اتباع الكتاب والسنة، لكن هذا يفهم وذلك يفهم أحسن مما يفهم هذا، فيفهم أمرا ولا يفهم أمرا آخر، فهذا قد يكون رحمة؛ لأنه لا يذم من خالف؛ لأن الكل قصده الحق، لكن هذا لم يحالفه الصواب فله أجر على اجتهاده، وهذا حالفه الصواب فله أجران، أجر على الاجتهاد وأجر على موافقة الصواب.(58/83)
عليك صيام ما فاتك مع الإطعام
س: علي عدة سنوات لم أصمها وأنا صغيرة، ولا أعلم متى جاءتني العادة الشهرية، فماذا يجب علي الآن؟
ج: المرأة يجب عليها الصوم إذا بلغت بالحيض أو الاحتلام أو ببلوغ خمس عشرة سنة، وعليك أن تتحري، وصومي إذا كان عليك قضاء عن الشهور التي لم تصوميها، ومع كل يوم من أيام القضاء عليك إطعام كيلو ونصف من الأرز أو القمح.(58/84)
عليك القضاء والإطعام
س: علي قضاء سبعة أيام من شهر رمضان، والآن دار علي الحول فماذا يجب علي؟
ج: اقضي وأطعمي عن كل يوم مسكين، إن كان التأخير بلا عذر، وإن كان بعذر فليس عليك إلا القضاء.(58/84)
لا تكثري من الحلف وعليك كفارة واحدة
س: حلفت أكثر من خمس عشرة مرة ألا يدخل الدش منزلنا، وبالأمس جاء زوجي بالدش إلى المنزل، وقال يريد فقط(58/84)
مشاهدة الأخبار، وحلفت أن أترك المنزل حتى الممات، فماذا يجب علي؟
ج: لا تكثري من الحلف؛ لأن من أكثر من الحلف يوشك ألا يكفر، والله يقول: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) . وإذا كان الحلف كله على موضوع واحد، تكفي كفارة واحدة، وهو إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين كيلو ونصف من الأرز أو القمح.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(58/85)
الدم الكثير يستوجب إعادة الوضوء
س: بعد الانتهاء من الوضوء نزل من أسناني دم، هل أعيد الوضوء أم لا؟
ج: إذا كان دما يسيرا لا تعيدي الوضوء، أما إذا كان الدم كثيرا فأعيدي الوضوء.(58/85)
حكم صيام فاقد الذاكرة
س: رجل كبير في السن وفاقد للذاكرة مصاب بجلطة وفاقد الإحساس، فهل عليه صوم أم لا؟
ج: الفاقد للذاكرة لكبر سنه ولا يشعر بشيء ولا يصلي؛ لأنه لا يستطيع ذلك، فهذا لا يصوم، ولا يطعم عنه، ولا صيام عنه.(58/85)
المحرمات من النساء
س: من هن المحرمات من النساء مع التفصيل؟
ج: المحرمات من النساء محرمات بالنسب والمصاهرة، هن الوارد ذكرهن في قول الله جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) .
قال الله جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (2) هن محرمات بالنسب، ثم قال جل وعلا: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (3) هؤلاء محرمات بالرضاعة، ثم قال {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (4) هؤلاء محرمات بالمصاهرة، وكذلك قوله جل وعلا: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (5) ، وقوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة النساء الآية 23
(4) سورة النساء الآية 23
(5) سورة النساء الآية 22
(6) سورة النساء الآية 23(58/86)
فكل هؤلاء محرمات بالمصاهرة.(58/87)
فضل قراءة القرآن الكريم
س: كم جزءا من القرآن يمكن للمسلم أن يقرأ في اليوم في رمضان؟
ج: اقرأ على قدر ما تيسر لك ولكن بتدبر وتعقل معناه، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن قرأ آية من القرآن فله بكل حرف حسنة، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .(58/87)
لا تكونوا ممن يعمل صالحا ويتبعه سيئا
س: نرى كثيرا من الناس يصلي في رمضان فقط، وإذا انتهى رمضان هجروا المساجد، فماذا تقول لهم سماحة الشيخ؟ جزاكم الله خيرا.
ج: هذا خطأ فهم، فيا أيها المسلمون، ينبغي أن تحافظوا على الصلوات في رمضان وفي غيره، وإذا كنتم حافظتم في رمضان ورأيتم أن ذلك من واجبات الإسلام عليكم فاستمروا على هذا الواجب، وليكن رمضان سببا لاستقامتكم واستمراركم على الخير، فحافظوا على الخير ولا تكونوا ممن يعمل صالحا ويتبعه عملا سيئا.(58/87)
القنوت مشروع في الوتر
س: ما حكم القنوت في الوتر من صلاة التراويح، وهل يستمر فيه طيلة الشهر؟ جزاكم الله خيرا.
ج: القنوت مشروع في الوتر ولا سيما في شهر رمضان، فإن استمر فلا مانع، وإن تركه أحيانا فلا مانع، فالكل خير، ولا ينكر على من استمر ولا على من تركه أحيانا.(58/88)
مات قبل أن يكمل رمضان
س: والدي مات مريضا ولم يكمل رمضان، فهل نصوم عنه قضاء الأيام التي لم يصمها أم ماذا علينا؟
ج: الأيام التي مات قبل أن يصومها لا شيء عليه؛ لأنه لم يدركها، فموته قبل استكمال الشهر لا يتطلب القضاء عنه؛ لأنه لم يدرك، أما بالنسبة للأيام السابقة، فإن كان مرضه مرضا خطيرا لا يرجى برؤه، لزمهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا، وإن كان ليس مرضا خطيرا، وتوفي قبل أن يكمل الشهر فلا قضاء ولا إطعام.(58/88)
أفطر بسبب تقبيل
س: رجل أفطر بسبب نزول المني على إثر تقبيل ونحوه، هل(58/88)
عليه القضاء والكفارة أم ماذا عليه؟
ج: عليه القضاء فقط.(58/89)
الدعاء المستحب عند الفطر
س: ما الدعاء المستحب عند الفطر، وهل يقول: ذهب الظمأ، وابتلت العروق عند الإفطار؟ جزاكم الله خيرا.
ج: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله (1) » ويروى أيضا: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت (2) » . وعلى كل حال عند الفطر يكون موضع إجابة الدعاء؛ فليتحر المسلم الأدعية النافعة الشاملة ويدعو بها، مع رجاء الله وابتغاء ما عنده.
__________
(1) سنن أبو داود الصوم (2357) .
(2) سنن أبو داود الصوم (2358) .(58/89)
يلزمها الإمساك والاغتسال لصلاة الفجر
س: امرأة طهرت قبل الفجر ولم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس، هل تمسك أم ماذا عليها؟
ج: إذا انقطع دمها قبل طلوع الفجر لزمها الإمساك والصيام ولو تأخر غسلها، لكن لا يجوز لها أن تنتظر حتى تطلع الشمس، بل تغتسل مباشرة عند انقطاع دمها حتى تصلي صلاة الفجر في وقتها، ولا يجوز لها تأخير الغسل حتى تطلع الشمس.(58/89)
الفجر الصادق والفجر الكاذب
س: هل هناك خيطان للفجر كاذب وصادق، وما علامتهما؟
ج: قالوا: إن الفجر الكاذب يكون مستطيلا من المشرق إلى المغرب؛ ولدقته يقال له ذنب السرحان، ويكون الفجر الصادق بعده، وهو مستقيم من الجنوب إلى الشمال، نوره يضيء ويزداد نورا بخلاف الفجر الكاذب، فإنه مستطيل وفوقه ظلمة، ما يلبث أن يختفي.(58/90)
من أفطر بعذر عليه أن يمسك بقية يومه
س: من أفطر لعذر كسفر أو مرض ونحوهما وزال العذر هل يستمر في فطره أم يمسك، ولماذا؟
ج: عليه أن يمسك بقية يومه؛ لأنه ممن شهد الصوم، ويقضيه؛ لأنه لم يستكمل صيام يومه، وهو داخل في قول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(58/90)
جلسة الاستراحة
س: ما هو الدليل من السنة من الأحاديث الخاصة بجلسة الاستراحة؟
ج: جلسة الاستراحة المراد بها جلوس الإمام بعد السجدة الثانية وقبل قيامه للركعة الثانية، فإذا كبر رافعا رأسه من السجدة الثانية جلس قليلا قبل أن ينهض إلى الركعة الثانية، وكذلك إذا نهض من السجدة الثانية في الركعة الثالثة جلس قليلا قبل أن ينهض إلى الركعة الرابعة، هذه الجلسة جاءت في حديثين، حديث ابن حويرث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالسا (1) » ، وجاءت أيضا في حديث آخر، وهو حديث أبي حميد الساعدي الذي رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد في كتاب الصلاة (باب افتتاح الصلاة) . لكن اختلف العلماء فيها هل هي سنة
__________
(1) خرجه الإمام أحمد في مسنده والبخاري.(58/91)
مطلقة أم لا، أم هي منسوخة، ومن العلماء من لا يراها، ويقول: هذه سنة لم تثبت إلا من طريق واحد أو طريقين، والصحابة الذين ساقوا صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووصفوها لم يذكروا هذه الجلسة. فدل على أن أحاديثها خلاف المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: أحاديث ثابتة، وعدم ذكر البعض لها لا ينافي ثبوتها، وتوسط آخرون وقالوا: هذه الجلسة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لما كبر سنه وأخذه اللحم فاحتاج إليها، فدل أنها مشروعة في حق من احتاج إليها لكبر سنه وثقله عن القيام مباشرة، ومن لم يكن محتاجا إليها فالأولى تركها؛ لأن الذين وصفوا صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكروها، فدل على أنها إنما تفعل عند الحاجة.(58/92)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتوى رقم 21084
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي بواسطة معالي د. محمد بن سعد الشويعر، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (3598) وتاريخ 7 \ 9 \ 1420هـ، وقد ذكر معاليه أن أحد المواطنين جاءه بنشرة يقول: إنه وجدها بالمسجد الذي يصلي فيه ويطلب إفتائه نحوها، وقد جاء في هذه النشرة ما نصه: (لا إله إلا الله الجليل الجبار، لا إله إلا الله الواحد القهار، لا إله إلا الله العزيز الغفار، لا إله إلا الله الكريم الستار، لا إله إلا الله الكبير المتعال، لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا، ربا وشاهدا صمدا ونحن له مسلمون، لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا ربا وشاهدا ونحن له عابدون، لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا وربا وشاهدا ونحن له قانتون، لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا ربا وشاهدا ونحن له صابرون، لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي ولي الله، اللهم إليك وجهت وجهي، وإليك فوضت أمري وعليك توكلت يا أرحم الراحمين. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمون الحديث أنه قال: " من قرأ هذا الدعاء في أي وقت فكأنه حج (360) حجة، وختم (360) ختمة،(58/93)
وأعتق (360) عبدا، وتصدق بـ (360) دينارا، وفرج عن (360) مغموما، وبمجرد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، نزل الأمين جبرائيل عليه السلام وقال: يا رسول الله، أي عبد من عبيد الله أو أمة من أمتك يا محمد قرأ هذا الدعاء ولو مرة في العمر بحرمتي وجلالي ضمنت له سبعة أشياء: 1 - أرفع عنه الفقر. 2 - أؤمنه من سؤال منكر ونكير. 3 - أمرره على الصراط. 4 - حفظته من موت الفجأة. 5 - حرمت عليه دخول النار. 6 - حفظته من ضغطة القبر. 7 - حفظته من غضب السلطان الجائر والظالم. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وأله وصحبه، وبعد:
ج: إن هذا الدعاء المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم دعاء باطل لا أصل له من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحديث المروي في فضله حديث باطل مكذوب، ولم نجد من أئمة الحديث من يخرجه بهذا اللفظ، ودلائل الوضع عليه ظاهرة لأمور منها:
1 - مخالفة هذا الدعاء ومناقضته لصحيح المعقول وصريح المنقول من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك لترتيب هذه الأعداد العظيمة من الثواب المذكور لمن قرأ هذا الدعاء.
2 - اشتماله على لفظ " علي ولي الله "، ولا شك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أولياء الله إن شاء الله، ولكن تخصيصه بذلك دون غيره فيه نفثة رافضية.
3 - أنه يلزم من العمل بهذا الدعاء أن قارئه يدخل الجنة وإن عمل الكبائر أو أتى بما يناقض الإيمان، وهذا باطل ومردود عقلا(58/94)
وشرعا. وعلى ذلك فإن الواجب على كل مسلم أن لا يهتم بهذه النشرة، وأن يقوم بإتلافها، وأن يحذر الناس من الاغترار بها وأمثالها، وعليه أن يتثبت في أمور دينه، فيسأل أهل الذكر عما أشكل عليه حتى يعبد الله على نور وبصيرة، ولا يكون ضحية للدجالين وضعاف النفوس، الذين يريدون صرف المسلمين عما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم وتجعلهم يتعلقون بأوهام وبدع لا صحة لها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(58/95)
فتوى رقم 17000
السؤال الأول: ما حكم دخول المرأة المستشفى عند الولادة، مع العلم أن الأطباء في المستشفى من الرجال؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز أن يتولى الأطباء الرجال توليد المرأة إلا عند الضرورة، بأن يخاف على حياة المرأة ولا يكون هناك طبيبات من(58/95)
النساء يقمن بتوليدها لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) .
السؤال الثاني: هناك رجل يعمل في بلد شرك، وفي رمضان أجبر على الفطر، وعند رجوعه إلى بلده مات فما الحكم في حقه؟
ج: من مات وعليه صيام من رمضان، وأراد أولياؤه أن يصوموا عنه فلا بأس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صوم صام عنه وليه (2) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .(58/96)
فتوى رقم 17172
السؤال الأول: يأتينا في المستشفيات مصابون وهم في حالة إحرامهم للحج أو العمرة فيتوفاهم الله. فيقوم المستشفى بوضعهم في ثلاجة حفظ الموتى، أو تسليمه لأهله أو غير ذلك بعد أن تلفه في شراشف أو قماش وتغطي بذلك وجهه ورأسه. فهل هذا العمل صحيح؟ وما هو المشروع في ذلك؟ وهل يستوي الرجل والمرأة في الحكم؟ وبعض الموتى المحرمين (لابسين إحرام للحج أو العمرة) تكون سبب وفاتهم إما حريق أو دهس أو غير ذلك، مما(58/96)
يسبب تشوه في الوجه أو الجمجمة مما يجعل القائمين في المستشفى على مثل هؤلاء بتغطية وجوههم ورءوسهم. فهل هذا العمل صحيح؟ وما هو المشروع في ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز تغطية رأس الميت المحرم ولا وجهه ولو كان مدهوسا أو محترقا؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تقربوه طيبا ولا تخمروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » . إلا إذا احتيج إلى لف رأسه بشيء لكونه متقطعا فلا بأس حفظا لأجزاء الميت.
أما المرأة فيغطى رأسها ووجها كبقية بدنها؛ لأن النهي للمحرمة إنما هو عن النقاب خاصة. أما ستر وجهها بغير النقاب فمأمور به عند وجود الأجنبي منها.
السؤال الثاني: يدخل المريض رجلا أو امرأة إلى غرفة العمليات. وبعض العمليات تتطلب كشف العورة المغلظة، ولا يقتصر الكشف على الطبيب القائم بالعملية، بل كل من يدخل الغرفة ينظر إلى ذلك أو تلك المريضة، مثل القائم بالتخدير أو غيره. فنرجو التوجيه في ذلك وفق الشرع؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز الاطلاع على عورة المريض إلا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها؛ فلا يرى إلا ما يحتاج إلى علاجه، وليس
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1268) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2855) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/221) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .(58/97)
ذلك إلا للطبيب أو الجراح الذي يباشر العلاج، ولا يجوز لغيره أن يطلع معه إلا إذا كان مضطرا إليه لمباشرة العلاج بالاشتراك.
السؤال الثالث: هل يجوز للممرضة أن تكشف على عورة الرجل لعلاجه، مثل تضميد جروحه أو غسل دبره للبواسير أو تركيب قسطرة للبول؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز للممرضة أن تكشف عورة الرجل لعلاجه إلا إذا اضطر إليها، بأن لم يوجد في المستشفى غيرها من الرجال، ويجب عدم التساهل في هذا الأمر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/98)
من الفتوى رقم 16748
السؤال الثاني: بعد انتهاء البول يخرج سائل هل لا بد من الغسل؟
ج: السائل الذي يخرج بعد البول بدون دفق ولذة له حكم البول، يجب الاستنجاء منه وإعادة الوضوء، ولا يوجب اغتسالا؛ لأنه ليس بمني(58/98)
السؤال الثالث: أنا أسكن في مدينة الخبر، وأريد أن أقوم بعمل عمرة بإذن الله تعالى من أي مكان أحرم وألبس لبس الإحرام؟
ج: من أراد الحج أو العمرة فإنه يحرم من الميقات الذي يمر به في طريقه، وبما أنك ستقدم إلى مكة من الخبر، فإنك تحرم من ميقات السيل إذا مررت به أو حاذيته من البر أو الجو، أما لبس الإحرام فيكون عند الإحرام بالحج أو العمرة أو قبله؛ لأن العبرة بنية الإحرام بالحج أو العمرة أو بهما، وأما لبس ملابس الإحرام فلا يعتبر إحراما إذا خلا عن النية.
السؤال الرابع: يوجد دكتور مسلم ودكتورة مسيحية ودكتورة هندوسية، أي طبيب أو طبيبة يكشف على زوجتي وبناتي؟
ج: المرأة تعالج المرأة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة، ولا يجوز أن يعالج المرأة رجل غير محرم لها، إلا عند الضرورة إذا لم يوجد غيره من الطبيبات.
السؤال الخامس: أنا رضعت مع ابنة عمي الكبرى، هل يجوز لي الزواج من أختها الصغرى التي تليها؟
ج: إذا رضعت من زوجة عمك خمس رضعات فأكثر في الحولين حرمت عليك جميع بناتها منها ومن غيرها الكبار والصغار، كما تحرم عليك جميع بنات المرضعة من زوجها صاحب اللبن، وممن قبله من الأزواج أو بعده؛ لأن بناتها من غير صاحب اللبن يكن أخوات لك بالرضاع من الأم.(58/99)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/100)
فتوى رقم 17054
السؤال الأول: أنا ممرض في مستشفى وأمسك قسم الاستقبال، ويوم الجمعة أبقى وحدي والطبيب. فهل يجب علي صلاة الجمعة أم لا؟ حيث إن القسم يكون يستقبل الحوادث والطوارئ 24 ساعة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان عملك في المستشفى يتطلب وجودك وقت صلاة الجمعة تحسبا للطوارئ، فلا بأس ببقائك في المستشفى، وتكون معذورا في ترك صلاة الجمعة وتصلي ظهرا أربع ركعات.
السؤال الثاني: في عملي كممرض اضطر إلى إعطاء حقن عضل ووريد للنساء، فما حكم عملي هذا؟
ج: اقتصر في ضرب الإبر على الرجال، ولا يجوز لك ضرب النساء لما في ذلك من الفتنة. والواجب تخصيص ممرضة للنساء تقوم بذلك.(58/100)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/101)
فتوى رقم 4671
السؤال الأول: أنا طالب في كلية الطب، وفي السنة القادمة يكون مقررا علينا إن شاء الله مادة أمراض النساء والتوليد، وعلى هذا أسأل في الآتي:
أ - هل يجوز أن أحضر الدراسة العملية التي ربما ينكشف فيها جسد المرأة؟
ب - وهل يجوز للطبيب أن يتخصص في طب النساء والتوليد أم يقتصر هذا على الطبيبات؟
جـ - وهل يجوز للمرأة المريضة أي مرض غير أمراض النساء والتوليد أن تذهب لطبيب عيون أو أنف وأذن مثلا علما بوجود طبيبات متخصصات في هذه الفروع؟
د - وهل يجوز للمرأة الطبيبة أن تكشف على الرجل المريض؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أ، ب - إذا كان هناك من يكفي من المتخصصات في(58/101)
طب النساء والولادة اقتصر عليهن، ولم يجز لك أن تدرس فيه، ولا أن تطلع على عورة المرأة بالتدريب في الكشف عليها أو إجراء عملية لها، وإن كان من تخصص في طب النساء والولادة من النساء غير كاف للقيام بالواجب في هذا الجانب ودعت حاجة المسلمين إلى تخصصك فيه، جاز لك أن تدرس فيه ورخص لك في رؤية ما تدعو الضرورة إلى كشفه من جسد المرأة لإجراء كشف أو عملية.
جـ - إذا تيسر للمرأة أن يشخص مرضها ويعالجها طبيبة خبيرة في نوع مرضها، لم يجز لها أن تكشف أو تعالج عند طبيب، وإلا جاز لها ذلك.
د - يجوز لها أن تكشف وتعالج المريض من الرجال إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولم يتيسر من يقوم بذلك من الرجال وإلا امتنع وتعين أن يتولى علاجه طبيب.
السؤال الثاني: هل يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية أكثر من نظر الفجأة، وإذا كان لا يجوز، فهل يجوز للطلاب الرجال أن يحضروا محاضرة تلقيها امرأة متبرجة أو تلبس ملابس لصيقة على جسمها بحجة التعليم؟
ج: لا يجوز له النظر إليها أكثر من نظرة الفجأة، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك كما في حالة الإنقاذ، من غرق، أو حريق، أو هدم، أو نحو ذلك، أو في حالة كشف طبي أو علاج مرض إذا لم يتيسر من يقوم بذلك من النساء.(58/102)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/103)
فتوى رقم 15964
س: بنت مسلمة من إندونيسيا حدث لها حادث في السيارة بتاريخ 19 \ 9 \ 1993م مما أدى إلى تهشم مخها، وكسر رجليها، والآن هي في المستشفى وتتنفس عن طريق جهاز يوضع لها، ويقول الأطباء لو سحب منها هذا الجهاز ستموت فورا ولا يمكن أن تستمر لها الحياة، إلا بوضع هذا الجهاز. علما بأن تكاليف العلاج ليوم واحد ما يعادل اثنا عشر ألف دولار أسترالي، وليس لها مصدر لتسديد هذا المبلغ. فهل يجوز شرعا سحب هذا الجهاز؟ أرجو الإجابة على هذا السؤال أو توجيهه إلى أهل الاختصاص.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الأمر كما ذكر، فلا مانع من نزع الجهاز التنفسي عنها إذا قرر طبيبان فأكثر أنها في حكم الموتى، ولكن يجب أن ينتظر بعد نزع الأجهزة منها مدة مناسبة حتى تتحقق وفاتها.(58/103)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/104)
فتوى رقم 6619
السؤال الأول: أن هناك حالات من الوفاة تكتنف مسبباتها الغموض العلمي، ويحتاج الطبيب إلى معرفة السبب المؤثر، الأمر الذي يستلزم أخذ عينة (الحصول) بواسطة إبرة رفيعة من جسم المتوفى. والسؤال: ما مدى إمكانية ذلك من الناحية الشرعية علما بأن حجم هذه الإبرة يقارب حجم الإبرة العادية ولا تسبب أي تشققات أو تشوهات بجسم المتوفى؟
ج: إذا كان هناك ضرورة أو حاجة إلى معرفة سبب الوفاة، ولم يمكن معرفة سببها إلا بأخذ العينة على الصفة المذكورة، جاز ذلك شرعا؛ إيثارا للمصلحة الراجحة على ما يصيب المتوفى من الأذى.
السؤال الثاني: في الحالات التي تستلزم حالة المريض أو المصاب وضعه تحت أجهزة تعمل على تشغيل القلب والتنفس في آن واحد ميكانيكيا، فإذا أثبت من تخطيط مخ المريض الذي يعمل بشكل دوري خلال 24 ساعة أنه في حالة أفقية - مسطح - فإن(58/104)
ذلك يفيد أن المخ توقف تماما، وأنه لا يعمل طيلة هذه المدة، الأمر الذي يفيد من وجهة النظر الطبية وفاة المريض. هل يجوز في هذه الحالة إيقاف الأجهزة التي تقوم بتشغيل، القلب والتنفس أوتوماتيكيا، ويهمنا أن نذكر أن الوفاة لن تعلن، إلا بعد التأكد من أن القلب قد توقف بعد رفع هذه الأجهزة وظهور العلامات المتعارف عليها شرعا؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكر، جاز إيقاف الأجهزة التي تشغل القلب وجهاز التنفس أوتوماتيكيا إذا كان القلب لا ينبض والتنفس لا وجود له إلا بالأجهزة؛ لأنه على هذا يكون ميتا، وحركة القلب والتنفس إنما هي بالأجهزة لا حياة الشخص لكن يجب التأكد من موته بعد رفع الأجهزة، وقبل إعلان الموت لكمال إراحته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/105)
فتوى رقم 12762
س: إن الله سبحانه وتعالى قد رزقني بمولود في تاريخ 16 \ 2 \ 1410هـ، ولكن قدرة المولى عز وجل جعلت ذلك المولود يصاب بمرض في المخ تضاعف حتى أتلف خلايا التنفس في(58/105)
المخ حسبما أسموه الأطباء، وقد قمت بسؤال الأطباء عن سبب ذلك المرض إلا أنهم أجابوني أنها حالة طبيعية، وقد تحدث لبعض الحالات، كما أنه وللأسف لا يوجد علاج لمثل هذه الحالة، إلا أن يشاء الله، وهذا أيضا ما أفادوا به الأطباء.
فضيلة الشيخ: إن الطفل تحت التنفس الصناعي، ولو سحب منه ذلك الأكسجين سوف يتوفى بعد مدة عشر دقائق، وكل شيء بيد الله وعنده علمه، كما أفيد فضيلتكم أن الأطباء في المستشفى قد سمحوا لي أن أشاهد ذلك على الطبيعة وفعلا سحبوا الأكسجين عن الطفل فلم يتنفس نهائيا، وعندما أعادوا عليه الأكسجين عادت إليه الحياة بتنفس غير طبيعي. صاحب الفضيلة أصبحنا بفعلنا هذا نكافح قدرة الله (الموت) الذي هو حق فرضه الله على كل حي. صاحب الفضيلة سؤالي هو أنني حاولت في خروج الطفل من المستشفى على مسئوليتي سواء يحيا أو يموت، ولكن مخافتي أن يلحقني إثم في إخراجي له وتسببي في وفاته إن قدر الله له الموت، فهل يجوز لي أن أخرجه مهما كلف الأمر من حياة أو موت أم أبقيه في المستشفى تحت التنفس الصناعي، فضيلة الشيخ أرجو إفادتي أفادكم الله مع حامل رسالتي إليكم إفادة خطية، هذا وجزاكم الله خير الجزاء، إنه على كل شيء قدير، والله يرعاكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الأمر كما ذكر فلا مانع من نزع الجهاز(58/106)
التنفسي عن ولدك، إذا قرر طبيبان فأكثر أنه في حكم الموتى، ولكن يجب أن ينتظر بعد نزعها منه مدة مناسبة حتى تتحقق وفاته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/107)
فتوى رقم 12086
س: حول عدم تنفيذ إجراءات الإنعاش في النقاط والأحوال التي ورد ذكرها في دليل سياسة العمل والإجراءات المرفقة. نأمل من فضيلتكم التكرم باتخاذ ما ترونه لإصدار فتوى بجواز هذه النقاط من عدمها وإشعارنا؛ ليتم على ضوء ذلك العمل بموجبه في المستشفى.
هذا والحالات التي وردت في دليل سياسة العمل والإجراءات هي التالية:
أولا: إذا وصل المريض متوفى؟
ثانيا: إذا كان ملف المريض مختوما بعلامة عدم عمل إجراءات الإنعاش بناء على رفض المريض أو وكيله في حال عدم صلاحية المريض للإنعاش؟
ثالثا: إذا قرر ثلاثة أطباء أن من غير المناسب إنعاش المريض(58/107)
عندما يكون من الواضح أنه يعاني من مرض مستعص غير قابل للعلاج، وأن الموت محقق؟
رابعا: إذا كان المريض في حالة عجز أكيد عقليا أو جسميا أو كليهما، وفي حالة خمول ذهني مع مرض مزمن مثل السكتة الدماغية المسببة للعجز أو مرض السرطان في مرحلة متقدمة، أو مرض القلب والرئتين المزمن الشديد، أو أمراض الهزال وتكرار توقف القلب والرئتين؟
خامسا: إذا وجد لدى المريض دليل على الإصابة بتلف في الدماغ مستعص على العلاج عقب تعرضه لتوقف القلب والرئتين لأول مرة؟
سادسا: إذا كان إنعاش القلب والرئتين غير مجد، وغير ملائم لوضع معين حسب رأي الأطباء الحاضرين؛ فإن رأي المريض الذاتي لا يهم، والأطباء غير ملزمين بإجراء إنعاش القلب والرئتين، ولا يحق لذوي المريض طلب هذا النوع من العلاج إذا كان غير مجد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: إذا وصل المريض إلى المستشفى وهو متوفى فلا حاجة لاستعمال جهاز الإنعاش.
ثانيا: إذا كانت حالة المريض غير صالحة للإنعاش بتقرير ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات، فلا حاجة أيضا لاستعمال جهاز الإنعاش.
ثالثا: إذا كان مرض المريض مستعصيا غير قابل للعلاج، وأن(58/108)
الموت محقق بشهادة ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات، فلا حاجة أيضا لاستعمال جهاز الإنعاش.
رابعا: إذا كان المريض في حالة عجز أو في حالة خمول ذهني مع مرض مزمن، أو مرض السرطان في مرحلة متقدمة، أو مرض القلب والرئتين المزمن مع تكرار توقف القلب والرئتين، وقرر ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات ذلك، فلا حاجة لاستعمال جهاز الإنعاش.
خامسا: إذا وجد لدى المريض دليل على الإصابة بتلف في الدماغ مستعص على العلاج بتقرير ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات، فلا حاجة أيضا لاستعمال جهاز الإنعاش لعدم الفائدة في ذلك.
سادسا: إذا كان إنعاش القلب والرئتين غير مجد، وغير ملائم لوضع معين حسب رأي ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات، فلا حاجة لاستعمال آلات الإنعاش، ولا يلتفت إلى رأي أولياء المريض في وضع آلات الإنعاش أو رفعها؛ لكون ذلك ليس من اختصاصهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/109)
من الفتوى رقم 20913
السؤال الأول: هل يمكن رفض علاج مريض متخلف عقليا(58/109)
وجسديا؛ لأن علاجه لو تم سيؤدي إلى تكلفة الدولة بكلفة يمكن أن تصرف على مريض آخر نفعه في المجتمع أكبر وأكثر، علما أن الأول - أي المتخلف - لا نفع منه ألبتة من الناحية الاجتماعية، بل يعد طبيا عبئا، وقد يصل الإنفاق عليه إلى مليون ريال، لو صرفت هذه المبالغ على غيره لكان أولى طبيا، هذا فضلا على الأسرة وحجز السرير، وما يتبع ذلك من أمور تؤثر على علاجات الآخرين، نظرا لكثرة الإنفاق على هذا المريض وهذا المال من ميزانية المستشفى مع شح الواردات؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز رفض علاج المتخلف عقليا وجسديا، إذا كان يرجى شفاؤه ولو كان علاجه يكلف نفقة كثيرة، إذا كانت مقدورة لأن له حرمة، ولا ينظر إلى كونه لا نفع فيه بسبب تخلفه عقليا، أو جسديا؛ لأن هذا لا يهدر حرمته.
السؤال الثاني: هل يجوز ترك إجراء عملية ورفضها إذا كانت نسبة نجاح العملية طبيا ضعيفة، ولا تتجاوز نسبة النجاح 30% من خلال الاستقراء الطبي، علما أنه لو ترك فإن نسبة الوفاة قد تصل إلى 100% طبيا فما الحكم؟
ج: المشروع علاج المريض، ولو كانت نسبة النجاح قليلة؛ لعموم الأدلة الشرعية، ورجاء أن يكتب الله له الشفاء.
السؤال السادس: ما حكم العلاج أصلا هل هو واجب؟ فإذا لم يكن واجبا، فهل يلحق الطبيب بناء على ذلك أي إثم لو(58/110)
رفض إجراء العملية لسبب شخصي، سواء كان هناك غيره أو لا يوجد غيره؟
ج: العلاج مشروع، ويجب على الطبيب الموظف لعلاج المرضى الذي عنده القدرة لمعالجة الناس بذل ما في وسعه لعلاجهم رجاء شفائهم، أو التخفيف من آلامهم، ويدل لذلك النصوص العامة في الشريعة التي تفيد التعاون وإعانة المحتاج وإغاثة الملهوف، إضافة إلى أن الطبيب في عمله الوظيفي يجب عليه أداء وظيفته على الوجه الأكمل، ومن ذلك معالجة المرضى الذين يلجأون إليه، فلا يجوز له ردهم أو التساهل في علاجهم.
السؤال السابع: هل للطبيب أن يقدم على عملية جراحية وهو غير حاذق فيها، كبعض الحالات؟
ج: لا يجوز للطبيب أن يجري عملية جراحية وهو غير حاذق فيها؛ لأن ذلك تفريط في المسئولية، واعتداء على حرمة الغير بدون مسوغ شرعي، وإذا حصل من الطبيب عملية جراحية مع عدم حذقه لها فهو ضامن لكل ما يترتب عليها من ضرر أو تلف.
السؤال الثامن: إذا اختلف والد المريض وابنه في إجراء العملية عند الطبيب فمن يقدم قوله؟
ج: يقدم قول المريض البالغ العاقل في إجراء العملية فيه على قول أبيه وابنه؛ لأنه لا ولاية عليه في هذه الحالة، أما إن كان المريض غير عاقل؛ فإنه يقدم قول أبيه لأنه هو وليه.
السؤال التاسع: هل يجوز تأخير الصلاة حتى خروج وقتها(58/111)
كصلاة العصر مثلا للضرورة، وذلك إذا كان الطبيب في حال إجراء العملية وتحت يده مريض لو تركه ولو لفترة قصيرة فإن في ذلك خطرا على حياته؟
ج: على الطبيب المتخصص في إجراء العمليات أن يراعي في إجرائها الوقت الذي لا يفوت به أداء الصلاة في وقتها، ويجوز في حال الضرورة الجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو تأخير كالظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، حسبما تدعو إليه الضرورة، أما إذا كانت لا تجمع إلى ما بعدها كالعصر والفجر، فإن أمكن أداؤها في وقتها ولو كان عن طريق النوبة لبعض العاملين ثم يصلي الآخرون بعدهم فذلك حسن، وإن لم يمكن ذلك فلا حرج في تأخير الصلاة وقضائها بعد انتهاء العملية للضرورة، وهي تقدر بقدرها.
السؤال العاشر: ما القواعد الفقهية التي يمكن أن يسير عليها الطبيب بحيث تتضح له الصورة عند اتخاذ الإجراءات؟ هل يحكم بناء على جلب المصلحة ودرء المفسدة أو على غالب الظن؟ نرجو توضيح ذلك، ونرجو تزويدنا بكل ما صدر عنكم من فتاوى تتعلق بأحكام الطبيب المسلم؟
ج: تختلف الحالات المرضية ولكل حالة حكمها فلا يمكن تعيين قواعد فقهية عامة في هذا الشأن ولكن يسأل أهل العلم عن كل حالة بخصوصها عند الحاجة.(58/112)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(58/113)
فتوى رقم 18084
السؤال الأول: يحتوي معجون الأسنان على أنواع من السكريات والتي يتذوقها الإنسان أثناء استخدامه، علما بأن تذوق الطعام بالشكل الطبيعة يتم بذوبان المادة المذاقة في اللعاب، ثم تخللها إلى مستقبلات التذوق. فإذا ذابت في اللعاب أنه يغلب على الظن أنه لا يمكن للإنسان أن يتحرز من بلعها؟
أ - هل يجوز للصائم استخدام معجون الأسنان؟ علما بأنه يستطيع أن يستخدم الفرشاة لوحدها؟
ب - وما هو حكم أدوية غسيل الفم (المضمضة) ؟
جـ - وقد ثبت بسند حسن عن ابن عباس " الإرواء 937 " أنه رضي الله عنه لا يرى بأسا أن يتذوق الصائم العسل والسمن ونحوه ثم يمجه، وكذا ورد عن بعض السلف. فبعد معرفتكم للطريقة التي يتم بها تذوق الطعام، فما حكم تذوق الطعام للصائم؟(58/113)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا بأس باستعمال معجون الأسنان أثناء الصيام، ولكن يجب لفظ ما تحلل منه في الفم، وإن ذهب منه شيء إلى حلقه من غير تعمد لم يضره. وكذلك لا بأس باستعمال غسيل الفم المشتمل على الأدوية بشرط أن يمجه ولا يذهب إلى حلقه منه شيء متعمدا. وهكذا ذوق الطعام لا حرج فيه بشرط أن يمجه ولا يبتلعه.
السؤال الثاني: في بعض الأحيان يحتاج طبيب أو طالب أو فني الأسنان إلى حك الجبس، وقد ينتج عن ذلك غبار. فهل استنشاقه يعتبر مفطرا للصيام؟
ج: لا يجوز للصائم أن يتعمد إدخال الغبار إلى أنفه، أما إن طار إلى حلقه بغير اختياره فلا شيء عليه.
السؤال الثالث: يحتاج طبيب الأسنان لإعطاء المريض إبرة في الفم للتخدير الموضعي وهي غير مغذية. فهل يؤثر ذلك في الصيام؟ علما بأن المريض قد يستطيع تأجيل العلاج إلى الليل أو حتى بعد رمضان؟
ج: لا بأس بإعطاء الصائم إبرة للتخدير الموضعي في الفم وغيره من أجل العلاج؛ لأنها ليست مغذية.
السؤال الرابع: يحتاج طبيب الأسنان أحيانا إلى إعطاء إبرة مهدئة في الوريد أو العضل " غير مغذية " فهل يؤثر ذلك في الصيام؟ مع العلم بأن المريض قد يستطيع تأجيل العلاج إلى الليل(58/114)
أو حتى بعد رمضان؟
ج: لا بأس بإعطاء الصائم إبرة إذا كانت غير مغذية وكان بحاجة إليها من أجل العلاج، وتأجيلها إلى الليل أحوط.
السؤال الخامس: يستخدم طبيب الأسنان الماء لتبريد آلة حك السن. فهل ابتلاع المريض الصائم لهذا الماء بدون قصد يؤثر على الصيام؟ علما بأن المريض قد يستطيع تأجيل العلاج إلى الليل أو حتى بعد رمضان؟
ج: لا بأس بوضع الماء في فم الصائم من أجل العلاج بشرط أن لا يتعمد ابتلاعه، وإن ذهب منه شيء إلى حلقه بغير اختياره فلا حرج عليه. وتأجيل العلاج إلى الليل أو إلى ما بعد رمضان أحوط.
السؤال السادس والسابع: هل خلع الأسنان وما يصاحبه من خروج الدم يخل بالصيام؟ علما بأن المريض قد يستطيع تأجيل العلاج إلى الليل أو حتى بعد رمضان؟
هل على طبيب الأسنان إثم بعلاج المريض، وكان الأولى تأجيل العلاج في الأسئلة السابقة؟
ج: يجوز للصائم خلع الضرس أثناء الصيام مع وجوب التحفظ من أن يذهب شيء إلى حلقه من آثار الخلع، ولا حرج على الطبيب في إجراء العلاج في هذه الحالة.
السؤال الثامن: يستخدم طبيب الأسنان بعض المواد التي قد يجد المريض طعمها أو رائحتها، فهل وجود طعمها أو رائحتها في الحلق يؤثر على الصيام؟ مع العلم أن المريض قد يستطيع أن(58/115)
يؤجل العلاج إلى الليل أو حتى بعد رمضان؟
ج: إذا احتاج الصائم إلى علاج أسنانه في أثناء الصيام فلا بأس بذلك مع التحفظ التام من وصول شيء إلى حلقه من الأدوية أو آثار العلاج، وإن وصل شيء إليه بغير اختياره فلا حرج عليه.
السؤال التاسع: إذا كان الأولى لمريض الأسنان أن يؤجل العلاج إلى الليل فعندها لن يجد طالب طب الأسنان مرضى يتدرب على علاجهم أثناء نهار رمضان - لأن الدراسة في النهار فقط - فهل هذا يعتبر مسوغا للمريض لقبول العلاج أثناء النهار مع ما يصاحبه من احتمال ابتلاع الدم أو الماء وإعطاء الإبر المخدرة؟
ج: إذا كان القصد من علاج الأسنان في نهار الصيام هو تدريب طلبة طب الأسنان فقط دون حاجة المعالج فالأحوط ترك العلاج في النهار، وتأجيل التدريب إلى ما بعد رمضان حفاظا على الصيام.
السؤال العاشر: لو سال دم من اللثة بسبب أمراض فيها أو بسبب الخلع، وابتلعه الصائم. فما الحكم؟
ج: إذا سال دم من لثة الصائم أو كان ذلك بسبب العلاج وجب على الصائم لفظه وإخراجه من فمه، فإن وصل منه شيء إلى حلقه من غير تعمد فلا حرج عليه.
السؤال الحادي عشر: إذا كانت الحجامة من المفطرات.
فما هو مقدار الدم الذي لو خرج من جسم الإنسان أفسد صومه؟ وإذا أجري للمريض عملية جراحية في فمه أو غيره خرج(58/116)
بها دم كثير، فهل يفطر؟
ج: الحجامة تفسد الصيام على الصحيح؛ لحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم (1) » . ومثل الحجامة سحب الدم من الصائم إذا كان الدم المسحوب كثيرا في عرف الناس. وإذا كان خروج الدم بسبب جراحة طبية، أو بسبب حادث فلا شيء على الصائم؛ لأنه بغير اختياره.
السؤال الثاني عشر: ينصح أطباء الأسنان بقص الجزء المستعمل من السواك كل 24 ساعة؛ وذلك من أجل استمرار وجود المادة الفعالة في السواك أثناء تنظيف الأسنان. فهل يؤثر على الصيام استعمال سواك جديد أو جزء جديد منه، خاصة وأنه قد يصاحبه تكسر وتفتت بعض أجزائه في الفم مما قد يؤدي إلى بلعها؟
ج: لا بأس باستعمال السواك الجديد أو المجدد في حالة الصيام، وما تفتت من المسواك وجب لفظه وإخراجه من فمه.
السؤال الثالث عشر: يوجد في الأسواق بخاخ معطر للفم. إذا بخ داخل الفم قد يترشح أو يتكثف إلى سائل. فهل يجوز استخدامه للصائم من أجل إزالة رائحة الفم؟
ج: يجوز للصائم استعمال البخاخ المطيب لرائحة الفم إذا كان مجرد هواء، أما إن كان فيه شيء من السوائل أو المواد المذابة، فإنه يجب عليه لفظ ما يجده في فمه من ذلك.
السؤال الرابع عشر: أ - هل يجوز للطبيب في الأحوال العادية أن يفطر إذا تعب من علاج المرضى؟ وما الحكم إذا كان يجري عمليات جراحية قد يستغرق بعضها وقتا طويلا؟ وهل
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (774) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) .(58/117)
يختلف الحكم إذا كانت الحالة حالة إسعافية؟
ب - هل يجوز للمريض أن يفطر بسبب آلام الأسنان؟
ج: لا يجوز للطبيب أن يفطر من أجل علاج المرضى، إلا إذا كانت حالة المريض حالة خطرة، وتوقف علاجها على إفطار الطبيب المعالج، فيجوز إفطار الطبيب في هذه الحالة؛ لأنه لإنقاذ معصوم من هلكة، وإذا احتاج المصاب بآلام الأسنان إلى الإفطار فإنه يفطر؛ لأنه في هذه الحالة يكون من المرضى الذين رخص الله لهم بالإفطار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/118)
واجبات الطواف
للدكتور \ عبد الله بن إبراهيم الزاحم (1) .
المقدمة:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، افترض الحج لبيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام ومبادئه العظام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، وعلى آله وصحبه الكرام، صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الضياء والظلام. وبعد:
فقد سبق أن كتبت بحثا بعنوان: (شروط الطواف) (2) ، وأشرت في مقدمته إلى ما كتبه الدكتور \ شرف بن علي الشريف بعنوان: (من أحكام الطواف، السنن) ، وأن هذا الصنيع منه جعلني أستحسن تقسيم البحث في أحكام الطواف إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أنواع الطواف، وأحكامه.
القسم الثاني: شروط الطواف، وواجباته.
القسم الثالث: سنن الطواف، وآدابه.
وأن الدكتور شرف قد تناول دراسة القسم الثالث، وقد تناولت دراسة القسم الأول. وأما القسم الثاني فبعد أن جمعت مادته العلمية استحسنت قسمه إلى بحثين:
أحدهما: في شروط الطواف. والثاني: في واجباته.
__________
(1) عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(2) سبق نشره في العدد (53) من هذه المجلة.(58/119)
وقد أوضحت أني قد اعتمدت في هذا التقسيم على مذهب الأحناف؛ لأنهم انفردوا من بين المذاهب الأربعة بالفرق بين الشروط والواجبات.
كما نبهت على أهمية بحث: (شروط الطواف) إذ بالإخلال بتلك الشروط، أو عدم وجودها، إخلال بصحة الطواف.
وبالإخلال به فوات لما أراده الحاج، وما تجشم له المصاعب والمشاق، من أداء نسكه وقضاء ما افترضه الله عليه من حج بيته.
وهذا البحث وهو: (واجبات الطواف) لا يقل عن قسيمه أهمية، إذ إن هذه الواجبات عند الأحناف قد اعتبرها غيرهم شروطا لصحة الطواف. وبهذا يتبين أن بين البحثين ارتباطا وثيقا، مما جعلني أستحث الخطا، لإكمال هذا القسم بشقيه.
وقد بذلت فيه جهدي واستفرغت طاقتي رجاء أن أسهم ببعض الواجب علي؛ خدمة للإسلام، ونفعا للمسلمين، جاعلا نصب عيني الميل مع الدليل حيث مال دون تعصب لمذهب أو انتصار لقائل. فإن وفقت لذلك فهو غاية مرادي، وأحمد الله على فضله وامتنانه، وإن كانت الأخرى فأرجو من الله ألا يحرمني أجر اجتهادي، فهو سبحانه وتعالى حسبي وملاذي.
وآمل من كل أخ وقف على عيب أو خلل أو تقصير في هذا البحث أو غيره من أبحاثي. أن يبادر بإهدائه إلي، وله مني دعوة خالصة صادقة: بأن يلهمه الله رشده، وأن يوفقه ويسدده.
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وسبعة مطالب وخاتمة.
أما المقدمة: فقد ضمنتها: الافتتاحية. وخطة البحث.(58/120)
وأما المطالب فهي:
المطلب الأول: جعل البيت عن يساره.
المطلب الثاني: الطهارة من الحدث.
المطلب الثالث: الطهارة من النجس.
المطلب الرابع: ستر العورة.
المطلب الخامس: الموالاة بين الأشواط.
المطلب السادس: المشي مع القدرة.
المطلب السابع: الصلاة عقيبه.
وأما الخاتمة: فقد أشرت فيها إلى ما توصلت إليه من نتائج خلال هذا البحث.
وأسأل الله العظيم أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعله لي ذخرا يوم الدين، وأن ينفع به من كتبه أو اطلع عليه.
واجبات الطواف:
أوضحت في بحث (شروط الطواف) تعريف كل من الواجب والشرط، والفرق بينهما؛ فلا حاجة إلى إعادته، وأشرت إلى أن بينهما عموما وخصوصا. فكل شرط واجب، ولا عكس.
وأن الإخلال بالشرط أو عدم وجوده يؤثر فيما اشترط له.
ويخل بصحة الطواف. أما الواجبات فإن الإخلال بها قصدا بغير عذر موجب للإثم، إلا أنه يمكن جبر ذلك الخلل بجابر يناسب نوع الطواف وحكمه.
وسأتناول في هذا البحث واجبات الطواف. وقد اعتمدت في هذا التقسيم على مذهب الأحناف، فقد أورد ملا علي القاري في(58/121)
منسكه فصلا في واجبات الطواف. ذكر فيه سبعة واجبات. وهي:
أ - الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر.
2 - الطهارة من النجاسة الحقيقية.
3 - ستر العورة.
4 - المشي للقادر.
5 - التيامن.
6 - الابتداء من الحجر الأسود.
7 - الطواف من وراء الحطيم.
ويلاحظ أن الواجبين الأخيرين قد تم إيرادهما في شروط الطواف. أما الأول منهما، فإن من الأحناف من قال باشتراطه؛ ولذا قال ملا علي القاري في منسكه: (قيل: والابتداء من الحجر) ، قال الشارح: (أي عد من شرائط صحة الطواف) (1) .
وأما الثاني منهما، فإنه داخل تحت شرط (كونه بالبيت) ، وأما الأحناف فإنهم فرقوا بينهما، فجعلوا الطواف بالبيت - أي واقعا من خارجه لا في داخله - شرطا لصحته، أما شمول الطواف للحطيم - وهو الحجر - فليس بشرط عندهم، بل هو واجب على ما سبق بيانه من أن الشرط: الإتيان بأكثر الطواف. وأن الباقي واجب. فالحجر داخل في الباقي إذ إنه يقدر بالربع.
وقد زدت على ما عده ملا القاري في فصل الواجبات، واجبين آخرين هما: الموالاة بين الأشواط. والصلاة عقيبه.
__________
(1) إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري ص98.(58/122)
أما الأول منهما، فإن الأحناف اعتبروه من السنن والمندوبات لا من الواجبات.
وأما الثاني، فإن ملا القاري اعتبرها واجبا مستقلا إذ قال: (فصل في ركعتي الطواف، وهي واجبة) .
قال الشارح: (أي: مستقلة، لا سنة) (1) .
__________
(1) المرجع السابق ص105.(58/123)
المطلب الأول: جعل البيت عن يساره:
لا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف جعل البيت عن يساره وسار متجها تلقاء وجهه، لما روى جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا، ومشى أربعا (1) » . فهل تعد هذه الصفة شرطا لصحة الطواف أم من واجباته؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن جعل البيت عن يسار الطائف، واتجاهه تلقاء وجهه شرط لصحة الطواف. وإلى هذا ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول للأحناف.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(58/123)
القول الثاني: أن هذه الصفة المشار إليها ليست شرطا لصحة الطواف، وإنما هي واجبة، فلو جعل البيت عن يمينه، أو جعله عن يساره وسار القهقرى أو جعله تلقاء وجهه أو خلفه فعليه الإعادة، فإن عاد إلى بلده ولم يعد فعليه دم. وإلى هذا ذهب الأحناف في المشهور.
القول الثالث: أن هذه الصفة سنة، يكره تركها، فإن أخل بها صح طوافه ولم يلزمه شيء. وإلى هذا ذهب الأحناف في قول،(58/124)
داود الظاهري (1) .
الأدلة:
أ - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت في الطواف عن يساره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به في أداء المناسك، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البيت عن يساره؛ فدل ذلك على وجوب الترتيب.
الثاني: وقالوا: إن الترتيب وجعل البيت عن يسار الطائف بيان لمجمل الكتاب، فكان شرطا لصحة الطواف، كالترتيب في الصلاة (3) .
الثالث: وقالوا: إنها عبادة تفتقر إلى البيت فوجب أن يكون التنكيس مانعا من صحتها كالصلاة (4) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (5) وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف، ولم يقيد الطواف باليمن أو باليسار،
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 131، منسك ملا القاري ص104، حاشية ابن عابدين 2 \ 468، الحاوي 4 \ 150.
(2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(3) انظر: المغني 5 \ 231.
(4) انظر: الحاوي 4 \ 151، المجموع 8 \ 30.
(5) سورة الحج الآية 29(58/125)
إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم واظب على جعل البيت عن يساره. فدل ذلك على وجوبه، وأن الإخلال به موجب للدم (1) .
3 - واستدل أصحاب القول الثالث، القائلون بأنه سنة بما يلي:
الأول: بالآية. وقالوا: إن الله أمر بالطواف، ولم يقيد ذلك بصفة، فمن طاف حول البيت فقد أدى الفرض سواء جعل البيت عن يساره أم عن يمينه أم تلقاء وجهه أم خلف ظهره، فدل ذلك على أن هذه الصفة - وهي جعل البيت عن يساره - سنة في الطواف، كهيئة الرمل، والاضطباع (2) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه الجمهور وهو: أن على الطائف أن يجعل البيت عن يساره، وأن من أخل بهذه الصفة، بأن جعل البيت عن يمينه، أو عن يساره ورجع القهقرى، أو جعله تلقاء وجهه أو خلف ظهره. لم يصح طوافه، ولا يعتد به، وأن عليه أن يعيده لإخلاله بشرط صحته. وذلك لما يلي:
أ - أن الله جل وعلا أمر بالطواف، ولم يبين كيفيته، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف وجعل البيت عن يساره، ولم يخل بهذه الكيفية في شيء من طوافه، فكان ذلك دليلا على وجوب هذه الكيفية، وأنها شرط لصحة الطواف.
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه لأفعال المناسك كان يأمر أصحابه - وأمته
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 131، شرح فتح القدير 3 \ 58.
(2) انظر: المغني 5 \ 231.(58/126)
تبع لهم - بأن يأخذوا عنه مناسكه، وأن يترسموا أفعاله في هذه العبادة، فدل ذلك على وجوب الترتيب في هذه العبادة، وأنه شرط لصحة الطواف، كما أن الترتيب شرط لصحة الصلاة. والله أعلم.(58/127)
المطلب الثاني: الطهارة من الحدث:
المراد بالطهارة من الحدث: طهارة الطائف من الحدث(58/127)
الأصغر، الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل، وطهارة المرأة من الحيض والنفاس.
ولن أخوض غمار هذه الأحداث مبينا نواقض الوضوء أو موجبات الغسل أو علامات الحيض والنفاس، ومدتهما. إلى غير ذلك من التفصيلات المتعلقة بالطهارة من الحدث، فإن ذلك يطول ويخرجنا عما نحن بصدد بحثه (1) .
والذي يخصنا من ذلك ونود التعرف عليه في هذا المطلب هو: آراء العلماء في اشتراط الطهارة من الحدث لصحة الطواف.
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف، فمن طاف محدثا، لم يصح طوافه، ولا يعتد به.
وإلى هذا القول ذهب: مالك.
والشافعي، وأحمد في
__________
(1) لأن بحث تلك المسائل، والخوض في تفصيلاتها متعلق بكتاب الطهارة.(58/128)
المشهور عنه، وجمهور العلماء.
القول الثاني: أن الطهارة من الحدث في الطواف واجبة، وليست شرطا لصحته، فمتى طاف للزيارة غير متطهر من الحدث، أعاد ما دام في مكة، فإن تعذرت عليه الإعادة، لبعده عنها جبره بدم.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد في رواية (1) ، والمغيرة من أصحاب مالك (2) .
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول، القائلون باشتراط الطهارة بما يلي:
الأول: بحديث عائشة - رضي الله عنها -: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت (3) » متفق
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 223، الفروع3 \ 501، المبدع3 \ 221، الإنصاف4 \ 16، 19، شرح الزركشي 3 \ 196.
(2) انظر: منسك خليل ص63، مواهب الجليل3 \ 68.
(3) أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة. (63) 2 \ 163، وباب الطواف على وضوء (78) 2 \ 168، ومسلم في الحج، باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف 8 \ 219.(58/129)
عليه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم (1) » .
وجه الاستدلال منه من وجهين:
أ - أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف بيان لمجمل القرآن؛ لأن الله جل وعلا أمر بالطواف في كتابه العزيز ولم يبين كيفيته، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ توضأ قبل طوافه، والفعل إن جاء بيانا لأمر واجب دل على وجوبه، فدل ذلك على وجوب الطهارة من الحدث قبل الطواف.
ب - أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم بأخذ مناسكه، والاقتداء به في ذلك دليل على وجوب جميع ما صدر منه في بيان أفعال المناسك - إلا ما دل الدليل على استثنائه - ومن ذلك الطهارة من الحدث قبل الطواف.
الثاني: وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه المنطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير (2) » .
وجه الاستدلال منه من وجهين:
أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة، وليس المراد التشبيه في الأفعال
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(2) تقدم تخريجه في بحث شروط الطواف، وأنه حديث صحيح.(58/130)
والهيئة لتباينهما، وإنما المراد التشبيه بها في الحكم. فدل ذلك على أن للطواف جميع الأحكام المتعلقة بالصلاة - إلا ما استثناه الدليل - ومن ذلك اشتراط الطهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور (1) » .
ب - من قوله: «إلا أن الله أباح فيه المنطق (2) » فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم إباحة المنطق في الطواف، دليل على اشتراط ما عداه، كما يشترط في الصلاة، ومن ذلك اشتراط الطهارة من الحدث.
الثالث: وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت وهي محرمة: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (3) » . متفق عليه. وفي رواية لمسلم «حتى تغتسلي (4) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعائشة أن تفعل وهي حائض جميع ما يفعله الحاج، ولم يمنعها إلا من الطواف، وجعل ذلك مقيدا باغتسالها وتطهرها، فدل ذلك على ترتيب منع الطواف على انتفاء الطهارة، وعلى أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وعلى عدم صحته
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 3 \ 102.
(2) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(3) أخرجه البخاري في الحيض، باب الأمر للنساء إذا نفسن (1) 1 \ 77، وباب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (7) 1 \ 79، وفي الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف. (81) 2 \ 171، ومسلم في الحج، باب بيان وجوه الإحرام 8 \ 146، 147.
(4) أخرجه البخاري في الحيض، باب الأمر للنساء إذا نفسن (1) 1 \ 77، وباب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (7) 1 \ 79، وفي الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف. (81) 2 \ 171، ومسلم في الحج، باب بيان وجوه الإحرام 8 \ 146، 147.(58/131)
بدونها؛ لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد (1) .
الرابع: وبقوله صلى الله عليه وسلم «لما أخبر بأن صفية حاضت: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذا (2) » .
وجه الاستدلال منه:
- إخباره بانحباسه - وانحباس من كان معه لانحباسه - لحيض صفية، لو لم تكن قد أفاضت، مع ما في ذلك من المشقة العامة، دليل ظاهر - إن لم يكن نصا صريحا - على اشتراط الطهارة لصحة الطواف.
الخامس: وقالوا: إنها عبادة متعلقة بالبيت، فكانت الطهارة شرطا لها كالصلاة (3) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني، القائلون بعدم اشتراط الطهارة بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) .
__________
(1) انظر: المجموع 8 \ 18، شرح فتح القدير 3 \ 50.
(2) متفق عليه من حديث عائشة - رضي الله عنها - أخرجه البخاري في الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت (145) 2 \ 195 واللفظ له، ومسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 82 بلفظ: '' لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر، إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: '' عقرى حلقى، إنك لحابستنا '' - ثم قال لها -: '' أكنت أفضت يوم النحر ''؟ قالت: نعم، قال: '' فانفري ''.
(3) انظر: المغني 5 \ 223، المنتقى 2 \ 290.
(4) سورة الحج الآية 29(58/132)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد (1) .
الثاني: وبالأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول.
وجه استدلالهم منها:
أن مقتضاها وجوب الطهارة من الحدث في الطواف، وذلك لا يستلزم اشتراطها؛ لأن الدليل عليها أخبار آحاد وهي توجب العمل، فيثبت بها الوجوب دون الفرضية، وأما القول باشتراطها فإنه يفضي إلى تقييد مطلق الكتاب بأخبار الآحاد، وهو ممنوع (2) .
الثالث: وبما رواه سعيد بن منصور بسنده عن عطاء قال: «حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة - رضي الله عنها - فأتمت بها عائشة سنة طوافها (3) » .
قالوا: دل هذا الأثر على أن عائشة - رضي الله عنها - لم تر أن الحيض مانع من صحة الطواف؛ ولذا أتمت بها الطواف، والناس إنما تلقوا خبر منع الحائض من الطواف منها، فدل ذلك على أن منعها من الطواف لم يكن لعدم صحة الطواف منها.
الرابع: وبما رواه أحمد عن حماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 129.
(2) انظر: شرح العناية على الهداية 3 \ 50.
(3) أورده في القرى ص265، وهداية السالك 2 \ 763. شرح فتح القدير على الهداية 3 \ 51.(58/133)
أنهما سئلا عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسا (1) ، فدلت هذه الآثار على أن الطهارة ليست شرطا لصحة الطواف.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو: أن الطهارة شرط لصحة الطواف لا يصح الطواف بدونها مع القدرة عليها، وأن الحائض لا يصح طوافها، ولو طافت فلا يعتد بذلك. وذلك لما يلي:
1 - ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم طاف؛ فكان فعله بيانا لمجمل الكتاب. وقد أمر بامتثال أفعاله في المناسك.
2 - تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الطواف بالصلاة دليل على وجوب الطهارة، واشتراطها لصحته كالصلاة.
3 - أن نهي الحائض عن الطواف حتى تتطهر وتغتسل، دليل على اشتراط الطهارة من الحدث لصحة الطواف.
4 - أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي (2) » نص في منع الحائض، وعدم صحة الطواف منها، ولو احتاجت إلى ذلك. والله أعلم.
__________
(1) أورده في مجموع الفتاوى 26 \ 182، وشرح فتح القدير على الهداية 3 \ 51.
(2) صحيح البخاري الحج (1757) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) .(58/134)
المطلب الثالث: الطهارة من النجس:
المراد بالطهارة من النجس: طهارة البدن والثوب، والمكان الذي يطؤه في طوافه، من النجاسات.(58/134)
ولن أخوض في تحديد أعيان النجاسات، ومقدار المؤثر منها، فإن ذلك يطول، ويخرجنا عما نحن بصدده (1) .
والذي يهمنا من ذلك معرفة آراء العلماء في صحة الطواف بالنجاسة - غير المعفو عنها - سواء كانت في بدن الطائف، أم في ثوبه، أم في مكان طوافه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الطهارة من النجس، شرط لصحة الطواف.
فمن طاف وعليه نجاسة في بدنه أو ثوبه، أو كان في مكان طوافه،
__________
(1) لأن بحث تلك المسائل متعلق بكتاب الطهارة.(58/135)
وهو عالم بها، قادر على إزالتها، فطوافه لا يعتد به.
وإلى هذا ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وحكاه الماوردي عن جمهور العلماء.(58/136)
القول الثاني: أن الطهارة من النجاسة سنة مؤكدة، فلو طاف وعليه نجاسة كان مسيئا، ولا يلزمه شيء. وهذا هو المشهور عند الحنفية.
القول الثالث: أن الطهارة من النجاسة واجبة وليست شرطا لصحة الطواف، فمتى طاف متنجسا فعليه الإعادة ما دام في مكة، فإن تعذرت عليه الإعادة لرحيله عن مكة، جبره بالدم.
وإلى هذا ذهب: بعض الحنفية. وهو وجه للحنابلة.(58/137)
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وجه الاستدلال منها:
أن الله - جل وعلا - أمر بالطواف مجملا، فلم يبين صفته، ولا ما يشترط لصحته، فكان بيان ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، وقد طاف عليه الصلاة والسلام متطهرا من الأحداث، طاهرا من الأنجاس والأخباث؛ فدل ذلك على اشتراط الطهارة من النجس في الطواف. ويزيد ذلك تأكيدا أمره صلى الله عليه وسلم في قوله: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » .
الثاني: وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة (3) » . . . الحديث.
وجه الاستدلال منه:
أن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت بالصلاة دليل على أنه يشترط للطواف ما يشترط للصلاة - إلا ما ورد الدليل باستثنائه - ومن ذلك اشتراط الطهارة من النجاسات.
الثالث: وقالوا: إنه عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت له الطهارة من النجس.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) .
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(3) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(4) سورة الحج الآية 29(58/138)
وجه الاستدلال منها:
أن الله - جل وعلا - أمر بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة من النجس، ولم يأت من السنة ما يأمر بالطهارة منها، أو ينهى عن الطواف بها؛ فدل ذلك على عدم وجوبها، فضلا على عدم اشتراطها.
الثاني: وقالوا: إن المنع من الطواف مع الثوب النجس ليس لأجل الطواف، بل لأجل المسجد، وهو صيانته عن إدخال النجاسة فيه، وصيانة عن تلويثه، فلا يوجب ذلك نقصانا في الطواف، فلا حاجة إلى الجبر (1) .
3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
الأول: بالآية. ووجه الاستدلال منها:
نحو استدلال القول الثاني وهو: أن الآية أمرت بالطواف ولم تقيده بوصف؛ فدل ذلك على عدم اشتراط الطهارة له.
الثاني: ولعلهم يستدلون بحديث «الصلاة بالبيت طواف» . . الحديث.
وجه الاستدلال منه:
أن تشبيه الطواف بالصلاة دليل على أنه يجب له ما يجب لها من طهارة النجس.
الثالث: وقالوا: إنه عبادة لا يشترط فيها الاستقبال فلم يشترط فيه الطهارة من النجس كالسعي، وإذا لم يكن شرطا فهو
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 129.(58/139)
واجب (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن الطهارة من النجس شرط لصحة الطواف، فمن طاف وعليه نجاسة في بدنه، أو ثوبه، أو المكان الذي يطؤه في طوافه، وهو عالم بها، قادر على إزالتها، فطوافه غير صحيح، ولا يعتد به. وذلك لما يلي:
1 - استدلالهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بيان لمجمل الكتاب، والفعل إن كان بيانا للواجب كان ذلك دليلا على وجوبه؛ لأن المبين تبع للمبين وجوبا وندبا.
2 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » دليل على وجوب أفعاله في هذه العبادة، إلا ما دلت الأدلة على استثنائه، ومن ذلك وجوب الطهارة من النجس.
3 - تشبيهه صلى الله عليه وسلم الطواف بالصلاة دليل على أنه يشترط له ما يشترط للصلاة، إلا ما دل الدليل على استثنائه، ومن ذلك اشتراط الطهارة من النجس.
__________
(1) انظر: المبدع 3 \ 221.
(2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .(58/140)
المطلب الرابع: ستر العورة:
المراد بستر العورة: ستر عورة كل من الذكر والأنثى، سترا تصح به صلاة كل منهما. فليس المراد بالعورة هنا: " العورة المغلظة، ولا ما يجب ستره عن الأجانب، بل ما يجب ستره في الصلاة.
ولن أتطرق في هذا المطلب إلى بيان عورة كل من الرجل(58/140)
والمرأة، والحرة والأمة، وما يجب ستره في الطواف، فإن ذلك يخرجنا عما نحن بصدده.
والذي يهمنا من دراسة هذا المطلب معرفة آراء العلماء في اشتراط ستر العورة لصحة الطواف، وحكم من طاف كاشفا لعورته مع علمه بذلك، وقدرته على سترها.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن ستر العورة في الطواف شرط لصحته، فلو طاف كاشفا عورته، فطوافه غير صحيح ولا يعتد به.
وإلى هذا ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه.(58/141)
القول الثاني: أن ستر العورة واجب من واجبات الطواف، وليس شرطا لصحته، فلو طاف منكشف العورة، وجب عليه إعادة(58/142)
الطواف، فإن تعذر عليه ذلك لبعده عن مكة، وجب عليه جبره بالدم. وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ووجه للحنابلة.
الأدلة:
- استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (1) .
وجه الاستدلال منها:
أن سبب نزول الآية أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 31(58/143)
فأمر الناس بأخذ زينتهم، أي ستر عوراتهم؛ فدل ذلك على وجوب ستر العورة أثناء الطواف، وأنه شرط لصحته.
القول الثاني: وبقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) ، مع فعله صلى الله عليه وسلم وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » . وقد تقدم بيان وجه استدلالهم منها في المسألة السابقة.
الثالث: وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع، يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (3) » متفق عليه.
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(3) صحيح البخاري الحج (1622) ، صحيح مسلم الحج (1347) ، سنن النسائي مناسك الحج (2958) ، سنن أبو داود المناسك (1946) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1430) .(58/144)
زاد البخاري في رواية: «ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (1) » .
وجه الاستدلال منه:
نهي العريان من الطواف دليل على عدم صحة طوافه؛ لأن النهي يقتضي الفساد، ودليل على وجوب ستر العورة، وأنها شرط لصحة الطواف.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بالإطلاق في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وقد تقدم وجه استدلالهم منها في المسألة السابقة.
الثاني: وبحديث أبي هريرة - المتقدم - ووجه استدلالهم منه:
قالوا: إن النهي عن الطواف بالبيت عريانا، دليل على وجوب ستر العورة، وهذا لا يقتضي اشتراطه لصحة الطواف؛ لأن الدليل المقتضي له خبر آحاد، والقول بالاشتراط مفض إلى تقييد إطلاق الكتاب (3) .
الثالث: وقالوا: إن الطواف ركن الحج، فلم يكن ستر العورة
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب ما يستر العورة (10) 1 \ 96، وفي الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان (67) 2 \ 164، ومسلم في الحج، باب لا يحج البيت مشرك 9 \ 115.
(2) سورة الحج الآية 29
(3) انظر: شرح فتح القدير 3 \ 51.(58/145)
شرطا فيه كالوقوف بعرفة (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو: أن ستر العورة شرط لصحة الطواف، وأن من طاف كاشفا عورته، وهو عالم بذلك، قادر على سترها، فطوافه غير صحيح، ولا يعتد به.
وذلك لما يلي:
أ - أسباب الترجيح في المسألة السابقة هي أسباب الترجيح في هذه المسألة.
2 - الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، أمر بستر العورة في الطواف؛ لأنه لا يكون إلا في المسجد، ولأنه سبب نزول الآية، كما صح به الخبر.
3 - النهي عن طواف العريان، دليل على اشتراط ستر العورة أثناء الطواف؛ لأن النهي يقتضي الفساد، والله أعلم.
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 223(58/146)
المطلب الخامس: الموالاة بين الأشواط:
لا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت أتمه دون أن يفصل بين أشواطه، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه: «. . حتى أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا (1) » . . الحديث.
فهل يشترط في الطواف الموالاة بين الأشواط وعدم
__________
(1) تقدم تخريجه.(58/146)
الفصل بينها؟
وهل لمن شرع في الطواف ثم أقيمت الصلاة، أن يقطع طوافه أم يجب عليه أن يتمه؟ وإذا قطعه هل يتمه أم يستأنفه؟
وهل لمن احتاج لقطع الطواف لقضاء حاجته، أو انتقاض وضوئه أن يبني على طوافه، أم يستأنفه؟
وإذا بنى على ما مضى فمن أين يكون البناء؟ وهل يشترط لمن قطع طوافه ألا يطول الفصل بين أشواطه، أم له أن يبني على طوافه ولو مضى لذلك أيام؟
هذه ونحوها من التساؤلات الدائرة حول الموالاة واشتراطها في الطواف ما سأتناوله في الفروع التالية:
الفرع الأول: حكم الموالاة بين الأشواط.
الفرع الثاني: الأمور التي يجوز قطع الطواف لها.
الفرع الثالث: موضع البدء لمن أراد البناء.
الفرع الأول: حكم الموالاة بين الأشواط:
لا خلاف بين العلماء أن القعود اليسير أثناء الطواف للاستراحة لا يضر. وإنما اختلفوا إذا كان القطع لغير ذلك هل(58/147)
يكون مخلا بصحة الطواف أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن الموالاة واجبة وشرط لصحة الطواف فمن تركها، لم يصح طوافه، وابتدأ من جديد، إلا إن كان القطع يسيرا (1) . لحاجة.
وإلى هذا ذهب مالك، وأحمد، والشافعي في القديم.
__________
(1) ضابط طول الفصل وقصره إلى العرف من غير تحديد. انظر: المغني 5 \ 248، المبدع 3 \ 222.(58/148)
إلا أن المالكية يرون أن عليه الإعادة ما دام في مكة، فإن تعذرت عليه الإعادة لبعده لم يلزمه الرجوع، وعليه دم.
القول الثاني: أن الموالاة سنة. فلو قطع الطواف لغير عذر، جاز البناء مع الكراهة.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، والشافعي في الجديد، وهو الصحيح من المذهب، ورواية عن أحمد.
الأدلة:
أ - استدل أصحاب القول الأول:
الأول: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يوالي بين طوافه. وقال صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .(58/149)
وجه الاستدلال منه:
أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل القرآن الكريم، إذ أمر الله بالطواف ولم يوجب ترتيبا ولا موالاة ولا عددا. فكان البيان لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ طاف عليه الصلاة والسلام مواليا بين طوافه، وأمر بالاقتداء بفعله؛ فدل ذلك على وجوب الموالاة، وأنها شرط لصحة الطواف.
الثاني: وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة (1) » .
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطواف بالبيت صلاة، دليل على أنه يشترط له ما يشترط في الصلاة إلا ما استثناه الدليل، فدل ذلك على اشتراط الموالاة فيه كالصلاة.
الثالث: وبما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء والحسن أنهما سئلا عن رجل طاف ستا؟ فقالا: يطوف طوافا آخر (2) .
قالوا: فدل ذلك على وجوب الموالاة، إذ لو كان القطع لا يؤثر في صحة الطواف لأمراه بإكمال ما مضى.
الرابع: وقالوا: إنه عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة (3) .
الخامس: وقالوا: إنه عبادة من شرط صحتها الطهارة،
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(2) المصنف لابن أبي شيبة 4 \ 104
(3) انظر: المغني 5 \ 248(58/150)
فاشترطت لها الموالاة كالصلاة (1) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف ولم يشترط له الموالاة؛ فدل ذلك على صحته مع القطع ولو كان كثيرا (3) .
الثاني وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الطواف، ودخل السقاية فاستسقى فسقى فشرب، ثم عاد وبنى على طوافه.
الثالث: بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه خرج لجنازة، ثم عاد فبنى على الطواف (4) .
الرابع: وقالوا: إن الطواف يخالف الصلاة في كثير من
__________
(1) انظر: الحاوي4 \ 148، المنتقى للباجي 2 \ 290.
(2) سورة الحج الآية 29
(3) بدائع الصنائع 2 \ 130.
(4) أشار إليه السرخسي في المبسوط 4 \ 48.(58/151)
الأحكام، فلا يشترط له الموالاة كالصلاة (1) .
الخامس: وقالوا: إنه عبادة تصح مع التفريق اليسير، فوجب أن يصح مع التفريق الكثير كسائر أفعال الحج (2) .
السادس: وبما روي أن الحسن غشي عليه، فحمل إلى أهله، فلما أفاق أتمه.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو: أن الموالاة واجبة وشرط لصحة الطواف، فمن تركها لم يصح طوافه، وعليه أن يستأنفه، إلا إذا كان القطع يسيرا لحاجة. وذلك لما يلي:
1 - أن الله أمر بالطواف، وأطلقه عن كل شرط، فكان بيان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالاقتداء به في أفعال المناسك، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين طوافه؛ فدل ذلك على وجوب الموالاة، واشتراطها لصحة الطواف.
2 - أن التفريق بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم واعتبار بعضها واجبات وشرائط، والأخرى سننا ومستحبات، دون دليل معتبر، يعد تحكما محضا، كاشتراط العدد، والترتيب،. . إلخ، وعدم اشتراط الموالاة، والكل فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أشار إليه السرخسي في المبسوط 4 \ 48.
(2) انظر: الحاوي 4 \ 148. وقال: '' كسائر أفعال الحج طردا، والصلاة عكسا ''.(58/152)
3 - إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطواف صلاة، دليل على أنه يشترط في الطواف ما يشترط في الصلاة، إلا ما استثناه الدليل، وليس هناك ما يقتضي استثناء اشتراط الموالاة.
4 - ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان من قطع الطواف، ينبغي ألا يتوسع فيه، بل يقيد ذلك بالحاجة، وألا يطول القطع.
5 - الأولى بمن يطوف طوافا واجبا أن يحتاط لطوافه، فلا يشرع فيه إذا غلب على ظنه أنه لا يتمه. والله أعلم.(58/153)
الفرع الثاني: الأمور التي يجوز قطع الطواف لها:
اختلف العلماء الذين اشترطوا الموالاة في الطواف، ومنعوا قطعه إلا لحاجة، ما هي الأمور التي يجوز قطع الطواف لها؟
وسأتناول ذلك في مسألتين:
المسألة الأولى: قطع الطواف للصلاة.
المسألة الثانية: قطع الطواف لتجديد الطهارة.
مسألة: قطع الطواف للصلاة: (1) .
اتفق العلماء على جواز قطع الطواف لصلاة الفريضة إذا أقيمت الصلاة، وأن هذا القطع لا يخل بشرط الموالاة عند من
__________
(1) الأولى بالشخص ألا يشرع في الطواف إذا خاف أن تقام الصلاة وهو في أثنائه.(58/153)
يشترطه، إلا ما روي عن الحسن البصري - رحمه الله- أنه قال: يستأنف، ولا يبني على ما مضى.
قال الموفق: (وقول الجمهور أولى، لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف، فلم يقطعه، كاليسير) .(58/154)
واختلفوا في قطعه لغير المكتوبة؛ كصلاة الجنازة إذا حضرت على قولين:
القول الأول: أن له أن يقطع الطواف لصلاة الجنازة إذا حضرت، ويبني على طوافه.
وإلى هذا ذهب: أحمد، وأشهب من المالكية. .
القول الثاني: لا يجوز قطع الطواف إلا لصلاة الفريضة، فلو قطعها لجنازة ونحوها، استأنف.
وإلى هذا ذهب مالك.
الأدلة:
ا- استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: أن الطواف عبادة لا يفسدها التفريق اليسير مع(58/155)
الذكر، فلا يفسدها التفريق لصلاة جنازة، كالتفريق للاستراحة ونحو ذلك مما هو يسير (1) .
الثاني: أن صلاة الجنازة تفوت بالتشاغل عنها، فشرع قطع الطواف لها كإدراك الجماعة مع الإمام.
الثالث: وأخرج سعيد بن منصور عن عطاء أنه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه، ثم تحضر الجنازة: (يخرج فيصلي عليها، ثم يرجع فيقضي ما بقي عليه من طوافه) (2) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
قالوا: إنه قطع الطواف لفعل لم يتعين عليه وجوبه، فامتنع عليه بناؤه (3) .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو: أن الأولى بالطائف ألا يقطع طوافه لشيء إذا كان الطواف واجبا. وذلك احتياطا لصحة طوافه، وخروجا من الخلاف، أما إن قطعه لصلاة جنازة، فلا يلزمه استئنافه؛ وذلك لما يلي:
1 - أن القطع لصلاة الجنازة ليس طويلا، فيعفى عنه كالتفريق اليسير للاستراحة ونحوها.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل 3 \ 75، 76
(2) أورده الحافظ في الفتح 3 \ 484، والطبري في القرى ص 268.
(3) انظر: مواهب الجليل 3 \ 76. بلغة السالك 2 \ 249.(58/156)
2 - أن هذا القطع لصلاة تفوت بالتشاغل عنها، فلا بأس بقطع الطواف لها كإدراك الجماعة مع الإمام. والله أعلم.(58/157)
مسألة: قطع الطواف لتجديد الطهارة:
اختلف العلماء الذين اشترطوا الموالاة، فيمن احتاج لقطع طوافه، إما لانقطاع طهارته، وغلبة الحدث له، وإما لحاجته إلى إزالة الأذى عنه، فهل يعد ذلك مانعا من الموالاة؟ وهل يلزم من انتقضت طهارته استئناف الطواف؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا أحدث عمدا فإنه يبتدئ الطواف، لأنه أبطله بنقض طهارته، وكذا إن سبقه الحدث. وبهذا قال الحسن، ومالك، وأحمد في إحدى الراويتين، وهي الأصح. .(58/157)
القول الثاني: إن سبقه الحدث فإنه يتوضأ ويبني، أما إن أحدث عمدا فإنه يبطل طوافه، ويستأنفه من جديد.
وبهذا قال الشافعي في القديم، وأحمد في الرواية الثانية (1) . .
القول الثالث: إن أحدث عمدا، وقرب الفصل بنى وإن طال استأنف. وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم، ورواية عن مالك.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه والى بين الأشواط وقال:
__________
(1) انظر: المغني5 \ 249، المبدع3 \ 222، المجموع 8 \ 48، مغني المحتاج1 \ 485(58/158)
«لتأخذوا عني مناسككم (1) » . فدل ذلك على أن الموالاة شرط فيه، فمتى قطعه بفصل طويل ابتدأه، سواء كان عمدا أو سهوا (2) .
الثاني: قالوا: إن الطهارة شرط لصحة الطواف، فإذا أحدث، أو سبقه الحدث، بطل طوافه كالصلاة (3) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني، القائلون بالتفريق بين من سبقه الحدث والمتعمد له بما يلي:
- قالوا: إن الموالاة تسقط عند العذر، كمن جلس ليستريح، أو للصلاة المقامة، فمن سبقه الحدث فهو معذور بقطع الطواف لتجديد الطهارة، ويجوز له البناء (4) .
3 - واستدل أصحاب القول الثالث، القائلون بجواز البناء إذا لم يطل الفصل بما يلي:
الأول: بما روي عن عطاء وإبراهيم، قالا فيمن رعف وهو يطوف بالبيت: يخرج فيتوضأ، قال إبراهيم: يبني على طوافه من المكان الذي قطع منه. وقال عطاء: إن فعل ذلك أجزأه، وأحب أن يستقبل ذلك من الحجر (5) .
الثاني: قالوا: إن الطواف عبادة يجوز فيها التفريق اليسير،
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(2) انظر: المبدع 3 \ 222
(3) انظر: المغني5 \ 249، المبدع 3 \ 222.
(4) انظر: المغني 5 \ 249، ويشترطون لهذا البناء ألا يشتغل بغير الوضوء، فإن اشتغل به لزمه الابتداء.
(5) أخرجه سعيد بن منصور. وأورده الطبري في القرى ص 268.(58/159)
فجاز فيها البناء لتجديد الطهارة إن لم يطل الفصل.
أو يقال: إن التفريق اليسير لتجديد الطهارة لا يخل بالموالاة كالتفريق للصلاة أو للاستراحة.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن من انتقضت طهارته، فقد بطل طوافه، فعليه أن يستأنفه ولو لم يطل الفصل. وذلك لما يلي:
أ- أن الطهارة شرط لصحة الطواف، فمن انتقضت طهارته بطل طوافه، سواء تعمد ذلك أم سبقه الحدث.
2 - أن سبق الحدث ليس عذرا لجواز البناء، بل يكون عذرا في عدم التأثيم، كالحدث في الصلاة لا يختلف المتعمد ومن سبقه الحدث في بطلان الصلاة. وإنما الاختلاف في تأثيم المتعمد لذلك في الصلاة.
3 - أن القول بوجوب الابتداء لانتقاض الطهارة ليس بسبب طول(58/160)
الفصل أو قصره، وإنما لبطلان الطواف باختلال شرطه.
4 - يشهد لذلك ما أخرجه سعيد بن منصور عن الحسن، أنه كان يقول فيمن قطع الطواف لأجل الرعاف: (يستقبل طوافه، ولا يعتد بما فعل) (1) ، والله أعلم.
__________
(1) أورده الطبري في القرى ص 268.(58/161)
الفرع الثالث: موضع البدء لمن أراد البناء:
يستحب لمن أراد قطع الطواف قبل إتمامه، أن يكمل الشوط بأن يقطعه عند الحجر الأسود، ليبتدئ بعد ذلك منه.
أما إن قطعه من موضع آخر، فقد اختلف العلماء من أين يبني على طوافه؟ على قولين:
القول الأول: أنه يبني من حيث انتهى، أي: يبتدئ من الموضع الذي قطع منه طوافه.
وإلى هذا ذهب: مالك والشافعية في الأصح من الوجهين.
القول الثاني: أنه يبدأ الطواف من الحجر الأسود، ولا يعد ذلك الشوط الذي لم يتمه.(58/161)
إلى هذا ذهب أحمد، وهو وجه للشافعية، واستحبه ابن حبيب من المالكية.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول، القائلون بأنه يبني من حيث انتهى:
الأول: بما أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا حيث قال: (وقال عطاء: فيمن يطوف فتقام الصلاة أو يدفع عن مكانه: إذا سلم يرجع إلى حيثما قطع عليه. ويذكر نحوه عن ابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم) (1) .
الثاني: وبما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت عن ابن المسيب أنه قال: إن قطعت الصلاة بك سبعك فأتمه من حيث قطعت. وأخرج نحوه أيضا عن طاوس (2) .
الثالث: وقالوا: إن من جلس ليستريح فإنه يبني على ما مضى، لما روى عبد الرزاق: أن ابن عمر طاف في يوم حار ثلاثة أطواف، ثم قعد في الحجر فاستراح، ثم قام فأتم على ما مضى (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب إذا وقف في الطواف 2 \ 164.
(2) المصنف لعبد الرزاق 5 \ 54، 55 (8974، 8978)
(3) المصنف لعبد الرزاق 5 \ 56 (8980)(58/162)
الرابع: وعن ابن عمر أنه كان يطوف بالبيت، فأقيمت الصلاة فصلى مع قوم، ثم قام فبنى على ما مضى من طوافه. أخرجه سعيد بن منصور (1) .
فهذه الآثار تدل على أن من قطع الطواف بنى على ما مضى من المكان الذي قطع منه، ولا يشترط أن يكون ذلك من الحجر الأسود.
الخامس: وقالوا: إنه لما استوى حكم التفريق اليسير في الطوفة الواحدة والأطواف، وجب أن يستوي حكم التفريق الكثير في الطوفة الواحدة والأطواف (2) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني، القائلون بأنه يبني من الحجر الأسود، بما يلي:
- قالوا: إن التفريق بين أعداد الأطواف جائز، لأن لكل طوفة حكم نفسها، وليس كذلك الطوفة الواحدة، لا يستوي حكم جمعها، فجاز أن يبني على أعدادها، ولم يجز أن يبني على أبعاض آحادها (3) .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو: أن من قطع طوافه لحاجة، فإنه يبتدئ من
__________
(1) أورده الطبري في القرى ص 268. وانظر ففيه الإشارة إلى آثار أخرى عن عطاء، وإبراهيم، ومجاهد.
(2) انظر: الحاوي 4 \ 148.
(3) انظر: الحاوي 4 \ 148.(58/163)
الحجر الأسود احتياطا، إلا أن يشق ذلك لزحام ونحوه فإنه يكتفي بالبناء من حيث انتهى؛ لأن الواجب الطواف سبعة أشواط، ولا موجب لإلغاء بعض الشوط إذا كان القطع مأذونا فيه، والله أعلم.(58/164)
المطلب السادس: المشي مع القدرة:
لا خلاف بين العلماء أن المشي في الطواف مع القدرة عليه هو الأفضل والأولى (1) ؛ لأن هذا هو الغالب من حال النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في عمره أم في حجه. فإن الثابت أنه طاف للقدوم ماشيا كما في حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء فيه: «. . . حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا. . . (2) » الحديث رواه مسلم.
ولا خلاف بينهم أن العاجز عن المشي، أو المحتاج للركوب بسبب مرض أو نحوه، أن له أن يطوف راكبا أو محمولا ولا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة راكبا على بعيره، (3) لما روى ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على
__________
(1) نقل الماوردي الإجماع على ذلك. انظر الحاوي 4 \ 151، المجموع 8 \ 27.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 174.
(3) انظر: زاد المعاد 2 \ 279، المبسوط 4 \ 45.(58/164)
بعير، يستلم الركن بمحجن (1) » متفق عليه.
وكان ركوبه- عليه الصلاة والسلام- بسبب غشيان الناس له، وازدحامهم عليه، ولم يكن يتخذ حرسا يمنعون الناس، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره، يستلم الركن؛ كراهية أن يضرب عنه الناس (2) » .
وعن جابر رضي الله عنه قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبالصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإن الناس غشوه (3) »
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب (4) » . . . الحديث.
كما أمر بذلك أم سلمة- رضي الله عنها- إذ كانت مريضة.
فعنها أنها قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال:
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب استلام الركن بالمحجن (58) 2 \ 162، ومسلم في الحج، باب جواز الطواف على بعير 9 \ 18.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب جواز الطواف على بعير 9 \ 19.
(3) غشوه: أي ازدحموا عليه وكثروا. انظر: النهاية لابن الأثير 3 \ 369، شرح مسلم للنووي 9 \ 19.
(4) أخرجه مسلم، باب استحباب الرمل في الطواف 9 \ 11.(58/165)
طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة (1) » . . . متفق عليه.
واختلفوا في غير العاجز والمحتاج، هل له أن يطوف راكبا أو محمولا، أم لا؟ وهل يشترط في طواف المحمول ألا ينوي حامله الطواف عن نفسه، أم لا؟
هذا ما سأتناوله في الفرعين التاليين وهما:
الفرع الأول: حكم المشي في الطواف.
الفرع الثاني: شرط طواف المحمول.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب إدخال البعير في المسجد للعلة (78) 1 \ 119، وفي الحج باب طواف النساء. . . (64) 2 \ 164، وباب المريض يطوف راكبا (74) 2 \ 166، وفي التفسير سورة الطور (52) 6 \ 49، ومسلم في الحج، باب جواز الطواف على بعير 9 \ 20.(58/166)
الفرع الأول: حكم المشي في الطواف:
اختلف العلماء- رحمهم الله- في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المشي- مع القدرة عليه- شرط لصحة الطواف، فمن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر، فطوافه غير صحيح، ولا يعتد به.
وإلى هذا ذهب أحمد في المشهور، ورواية لمالك.(58/166)
القول الثاني: أن المشي- مع القدرة عليه- واجب، وليس شرطا لصحة الطواف، فمن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر، فعليه الإعادة ما دام بمكة، فإن تعذرت عليه الإعادة جبره بدم.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ومالك في المشهور، وأحمد في رواية(58/167)
القول الثالث: أن ذلك سنة، وليس بواجب، فلو طاف راكبا أو محمولا لغير عذر أجزأه ولا شيء عليه.
وإلى هذا ذهب: الشافعي، ومالك في رواية، وأحمد في رواية، وداود، وابن المنذر.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بفعله صلى الله عليه وسلم في سائر عمره، وفي طوافه الأول للحج، وأنه بيان لمجمل الكتاب، فدل ذلك على وجوبه، ولم يتركه- عليه الصلاة والسلام- إلا للعذر.(58/168)
الثاني: وبحديث: «الطواف بالبيت صلاة (1) » . . . .
وجه الاستدلال منه:
تقدم مرارا، وذلك أن مقتضى تشبيه الطواف بالصلاة أن
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(58/169)
يشترط له ما يشترط لها، والصلاة لا يجوز فعلها راكبا لغير عذر، فكذلك الطواف (1) .
الثالث: وقالوا: إنها عبادة متعلقة بالبيت، فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة (2) .
الرابع: وقالوا: إن المشي هو نفس الطواف، فإذا أخل به مع القدرة عليه، لم يأت به.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بالآية. واستدلوا بها من وجهين:
(أحدهما) أن الآية مطلقة لم تقيد الطواف بالمشي، ومداومته- عليه الصلاة والسلام- على المشي دليل الوجوب، إن تركه لغير عذر فعليه دم.
(الثاني) أن الراكب ليس بطائف حقيقة، بل الطائف حقيقة مركوبه، وهو في حكمه، فأوجب ذلك نقصا في الطواف، فوجب جبره بالدم (3) .
وقالوا: إن المشي شرط كمال في الطواف، فتركه من غير
__________
(1) انظر: الروايتين والوجهين 1 \ 283، شرح الزركشي 3 \ 219.
(2) انظر: المغني 5 \ 250، المجموع 8 \ 27.
(3) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 2 \ 130، شرح فتح القدير 3 \ 58.(58/170)
عذر يوجب الدم (1) .
الثاني: وقالوا: إن ترك المشي في الطواف، تركه لصفة واجبة في ركن الحج، فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل غروب الشمس (2) .
الثالث: وقالوا: إن طوافه- عليه الصلاة والسلام- كان لعذر، وكذا إذنه لأم سلمة بأن تطوف راكبة، لكونها شاكية، فمن ترك المشي لعذر فلا بأس به ولاشيء عليه؛ لأنه لم يترك الواجب؛ إذ لا وجوب مع العجز، ومن تركه لغير عذر فعليه دم؛ لإخلاله بما وجب عليه (3) .
3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
الأول: بالآية. ووجه استدلالهم منها:
أن الله أمر بالطواف مطلقا ولم يقيده بالمشي، فكيفما أتى به أجزأه، ولا يجوز التقييد إلا بدليل (4) .
الثاني: وبفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف راكبا، ولم يكن يشتكي مرضا، وأرشد أم سلمة إلى أن تطوف راكبة.
__________
(1) انظر المبسوط 4 \ 45.
(2) انظر المغني 5 \ 250.
(3) انظر بدائع الصنائع 2 \ 128، شرح القدير 3 \ 58.
(4) انظر المغني 5 \ 250.(58/171)
فدل ذلك على أن المشي ليس بواجب، وأنه كهيئة الرمل.
الثالث: وقالوا: إنه ركن من أركان الحج، فصح فعله راكبا، كالوقوف بعرفة والسعي (1) .
الرابع: وقالوا: إنه طاف راكبا فوجب ألا يلزمه دم لجبرانه كالمريض.
__________
(1) انظر: الروايتين والوجهين 1 \ 283، الحاوي 4 \ 152.(58/172)
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو: أن المشي في الطواف مع القدرة عليه شرط لصحته، وأن من طاف راكبا أو محمولا لغير عذر فطوافه غير صحيح ولا يعتد به. وذلك لما يلي:
1 - أن الله أمر عباده بالطواف ببيته العتيق، فدل ذلك على وجوب مباشرتهم له، والراكب والمحمول لم يباشر الطواف حقيقة.
2 - أن الطواف عبادة بدنية فينبغي أن يباشرها المرء بنفسه، وفعل الراكب والمحمول إنما هو للمركوب والحامل.
3 - أن الله- جل وعلا- أمر بالطواف مجملا، لم يبين صفته ولا شروطه، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم وقد طاف ماشيا، ولم يتركه إلا من عذر.
4 - أن النبي شبه الطواف بالصلاة، فدل ذلك على أنه يشترط له ما يشترط لها- إلا ما دل الدليل على استثنائه- وصلاة الفريضة للراكب لا تصح من غير عذر، فكذلك الطواف.
5 - أن طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا، وكذلك أم سلمة - رضي الله عنها - إنما كان لعذر، سواء كان مرضا أم غيره، فلا يقاس عليه غيره، والله أعلم.(58/173)
الفرع الثاني: شرط طواف المحمول:
سبقت الإشارة في الفرع الأول إلى أنه يجوز للعاجز عن المشي أن يطوف راكبا أو محمولا، وإلى اشتراط بعض العلماء المشي للقادر عليه. وحديثنا في هذا الفرع عن طواف المحمول، هل يشترط ألا ينوي حامله الطواف لنفسه، أم يجوز أن يكون الطواف للحامل(58/173)
والمحمول في آن واحد.
وهذه الصورة كثيرة الوقوع، خاصة في طواف الآباء بأبنائهم الصغار، فهل يصح أن ينوي الأب مثلا الطواف عن نفسه وعن الطفل الذي يحمله أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: يصح الطواف عن الحامل والمحمول جميعا إذا(58/174)
نوياه، بأن ينوي الحامل عن نفسه، والمحمول عن نفسه إن كان كبيرا، أو نواه الحامل عن نفسه وعن طفله المحمول.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ومالك في رواية، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، والثوري، وابن المنذر.
القول الثاني: إن نوى الطواف كل من الحامل والمحمول عن نفسيهما. فالطواف طواف الحامل.
وإلى هذا ذهب: الشافعي في الأصح، ومالك في رواية، وأحمد في رواية.
القول الثالث: إن نوياه عن نفسيهما، فالطواف للمحمول دون الحامل.
وإلى هذا ذهب: مالك في رواية، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهي الصحيحة من المذهب.(58/175)
القول الرابع: أنه لا يجزئ عن واحد منهما.
وإلى هذا ذهب: مالك في الرواية المشهورة، وأحمد في رواية.
الأدلة:
1 - حجة أصحاب القول الأول:
الأول: قالوا: إن الغرض حصول الطواف بالبيت، وقد حصل من كل من الحامل والمحمول، فأجزأ عنهما، كالوقوف بعرفة.(58/176)
الثاني: وبما أخرجه عبد الرزاق بسنده: أن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة (1) .
2 - وحجة أصحاب القول الثاني:
قالوا: إن الفعل الواحد لا يصح عن اثنين، فكان الطواف للحامل؛ لأنه هو الأصل المباشر للطواف والمحمول تبع (2) .
3 - وحجة أصحاب القول الثالث:
- قالوا: إن الطواف عبادة أدى بها فرض غيره، فلم يقع عن فرضه كالصلاة.
- وقالوا: إن الحامل آله للمحمول، كالراكب مع الدابة، فكان الطواف للمحمول.
- وقالوا: إن المحمول لم ينو بطوافه إلا لنفسه، والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه (3) .
__________
(1) المصنف 5 \ 70 (9026) ، ورواه الأثرم كما في المغني 5 \ 52.
(2) انظر: الحاوي 4 \ 152.
(3) انظر: المبدع 3 \ 219، كشاف القناع 2 \ 560.(58/177)
- وحجة أصحاب القول الرابع:
قالوا: إن الفعل الواحد لا يقع عن اثنين، وقد وقع الطواف منهما جميعا، ولا أولوية لأحدهما عن الآخر، فلم يجزئ عنهما جميعا (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن الحامل والمحمول إذا نوى ك مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد الثامن والخمسون - الإصدار: من رجب إلى شوال لسنة 1420هـ > البحوث > واجبات الطواف > المطلب السادس المشي مع القدرة > الفرع الثاني شرط طواف المحمول
الفرع الثاني: شرط طواف المحمول:
سبقت الإشارة في الفرع الأول إلى أنه يجوز للعاجز عن المشي أن يطوف راكبا أو محمولا، وإلى اشتراط بعض العلماء المشي للقادر عليه. وحديثنا في هذا الفرع عن طواف المحمول، هل يشترط ألا ينوي حامله الطواف لنفسه، أم يجوز أن يكون الطواف للحامل
__________
(1) انظر: المبدع 3 \ 220(58/178)
والمحمول في آن واحد.
وهذه الصورة كثيرة الوقوع، خاصة في طواف الآباء بأبنائهم الصغار، فهل يصح أن ينوي الأب مثلا الطواف عن نفسه وعن الطفل الذي يحمله أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: يصح الطواف عن الحامل والمحمول جميعا إذا(58/174)
نوياه، بأن ينوي الحامل عن نفسه، والمحمول عن نفسه إن كان كبيرا، أو نواه الحامل عن نفسه وعن طفله المحمول.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ومالك في رواية، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، والثوري، وابن المنذر.
القول الثاني: إن نوى الطواف كل من الحامل والمحمول عن نفسيهما. فالطواف طواف الحامل.
وإلى هذا ذهب: الشافعي في الأصح، ومالك في رواية، وأحمد في رواية.
القول الثالث: إن نوياه عن نفسيهما، فالطواف للمحمول دون الحامل.
وإلى هذا ذهب: مالك في رواية، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهي الصحيحة من المذهب.(58/175)
القول الرابع: أنه لا يجزئ عن واحد منهما.
وإلى هذا ذهب: مالك في الرواية المشهورة، وأحمد في رواية.
الأدلة:
1 - حجة أصحاب القول الأول:
الأول: قالوا: إن الغرض حصول الطواف بالبيت، وقد حصل من كل من الحامل والمحمول، فأجزأ عنهما، كالوقوف بعرفة.(58/176)
الثاني: وبما أخرجه عبد الرزاق بسنده: أن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة (1) .
2 - وحجة أصحاب القول الثاني:
قالوا: إن الفعل الواحد لا يصح عن اثنين، فكان الطواف للحامل؛ لأنه هو الأصل المباشر للطواف والمحمول تبع (2) .
3 - وحجة أصحاب القول الثالث:
- قالوا: إن الطواف عبادة أدى بها فرض غيره، فلم يقع عن فرضه كالصلاة.
- وقالوا: إن الحامل آله للمحمول، كالراكب مع الدابة، فكان الطواف للمحمول.
- وقالوا: إن المحمول لم ينو بطوافه إلا لنفسه، والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه (3) .
__________
(1) المصنف 5 \ 70 (9026) ، ورواه الأثرم كما في المغني 5 \ 52.
(2) انظر: الحاوي 4 \ 152.
(3) انظر: المبدع 3 \ 219، كشاف القناع 2 \ 560.(58/177)
- وحجة أصحاب القول الرابع:
قالوا: إن الفعل الواحد لا يقع عن اثنين، وقد وقع الطواف منهما جميعا، ولا أولوية لأحدهما عن الآخر، فلم يجزئ عنهما جميعا (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن الحامل والمحمول إذا نوى كل واحد منهما الطواف عن نفسه، وقع عنهما جميعا؛ لما يلي:
ا- أن الطواف وقع منهما جميعا، فصح عنهما، فإبطاله عنهما أو عن أحدهما، يفتقر إلى دليل.
2 - لا خلاف أنه لو قاد الدابة، أو دفع العربة التي يركبها، أن الطواف يصح منهما، مع أن طواف الراكب إنما تم بمعونة القائد أو الدافع.
فلا فرق أن تكون الإعانة بالدفع أو الحمل. والله أعلم.
__________
(1) انظر: المبدع 3 \ 220(58/178)
المطلب السابع: الصلاة عقيبه:
لا خلاف بين العلماء أنه يشرع لمن فرغ من طوافه أن يصلي ركعتين عقيبه، ويستحب أن يركعهما خلف المقام؛ لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (1) . ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الكافرون والإخلاص؛ في الأولى بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثانية بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) ؛ لما روى جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «. . . حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقرأ: فجعل المقام بينه وبين البيت- فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين: و (7) » الحديث.
واختلفوا هل هما واجبتان؟ وهل يصح الطواف بدونهما، أم هما سنتان يستحب فعلهما؟
وهل يشترط فعلهما في مكان معين أم يجوز أداؤهما ولو
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) سورة الكافرون الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي 8 \ 174
(5) سورة البقرة الآية 125 (4) {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(6) سورة الإخلاص الآية 1 (5) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(7) سورة الكافرون الآية 1 (6) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}(58/179)
خارج الحرم؟ وهل يجزئ عنهما غيرهما أم لا؟
هذا ما سأتناوله في هذا المطلب من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: حكم ركعتي الطواف.
الفرع الثاني: مكان أدائهما.
الفرع الثالث: وقت أدائهما.
الفرع الرابع: هل يجزئ عنهما غيرهما أم لا؟(58/180)
الفرع الأول: حكم ركعتي الطواف:
اختلف العلماء في حكم ركعتي الطواف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهما سنتان سنة مؤكدة، غير واجبة، فلو تركهما أساء، وليس عليه شيء لتركهما.
وإلى هذا ذهب: أحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في الأصح، والأحناف في قول.(58/180)
القول الثاني: أنهما واجبتان، وليستا شرطا لصحة الطواف، فإن تركهما عقب الطواف، وجب عليه أداؤهما بعد ذلك، فلا يتقيد أداؤهما بزمان ولا مكان.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، والشافعي في أحد القولين عنه، ورواية عن أحمد.
القول الثالث: أنهما واجبتان، يجب أداؤهما عقيب الطواف بطهره، فإن أخرهما لكراهة الصلاة في ذلك الوقت، فلا بأس بذلك ما لم تنتقض طهارته، فإن انتقضت وكان الطواف واجبا، وجب عليه إعادة الطواف، إلا إن تباعد، فله أن يصليهما وعليه دم.(58/181)
وإلى هذا ذهب: مالك في المشهور.(58/182)
صفحة فارغة(58/183)
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه «أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله على عباده من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع (1) » . متفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (34) 1 \ 16، واللفظ له، وفي الشهادات، باب كيف يستخلف (26) 3 \ 161، ومسلم في الإيمان، باب بيان الصلوات 1 \ 166(58/184)
وجه استدلالهم منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن الصلوات التي افترضها الله على عباده إنما هي الصلوات الخمس، فدل ذلك على أن ما عداها ليس بفرض ولا واجب، وأكد ذلك بقوله: إلا أن تطوع فدل ذلك على أن ما عدا الصلوات الخمس تطوع وليس بواجب.
الثاني: وبحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد (1) » . . الحديث.
وجه الاستدلال منه:
كسابقه، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصلوات التي كتبهن الله على عباده، وافترضهن عليهم إنما هي خمس صلوات، فدل ذلك على أن ما عداهن ليس بفرض، ومن ذلك ركعتا الطواف.
الثالث: وبحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول
__________
(1) أخرجه أحمد 5 \ 315، ومالك في الموطأ في صلاة الليل، باب الأمر بالوتر 1 \ 123، وأبو داود في الصلاة، باب في المحافظة على وقت الصلوات 1 \ 115 (425) ، وباب فيمن لم يوتر 2 \ 62 (1420) ، والنسائي في الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس (6) 1 \ 230 (461) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس (194) 1 \ 449 (1401) ، وابن حبان كما في الموارد ص 86 (252) ، والبيهقي 1 \ 361، 2 \ 8، 467(58/185)
الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من طاف بالبيت وصلى ركعتين، كان كعتق رقبة (1) » .
وجه الاستدلال منه:
قالوا: كون النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الحديث مخرج الفضل، وجعل له ثوابا محدودا، فإنه دليل على أن ركعتي الطواف تطوع؛ لأن الواجب غير محدود الثواب (2) .
الرابع: وقالوا: إنها صلاة لم تشرع لها جماعة، فلم تكن واجبة كسائر النوافل (3) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (4) .
وجه الاستدلال منها:
إن الله جل وعلا أمر بالصلاة عند مقام إبراهيم بعد الفراغ من الطواف، والأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب ركعتي
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المناسك، باب فضل الطواف (32) 2 \ 985 (2956) وأخرجه أحمد 2 \ 95، والحاكم 1 \ 489، وليس فيه موضع الشاهد، وهو قوله: ((وصلى ركعتين)) ، وقال في مجمع الزوائد، 3 \ 241: (وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط) .
(2) انظر: الحاوي 4 \ 153.
(3) انظر: المغني 5 \ 232.
(4) سورة البقرة الآية 125(58/186)
الطواف.
الثاني: وبحديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «. . حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقرأ: فجعل المقام بينه وبين البيت (2) » . . . الحديث.
الثالث: وبحديث ابن عمر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين (3) » . . . الحديث.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 175.
(2) سورة البقرة الآية 125 (1) {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(3) متفق عليه. أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم (63) 2 \ 163، ومسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف 9 \ 7، ونحوه ما أخرجه البخاري عنه أنه قال: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين ثم خرج إلى الصفا)) ، وقد قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ، في الحج من صلى ركعتي الطواف خلف المقام (72) 2 \ 166.(58/187)
وجه الاستدلال منهما من أوجه:
أحدها: أن فعله- عليه الصلاة والسلام- لهما متصل بالطواف دليل على أنهما من الطواف، وفعله بيان لمجمل الكتاب (1) .
الثاني: أنه- عليه الصلاة والسلام- نبه أن ما فعله امتثالا للأمر في الآية، والأمر للوجوب، فدل على وجوبهما (2) .
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب عليهما بعد الطواف، فدل ذلك على وجوبهما (3) .
الرابع: وبما رواه عبد الرزاق عن عطاء مرسلا: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على كل سبع ركعتين (4) » .
الخامس: وبما رواه البخاري عن الزهري تعليقا أنه قال: «لم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبوعا قط إلا صلى ركعتين (5) » .
__________
(1) انظر: الحاوي 4 \ 153.
(2) انظر: المنتقى للباجي 2 \ 288.
(3) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 148.
(4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5 \ 60 (9002) . وانظر: نصب الراية للزيلعي 3 \ 47 فقد أشار إلى آثار أخرى.
(5) أخرجه البخاري في الحج، باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين (69) 2 \ 165.(58/188)
وجه الاستدلال منهما:
الحديثان ظاهران في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الركعتين بعد كل طواف، وأنه لم يكن يتركهما، فدل ذلك على وجوبهما.
السادس: وبأن عمر رضي الله عنه نسي ركعتي الطواف، فقضاهما بذي طوى.
قالوا: إن قضاءه لهما بعد أن خرج من الحرم، دليل على وجوبهما؛ إذ لو لم تكونا واجبتين لما قضاهما (1) .
السابع: وقالوا: إن الطواف ركن من أركان الحج له تابع، فوجب أن يكون تابعه واجبا كالوقوف بعرفة، فإن الذي يتبعه
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 148.(58/189)
الوقوف بمزدلفة (1) .
3 - لعل حجة الفريق الثالث هي: جمله أدلة الفريق الثاني القائلين بالوجوب، إلا أنهم اعتبروا ركعتي الطواف جزءا منه، واشترطوا أداءها بطهارة الطواف. وقد تقدم أنهم يرون أن نقض الطهارة مبطل للموالاة. ولذا فإن من انتقضت طهارته بعد إكمال الطواف وقبل الصلاة، وكان الطواف واجبا فإنه يجب عليه أن يستأنف الطواف بعد الطهارة؛ ليؤدي الركعتين بطهارة الطواف. فمن تعذر عليه إعادة الطواف، صلاهما وعليه دم.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني وهو: أنهما واجبتان، يجب أداؤهما عقب الطواف، فإن أخرهما، أداهما بعد ذلك، ولو تأخر الزمان طويلا. وذلك لما يلي:
1 - أن ما استدل به أصحاب القول الأول من الأدلة الدالة على عدم وجوب غير الصلوات الخمس أدلة قوية، إلا أنها عامة، فلا يجب بالشرع على عموم الناس غير الصلوات الخمس. ولا يعني ذلك عدم إيجاب غيرها، على فئة خاصة لا على التعيين كالصلوات المفروضة على الكفاية، أو من أوجب على نفسه صلاة بنذر ونحوه. فكذلك ركعتا الطواف إنما وجبت على من طاف. ولم تجب على غيره.
2 - أن الأدلة الدالة على وجوبهما هي التي سبق الاستدلال بها على
__________
(1) انظر: المنتقى للباجي 2 \ 288.(58/190)
وجوب واشتراط الصفات السابقة، وإنما لم أقل باشتراطهما، أو اشتراط أدائهما بطهارة الطواف، لمخالفتهما لحقيقة الطواف، وللأدلة الدالة على جواز تأخير أدائهما إلى الخروج من الحرم- كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.(58/191)
الفرع الثاني: مكان أداء ركعتي الطواف:
لا خلاف بين العلماء أن المستحب أن يؤدي ركعتي الطواف خلف المقام، إن تيسر له ذلك دون أن يتأذى أو يؤذي غيره اقتداء بأدائه- عليه الصلاة والسلام- لهما.
واختلفوا هل يشترط أداؤهما في مكان معين، أم يجوز أداؤهما ولو خارج الحرم؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يشترط أداؤهما في مكان معين، بل يصح أداؤهما في كل مكان تصح فيه الصلاة، سواء داخل الكعبة أم خارجها، وسواء داخل المسجد أم خارجه، وسواء داخل الحرم أم خارجه، بل لو أخرهما حتى رجع إلى بلده، أداهما فيه.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، إلا أن الشافعي استحب أن يريق دما إذا أخرهما حتى رجع إلى بلده.(58/191)
القول الثاني: يصح أداؤهما ولو خارج الحرم، إلا أنه لا يجوز فعلهما في الحجر أو داخل البيت أو فوقه، ويشترط أن يكون أداؤهما بطهارة الطواف، فإن صلاهما فيه، أعادهما خارجه بشرطه. فإن رجع إلى بلده، صلاهما وبعث يهدي.
وإلى هذا ذهب: مالك.(58/192)
صفحة فارغة(58/193)
القول الثالث: لا يصح أداؤهما خارج الحرم. وهل يشترط أداؤهما خلف المقام؟ روايتان.
وإلى هذا ذهب: سفيان الثوري.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بحديث أم سلمة - رضي الله عنها-: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة وأراد الخروج- ولم تكن أم سلمة رضي الله عنها طافت بالبيت وأرادت الخروج- فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك، والناس يصلون. ففعلت ذلك، فلم تصل حتى خرجت (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب من صلى ركعتي الطواف خارجا من المسجد (71) 2 \ 165(58/194)
وجه الاستدلال منه:
الإخبار بأنها لم تصل حتى خرجت، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل صريح على عدم اشتراط الصلاة داخل المسجد أو خلف المقام (1) .
الثاني: وبما ثبت: " أن عمر رضي الله عنه طاف بالبيت بعد صلاة الصبح، فركب حتى أناخ بذي طوى، فصلى ركعتين ".
الثالث: وبأثر ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه كان يطوف بالبيت سبعا، ثم يدخل البيت، فيصلى فيه ركعتي الطواف " (2) .
2 - حجة أصحاب القول الثاني:
لم أقف لهم على حجة فيما ذهبوا إليه، لكن لعلهم ذهبوا إلى أن البيت لا يصح فيه الصلوات الواجبة، كالفريضة، وركعتا
__________
(1) قال الحافظ في الفتح 3 \ 487: (قوله في آخره: فلم تصل حتى خرجت أي من المسجد أو من مكة. . .) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5 \ 60 (9000، 9001) .(58/195)
الطواف واجبة، لارتباطها بالطواف.
أو لعلهم استدلوا بما رواه عبد الرزاق عن طاوس أنه كان يصلي في البيت بعد الطواف، ثم يخرج فيصلي ركعتي الطواف خارجا من البيت (1) .
3 - حجة أصحاب القول الثالث:
كذلك لم أقف لهم على حجة فيما ذهبوا إليه، والذي يظهر أنهم رأوا ارتباطها بالطواف، والطواف لا يكون إلا في الحرم، أو يجب أداؤهما خلف المقام؛ لبيان الله- جل وعلا- مكان أدائهما، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته على فعلهما خلف المقام، دليل على وجوب أدائهما خلفه.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن المستحب والأفضل أداء الركعتين خلف المقام، لكن لو أداهما خارج المسجد أو خارج الحرم جاز ولا شيء عليه. وذلك لما يلي:
1 - دلت أدلة الفريق الأول على عدم وجوب أداء ركعتي الطواف خلف المقام، بل ظاهرها جواز أدائهما خارج الحرم.
2 - لم أقف للأقوال الأخرى على حجة تقوي ما ذهبوا إليه، أو تضعف ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5 \ 6 (8999) من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه.(58/196)
الفرع الثالث: وقت أداء ركعتي الطواف:
لا خلاف بين العلماء- رحمهم الله- أن المستحب أن(58/196)
يصلي الطائف الركعتين عقيب طوافه، تأسيا بفعله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه وغيره.
واختلفوا إن كان الوقت وقت كراهة، هل له أن يصليهما أم عليه أن يؤخرهما إلى انقضاء وقت الكراهة؟ وهل إذا أخرهما لعذر أم غيره له أن يتداركهما أم لا؟ وهل له الجمع بين عدد من الأسابيع دون الفصل بينها بالصلاة أم لا؟ هذا ما سأتناوله في المسائل التالية:
المسألة الأولى: صلاة ركعتي الطواف في أوقات الكراهة.
المسألة الثانية: وقت ركعتي الطواف إذا أخرهما.
المسألة الثالثة: الجمع بين الأسابيع.
مسألة: حكم صلاة ركعتي الطواف في أوقات الكراهة:
لا خلاف بين العلماء أن الطواف جائز في جميع الأوقات، ولو كان ذلك في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
وإنما اختلفوا إذا أتم الطائف طوافه في وقت الكراهة، كبعد صلاة الصبح، أو العصر، أو وقت طلوع الشمس أو غروبها، هل يشرع له أن يصلي ركعتي الطواف في هذه الأوقات، أم عليه تأخيرها إلى انتهاء تلك الأوقات التي يكره الصلاة فيها؟
اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز أداؤهما في جميع الأوقات بلا كراهة،(58/197)
ولو كان وقت طلوع الشمس أو غروبها.
وإلى هذا ذهب: الشافعي، وأحمد في المشهور.
القول الثاني: يندب له أن يؤخر الصلاة إلى أن ينقضي وقت الكراهة.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ومالك والثوري.
القول الثالث: أنه يكره أداؤهما بعد الصبح والعصر، ولا يجوز فعلهما في غيرهما من الأوقات الخمسة وهي: (وقت الطلوع، والغروب، وعند قيام قائم الظهيرة) ، فإن صلاها لم تنعقد صلاته.
وإلى هذا ذهب: أحمد في رواية، والأحناف في قول.(58/198)
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار (1) » .
__________
(1) أخرجه الشافعي، كما في ترتيب المسند 1 \ 57 (170) ، وأحمد 4 \ 80، والدارمي في المناسك، باب الطواف في غير وقت الصلاة 2 \ 70، وأبو داود في المناسك باب الطواف بعد العصر 2 \ 180 (1894) ، والترمذي في الحج، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد المغرب 2 \ 178 (869) ، والنسائي في المواقيت، باب إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة (41) 1 \ 284 (585) ، وفي المناسك، باب إباحة الطواف في كل الأوقات (137) 5 \ 223 (2924) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت (149) 1 \ 398 (1254) . وأخرجه أيضا: ابن خزيمة 4 \ 225 (2747) ، وابن حبان كما في الموارد 164، 165 (626، 627) ، والحاكم 4 \ 448، والدارقطني 1 \ 423، والطحاوي 1 \ 186، والبيهقي 2 \ 461، 5 \ 92. كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة عن أبي الزبير المكي عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم به. وقد جاء في بعض هذه الطرق التصريح بسماع أبي الزبير عند ابن خزيمة، والنسائي. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري في المختصر 2 \ 382 تصحيح الترمذي وأقره. وكذا الحافظ في الفتح 3 \ 488، وفي التلخيص 1 \ 190 وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. قال الألباني في الإرواء 2 \ 239: (وهو كما قالا، وقد صرح أبو الزبير بالسماع في رواية النسائي وغيره وتابعه- أي تابع ابن عيينة- ابن جريج. قال: أنا أبو الزبير أنه سمع عبد الله بن باباه به. أخرجه أحمد 4 \ 81، 84 وهو صحيح أيضا. وتابعه عبد الله بن أبي نجيح عن عبد الله بن باباه به. أخرجه أحمد 4 \ 82، 83 عن محمد بن إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي نجيح به. قلت: وهذا إسناد حسن رجاله كلهم معروفون غير عبد الله بن أبي نجيح، واسم أبي نجيح، يسار مولى ابن عمر، وقد روى عنه جماعة من الثقات، وذكره ابن حبان في الثقات) ومتابعة ابن جريج أخرجها عبد الرزاق في مصنفه 5 \ 61 (9004) . قال البيهقي: (أقام ابن عيينة إسناده، ومن خالفه في إسناده لا يقاومه، فرواية ابن عيينة أولى أن تكون محفوظة. وقد روي من أوجه عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا) . وقد تابع ابن عيينة عمرو بن الحارث عند ابن حبان كما في الموارد ص 165 (628) من طريق حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا الزبير حدثه. أما حديث نافع بن جبير عن أبيه فأخرجه الدارقطني 1 \ 424، 425 من ثلاثة طرق. من طريق عمرو بن دينار، وعطاء، وابن الزبير. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس وأبي ذر. أما حديث ابن عباس: فأخرجه الدارقطني 1 \ 426، والطحاوي 1 \ 186، وأشار الحافظ في التلخيص إلى أنه عند الطبراني وغيره وقال: هو معلول. أما حديث أبي ذر فأخرجه الدارقطني أيضا 1 \ 425، والبيهقي 2 \ 461، 462. وفي الباب من حديث جابر أخرجه الدارقطني 1 \ 424، والبزار 2 \ 22 (1111) من طريق معقل بن عبد الله وأيوب عن أبي الزبير عنه. قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 3 \ 245. ومن حديث ابن عمر عند الطبراني في الكبير من طريق عمران بن محمد بن أبي ليلى عن عبد الكريم عن مجاهد. قال الهيثمي: فإن كان عبد الكريم هو الجزري فرجاله ثقات، وإن كان هو ابن أبي المخارق فالحديث ضعيف. ومن حديث عطاء مرسلا عند عبد الرزاق في المصنف 5 \ 61 (9003) . (تنبيه) نبه الحافظ في التلخيص 1 \ 190 إلى أن المجد ابن تيمية عزا حديث جبير لمسلم؛ فإنه قال: رواه الجماعة إلا البخاري. وهذا وهم منه، ثم تبعه عليه غيره(58/199)
صفحة فارغة(58/200)
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ولي الحرم ألا يمنع أحدا من الطواف والصلاة به أية ساعة من ليل أو نهار، فدل ذلك على جواز الطواف والصلاة في جميع الأوقات، ولو كانت أوقات نهي.
الثاني: وبآثار عن الصحابة أنهم كانوا يطوفون بعد الصبح والعصر، وكانوا يصلون بعد فراغهم من الطواف، فدل ذلك على(58/201)
عدم كراهتها.
الثالث: وقالوا: إن ركعتي الطواف تابعة للطواف، وإذا أبيح المتبوع، فينبغي أن يباح التبع (1) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بما رواه أبو الزبير عن جابر - رضي الله عنه- أنه قال.
«كنا نطوف فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة، ولم نكن نطوف بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس. قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تطلع الشمس بين قرني
__________
(1) انظر المغني 2 \ 517.(58/202)
شيطان (1) » .
وجه الاستدلال منه:
أن إخبار جابر رضي الله عنه بامتناع الصحابة رضي الله عنهم عن الطواف بعد الصبح والعصر، دليل على كراهته وكراهة الصلاة في أوقات الكراهة.
الثاني: واستدلوا بعموم أحاديث النهي عن الصلوات في الأوقات الخمسة.
__________
(1) أخرجه أحمد 3 \ 393، وحسن إسناده الحافظ في الفتح 3 \ 489. وقال الهيثمى في مجمع الزوائد 3 \ 245: (رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه كلام، وقد حسنوا حديثه) وانظر: بلوغ الأماني 12 \ 55.(58/203)
وقالوا: إن النهي شامل لصلاة ركعتي الطواف.
الثالث: وبما رواه مالك وغيره: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف بعد الصبح، فلما قضى طوافه، نظر فلم ير الشمس طلعت، فركب حتى أناخ بذي طوى، فصلى ركعتين " (1) .
الرابع: وبآثار عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى انقضاء وقت الكراهة.
__________
(1) تقدم تخريجه.(58/204)
وجه الاستدلال منها:
أن امتناع الصحابة رضي الله عنهم عن الصلاة بعد الطواف، دليل على كراهة الصلاة في أوقات النهي، واستحباب تأخيرها إلى زوال وقت الكراهة.
3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
الأول: بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه قال: «ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلى فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة (1)
__________
(1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 6 \ 114.(58/205)
حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» رواه مسلم.
وجه الاستدلال منه:
أن هذه الأوقات الثلاثة النهي عن الصلاة فيها أشد وآكد، ولذا فإنه ينهى عن الصلاة على الجنائز فيها، بخلاف الوقتين الآخرين، وهما: بعد الصبح وبعد العصر، فدل ذلك على عدم جواز صلاة ركعتي الطواف فيهما (1) .
الثاني: واستدلوا بأحاديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس (2) .
ووجه استدلالهم منها:
قالوا: إن النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، دليل على
__________
(1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 1 \ 188.
(2) تقدم الإشارة إليها في أدلة أصحاب القول الثاني.(58/206)
كراهية الصلاة فيها، إلا أنه قد دلت الأدلة على جواز أداء غير النوافل المطلقة فيها، كصلاة الجنازة، وقضاء الراتبة، بخلاف الأوقات الثلاثة الأخرى، فدل ذلك على كراهة صلاة ركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة، وجوازها في الوقتين الآخرين.
الثالث: وبما رواه البخاري بسنده عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها-: أن ناسا طافوا بالبيت بعد صلاة الصبح، ثم قعدوا إلى المذكر حتى إذا طلعت الشمس يصلون، فقالت عائشة - رضي الله عنها-: (قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي تكره فيها الصلاة قاموا يصلون) (1) .
وجه الاستدلال منه:
لم تنكر عائشة - رضي الله عنها- على من طاف بعد الصبح طوافه، وإنما أنكرت قعوده وتأخيره الصلاة إلى وقت الطلوع، وأن ذلك وقت تكره فيه الصلاة، فدل ذلك على كراهة الصلاة وقت الطلوع، كما دل بمفهومه على عدم كراهتها قبل ذلك.
الرابع: قالوا: يمكن بهذا القول الجمع بين كثير من الآثار المتعارضة عن الصحابة في ذلك، وذلك بأن تحمل الآثار الدالة على الجواز بأن الطواف والصلاة كانا بعد الفجر أو بعد العصر، وتحمل الآثار الدالة على الطواف دون الصلاة أو على الامتناع عنهما، أن ذلك كان وقت الطلوع أو الغروب.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر (73) 2 \ 166.(58/207)
ويوضح ذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما صح عنه الأمران جميعا، كما سبقت الإشارة إليه، أعني الطواف والصلاة بعد العصر أو بعد الفجر، وتأخير الصلاة عن الطواف حتى تطلع الشمس أو تغيب.
وقد روى سعيد بن أبي عروبة في (المناسك) عن أيوب عن نافع: " أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يطوف بعد صلاة العصر، ولا بعد صلاة الصبح " (1) .
وقد دل على هذا الجمع: ما أخرجه البخاري تعليقا فقال: " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس " (2) .
ووصله سعيد بن منصور من طريق عطاء: " أنهم صلوا الصبح بغلس، وطاف ابن عمر بعد الصبح سبعا ثم التفت إلى أفق السماء، فرأى أن عليه غلسا، قال: فتبعته حتى أنظر أي شيء يصنع، فصلى ركعتين) (3) .
ويدل عليه أيضا حديث عائشة المتقدم.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو: أن من طاف بعد الصبح وبعد العصر فله أن يصلي عقيب طوافه، ما لم تكن الشمس قد آذنت بالطلوع أو بالغروب،
__________
(1) أشار إليه الحافظ في الفتح 3 \ 489.
(2) أخرجه البخاري في الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر (73) 2 \ 166.
(3) أشار إليه الحافظ في الفتح 3 \ 489.(58/208)
أو كانت قائمة في كبد السماء، فإن الأولى به أن يؤخر الركعتين إلى زوال وقت الكراهة، فإن صلاها أجزأت. وذلك لما يلي:
1 - أن حديث جبير بن مطعم عام في كل وقت، وهو يحتمل التخصيص. وليس تخصيصه للأحاديث القاضية بالكراهة، بأولى من تخصيصها إياه.
2 - ما ثبت عن الصحابة من الطواف بعد الصبح والعصر والصلاة عقيب طوافهم، يحمل ذلك على طوافهم وصلاتهم بغلس بعد الصبح، أو والشمس بيضاء نقية بعد العصر، جمعا بينها وبن الآثار الدالة على امتناعهم عن الصلاة بعد الطواف وتأخيرهم ذلك إلى طلوع الشمس أو غروبها.
أو امتناعهم عن الطواف كما في أثر جابر، وقد دل استدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم: «تطلع الشمس بين قرني شيطان (1) » أن المراد بامتناعهم من الطواف بعد الصبح، وبعد العصر، امتناعهم من ذلك وقت الطلوع ووقت الغروب.
إذ حمله على امتناعهم عن الطواف بعد الصبح والعصر مطلقا، بعيد مع تلك الآثار الكثرة الدالة على طوافهم بعد الصبح والعصر.
3 - أن حديث عقبة بن عامر دال على تأكيد النهي عن الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3273) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (829) ، سنن النسائي المواقيت (563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/13) ، موطأ مالك النداء للصلاة (513) .(58/209)
وقت الطلوع ووقت الغروب؛ لشمول هذين الوقتين في الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر، ولذا نهي عن صلاة الجنازة فيهما، والإجماع على جواز الجنازة بعد الصبح والعصر. فعمومه يقتضي منع صلاة ركعتي الطواف في هذه الأوقات الثلاثة.
4 - تقدم في هذه المسألة السابقة ترجيح القول بأن ركعتي الطواف واجبة، وذلك لا يستلزم وجوب أدائهما عقيب الطواف. فالأولى به تأخيرهما إلى انقضاء وقت الكراهة، والله أعلم.(58/210)
مسألة: وقت ركعتي الطواف إذا أخرهما:
اختلف العلماء- رحمهم الله- في الواجب على من أخر ركعتي الطواف فلم يصلهما عقيب الطواف نسيانا، أو امتناعا من أدائهما في أوقات الكراهة، على قولين:
القول الأول: أن الواجب على من تركهما أو نسيهما، أن يؤديهما متى ذكرهما، وأنهما لا يتقيدان بزمان ولا بمكان. ولا يلزمه بهذا التأخر شيء.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.
القول الثاني: أن الواجب عليه أن يصليهما عقيب الطواف بطهارته.
فلو انتقضت طهارته قبل أدائهما، استأنف الطواف، وإن سعى قبل أدائهما، فعليه أن يعيده بعد الطواف والصلاة، إلا إذا كان الترك في العمرة ثم أحرم بالحج، أو تعذر عليه الرجوع لأدائهما، فإنه يصليهما وعليه دم.(58/211)
وإلى هذا ذهب: مالك.
الأدلة:
لم أقف للعلماء- رحمهم الله- في هذه المسألة على أدلة خاصة بها. لكن يمكن أن يحتج لكل قول من خلال ما سبقت الإشارة إليه.
1 - حجة القول الأول:
يمكن الاستدلال لهم بحديث أم سلمة - في تأخيرها الصلاة حتى خرجت، وكذلك فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حيث أخرهما حتى أناخ بذي طوى.
ففيهما دليل على عدم اشتراط أدائهما في المسجد، وعدم اشتراط أدائهما فور الطواف، وظاهر ذلك عدم اشتراط أدائهما بطهارة الطواف؛ إذ اشتراط ذلك مفتقر إلى دليل، ولا دليل عليه، والله أعلم.(58/212)
2 - حجة القول الثاني:
يمكن الاستدلال لهم بعموم فعله صلى الله عليه وسلم إذ كان يصليهما فور الطواف بوضوئه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (1) » فدل ذلك على وجوبهما، وأنهما من الطواف يوصلان به، فمن انتقض وضوءه قبل أدائهما، أخل بشرط الموالاة في الطواف، فوجب عليه استئناف الطواف.
ومن سعى قبلهما، أعاده بعد إعادة الطواف والصلاة؛ لسعيه قبل إتمام الطواف، ولفصله بين الطواف وبينهما، فأخل بشرط الموالاة.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن من أخر ركعتي الطواف أو نسيهما، فإن عليه أن يؤديهما بعد ذلك ولا شيء عليه، فلا يتقيد أداؤهما بزمان ولا مكان. وذلك لما يلي:
1 - أن القول بوجوب ركعتي الطواف لا يستلزم القول بركنيتها، أو القول باشتراطها، أو اشتراط أدائها بطهارة الطواف، لمخالفتها لحقيقة الطواف.
2 - لا خلاف بين العلماء على جواز تأخر ركعتي الطواف، وعدم اشتراط موالاتها له، وذلك للأدلة من تقريره- عليه الصلاة والسلام- لأم سلمة رضي الله عنها، ومن فعل الصحابة رضي الله عنهم.
3 - أن القول باشتراط أداء ركعتي الطواف بطهارته، مفتقر إلى دليل
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(58/213)
يصح الاعتماد عليه، ولا دليل على ذلك إلا عمومات هي محل نظر واحتمال، والله أعلم.(58/214)
مسألة: الجمع بين عدد من الأسابيع:
لا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من سبوعه صلى ركعتين، ولم يثبت أنه- عليه الصلاة والسلام- طاف عددا من الأسابيع مواليا بينها، أو فاصلا بينها بمجرد الصلاة.
ولا خلاف بينهم أيضا أنه يجوز التطوع بالطواف، بأن يطوف أكثر من سبوع، وإنما اختلفوا هل يجوز أن يوالي بين الأسابيع، ثم يصلي لها، أم ينبغي له الفصل بينها؟
اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: يجوز الوصل بين الأسابيع من غير كراهة، والفصل أولى.
وإلى هذا ذهب: الشافعي، وأحمد في المشهور، وأبو يوسف من الحنفية، وإسحاق.(58/214)
القول الثاني: يكره الوصل بين الأسابيع، إلا أنهم اختلفوا فيما إذا شرع في سبوع آخر فتذكر في أثنائه:
أ- فذهبت طائفة: إلى أنه إن شرع في سبوع آخر، فإن كان قبل إتمام الشوط رفضه، وإن كان بعد إتمامه لا يرفضه، بل يلزمه إتمامه؛ لأنه دخل فيه.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن.
ب- وذهبت طائفة أخرى إلى أنه إن شرع في سبوع آخر، قطعه على كل حال، ولو طاف عددا من الأشواط، فإن أتمه، صلى(58/215)
لكل سبوع ركعتين.
وإلى هذا ذهب: مالك.
الأدلة:
أ- استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بأن عائشة - رضي الله عنها- طافت ثلاثة أسابيع، ثم صلت لكل أسبوع ركعتين، وفعل مثله المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
الثاني: وقالوا: إن الكراهة لا تثبت إلا بنهي الشارع، ولم يثبت في هذا نهي (1) .
الثالث: وقالوا: كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لا يوجب كراهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة، وذلك غير مكروه بالاتفاق (2) .
الرابع: الموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين، فجاز
__________
(1) انظر: المجموع للنووي 8 \ 63. وقال: (فهذا هو المعتمد في الدليل) .
(2) انظر: المغني 5 \ 233.(58/216)
الفصل بينهما بطواف آخر، كما لو فصل بينهما بأكل أو نوم (1) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن نافع: (أن ابن عمر كان يكره قرن الطواف، ويقول: على كل سبع ركعتان، وكان لا يقرن بين سبعين) .
الثاني: وقالوا: إتمام كل أسبوع من الطواف بركعتين، فيكره له الاشتغال بالأسبوع الثاني قبل إكمال الأول (2) .
الثالث: وقالوا: إن ترتيب الركعتين على الطواف كترتيب السعي عليه؛ لأن كل واحد منهما واجب، ثم لو جمع بين سبوعين من الطواف وأخر السعي يكره، فكذا إذا جمع بين سبوعين منه وأخر الصلاة (3) .
الرابع: وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فدل ذلك على كراهته (4) .
__________
(1) انظر: المبسوط 4 \ 47، المغني 5 \ 233.
(2) انظر: المبسوط 4 \ 47.
(3) انظر: بدائع الصنايع 2 \ 151.
(4) انظر: المغني 5 \ 233، فتح الباري 3 \ 485.(58/217)
الرأي المختار:
الذي أختاره هو: أن الأولى بالطائف الذي يريد أن يطوف أكثر من سبوع، أن يركع لكل سبوع عقيبه، إلا إذا كان الوقت وقت اشتداد الكراهة؛ كطلوع الشمس وغروبها، فله أن يجمع بينهما دون فصل.
وذلك لما يلي:
1 - عدم فعله صلى الله عليه وسلم ليس دليلا على الكراهة؛ إذ لم يثبت أنه طاف عددا من الأسابيع وفصل بينهما بالصلاة فقط.
2 - أن ما ثبت عن عائشة والمسور من الجمع بينهما، وما ثبت عن ابن عمر من كراهة ذلك، دليل على أن المسألة محل نظر واجتهاد، وليس فعل أحدهما بأولى من الآخر، فضلا عمن دونهما من التابعين.
3 - تقدم ترجيح القول بوجوب ركعتي الطواف، وهما من إتمامه، فالأولى المبادرة بفعلهما، وإن لم يكن ذلك شرطا لصحة الطواف.
4 - تقدم ترجيح القول بتأخير ركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة، لاشتداد كراهة الصلاة فيها، فالأولى تأخير الصلاة عنها لمن أراد أن يطوف أكثر من سبوع، والله أعلم.
الفرع الرابع: هل يجزئ عن ركعتي الطواف غيرهما أم لا؟ اختلف العلماء- رحمهم الله- هل يجزئ عن ركعتي الطواف(58/218)
غيرهما، كصلاة فريضة، أو وتر ونحوهما، أم أنهما خاصتان بالطواف لا يقوم غيرهما مقامهما؟ اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: يجزئ عنهما غيرهما، فلو صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف.
وإلى هذا ذهب: الشافعي، في الأصح، وأحمد في المشهور، وإسحاق.
القول الثاني: أنه لا يجزئ عنهما غيرهما، فلو صلى المكتوبة عقب طوافه، صلاهما بعدها.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، في قول، وأحمد في رواية، وأبو ثور، وابن المنذر.(58/219)
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: قالوا: إنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الإحرام (1) .
الثاني: واستدلوا بآثار عن الصحابة والتابعين في ذلك: كابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، وسالم بن عبد الله، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن الأسود.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: قالوا: إنهما واجبتان، كالمنذورة، أو سنة كالراتبة، فلا
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 233.(58/220)
تنوب عنها المكتوبة (1) .
الثاني: واستدلوا بآثار عن الصحابة والتابعين في ذلك: كابن عمر، والزهري، والحسن.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني وهو: أنه لا يجزئ عنهما غيرهما، لا فريضة ولا راتبة. وذلك لما يلي:
1 - أنها صلاة شرعت للطواف، فلم يجزئ عنها غيرها، كالسنة
__________
(1) انظر: المبسوط 4 \ 47، المغني 5 \ 233.(58/221)
الراتبة، لا تجزئ عنها الفريضة.
2 - تقدم ترجيح القول بوجوب ركعتي الطواف، فلا يجزئ عنهما غيرهما، كالصلاة المنذورة ونحوها، والله أعلم.(58/222)
الخاتمة:
بعد هذا التجوال بمطالب هذا البحث ودراسة مسائله وما اشتمل عليه من مباحث يمكن أن أشير إلى أهم نتائجه في النقاط التالية:
1 - أن الطهارة شرط لصحة الطواف، لا يصح الطواف بدونها مع القدرة عليها، وأن الحائض لا يصح طوافها، ولو طافت فلا يعتد بذلك.
2 - أن الطهارة من النجس شرط لصحة الطواف، فمن طاف وعليه نجاسة في بدنه، أو ثوبه، أو المكان الذي يطؤه في طوافه، وهو عالم بها، قادر على إزالتها فطوافه غير صحيح.
3 - أن ستر العورة شرط لصحة الطواف، فمن طاف كاشفا عورته، وهو عالم بذلك قادر على سترها فطوافه غير صحيح.
4 - أن على الطائف أن يجعل البيت عن يساره، وأن من أخل بهذه الصفة، بأن جعل البيت عن يمينه، أو عن يساره(58/222)
ورجع القهقرى، أو جعله تلقاء وجهه، أو خلف ظهره، لم يصح طوافه.
5 - أن الموالاة شرط لصحة الطواف، فمن تركها لم يصح طوافه، وعليه أن يستأنفه، إلا إذا كان القطع يسيرا لحاجة، وأن الأولى بالطائف ألا يقطع طوافه لشيء إذا كان الطواف واجبا، فإن قطعه لحاجة ابتدأ من الحجر الأسود احتياطا.
6 - أن من انتفت طهارته فقد بطل طوافه، فعليه أن يستأنفه، ولو لم يطل الفصل، سواء سبقه الحدث أم تعمده.
7 - أن المشي في الطواف مع القدرة عليه شرط لصحته، وأن من طاف راكبا أو محمولا لغير عذر فطوافه غير صحيح.
8 - أن الحامل والمحمول إذا نوى كل واحد منهما الطواف عن نفسه، وقع عنهما جميعا.
9 - أن ركعتي الطواف واجبتان عقب الطواف، فإن أخرهما أداهما بعد ذلك ولو تأخر الزمان طويلا، فلا يتقيدان بزمان ولا بمكان، ولو كان خارج الحرم.
10 - أن الأولى بالطائف أن يؤخر ركعتي الطواف إلى زوال أوقات الكراهة الثلاثة وهي: وقت طلوع الشمس وغروبها وزوالها.
11 - أن الأولى لمن أراد أن يطوف أكثر من سبوع أن يركع لكل سبوع عقيبه، ما لم يكن وقت اشتداد الكراهة، فله أن يجمع بينها دون فصل.(58/223)
12 - أنه لا يجزئ عن ركعتي الطواف غيرهما، لا فريضة ولا راتبة.
والحمد لله آخرا كما بدأت، وأسأله التوفيق فيما اجتهدت، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه كلما ذكرت أو غفلت.(58/224)
تاريخ الدعوة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه (11- 13هـ)
للدكتور عبد الرحمن بن سليمان الخليفي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) .
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق
__________
(1) عضو هيئة التدريس في قسم الدعوة والاحتساب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70(58/225)
جهاده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المتأمل في تاريخ الدعوة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يجد مادة واسعة مفيدة، تبين أن الدعوة في هذا العهد قد سارت على النهج الذي سارت عليه الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغاية من الدعوة قد اتضحت، ووظيفة الدعاة قد عرفت، ووسائل الدعوة وأساليبها الصحيحة قد تبينت. فهو إذن عهد جدير بالدراسة والتأمل وأخذ الفائدة منه.
وقد اتبعت في كتابة هذا البحث المنهج التالي:
1 - عزوت كل آية كريمة إلى موضعها من السورة في كتاب الله تعالى.
2 - خرجت الأحاديث الواردة في ثنايا هذا البحث من الكتب المعتمدة.
3 - قمت بإيضاح الألفاظ الغامضة بالرجوع إلى معاجم اللغة.
4 - عزوت المعلومة الواحدة إلى أكثر من مرجع إثراء للمعلومة.
5 - قمت بوضع الهوامش في البحث حسب قواعد البحث العلمي.
6 - ختمت البحث بخاتمة اشتملت على نتائج البحث.
خطة البحث: وقد جاءت خطة البحث على النحو التالي:
المقدمة.(58/226)
تمهيد.
المبحث الأول: اختيار الصديق رضي الله عنه ومبايعته إماما للمسلمين.
المطلب الأول: الأمة المصطفاة لوراثة كتاب الله والدعوة إليه.
المطلب الثاني: أهمية المبادرة في اختيار إمام للمسلمين.
المطلب الثالث: بيعة الصديق رضي الله عنه إماما للمسلمين:
الفرع الأول: اتفاق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على بيعة الصديق رضي الله عنه.
الفرع الثاني: أسباب قناعة الصحابة الكرام ببيعة الصديق رضي الله عنه.
الفرع الثالث: أثر الدعوة في اتفاق الآراء بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
المبحث الثاني: الأعمال التي قام بها الصديق رضي الله عنه لحفظ الدعوة ونشرها زمن خلافته:
المطلب الأول: اهتمام الصديق رضي الله عنه بالدعوة حال توليه الخلافة.
المطلب الثاني: امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذه جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
المطلب الثالث: دعوة المرتدين ليرجعوا إلى الإسلام:
الفرع الأول: أسباب اتباع الناس لتلك الدعوات المضللة.
الفرع الثاني: موقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم من هذه الفتنة.
الفرع الثالث: جهود الصديق رضي الله عنه في القضاء على(58/227)
الدعوات المضللة.
المطلب الرابع: جمع مصدر الدعوة الأول (القرآن الكريم) .
المطلب الخامس: نشر الدعوة عن طريق الجهاد:
الفرع الأول: نشر الدعوة في العراق.
الفرع الثاني: نشر الدعوة في الشام.
المبحث الثالث: اهتمام الصديق بالدعوة عند وفاته رضي الله عنه.
الخاتمة.(58/228)
تمهيد: تعريف تاريخ الدعوة:
إذا نظرنا إلى هاتين الكلمتين في أصلهما اللغوي وعند أهل الاصطلاح يمكن أن نخرج بتعريف مستقل لتاريخ الدعوة فنقول: هو فن يبحث فيه عن كيفية نشر الإسلام، وإقناع الناس باتباعه، ثم إثباتها بالتعيين والتوقيت لإطلاع الأمة عليها وإفادتهم منها.
شرح التعريف:
في قولنا: هو فن: الفن هو الضرب من الشيء، أي النوع.
فتاريخ الدعوة نوع مستقل بذاته عن غيره من العلوم.
وفي قولنا: ثم إثباتها بالتعيين: أي رصد هذه المعلومات بتعيين الحادثة وأبرز الأشخاص الذين شاركوا فيها.
وفي قولنا: والتوقيت: أي ربط ذلك بالتوقيت الزمني لهذه الأحوال والمراتب.(58/228)
ومن هنا نستطيع القول بأن هذا الفن الذي هو تاريخ الدعوة يعطينا التصور المطلوب عن كيفية نشر الإسلام، مثبتة بتعيين حوادثها والأشخاص الذين شاركوا فيها، مقرونة بالتوقيت، مما يعين على الاستفادة الكاملة من هذه المادة، كما سيأتي بعون الله تعالى.(58/229)
المبحث الأول: اختيار الصديق رضي الله عنه ومبايعته إماما للمسلمين:
المطلب الأول: الأمة المصطفاة لوراثة كتاب الله والدعوة إليه:
إن من المتقرر شرعا أن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا، ولم يزكهم سدى، بل خلقهم لعبادته، كما أخبر جل وعلا بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، ولكن هؤلاء الخلق لم يصلوا بعقولهم القاصرة إلى العبادة الحقة لله تعالى؛ ولذا أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين يدعون الناس إلى العبادة الصحيحة، كما في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) ، فلم تزل الرسل ترسل والكتب تتنزل على الأمم السابقة. إلا أن هذه الأمم جميعها لم تكن هي الأمة المصطفاة لتكون وارثة لكتاب الله الخاتم، الداعية إليه.
لقد أنزل الله كتابه المبين على رسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، واختار لهذا الرسول الكريم رجالا صادقين
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36(58/229)
مجاهدين آمنوا به واتبعوه وحملوا رسالته عاملين بها، وداعين إليها وناشرين لها، ومجاهدين في سبيل الله حق جهاده، معلين كلمته، وحافظين لكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} (1) {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (2) .
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اختار هؤلاء الدعاة لأنفسهم إماما يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون دولتهم فأحسنوا الاختيار، مما جعل غير المسلمين يشهدون بذلك؛ إذ يقول لويس سيديو (L. Sedillot) : اختار المسلمون بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم زعيما ليحمل الناس على احترام الشريعة، فأبدعوا سلطانا ساميا خضع له العرب بلا جدال، ولا يعني هذا أن العرب أحدثوا نظاما استبداديا يقوم به فرد، وإنما أقاموا حكومة شعبية مستندة إلى شريعة إلهية، يديرها ولي أمر منتخب مقيد في سلطته بأوامر القرآن لا يعدوها.
__________
(1) سورة فاطر الآية 31
(2) سورة فاطر الآية 32(58/230)
المطلب الثاني: أهمية المبادرة في اختيار إمام للمسلمين:
إن من تمام معرفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم بأهمية(58/230)
اختيار إمام يحمي الدعوة، ويدير شؤون الدولة الإسلامية، ويحميها من الاضطراب والتخلخل- مبادرتهم إلى اختيار الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضحى يوم الاثنين (12 ربيع الأول 11هـ) لم تمض ساعات قليلة من وفاته حتى سارع المسلمون في التفكير لاختيار ومبايعة خليفة له. فلم تغب شمس ذلك اليوم الذي توفي فيه إلا وقد نصبوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للمسلمين. وبعد أن استقر الأمر، واجتمعت الكلمة قاموا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ثم دفنوه.
وإن هذه المبادرة لهي خطوة موفقة، ألهم الله تعالى صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم لها، إذ قدموا اختيار الخليفة الحاكم على دفن أحب الناس إلى قلوبهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإن هذا ليعطينا دلالة واضحة على معرفة الصحابة الكرام أهمية وجود الإمام الحاكم الذي يتولى أمر المسلمين، ويحكم بأمر الله عز وجل حتى لو اقتضى الأمر تأخير جنازة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز أن يترك منصب الإمامة ولو لساعات قليلة من غير تولية، بل يجب أن يختار ويبايع إمام للمسلمين، وأن يقدم هذا الأمر على كل أمر، كما فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإمامة هي نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، وهي تسمى خلافة وإمامة، والقائم بها خليفة وإماما، فأما تسميته إماما فتشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به، ولهذا يقال: الإمامة الكبرى، وأما(58/231)
تسميته خليفة، فلكونه يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته (1) في إقامة الملة، وتنفيذ شرع الله تعالى.
يقول الإمام أحمد رضي الله عنه (ت 241 هـ) : (الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس) (2) وفي المطلب التالي سوف نتناول بالتفصيل بيعة الصديق رضي الله عنه.
__________
(1) انظر: المقدمة، ابن خلدون، ط [بيروت: المطبعة المصرية، 1979م، ص 151.
(2) انظر: الأحكام السلطانية، أبو يعلى، ط [مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي] ، ص 19.(58/232)
المطلب الثالث: بيعة الصديق رضي الله عنه إماما للمسلمين:
لم يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته أحدا على المسلمين، يتولى الأمر من بعده كما أخبر عمر - رضي الله عنه- (ت: 32 هـ) وذلك لما طعن- إذ قال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني- يعني أبا بكر - وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ولما قيل لعلي - رضي الله عنه- (ت: 41 هـ) : ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد(58/232)
نبيهم على خيرهم.
ومن هنا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا، إلا أنه قد أخبر أن الأئمة من قريش، والخلافة فيهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة (1) » .
ولسائل أن يسأل عن السر في تخصيص قريش بالخلافة والملك؟
والجواب عن هذا السؤال يظهر فيما قاله ابن خلدون في مقدمته: فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وإن ذلك من الكفاية، ولذا اشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها؛ ليستتبعوا من سواهم، وتجتمع الكلمة على حسن الحماية، ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية؛ إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة، وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم، وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة، وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا؛ لأنه سبحانه وتعالى إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمر عباده،
__________
(1) رواه الإمام أحمد. انظر: الفتح، الساعاتي، الباب الثاني مبايعته رضي الله عنه وذكر حديث السقيفة، ج23، ط [القاهرة: دار الشهاب] ص 62 حديث رقم 139. وقد أورده الألباني مع سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 3، ط [الرياض: مكتبة المعارف، الطبعة الثانية 1407هـ، ص 146 رقم 1156.(58/233)
ليحملهم على مصالحهم، ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه (1) .
__________
(1) انظر: المقدمة، ابن خلدون، مصدر سابق، ص 153.(58/234)
الفرع الأول: اتفاق الصحابة الكرام على بيعة الصديق رضي الله عنه:
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وتهيؤوا لاختيار خليفة للمسلمين، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فجاءوهم في السقيفة فإذا هم مجتمعون، وبينهم رجل مزمل يتغطى بثيابه، فقال عمر: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة (ت: 14هـ) . فقال: ما له؟ قالوا: هو وجع مريض، فجلسوا معهم، فلما استقروا في السقيفة، قام خطيب الأنصار، فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد: فنحن أنصار الله عز وجل وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط وجماعة منا، وقد جاءت جماعة منكم معشر المهاجرين يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويأخذوا حقنا، ويخرجونا من هذا الأمر) .
ففي صورة من صور تواضع جند الدعوة وحسن احترامهم لإخوانهم ظلوا يستمعون إلى متحدث الأنصار حتى أتم كلامه من غير أن يقاطعوه مع عدم فناعتهم بكل ما يقول، فلما أتم المتحدث حديثه(58/234)
أراد عمر رضي الله عنه أن يتكلم، فقال الصديق رضي الله عنه: على رسلك! ثم قال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، ولكن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ لأنهم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين؛ فأخذ بيد عمر وبيد أبي عبيدة رضي الله عنهما (ت: 18هـ) . . وعند ذلك قام أحد الأنصار فقال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، فخشي عمر أن يختلف الناس، فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. فقال عمر: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط أبو بكر يده فبايعه، ثم بايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار. فانحسم الأمر، واجتمعت الكلمة على صديق الأمة الذي طالما ناصر الدعوة، وضحى بكل شيء في سبيلها، وقد عرف أتباع الدعوة هذا الفضل له، فاتفقوا على اختياره.(58/235)
الفرع الثاني: أسباب قناعة الصحابة الكرام ببيعة الصديق رضي الله عنه:
كانت مواقف الصديق رضي الله عنه منذ إسلامه تبشر بمستقبل حافل بجلائل الأمور، وكأن الله عز وجل كان يعده من اللحظة الأولى لأمر عظيم، فقد كان أسبق الرجال إلى الإسلام، ولم يعبأ بموقف قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لم يفكر في تجارته التي قد يعتريها الكساد، وجعل ذلك كله في سبيل الدعوة، فخرج من ماله ووقف في أحلك المحن إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستضعفين من أتباع الدعوة رضي الله عنهم (1) .
ولما حدث الإسراء والمعراج رأت قريش أن ذلك هو الذي سيفتن الصديق ويرده عن التصديق، فذهبوا إليه- دون شك منهم في تركه للإسلام بعد سماعه الخبر - ولكنهم صدموا عندما قال لهم: إن كان قال فقد صدق.
وفي يوم الهجرة يبرز جانب من جوانب تضحيته- رضي الله عنه- إذ دخل الغار قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ليتأكد من خلوه من الهوام.
وفي طريق الهجرة كان يسير مرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه وثالثة عن يمينه وأخرى عن شماله، ولما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك أجابه بقوله: يا رسول الله، أذكر الرصد فأمشي أمامك، وأذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الكمين فأمشي مرة عن يمينك
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج 3 ط [بيروت: دار صادر] ص 172.(58/236)
ومرة عن شمالك (1) .
وأما موقفه البطولي الذي دل على شخصية متميزة، فإنه موقفه يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ذاك الموقف الذي عصم الله به الأمة وحفظ به الدعوة.
كل هذه المناقب هي التي جعلت الصحابة الكرام يقولون: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
__________
(1) انظر: دلائل النبوة، البيهقي، ج 2، مصدر سابق، ص 476.(58/237)
الفرع الثالث: أثر الدعوة في اتفاق الآراء بين الصحابة رضي الله عنهم:
لقد تربى أولئك الصحب الكرام في مجتمع الدعوة الأول الذي ينظر فيه الفرد إلى مصلحة الدعوة قبل أن ينظر إلى مصلحته الخاصة، ففي السقيفة كان للاهتمام بالدعوة أثر بالغ في البعد عن الخلاف واتفاق الآراء بين الصحابة الكرام؛ لأن خلافهم ليس مبنيا على حب الدنيا والتكالب عليها وحب المناصب، بل كان دافعه الأول البحث عن الأفضل والأصلح للمسلمين، ولولا هذا الدافع، وتلك التربية الأولى لاستلت السيوف، وأريقت الدماء، وصارت القضية قضية انتصار الأنصار أو المهاجرين، وبدأت حمية الجاهلية.
ومن هذا المفهوم بين الصديق رضي الله عنه سبب قبوله للبيعة(58/237)
فقال: " لقد بايعوني وقبلتها منهم، وتخوفت أن تكون فتنة، وتقع بعدها ردة لو رفضت البيعة " (1) .
وقال أيضا: " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله " (2) .
إن هذه المقولة مبدأ عظيم يحسن بالدعاة أن يحفظوها فيطبقوها، فلا يرى الداعي حريصا على منصب منشغلا بتحصيله دون دعوته؛ لأن طالب ذلك مخوف لا يؤمن جانبه، وحريص ينبغي أن يحترز من حرصه، وسؤاله والحرص عليه مع العلم بكثرة الآفات وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبه لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، ابن كثر، ج 5، ط [القاهرة: مطبعة الفجالة] ص 247.
(2) انظر: تاريخ الإسلام الذهبي ج 3، ط [بيروت: دار الكتاب الحديث، 1407 هـ] ص8.(58/238)
أكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها (1) » .
ويستثنى من ذلك من تعين الأمر في حقه، ورأى أن المصلحة في تقلد هذا المنصب؛ لأنه يحقق مصلحة راجحة لدعوته، فله أن يبادر إلى ذلك، يدل عليه طلب يوسف عليه السلام في قوله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (2) .
وقد تظهر الرغبة في المنصب عند بعض المؤمنين الصادقين ولكنها تزول بالوعظ والتذكير ووجود الكفء لهذا المكان، كما فعل بعض الصحابة الكرام من الأنصار لما ذكروا بفضل الصديق رضي الله عنهم أجمعين، فعرفوا الفضل وأرجعوه إلى أهله وتجردوا من آرائهم ومطالبتهم، وذلك لمصلحة الدعوة.
كما يظهر من موقف السقيفة جانب مهم جدا وهو حق المدعوين في إبعادهم عن مواطن الفتن، فهذا الصديق رضي الله عنه يقبل البيعة قائلا: ولكني أشفقت من الفتنة. فهو إذن يقدم مصلحة الدعوة وأتباعها على مصلحته الشخصية؛ لأن الخلافة ليست له برغبة، بل هي ثقل يخاف منه.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، ج 3، مصدر سابق، ص 1456، حديث رقم 1652.
(2) سورة يوسف الآية 55(58/239)
وكذلك موقف الفاروق رضي الله عنه الذي بادر إلى قطع الخصومة وسكن ثائرة الفتنة وسد ذريعتها بترشيح الصديق رضي الله عنه قائلا: " أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ".
إن الفتن إذا دخلت المجتمع المسلم فإن لها خطورة عظيمة وآثارا شنيعة على العامة والخاصة، ولكنها على العامة أكبر، كما سنرى في فتنة الردة وكيف أن أهل الجزيرة قد ارتدوا ولم يبق إلا أهل المسجدين ومن جاورهما، بل حمل الناس السلاح على ولي الأمر والخليفة الصديق رضي الله عنه.
ولكن الصديق رضي الله عنه استطاع بفضل الله تعالى أن يقضي على هذه الفتنة في الجزيرة كلها بسنة واحدة فقط، فيجدر بالدعاة اليوم أن يتحسسوا مواطن الفتن ويوصدوا الأبواب أمامها؛ لئلا تدخل المجتمع المسلم فتفسده وتذهب ريحه.(58/240)
المبحث الثاني: الأعمال التي قام بها الصديق رضي الله عنه لحفظ الدعوة ونشرها زمن خلافته:
المطلب الأول: اهتمام الصديق رضي الله عنه بالدعوة حال توليه الخلافة:
إن الغاية الأساسية للدعوة هي أن يتحول الناس من الظلمات إلى النور، ومن العمى إلى الهدى، وذلك بدلالتهم إلى الإيمان الكامل بالله وحده لا شريك له وعبادته العبادة الصحيحة.
أو هي انقياد الخلق للحق، ودخولهم في الدين الحق، وذلك(58/240)
بمعرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف التام على حقائق الدين.
قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) ، وقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .
ولقد أدرك أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الغاية إدراكا كاملا، فانطلق بدعوته من منطلق هذه الغاية العظيمة، إذ كان أول ما بدأ به الصديق رضي الله عنه خلافته خطبة عظيمة، عرض فيها الأمور المهمة التي يريد أن يتمها في عهده، فقال: (أما بعد: أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته وآخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم بالذل، ولا يشيع قوم الفاحشة فيهم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة الحديد الآية 9(58/241)
ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) .
إن هذه الخطبة تبين ما كان عليه الصديق رضي الله عنه من كريم خلق وبعد نظر، فهو يوضح لرعيته أن هذا الاختيار الذي تمت على ضوئه البيعة لم يغير في نفسه شيئا؛ لأنه ينظر إليها بعد البيعة كما ينظر إليها قبل البيعة، وذلك هو المبدأ الأول الذي من خلاله يتعامل مع الناس.
ثم عرض لهم المبدأ الآخر وهو المسؤولية المنوطة به تجاه الدعوة ونصرتها ويطلب من سائر المسلمين- بلا استثناء- إعانته على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة أو تقويمه عند خطأ يرتكبه؛ لأن أثر الخطأ في هذا ليس عليه وحده، بل على الأمة والدعوة.
ثم عرض بعد ذلك موقفه من الجهاد في سبيل نشر الدعوة إلى الإسلام، وأن الأمة إذا خذلت الدعوة فتركت الجهاد فإنها ستكون أهلا للخذلان من الله تعالى، وأن يضربها الله بالذل والهوان، فتصير أمة ذليلة حقيرة، ولذا فإنه سيحافظ على كرامة هذه الأمة بأن لا يقف الجهاد، وألا يتخاذل عنه المسلمون مهما تكن الأسباب.(58/242)
ثم حذر مجتمعه الذي تولى شؤونه من ارتكاب الفواحش؛ ليسلم ذلك المجتمع من البلاء الذي ينزله الله تعالى عليهم ببعض ما كسبوا.
وأخيرا ختم خطبته بالتأكيد مرة ثانية على مناصرته في تحمل مسؤوليات الدعوة، طالبا من أفراد المجتمع طاعته ما دام أنه في سبيل الله مطيعا لله ورسوله، فإن أخل بهذه الشروط- وحاشا الصديق أن يتعمد ذلك- فإن لمجتمعه أن يرفضوا طاعته فيما أخل به، وإلا فالبيعة باقية لا تخلع ما دامت المعصية ليست كفرا بواحا.
(لقد اختار الله للمسلمين الخير، عندما ألهمهم انتخاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لهم.
وقد كان أمام أبي بكر واجب كبير، ومهمة عظيمة في تثبيت أركان دولة الخلافة، وحل المشكلات الطارئة الخطيرة التي نتجت عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد وفق الله أبا بكر للرأي الصواب في كل ما واجهه من الأمور والأحداث والمشكلات، ولقد ووجه بمساومات وإغراءات وعروض عجيبة من قبل المخالفين والمرتدين والخارجين؛ ليكفوا عنه وعن المسلمين، ومال بعض الصحابة حوله إلى قبول تلك العروض والمساومات ريثما يتقوى المسلمون.
ولكن الله ألهم أبا بكر رضي الله عنه رفض تلك العروض والمساومات، وعدم القيام بتنازلات، والثبات الوثيق على الكتاب(58/243)
والسنة، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) .(58/244)
المطلب الثاني: امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذه جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما (ت: 54 هـ) :
إن من أهم الأوصاف الإيمانية التي يجب أن يتحلى بها الداعي قوة اليقين بأن وعد الله تعالى حق وقول رسوله صلى الله عليه وسلم صدق، وهذه القوة في اليقين هي التي جعلت الصديق رضي الله عنه يقول من غير تردد: إن كان قال فقد صدق. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءت قريش إلى أبي بكر يحدثونه عن الإسراء والمعراج وهم لا يشكون بأن ذلك سيفتنه (1) .
إن على الداعي أن يكون متيقنا كامل اليقين بأن الله ناصر دينه، ومعل كلمته، ومعز أولياءه، وخاذل أعداءه، وبهذا يكون قد أوصد الباب أمام اليأس والقنوط من أن يتسلل إلى قلبه.
لقد عاش الصحابة الكرام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصدر خلافة الصديق رضي الله عنه في شدة عظيمة؛ لأن كثيرا من الأمة قد
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج3، مصدر سابق، ص 172.(58/244)
انقلبت على أعقابها؛ فمنهم من ارتد بالكلية، ومنهم من منع الزكاة، فاشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق، إلا أن ذلك لم يثن الدعاة المخلصين ولم يفت في عضدهم، بل عرفوا كيف يتعاملون مع هذه الفتنة، وأدركوا بيقين تام أن الله تعالى ناصر الدعوة ومطفئ نار الفتنة، فعملوا جاهدين وضاعفوا الجهود بدلا من الاستسلام، واستطاعوا بفضل الله أولا ثم باجتهادهم ثانيا أن يقضوا على الفتنة، ثم بعد ذلك نشروا الدعوة في البلاد المجاورة وقضوا على القوى العظمى الكافرة في زمانهم.
وإن احتياج الدعاة المعاصرين إلى هذه الصفة احتياج ملح، بل هو ضرورة ماسة؛ لأن الداعية يواجه الناس بما يخالف معتقداتهم ومفهوماتهم في الحياة وأنواع سلوكهم بغية إقناعهم للتحول عن اتجاهاتهم التي هم فيها، والسلوك في صراط الله المستقيم عقيدة وعملا.
ومعلوم أن مفهومات الإنسان وعقائده وأنواع سلوكه جزء من ذاتيته التي يمتلكها وحده، فهو لا يتنازل عنها ما لم يقتنع بالبدائل الأفضل له لينبذها ويأخذ الأفضل ويستمسك به.
ومن طبيعة الناس أنهم حينما يجدون من يعلن خلاف معتقداتهم ومفهوماتهم في الحياة وأنواع سلوكهم، يقفون منه موقف الحذر، ما لم يجدوا الداعي يتحلى بقوة اليقين من دعوته وقوة الإرادة والوثوق من نفسه بما يدعو إليه مع الثبات ورباطة الجأش في إطار الحكمة عند العرض والبيان، فإنهم يشعرون عندئذ بأنه ناصح لهم،(58/245)
وحريص على خيرهم وسعادتهم.
بهذه الصفة العالية تميز الصديق رضي الله عنه في تنفيذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما. قالت عائشة رضي الله عنها (ت: 57 أو 58 هـ) : لما بويع أبو بكر، وجمع الله الأنصار عليه ارتدت العرب قاطبة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم.
فقال أبو بكر: ليتم بعث أسامة، ولينفذ جيش أسامة.
فقال له من حوله: إن جيش أسامة هو معظم المسلمين، عندك، وقد ارتدت العرب، ولا ينبغي لك أن تفرق جماعة المسلمين. فلا بد أن يكونوا عندك.
فقال أبو بكر: والله لا أحل لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في المدينة أحد غيري لأنفذته.
وقال أيضا: أنا أوقف وأحبس جيشا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أكون إذا اجترأت على أمر عظيم. والذي نفسي بيده لأن تميل علي العرب أحب إلى من أن أحبس وأوقف جيشا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. امض يا أسامة في جيشك الذي أمرت به، ثم اغز من حيث أمرك(58/246)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، واعلم أن الله سيكفينا من وراءك وفي رواية أنه قال: والله الذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب أرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
بهذا الحرص التام على تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف الصديق رضي الله عنه أمام من أشار عليه ببقاء الجيش في المدينة خوفا على الدعوة في معقلها الأساس، وأمر أسامة بتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وقال لعمر رضي الله عنه بعدما طلب منه تغيير أسامة لصغر سنه: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة، وأوصاهم وأمرهم بالمسير.
وبدأ المسير، والصديق رضي الله عنه معهم يسير ماشيا وأسامة راكبا، ولما يبلغ العشرين، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: والله لست بنازل ولست براكب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
__________
(1) المصدر السابق 17.(58/247)
ولما كان عمر رضي الله عنه جنديا في جيش أسامة، وكان أبو بكر بحاجة إليه في تسيير أمور المسلمين، فقد استأذن أبو بكر أسامة في أن يبقي عنده عمر، فقال له: إن رأيت أن تبقي عمر عندي في المدينة. فوافق أسامة على ذلك، ولهذا كان عمر لا يلقى أسامة بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير.
وسار أسامة رضي الله عنه في جيشه حتى وصل تخوم البلقاء، فأغار على العرب هناك وهم أعوان الروم، فقتل منهم وسبى آخرين ورجع إلى المدينة، ولم يفقد أحدا من المسلمين بعد أن حقق ما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم منه، واستغرق ذلك أربعين يوما.
وقد أثمر هذا الموقف الذي وقفه الصديق رضي الله عنه للدعوة ثمرة عظيمة؛ لأن أسامة رضي الله عنه لما سار بجيشه صاروا كلما مروا بقبيلة من العرب قال أفرادها: لولا أن المؤمنين أقوياء في المدينة لما بخرج من عندهم هذا الجيش، فخافت تلك القبائل، وتخلت عن مواجهة المسلمين في المدينة.(58/248)
ومن هنا يظهر لنا جليا أن التمسك بالأثر من أهم ضوابط العمل الدعوي التي بمراعاتها يكون العمل صالحا مقبولا.
ولم يكن الصديق وحده المتمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يعتنون غاية العناية بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه، فصاروا موازين يرجع الناس إليهم عند الاختلاف، فبهم تعرف السنة والبدعة؛ لأنهم حفظة الكتاب والسنة، وحملة الإسلام ممتثلين قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
وإن هذا ليعطينا دلالة على أن من أطاع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعض على سنته بالنواجذ، فإن الله جل وعلا ينصره ويمنحه العز والشرف؛ إذ إن الصديق رضي الله عنه عندما أصر على تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم رغم تدهور الأحوال وتغيرها، وانقاد الصحابة الكرام لرأيه، وتمسكوا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلوا المستطاع لتحقيقه نصرهم الله تعالى، ورزقهم الغنائم، وألقى في قلوب الناس هيبتهم، وكف عنهم كيد الأعداء وشرهم. وإن هذا الموقف لصورة تطبيقية لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (2) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة الأحزاب الآية 36(58/249)
المطلب الثالث: دعوة المرتدين ليرجعوا إلى الإسلام:
ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ردة عامة أو ردة خاصة، فمنهم من أنكر الاستجابة لهذه الدعوة بالكلية، ومنهم من امتنع عن الاستجابة لبعضها فمنعوا أداء الزكاة، ولم يبق من العرب على أمر الدعوة إلا أهل المسجدين مكة والمدينة ومن جاورهما.
وقد ادعى بعض أفراد العرب النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم مبتغين الزعامة على العرب، فادعاها طليحة الأسدي وتزعم بني أسد وغطفان، كما ادعاها مسيلمة الكذاب وتزعم بني حنيفة، وادعتها أيضا سجاح بنت الحارث التميمية وتزعمت بني تميم، كما ادعاها آخرون غيرهم.
الفرع الأول: أسباب اتباع الناس لتلك الدعوات المضللة:
إن المطلع على أحوال المتنبئين يدرك بوضوح أنهم إنما كانوا يدعون إلى زعامات شخصية يريدون من وراء ذلك أن تكون لهم(58/250)
تلك المنزلة الرفيعة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع علمهم بأن دعوتهم خالية من الحقيقة إلا أن هناك عوامل أخرى جعلتهم ينجحون في تجميع الأتباع، من أهمها: العصبية القبلية التي جعلت بعض الأتباع يقول: نبي من قومنا أحب إلينا من نبي قريش.
ومن الأسباب أيضا: الهروب من التكاليف التي فرضها الإسلام عليهم، وكانوا من قبل لا يتقيدون بشيء، فوجدوا في متابعة هؤلاء تخلصا من تلك التكاليف؛ لأنهم خففوا عنهم، فنادى بعضهم بمنع الزكاة، وحط بعضهم عمن تبعه فريضتين من الصلاة، ومن هنا ندرك أن دوافع الردة والتنبؤ كانت ترجع إلى العوامل التالية:
أ- الرغبة في الزعامة وحب السيطرة.
2 - العصبية القبلية.
3 - ثقل التكاليف على نفوسهم والرغبة في التخلص منها.
ومما يجدر بالاهتمام أنه مع شيوع ظاهرة التنبؤ في أنحاء الجزيرة، إلا أن التاريخ لم يرو لنا أن واحدا منهم دعا إلى الوثنية، وسعى لإرجاع الناس إليها وتلك قضية جديرة بالاهتمام، فلم لم يدع هؤلاء إلى دين الآباء والأجداد ليكون ذلك دافعا قويا لحنين الناس إلى الماضي القريب؟
الذي يظهر من هذا هو أن الدعوة الأولى - دعوة الإسلام - قد كشفت عورات تلك الديانات الفاسدة، وأظهرت بطلانها للقاصي والداني من الناس، فلم يعد هناك مجال للمناداة بها وتجميع الناس حولها، بل إن الناس جميعا قد أدركوا يقينا أنها حجارة لا تضر(58/251)
ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ومعنى ذلك أن مجرد ذكر الأصنام كفيل بأن ينفر الناس ممن يدعو إليها.
إن الدعوة الأولى قد أحدثت في الناس يقظة عقلية وصحوة ذهنية وجهت كل نواحي الحياة إلى الوجهة الصحيحة.(58/252)
الفرع الثاني: موقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم من هذه الفتنة:
لقد رأى بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم قبول الصلاة من مانعي الزكاة والسكوت عن منعهم إياها؛ لأنهم سيؤدونها عندما يتقوى الإيمان في قلوبهم مرة أخرى، فقالوا لأبي بكر رضي الله عنه: اتركهم وما هم عليه من منع الزكاة، واقبل منهم الصلاة وتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، وبعد ذلك سيدفعون الزكاة (1) .
وقد كانت حجة مانعي الزكاة قولهم: إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (2) فقالوا: إنما ندفع الزكاة لمن صلاته سكن لنا (3) .
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، ج5، مصدر سابق، ص 279.
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ج6، مصدر سابق، ص 311.(58/252)
هكذا كان رأي جمع من الصحابة الكرام، فما رأي الخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه؟
لقد وقف الصديق رضي الله عنه أمام تلك الفتنة موقفا عظيما، كان له أثر في حماية الدعوة من أن ينالها ضرر أو نقص، فقال كلمة تنم عن روح عالية تريد نصرة هذه الدعوة، فقال: (أوينقص الدين وأنا حي؟! والله لو منعوني عناقا- أو عقالا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلنهم وحدي ما استمسك السيف بيدي) .
فجاء عمر إلى الصديق رضي الله عنهما ليحاوره ففال: علام نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ .
فقال الصديق: حتى أنت يا عمر، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ فقال له مثلما تقدم.
قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق (1) » .
__________
(1) رواه الإمام البخاري، انظر: الفتح، ابن حجر، ج 12، ط [مصر: المكتبة السلفية] ، ص 275(58/253)
لقد كان الصواب مع أبي بكر، ولهذا شرح الله صدر عمر وباقي الصحابة الكرام للحق الذي مع أبي بكر فوافقوه على قتال مانعي الزكاة ولو لم يكونوا من المرتدين بالكلية؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (1) ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان (2) » .
بعد ذلك كتب الصديق رضي الله عنه رسالة إلى عامة المسلمين قال فيها:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا، من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والهوى، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبى ذلك ونجاهده، أما بعد:
فإن الله أرسل بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله وسراجا منيرا؛ لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعا أو كرها، ثم توفى الله
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .(58/254)
رسوله، وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) ، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (2) ، وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (3) ، فمن كان إنما يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم ما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعنه الله مخذول، ومن هداه غير الله كان ضالا، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (4) ، ولن يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل.
وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله، وجهلا بأمره بالإسلام، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (5) ،
__________
(1) سورة الزمر الآية 30
(2) سورة الأنبياء الآية 34
(3) سورة آل عمران الآية 144
(4) سورة الكهف الآية 17
(5) سورة الكهف الآية 50(58/255)
وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) .
وإني بعثت إليكم في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقبل من أحد إلا الإيمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز وجل، فإن أجاب وأقر وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، وإن أبى حاربه عليه حتى يفيء إلى أمر الله، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد غير الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله.
وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الآذان، فإذا أذن المسلمون فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا حمل منهم على ما ينبغي لهم) (2) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 6
(2) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 6، مصدر سابق، ص 315، 316.(58/256)
الفرع الثالث: جهود الصديق رضي الله عنه في القضاء على الدعوات المضللة:
لما سير الصديق رضي الله عنه جيش أسامة رضي الله عنه ومضت ثلاثة أيام، عين الصديق رضي الله عنه بعض كبار الصحابة على منافذ المدينة.(58/256)
وعندما أغار على المدينة بعض المرتدين ليلا خرج الصديق إليهم بمن كان معه في المسجد ففر المغيرون، وأدركهم الصديق رضي الله عنه فحصل اللقاء، ووضع الصديق فيهم السيف ثم رجع إلى المدينة، واستقر فيها حتى عاد جيش أسامة منتصرا. بعدها خرج الصديق إلى ذي القصة فعقد أحد عشر لواء لقتال المرتدين، وجعل على كل لواء قائدا، ووجههم جميعا إلى جهات من الجزيرة، وهي الجهات التي فيها الردة.
أولا: القضاء على دعوة طليحة بن خويلد الأسدي (11هـ) :
كان ممن ادعى النبوة ودعا الناس لاتباعه طليحة بن خويلد الأسدي، فاتبعه بنو أسد وغطفان، فأرسل الصديق إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه (ت 21 هـ) على رأس اللواء الأول إلى البزاخة جهة جبال طيئ التي أقام فيها طليحة ومن تبعه من قبائل العرب، وكان الصديق قد بعث عدي بن حاتم (ت 68 أو 67 هـ) ، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة. فذهب عدي إليهم فتمنعوا مدة ثم قبلوا.
وبعد وصول خالد إلى بني طيئ خرج إليه عدي فقال: أنظرني ثلاثة أيام، فإنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى من تعجل منهم إلى طليحة فيرجعوا إليه، فإنهم يخشون إن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إليه منهم، وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى النار. فلما كان بعد ثلاث جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع(58/257)
الحق، فانضافوا إلى جيش خالد، ثم دعا عدي بعض فروع قومه، فجاء أيضا بألف منهم راجعوا الحق.
ثم سار خالد حتى نزل بأجا وسلمى، وهناك التقى بطليحة، فبدأ القتال وطليحة ملتف في كساء يتنبأ فيما يزعم، فانهزم عنه أتباعه، فقام وهرب هو وامرأته إلى الشام.
وبعد مدة من الزمن راجع طليحة الإسلام فذهب إلى مكة معتمرا، واستحى أن يواجه الصديق مدة حياته، ورجع يقاتل مع خالد (1) .
وهكذا انتهت إحدى الدعوات المضللة في جزيرة العرب بفضل الله تعالى أولا، ثم بجهاد الدعاة الغيورين على هذه الدعوة، وكان ذلك في السنة الحادية عشرة للهجرة.
__________
(1) انظر: تاريخ الأمم والملوك، الطبري، ج 3، مصدر سابق، ص 360.(58/258)
ثانيا: القضاء على دعوتي سجاح بنت الحارث ومسيلمة الكذاب (11هـ) :
كانت سجاح بنت الحارث نصرانية داهية ادعت النبوة. قدمت من الجزيرة وبالتحديد من العراق، فدعت الناس لاتباعها، فاستجاب لها بنو تميم وهم قومها، إذ أعلن مالك بن نويرة وغيره من قادة تميم استجابتهم لها، فتوجهت بمن اتبعها إلى اليمامة حيث مسيلمة الكذاب، فلما سمع بمسيرها إليه خافها؛ لأنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن(58/258)
أثال، فبعث مسيلمة إليها ليستأمنها ويعطيها نصف الأرض التي كانت لقريش إذا عدلت.
وعند اجتماعهما للتفاوض على ذلك اتفقا عليه، واتفقا أيضا على الزواج، وبالفعل تم ذلك مباشرة طمعا منهما بأن يكون أتباعهما أكبر جيش في الجزيرة، وجعل مهرها صلاتي الفجر والعشاء.
ولما سمعت سجاح بتوجه خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهما هربت إلى العراق، واستمرت هناك إلى زمان معاوية رضي الله عنه.
وأما مسيلمة الكذاب فقد ظهر في بني حنيفة الذين استطاعوا الانتصار على ثمامة بن أثال وعكرمة بن أبي جهل ومن معه، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد رضي الله عنه عسكر في طرف اليمامة، فحشد أهل اليمامة، فلما قرب خالد أعد جيشه وقومه، وأدخل معه المدد الذي أرسله أبو بكر رضي الله عنه، فاشتبك الجيشان في معركة لم تشهد الجزيرة مثلها، اضطر المسلمون إلى التقهقر قليلا، ولكن بفضل الله تعالى ثم بثبات جند الدعوة تمكن المسلمون من(58/259)
إعادة الكرة، فهزموا مسيلمة، فتراجع إلى حديقة الموت، فدخلها المسلمون وهم يقتلون المرتدين حتى خلصوا إلى مسيلمة، فتقدم إليه وحشي بن حرب رضي الله عنه- قاتل حمزة - فرماه بحربته، فكان جملة من قتل في الحديقة عشرة آلاف مقاتل، واستشهد من المسلمين خمسمائة.
وهكذا قضى الدعاة على دعوتين مضللتين في سنة إحدى عشرة للهجرة.(58/260)
ثالثا: القضاء على ردة أهل البحرين تحت زعامة الحطم بن ضبيعة (11هـ) :
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بعده المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، فلما مات المنذر ارتد أهل البحرين، ولم يبق منهم على الثبات سوى أهل جواثا، فحاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم، فقال أحدهم:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود في جواثا محصرينا
كأن دماءهم في كل فج ... شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا(58/260)
فبعث إليهم الصديق العلاء بن الحضرمي. رضي الله عنه (ت: 14 هـ) فأكرمه الله تعالى ببعض الكرامات. ولما اقترب من جيوش المرتدين نزل وبات الجيش، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتا عالية قي جيش المرتدين، فأرسل رجلا ليكشف الخبر، فوجدهم سكارى، فركب العلاء إليهم ووضع فيهم السيف، ولم ينج إلا القليل، وكان الحطم بن ضبيعة نائما فقام فزعا وركب جواده فانقطع ركابه، فجعل يقول: من يصلح لي ركابي؟ فجاء رجل من المسلمين في الليل وقال: أنا أصلحها لك، ارفع رجلك فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه، فقال الحطم: أجهز علي. فقال: لا أفعل، وصار يسأل كل من مر عليه أن يقتله، والمسلمون يأبون حتى مر أحدهم فقتله، فلما وجد رجله مقطوعة ندم (1) .
وهكذا قضي على ردة أهل البحرين، واستقام الأمر فيها للمسلمين. وتلك من أهم حوادث الردة التي استطاع أبو بكر رضي الله عنه القضاء عليها، فعادت دولة الإسلام قوية منصورة، ولله المنة والفضل.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، جـ 6 مصدر سابق، ص 327، 328(58/261)
المطلب الرابع: جمع مصدر الدعوة الأول (القرآن الكريم) :
عن زيد بن ثابت. رضي الله عنه (ت: 56 هـ) قال: أرسل إلي أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني. فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن يجمعوه، وإني لأرى أن يجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، فرأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك شاب عاقل ولا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، فقلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع(58/262)
خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (1) إلى آخرها، فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (2) .
ومن شدة حرصهم رضي الله عنهم على التأكد من صحة آيات القرآن الكريم كان زيد وعمر لا يقبلان من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان وذلك بأمر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه قال لهما: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. فبدأ زيد، واستغرق ذلك سنة تقريبا. .
وبهذا حفظ الله تعالى مصدر الدعوة الأول الكتاب الكريم من التحريف أو الضياع أو النسيان، وصدق الله تعالى إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) رواه الإمام البخاري، كتاب التفسير، باب سورة براءة، جـ 6، مصدر سابق، ص 89.
(3) سورة الحجر الآية 9(58/263)
المطلب الخامس: نشر الدعوة عن طريق الجهاد:
إن أي دعوة في الدنيا لا بد لها من حملة يحملونها ويدافعون عنها وينشرونها بين الناس، وقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة(58/263)
الإسلامية وجاهد في سبيل الله من أجل نشرها.
ولما كانت الدعوة إلى الله تعالى دعوة عالمية وللناس كافة فقد كلف الله تعالى المسلمين بنشرها في كل زمان ومكان، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (3) .
لذلك عندما استخلف الصديق رضي الله عنه تحمل مسئولية نشر الدعوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مثالا للأمانة والقوة في حمل العبء، فقضى على فتنة المرتدين وجعل عهده عهد كفاح وجهاد، امتدادا لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الصديق رضي الله عنه يرى أنه لا مناص أمامه من فتح البلاد التي تدين بغير دين الإسلام لكي يؤمن الطريق أمام الدعوة لتأخذ طريقها إلى قلوب الشعوب، فتختار ديانتها دون إكراه؛ لذلك سيرت الجيوش إليها، وعند وصولها بدأت الدعوة، ثم عرض الخصلتين
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة الأنفال الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 29(58/264)
الأخريين كما سيأتي. فالجهاد إذن لتخليص الإنسانية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام.
وكان بدء الفتوحات مع بداية السنة الثانية عشرة للهجرة من خلال جبهتين ضد الكفار:
الأولى: الجبهة العراقية في جهاد الفرس.
الثانية: الجبهة الشامية في جهاد الروم.
وسنتناول هذه الفتوحات فيما يلي بالتفصيل:(58/265)
الفرع الأول: نشر الدعوة في العراق (12 هـ) :
كان ابتداء فتوحات العراق بمسير خالد بن الوليد (ت: 21 هـ) رضي الله عنه من اليمامة إلى العراق بأمر من الصديق رضي الله عنه؛ إذ أمره بأن يأتي العراق ويتألف الناس، ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم. وأمره- أيضا- ألا يكره أحدا على المسير معه، وألا يستعين بمن قد ارتد وإن عاد إلى الإسلام، وكان ذلك في المحرم من سنة اثنتي عشرة للهجرة، فجعل طريقه البصرة.
وعند مسير خالد رضي الله عنه نزل بقريات من سواد بغداد فصالحه أهلها بعد قتال دار بينهم وبين خالد، فكتب لهم خالد كتاب الصلح.
بعد ذلك سار خالد حتى نزل الحيرة. فخرج إليه أهلها فقال(58/265)
لهم: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقالوا: ما لنا في حربك من حاجة. وأعطوه الجزية، ثم قال لهم خالد مبينا أن إسلامهم أحب إليه من مالهم، قال: تبا لكم، إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها.
وبعد ذلك بعث كتابا إلى أمراء كسرى بالمدائن يدعوهم فيه إلى الإسلام، ويبين لهم استعداد جنده للموت في سبيل هذه الدعوة التي يحملونها.
كما بعث خالد رضي الله عنه إلى هرمز صاحب الأيلة كتابا يدعوه فيه، فجمع هرمز جموعا كبيرة وسار بهم إلى كاظمة، وجعلهم يتقرنون بالسلاسل لئلا يفروا، فقدم خالد بمن معه من الجيش فنزل تجاههم على غير ماء، فأكرمهم الله تعالى إذ بعث سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران.
ولما تواجه الصفان ترجل هرمز، ودعا إلى النزال، فترجل خالد،(58/266)
وتقدم إلى هرمز، فبدأت المبارزة التي انتهت بقتل هرمز، فانهزم أهل فارس، فغنم المسلمون منهم وقر ألف بعير، وسميت هذه المعركة ذات السلاسل. فبعث خالد إلى الصديق بالبشارة والخمس، وبعث خالد الأمراء يمينا وشمالا يحاصرون حصونا هنالك ففتحوها عنوة وصلحا، ولم يتعرض الجيش للفلاحين ولا أولادهم، بل عرض لمن قاتل من أهل فارس (1) .
ثم تتابعت الفتوحات واصطدم جيش خالد بجنود الفرس في كل من المذار والولجة وأليس والأنبار (2) وعين التمر والمصيخ والبشر.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، جـ 6، مصدر سابق، ص 244.
(2) الأنبار: مدينة على الفرات في غربي بغداد، انظر: معجم البلدان، الحموي، جـ 1، مصدر سابق ص 248.(58/267)
والفراض، فكان إذا افتتح بلدا أقام فيها أميرا من قبله (1) .
وبعد أن تم لخالد ذلك توجه إلى مكة حاجا في سنة ثنتي عشر للهجرة، فعلم أبو بكر فيما بعد فعتب عليه لمفارقته جيشه، ثم أمره بالتحرك إلى الشام فتولى مكانه المثنى بن حارثة (2) . (ت: 14 هـ)
ولما علم الفرس بغيبة خالد فرحوا فبعثوا إلى نائبه المثنى جيشا كثيفا نحوا من عشرة آلاف، فالتقى الجيشان واقتتلوا قتالا شديدا، فانتصر المسلمون وغنموا مالا عظيما وفرت الفرس.
ثم إن المثنى استبطأ أخبار الصديق فسار إلى المدينة، ولما وصلها وجد الصديق في آخر مرض الموت، فلما رأى الصديق المثنى قال لعمر: إذا أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس لحرب أهل العراق مع المثنى (3) .
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، جـ 6، مصدر سابق، ص 344- 352.
(2) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، جـ 6، ص 352.
(3) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، جـ 7، مصدر سابق، ص 17.(58/268)
الفرع الثاني: نشر الدعوة في الشام (13هـ) :
بدأت الدعوة الإسلامية بإرسال الكتب إلى الملوك والأمراء سنة سبع للهجرة، فقام شرحبيل بن عمرو الغساني بقتل رسول النبي(58/268)
صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم حملة زيد بن حارثة. (ت: 8 هـ) إلى مؤتة. ثم تبوك سنة تسع للهجرة، ثم حملة أسامة سنة 11 هـ التي نفذت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي عهد الصديق رضي الله عنه، وبعد أن رجع من الحج سنة 13هـ وجه خالد بن سعيد بن العاص إلى تيماء لتكون معسكرا للمسلمين، ولكن خالدا التقى بالروم فانهزم وانسحب الجيش الإسلامي من أمام الروم بقيادة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه.
وفي صفر من سنة 13 هـ تجمع المجاهدون بالجرف، فبعث أبو بكر أربعة ألوية: الأول: نحو دمشق بقيادة يزيد بن أبي سفيان(58/269)
(ت: 18 هـ) ، والثاني: نحو الأردن بقيادة شرحبيل بن حسنة، والثالث: نحو حمص بقيادة أبي عبيدة بن الجراح (ت: 18 هـ) ، والرابع: نحو فلسطين بقيادة عمرو بن العاص.
ولما سمع هرقل بهذه الألوية أعد مئات الألوف للقاء الجيش الإسلامي قدرت بمائتين وأربعين ألفا، في حين كان عدد الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألفا.
وأمام هذا العدد الضخم وتفرق جيش المسلمين اقترح عمرو رضي الله عنه تجمع جيش المسلمين، فاجتمع الجيش في اليرموك. وفي الوقت نفسه وجه أبو بكر خالد بن الوليد مع نصف جيش العراق لمساعدة المجاهدين في الشام، فتوجه خالد ووصل إلى اليرموك في خمسة أيام.، واجتمعت الجيوش تحت قيادته، والجيش يضم ألف من الصحابة الكرام منهم مائة بدري (1) .
الدعوة إلى الله تعالى في اليرموك (13 هـ) :
لما اجتمعت الجيوش في اليرموك بعث الروم إلى المسلمين يريدون رجلا من خيار المسلمين وعظمائهم، فأرسل إليهم أبو عبيدة خالد بن الوليد رضي الله عنهما وقال: القهم وادعهم إلى الإسلام،
__________
(1) تاريخ دمشق، ابن عساكر، جـ1 ط 1 [مصورة عن مخطوطة الظاهرية] ص 529.(58/270)
واعرض عليهم الخصلتين إن أبوا ذلك.
فذهب خالد إليهم، وجلس مع قائدهم ماهان، وأخذ ماهان يثني على خالد بحكمته ودهائه، ثم قال: أتحتاج إلى مشورة هذا الرجل معك وأنت على هذه الحكمة والدهاء؟
فقال خالد: إن في عسكرنا لأكثر من ألفي رجل، كلهم لا يستغنى عن رأيه، وعن مشورته. فقال ماهان: إني أريد أن ألقي الحشمة فيما بيننا، فإن شئت بدأناك بالكلام، وإن شئت أنت فتكلم.
فقال خالد: ما أبالي أي ذلك كان، أما أنا فلا أخالك إلا وقد علمت، وبلغك ما أسأل وما أطلب، وأدعو إليه، وقد جاءك بذلك أصحابك.
فقال ماهان: الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك، وأمتنا خير الأمم.
فقطع عليه خالد الكلام، وقال: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الأنبياء، وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلا كبعضنا، فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا، إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبر.
والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقر بالذنب، وتستغفر الله منه، وتعبد الله وحده، لا تشرك به شيئا، قل الآن ما بدا. فاصفر وجه ماهان.
فتكلم ماهان مرة ثانية، وقال: الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا، وأغنانا ونصرنا، فقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن إليهم، فلم يرعنا إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال،(58/271)
وقد طلب هذا منا قبلكم من هو أكثر منكم عددا، وأعظم مكيدة، ثم رددناهم فلم يرجعوا إلا وهم بين قتيل وأسير، ولم تكن أمة من الأمم عندنا بأرق منكم شأنا، ولا أصغر أخطارا، إنما جلكم رعاء الشاء والإبل، وأهل البؤس والشقاء، وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلا جهد نزل بكم، فأخذتم الذهب والفضة منا فهو لكم، فإن أبت أنفسكم إلا أن تحرصوا وتشرهوا، وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما يقوى به الضعيف منكم فعلنا، ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار، ونأمر لك بمثلها، ونأمر لرؤساكم بألف دينار، ولجميع أصحابكم بمائة دينار، على أن توثقوا لنا بالأيمان المغلظة ألا تعودوا إلى بلادنا.
فقال خالد: الحمد لله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن كل ما ذكرت من العز والتمكين في البلاد، وما ذكرت من إنعامك على جيرانك منا فقد عرفناه، وذلك لأمر تريدونه، ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم دخلوا معكم في دينكم فهم يقاتلوننا معكم؟
وإني سأقص عليكم قصتنا، وأدعوك إلى حظك إن قبلت.
ألا إنا كنا أمة أنزلنا الله- له الحمد- منزلا ليست به أنهار جارية، ولا يكون به الزرع إلا القليل، نقطع أرحامنا، ونقتل أولادنا خشية الإملاق، ويأكل قوينا ضعيفنا، نعبد من دون الله أربابا ننحتها بأيدينا.
فبينما نحن كذلك على شفا حفرة من النار، إذ بعث الله فينا رسولا، دعانا إلى الله وحده، وقال لنا: لا تتخذوا من دون الله ربكم إلها ولا وليا ولا نصيرا، ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا.(58/272)
وقال لنا: قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وكل من زعم أن لله ولدا، وأنه ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويدخلوا في الإسلام، فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وهم إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فإن هم أبوا فاعرضوا عليهم الجزية، فإن فعلوا فاقبلوا، وكفوا عنهم، وإن أبوا فقاتلوهم، فإنه من قتل منكم كان شهيدا، وأدخله الله الجنة، ومن قتل من عدوكم قتل كافرا، وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا.
ثم قال خالد: وهذا- والله الذي لا إله إلا هو- ما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم فعلمنا، وأمرنا به أن ندعو الناس إليه، فندعوهم إلى الإسلام، فإن فعلتم فأنتم إخواننا، فإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد- والله- جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة، فاخرجوا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله، فقد قال الله سبحانه حكاية عن موسى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1) .
فقال ماهان: إن هذه الأرض كانت لقوم قبلنا فأخذناها منهم، فابرزوا على اسم الله، فإنا خارجون إليكم. فخرجوا فكانت العاقبة لدعوة الفاتحين، والأمر لله من قبل ومن بعد.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 128(58/273)
وفي معركة اليرموك كذلك تقدم جرجه حتى كان بين الصفين، ونادى: ليخرج إلي خالد. فخرج إليه خالد رضي الله عنه وأقام أبا عبيدة مكانه، فوافقه بين الصفين حتى اختلفت عنقا دابتيهما، وقد أمن كل منهما صاحبه.
فقال جرجه: يا خالد، اصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه، فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟
فقال خالد: لا.
- فبم سميت سيف الله؟
- إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن باعده وكذبه وقاتله، ثم إن الله أخذ بقلوبنا فهدانا به، فتابعناه، فقال: «أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين (1) » ، ودعا لي بالنصر، فسميت بذلك.
- يا خالد، أخبرني إلام تدعوني؟
- إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله.
- فمن لم يجبكم؟
- فالجزية، ونمنعهم.
- فإن لم يعطها.
- نؤذنه بحرب، ثم نقاتله.
-فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/8) .(58/274)
- منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.
ثم أعاد جرجه: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر؟
- نعم وأفضل.
- وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
- إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا لأننا رأينا خبر السماء ينزل، والحجج تتابع، وأنتم لم تروا شيئا، ولم تسمعوا من الحجج والعجائب ما سمعنا، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.
- بالله لقد صدقتني، ولم تخادعني، ولم تألفني؟
- بالله لقد صدقتك، وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة.
- علمني الإسلام.
- فمال إليه خالد رضي الله عنه إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى ركعتين.
فظن الروم أن دخول قائدهم في صفوف المسلمين إيذانا لهم بالهجوم فهجموا، ولكنهم صدموا لما رأوا قائدهم يقاتلهم مع المسلمين، وما علموا أن الله قد شرح صدره للإسلام، وأن مجادلة(58/275)
خالد ومناقشته اللينة معه كان لها أعظم الأثر على قائد عظيم جاء ينشد الحق، فتزعزع صف الروم، وهزموا بإذن الله، ولله عاقبة الأمور.
وقبل وقعة اليرموك أرسل ماهان رجلا إلى أبي عبيدة رضي الله عنه، فلما وصل وحضرت الصلاة جعل ينظر إليهم، وبعدها سأل أبا عبيدة رضي الله عنه، فقال: أيها الرجل، متى دخلتم في هذا الدين؟ ومتى دعوتم الناس إليه؟
قال أبو عبيدة: دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول، ومنا من أسلم بعد ذلك.
- هل أخبركم رسولكم أنه يأتي بعده رسول؟
- لا، ولكنه أخبرنا أنه لا نبي بعده، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه.
- أنا على ذلك من الشاهدين، إن عيسى ابن مريم قد بشرنا براكب الجمل، وما أظنه إلا صاحبكم. ثم قال: أخبروني عن قول صاحبكم في عيسى ابن مريم ما كان؟ وما قولكم أنتم فيه؟
- قول صاحبنا قول الله تعالى، وهو أصدق القول وأبره، قال في عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) ، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (2) إلى قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 59
(2) سورة النساء الآية 171
(3) سورة النساء الآية 172(58/276)
أشهد أن هذه صفة عيسى نفسه، وأشهد أن نبيكم صادق، وأنه الذي بشرنا به عيسى، وأنكم قوم صدق، ثم قال: ادع لي رجلين من أول أصحابكم إسلاما، وهما فيما ترى أفضل من معك. فدعا له معاذ بن جبل (ت: 18) ، وسعيد بن زيد (ت: 50 هـ) رضي الله عنهما، فقال: أتضمنون لي الجنة إن أنا أسلمت وجاهدت معكم؟ قالوا: نعم، إن أنت أسلمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة. قال: فإني أشهدكم أني من المسلمين. ففرح المسلمون بإسلامه.
لقد خرج جيش الدعوة وهو مدرك لغايتها؛ لأن الخليفة لما يرسل الجيش يبين لهم الغاية التي خرجوا من أجلها حتى لا ينظر أحد الجند خارج إطار هذه الغاية السامية فيكون خذلانا للدعوة وجندها في سيرتهم ومسيرتهم.
وعند التقاء الجيشين يبدأ الخطباء من القادة والعلماء بتذكير(58/277)
الجند غاية خروجهم قبل دخول المعارك، كما يبينون لأهل البلاد المراد فتحها- كما مر معنا- فليسوا راغبين بالأموال والأراضي؛ لأنهم جعلوا السيف آخر الحلول لديهم.
ومن هنا عرف الغاية جميع الأطراف، فعرفها القائد الأول، كما عرفها الجندي المسلم، وكما عرفها أيضا أهل البلاد المجاورة؛ ليعلم هؤلاء الدافع الذي جاء بهذا الجيش إلى بلادهم.
شبهة وردها:
إن استخدام السيف الذي حاول بعض أعداء الدعوة تشويه صورة الإسلام والمسلمين لاستخدامهم إياه لم يكن إلا مرحلة أخيرة بعد عرض الدعوة، ولم يلجأ إليه الدعاة إلا للوقوف بقوة في وجه شرذمة من الناس، كانوا يحملون غيرهم من الضعفاء على أن يكونوا مستعبدين لهم، تلك الشرذمة التي طغت ولم تعترف إلا بمنطق القوة، فكان استعمال السيف فيهم هو الدواء الناجح لحملهم على الإذعان أو لاستئصال شأفتهم وإراحة الدعوة منهم حتى تأخذ الدعوة طريقها الصحيح إلى قلوب المستضعفين من شعوبهم. وهذا ما شهد به بعض أتباع أهل هذه الشبهة إذ يقول: أذن الإسلام لرسوله(58/278)
بالجهاد لرفع الظلم ولإزالة العقبات التي تقف في وجه الدعوة للإسلام، تلك الدعوة التي لا تكره أحدا على الدخول في هذا الدين، وإنما تدعو الناس إليه وتترك لهم الحرية الكاملة للاختيار (1) .
إنها جهاد قام على الإنصاف، امتثل فيه الدعاة قول الله جل وعلا: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا} (2) .
فهو ليس حرب عدوان وظلم، ولا حرب تسلط واستعمار، ولا حرب سلب ونهب، ولكنه جهاد رحمة، له قواعده وآدابه، جمعها الصديق رضي الله عنه في وصيته لجيش أسامة وغيره، إذ قال: قفوا أوصكم بعشر، فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا إلا لمأكله (3) .
إننا نحن المسلمين مقتنعون أتم القناعة بهذه الحقائق عن الإسلام وعن جند الدعوة، إلا أنه مما يلحظ أن هذه القناعة والتأثير امتدا إلى غير المسلمين أصلا الذين يحاولون أن يقللوا من هذا التأثير، ولكن الله تعالى أنطق أقواما منهم بهذه الحقائق وأجراها على
__________
(1) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، مرجع سابق، ص288
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) انظر: تاريخ الأمم والملوك، الطبري، جـ 3، مرجع سابق، ص 226، 227.(58/279)
ألسنتهم، وإليكم جزءا منها:
أقوال غير المسلمين عن الدعوة وجندها:
أولا: يقول د. نظمي لوقا Dr. Luka: (ما أرى شريعة أدعى للإنصاف، ولا أنفى للإجحاف والعصبية من شريعة تقول: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. فأي إنسان يكرم نفسه وهو يدينها بمبدأ دون هذا المبدأ، أو يأخذ بدين أقل منه تساميا واستقامة) (1) .
ويقول مارسيل بوزار M. poizar: (. . . منذ بدء الفتح
__________
(1) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، ص 236.(58/280)
العربي الإسلامي، كان المحاربون المسلمون قد فرضوا على أنفسهم روحا من التسامح مع غير المسلمين ومع الشعوب المغلوبة. وفي زمن لم يكن فيه العنف يعرف شرعا ولا عاطفة، أصدر أبو بكر - رضي الله عنه- أول خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم إلى جنوده التعليمات المشهورة المرنة كثيرا التي تختصر الروح الخلقي للقانون الإسلامي. . .) (1) . .
ويقول بيجي رودريك peggy Raderik (2) : (. . . ما أن كان الإسلام يدخل بلدا من البلدان المفتوحة حتى يقبل أهلها جميعا على اعتناقه ويعاملون معاملة الفاتحين سواء بسواء، ومن احتفظ منهم بدينه لقي أكرم معاملة) (3) .
كما يقول أيضا: (قوانين الحرب في الإسلام تعتبر أكثر القوانين إنسانية ورأفة، فهي تضمن السلامة التامة للنساء والولدان والشيوخ وجميع غير المحاربين. فليس هناك في نظر الإسلام أبشع من جريمة قصف المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومساكن المدنيين في المنطقة المعادية، وإنما يجعل الإسلام لهذه المرافق الإنسانية قدسيتها ويحذر من المساس بها، فهذه هي الوصية التي كان يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قادة المسلمين، وكذلك كان موقف الخلفاء الراشدين من بعده- رضي الله عنهم- بل لقد ظلت هذه سمة بارزة في جميع الحروب
__________
(1) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، ص 274.
(2) تقدمت ترجمته في هامش رقم 2 ص 55
(3) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، مرجع سابق، ص 287.(58/281)
الإسلامية على مر العصور. .) (1) .
ويقول روم لاندو R. Landau: (في عصر كان السلب والنهب هو القاعدة التي يتبعها كل جيش منتصر لدى دخوله مدينة ما، يبدو العهد الذي أعطاه خالد بن الوليد رضي الله عنه لأهل دمشق إنسانيا إلى أبعد الحدود ومعتدلا إلى أبعد الحدود. ويبدو جليا في الواقع أن الكتائب العربية اعتبرت نفسها محررة للشعب المضطهد وحاملة رسالة الإسلام إليه في أن معا. وقد اتخذ من شروط الاستسلام هذه نموذج احتذي فيما بعد عند فتح المدن السورية والفلسطينية الأخرى) (2) .
ويقول ول ديورانت W. Durant: (. . . إن الخلفاء من
__________
(1) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، ص 288.
(2) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، ص 311.(58/282)
أبي بكر رضي الله عنه إلى المأمون قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم، وإنهم كانوا من أقدر الحكام في التاريخ كله. ولقد كان في مقدورهم أن يصادروا كل شيء أو أن يخربوا كل شيء، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوروبيين لكنهم لم يفعلوا هذا. . كانت العراق قبل الفتح الإسلامي صحراء جرداء فاستحالت أرضها بعده جنانا فيحاء، وكان كثير من أرض فلسطين قبيل الفتح رملا وحجارة، فأصبحت خصبة غنية عامرة بالسكان. . لقد أمن الخلفاء الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيأوا الفرص لذوي المواهب، ونشروا الرخاء مدى ستة قرون في أصقاع لم تر قط مثل هذا الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم، وازدهرت العلوم والآداب، والفلسفة، والفنون ازدهارا جعل آسية الغربية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة) (1) .
__________
(1) انظر: قالوا عن الإسلام، خليل، ص 359.(58/283)
المبحث الثالث: اهتمام الصديق بالدعوة عند وفاته رضي الله عنه:
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب سحولي، ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين. قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين. قال: أرجو فيما بيني وبين الليل. فنظر إلى(58/283)
ثوب عليه كان يمرض فيه، به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما. قلت: إن هذا خلق. فقال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة. فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح.
وقد كانت وفاته رضي الله عنه في جمادى الآخرة من سنه ثلاث عشرة من الهجرة وله ثلاث وستون سنة (1) ، وأما مدة ولايته فسنتان ونصف (2) .
ومما ورد من وصاياه قبل موته مما يدل على علمه وإيمانه وحرصه على الدعوة لما مرض رضي الله عنه مرض الموت قال لعثمان رضي الله عنه (ت: 35 هـ) اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يصدق الكاذب،
__________
(1) صحيح مسلم، جـ 4، ط [مصر: دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى] ص 1826.
(2) انظر: المعجم الكبير، الطبراني، جـ 1، مصدر سابق، ص 14.(58/284)
ويؤدي الخائن، ويؤمن الكافر، إني استخلفت بعدي عمر بن الخطاب، فإن عدل فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وجار فلا أعلم الغيب، ولكل امرئ ما اكتسب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1) .
وبعد ذلك أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:
اتق الله يا عمر وإن وليت على الناس غدا، واعلم أن لله عز وجل عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.
وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأخاف أن لا ألحق بهم. وإن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء. ليكون العبد راغبا راهبا، لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمته.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 227(58/285)
فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت، وهو آتيك، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجزه.
بهذه الكلمات العظيمة المؤثرة عهد الصديق إلى الفاروق أمر الأمة والدعوة، وقلده المسؤولية، فكان لها أهلا وناصرا، فرضي الله عنهما وأرضاهما.(58/286)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام علي النبي الأمي إمام المرسلين وسيد الخلق أجمعين، أما بعد:
فلله الحمد والمنة، وله الفضل على إتمام هذه النعمة، حيث استكمل هذا البحث موضوعاته بعد جهد واطلاع، أسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان الحسنات، وأن يقبله من الباقيات الصالحات.
وإذ بلغ البحث نهايته فإن من المناسب أن أسرد النتائج التي وصل إليها هذا البحث، وهي على النحو التالي:
ا- أن الأمة المصطفاة لوراثة كتاب الله والدعوة إليه هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم يتقدمها خير القرون.
2 - معرفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم بأهمية اختيار الإمام(58/286)
وخطورة ترك الأمة ولو لساعات من غير أن يتولى أمرها إمام يحميها ويدير شئونها.
3 - أن بيعة الصديق رضي الله عنه كانت برضى الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وأن للدعوة أثرا في اتفاق آرائهم حول أبي بكر رضي الله عنه.
4 - أن أبا بكر رضي الله عنه قد قام بأعمال جليلة لحفظ الدعوة ونشرها زمن خلافته.
5 - أن الصديق رضي الله عنه كما اهتم بالدعوة حال توليه الخلافة، فقد اهتم بها حتى في ساعات احتضاره ووداعه للدنيا؛ فلم يزل حريصا على ما يحفظ للدعوة وجندها وحدتها وقوتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.(58/287)
صفحة فارغة(58/288)
العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ومعالم منهجه الأصولي
للدكتور \ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله السديس (1) .
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه وسلك سبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن للعلماء في هذا الدين مكانة كبرى، ومنزلة
__________
(1) الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة أم القرى وإمام وخطيب المسجد الحرام.(58/289)
عظمى، فهم ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، والأمناء على ميراث النبوة، هم كواكب الأرض المتلألئة وشموسها الساطعة، وأطنابها القوية، وأوتادها المتينة، هم للأمة مصابيح دجاها، وأنوار هداها، هم الأعلام الهداة والأئمة التقاة، أضواء تنجلي بهم غياهب الظلم، وأقطاب تدور عليهم معارف الأمم، تتبدد بنور علمهم سحب الجهل، وغيوم العي، هم أهل خشية الله، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) ، قرنهم الله بنفسه في الشهادة على وحدانيته فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) ، وضمن الله لهم العلو والرفعة، فقال جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3) .
كما أنهم شهداء الله في أرضه وخلفاء رسوله في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم حفظ الله الدين، وبه حفظوا. وما عزت الأمم وبلغت القمم وشيدت الحضارات وقامت الأمجاد إلا بالعلماء، مثلهم في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة (4) وفي المسند والسنن
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) سورة آل عمران الآية 18
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) ورد بهذا المعنى حديث خرجه أحمد في المسند 3 \ 157.(58/290)
من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب (1) » .
يقول الإمام أحمد رحمه الله في معرض فضائلهم ومآثرهم: (يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) .
وإنما تبوأ العلماء هذه المكانة لما يضطلعون به من تبليغ علوم الشريعة التي هي مادة حياة القلوب والمقربة لعلام الغيوب، فبالعلم الشرعي تبنى الأمجاد وتشاد الحضارات وتبلغ القمم وتمحى غياهب الظلم، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (2) .
__________
(1) انظر: 5 \ 196 من المسند، 3 \ 317 من سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، 4 \ 153 من سنن الترمذي، كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة.
(2) سورة الأنعام الآية 122(58/291)
وإن من أهم علوم الشريعة وأجلها قدرا وأعظمها أثرا وأكثرها فائدة وأكبرها عائدة علم أصول الفقه؛ لأنه الطريق لاستنباط الأحكام الشرعية، فهو منهل الأئمة ومأوى المجتهدين ومورد المفتين، لا سيما عند النوازل والمستجدات.
ولقد زخر تاريخ الإسلام بكوكبة من علماء الأصول في مختلف العصور، مثلوا منارات عالية في سماء العلم والمعرفة، كما شهد عصرنا الحاضر نخبة مميزة من علماء الأصول يعدون امتدادا لسلفهم من الأصوليين، بل إنه نتيجة لاستقرار المناهج الأصولية ونضج التفكير الأصولي المرتبط بالمنهج الصحيح لدى صفوة منهم أصبح من المهم إبراز منهج هؤلاء ودراسة حياتهم العلمية ومناهجهم الأصولية، لما لذلك من الأثر الكبير والخير الوفير على الباحثين وطلاب العلم عامة، والمهتمين منهم بالأصول على سبيل الخصوص.
ولقد كان من أعلام هذا العصر في العلوم الشرعية كافة وعلم الأصول خاصة شخصية علمية أصولية نادرة جديرة بالدراسة والإبراز والاهتمام، ذلكم هو العلامة الأصولي الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله.
ونظرا لما يمثله الشيخ رحمه الله من مكانة علمية وأصولية، ولما يتمتع به من منهج متميز وحاجة المكتبة الأصولية فيما أرى إلى بحث مستقل يبرز منهجه ويجلي طريقته، فقد عزمت على أن أقدم بحثا في ذلك؛ إسهاما في البحث العلمي ومشاركة في إبراز المنهج الأصولي لعلمائنا الأفذاذ، وفاء بحقهم علينا وربطا للأجيال بعلمهم ومنهجهم، وقد رأيت أن يكون عنوان هذا البحث (الشيخ عبد الرزاق عفيفي(58/292)
ومعالم منهجه الأصولي) .
ويشتمل البحث على مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة.
التمهيد:
يشتمل التمهيد على ترجمة مختصرة للشيخ رحمه الله تضم تسعة مطالب، هي:
الأول: اسمه ونسبه.
الثاني: ولادته ونشأته.
الثالث: طلبه للعلم وحياته العلمية.
الرابع: شيوخه وأقرانه.
الخامس: حياته العملية.
السادس: صفاته وأخلاقه.
السابع: تلاميذه.
الثامن: وفاته.
التاسع: آثاره العلمية ومؤلفاته.(58/293)
المطلب الأول: اسمه ونسبه:
هو الشيخ عبد الرزاق عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف النوبي المصري أصلا ومنشأ والنجدي موطنا ووفاة.(58/293)
المطلب الثاني: مولده ونشأته:
ولد رحمه الله في مصر في قرية تسمى (شنشور) في محافظة المنوفية سنة 1323هـ ونشأ رحمه الله نشأة دينية علمية، فحفظ القرآن صغيرا، وأقبل على المتون العلمية في العقيدة والحديث والفقه واللغة ونحوها فاستظهرها لما من الله عليه بالذكاء وقوة الحافظة.(58/293)
وكان مجتمع القرية الصغير المحافظ والجو الأسري المترابط خير معين له على هذه النشأة الدينية العلمية.(58/294)
المطلب الثالث: طلبه للعلم وحياته العلمية:
تدرج الشيخ رحمه الله في سلك التعليم، فالتحق أولا بالكتاتيب لتعلم القراءة والكتابة، وهي ما يعرف اليوم بالمرحلة الابتدائية، وبعدها التحق بأحد المعاهد الأزهرية التي تعادل المتوسطة والثانوية، ثم التحق بالجامع الأزهر قبل أن يكون جامعة وتخرج منه ونال الشهادة العالية، ثم حاز شهادة التخصص، ثم حصل على الشهادة العالمية العالية. وجمع رحمه الله بين الدراسة النظامية والأخذ من الشيوخ مع حرصه الخاص على القراءة والتحصيل حتى بز الأقران، وفاق الخلان، وأشير إليه بالبنان بين زملائه ومجالسيه.(58/294)
المطلب الرابع: شيوخه وأقرانه:
تتلمذ الشيخ في مختلف المراحل النظامية لا سيما العليا على كوكبة من علماء الأزهر آنذاك، حيث كان يضم نخبة مميزة ممن اشتهروا بالعمق العلمي والتأصيل المنهجي، كما استفاد كثيرا بعد قدومه للمملكة من سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.
وكان من أشهر أقرانه سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ محمد خليل هراس، وغيرهم.(58/294)
المطلب الخامس: حياته العملية:
مزج الشيخ رحمه الله حياته العملية بالعلمية منذ كان طالبا، خاصة في المراحل العليا، فكان يقوم بأعمال مباركة في الدعوة إلى الله والتدريس والمشاركة في أعمال الخير، وعمل بعد تخرجه مدرسا في المعاهد الأزهرية في بعض القرى ومدينة الإسكندرية، وقد انضم رحمه الله إلى جماعة أنصار السنة المحمدية؛ لما عرف عنها من حرص على نشر العقيدة الصحيحة ودعوة الناس إلى الكتاب والسنة، وقد رشح رحمه الله في سن مبكرة نائبا لرئيس الجماعة في الإسكندرية، ثم عين رئيسا لجماعة أنصار السنة في مصر كلها خلفا للشيخ محمد حامد الفقي، ورأس تحرير مجلة التوحيد المشهورة سنوات عدة، ثم يسر الله له القدوم إلى المملكة العربية السعودية فشرفت به وشرف بها وعمل مدرسا في دار التوحيد بالطائف، ثم في عنيزة، ثم في معهد الرياض العلمي، ثم في كلية الشريعة بالرياض، وأسندت إليه مهمة وضع عدد من المناهج في المعاهد العلمية وكلية الشريعة.
ولما افتتح المعهد العالي للقضاء عين أول مدير له وقام بوضع مناهجه، ثم بعد ذلك انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء وعين نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعضوا في هيئة كبار العلماء، وأشرف على عشرات الرسائل في الماجستير والدكتوراه، وشارك في أعمال التوعية الإسلامية في الحج مفتيا ومدرسا في المسجد الحرام والمشاعر في الموسم.
كما قام بالإمامة والخطابة والتدريس في مسجده بالرياض.
وهكذا كانت حياته رحمه الله مليئة بالتدريس والإرشاد(58/295)
والدعوة والإفتاء شأن العلماء العاملين المخلصين لدينهم وأمتهم رحمه الله رحمة واسعة.(58/296)
المطلب السادس: صفاته وأخلاقه:
لقد جبل الشيخ رحمه الله على صفات كريمة ومزايا عظيمة قل أن تجتمع في رجل، فكان رحمه الله مثالا في الشمائل الحميدة والأخلاق الحسنة، متسما بالورع والتواضع والزهد والبعد عن الأضواء، مع ما وهبه الله من عمق في العلم وقوة في الحجة، كما كان رحمه الله عف اللسان، منصفا للمخالف، حكيما في الرأي، بعيد النظر، مع قوة في الحق وتعامل بالحسنى وإنزال الناس منازلهم، كما كان رحمه الله مهيبا ذا وقار وخشية. أما صفاته الخلقية فكان رحمه الله ربعة من الرجال إلى الطول أقرب، أبيض البشرة، تزينه لحية طويلة تشعر بالبهاء والجلال والحرص على السنة في مظهره ومخبره رحمه الله.
وله مواقف عظيمة ولطيفة، كما له إسهامات في البذل والجود في أعمال الخير والإنفاق على طلبة العلم، كما عرف بالصبر والتحمل والاحتساب فكسب حب الناس وثناءهم وتقديرهم رحمه الله.(58/296)
المطلب السابع: تلاميذه:
يعد الشيخ رحمه الله أستاذ جيل يعتبر اليوم النواة المباركة في نهضة هذه البلاد علميا وقضائيا وإداريا، فلا نبالغ إذا قلنا: إن الطبقة التي هي كبار علمائنا هم من تلاميذ الشيخ رحمه الله، فقد استفاد من الشيخ رحمه الله كل من درس في المعهد والكلية والمعهد العالي للقضاء، وهم جمع غفير أذكر من أشهرهم:(58/296)
ا- سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
2 - الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان.
3 - د. عبد الله بن عبد المحسن التركي.
4 - الشيخ صالح بن محمد اللحيدان.
5 - الشيخ د. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
6 - الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان.
7 - الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم.
8 - الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام.
9 - الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
10 - الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود.
وغيرهم كثير بارك الله فيهم ونفع بهم الإسلام والمسلمين.(58/297)
المطلب الثامن: وفاته:
قدر الله على الشيخ رحمه الله الإصابة بأمراض في آخر حياته، وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر الثالث سنة 1415 هـ أدخل المستشفي إثر تردي حالته الصحية، وبقي فيه مدة وجيزة حتى فاضت روحه إلى بارئها عن عمر يناهز التسعين عاما، قضاها مجاهدا بقلمه ولسانه، معلما مدرسا مفتيا مرشدا، وقد أم المصلين عليه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ بحضور جمع غفير من طلابه ومحبيه، ودفن في مقبرة العود في الرياض رحمه الله رحمة الأبرار، وقد عزاه ولاة الأمر وفقهم الله والعلماء وطلاب العلم وأثنوا على ما كان يتمتع به رحمه الله من مكانة علمية عالية وما لفقده رحمه الله من أثر على الساحة العلمية(58/297)
والإسلامية، عوض الله المسلمين فيه خيرا ورفع درجاته في عليين، إنه خير مسئول وأكرم مأمول والحمد لله رب العالمين.(58/298)
المطلب التاسع: آثاره العلمية ومؤلفاته:
كان للشيخ رحمه الله نظرة في التأليف سببها تواضعه وتورعه رحمه الله، فبالرغم من غزارة علمه وسعة إدراكه وتبحره في علوم شتى، إلا أنه لم يعرف له إلا أثار قليلة، منها: (مذكرة في التوحيد) ، و (حاشية على تفسير الجلالين) ، وتعليق على كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، كما أن له تعليقات يسيرة محفوظة على(58/298)
عدد من كتب العقيدة، كما أن له مقالات وكتابات في مجلة التوحيد والهدي النبوي، وله مجموعة من المحاضرات والدروس والمناقشات العلمية وفتاوى متنوعة جديرة بالعناية والرعاية والاهتمام، وعسى الله أن ييسر إخراجها حتى ينفع الله بها طلاب العلم الباحثين والمهتمين بالتحقيق، إنه جواد كريم.(58/299)
الفصل الأول: (المنهج) تعريفه وأهميته وآثاره:
ويشمل أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف المنهج والمراد به في اللغة والاصطلاح. المبحث الثاني: أهميته ودواعي العناية به.
المبحث الثالث: آثاره.
المبحث الرابع: نظرة في مناهج الأصوليين.
المبحث الأول: تعريف المنهج والمراد به في اللغة والاصطلاح:
المطلب الأول: تعريف المنهج في اللغة:
بالنظر في قواميس اللغة لكلمة (منهج) نجد أنها تدل على الطريق الواضح المستقيم.
قال ابن فارس: (النون والهاء والجيم أصلان متباينان،(58/299)
الأول: النهج: الطريق، ونهج لي الأمر: أوضحه وهو مستقيم المنهاج. . .) (1) .
وقال في الصحاح: (النهج: الطريق الواضح، وكذا المنهج والمنهاج، وأنهج الطريق أي استبان، وصار نهجا واضحا بينا، ونهجت الطريق إذا أبنته وأوضحته) .
المطلب الثاني: تعريف المنهج في الاصطلاح:
نستطيع أن نستشف تعريفا للمنهج من خلال ما سبق من تعريفه في اللغة فنقول: إن المنهج هو مجموعة الركائز والأسس المهمة التي توضح مسلك الفرد أو المجتمع أو الأمة لتحقيق الآثار التي يصبو إليها كل منهم.
ومن خلال الاستقراء في المناهج عامة نجد أنها قسمان: صحيحة وفاسدة، والذي يهمنا هنا الأول وهو المنهج الذي يتخذ من الكتاب والسنة أصولا يعتمد عليها، وهذا هو محور الحديث عن
__________
(1) 5 \ 361 من معجم مقاييس اللغة(58/300)
المنهج الذي نريده.(58/301)
المبحث الثاني: أهمية المنهج ودواعي العناية به:
إن قضية المنهج قضية مهمة جدا، لا سيما في النواحي العلمية، ولقد ذخر التاريخ الإسلامي بكوكبة من العلماء كان أعظمهم قدرا وأكبرهم أثرا أوضحهم منهجا، كما واجهت الساحة العلمية عبر التاريخ مشكلات عديدة كان من أخطرها غياب المنهج الصحيح أو عدم وضوحه للمتلقين.
ومستطيع أن نخلص أهمية المنهج ودواعي العناية به من خلال النقاط الآتية:
1 - السير العلمي بخطوات سليمة متسمة بالوضوح والبيان.
2 - اختصار الطريق للوصول إلى الغاية المشودة والهدف المرسوم.
3 - أنه ضمان بإذن الله من التعثر والعقبات التي تحول دون الوصول إلى المقصود.
4 - تحقيق النفع المنشود والأثر المعقود.
5 - التزود بأهم رصيد في حياة العلماء، وما هو أهم من مجرد المعلومات، ألا وهو قضية المنهج القويم، لنسير على مسارهم الصحيح.(58/301)
المبحث الثالث: الآثار الإيجابية والسلبية في قضية النهج:
من خلال ما سبق في ذكر أهمية المنهج تبرز أهم الآثار الإيجابية لتطبيق المنهج، وأهمها:
1 - ضمان المسيرة الصحيحة على ضوء ركائز قويمة.
2 - التميز بالوضوح والبيان.(58/301)
3 - تحقق المنافع المقصودة.
4 - السلامة من المضار والتعثر والعقبات.
5 - الوصول إلى المراد بأقصر طريق وأيسر سبيل.
تلك أهم الآثار الإيجابية التي تتحقق من خلال الالتزام بالمنهج الصحيح.
أما ترك المنهج وإهماله فينتج عنه آثار سلبية، أهمها:
1 - السر بلا خطوات هادية للمراد.
2 - الوقوع في التخبط والتعثر والعوائق المانعة من الوصول إلى الهدف المنشود.
3 - حصول الغموض والتناقض عند المتلقين فتحدث الحيرة ويعسر الفهم.
4 - طول الطريق واكتنافه بالعقبات.
5 - النفور من العلم وأهله والأخذ والتلقي من غيرهم.
6 - التخبط العلمي والفوضى الفكرية وما ينبني عليها من نتائج ضارة وأفكار منحرفة تعود على المجتمع والأمة بالسلبيات المتعددة والأضرار الخطيرة.
هذه أهم الآثار السلبية لتجاهل قضية المنهج وعدم التزامها مما يؤكد العناية بها وضرورة الاهتمام بتحقيقها.
والمستقرئ لحال العلماء رحمهم الله في التاريخ القديم والمعاصر يجد أن للعلماء المشهورين أصولا راسخة ومنهجا واضحا بنوا عليه مذاهبهم، فتحقق الأثر والنفع من علومهم ومعارفهم. ولا أدل على ذلك من منهج الأئمة الأربعة رحمهم الله.(58/302)
والملاحظ أنه بقدر الاهتمام بالمنهج يهيئ الله القبول للعالم والاستفادة منه. ولأضرب لذلك نموذجا واحدا من عشرات الأمثلة والنماذج، ذلكم هو منهج العالم العلم الفذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مما حصل له من الأثر العام والخاص ما يقل نظيره في فنون العلم المختلفة، ولا يزال علماؤنا إلى اليوم يستفيدون من منهجه في العقيدة والرد على المخالفين، وفي الأحكام والاستدلال والمناقشة والفتوى وغيرها، مما أكسبهم ثروة علمية ومنهجية قوية يندر نظيرها، وهكذا شأن العلماء العاملين والمحققين المبدعين. وفي المقابل تجد مئات العلماء المغمورين ممن لم يكن لهم الأثر البالغ بسبب تجاهل قضية المنهج وعدم وضوحها في الغالب. والله المستعان.(58/303)
المبحث الرابع: نظرة في مناهج الأصوليين:
لقد اعتنى علماء الإسلام وأئمة الدين- عبر العصور- بعلم الأصول، فألفت فيه المؤلفات، وتعددت فيه المدارس، وتباينت المناهج.
فمن العلماء من اعتنى بتحرير القواعد الأصولية، وإقامة الأدلة النقلية عليها واهتم بإيضاح منهجه في الاستدلال، وتأييده بالشواهد من اللغة العربية، وأكثر من الأمثلة بغية الإيضاح والبيان وركز على الناحية التطبيقية، مع أسلوب جزل العبارة، حكيم النزعة، عند نقاش(58/303)
المخالفين (1) .
ومنهم من سار على هذا المنهج، ولكن نحى منحى التوسع والقوة مع المخالفين، والحدة عند مناقشة أدلة الخصم (2) .
واستقر الأمر على منهجين معروفين مشهورين هما: منهج الحنفية، ومنهج المتكلمين. ولا يكاد أحد من طلاب هذا الفن يجهل هذين المنهجين، وأصحابهما وما ألف فيهما.
وقد سار العلماء بعد ذلك على ضوء هذين المنهجين واكتفوا بالاختصار والتلخيص على أحد المنهجين- في الغالب- وقد يجمع بعضهم بين المنهجين (3) .
إلا أنه مما لا ينكر، وجود اتجاهات اثر أصحابها العودة بهذا العلم إلى أصله الأول الذي انبثق التأليف منه، فتركوا الالتزام بهذين المنهجين مع جمعهم لمحاسن كل منهما، وتوخوا التحقيق في المسائل، وجردوا هذا العلم مما علق به، من الإغراق في العقليات، والغوص في الجدليات، واهتموا بجواهره ودرره، فأكثروا من بناء المسائل الأصولية على الأدلة النقلية، والقواعد الشرعية، وحرصوا
__________
(1) وفي مقدمتهم الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه (الرسالة)
(2) كما نهج ذلك الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) .
(3) كصدر الشريعة في تنقيح الأصول، والسبكي في جمع الجوامع، وابن الهمام في التحرير، وغيرهم(58/304)
على الإكثار من المسائل الفقهية، وعمدوا إلى الشرح والإيضاح، وتحرروا من التعصب والتقليد، فجاء منهجهم سليما مشوقا مفيدا، تألفه العقول المنصفة، وتستريح له الأفكار السليمة، لما يكسبها من وصول إلى غاية مقصودة، وخروج بثمرة منشودة، ويعتمد صاحبها على الأدلة النقلية الصحيحة، والحجج العقلية السليمة، التي تمنح الاستقلال في الحكم وتفتح الباب للقارئ اللبيب، للبحث والتنقيب، وتيسر تطبيق القواعد الأصولية على ما جد ويجد من قضايا الأمم في مختلف الأمكنة والأزمنة. وقد استفاد شيخنا الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من هذا المنهج كثيرا.
على أن ذلك ليس غضا من مسيرة المنهجين الأولين وأصحابهما، اللذين أكسبا ويكسبان فهم هذا العلم على أصوله ويرسخان في ذهن القارئ الخطوط العريضة للمنهج السليم في هذا الفن، وحيث امتازت بالتقعيد والتأصيل الدقيق، والأسلوب الرصين، والتحرير الأوفق، ولا غرو فهم بفنهم أعرف، وبعلمهم أعمق، وقد ساروا في مناقشاتهم على قواعد الجدل، وأصول النقد، والمناظرة المعروفة.
ولم يكن شيخنا - رحمه الله - بمعزل عن التأثر بإيجابيات هذين المنهجين، غير أنه تميز بمنهج أسلم تتبين معالمه والنماذج عليه في الفصل القادم إن شاء الله.(58/305)
الفصل الثاني: معالم منهج الشيخ عبد الرزاق الأصولي:
بعد أن عرفنا في المبحث السابق مناهج الأصوليين وطريقتهم في عرض مسائل الأصول والتأليف فيه، فإننا نأتي الآن إلى معرفة(58/305)
منهج شيخنا الشيخ عبد الرازق لنتمكن من الربط ومعرفة الفرق بين منهج الأصوليين ومنهج الشيخ - رحمه الله -. ومع استفادة الشيخ - رحمه الله - من مناهج من سبقه إلا أنه تميز بعدد من المعالم التي تميز منهجه - رحمه الله -.
وقبل أن أذكر هذه المعالم تفصيلا أذكر منهجه إجمالا كما ذكره هو - رحمه الله - في مقدمة تعليقه على كتاب الأحكام، فقد تحدث في مقدمته عن علم الأصول وأهميته ومناهج العلماء فيه، وأثنى على كتب المحققين منهم، ودعا إلى الاستفادة من طريقهم لسلامة عقيدتهم، وحرصهم على النصوص، وسلوكهم مسلك الإيضاح والبيان والاختصار، وبعدهم عن الجدل وعلم الكلام، وعنايتهم باللغة العربية وكثرة الأمثلة والتفريع. . . إلى آخر ما ذكره - رحمه الله - عن منهجهم الذي سار عليه، ثم بين عمله في الكتاب بعد أن أثنى على كتاب الآمدي وعلو أسلوبه ووضوح عبارته، فقال: " لذا اقتصرت على نقد دليل، أو التنبيه على خطأ في رأي، أو تأويل نص، أو بيان ضعف حديث، أو تصحيح لتحريف في الأصول التي طبع عليها قدر الطاقة مع الإيجاز ولم أستقص في ذلك. . . ".
ومما يرسم منهجه إجمالا قوله أيضا بعدما ذكر مناهج(58/306)
الأصوليين: " وأسعدهم بالحق من كان نزعته إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووسعه ما وسع السلف مع رعاية ما ثبت من مقاصد الشريعة باستقراء نصوصها، فكلما كان العالم أرعى لذلك وألزم له كان أقوم طريقا وأهدى سبيلا. . . " (1) .
ومن قرأ مقدمته - رحمه الله - يجد ملامح ومعالم منهجه مجملة، لذلك فسأفصل القول فيما أجمله عن طريق وضع معالم رئيسة مدعمة بالنماذج الحية على ما رسمه - رحمه الله -.
__________
(1) ح من المقدمة وترجمته للمؤلف(58/307)
المبحث الأول: المعلم الأول: اهتمامه - رحمه الله - بإبراز عقيدة السلف ونقده ما يخالفها: وهذا هو المعلم المهم والرئيس في منهج الشيخ - رحمه الله -، فمن المعلوم أن مناهج الأصوليين قد تأثرت بعلم الكلام، واستقت من بعض المناهج العقدية المخالفة لمنهج السلف في العقيدة لا سيما المعتزلة والأشاعرة.(58/307)
لذا كان الشيخ - رحمه الله - مهتما بإبراز عقيدة السلف في المسائل الأصولية علاقة بالعقيدة، ولما كان سيف الدين الآمدي - رحمه الله - علما في مذهب الأشاعرة تعقبه الشيخ - رحمه الله - في مواضع كثيرة، أذكر منها نماذج تثبت أهمية هذا المعلم في منهج الشيخ - رحمه الله -.
النموذج الأول:
عند كلام الآمدي عن العلم وانقسامه إلى قديم وحادث، وجعله علم الله تعالى من القديم (1) ، عقب الشيخ - رحمه الله - بقوله: " وصف علم الله أو غيره من صفاته بالقدم لم يرد في نصوص الشرع، وهو يوهم نقصا " (2) .
ويزيد الشيخ - رحمه الله - هذه القضية جلاء في تعليق له على إطلاق الآمدي اسم القديم على الله سبحانه، فيقول الشيخ - رحمه الله - ما نصه: " أسماء الله وصفاته توقيفية ولم يرد في كتابه سبحانه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تسميته بالقديم ولا إضافة القدم إليه أو إلى صفة من
__________
(1) 1 \ 12 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 1، 2 من 1 \ 12.(58/308)
صفاته سبحانه، فيجب ألا يسمى سبحانه بذلك وألا يضاف إليه، وخاصة أن القدم يطلق على ما يذم كالبلى وطول الزمن وامتداده في الماضي، وإن كان لمن اتصف به ابتداء في الوجود " اهـ.
النموذج الثاني:
وفي مبحث آخر في الأسماء واشتقاقها من الصفات رد الآمدي على المعتزلة الذين جوزوا اشتقاق اسم المتكلم لله تعالى من كلام مخلوق له غير قائم بذاته، وأحال القارئ إلى بعض كتب الأشاعرة في التماس ذلك (1) ، فعلق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " يلتمس الصحيح بالرجوع إلى كتب السلف صيانة للعقيدة مما ذهب إليه الأشعرية من إثبات كلام نفسي قديم لله، ليس بحرف ولا صوت ولا. . . " وكذا في مبحث الأمر، علق الشيخ - رحمه الله - على مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى (2) وأثبت مذهب السلف في حقيقة كلام الله تعالى، وكذا في تعريف القرآن لما أثبت الآمدي الكلام
__________
(1) 1 \ 54 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 4 من 2 \ 170 منه.(58/309)
النفسي (1) ، رد وعلق - رحمه الله - بقوله: " والصواب أن كلام الله اسم لمجموع اللفظ والمعنى، وأنه بصوت وحرف، وأنه تكلم مع من أراد من رسله وملائكته وسمعوا كلامه حقيقة، ولا يزال يتكلم بقضائه وتسمعه ملائكته، وسيتكلم مع أهل الجنة ومع أهل النار كل بما يناسبه " (2) .
النموذج الثالث:
وفي مسألة التحسين والتقبيح استدل السلف في مذهب الأشاعرة في منع التحسين والتقبيح العقليين بقوله: " السابعة: أن أفعال العبد غير مختارة له " (3) ، ثم رد عليه بكلام عقلي لا يفيد الرد على الجبرية، فعلق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " وأيضا هو مبني على أن العبد مجبور على ما يصدر عنه من الأفعال، وهو باطل " (4) .
وكلام الشيخ كما ترى يبين مذهب السلف في باب القدر، وأن للعبد مشيئة واختيارا خلافا للجبرية القائلين بعدم مشيئة العباد
__________
(1) 1 \ 159.
(2) انظر: تعليق رقم 2 من 1 \ 153، وانظر مذهب السلف في المسألة 6 \ 290 وما بعدها، 21 \ 37 وما بعدها.
(3) 1 \ 82 من الإحكام.
(4) تعليق رقم 1 من 1 \ 84.(58/310)
وأنهم مجبورون على ما يصدر منهم من أفعال.
كما بين الشيخ - رحمه الله - في مبحث التكليف بما لا يطاق مذهب السلف في القدر، ومخالفتهم للمعتزلة والجبرية.
وفصل مذهب السلف في القدرة من العباد على الأفعال في كلام نفيس لولا خشية الإطالة لنقلته بنصه.
النموذج الرابع:
ونموذج رابع في حرص الشيخ - رحمه الله - على إبراز عقيدة السلف والرد على المخالفين لها يظهر في مبحث المتشابه، حيث عد الآمدي جملة من آيات الصفات من المتشابه بإطلاق، وادعى أنها مجازات تحتاج إلى تأويل، كمثل قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (1) ، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (2) ، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (3) ، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} (4) ، {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (5) ثم
__________
(1) سورة الرحمن الآية 27
(2) سورة يس الآية 71
(3) سورة البقرة الآية 15
(4) سورة آل عمران الآية 54
(5) سورة الزمر الآية 67(58/311)
قال بعدها: " ونحوه من الكنايات والاستعارات المئولة بتأويلات مناسبة لإفهام العرب " (1) .
وقد علق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: (لله سبحانه وجه ويمين حقيقة على ما يليق بجلاله، فإسنادهما إليه في الآيات والأحاديث لا تجوز فيه، ويطوي سبحانه السماوات بيمينه، ويجيء هو نفسه يوم القيامة حقيقة على ما يليق بكماله، وجاء إسناد البقاء إلى الوجه في الآية على معهود العرب في كلامهم وتعبيرهم بمثل ذلك عن بقاء الشيء وصفاته جميعا، واستهزاء الله ومكره بمن استهزأ بأوليائه وسخر منهم ومكر بهم حق على وجه يليق به مع كمال علم بما دبر، وإحكام له وعدل فيه، وقدرة على الانتقام بدونه بخلاف عباده، فقد يكون في مكرهم وتدبيرهم قصور وضعف في التنفيذ، وجور في الخصوم وعجز عن الانتقام بدونه، إلا بعناية من الله وتسديد لعبده، فمن خطر بفكره عند تلاوة نصوص الأسماء والصفات استلزامها أو إيهام ظاهرها ما لا يليق بالله من تشبيهه بخلقه، فذلك من سقم فكره ووقوفه عند معهود حسه وقياسه ربه على خلقه، لا من كلام الله ولا من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فشبه أولا، وظن السوء بالله وبرسوله ونصوص الشريعة ثانيا، فاعتقد أن ظاهر ما ثبت عنهما يدل على التشبيه، واجتهد في تحريفها عن مواضعها وتأويلها على غير وجهها ثالثا، دون بينة من الله تهديه الطريق، فانتهى به التعسف في التعطيل ونفي ما رضيه الله تعالى لنفسه ورضيه له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، تعالى الله عن
__________
(1) 1 \ 166 من الإحكام.(58/312)
ذلك علوا كبيرا ".
وهكذا أبان الشيخ - رحمه الله - في هذا الأنموذج عقيدة السلف في صفات الله عز وجل، وأنها حق تثبت على حقيقتها من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل على حد قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
خلافا لما عليه المعتزلة المعطلة والأشاعرة المئولة، فأبدع - رحمه الله - وانتصر لعقيدة السلف بالدليل النقلي لا بالعقل المجرد.
النموذج الخامس:
ونموذج خامس في حكم إثبات الجهة لله تعالى، فحين ذكر الآمدي في مبحث الإجماع، مثل قضايا الاعتقاد ونفي الشريك لله تعالى ذكر منها: " رؤية الرب لا في جهة " (2) .
عقب الشيخ - رحمه الله - بقوله: " رؤية في النصوص نسبة الجهة إلى الله نفيا ولا إثباتا، ثم هي كلمة مجملة تحتمل حقا وباطلا
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) 1 \ 283 من الإحكام.(58/313)
فإن إثباتها لله يحتمل أن يراد به أنه تعالى فوق عباده مستو على عرشه وهذا حق، ويحتمل أن يراد به أنه يحيط به شيء من خلقه وهذا باطل، ونفيها عن الله تعالى يحتمل نفي علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وهذا باطل، ويحتمل تنزيهه عن أن يحيط به شيء من خلقه وهذا حق، وإذن لا يصح نسبة الجهة إلى الله نفيا ولا إثباتا؛ لعدم ورودها، ولاحتمالها الحق والباطل " (1) .
هذه مجموعة من النماذج على المعلم الأول والرئيس في منهج الشيخ - رحمه الله - وهو عنايته بإبراز عقيدة السلف، والرد على المخالفين لها، وقد تبين فيها إبراز عقيدة السلف في الصفات والقرآن، وعلم الله سبحانه وكلامه والرؤية والقدر وإثبات الجهة وغيرها.
وهناك نماذج أخرى سواها تركتها إيثارا للاختصار، وسأحيل إلى موضعها إن شاء الله.
__________
(1) تعليق رقم 1، 1 \ 283 من الإحكام، وانظر تعليقا آخر للشيخ حول الجهة في تعليق رقم 1، 4 \ 106 منه.(58/314)
المبحث الثاني: المعلم الثاني: عنايته بالنصوص وصحة الأحاديث والآثار:
وهذا من المعالم المهمة في منهج الشيخ - رحمه الله - بل من المرتكزات والأسس التي بنى عليها - رحمه الله - منهجه الأصولي، وإذا كان كثير من الأصوليين يبنون منهجهم على مدارس كلامية عقلية أو مذهبية فقهية فالشيخ - رحمه الله - يرفع لواء تعظيم النصوص والأدلة النقلية والتركيز على الاستدلال بها، والاستنباط منها، وطرح كل ما يخالفها، ومن النماذج على ذلك تعقبه الآمدي - رحمه الله - عند مقابلته الدليل العقلي بالشرعي حينما ذكر بعض الأمور المجمع عليها عقلا وشرعا ومثل لذلك برؤية الرب سبحانه لا في جهة (1) .
قال الشيخ - رحمه الله - ما نصه: ". . . ثم مقابلة العقلي بالشرعي تشعر بأن رؤية الله وتنزيهه عن الشريك ونحوهما إنما ثبت بالدليل العقلي لا بدليل الشرع، وهذه طريقة كثير من المتكلمين، فإنهم يرون أن أدلة النصوص خطابية لا برهانية لا تكفي لإثبات القضايا العقلية والمسائل الأصولية. . . وهذا غير صحيح، فإن نصوص الشرع كما جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغرها جاءت بتقرير الحق في ذلك بأوضح حجة وأقوى برهان، لكنها لم تجئ على أسلوب الصناعة المنطقية المتكلفة، بل على أسلوب من نزل القرآن بلغتهم بأفصح عبارة وأعلى بيان وأقرب طريق إلى الفهم وأيسره لأخذ الأحكام. . . إلى قوله: فاللهم أغننا بكتابك وسنة نبيك عن
__________
(1) 1 \ 283 من الإحكام.(58/315)
موارد الوهم ومزالق الضلال " (1) .
وفي نموذج آخر لما أجاب الآمدي إجابة عقلية محضة على اعتراض ورد في الاحتجاج بالتواتر (2) ، علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " هذا الجواب لا يصلح ضابطا ولا مقنع فيه للخصم، بل يفتح باب الفوضى والتطاول على النصوص وردها بدعوى عدم العلم بها " (3) وفي موضع آخر عند الاحتجاج بخبر الواحد واعتراض الآمدي على من قال بحجيته (4) ، علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " والنصوص تشهد لمن قال بأن خبر الواحد حجة في إثبات أصول الشريعة وفروعها " (5) .
وفي المبحث نفسه رد الآمدي قبول أخبار الآحاد، وأجاب عن أدلة المحتجين به بأن المكلفين إنما يقبلون ما يخبرهم به الآحاد من جهة عقولهم (6) ، علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " هذا غير صحيح. . فالحجة إنما قامت بالأدلة النقلية، وإلا كانوا مكلفين بذلك قبل ورود الشرع أو بلوغه لمجرد الأدلة العقلية " (7) .
__________
(1) تعليق رقم 1، 1 \ 283، 284 من الأحكام. (2) 2 \ 28 منه.
(2) 2 \ 28 منه.
(3) تعليق رقم 3، 2 \ 28 منه.
(4) 2 \ 63 منه.
(5) تعليق رقم 3، 2 \ 63 منه.
(6) 2 \ 64 من الإحكام.
(7) تعليق رقم 1، 2 \ 64 منه.(58/316)
وإذا كان هذا كله في مجال التأصيل فالشيخ - رحمه الله - يحرص على النصوص حتى في مجال التأصيل، ومن النماذج على ذلك أن الآمدي - رحمه الله - لما مثل في باب الأمر المعلق على الشرط، كقوله: " إذا زالت الشمس فصلوا " (1) ، علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " لو مثل بأمثلة من النصوص، كقوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) الآية، وقوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (3) الآية لكان أولى " (4) .
وإذا كان ما سبق ذكره في هذا المعلم في شقه الأول وهو عناية الشيخ بالنصوص، فإن الشق الثاني وهو اهتمامه بصحة الأحاديث والآثار لا يقل شأوا عنه.
وذلك يتجلى في تعقب ما استشهد به الأصوليون عامة والآمدي خاصة من الأحاديث والآثار الضعيفة، بل والموضوعة أحيانا، فقد أمسك الشيخ - رحمه الله - بقلم الناقد البصير والمخرج القدير، غيرة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجتهادا في أن تبنى مسائل الأصول على ما صح فيه الخبر عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام، والنماذج في هذا أكثر من أن تحصر، بل إن الشيخ - رحمه الله - يتوسع أحيانا في التخريج والحكم على الحديث، فيأخذ الصفحتين وأكثر، استطرادا في
__________
(1) 2 \ 161 من الإحكام.
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) سورة النور الآية 59
(4) تعليق رقم 1، 2 \ 161 منه.(58/317)
الروايات، ونقدا للرواة، ونقلا عن علماء هذا الفن وحكمهم على الحديث سندا ومتنا.
ومن باب الاختصار فسأكتفي بذكر أرقام الصفحات على أنها نماذج قوية وشواهد جلية لمن أراد التوسع في ذلك.
وبعد: هذا هو المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يحتذى؛ ليكون علم الأصول مؤسسا على صحيح المنقول مع صريح المعقول، والله المستعان.(58/318)
المبحث الثالث: المعلم الثالث: تركه الإغراق في الجدل والمنطق والفرضيات والعقليات:
وهذا من المعالم البارزة جدا في منهج الشيخ - رحمه الله -، بل يكاد يكون فيصلا بين منهجه ومنهج عامة الأصوليين الذين تأثروا بعلم الكلام وأولعوا بالجدل والمنطق، واسترسلوا في المسائل الفرضية والمباحث العقلية.
ولقد كان الشيخ - رحمه الله - قوي المأخذ شديد الإنكار على صرف لب علم الأصول إلى مباحث كلامية ومسائل عقلية.(58/318)
ولأضرب بعض النماذج على ذلك.
أولا: في تعريف الكتاب وبيان حقيقة القرآن لما أطال الآمدي النفس في ذكر تعريفات الأصوليين له (1) علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " كتاب الله أو القران من الكلمات الواضحة التي يفهم المراد منها الأميون وصبيان الكتاتيب، فتعريفه بمثل ما ذكر من التكلف الذي لا يليق بعلماء الشريعة، مع ما فيه من غموض احتاجوا معه إلى سؤال وجواب، وإخراج ما يجب إخراجه بما فيه من قيود، فما كان أغناهم عن ذلك، لكنها الصناعة المنطقية المتكلفة تغلغلت في نفوس الكثير من العلماء " (2) .
ثانيا: في إنكاره - رحمه الله - الافتراضات الخاطئة علق على اعتراض أورده الآمدي هو: " فإن قيل: فلو بعث رسول وظهرت المعجزة القاطعة الدالة على صدقه. . . إلخ " (3) .
علق - رحمه الله - بقوله: (هذا من الفروض الممقوتة التي لا ينبغي الاسترسال فيها، ولا ترتيب حكم عليها، ولا الإجابة عنها، فإن البحث فيها بحث في غير واقع ودخول فيما لا يعني " (4) .
كما أنكر - رحمه الله - الأمثلة الافتراضية مثل ما أورده الآمدي بقوله: فلو قال: " نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير إذنه لعينه، ولكن إن
__________
(1) انظر: 1 \ 159، 160 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 1، 1 \ 160 من الإحكام.
(3) 2 \ 49 منه.
(4) تعليق 1، 2 \ 49 منه.(58/319)
فعلت حلت الذبيحة، ونهيتك عن استيلاد جارية الابن لعينه " (1) علق - رحمه الله - بقوله: " هذه أمثلة فرضية لم يأت بمثلها الشرع " (2) .
ثالثا: وفي مبحث قوادح القياس أورد الشيخ - رحمه الله - تعليقا على ما له صلة وثيقة منها بالأصول، ثم قال - رحمه الله: " وما لم يندرج تحت ما ذكرناه فهو نظر جدلي، يتبع شريعة الجدل التي وصفها الجدليون باصطلاحهم، فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن نشح على الأوقات أن نضيعها بها وبتفصيلها، وإن تعلق بها فائدة فهي ليست من جنس أصول الفقه، بل هي من علم الجدل، فينبغي أن تفرد بالنظر ولا تمزج بالأصول التي يقصد بها تذليل طرف الاجتهاد للمجتهدين " (3) .
رابعا: وفي الاحتجاج بشرع من قبلنا لما ذكر الآمدي تكافؤ الأدلة، قال: " كيف وإن هذه الآيات متعارضة والعمل بجميعها ممتنع " (4) .
وقد علق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: " هذا مسلك سيئ وجدل ممقوت؛ لما فيه من ضرب آيات الله بعضها ببعض، وبمثل ذلك استولت الحيرة والشكوك على كثير ممن أولع بالجدل حتى تركوا النصوص الصحيحة إلى ما يزعمونه أدلة عقلية قاطعة،
__________
(1) 2 \ 188، 189 منه.
(2) تعليق 1، 2 \ 189 منه.
(3) تعليق رقم 1، 4 \ 69 من الإحكام.
(4) 1 \ 147 منه.(58/320)
وقد تكون أوهاما وخيالا، واعتمدوا عليها وآثروها على النصوص، فازدادوا حيرة واختلافا بينهم، وتناقضا في آرائهم، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " (1) .
ولا أجد بعد هذه النماذج الحية تعليقا على هذا المعلم المهم في منهج الشيخ - رحمه الله - وقد تركت كثيرا منها للاختصار، وسأكتفي بإيراد صفحاتها في الحاشية.
__________
(1) تعليق رقم 1 من 1 \ 147 الإحكام.(58/321)
المبحث الرابع: المعلم الرابع: التزامه المنهج العلمي الرصين:
لقد تميز منهج الشيخ - رحمه الله - في التعليق على المسائل الأصولية بالتزام الطريقة المثلى - في نظري - ومع التسليم بأنه - رحمه الله - لم يدرس المسائل دراسة متكاملة، إلا أنه ركز على لب المسائل وجوهرها وما ينعكس على المتلقي بالفائدة المرجوة بحيث يفهم المسألة فهما صحيحا في أقرب صورة؛ ذلك لأنه - رحمه الله - سلك مسلك التعليق، ومع ذلك فقد جاء تعليقه ملتزما المنهج العلمي الرصين، ويتضح ذلك من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: عنايته بتحرير محل النزاع.
المطلب الثاني: تركيزه على التطبيق وكثرة الأمثلة وتخريجه الفروع على الأصول.
المطلب الثالث: اهتمامه بالتقعيد والتأصيل وبيان مقاصد(58/321)
الشريعة وحكمها وأسرارها.
المطلب الرابع: إيراده لثمرة الخلاف.
وسأورد في كل مطلب نماذج مختصرة تدل عليها.
المطلب الأول: عنايته بتحرير محل النزاع:
وتلك قضية مهمة يغفلها كثير من الأصوليين فلا يعلم المتلقي الجزئية التي وقع فيه الخلاف مما كان محل اتفاق وذلك في المسائل الخلافية، ولذلك كان الشيخ - رحمه الله - كثيرا ما يلفت النظر في تعليقاته على هذه القضية المهمة. ومن النماذج على ذلك:
ا - في مسألة التحسين والتقبيح ذكر الآمدي إطلاقات العلماء واعتبار أنهم في معنى التحسين والتقبيح (1) ، ثم علق الشيخ على ذلك بقوله: " الصحيح أن محل النزاع الحسن والقبيح، بمعنى اشتمال العقل على مصلحة كان بها حسنا أو على مفسدة كان بها قبيحا، ثم نشأ عن ذلك خلاف آخر: هل تثبت الأحكام بها في الأفعال من حسن أو قبح، ولو لم يرد شرع، أو يتوقف ذلك على ورود الشرع؟ " ثم في ذكر الأقوال في المسألة (2) .
2 - كما كان الشيخ - رحمه الله - يعلق على ما ليس من محل النزاع في المسألة المراد بما، ومن ذلك أنه لما استدل الآمدي على منع تأخير
__________
(1) 1 \ 80 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 2، 1 \ 80 منه.(58/322)
البيان (1) بقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) ، علق الشيخ رحمة الله بقوله: " الأمر في هذه الآية للوجوب قطعا، وليس من محل النزاع فيما تقتضيه صيغة الأمر، إذ محله الأمر المجرد من القرائن، وهو في الآية قد اقترن بالتهديد على الترك في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (3) .
وهناك نماذج كثيرة تركتها رغبة في الاختصار وسأحيل على مواضعها إن شاء الله (4) .
__________
(1) 3 \ 48 من الإحكام.
(2) سورة المائدة الآية 67
(3) سورة المائدة الآية 67
(4) انظر: 2 \ 184 - 191 - 224. 3 \ 71 - 191. 4 \ 31.(58/323)
المطلب الثاني: تركيزه على التطبيق، وكثرة الأمثلة وتخريج الفروع على الأصول:
كان الشيخ - رحمه الله - حريصا على وصول المعلومة للقارئ بأقرب طريق، فكان أن سلك مسلك القاعدة والمثال، إذ بالمثال يتضح الاستدلال، فكان كثيرا ما يورد الأمثلة ويعيب على الأصوليين تقصيرهم في ذلك، كما كان - رحمه الله - مركزا على الجمع بين التأصيل والتفريع بربط المسائل الأصولية العلمية بالمسائل الفرعية العملية التطبيقية.
ومن النماذج على ذلك أن الآمدي - رحمه الله - لما أطال النفس(58/323)
في تعريفات القياس والاعتراضات عليها والإجابات عنها (1) ، علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: ". . . ولو سلكوا في البيان طريقة القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعهود العرب ومألوفهم من الإيضاح بضرب الأمثلة - وهذا هو الشاهد - لسهل الأمر وهان الخطب " (2) وحين يجنح الأصوليون إلى أمثلة افتراضية يطالبهم بالأمثلة الشرعية الواقعية، ومن النماذج على ذلك:
أنه حينما مثل الآمدي على مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بقوله: " كما لو قال الشارع: أوجبت عليك الصلاة إن كنت متطهرا " (3) .
علق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: " لو مثل بأمثلة واقعية مثل قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (4) الآية، لكان أنسب وأنفع " (5) وفي ذلك كفاية إن شاء الله على الاستشهاد على هذا المطلب المهم.
__________
(1) 3 \ 183 - 190 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 2، 3 \ 190، 191 منه.
(3) 1 \ 110 من الإحكام.
(4) سورة النور الآية 59
(5) تعليق رقم 3، 1 \ 110 منه.(58/324)
المطلب الثالث: اهتمامه بالتأصيل والتقعيد وبيان مقاصد الشريعة وحكمها وأسرارها:
وذلك مطلب مهم نحا فيه الشيخ - رحمه الله - منحى العناية بالجوهر واللباب لهذا العلم المهم، فقد جمع - رحمه الله - بين الاستدلال بالنصوص وبين العناية والنظر في مقاصد الشريعة وحكمها، وذلك جمع بين الحسنيين في المنهج الأصولي، فهو لم يغرق في الجدل والمنطق ولم يجمد على ظواهر النصوص ولم يغفل المقاصد والقواعد والحكم والأسرار، وتلك لعمر الحق لا تتحقق إلا لمن أوتي المنهج الصحيح، ووفق للطريق العلمي السليم.
ومن النماذج على ذلك أنه لما أورد الآمدي مسألة شكر المنعم عقلا ورد على المعتزلة في الوجوب العقلي (1) ، علق الشيخ - رحمه الله - على ذلك ببيان مذهب أهل السنة وجمعهم بين النصوص وحكم الشريعة ومقاصدها، فقال - رحمه الله: " والمخالف يعترف بذلك في تعليله الأحكام وبيان حكمها وأسرارها، وخاصة في القياس وبيان ميزة الشريعة الإسلامية على غيرها " (2) .
ومن النماذج المهمة في ذلك عناية الشيخ - رحمه الله - بالإحالة إلى مبحث المقاصد في كتاب الموافقات للشاطبي رحمه
__________
(1) 1 \ 88 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 1، 1 \ 88 منه.(58/325)
الله (1) .
__________
(1) انظر: على سبيل المثال: 3 \ 274، 4 \ 160 من الإحكام.(58/326)
المطلب الرابع: إيراده لثمرة الخلاف:
كان الشيخ - رحمه الله - حريصا على تجلية الثمرة العملية في مسائل الخلاف العلمية، وإذا لم يكن ثم ثمرة أشار إلى أن الخلاف لفظي لا تترتب عليه ثمرة عملية.
ومن النماذج على ذلك:
في مسألة المندوب هل هو من الأحكام التكليفية حينما ذكر الآمدي الخلاف في ذلك (1) علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " الخلاف في أن الندب والكراهة والإباحة من الأحكام أو لا؟ اختلاف في تسمية اصطلاحية لا فائدة من ورائه عملية " (2) .
وكذا في مسألة المباح، وهل هو داخل في مسمى الواجب أو لا؟ (3) علق الشيخ - رحمه الله - عليها بأن الخلاف فيها لفظي لا يترتب عليه ثمرة عملية تطبيقية (4) .
__________
(1) 1 \ 121 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 3، 1 \ 121 منه.
(3) 1 \ 124، 125 من الإحكام.
(4) تعليق رقم 4، 1 \ 124، ورقم 2، 1 \ 125 منه.(58/326)
كل ذلك وغيره كثير دليل على ترسم الشيخ - رحمه الله - المنهج العلمي الرصين مما لا يسمح الاختصار بالاسترسال في بيانه وذكر النماذج عليه، وهي بادية للعيان بحمد الله في كل من قرأ عن الشيخ وقرأ تعليقاته ومنهجه فيها، رحمه الله رحمة واسعة.(58/327)
المبحث الخامس: المعلم الخامس: تميزه بالدقة واستقلال الشخصية:
الحق أن كل قارئ في تعليقاته - رحمه الله - يلمس ذلك بجلاء، بل لا أبالغ حينما أقول إنك واجد ذلك في كل تعليق له - رحمه الله - فكلها تبين استقلال شخصيته العلمية والمنهجية والأصولية، وحينما يتأملها القارئ يجد الدقة بأجلى صورها.
وسأكتفي بنماذج قليلة محيلا لمن أراد الاستطراد إلى أرقام الصفحات.
لقد كان - رحمه الله - حينما يذكر مسائل الخلاف يعلق مبديا رأيه وشخصيته بأن الراجح كذا، أو الصحيح كذا، مرجحا ومدللا ومعللا ومفصلا.
ففي مسألة التكليف بما لا يطاق (1) يعلق الشيخ - رحمه الله - فيقول: " الصحيح أن التكليف بما لا يطاق لاستحالته عقلا أو عادة غير جائز، ولا واقع شرعا، أما ما لا يطاق لما فيه من الحرج فقد يقع التكليف به إما عقوبة وإما امتحانا واختبارا فقط " (2) .
__________
(1) 1 \ 35 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 1، 3 \ 35 منه.(58/327)
ومن النماذج على ذلك موقفه المتميز في مسألة الاحتجاج بخبر الواحد، فقد ذكر الآمدي الحجج للقائلين بإفادته العلم ثم فندها، فعلق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: ". . . إلا أنه غير مسلم، فإنه قد يوجد من أخبار الآحاد ما يفيد بمجرده العلم، لكنه غير مطرد في كل خبر، ولا لكل أحد؛ لتفاوت الرواة في صفات القبول وتفاوت السامعين في المعرفة وبعد النظر ودقته " (1) .
والنماذج على ذلك أكثر من أن تذكر في هذا المقام الموجز.
كما تبدو شخصيته - رحمه الله - بنقد الأقوال المرجوحة والاستدلالات الضعيفة، والاستنباطات البعيدة، ونحو ذلك مما لا أجد مجالا للإفاضة فيه، لكن سأكتفي بالإحالة إلى أرقام الصفحات كنماذج حية على ذلك.
__________
(1) تعليق رقم 3، من 2 \ 39 من الإحكام.(58/328)
المبحث السادس: المعلم السادس: ميله إلى التيسير والتسهيل وسلوكه مسلك الاختصار والوضوح:
وهذا المعلم وضاء في منهج الشيخ - رحمه الله - فهو بعيد عن التكلف والإطالة، شغوف بالاختصار والوضوح، شديد الإنكار على مسالك المتكلمين والجدليين والمناطقة، وإليك بعض النماذج على ذلك:
1 - في تعريف العلم والفقه حين ذكر الآمدي تعريفهما في أول كتابه (1) ، علق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: " أولع الكثير بالتعاريف المتكلفة التي تورث العبارة غموضا والقارئ لها حيرة، ومن ذلك تعريف العلم والفقه ونحوهما مما ذكر المؤلف، ولذلك تراهم يحتاجون إلى شرح التعريف وإخراج المحترزات ويكثرون من الاعتراض والجواب ولا يكاد يخلص لهم تعريف من الأخذ والرد والواقع أصدق شاهد " (2) .
ومثل ذلك علق في تعريف القرآن (3) .
وإذا ورد في المسائل الأصولية أمر يحتاج إلى توضيح بينه بأيسر عبارة وأوضح أسلوب بكلمات مختصرات مفيدات مصدرة بقوله: بيانه أو توضيحه أو نحوها.
ومن النماذج على ذلك:
أن الآمدي - رحمه الله - في مبحث العلة المستنبطة مثل بقوله:
__________
(1) 1 \ 7 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 1، 1 \ 7 منه.
(3) تعليق 1، 1 \ 160 منه.(58/329)
" كتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقراء لما فيه من رفع وجوب الزكاة " (1) .
فعلق الشيخ - رحمه الله - على ذلك توضيحا لمراد المؤلف فقال:
" بيانه: أن وجوب الشاة زكاة عن أربعين شاة إذا كان المقصود منه مجرد دفع حاجة الفقراء ولو ببذل القيمة ارتفع وجوب الشاة على التعيين في الزكاة " (2) .
ولعل فيما سبق من أكبر الشواهد على هذا المعلم، وإيثارا للاختصار فسأكتفي بذكر أرقام الصفحات المبينة لنماذج أخرى في ذلك.
__________
(1) 3 \ 244 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 1، 1 \ 244 منه.(58/330)
المبحث السابع: المعلم السابع: مجانبته التعصب والتقليد:
تبين مما سبق لا سيما في المعلم الثاني حرص الشيخ - رحمه الله - على الدليل وتعظيمه للنصوص وبناؤه منهجه الأصولي عليها؛ ولذلك كان - رحمه الله - بعيدا عن التعصب لمذهب أو الجمود على مشرب، أو التقليد للغير بدون دليل صحيح أو نظر سليم.
وإذا كان للأصوليين آراء ومناهج بنوا عليها مسائلهم واستنباطاتهم، وسار عليها الخلف اقتداء بالسلف، فإن الشيخ رحمه(58/330)
الله كان له تميزه في ذلك، فلم يتعصب لمدرسة أصولية متكلمين أو غيرهم، ولم يسلم عقله ومنهجه لمذهب فقهي لا يحيد عنه كما عليه كثير من الفقهاء والأصوليين، لكنه - رحمه الله - جانب ذلك كله، وجعل الدليل منهجه والنظر الصحيح مسلكه، فجاء منهجه متميزا بمجانبة التعصب والتقليد المجرد، وهذه بعض النماذج على ذلك:
ا - في محاولة للآمدي - رحمه الله - أن يقصر الرد للكتاب والسنة على المجتهدين فقط (1) ، وهو يومئ ولو من طرف خفي للتقليد للمذاهب دون رجوع مباشر إلى الوحيين.
علق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: ". . . إن وجوب الرد إلى الله والرسول لم يخص بحال ولا زمن ولا بأحد، فيجب بقاؤه على عمومه، ولا يخرج منه إلا الرد إليه بسؤاله بعد وفاته لتعذره، وإلا من عجز عن الرد إليه لضعف استعداده أو مؤهلاته فلا يكلف ذلك. . . " (2) وهو ظاهر في اتباع الدليل وطلبه من كل أحد، ويتجلى هذا المعلم كثيرا في مبحث الاجتهاد والتقليد عند الأصوليين يمثلهم الآمدي رحمه الله، فكان الشيخ - رحمه الله - يعلق على المسائل الخاصة بذلك مما يؤكد هذا المنهج بجلاء.
خذ على سبيل المثال:
__________
(1) 4 \ 26 من الإحكام.
(2) تعليق رقم 2، 4 \ 26 من الإحكام.(58/331)
أول تعليق في باب التقليد (1) أحال الشيخ - رحمه الله - القارئ إلى كلام المحققين من أهل العلم في هذه المسألة، الذين حققوا مناطها، وفصلوا القول فيها حسب قوة الدليل وسلامة التعليل، وحذروا من التعصب والتقليد.
وفي التعليق الثاني والثالث فصل الشيخ - رحمه الله - في مسألة من يجوز له التقليد ممن يحرم عليه (2) وفي الرابع حث على الدليل، وعظم السنة وعد مساواتها بالإجماع تسامحا أو تحريفا كما أورده المصنف (3) رحمه الله.
وفي التعليق الخامس لما سوى المصنف بين التقليد والاتباع والاستفتاء وعدها خلافا في عبارة، علق الشيخ رحمه الله بقوله: " ليس هذا مجرد اختلاف في العبارة والاصطلاح بل الاختلاف بين حقائق ومدلولات تلك العبارات يتبعه اختلاف في حكم بعضها واتفاق على حكم بعض آخر " (4) .
وفي مسائل الاجتهاد فصل الشيخ الكلام فيها بقول نفيس
__________
(1) تعليق رقم 1، 4 \ 221 منه.
(2) تعليق رقم 2، 3، 4 \ 211 من الإحكام.
(3) 4 \ 211، وانظر: تعليق رقم 4.
(4) تعليق رقم 5، 4 \ 221.(58/332)
خلاصته أنه لا يخلو منه زمان وأنه لا ينقطع (1) .
وتلك دعوة إلى تحري الحق في مسائل الاجتهاد والنظر فيها على حسب أدلة وقواعد الشريعة الغراء.
ولعله بذلك قد تبين حرص الشيخ - رحمه الله - على تحقيق هذا المعلم المهم حرصا على ما دل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، بعيدا عن التعصب والتقليد، وفتحا لباب الاجتهاد بالضوابط الشرعية والشروط المرعية.
__________
(1) تعليق رقم 2، 4 \ 233.(58/333)
المبحث الثامن: المعلم الثامن: عنايته الفائقة باللغة العربية:
اللغة العربية لغة القرآن الكريم، بها نزل وبها أبان التوحيد وأوضح الأحكام، وبمعهود العرب ومألوفهم وأسلوبهم جاء الخطاب الشرعي، ولما كانت الألفاظ قوالب للمعاني، واللغة وعاء المعنى، فإن للغة العربية أثرا كبيرا وأهمية كبرى ومنزلة عظمى عند العلماء، لا سيما علماء الشريعة، خاصة علماء الأصول؛ لأنها عمدة في معرفة دلالات الألفاظ وبناء الأحكام عليها، كما يحتاجها المجتهدون والمفتون للنظر في دلالات اللفظ، ومن ثم بناء الحكم عليه، ولهذا كانت اللغة مصدرا يستمد منه علم الأصول، ومعينا ثرا للأصوليين يبنون من خلاله استنباطاتهم وأحكامهم (1) ، وكذلك سلك الشيخ رحمه الله، فكان حريصا على اللغة العربية، مجانبا البعد عنها وتركها
__________
(1) ينظر في فائدة اللغة للأصولي: 1 \ 100 من شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي.(58/333)
إلى فلسفات منطقية ومذاهب كلامية يبني عليها بعض الاستدلالات الشرعية.
فها هو - رحمه الله - يعيب على بعض الأصوليين خروجهم عن منهج الكتاب والسنة واللغة العربية إلى صناعة منطقية ومباحث كلامية، لا سيما في الحدود والتعريفات.
فعند إغراق الآمدي في التعريفات للقياس والاعتراضات عليها والمناقشات والإجابات، علق الشيخ - رحمه الله - بقوله: " هذه التعاريف دخلتها الصناعة المنطقية المتكلفة، فصارت خفية غامضة، واحتاجت إلى شرح وبيان، ومع ذلك لم تسلم من النقد والأخذ والرد، ولو سلكوا في البيان طريقة القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعهود العرب ومألوفهم - وهذا هو الشاهد - من الإيضاح بضرب الأمثال لسهل الأمر. . . إلخ " (1) .
كما اعتنى - رحمه الله - ببناء الدلالات الأصولية - كدلالة الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمنطوق والمفهوم، وغيرها - على ظاهر اللغة، فتبقى على دلالتها اللغوية حتى يأتي ما يصرفها عنه، كالدلالة الشرعية أو العرفية أو نحوها، وهذا هو المتمشي مع الأصل الذي سار عليه علماء الأصول.
كما كان - رحمه الله - كثيرا ما يعلق على ملحوظات لغوية ونحوية مما تسامح فيه الآمدي، وذلك غيرة من الشيخ - رحمه الله - على اللغة وحرصا على الالتزام بها وبعدا عن اللحن فيها.
__________
(1) تعليق رقم 2، 3 \ 190، 191 من الإحكام.(58/334)
والنماذج على ذلك كثيرة لا يسمح المقام بسردها، ولذلك فسأكتفي بالإحالة على أماكن وجودها.
ولأختم هذا المعلم بهذه اللطيفة اللغوية، فقد أورد الآمدي لفظة (ذات) على الله سبحانه وتعالى (1) ، فعلق الشيخ - رحمه الله - على ذلك بقوله: (جرى علماء الكلام والأصول على إطلاق كلمة: (ذات) على نفس الشيء وعينه وحقيقته، وأن يدخلوا عليها الألف واللام، وهذا لا يصح في اللغة العربية، فإن كلمة (ذات) مؤنث كلمة (ذو) وكلتاهما لا يدخل عليها الألف واللام، ولا تطلق على نفس الشيء وحقيقته، إنما تنسب إليه نسبة الصفة إلى الموصوف وتضاف إلى ما لها به نوع ملابسة واتصال) .
__________
(1) 2 \ 316 من الإحكام.(58/335)
المبحث التاسع المعلم التاسع تأثره بمنهج المحققين من الأصوليين(58/335)
:
من المتقرر أن من العلماء من لم يسلك منهجي المتكلمين والفقهاء المعروفين في علم الأصول، بل استفاد من إيجابيات كل منهما، وجانب المؤاخذات عليه، والتزم بصحة الدليل وسلامة التعليل والعناية بالتطبيق والتمثيل، مع وضوح العبارة ومجانبة الولوغ في الجدل، فأخذ اللباب واهتم بالجوهر، فكانت طريقته متميزة ومنهجه سليما، بل منهم من هو مدون علم الأصول لكن نهج من جاء بعده - في الغالب - نهج المتكلمين ذلك هو الإمام الشافعي رحمه الله ولقد أثنى شيخنا - رحمه الله - عليه في المقدمة فقال: (وكان أول من عني بتدوين أصول الفقه فيما اشتهر بين العلماء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، فأملى كتابه المعروف بالرسالة. . . وقد جمع فيه بين أمرين:
الأول: تحرير القواعد الأصولية وإقامة الأدلة عليها من الكتاب والسنة، وإيضاح منهجه في الاستدلال وتأييده بالشواهد من اللغة العربية.
الثاني: الإكثار من الأمثلة لزيادة الإيضاح والتطبيق لكثير من الأدلة على قضايا في أصول الشريعة وفروعها، مع نقاش للمخالفين(58/336)
تزيده جزالة العبارة قوة وتكسبه جمالا، فكان كتابه قاعدة محكمة بنى عليها من جاء بعده، ومنهجه فيه طريقا واضحا سلكه من ألف مع هذا العلم. . . " وتوسع فيه إلى أن قال - رحمه الله: (ولو سلك المؤلفون في الأصول بعد الشافعي طريقته في الأمرين تقعيدا واستدلالا وتطبيقا وإيضاحا بكثرة الأمثلة، وتركوا الخيال وكثرة الجدل والفروض، وأطرحوا العصبية في النقاش والحجاج، ولم يزيدوا إلا ما تقتضي طبيعة النماء في العلوم إضافته من مسائل وتفاصيل لما أصل في الأبواب، وإلا ما تدعو إليه الحاجة من التطبيق والتمثيل من واقع الحياة للإيضاح. . . لسهل هذا العلم على طالبيه، ولانتهى بمن اشتغل به إلى صفوف المجتهدين من قريب) (1) .
وممن استفاد منه شيخنا - رحمه الله - الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله، فقد أثنى عليه وعلى كتابه في الأصول من حيث العناية بالأدلة النقلية والإكثار منها وربطها بالفروع، غير أنه رأى أنه لا يبلغ مبلغ الشافعي - رحمه الله - وأنه أخذ عليه الجمود على الظاهر، وإغفال المقاصد والحكم الشرعية، مع شدته في المعارضة والنقاش.
__________
(1) ص: ب، ج من المقدمة للشيخ رحمه الله.(58/337)
وإليك ما قاله الشيخ - رحمه الله - عنه وعن كتابه، والمقارنة بينه وبين الشافعي، فيقول: (وقد تبعه - يعني الشافعي - في الأمرين، وهما العناية بالقواعد الأصولية والاستدلال عليها، والتمثيل والتطبيق - أبو محمد علي بن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، بل كان أكثر منه سردا للأدلة النقلية مع نقدها وإيرادا للفروع الفقهية مع ذكر مذاهب العلماء فيها وما احتجوا به عليها، ثم يوسع ذلك نقدا ونقاشا ويرجح ما يراه صوابا، غير أن أبا محمد وإن كان غير مدافع في سعة علمه واطلاعه على النصوص، وتمييز صحيحها من سقيمها، والمعرفة بمذاهب العلماء وأدلتها، وإيراد ذلك في أسلوب رائع وعبارات سهلة واضحة، لم يبلغ مبلغ الشافعي، فقد كان الشافعي أخبر منه بالنقل، وأعرف بطرقه، وأقدر على نقده، وأعدل في حكمه، وأدرى بمعاني النصوص ومغزاها، وأرعى لمقاصد الشريعة وأسرارها وبناء الأحكام عليها، مع جزالة في العبارة تذكر بالعربية في عهدها الأول، ومع حسن أدب في النقد، وعفة لسان في نقاش الخصوم والرد على المخالفين (1) .
ولقد كان منهج الشيخ - رحمه الله - وموقفه من ابن حزم موقف المنصف، فأثنى عليه بما أصاب فيه ونقده حين أخطأ، والكمال لله وحده، بل إنه - رحمه الله - أحال على كتابه في كثير من المواضع، فعند
__________
(1) 1 \ ج من المقدمة.(58/338)
ذكر الآمدي أدلة المنكرين للقياس أحال إلى كلام ابن حزم في الأحكام؛ لأنه ذكرها وتوسع فيها، والنماذج على ذلك كثيرة (1) ومن العلماء الذين تأثر الشيخ بهم العالم الإمام والمجاهد الهمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بل أكاد أقول: إنه الحائز لقصب السبق وصاحب القدح المعلى في تأثر الشيخ به، وليس هذا إلا توفيقا من الله لهما، فشيخ الإسلام ابن تيمية لا يستطيع القلم في هذه العجالة ذكر أفضاله ومآثره في كل فن، لا سيما علم الأصول، مما حدا بشيخنا بل بكل سالك مسلك التحقيق والتدقيق والعلم العميق أن ينهل من معين علمه، وأن يستفيد من منهجه وطريقته، فقد جمع - رحمه الله - ما قل أن يجمعه غيره، ولقد استفاد منه الشيخ - رحمه الله - في تعليقاته، سواء منها ما يتعلق بالعقيدة أم بالأصول أم بغيرها، حتى بلغ ما أحال الشيخ إلى كتبه وعلمه نحوا من ستين موضعا يصعب سردها في هذه العجالة؛ لذلك سأكتفي بالإحالة إلى نماذج من أرقام الصفحات في ذلك.
__________
(1) تعليق رقم 1، 4 \ 46 من الإحكام للآمدي.(58/339)
ومن العلماء الذين استفاد الشيخ منهم وتأثر بهم الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله، ولا غرو فهو تلميذ شيخ الإسلام، وأشد طلابه ولعا به وشغفا بملازمته والنهل من علمه، وقد كان لابن القيم - رحمه الله - لمسات قيمة في علم الأصول، نهج فيها نهج شيخه رحمه الله، ولقد استفاد شيخنا - رحمه الله - من منهجه وأحال في كثير من المواضع على كتبه، لا سيما إعلام الموقعين، وبدائع الفوائد وغيرها، وقد وصلت إحالة الشيخ إلى كتب ابن القيم في قرابة عشرين موضعا.
ومن العلماء المحققين الذين استفاد الشيخ رحمه الله من علمهم ومنهجهم الإمام الشاطبي رحمه الله، الذي تميز منهجه بالنظر في(58/340)
مقاصد الشريعة وجمع مسائل الفقه ولو اختلفت أبوابها تحت قضية أصولية، وقد أثنى الشيخ - رحمه الله - على منهج الشاطبي في مقدمة تعليقه على الإحكام، فلما ذكر المناهج الأصولية وأورد منهج الفقهاء وطريقة الحنفية قال: (ولو سلك هؤلاء طريق الاستقراء فأكثروا المسائل الفقهية من أبواب شتى على أن يجمعها وحدة أصولية، كما فعل ذلك الشاطبي أحيانا في كتاب الموافقات، وقصدوا بذلك الشرح والبيان والإرشاد إلى ما بينها من معنى جامع يقتضي اشتراكها في الحكم دون تقيد بمذهب معين؛ ليخلصوا إلى القاعدة الأصولية، وأتبعوا ذلك ما يؤيده الاستقراء من أدلة العقل والنقل لكان طريقا طبيعيا، تألفه الفطر السليمة وتعتمده عقول الباحثين المنصفين، ولأكسبوا من قرأ في كتبهم استقلالا في الحكم، وفتحوا أمامهم باب البحث والتنقيب ويسروا لهم تطبيق القواعد الأصولية على ما جد ويجد من القضايا في مختلف العصور) (1) .
ولهذا الإعجاب من شيخنا بالشاطبي - رحمه الله - فقد أحال إلى كتابه القيم (الموافقات) في مواضع شتى تزيد على العشرة، لا سيما في كتاب المقاصد (2) .
كما أحال الشيخ - رحمه الله - على كتاب الاعتصام للشاطبي (3)
__________
(1) د، هـ من المقدمة للشيخ رحمه الله.
(2) وهذه النماذج على ذلك بالصفحات كما يلي: 1 \ 37 - 124 - 131. 3 \ 107 - 274 - 276. 4 \ 160.
(3) 4 \ 160 من الإحكام تعليق رقم 1.(58/341)
رحمه الله.
وبذلك المعلم تتبين الكوكبة العلمية الوضاءة التي استنار الشيخ - رحمه الله - بمنهجها، واستقى من حسن طريقتها ومسلكها، فرحم الله الجميع ووفقنا للاستفادة من علمهم ومنهجهم.(58/342)
المبحث العاشر: المعلم العاشر: موقفه المنصف من المخالف، وفقهه لأدب الخلاف:
العلم والأدب صنوان لا يفترقان بل أقول: ينبغي ألا يفترقا لأن جمال العلم أدب جم يزين صاحبه، ويدفعه للمعالي، ويبعده عن السفاسف، وعميق العلم لا يحتاج إلى لجاج في إثبات دعواه ولا تشنج في الرد على خصمه، وعفة اللسان منقبة كبيرة من وفق إليها فقد وفق للصواب، وكان حريا بالأثر العظيم في نشر علمه وفقهه ومنهجه، وقد يحرم العالم من نشر علمه وإفادة الآخرين بسبب تقصيره في هذا المجال، ولذلك لما فقه الصحابة أدب الخلاف ومن بعدهم الأئمة العظام كان لذلك الأثر الفاعل في قبول الناس لقولهم والإفادة منه، وعلى ذلك سار أهل العلم والإيمان إلى يومنا هذا، ولله در النخبة والصفوة المميزة من علماء هذه الأمة كيف فقهوا العلم والأدب معا، وما أحسن وأبلغ منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه(58/342)
الله في ذلك فله فيه القدم الراسخة والقمة السامقة، وعلى ذلك درج العلماء، يأخذ الخلف بمنهج السلف، وكان شيخنا - رحمه الله - من هؤلاء الأئمة الذين جمعوا بين العلم وأدبه، فكان لمنهجهم التميز الموفق والأثر العظيم، فكان الشيخ - رحمه الله - يسلك مسلك الحجة والدليل والبرهان الناصع مع عفة لسان وحسن أدب، لا سيما عند نقد المخالف، بل لعله أن يعتذر عن مخالفه، فانظر إليه - رحمه الله - عند إيراده القصة التي رمي فيها الآمدي بترك الصلاة فعمد إليه بعضهم، ووضع على رجله شيئا من الحبر فبقيت نحو يومين، فينبري الشيخ انبراء المنصف فيلتمس العذر له فيقول: (قد يبقى الحبر أياما على العضو مع تتابع الوضوء والغسل، وخاصة عضو من لا يرى التدليك فرضا في الطهارة بل يكتفي بإسالة الماء في غسله ووضوئه) ثم يختم القصة فيقول: (وعلى كل حال فالأصل البراءة حتى يثبت الناقل) (1) .
الله أكبر هذا هو المنهج المتميز الذي يتلألأ أدبا وأخلاقا، أين هو من منهج كثير من الناس الذين أغرقوا بتتبع السقطات وأولوا بتصيد العثرات، فسوء الظن طويتهم، والمبادرة بالاتهام مطيتهم، فالله المستعان.
وقد كان الشيخ - رحمه الله - في تعليقه على مواضع من الإحكام مترسما منهج الأدب، فكان يصحح الخطأ وينبه على الرأي المرجوح، فيقول مثلا: الصحيح كذا، أو فيه نظر. ويبين الصواب، ولا يتهم أو
__________
(1) ص: ز من المقدمة وترجمة الشيخ للآمدي رحمه الله.(58/343)
يسيء الظن أو يعنف أو يقسو في العبارة، نعم قد يمسك المخالف من مأمنه، ويحتج عليه بنفس دعواه، ويتألم لمواضع التناقض عند من يخالفه، أو التعسف في استدلال، أو لي أعناق النصوص لخدمة مذهب، أو الإقناع برأي معين.
وهذا نموذج يثبت ذلك:
وهو أن الآمدي - رحمه الله - كثيرا ما يكرر أن مسائل الأصول قطعية، فيخالفه الشيخ رحمه الله، وأن مسائل الأصول فيها ما هو قطعي وفيها ما هو ظني، وقد تعقب الشيخ الآمدي - رحمه الله - في مواضع صرح الآمدي واعترف بأن بعض المسائل ظنية وأحيانا يتوقف، ولم يكن الشيخ - رحمه الله - في ذلك معنفا ولا متعسفا، بل يوقف القارئ بكل أدب على خطأ المؤلف وتناقضه في المسألة (1) .
ولعلي أختصر القول في ذلك بالإحالة إلى النماذج الحية في هذا المعلم المهم.
وهكذا ينتهي الحديث عن هذا المعلم، وبانتهائه تنتهي المعالم العشرة الرئيسة في منهج الشيخ الأصولي رحمه الله. وأعترف أنها خطوط عريضة، وملامح خاطفة بحاجة إلى التعمق والدراسة والاستقصاء. وإني لأرى أن كل معلم منها بحاجة إلى بحث مستقل
__________
(1) انظر 2 \ 71 - 80، 117 من الإحكام، وتعليق رقم 1، 2 منه.(58/344)
يتم من خلاله الشرح والبسط والاستقراء والتعليق والاستقصاء، لكن لعلي وفقت بجهد المقل لأن أرسم صورة مختصرة عن منهجه رحمه الله، وإني لأطالب بدراسة أراء الشيخ الأصولية ومنهجه العلمي بشكل موسع ومقارن؛ ليفيد منه الباحثون وطلاب العلم عامة والمتخصصون في علم الأصول خاصة، فهو بحر محيط - بلا مبالغة - جدير بإبحار المختصين للحصول على درره ولآلئه وأصدافه، عليه رحمة الله.(58/345)
الخاتمة:
وبعد هذه الرحلة العلمية الممتعة التي عشنا فيها في رحاب منهج علم من علمائنا الأجلاء، ومشايخنا الفضلاء، هو سماحة العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، يحسن أن أورد بعض النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث في معالم منهجه الأصولي رحمه الله.
ولقد تحصل لي من خلال هذا البحث نتائج عامة وأخرى خاصة سأفرد كلا منها بحديث كالأتي:
أولا: النتائج العامة:
أهمها:
1 - الحاجة الماسة إلى إبراز مثل هذا النوع من البحوث في التركيز على تجلية الصورة العلمية المشرقة لعلمائنا الأجلاء.
2 - ضرورة العناية بقضية (المنهج) في دراسة الشخصيات العلمية عامة والأصولية خاصة.
3 - مكانة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - علميا وأصوليا ومنهجيا.(58/345)
4 - التعرف على جوانب سيرته المباركة والإفادة منها.
5 - تبحر الشيخ - رحمه الله - في علم الأصول مما لم أستطع معه لإخفاقي في الإبحار إلا أن أرسم المعالم وأوضح الملامح والخطوط العريضة في منهجه رحمه الله.
6 - إبراز المنهج الأصولي الصحيح الذي سار عليه المحققون من العلماء وسلكه شيخنا - رحمه الله - التزاما بالعقيدة الصحيحة والأدلة النقلية السليمة.
تلك أهم النتائج العامة التي توصلت إليها.
أما النتائج الخاصة فهي كما يلي:
1 - بروز منهج الشيخ - رحمه الله - في إبراز عقيدة السلف ونقد ما يخالفها، وضرورة بناء علم الأصول على صحة الاعتقاد.
2 - تركيز الشيخ - رحمه الله - في منهجه الأصولي على الأدلة الصحيحة، وعنايته بالنصوص من الكتاب والسنة، وتقعيد علم الأصول على صحيح المنقول، ونقد الروايات الضعيفة والأخبار الموضوعة.
3 - تجلي منهج الشيخ - رحمه الله - في تنقية علم الأصول، مما علق به من الإغراق في الجدل والمنطق، والاسترسال في المباحث العقلية والمسائل الافتراضية.
4 - لقد سار الشيخ - رحمه الله - في عرض المسائل الأصولية وبحثها على المنهج العلمي الرصين الذي يقرب المعلومة للقارئ في أجلى صورة، واعتنى بتحرير محل النزاع، وركز فيها على التطبيقات وكثرة الأمثلة والتفريعات، وربط المسائل الأصولية(58/346)
بالفروع الفقهية، فجمع بين التقعيد والتأصيل والتفريع بمنهج متميز زاده بهاء وإفادة تجليته لمقاصد الشريعة وحكمها وأسرارها، وعنايته بثمرة الخلاف العلمية في جمع متكامل وعرض سليم وطرح فريد.
5 - بروز شخصيته العلمية الأصولية - رحمه الله - وتميزه بالدقة، فكل كلمة لها دلالتها وكل حرف له موضعه وأثره، وهذا شأن العالم المتمكن والأصولي المتمرس.
6 - عنايته - رحمه الله - بزبدة هذا العلم تيسيرا وتسهيلا على المتلقي بذكر المسألة والقاعدة والمثال بطريقة واضحة وبصورة مختصرة بلا إغراق وتطويل فيما لا طائل تحته من المباحث الكلامية والمسائل الجدلية.
7 - تحرر الشيخ - رحمه الله - من التعصب المذهبي والتقليد العلمي والمنهجي لأحد دون دليل واضح وبرهان ساطع، فالدليل رائده، والحجة مطلبه، والحكمة ضالته.
8 - عناية الشيخ - رحمه الله - بلغة القرآن الكريم اللغة العربية تأصيلا والتزاما وأسلوبا ونقدا، غيرة على لغة الضاد، وعاء المعاني، وقالب الأحكام الشرعية.
9 - استفادة الشيخ - رحمه الله - من منهج المحققين من الأصوليين، أعلام التجديد فيه، على ضوء الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، فكان أن عاش بين التأثر بهم والتأثير من خلال منهجهم، ومع كل هذا وذاك فهو مستقل الشخصية متميز النزعة رحمه الله.(58/347)
10 - جمعه بين العلم الجم والأدب الأتم، فقيه لأدب الخلاف، منصف للخصم، عف اللسان في المناقشة للآخرين، يقصد إصابة الحق بدليله وإقامة الحجة على الغير، لا للتشفي منه والتقليل من شأنه، وتلك لعمر الحق سمة العلماء العاملين المخلصين.
وفي الختام إن كان هناك من توصيات في هذا الصدد؛ فإنها تكمن في الحاجة الماسة إلى إيلاء علم الشيخ ومنهجه في مختلف الفنون - لا سيما في العقيدة والأصول والفقه ونحوها - العناية والإبراز من قبل المتخصصين وطلاب الدراسات العليا، وضرورة نشر ذلك للباحثين، وربط الناشئة والأجيال العلمية المعاصرة بعلمائهم ومشايخهم ذوي الاعتقاد الصحيح، والمنهج السليم.
وقبل أن أضع القلم أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى للشيخ - رحمه الله - سابغ الرحمة والرضوان والفردوس الأعلى في الجنان، وأن يجزيه عن المسلمين وطلاب العلم خير الجزاء، وأن يوفق الباحثين للاستفادة من علمه ومنهجه، وأن يجمعنا به في دار كرامته، وأن يوفقنا لرد شيء من جميله وفاء لبعض حقه علينا، إنه جواد كريم، وهو سبحانه خير مسئول وأكرم مأمول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(58/348)
الإحسان: أهميته، أقسامه، ثمراته
للدكتور \ مسفر بن سعيد الغامدي (1)
هدف البحث وغايته:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن مكانة الإحسان في الإسلام عظيمة، بل هو أعلى المنازل، ولو أن كل مسلم التزم بهذا الركن علما، واعتقادا، وعملا لكان واقع الأمة غير ما نرى.
إننا نرى كثيرا من المسلمين يمارسون كثيرا من المعاصي، لأنهم لم يستحضروا مراقبة الله لهم، ولم يحسنوا أثناء فعل الطاعات التي لو أحسنت لأثمرت مراقبة الله والإخلاص له.
إن العمل بمقتضى مراقبة الله للعبد يفضي إلى مراقبة العبد لله، ومن ثم الإخلاص له، وهذه المعاني المهمة ضعفت في نفوس وقلوب كثير من المسلمين، مما كان له الأثر السلبي على مواقعهم أفرادا وجماعات.
فوردت فكرة جمع شتات هذا الموضوع للاستفادة الشخصية، وليستفيد من يطلع عليه، إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن النفس والشيطان، والحمد لله أولا وآخرا.
__________
(1) أستاذ الحديث النبوي بكلية المعلمين بمكة المكرمة.(58/349)
التعريفات:
في اللغة: الإحسان ضد الإساءة، ورجل محسن ومحسان، وأحسن به الظن: نقيض أساءه، والفرق بين الإحسان والإنعام: أن الإحسان يكون لنفس الإنسان ولغيره، تقول: أحسنت إلى نفسي. والإنعام: لا يكون إلا لغيره. وهو يحسن الشيء: أي يعمله، ويستحسن الشيء: أي يعده حسنا (1) .
والإحسان يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان.
والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا عمل عملا حسنا، وعلى هذا قول أمير المؤمنين رضي الله عنه: (الناس أبناء ما يحسنون) أي منسوبون إلى ما يعملون، وما يعملونه من الأفعال الحسنة، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (2) . والإحسان أعم من الإنعام، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (3) (4) .
وفي الاصطلاح:
هو ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (5) » .
__________
(1) لسان العرب جـ 13 ص 17 ط دار صادر، بيروت.
(2) سورة السجدة الآية 7
(3) سورة الإسراء الآية 7
(4) المفردات للراغب الأصفهاني ص 118، 119 ط دار المعرفة.
(5) أخرجه البخاري في الصحيح. انظر: فتح الباري جـ 1 ص 114 رقم 50 كتاب الإيمان، وأخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان رقم 7، ج 1 ص 40 من حديث أبي هريرة. وللإحسان في الاصطلاح معان أخرى، مثل الإحسان للوالدين ببرهما وعدم عقوقهما، والإحسان في القتل والذبح، بالإسراع، وعدم التعذيب، والإحسان يدخل في كل شيء؛ بمعنى الإتقان، وبمعنى الرحمة والرأفة من الإنسان للمخلوقات. كما قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . .)) الحديث، وهذا ليس من بحثنا هنا.(58/350)
قال ابن الأثير: أراد بالإحسان: الإخلاص، وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معا، وذلك أن من تلفظ بالكلمة وجاء بالعمل من غير نية إخلاص لم يكن محسنا، ولا كان إيمانه صحيحا. وقيل: أراد بالإحسان: الإشارة إليه في الحديث بقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1) » . وقال النووي: (فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه - تبارك وتعالى، في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك. . .) (2) . وقال النووي أيضا: (معناه أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك؛ لكونه يراك لا لكونك تراه، فهو دائما يراك. . .) (3) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير جـ 1 ص 387 ط المكتبة الإسلامية، لسان العرب جـ 13 ص 117.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي، جـ 1 ص 158 دار إحياء التراث العربي.
(3) فتح الباري جـ 1 ص 120.(58/351)
وقال ابن تيمية: (وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين) (1) .
وقال ابن حجر: (المقصود: إتقان العبادة. . . وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع، وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود. . .، ومشاهدة الحق بقلبه كأنه يراه بعينه. . .، وأن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمله. . . وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته " (2) .
والإحسان: لب الإيمان، وروحه، وكماله (3) .
قال الحافظ الحكمي: (فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث «سؤال جبريل لما قال له: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (4) » فبين صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين، أعلاهما عبادة الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة. والثاني: مقام المراقبة) (5) .
وقال أيضا: (هو تحسين الظاهر والباطن، وهو أعلى مراتب
__________
(1) فتاوى ابن تيمية جـ 7 ص 10 ط سنة 1398 اهـ.
(2) فتح الباري جـ 1 ص120 بتصرف.
(3) انظر: تهذيب مدارج السالكين ص 481 للغزي. .
(4) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(5) أعلام السنة المنشورة للحافظ الحكمي، ص 72 ط إدارة البحوث. .(58/352)
الدين، وأعظمهما خطرا) (1) .
__________
(1) معارج القبول للحكمي جـ 2 ص 40، 399.(58/353)
مقامات الإحسان ومنازله:
الإحسان ينقسم قسمين:
القسم الأول: المشاهدة.
القسم الثاني: الإخلاص.
والمنزلة الأولى أعلى من الثانية، بل الثانية مبنية على الأولى، وهذان المقامان مأخوذان من «حديث جبريل عليه السلام:. . . أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1) » قال ابن حجر: (وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله: (كأنك تراه) أي: وهو يراك. والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل، وهو قوله: (فإنه يراك) (2) .
قال الحكمي: (إن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين:
المقام الأول: - وهو أعلاهما - أن تعبد الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله - عز وجل - بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، فمن عبد الله - عز وجل - على استحضار قربه منه، وإقباله عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، أوجب له ذلك الخشية، والخوف، والهيبة، والتعظيم.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) فتح الباري لابن حجر جـ 1 ص 120.(58/353)
المقام الثاني: مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى لأن استحضار ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله، وإرادته بالعمل (1) .
وهذا المقام هو الوسيلة الموصلة إلى المقام الأول، ولهذا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا للأول فقال: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك (2) » .
فإذا تحقق في عبادته بأن الله تعالى يراه، ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه، وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فحينئذ يسهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله تعالى من عبده، ومعيته، حتى كأنه يراه (3) .
وقال الحكمي أيضا: (الإحسان على مرتبتين متفاوتتين: أعلاهما عبادة الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، وهذا هو حقيقة مقام الإحسان) (4) .
__________
(1) معارج القبول للحافظ الحكمي جـ 2 ص 400.
(2) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(3) انظر: معارج القبول جـ 2 ص 400.
(4) أعلام السنة المنشورة ص 72.(58/354)
منزلة الإحسان في الدين ومكانته:
للإحسان في الدين منزلة عالية، بل له أعلى المنازل، قال النووي: (وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين،(58/354)
وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين. . .) (1) .
وقال ابن تيمية: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا. . .) ، ثم قال: (وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. . .) (2) .
وقال ابن القيم: (ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) منزلة الإحسان، وهي لب الإيمان وروحه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل فجميعها منطوية فيها. . .، وأما الحديث: فإشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته الجامعة؛ لخشيته، ومحبته، ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان) .
قال الهروي: (وأول درجاته الإحسان في القصد، بتهذيبه
__________
(1) انظر: فتح الباري جـ 1 ص 120.
(2) فتاوى ابن تيمية جـ 7 ص 10.
(3) سورة الفاتحة الآية 5(58/355)
علما، وإبرامه عزما) (1) .
قال ابن كثير على الآية الكريمة: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (2) أي: ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (3) . ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال بعد ذلك كله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (4) (5) .
ويقول الحافظ الحكمي:
وثالث مرتبة الإحسان ... وتلك أعلاها لدى الرحمن
وهي رسوخ القلب في العرفان ... حتى يكون الغيب كالعيان
وهي أعلى مراتب الدين، وأعظمها خطرا، وأهلها هم المستكملون لها، السابقون بالخيرات، المقربون في علو الدرجات، والإسلام هو الأركان الظاهرة عند التفصيل، واقترانه بالإيمان، والإيمان إذ ذاك هو الأركان الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر، والباطن، وأما عند الإطلاق فكل منها يشمل دين الله كله (6) .
__________
(1) انظر: تهذيب مدارج السالكين للغزي ص 481 ط دار المطبوعات الحديثة.
(2) سورة الرحمن الآية 60
(3) سورة يونس الآية 26
(4) سورة الرحمن الآية 61
(5) تفسير ابن كثير جـ 7 ص 480 ط الشعب.
(6) معارج القبول للحافظ الحكمي جـ 2 ص 399.(58/356)
الأعمال تتفاضل بحسب فعلها بالإحسان:
إن جميع العبادات إذا أديت بالإحسان فإنها تفضل غيرها من دون إحسان.
وإن جميع العاملين يتفاضلون بحسب اتصافهم بالإحسان، ويدل على ذلك اقتران الإحسان بالأعمال التالية:
1 - التقوى والإحسان:
إن التقوى من أعظم العبادات، لكنها إذا اقترنت بالإحسان فإنها تصبح أفضل الطاعات والقربات، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (2) . وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (3) {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} (4) ، ويبدو من الآية الأولى أن التقوى تكررت ثلاث مرات:
المرة الأولى: مع الإيمان، والعمل الصالح، وهذا يمثل - والله أعلم - ركن الإسلام.
المرة الثانية: مع الإيمان فقط، وهذا يمثل ركن الإيمان.
المرة الثالثة: تكررت التقوى مع الإحسان، وهذا ركن الإحسان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 93
(2) سورة النحل الآية 128
(3) سورة الذاريات الآية 15
(4) سورة الذاريات الآية 16(58/357)
ثم عقب - سبحانه - بذكر حبه للمحسنين؛ بعد هذه الرحلة التي انتهت بالإحسان.
أما الآية الثانية فهي تعقيب من الله بعد أن أمر بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالمجادلة بالتي هي أحسن، وبالمعاقبة بالمثل، والصبر أفضل، وبعدم الحزن أو الضيق من مكرهم، فإذا وقع الأذى فهو امتحان، وابتلاء، لكن العاقبة مضمونة، ومعروفة، ومن كان الله معه - وهي المعية الخاصة للمؤمن - فلا عليه ممن يمكرون أو يكيدون.(58/358)
2 - الإحسان والإنفاق في سبيل الله:
قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
إن الإنفاق في سبيل الله جهاد، فمن أنفق وجاهد؛ استطاع أن يرتقي إلى المرتبة الأعلى، ألا وهي الإحسان، وهي عليا مراتب الإسلام التي يستوي فيها السر والعلن، ولذلك جاء هذا التعقيب الجميل بعد الإنفاق بأن الله يحب المحسنين، ومن أحبه الله فقد سعد في الدنيا والآخرة.
يقول ابن كثير: (ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده، ثم عطف
__________
(1) سورة البقرة الآية 195(58/358)
بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) تفسير ابن كثير جـ 1 ص 332.(58/359)
3 - الإحسان والعفو والصفح:
قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) هذه طبيعة بني إسرائيل، نقض العهود والمواثيق، وتحريف الكتب السماوية، ونسيان ما ذكروا به، والخيانة وغير ذلك.
لكن التوجيه الرباني للرسول صلى الله عليه وسلم هو العفو والصفح عنهم لعلهم يرعوون أو يئوبون أو يذكرون، والعفو والصفح من الصفات التي لا يقدر عليها إلا المحسنون، الذين قد استوى سرهم وعلانيتهم، والذين يرجون ما عند الله، ويخافون عقابه، والذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يروه فهو يراهم سبحانه.
وقال سبحانه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) العفو عن الناس، والتنازل عن حظ النفس في المعاقبة بالمثل، أو الانتصار للذات، منزلة عالية لا يستطيعها إلا المحسنون، ولذلك أكد سبحانه وتعالى حبه للعافين عن الناس.
__________
(1) سورة المائدة الآية 13
(2) سورة آل عمران الآية 134(58/359)
4 - الإحسان والتقوى والنسك والذكر:
قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
إن لحوم ودماء كل ما شرع ذبحه، ليس هو الغاية من هذه النسك، وإنما الهدف والغاية هي تقوى الله، وذكره، والتقرب إليه، حتى يصل إلى أعلى الدرجات الإيمانية، حتى يكون من المحسنين، حتى يكون من المبشرين.
__________
(1) سورة الحج الآية 37(58/360)
5 - الإحسان والهدى والرحمة:
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (1) {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} (2) ، المحسنون هم الذين يكون كتاب الله لهم هدى ورحمة؛ لأنهم في أعلى منازل الدين، لأنهم أصبحوا يعبدون الله وكأنهم يرونه، فإذا كانوا لا يرونه، فإنه يراهم.
__________
(1) سورة لقمان الآية 2
(2) سورة لقمان الآية 3(58/360)
6 - الإحسان والصدق والتقوى:
قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، من كان صادقا، كان متقيا، ومن كان صادقا ومتقيا، كان محسنا، ومن كان محسنا؟ كان له من الأجر عند الله ما الله به عليم، بل له
__________
(1) سورة الزمر الآية 33
(2) سورة الزمر الآية 34(58/360)
ما يشاء، عند من؟ عند الذي عنده خزائن كل شيء، عند من يقول للشيء كن فيكون، عند القدير، عند من عنده الجنة، عند الله.(58/361)
7 - الإحسان وإرادة الله ورسوله، والدار الآخرة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (1) {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) طلب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم النفقة من النبي وليس عنده شيء، فنزلت هذه الآية وخيرتهن بين النفقة والطلاق وبين الصبر، فاخترن الصبر، فعوضهن الله خيري الدنيا والآخرة، لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وهذا دليل على إحسانهن رضي الله عنهن.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 28
(2) سورة الأحزاب الآية 29(58/361)
8 - الإحسان والجهاد:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) . إن من جاهد نفسه، وهواه، وشيطانه وجاهد أعداءه، وصبر على الابتلاء، كل ذلك في الله ولله، فإن العاقبة له، وسيبصره الله بالطريق المستقيم، ويثبته على الحق وسيكون الله معه، ومن كان الله معه كان من السعداء في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69(58/361)
9 - الإحسان والتقوى والاستجابة لله ولرسوله:
قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) .
إن استجابة الصحابة لله ولرسوله في التصدي للمشركين بعد غزوة أحد في حمراء الأسد، وهم مثخنون بالجراح، ومصابون بالقرح؛ دليل على الإحسان، ودليل على الإيمان، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين العظيمين، ولذلك وعدهم الله بالأجر العظيم، وهو وعد متحقق لا محالة لأنه من الله العلي الكبير، العزيز الكريم، القوي المتين، الذي يقول للشيء كن فيكون - سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 172(58/362)
10 - الإحسان والإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس:
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (1) {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) .
إن شهوة المال وحبه في كثير من الأحايين تمنع من الإنفاق، إلا من اتقى وأحسن فإنه ينفق في كل الأحوال، وفي كل الظروف، لا تمنعه سراء ولا ضراء من الإنفاق إذا من ينفق المال في السراء والضراء محسن.
وغالبا الغيظ يؤدي إلى انفعال وثورة دموية عارمة إذا أعلن وأظهر، أما إذا كظم من دون عفو فهو يؤدي إلى الحقد والضغينة،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 133
(2) سورة آل عمران الآية 134(58/362)
لكن فئة من المؤمنين إذا غضبت كظمت، وإذا كظمت عفت، فهم يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم فهؤلاء هم المحسنون، ولذلك أحبهم الله، ومن أحبه الله فهو محسن، وحب الله لهم يتفق وطبيعتهم تجاه إخوانهم بالعفو والصفح.(58/363)
11 - الإحسان وإسلام الوجه لله:
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (1) .
إن الدين عند الله هو الإسلام، وهو ملة إبراهيم، وأحسن ما في الإسلام إسلام الوجه لله، ولا يمكن إلا للمحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يروه فهو يراهم، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) .
إن إسلام الوجه لله: هو الإخلاص لله في العمل، والانقياد لأوامره، والانتهاء عن نواهيه، واتباع شرعه، فمن فعل ذلك فقد أخذ موثقا من الله متينا أنه لا يعذبه، بل من أحسن فله العاقبة الحسنى وهي الجنة.
وقال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 125
(2) سورة لقمان الآية 22
(3) سورة البقرة الآية 112(58/363)
إسلام الوجه لله إخلاص العمل لله وحده لا شريك له، وهو محسن أي: مخلص، ومتبع؛ لأن العمل لا يقبل إلا إذا توافر فيه شرطان: إحداهما: أن يكون خالصا لله وحده، والآخر: أن يكون صوابا، موافقا للشريعة، فإذا تحقق هذان الشرطان، ضمن الله لهم الأجر، وأمنهم مما يخافون منه فيما يستقبلونه، ولا يحزنون على ما مضى مما يتركونه.
قال سعيد بن جبير: فـ {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (1) يعني في الدار الآخرة، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) للموت (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 112
(2) سورة البقرة الآية 112
(3) انظر: تفسير ابن كثير جـ 1 ص 222، 223 بتصرف.(58/364)
12 - الإحسان، والعدل وإيتاء ذي القربى والنهي عن المنكر والبغي:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) .
قال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: استواء السريرة، والعلانية من كل عامل لله عملا، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته (2) .
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) انظر: تفسير ابن كثير جـ 4 ص 514.(58/364)
13 - الإحسان والصبر:
قال تعالى:(58/364)
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (1) {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2) .
فعل كل الطاعات إحسان، وأهم هذه الطاعات الصلاة، فإذا أقيمت الصلاة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وفي أوقاتها، فهذا عين الإحسان، والصبر على ذلك إحسان، والصبر على كيد التكذيب إحسان، والصبر عن محارم الله إحسان، والصبر على أقدار الله إحسان، وكل أنواع الصبر إحسان، والله لا يضيع أجر المحسنين.
__________
(1) سورة هود الآية 114
(2) سورة هود الآية 115(58/365)
14 - الإحسان وسلام الله:
قال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (1) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (2) ، وقال عز وجل: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (3) {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (4) ، وقال سبحانه: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (5) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (6) وقال جل ثناؤه: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (7) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (8) .
السلام هو اسم من أسماء الله الحسنى، فالله هو السلام أي السالم من كل نقص وآفة وعيب، وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه، وقيل: الذي سلم عباده من الشر والضرر، وقيل: معناه الذي يسلم
__________
(1) سورة الصافات الآية 79
(2) سورة الصافات الآية 80
(3) سورة الصافات الآية 109
(4) سورة الصافات الآية 110
(5) سورة الصافات الآية 120
(6) سورة الصافات الآية 121
(7) سورة الصافات الآية 130
(8) سورة الصافات الآية 131(58/365)
على عباده في جنات النعيم. . . ومن فضل الله ورحمته يسلم على رسله وأنبيائه. . . ومعناه تنويه، ومدح، وثناء عليهم لسلامتهم من الذنوب والمعاصي، ولما قاموا به من طاعة ربهم، ومعبودهم، ومن ذلك الدعوة إلى دين الله وشرعه (1) .
وسلام الله على أنبيائه إعلان لكل المخلوقين، بل لكل الدنيا على مدى كر الدهور، وتعاقب العصور: أن الله قد رضي عن هذه الفئة، وهو جزاء عظيم لهؤلاء المحسنين، وهو ذكر باق مدى الحياة: السبب الإيمان الذي لا يمكن أن يأتي الإحسان إلا بعده، بل هو قاعدة الإحسان.
إذا سلام الله على رسله وأنبيائه وعباده الصالحين عين رضاه عنهم، وإعلان للكون ولجميع الأمم والطوائف، أنهم أولياؤه، وأنهم أحبابه، ولا شك أن رسله وأنبياءه هم المحسنون؛ لأنهم أفضل البشر على الإطلاق.
__________
(1) انظر: عقيد المسلمين لصالح البليهي جـ 1 ص 356 ط الأولى.(58/366)
15 - الإحسان، والإيمان، والعمل الصالح:
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (1) أكد سبحانه وتعالى أن خاتمة المؤمنين، الذين أصبحوا بإيمانهم محسنين هي الجنة، هي الأجر العظيم؛ لأنهم أحسنوا العمل، فأخلصوه لله جل وعلا، متبعين لا مبتدعين، عاملين غير مقصرين، علانيتهم وسرهم سواء.
__________
(1) سورة الكهف الآية 30(58/366)
16 - الإحسان، والتقوى، والصبر:
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) . نداء ندي من الله لعباده، ونسبة العباد إليه بقوله: (يا عباد) أندى، وأعطر، وألطف، بل هو تكريم لهؤلاء الذين وصفهم سبحانه وتعالى بالمؤمنين، ووصفهم بالمتقين، ووصفهم بالمحسنين، نعم إن من يحسن في هذه الدنيا، يزيده الله حسنا، وإحسانا، وحسنة، نعم يعترض المحسنين عقبات، وصعاب ليست بالسهلة، لكن الصبر هو العلاج، وهو المعين بعد الله، وعاقبة الصبر فرج في الدنيا، وأجر عظيم في الآخرة، أجر بغير حساب، ما أعظمه من أجر؛ لأنه من عند القدير، العليم، الرءوف، الرحيم، الذي عنده خزائن كل شيء، إنما يقول للشيء كن فيكون - سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) سورة يوسف الآية 90(58/367)
17 - الإحسان، والتقوى، وما أنزل الله:
قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 30(58/367)
قال ابن كثير: (هذا خبر عن السعداء بخلاف (ما أخبر) به عن الأشقياء، فإن أولئك قيل لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} (1) قالوا: معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئا، إنما هذا أساطير الأولين. وهؤلاء {قَالُوا خَيْرًا} (2) أي: أنزل خيرا، أي رحمة، وبركة، وحسنا لمن تبعه وآمن به، ومن أحسن عمله في الدنيا، أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة. . .) (3) .
__________
(1) سورة النحل الآية 24
(2) سورة النحل الآية 30
(3) تفسير ابن كثير جـ 4 ص 87.(58/368)
ثمرات الإحسان:
لكل عبادة غاية وثمرة، والإحسان أعلى وأفضل العبادات؛ ولذلك له أعلى وأغلى الثمرات في الدنيا والآخرة، بل سعادة الدنيا والآخرة هي ثمرة الإحسان. وسنذكر بعضا من هذه الثمار:
1 - الخلود في جنات النعيم:
قال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
الإحسان أعلى منازل الدين، والمحسنون هم أفضل العالمين، وهم أولياء الرحمن الرحيم، ولذلك خلدهم في جنات النعيم، وهذا جزاء إيمانهم، وإحسانهم، باتباعهم الحق المبين بإخلاص، وانقياد له في كل ظرف وحين.
__________
(1) سورة المائدة الآية 85(58/368)
2 - حب الله لهم، وتفضله عليهم بثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة:
قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
قال ابن كثير: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} (2) أي: النصر والظفر والعاقبة، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} (3) أي: جمع لهم ذلك مع هذا، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (4) (5) .
وقال صاحب الظلال: إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء، لم يطلبوا ثواب الدنيا، ولا ثواب الآخرة. لقد كانوا أكثر أدبا مع الله، وهم يتوجهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله، فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب، وتثبيتا الأقدام، والنصر على الكفار. فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكافرين، إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم.
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا، أعطاهم الله من عنده كل شيء، أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} (6) وشهد لهم سبحانه بالإحسان. فقد أحسنوا الأدب، وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكثر من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 148
(2) سورة آل عمران الآية 148
(3) سورة آل عمران الآية 148
(4) سورة آل عمران الآية 148
(5) تفسير ابن كثير جـ 2 ص 112.
(6) سورة آل عمران الآية 148(58/369)
النعمة، وأكبر من الثواب: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 148
(2) في ظلال القرآن جـ 1 ص 489.(58/370)
3 - ما يهبه الله من ذرية صالحة، وتفضيل، وهداية، وعلم، وحكمة، ونبوة:
قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (2) {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (3) {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (4) {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (7) {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (8) ركب كريم، ذكرهم الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع، وعددهم ثمانية عشر نبيا رسولا، ثم أشار إلى آخرين: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} (9) ثم عقب على كل مجموعة منهم بتعقيبات كلها تقرر إحسان هذا الرهط الكريم، واصطفاءه، والثناء عليه، ووصفه لهم بصفات الإحسان، والصلاح، والتفضيل، والهداية إلى صراط مستقيم، والاجتباء، وأنه آتاهم الكتاب، والحكم، والنبوة، وهؤلاء هم قادة المحسنين، وأفضل الخلق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليهم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) سورة الأنعام الآية 84
(3) سورة الأنعام الآية 85
(4) سورة الأنعام الآية 86
(5) سورة الأنعام الآية 87
(6) سورة الأنعام الآية 88
(7) سورة الأنعام الآية 89
(8) سورة الأنعام الآية 90
(9) سورة الأنعام الآية 87(58/370)
4 - حصول رضى الله لهم:
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) .
إن أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه، وهم المحسنون، ومن اتبعهم بإحسان، وهؤلاء هم أتباع الرسل والأنبياء، قادة المحسنين، وبإحسانهم وصلوا إلى هذه المنزلة العالية، وأورثهم الإحسان هذا الرضى، وما أعده الله في الآخرة من جنات تجري تحت تصورها، ودورها، وأشجارها، وثمارها، الأنهار العظيمة، والمتنوعة، واللذيذة، والتي قد أعدت للخلود فيها على التأبيد، والتي وصفها سبحانه بأنها هي الفوز العظيم. نسأل الله من فضله العظيم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(58/371)
5 - ومن ثمرات الإحسان الإحسان:
قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (1) . قال ابن كثير: أي: ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) (3) .
__________
(1) سورة الرحمن الآية 60
(2) سورة يونس الآية 26
(3) تفسير ابن كثير جـ 7 ص 480.(58/371)
من عبد الله بإحسان، إحسان بالإخلاص، وإحسان بالاتباع، وإحسان بالمراقبة وكأنه يرى الله، فإن لم ير الله فإن الله يراه، وهذا هو الإحسان الذي يجازى صاحبه بالإحسان.(58/372)
6 - حصول رحمة الله:
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، رحمة الله هي عطفه، وإحسانه، ورزقه، وهي صفة تقتضي إيصال المنافع، والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. . .
ورحمة الله مرصدة لفئة من العباد، أخلصوا لله عبادتهم، وتابعوا رسول الله في جميع حركاتهم وسكناتهم، وأخذهم، وعطائهم، وفعلهم، وتركهم، وولائهم، وبرائهم، وكل ما يتقربون به إلى ربهم، وهؤلاء هم (المحسنون) فقط.
إذن رحمة الله أثر من آثار الإحسان، نسأل الله من فضله العظيم، ونسأله رحمته الواسعة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 55
(2) سورة الأعراف الآية 56(58/372)
7 - كل ما يعمله العبد في سبيل الله يكتب له به عمل صالح، وهو ثمرة من ثمرات الإحسان:
قال تعالى:(58/372)
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) إذا وصل العبد إلى درجة الإحسان، أصبح كل ما يعمله عبادة، وكل ما يتركه عبادة كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (4) ولذلك تكون حياته ومماته في ميزان حسناته وهذا أثر الإحسان.
__________
(1) سورة التوبة الآية 120
(2) سورة التوبة الآية 121
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163(58/373)
8 - رفع الحرج:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (2) .
الناس قسمان: قسم استجاب لله ولرسوله، والآخر لم يستجب، وقسم ثالث ينضوي تحت القسم الأول؟ وهم أهل الأعذار من الضعفاء والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون، والذين ليس عندهم ما يحملون عليه أنفسهم وأمتعتهم، هذا القسم الثالث
__________
(1) سورة التوبة الآية 91
(2) سورة التوبة الآية 92(58/373)
حكمهم حكم القسم الأول، بشرط: النصح، وهو الإخلاص لله ولرسوله؛ لأنهم محسنون، والمحسن ما عليه من سبيل، والمحسنون في هذا المقام هم الذين لم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرا إلا وهم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم، حبسهم العذر (1) » .
__________
(1) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب 81، حديث رقم 4423 من حديث أنس بن مالك، صحيح مسلم كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض، أو عذر آخر، حديث رقم 159 من حديث جابر، إلا أنه قال: '' حبسهم المرض ''، واللفظ للبخاري.(58/374)
9 - الحكم، والعلم، وتأويل الأحاديث، والتمكين في الأرض، والملك:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2) {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (3) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (4) {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (5)
__________
(1) سورة يوسف الآية 22
(2) سورة يوسف الآية 36
(3) سورة يوسف الآية 37
(4) سورة يوسف الآية 56
(5) سورة يوسف الآية 57(58/374)
وقال عز وجل: {قَالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} (2) هذه الثمار اليانعة أثمرها الإحسان، الإحسان في الاعتقاد، وفي العبادة، وفي المعاملة وفي السلوك وفي الأخلاق.
وهذه الثمار خاصة بيوسف عليه السلام، فقد أحسن، وكان من المحسنين، وليس هذا عجيبا فهو: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم. أخرج البخاري في صحيحه، قال: أخبرني عبدة، حدثنا عبد الصمد عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام (3) » أصالة في النسب، والشرف، والمكانة، والرفعة، والعلم، والتقى، والإحسان، والنبوة، ولذلك وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه من المحسنين، ووصفه الناس أيضا بأنه من المحسنين، وكفاه ما وصفه الله به، وما أعده الله له.
__________
(1) سورة يوسف الآية 78
(2) سورة يوسف الآية 79
(3) انظر فتح الباري جـ 6 ص 419 رقم 3390، كتاب أحاديث الأنبياء(58/375)
10 - الظلال، والعيون، والفواكه، والأكل، والشرب الهنيء:
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} (1) {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (2) {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (4) .
__________
(1) سورة المرسلات الآية 41
(2) سورة المرسلات الآية 42
(3) سورة المرسلات الآية 43
(4) سورة المرسلات الآية 44(58/375)
الجزاء من جنس العمل، التقوى في الحياة الدنيا، بامتثال الأوامر، والانتهاء عن النواهي، أدت إلى مرحلة الإحسان، والإحسان استحق به العبد هذا النعيم، من الظلال الوارفة، والعيون الجارية، والفواكه المتنوعة والمتعددة في اللون والشكل والطعم، والمأكولات المختلفة، والمشروبات اللذيذة المتنوعة، وهذا كله وغيره، من ثمرات الإحسان.(58/376)
11 - الحسنى وزيادة:
قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) ، وأخرج الترمذي في جامعه ما يلي: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة. قال: فيكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه (3) » .
__________
(1) سورة يونس الآية 26
(2) سورة يونس الآية 26
(3) جامع الترمذي كتاب التفسير باب 11 سورة يونس جـ 5 ص 286 رقم 3105، وقال عنه الألباني: صحيح في صحيح الجامع رقم 535.(58/376)
وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس وغيرهم. وهذه الرؤية أعظم نعيم للمؤمنين في الجنة، واليوم الذي يرى فيه المؤمنون الله سبحانه وتعالى يسمى يوم المزيد (1) .
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (2) {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (3) .
إن من يمتثل الأوامر، ويجتنب كبائر الإثم والفواحش فهو محسن، ومن كان محسنا فله الحسنى في الآخرة وهي الجنة.
قال ابن كثير:. . . أي: يجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (4) (5) .
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير جـ 4 ص 198، 199.
(2) سورة النجم الآية 31
(3) سورة النجم الآية 32
(4) سورة النساء الآية 31
(5) تفسير ابن كثير جـ 7 ص 435.(58/377)
12 - صرف المكاره والشدائد في الدنيا:
قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (1) {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (2) .
قال ابن كثير: أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (4) (5) .
ونكتفي بهذه الآثار والثمرات، وإن كانت كثيرة. والله أعلم.
__________
(1) سورة الصافات الآية 104
(2) سورة الصافات الآية 105
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) تفسير ابن كثير جـ 7 ص 26.(58/378)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار (181) في 12 \ 4 \ 1417 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة والأربعين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من الثالث من شهر ربيع الآخر حتى 12 منه عام 1417 هـ بحث حكم التبرع بالأعضاء لصالح المرضى المحتاجين لها خصوصا من الأشخاص المتوفين دماغيا، بناء على ما ورد إليه من سمو أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز، الرئيس الفخري للمركز السعودي لزراعة الأعضاء بكتابه رقم (627 \ 11) وتاريخ 15 \ 6 \ 1416 هـ. ومشفوعه الكتاب المرفوع لسموه من معالي وزير الصحة برقم (621 \ 11) وتاريخ 15 \ 6 \ 1416هـ المتضمن التقرير المعد حول أهمية التبرع بالأعضاء وزراعتها، وخاصة عند المتوفين دماغيا.
وقد اطلع المجلس أثناء البحث على قراره رقم (62) في حكم نقل القرنية من إنسان إلى آخر وإلى قراره رقم (99) في حكم نقل عضو أو جزئه من إنسان إلى آخر. كما اطلع على القرارات الصادرة من المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجده، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، بشأن نقل الأعضاء وزراعتها.
وبعد المناقشة وتداول الرأي في الموضوع قرر المجلس أنه لا يجوز شرعا الحكم بموت الإنسان، الموت الذي ترتب عليه أحكامه(58/379)
الشرعية بمجرد تقرير الأطباء أنه مات دماغيا، حتى يعلم أنه مات موتا لا شبهة فيه تتوقف معه حركة القلب والنفس، مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته يقينا، لأن الأصل حياته فلا يعدل عنه إلا بيقين. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
رئيس المجلس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(58/380)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن نشرة مكذوبة حول عقوبة تارك الصلاة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد شاعت بين الناس نشرة مأخوذة من بعض الجرائد تتضمن رسما لجنازة التف عليها ثعبان، ادعى ناشرها أنها تحكي واقعة لميت كان متهاونا بالصلاة، وزعم أنه أراد بذلك التخويف من ترك الصلاة.
وبعد أن جرى التحقق من الجهات المختصة بالمدينة، ثبت لدينا أن هذه حكاية مصنوعة باطلة لا يجوز نشرها ولا تصديقها ولا إذاعتها؛ لأن في ذلك ترويجا للخرافة والكذب، وتعليقا لقلوب الناس بالخيالات والضلالات، ويكفي زاجرا عن ترك الصلاة والتهاون بها ما جاء في الكتاب والسنة من الترهيب والتهديد والوعيد لتاركها.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(58/381)
صفحة فارغة(58/382)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1442) ، صحيح مسلم الزكاة (1010) .(58/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (1)
(سورة البقرة، الآية 197)
__________
(1) سورة البقرة الآية 197(59/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(59/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(59/3)
المحتويات
الافتتاحية
المقصود بالحج التقوى وليس إتعاب البدن لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) 19
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 73
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 101(59/4)
البحوث
البيان بالدليل لما في نصيحة الرفاعي
ومقدمة البوطي من الكذب الواضح والتضليل لمعالي الدكتور / صالح بن فوزان الفوزان 131
بحث في تحويل الموازين والمكاييل الشرعية إلى المقادير المعاصرة لفضيلة الشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 159
القول الحق في نسك الحج الذي أحرم به خير الخلق صلى الله عليه وسلم للدكتور / عبد السلام بن سالم السحيمي 197
حكم صيام عشر ذي الحجة للدكتور / عبد الرحمن بن صالح الغفيلي 267
السلام وأهميته في السنة النبوية للدكتور / عبد العزيز بن أحمد الجاسم 309
قواعد الاختصار المنهجي في التأليف للدكتور / عبد الغني أحمد جبر مزهر 337
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بشأن تحريم الغناء والموسيقى 377(59/5)
صفحة فارغة(59/6)
المقصود بالحج تحقيق التقوى وليس إتعاب البدن
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
إخواني المسلمين، يقول الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (1) الآية، أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم ما دام في الأرض دين وما حج عند الكعبة حاج، وعندها المعاش والمكاسب. هذا البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (2) {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (3) . وهو في واد غير ذي زرع، وضع فيه إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل وأمه ودعا ربه متضرعا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 97
(2) سورة آل عمران الآية 96
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) سورة إبراهيم الآية 37(59/7)
والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام دعا ربه عز وجل أن يجعل ذريته موحدين مقيمين للصلاة التي هي من أخص وأفضل العبادات الدينية، ودعاه أيضا أن يجعل أفئدة - أي قلوبا - من الناس تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه، فأجاب الله تعالى دعاء خليله، فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنبياء والمرسلين وإمام الموحدين، فدعا إلى الدين الإسلامي وإلى ملة إبراهيم، فاستجابوا وصاروا مقيمين للصلاة. وافترض الله حج هذا البيت وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد إليه شوقه وعظم ولعه وتوقه. وجعل سبحانه هذا البلد أيضا آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إجابة لدعوة خليله عليه السلام وفضلا منه سبحانه على هذا البلد الحرام وأهله.
ومن خصائص هذا البلد أيضا أنه بلد حرام حرمه الله. ففي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها (1) » متفق عليه.
ومن خصائصه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما عداه. فعن ابن الزبير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي (2) » رواه أحمد وابن خزيمة
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1587) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن النسائي مناسك الحج (2892) ، سنن أبو داود المناسك (2017) ، مسند أحمد بن حنبل (1/259) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1190) ، صحيح مسلم الحج (1394) ، سنن الترمذي الصلاة (325) ، سنن النسائي مناسك الحج (2899) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، مسند أحمد بن حنبل (2/485) ، موطأ مالك النداء للصلاة (461) .(59/8)
وابن حبان، وإسناده صحيح، وصححه ابن عبد البر، وحسنه النووي في شرح مسلم. وأصل الحديث في مسلم من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - بدون زيادة: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي (1) » . وقد روي موقوفا، قال ابن عبد البر: ومن رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل. وقال أيضا بعد أن ساق الحديث مرفوعا من طريق حبيب المعلم: وليس في هذا الباب عن ابن الزبير ما يحتج به عند أهل الحديث إلا حديث حبيب هذا. وقال: ولم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه قوي ولا ضعيف ما يعارض هذا الحديث، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم، وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد.
ومن خصائصه أنه لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد هو أحدها. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يبلغ به عن النبي عن - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى (2) » .
ومن خصائصه أن شرع الله لعباده الحج إليه، وأمر خليله بتطهيره من الأدناس وأعظمها الشرك بالله، وأمره بالأذان في الناس ليحجوا بيت الله، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (3) ، وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (4) ، وقال عز وجل:
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1406) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) سورة البقرة الآية 125(59/9)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (2) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (3) الآية. والمنافع في هذه الآية هي منافع الدنيا والآخرة كما قال مجاهد رحمه الله.
وفضائل الحج كثيرة قد وردت بها النصوص، فمنها الآية المتقدمة، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - حين «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور (4) » متفق عليه. وحين قالت عائشة رضي الله عنها: «يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور (5) » رواه البخاري.
واختلفت عبارات السلف في تفسير الحج المبرور، فمنهم من قال: الذي لا يخالطه إثم، ومنهم من قال: الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق، وقيل: الذي لا معصية بعده، يجمعها أنه الذي يؤدى تقربا لله وطاعة له خالصا من أدران الشرك صغيره وكبيره والبدع والمعاصي، ويكون حاملا لصاحبه على إحسان العمل بعده.
ومن كانت هذه صفة حجه كان مقبولا مأجورا، يقول صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (6) » متفق عليه، وفي رواية لمسلم: «من أتى هذا البيت فلم يرفث (7) » . . . الحديث،
__________
(1) سورة الحج الآية 26
(2) سورة الحج الآية 27
(3) سورة الحج الآية 28
(4) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي الجهاد (3130) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(5) صحيح البخاري الحج (1520) ، سنن النسائي مناسك الحج (2628) .
(6) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(7) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن الترمذي الحج (811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .(59/10)
وهذه الرواية أعم من التي قبلها. والرفث: قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إنه الجماع، والفسوق قالا: إنه المعاصي «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (1) » ، صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجاه في الصحيحين.
والحج أيها الإخوة في الله واجب على كل مسلم استكمل شروطه، بل هو أحد أركان الإسلام ودعائمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس (2) » وذكر منها: «وحج بيت الله الحرام» أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقد أوجبه الله على عباده بقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (3) . وقد روى سعيد في سننه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين) .
ووجوبه ثابت بإجماع المسلمين ومعلوم بالضرورة من الدين، فمن جحد وجوبه كفر. ووجوبه مرة في العمر؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن الله كتب عليكم الحج) فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتها لوجبت، الحج مرة فما زاد فهو تطوع (4) » رواه الخمسة إلا الترمذي، وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2629) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) سنن النسائي مناسك الحج (2620) ، سنن أبو داود المناسك (1721) ، سنن ابن ماجه المناسك (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) ، سنن الدارمي المناسك (1788) .(59/11)
وشروط الحج خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة وهي الزاد والراحلة، وتزيد المرأة وجود المحرم.
وينبغي للمسلم إذا أراد الحج وعزم على السفر أن يوصي أهله بتقوى الله، وأن يتخلص مما عليه من حقوق الناس، أو يكتب ما له وما عليه ويشهد على ذلك، ثم أيضا يجب عليه التوبة إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (2) » .
وعند تجرد العبد من ثيابه ولبسه لإحرامه واستعداده لأداء المناسك ينبغي أن يتذكر بذلك الموت والاستعداد له وما يكون بعده.
وعند إهلاله بالإحرام يجب عليه أن يجرد نيته لله عز وجل، ولا ينو بحجه عرضا من الدنيا فإنها متاع زائل، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (3) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ، وهذا واجب في كل العبادات ومنها الحج. وبعد إهلاله بالإحرام ينطلق إلى البيت الحرام ويطوف بالكعبة، وهذا الطواف طواف العمرة للمتمتع وطواف القدوم للقارن والمفرد.
وبعد السعي في حق المتمتع يحلق شعره أو يقصر ثم يحل إحرامه.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2499) ، سنن ابن ماجه الزهد (4251) ، مسند أحمد بن حنبل (3/198) ، سنن الدارمي الرقاق (2727) .
(3) سورة هود الآية 15
(4) سورة هود الآية 16(59/12)
وفي يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة يذهب الحجاج إلى منى، ويحرم المتمتع بالحج، ويبيتون تلك الليلة بمنى استحبابا، ثم ينطلقون في اليوم التاسع إلى عرفة بعد طلوع الشمس ويبقون بها ويخطب بهم الإمام أو نائبه بعد الزوال، ويصلون الظهر والعصر قصرا وجمعا، ثم يتفرغون لذكر الله ودعائه إلى الغروب، وهذا الموطن من المواطن العظيمة التي يباهي الله بالحجاج ملائكته، فيوم عرفة يوم مشهود؛ ففي صحيح مسلم من حديث عائشة - رضي الله - عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء (1) » . فينبغي للحاج أن يكثر من الذكر والدعاء وخاصة قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وبعد الغروب ينطلق الحجاج إلى مزدلفة، فإذا وصلوها صلوا بها المغرب والعشاء، المغرب ثلاث ركعات، والعشاء ركعتين جمعا بأذان وإقامتين، ويبيت الحجاج بها تلك الليلة، ويجوز للضعفة من النساء والصبيان ونحوهم الدفع إلى منى آخر الليل، أما غيرهم فيقيمون بها إلى صلاة الفجر. وبعد الصلاة يقفون عند المشعر الحرام ويستقبلون القبلة ويكثرون من ذكر الله وتكبيره والدعاء إلى أن يسفروا جدا، ثم يذهبون إلى منى فيرمون جمرة العقبة، ثم يذبح المتمتع والقارن هديه، ثم يحلقون رؤوسهم ويتوجهون إلى مكة ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة، ثم يعودون إلى منى ليبيتوا بها تلك الليلة.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1348) ، سنن النسائي مناسك الحج (3003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3014) .(59/13)
وفي اليوم الحادي عشر بعد الزوال يبدأ وقت الرمي، فيرمي الحاج الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى كل واحدة بسبع حصيات، ويبيت بمنى تلك الليلة، ويفعل في اليوم الثاني عشر كما فعل في اليوم الذي قبله. ويبيت بمنى تلك الليلة من أراد التأخر، أما المتعجل فعليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس.
فإذا أنهى الحاج أعمال الحج وجب عليه طواف الوداع متى أراد مغادرة مكة.
إخواني، ليس المقصود من الحج تلك الأعمال فقط، وليس المراد مجرد إتعاب البدن أو بذل المال، إنما المقصود الأعظم هو تحقيق التقوى وما يحصل في القلب ويقوم به من معاني العبودية والخضوع والانقياد لأمر الله وتعظيم شعائره، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) ، ويقول جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (2) ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (3) » .
إخواني الحجاج، إنكم قد قدمتم هذا البلد الأمين طائعين لله راغبين فيما عنده، فاستغلوا هذا الموسم في الازدياد من الطاعات،
__________
(1) سورة الحج الآية 32
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والاداب، حديث (4651) ، وابن ماجه في كتاب الزهد، حديث (4133) ، وأحمد في باقي مسند المكثرين، حديث (7493) .(59/14)
والإكثار من القربات والبعد عن المعاصي والمنكرات، احرصوا أن يكون حجكم سالما في المخالفات الشرعية حتى تكونوا ممن كتب الله لهم حجا مبرورا. والحج أيضا فرصة للتعارف بين المسلمين وتدارس قضاياهم، فإن هذا هو ديدن المسلمين، فإنهم كما قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » أخرجه البخاري وغيره، وقال - صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (2) » رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
إخواني الحجاج، أوصيكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، والاجتماع على الحق، وتحقيق معنى الأخوة الإسلامية. تجنبوا الشقاق والجدال فيما لا فائدة فيه، فإنه يورث الخلاف والنزاع وتفريق صف المسلمين. عظموا هذا البلد الحرام واعرفوا له قدره وحرمته، وإياكم والسعي فيما يخل بأمنه أو يعكر صفو هذه الشعيرة العظيمة، فإن هذا من أعظم الجرم، وقد توعد الله من هم بذلك ونحوه بالعذاب الأليم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) ، هذا في حق من أراد ولم يفعل فكيف بمن فعل والعياذ بالله. ثم ينبغي لكم حجاج بيت الله التقيد بالأنظمة التي وضعتها الدولة؛ لأنها إنما وضعت للمصلحة العامة، تسهيلا لضيوف بيت الله، حتى يؤدوا مناسكهم بيسر وسهولة، آمنين
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(3) سورة الحج الآية 25(59/15)
مطمئنين، فعلينا جميعا التعاون مع المسؤولين بالالتزام بهذه الأنظمة وعدم الإخلال بها.
هذا والله أسأل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يمن علينا بفضله ورحمته، ويعين حجاج بيت الله على أداء مناسكهم في أمن ويسر وسهولة، ويجعله خالصا لوجهه سبحانه، مقبولا مبلغا لمرضاته، وأن يوفق حكومة خادم الحرمين الشريفين ويجزيها عن المسلمين خير الجزاء على ما يولونه لحجاج بيت الله من خدمات لتسهيل أداء هذه الشعيرة وما بذلوه ويبذلونه في الحرمين الشريفين والمشاعر من مشاريع عظيمة نافعة قد لمس نفعها كل من حج أو اعتمر، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأعانهم وسددهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليما كثيرا.(59/16)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) .
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ.
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(59/17)
صفحة فارغة(59/18)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله)
بيان ما في الإنجيل من تحريف وتبديل واختلاف في لاهوتية المسيح.
من محمد بن إبراهيم إلى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد جرى اطلاعنا على خطابكم المشفوع به خطاب الأخ شمس الدين أحمد المتضمن ذكره أنه حصل بينه وبين بعض رجال الدين المسيحي مناقشات حول ما في الإنجيل من تحريف وتغيير وتبديل، وأنهم أنكروا ذلك، وتناولوا القرآن بما هو منزه عنه، وتسألون إجابتنا عما ذكره هؤلاء؟ والجواب: الحمد لله. أما ما ذكره من ناقشوا الأخ شمس الدين أحمد وأنكروا له ما في الإنجيل من تحريف وتغيير فهو مخالف لما تضافرت عليه الأدلة وقامت عليه البينات. قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 14
(2) سورة المائدة الآية 15(59/19)
وروى أحمد والترمذي وحسنه «عن عدي بن حاتم (أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) ، فقلت له: لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم» . وقال ابن كثير: (روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق «عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طي، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك؟
__________
(1) سورة التوبة الآية 31
(2) سورة التوبة الآية 31(59/20)
أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟) ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم فشهد شهادة الحق. قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: (إن اليهود مغصوب عليهم، والنصارى ضالون» . اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) في معرض حديثه عن تفرق النصارى وتلاعبهم بالإنجيل تحريفا وتغييرا وإخفاء، قال رحمه الله: وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب، فمنهم من يقول: المصلوب لم يكن المسيح بل الشبه، كما يقول المسلمون، ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية، ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية.
وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح عليه السلام، فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق، ولا الصيام الخمسين، ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد، والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته (هيلانة الحرانية) أم قسطنطين. وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع، فابتدعوا (الأمانة) التي هي عقيدة إيمانهم، وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد من الأنبياء، ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم، قالوا: كانوا ثلاثمائة وثمانية عشر.(59/21)
وقال في موضع آخر: وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى فهي أربعة أناجيل: إنجيل متى، ويوحنا، ومرقس، ولوقا. وهم متفقون على أن (لوقا) و (مرقس) لم يريا المسيح إنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل وقد يسمون كل واحد منها إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله ولا أن المسيح بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث السير والمغازي. انتهى.(59/22)
وقد ذكر الشيخ (محمد رشيد رضا) في معرض تفسيره قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (1) الآية - فصلا طويلا في ضياع كثير من الإنجيل وتحريف كتب النصارى المقدسة، نرى من كمال الحديث نقله؛ لاشتماله على نصوص منقولة عنهم وعن المهتمين بديانتهم، قال رحمه الله في (الجزء السادس من تفسير المنار) ص 289: 1 - إن الكتب التي يسمونها الأناجيل الأربعة تاريخ مختصر للمسيح عليه السلام، لم يذكر فيها إلا شيء قليل من أقواله وأفعاله في أيام معدودة، بدليل قول يوحنا في آخر إنجيله: (هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق. وأشياء أخرى
__________
(1) سورة المائدة الآية 14(59/22)
كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة، آمين) .
هذه العبارة يراد بها المبالغة في بيان أن الذي كتب عن المسيح لا يبلغ عشر معشار تاريخه. ومن البديهي أن تلك الأعمال الكثيرة التي لم تكتب وقعت في أزمنة كثيرة، وأنه تكلم في تلك الأزمنة وعند تلك الأعمال كثيرا، فهذا كله قد ضاع ونسي. وحسبنا هذا حجة عليهم في إثبات قول الله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (1) وحجة على بعض علمائنا الذين ظنوا أن كتبهم حفظت وتواترت.
قال صاحب (ذخيرة الألباب) : إن الإنجيل لا يستلزم كل أعمال المسيح، ولا يتضمن كل أقواله، كما شهد به القديس يوحنا.
2 - الإنجيل في الحقيقة واحد، وهو ما جاء به المسيح عليه السلام من الهدى والبشارة بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان يدور ذكره على ألسنة كتاب تلك التواريخ الأربعة وغيرهم حكاية عن المسيح وعن ألسنتهم أنفسهم. قال متى حكاية عنه 26: 13: (الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا. بما فعلته هذه تذكارا لها) أي ما فعلته المرأة التي سكبت قارورة الطيب على رأسه. واجب عليهم أن يخبروا كل من يبلغونهم الإنجيل في عالم اليهودية كلها بما فعلته تلك المرأة. فخبر تلك المرأة ليس من الإنجيل الذي جاء في كلام المسيح، وقد ذكر في تلك التواريخ امتثالا لأمره. وسميت
__________
(1) سورة المائدة الآية 14(59/23)
تلك التواريخ أناجيل لأنها تتكلم عن إنجيل المسيح وتجيء بشيء منه. ولذلك بدأ مرقس تاريخه بقوله: بدأ إنجيل يسوع المسيح - ثم قال حكاية عن المسيح - 1: 15: فتوبوا وآمنوا بالإنجيل. فالإنجيل الذي أمر الناس أن يؤمنوا به ليس هو أحد هذه التواريخ الأربعة ولا مجموعها، وهو الذي سماه بولس في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي - الإنجيل - المطلق 2: 4 وإنجيل الله 2: 8 و 9 وإنجيل المسيح 3: 2. والكتاب الإلهي يضاف إلى الله بمعنى أنه أوحاه، وإلى النبي بمعنى أنه أوحي إليه أو جاء به، كما يقال: توراة موسى.
3 - كانت الأناجيل في القرون الأولى للمسيح كثيرة جدا، حتى قيل: إنها بلغت زهاء سبعين إنجيلا. وقال بعض مؤرخي الكنيسة: إن الأناجيل الكاذبة كانت 35 إنجيلا. وقد رد صاحب كتاب (ذخيرة الألباب) الماروني القول بكثرتها، وقال: إن سبب ذلك تسمية الواحد بعدة أسماء. وقال: إن الخمسة والثلاثين لا تكاد تبلغ العشرين. وعددها كلها وذكر أن بعضها مكرر الاسم، وذكر منها إنجيل القديس برنابا، وذكر أن جاحدي الوحي طعنوا في الأناجيل ثلاثة مطاعن:
1 - أن الآباء الذين سبقوا القديس يوستينوس الشهيد لم يذكروا إلا أناجيل كاذبة ومدخولة.
2 - لا سبيل إلى إظهار أسفار العهد الجديد التي خطها مؤلفوها.
3 - قد فات الجميع معرفة الموضع والعهد اللذين كتبت فيهما.(59/24)
4 - أن كورنتس وكربوكراتوس قد نبذا ظهريا منذ أوائل الكنيسة إنجيل القديس لوقا، والألوغيين إنجيل القديس يوحنا، ولم يستطع أن يرد هذه الاعتراضات ردا مقبولا عند مستقلي الفكر.
وقال الدكتور بوست البروتستاني في قاموس الكتاب المقدس: إن نقص الأناجيل غير القانونية ظاهر؛ لأنها مضادة لروح المخلص وحياته. ونحن نقول: إننا قد اطلعنا على واحد منها وهو إنجيل برنابا فوجدناه أكمل من مجموع الأربعة في تقديس الله وتوحيده، وفي الحث على الآداب والفضائل. فإذا كان هذا برهانهم على رد تلك الأناجيل الكثيرة وإثبات هذه الأربعة، فهو برهان يثبت صحة إنجيل برنابا قبل غيره أو دون غيره.
5 - بدئ تحريف الإنجيل من القرن الأول. قال بولس في رسالته إلى أهل غلاطية 1:6: إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، لا ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح. فالمسيح كان له إنجيل واحد، وبين بولس أنه كان في عصره من القرن الأول أناس يدعون المسيحيين إلى إنجيل غيره بالتحويل أي التحريف كما في الترجمة القديمة، وفي ترجمة الجزويت - يقلبوا - بدل يحولوا، وهي أبلغ في التحريف، والتبديل، وبين بولس أن الناس كانوا ينتقلون سريعا إلى دعاة هذا الإنجيل المحرف المحول عن أصله الذي جاء به المسيح. وقد بين بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثيوس (11:13 - 15) أن هؤلاء القوم الذين يحرفون إنجيل المسيح رسل كذبة ماكرون مغيرون شكلهم إلى رسل المسيح. وتتمة العبارة تدل(59/25)
أنهم كانوا كرسل المسيح ويشتبهون بهم كما يشتبه الشيطان بالملائكة إذ يغير شكله إلى ملاك نور.
وفي الفصل الخامس عشر من (سفر الأعمال) ما يوضح هذه المسألة، وهو أن اليهود كانوا ينبثون بين المسيحيين ويعلمونهم غير ما يعلمهم رسل المسيح، وأن المشايخ والرسل أرسلوا برنابا وبولس إلى أنطاكية ليحذروا أهلها من هؤلاء المعلمين الكاذبين، وأن بولس وبرنابا تشاجرا وافترقا هنالك، وهما ما تشاجرا وافترقا إلا لاختلافهما في حقيقة تعليم المسيح. فبرنابا يذكر في مقدمة إنجيله أن بولس كان من الذين خالفوا المسيح في تعليمه.
ولا شك أن برنابا أجدر بالتقديم والتصديق من بولس؛ لأنه تلقى عن المسيح مباشرة، وكان بولس عدوا للمسيح والمسيحيين. ولولا أن قدمه برنابا للرسل لما وثقوا بدعوة التوبة والإيمان بالمسيح، ولكن النصارى رفضوا إنجيل برنابا المملوء بتوحيد الله وتنزيهه وبالحكمة والفضيلة وآثروا عليه رسائل بولس وأناجيل تلاميذه ومرقس وكذا يوحنا كما حققه بعض علماء أوربة؛ لأن تعاليم بولس كانت أقرب إلى عقائد الرومانيين الوثنية، فكانوا هم الذين رجحوها ورفضوا ما عداها، إذ كانوا هم أصحاب السلطة الأولى في النصرانية، وهم الذين كونوها بهذا الشكل.(59/26)
6 - اختلف علماء الكنيسة وعلماء التاريخ في الأناجيل الأربعة التي اعتمدوها في القرن الرابع، من هم الذين كتبوها؟ ومتى كتبوها؟ وبأي لغة كتبت؟ وكيف فقدت نسخها الأصلية؟ كما(59/26)
ترى ذلك مفصلا في دائرة المعارف الفرنسية الكبرى وفي غيرها من كتب الدين والتاريخ.
وهذه كلمات من كتب المدافعين عنها:
قال صاحب كتاب (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) : إن متى بموجب اعتقاد جمهور المسيحيين كتب إنجيله قبل مرقس ولوقا ويوحنا، ومرقس ولوقا كتبا إنجيلهما قبل خراب أورشليم، ولكن لا يمكن الجزم في أية سنة كتب كل منهم بعد صعود المخلص لأنه ليس عندنا نص إلهي على ذلك.
(إنجيل متى) : قال صاحب (ذخيرة الألباب) : إن القديس متى كتب إنجيله في السنة 41 للمسيح باللغة المتعارفة يومئذ في فلسطين وهي العبرانية أو السير كلدانية. (ثم قال) : ثم ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانية، ثم تغلب استعمال الترجمة على الأصل الذي لعبت به أيدي النساخ الأبونيين ومسخته بحيث أضحى ذلك الأصل هاملا بل فقيدا، وذلك منذ القرن الحادي عشر. اهـ.
أقول: يا ليت شعري من هو الذي ترجم إنجيل متى باليونانية ومن عارض هذه الترجمة على الأصل قبل أن يعبث به النساخ ويمسخوه. الله أعلم.
ثم قال صاحب الذخيرة: يترجح أنه كتبه في نفس أورشليم. وقال: إنما هو رواية جدلية عن المسيح لا ترجمة حياته.
وقال: إن البروتستانت المتأخرين امتروا وشكوا في كون الفصلين الأولين منه لمتى.(59/27)
وقال الدكتور (بوست) في قاموس الكتاب المقدس: واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل، هل هي العبرانية أو السريانية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام؟ وذهب آخرون إلى أنه كتب باليونانية كما هو الآن. ثم تكلم في شبهة عظيمة على أصل هذا الإنجيل تكلم فيها صاحب الذخيرة أيضا، وهي أن شواهده في العظات من الترجمة السبعينية للعهد العتيق، وفي بقية القصة من الترجمات العبرانية. وأجاب كل منهما عن ذلك بما تراءى له.
ثم رجح (بوست) أنه ألف باليونانية خلافا لجمهور رؤساء الكنيسة المتقدمين. فثبت بهذا وذلك أنه لا علم عندهم بتاريخه ولا لغته {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (1)
ثم قال: ولا بد أن يكون هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم. إلى أن قال: ويظن البعض أن إنجيلنا الحالي كتب بين سنة 60 وسنة 65. وقد علمت أن صاحب الذخيرة زعم أنه كتب سنة 41، وإن هي إلا ظنون وأوهام يناطح بعضها بعضا.
وأما علماء النصارى الأقدمون فالمأثور أن متى لم يكتب هذا الإنجيل، وإنما كتب بعض أقوال المسيح باللغة العبرانية، والنصارى يحتجون الآن على كون هذه الأناجيل التي لا سند لها لفظيا ولا كتابيا كانت معروفة في العصور الأولى بأقوال لأولئك العلماء المتقدمين هي حجة عليهم لا لهم، وقد جاء في (المنار) بيان ذلك غير مرة.
وأقدم شهادة يتناقلونها في ذلك شهادة (بابياس) أسقف هيرابوليس في منتصف القرن الثاني فقد نقل عنه (أوسابيوس) المتوفى سنة 340 ما ترجمته:
__________
(1) سورة البقرة الآية 78(59/28)
إن متى كتب مجموعة من الجمل باللغة العبرانية، وقد ترجمها كل بحسب طاقته.
ويمتاز إنجيل متى بأن من نسب إليه من تلاميذ المسيح، وبأنه أقرب إلى التوحيد وأبعد عن الوثنية من سائر الأناجيل.
(إنجيل مرقس) : ذكر صاحب الذخيرة أن مرقس كان عبرانيا ملة (أي لا نسبا) وأنه كان تلميذا لبطرس، وتبناه بطرس، وأنه اقتبس إنجيله من إنجيل متى ومن خطب بطرس، وأن بعض المتأخرين زعموا أنه كان يوجد إنجيل سابق لإنجيلي متى ومرقس أخذا عنه إنجيلهما، وأن بعض البرتستانت شكوا في الأعداد الاثني عشر الأخيرة من الفصل السادس عشر من هذا الإنجيل لأسباب، منها أنه لا ذكر لها في النسخ الخطية القديمة.
وقال (بوست) : مرقس لقب يوحنا، يهودي يرجح أنه ولد في أورشليم. (قال) وتوجه مرقس مع بولس وبرنابا خاله في رحلتهم التبشيرية الأولى غير أنه فارقهما في (برجه) فصار علة مشاجرة قوية بين بولس وبرنابا، وبعد ذلك تصافح مع بولس فرافقه إلى (رومية) ، وكان مع بطرس لما كتب رسالته الأولى (1 بط 5: 136) ثم مع ثيموثاوس في (أفسس) ، ولا يعرف شيء حقيقي عن حياته بعد ذلك.
ثم ذكر أنه كتب إنجيله باليونانية وشرح فيه بعض الكلمات اللاتينية، فاستدل بذلك على أنه كتبه في رومية. (قال) إنما المشابهة بين إنجيلي متى ومرقس حملت بعض الناس على أن يعتقدوا أن الثاني مختصر من الأول.(59/29)
ولم يذكر هذا ولا ذاك تاريخ كتابة هذا الإنجيل، وقد روي عن ابرنياوس أنه كتبه بعد موت بطرس وبولس فلم يطلعا عليه. فكيف نثق بأنه وعى ما سعه من بطرس وأداه كما سمعه؟ هذا إذا صحت نسبته إليه بسند متصل، ولن تصح.
(إنجيل لوقا) : قال في الذخيرة: إن لوقا كان من أنطاكية. ومن الشراح من ظن أنه إغريقي متهود؛ لأنه لا يذكر الكتاب المقدس إلا نقلا عن الترجمة السبعينية. ومنهم من قال: إنه وثني هاد إلى الحق وارتد إلى الدين القويم. وقال: لوقا كان تلميذا ومعاونا لبولس.
ثم قال ما نصه: وقد أغفل متى ومرقس بعض حوادث وأمور تتعلق بسيرة المسيح، وقام بعض الكتبة واختلقوا ترجمة مموهة ليسوع المسيح، وكثيرا ما فاتهم فيها الرواية والتدقيق، فبعث ذلك بلوقا على وضع إنجيله ضنا بالحق، فكتبه باليونانية وجاء كلامه أصح وأفصح وأشد انسجاما من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد. وذهب كثير من المحققين إلى أنه كتب إنجيله في السنة 53 للمسيح، وقيل: بل سنة 51.
ثم ذكر الخلاف في المكان الذي كتبه فيه وبين غرضه منه، فقال في آخره: وأن يكشف النقاب عن الأغلاط المدخولة في تراجم حياة المسيح المموهة - أي الأناجيل التي ردتها الكنيسة بعد - وينفي كل ركون إليها، ثم يبين أنه كان يحمل إنجيلي متى ومرقس وأنه اقتبس منها ما وافقهما فيه. ثم عقد فصلا لما اعترض به على ما حذفوه وأسقطوه من هذا الإنجيل؛ لأنهم رأوه لا يليق بالمسيح أو لعلة أخرى.(59/30)
وقال الدكتور بوست في قاموسه: ظن بعضهم أنه - أي لوقا - مولود في أنطاكية إلا أن ذلك ناتج من اشتباهه بلوكيوس. قال: ومن تغيير صيغة الغائب إلى صيغة المتكلمين في سياق القصة يستدل على أن لوقا اجتمع مع بولس في ترواس - أع 16: 1 - وذهب معه إلى فيلبي في سفره الثاني ثم اجتمع معه ثانية في فيلبي بعد عدة سنين - أع 20: 5 و 6 - وبقي معه إلى أن أسر وأخذ إلى رومية - أع 28: 30 - ولم يعلم شيء من حياته بعد ذلك.
فلينظر القارئ كيف يستنبطون تاريخه من أسلوب عبارته التي لم تصل إليهم بسند متصل لا صحيح ولا ضعيف، كما استدلوا على كونه إيطاليا لا فلسطينيا من كلامه عن القطرين، ذلك بأنه ليس عندهم نقل يعرفون به شيئا عن مؤسسي دينهم.
ثم قال: وظن البعض أن لفظة إنجيلي الواردة في - 2: تي 2: 8 - تدل على أن بولس ألف إنجيل لوقا وأن لوقا لم يكن إلا كاتبا.
ثم قال: وقد كتب هذا الإنجيل قبل خراب أورشليم وقبل الأعمال، ويرجح أنه كتب في قيصرية في فلسطين مدة أسر بولس سنة 58 - 60 م غير أن البعض يظنون أنه كتب قبل ذلك. اهـ.
فأنت ترى من التعبير بلفظ الترجيح والظن ومن الخلاف بين سنة 51 و 53 كما في الخلاصة و 58 و 60، كما أنه لا علم عند القوم بشيء {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (1) ولعل الذين قالوا: إن بولس هو الذي كتب هذا الإنجيل هم المصيبون لمشابهة أسلوبه لأسلوب رسائله باعترافهم. فإن قيل: وما تفعل بتحريفه؟ قلت: هو كتحريفها، وتجد
__________
(1) سورة البقرة الآية 78(59/31)
فيه مثل ما تجد فيها من ذكر وضع بعض الناس لأناجيل كاذبة. ومن لنا بدليل يثبت لنا صدقه هو؟ وأنى لنا بتمييز هذه الأناجيل ومعرفة صادقها من كاذبها؟
(إنجيل يوحنا) : تقول النصارى: إن يوحنا هذا هو تلميذ المسيح ابن زبدي وسالومه. ويقول أحرار المؤرخين منهم غير ذلك، كما في دائرة المعارف الفرنسية. ويرجح بعضهم أنه من تلاميذ بولس أيضا. وذكر في الذخيرة ثلاثة أقوال في تاريخ كتابته وهي 64 و 94 و 97 وأنه كتبه باليونانية ليثبت ألوهية المسيح ويسدد النقص الذي في الأناجيل الثلاثة، إجابة لرغبة أكثر الأساقفة ونواب كنائس آسية وإلحاحهم عليه أن يبقى من بعده ذكرا مخلدا. ومفهوم هذا أنه لولا هذا الإلحاح لم يكتب ما كتب، وإذا لبقيت أناجيلهم ناقصة وخلوا من شبهة على عقيدتهم المعقدة التي لا تعقل، إذ لا توجد الشبهة عليها إلا في هذا الإنجيل الذي هو أكثر الأناجيل تناقضا، وناهيك بجمعه بين الوثنية والتوحيد، وقوله عن المسيح: إنه إن كان يشهد لنفسه فشهادته حق. ثم قوله عنه في موضع آخر: إنه وإن كان يشهد لنفسه فشهادته ليست حقا - إلى أمثال ذلك.
وقال الدكتور بوست: ويظن أنه كتب في أفسس بين سنة 70 و95. ثم قال في الرد على علماء أوربا الأحرار ما نصه: وقد أنكر بعض الكفار قانونية هذا الإنجيل؛ لكراهتهم تعليمه الروحي ولا سيما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح. غير أن الشهادة بصحته كافية، فإن بطرس يشير إلى آية منه 2 بط 1: 14 قابل يو(59/32)
21: 18 وأغناطيوس وبوليكريس يقتطفان من روحه وفحواه وكذلك الرسالة إلى ديوكنيتس وباسيلدس وجوستينس الشهيد وتانيانس. وهذه الشواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثاني.
وبناء على هذه الشهادة وعلى نفس كتابه الذي يوافق ما نعلمه من سيرة يوحنا نحكم أنه من قلمه. وإلا فكاتبه من المكر والغش على جانب عظيم. وهذا الأمر يعسر تصديقه؛ لأن الذي يقصد به أن يغش العالم لا يكون روحيا ولا يتصل إلى علو وعمق الأفكار والصلوات الموجودة فيه. وإذا قابلناه بمؤلفات الآباء رأينا بينه وبينها بونا عظيما حتى نضطر للحكم أنه لم يكن منهم من كان قادرا على تأليف كهذا، بل لم يكن بين التلاميذ من يقدر عليه إلا يوحنا، ويوحنا ذاته لا يستطيع تأليفه بدون إلهام من ربه. اهـ.
أقول: إن من عجائب البشر أن يقول مثل هذا القول أو ينقله معتمدا له عالم طبيب كالدكتور بوست، فإنه كلام لا يخفى بطلانه وتهافته على الصبيان، ولا أعقل له تعليلا إلا أن يكون تصنعا وغشا لإرضاء عامة النصارى لا لإرضاء اعتقاده ووجدانه، أو يكون التقليد الديني من الصغر قد ران على قلب الكاتب فسلبه عقله واستقلاله وفهمه في كل ما يتعلق بأمر دينه. وإليك البيان بالإيجاز:
إن الدكتور بوست من أعلم الأوروبيين الذين خدموا دينهم في سورية وأوسعهم اطلاعا، وهو يلخص في قاموسه هذا أقوى ما بسطه علماء اللاهوت في إثبات دينهم وكتبهم ورد اعتراضات العلماء عليها. فإذا كان هذا منتهى شوطهم في إثبات إنجيل يوحنا(59/33)
الذي هو عمدتهم في عقيدة تأليه المسيح، فما هو الظن بكلام المؤرخين الأحرار والعلماء المستقلين في إبطال هذا الإنجيل؟
ابتدأ رده على منكري هذا الإنجيل بأن بطرس أشار إلى آية منه في رسالته الثانية. فهذا أقوى برهان عندهم على كون هذا الإنجيل كتب في العصر الأول.
فأول ما نقوله في رد هذا الدليل الوهمي: إن رسالة بطرس الثانية كتبت في بابل سنة 64، 68 كما قاله صاحب كتاب (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) وإنجيل يوحنا كتب سنة 95 أو 98 على ما اعتمده بوست وصاحب هذا الكتاب وسائر علماء طائفتهم (البروتستانت) فهو قد ألف بعد كتابة رسالة بطرس بثلاثين سنة أو أكثر على رأيهم، فإذا وافقها في شيء فأول ما يخطر في بال العاقل أنه نقله عنها وإن ألف بعدها بعدة قرون، فكيف يكون ذلك دليلا على صحته؟ ولو لم يكن في رد هذه الشبهة الواهية إلا احتمال نقل المتأخر وهو مؤلف إنجيل يوحنا عن المتقدم وهو بطرس لكفى، وهم جازمون بتقدمه عليه وإن لم يكن عندهم تاريخ صحيح لأحد منهما، بل تاريخ ولادة إلههم وربهم الذي يؤرخون به كل شيء فيه خطأ كما حققه يعقوب باشا أرتين وغيره.
ونقول (ثانيا) : إننا قابلنا بين - 2 بط 1: 14 - وبين - يو21: 18 - فلم نجد في كلام بطرس في ذلك العدد إشارة واضحة إلى ما ذكره يوحنا. فعبارة بطرس التي سموها شهادة له هي قوله: عالما أن خلع سكني قريب كما أعلن لي ربنا يسوع المسيح أيضا. وعبارة يوحنا المشهود لها هي أن المسيح قال لبطرس: الحق الحق أقول لك لما(59/34)
كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء، ولكن متى شخت فإنك تمد يدك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء.
فمعنى عبارة بطرس أنه يستبدل مسكنه باختياره ويرحل عن القوم الذين يكلمهم. ومعنى عبارة المسيح أنه إذا شاخ وهرم يقوده من يخدمه ويشد له منطقته. فإن فرضنا أن بطرس كتب هذا بعد يوحنا لم يكن فيه أدنى شبهة على تصديق يوحنا في عبارته هذه، فضلا عن تصديقه في كل إنجيله، فما أوهى دينا هذه أسسه ودعائمه!
ذكرني هذا الاستدلال نادرة رويت لي عن رجل هرم من صيادي السمك - ولا أذكر هذا الوصف تعريضا بتلاميذ المسيح عليه السلام وعليهم الرضوان - قال: إن رجلا غريبا من الدراويش علمه سورة لا يعرفها أحد من خلق الله سواهما، إلا أن خطيب البلد يحفظ منها كلمتين تدلان على أصلها. وأول هذه السخافة التي سماها سورة: الحمد لله الذين المددا. عند النبي أشهدا، نبينا محمدا، في الجنان مخلدا، أجت فاطمة الزهرا، بنت خديجة الكبرى، آلت لو يا با بتي يا با بتي علمني كلمتين. . . إلخ. والكلمتان اللتان يحفظهما الخطيب منها هما فاطمة الزهرا، وخديجة الكبرى، رضي الله عنهما؛ لأنه كان يقول في دعاء الخطبة الثانية بعد الترضي عن الحسن والحسين، وارض اللهم عن أمهما فاطمة الزهرا، وعن جدتهما خديجة الكبرى.
ولا يخفى على القارئ أن الاتفاق بين هذه الأسجاع العامية وخطبة خطيب البلد في تينك الكلمتين أشهر من الاتفاق بين رسالة(59/35)
بطرس وإنجيل يوحنا، بل ليس بين هذا الإنجيل وهذه الرسالة اتفاق ما فيما زعموه تكليفا وتحريفا للعبارة عن معناها.
وأما استدلاله باقتطاف أغناطيوس وبوليكريس من روح هذا الإنجيل فهو مثل استدلاله بشهادة بطرس له بل أضعف. إذ معنى هذا الاقتطاف أنه روي عن هذين الرجلين شيء يتفق مع بعض معاني هذا الإنجيل. فإذا سلمنا أن هذا صحيح فهو لا يدل على أن هذا الإنجيل كان معروفا في زمنهما في القرن الثاني للمسيح، لأنهما لم يذكراه ولم يعزوا إليه شيئا. ويجوز أن يكون ما اتفقا فيه من المعنى إن صح ذلك ولم يكن كالاتفاق الذي ذكروه بينه وبين بطرس مقتبسا من كتاب آخر كان متداولا في ذلك الزمان، كما يجوز أن يكون مأخوذا من التقاليد الموروثة عند بعض شعوبه. مثال ذلك: أن يوحنا انفرد باستعمال لفظ - الكلمة - والقول بألوهية الكلمة، ولم يؤثر هذا عن غيره من مؤلفي الكتب المقدسة عندهم، ولا عن أحد من تلاميذ المسيح. وقد بينا في تفسير قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (1) أن هذه العقيدة وهذا اللفظ مما أثر عن اليونان والبراهمة والبوذيين وقدماء المصريين. وبحث فيها أيضا (فيلو) الفيلسوف اليهودي المعاصر للمسيح. فإذا فرضنا أن (أغناطيوس) استعمل هذا اللفظ وذكر هذه العقيدة في القرن الثاني، لا يكون هذا دليلا على نقلها عن يوحنا، وعلى أن إنجيل يوحنا ورسالته ورؤياه كانت معروفة في القرن الثاني؛
__________
(1) سورة النساء الآية 171(59/36)
لاحتمال أن يكون نقل ذلك عن الأمم الوثنية التي كانت تدين بهذه العقيدة قبل يوحنا وقبل المسيح عليه السلام. وإذا كان الاتفاق بينهما في المعنى الذي انفرد به يوحنا عن غيره لا يدل على ذكر، فكيف يدل عليه الاتفاق في المعاني الأخرى التي لم ينفرد بها يوحنا؟
فتبين من هذا النقد الوجيز أن ما ذكره بوست وسماه كغيره شهادة لإنجيل يوحنا ليس شهادة، وأن ما سميناه شهادة مندوحة لنا عن القول بأنها شهادة زور. وأما زعمهم أن كتابة هذا الإنجيل توافق سيرة يوحنا ولا يقدر عليه غيره، فهو تمويه نقضوه بقولهم: إنه هو لا يقدر عليه أيضا إلا بالإلهام، إذ كل ملهم يقدر بأقدار الله الذي ألهمه، وليس ليوحنا عندهم سيرة تثبت أو تنفي.
بقي استدلاله الأخير على صحة هذا الإنجيل بأنه لو لم يكن من قلم يوحنا لكان الكاتب له على جانب عظيم من المكر والغش. قال: هذا الأمر يعسر تصديقه؛ لأن الذي يقصد أن يغش العالم لا يكون روحيا. . . إلخ. فنقول: إن هذا الاستدلال ينبئ بسذاجة من اخترعه ونقله وغرارتهم، وإن شئت قلت: بغباوتهم أو قصدهم مخادعة الناس. وبطلانه بديهي، فإن الكاتب للمعاني الروحية لا يجب أن يكون روحيا، والكاتب في الفضائل لا يقضي العقل أن يكون فاضلا. وقد كان في مصر كاتب من أبلغ كتاب العربية في الأخلاق والفضائل، ومع هذا وصفه بعض عارفيه بقوله: إن حروف الفضيلة تتألم من لوكها بفمه، ووخزها بسن قلمه. وإن الروحانية التي نجدها في إنجيل برنابا وما فيه من تقديس الله وتنزيهه، ومن الأفكار والصلوات، لهو أعلى وأشد تأثيرا في النفس من إنجيل يوحنا.(59/37)
ويزعمون مع هذا كله أنه قصد به غش الناس، وتحويلهم عن التثليث والشرك إلى التوحيد والتنزيه!
إن هذا المسلك الأخير الذي سلكه بوست في الاستدلال على صحة نسبة إنجيل يوحنا إليه يقبله المقلدون لعلماء اللاهوت عندهم بغير بحث ولا نظر. والناظر المستقل يراه يؤدي إلى بطلان نسبته إليه لأسباب أهمها ثلاثة:
1 - أنه جاء بعقيدة وثنية نقضت عقيدة التوحيد الخالص المقررة في التوراة وجميع كتب أنبياء بني إسرائيل. وقد صرح المسيح بأنه ما جاء لينقض الناموس بل ليتممه، وأصل الناموس وأساسه الوصايا العشر، وأولها وأولاها بالبقاء ودوام البناء وصية التوحيد.
2 - مخالفته في عقيدته وأسلوبه لكل ما هو مأثور عن جماعته وقومه قبل المسيح وبعده.
3 - مخالفته للأناجيل التي كتبت قبله في أمور كثيرة أهمها: تحاميه ما ذكر فيها من الأعراض البشرية المنسوبة إلى المسيح مما ينافي الألوهية، كتجربة الشيطان له، وخوفه من فتك اليهود به، وتضرعه إلى الله خائفا متألما ليصرف عنه كيدهم وينقذه منهم، وصراخه وقت الصلب من شدة الألم - إلى غير ذلك.
ومن تأمل أساليب الأناجيل وفحواها يرى أن إنجيل يوحنا غريب عنها، ويجزم بأن كاتبه متأخر سرت إليه عقائد الوثنيين، فأحب أن يلقح بها المسيحيين.(59/38)
ونقول (ثانيا) : إذا فرضنا أن موافقة بعض أهل القرن الثاني لهذا الإنجيل في روح معناه يعد شهادة له بأنه كان موجودا في منتصف القرن الثاني، فأين الشهادة التي تثبت أنه كان موجودا في القرن الأول والصدر الأول مما بعده؟
ثم تبين لنا من تلقاه عنه حتى وصل إلى أولئك الذين اقتطفوا من روحه.
بعد كتابة ما تقدم راجعت (إظهار الحق) فرأيته استدل على أن إنجيل يوحنا ليس من تصنيف يوحنا الذي هو أحد تلاميذ المسيح بعدة أمور. (منها) : أسلوبه الذي يدل على أن الكاتب لم يكتب ما شاهده وعاينه بل ينقل عن غيره. (ومنها) : آخر فقرة منه وهو ما أوردناه في الاستدلال على أنه لم يكتب عن أحوال المسيح وأقواله إلا القليل، فإنه ذكر فيها يوحنا بضمير الغائب وأنه كتب وشهد بذلك. فالذي ينقل هذا عنه لا بد أن يكون غيره، وقصاراه أنه ظفر بشيء مما كتبه فحكاه عنه ونقله في ضمن إنجيله، ولكن أين الأصل الذي ادعى أن يوحنا كتبه وشهد به؟ وكيف نثق بنقله عنه ونحن لا نعرفه، ورواية المجهول عند محدثي المسلمين وجميع العقلاء لا يعتد بها البتة. (ومنها) : أنهم نقلوا أن الناس أنكروا كون هذا الإنجيل ليوحنا في القرن الثاني على عهد (أرينيوس) تلميذ (بوليكارب) الذي هو تلميذ يوحنا، ولم يرد عليهم أرينيوس بأنه سمع من بوليكارب أن أستاذه يوحنا هو الكاتب له. (ومنها) : نقله عن بعض كتبهم ما نصه: كتب استادلن في كتابه: إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية بلا ريب. (ومنها) : أن المحقق(59/39)
(برطشنيدر) قال: إن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل صنفها أحد (كذا) في ابتداء القرن الثاني. (ومنها) : أن المحقق (كروتيس) قال: إن هذا الإنجيل عشرين بابا ألحقت كنيسة أفساس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا. (ومنها) : أن جمهور علمائهم ردوا إحدى عشرة آية من أول الفصل الثامن. . . إلخ.(59/40)
7 - علمنا مما تقدم أن النصارى ليس عندهم أسانيد متصلة ولا منقطعة لكتبهم المقدسة، وإنما بحثوا ونقبوا في كتب الأولين والآخرين وفلوها فليا لعلهم يجدون فيها شبهة دليل على أن لها أصلا كان معروفا في القرون الثلاثة الأولى للمسيح، ولكنهم لم يجدوا شيئا صريحا يثبت شيئا منها، وإنما وجدوا كلمات مجملة أو مبهمة فسروها كما شاءت أهواؤهم وسموها شهادات ونظموها في سلك الحجج والبينات، وإن كانت هي أيضا غير منقولة عن الثقات، تم استنبطوا من فحواها ومضامينها مسائل متشابهة زعموا أن كلا منها يؤيد الآخر ويشهد له، وقد أشرنا إلى ضعف كل واحدة من هاتين الطريقتين.
فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (1) . وثبت به أنه كلام الله ووحيه، إذ ليس هذا مما يعرف بالرأي حتى يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اهتدى إليه بعقله ونظره.
ونظير هذه العبارة وأمثالها في الدلالة على كون القرآن من عند الله تعالى قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (2) . فأنت ترى مصداق هذا القول بين فرقهم وبين دولهم لم ينقطع زمنا ما.
__________
(1) سورة المائدة الآية 14
(2) سورة المائدة الآية 14(59/40)
8 - إن أحد فلاسفة الهنود درس تاريخ الأديان كلها وبحث فيها بحثا مستقلا منصفا، وأطال البحث في النصرانية لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان والتبريز في الفنون والصناعات، ثم نظر في الإسلام فعرف أنه الدين الحق فأسلم، وألف كتابا باللغة الإنجليزية سماه: (لماذا أسلمت) بين فيه ما ظهر له من مزايا الإسلام على جميع الأديان. وكان أهمها عنده أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي له تاريخ صحيح محفوظ، فالآخذ به يعلم أنه هو الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي المدفون في المدينة المنورة من بلاد العرب. وقد كان من مثار العجب عنده أن ترضى أوربا لنفسها دينا ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلها، وهي لا تعرف من تاريخه شيئا يعتد به، فإن هذه الأناجيل الأربعة على عدم ثبوت أصلها، وعدم الثقة بتاريخها ومؤلفيها لا تذكر من تاريخ المسيح إلا وقائع قليلة، حدثت كما تقول في أيام معدودة، ولا يذكر فيها شيء يعتد به عن نشأة هذا الرجل وتربيته وتعليمه وأيام صباه وشبابه، ولله في خلقه شئون. اهـ.
بل إن كثيرا من مفكريهم وأدبائهم وعلمائهم المعاصرين يعترفون أن الأناجيل الموجودة ليست سوى مجموعة كتب كتبت في أوقات متباعدة عن بعضها. فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية في المجلد الخامس صحيفة 636 طبعة 1953 ما نصه: (لم يبق من أعمال السيد المسيح شيء ولا كلمة واحدة مكتوبة) . وقال اللورد(59/41)
هدلي في أحد كتبه: ليس الإنجيل إلا مجموعة كتب كتبت في أوقات متباعدة عن بعضها. وقال الأستاذ ولز: إن السيد المسيح هو واضع نواة المسيحية وليس بمنشئها. وقال أيضا: إن بعض الكتاب يرى أن السيد المسيح لا تربطه بالمسيحية الحاضرة أية صلة.(59/42)
ولعل من أبرز الدلائل على التحريف والتغيير والتبديل ما يزعمه النصارى من أن عيسى ابن الله ورسوله. ففضلا عما لدينا في كتاب الله وسنة رسوله من النصوص الواضحة في أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية المجلد الخامس منها ما نصه: (إن سيدنا عيسى عليه السلام لم تصدر عنه أي دعوى تفيد أنه من عنصر إلهي أو من عنصر أعلى من العنصر الإنساني المشترك) . كما أنه جاء فيها أن كثيرا من المراسيم والطقوس الكنيسية المعمول بها الآن لم يمارسها سيدنا عيسى نفسه ولم يأمر بها.
وقد يكون من المناسب أن نذكر خلاصة أقوال استشهد بها الأستاذ أحمد علوش في كتابه (The Religion of Islam) لعلماء مسيحيين غيورين على المسيحية.
أحد هذه الأقوال: أن الأناجيل الأربعة الموجودة الآن سبقتها محاولات عديدة، وقد كان قبل هذه الأربعة عدة أناجيل.
القول الثاني: أن نسبة الأناجيل الأربعة الموجودة الآن إلى كاتبيها المعنيين نسبة مشكوك فيها، ولم تثبت صحتها حتى الآن، وما زالت مصدر أخذ ورد.(59/42)
الثالث: هذه الأناجيل الأربعة ألفت تأليفا ولم تصدر عن وحي.
الرابع: يختلف إنجيل يوحنا عن الأناجيل الثلاثة الأخرى اختلافا شديدا واضحا.
الخامس: الأناجيل الثلاثة الأخرى تختلف فيما بينها اختلافا واضحا كبيرا. وإن كان الاختلاف فيما بينها أقل بالنسبة إلى إنجيل يوحنا.
أما ما ذكره الأخ شمس الدين أحمد من أن من ناقشوه من رجال الدين المسيحي تعرضوا للقرآن، فلم يذكر لنا الطريقة التي تعرضوه بها حتى يكون ردنا عليهم متجها نحوها. ولعله وفقه الله يذكر لنا الشبه التي ذكروها له؛ لأن مجرد قولهم بأن القرآن لم يسلم من التحريف يكفي في الرد عليهم به أنهم كذابون وأن الله تعالى تولى حفظه عن التغيير والتبديل والتحريف. قال تعالى وهو أصدق القائلين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (2) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (3) .
فلقد نقل القرآن إلينا بالنقل المتواتر بإجماع الأمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألفاظه ومعانيه. كما أن كثيرا من المسلمين سلفهم وخلفهم يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن القراءة في المصاحف، مصداقا لما ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 41
(3) سورة فصلت الآية 42(59/43)
قال: «إن ربي قال لي: إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا (1) » . فلو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب، ولو أخفيت بعض قراطيسه كما هي الحال في التوراة والإنجيل وغيرهما لما خفي الأمر على المسلمين فضلا عن حفاظهم.
بل إن من كمال الحق ما شهد به الأعداء فلقد قال (السير وليم موير) وهو أحد خصوم الإسلام حسبما حكاه عنه الدكتور حسنين هيكل في كتابه (حياة محمد) : ومع ما أدى إليه مقتل عثمان نفسه من قيام شيع متعصبة ثائرة زعزعت ولا تزال تزعزع وحدة العالم الإسلامي، فإن قرآنا واحدا قد ظل دائما قرآنها جميعها، وهذا الإسلام منها جميعا إلى كتاب واحد على اختلاف العصور حجة قاطعة على أن ما أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة السيئ الحظ. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.
وقال في موضع آخر: والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقا فحسب، بل كان كما تدل عليه الوقائع كاملا، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أي شيء من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤيد استنادا إلى أقوى الأدلة أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد.
وقال هيكل بعد ذلك: أطلنا في اقتطاف عبارات (سير وليم موير) ، على أن ما اقتطفناه يغنينا عن ذكر ما كتبه (الأب لامنسي) و (فون هامر) ومن يرون هذا الرأي من المستشرقين، هؤلاء جميعا يقطعون بدقة القرآن الذي نتلوه اليوم، وبأنه يحتوي على
__________
(1) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .(59/44)
كل ما تلاه محمد على أنه الوحي الذي تلقاه من ربه صادقا كاملا. فإذا ذهبت بعد ذلك قلة من المستشرقين غير مذهبهم غير آبهين بالأدلة العلمية التي ساقها (موير) وكثرة المستشرقين، كان ذلك تجنيا على الإسلام لم يمله غير الحقد على الإسلام، وعلى صاحب الرسالة الإسلامية. اهـ.
وقال (اربثنت) : ولقد ظل القرآن كما هو حتى اليوم بدون أي تحريف أو تبديل، لا من المتحمسين له، ولا من ناقليه إلى لغات أخرى، ولا ممن يتربصون به الدوائر، وهو موقف لم يقفه مع الأسف أي كتاب من كتب العهدين القديم والحديث معا.
وقال (لوزتنا بوز) كذلك: فلم تكن هناك أي فرصة لتبديل أي جزء في القرآن أو تحويره ولو بوازع الحماس له، وهو الكتاب الوحيد الذي ينفرد بهذه الميزة بين سائر الكتب التي جاءت بها الديانات القديمة العظمى.
هذا ما تيسر لنا إيراده، وبالله التوفيق. والسلام عليكم.(59/45)
التوسل
س: توسل بني إسرائيل بالتابوت؟
ج: أولا يحتاج لثبوت ذلك. إن كان غير ثابت فرغنا من مئونته. وإن كان ثابتا فيمكن أن يكون في شرعهم، وشرعنا جاء بجنس خلاف ذلك، بل جاء شرعنا من تحقيق التوحيد بأبلغ من(59/45)
ذلك، فإن الشريعة المحمدية هي الحنيفية، ففيها من البعد عن وسائل الشرك ما ليس في غيرها، فكان في شرع من قبلنا سجود التحية وهذا ليس في شريعتنا. فإذا ثبت أن الذي يذكره المفسرون لما قصة التابوت أنهم يحملون التابوت لينصروا - فليس حجة لنا.(59/46)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا - رحمه الله -
س: هل رفع اليدين في الدعاء مشروع، وخاصة في السفر بالطائرة أو السيارة أو القطار وغيرها؟
ج: رفع الأيدي في الدعاء من أسباب الإجابة في أي مكان، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي ستير، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (1) » . ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: " وقال سبحانه:، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له (4) » ؟ رواه مسلم في صحيحه.
فجعل من أسباب الإجابة رفع اليدين. ومن أسباب المنع، وعدم الإجابة أكل الحرام والتغذي بالحرام. فدل على أن رفع اليدين من أسباب الإجابة، سواء في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3556) ، سنن أبو داود الصلاة (1488) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3865) ، مسند أحمد بن حنبل (5/438) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}
(4) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}(59/47)
في المراكب الفضائية، أو في غير ذلك، إذا دعا ورفع يديه. فهذا من أسباب الإجابة إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نرفع فيها، مثل خطبة الجمعة، فلما يرفع فيها - صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استسقى فهو يرفع يديه فيها.
كذلك بين السجدتين وقبل السلام في آخر التشهد لم يكن يرفع يديه صلى الله عليه وسلم، فلا نرفع أيدينا في هذه المواطن التي لم يرفع فيها - صلى الله عليه وسلم؛ لأن فعله حجة وتركه حجة.
وهكذا بعد السلام من الصلوات الخمس؛ كان - صلى الله عليه وسلم - يأتي بالأذكار الشرعية ولا يرفع يديه، فلا نرفع في ذلك أيدينا اقتداء به صلى الله عليه وسلم، أما المواضع التي رفع - صلى الله عليه وسلم - فيها يديه فالسنة فيها رفع اليدين تأسيا به - صلى الله عليه وسلم؛ ولأن ذلك من أسباب الإجابة، وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة كما تقدم.(59/48)
س: آخر ساعة من عصر الجمعة هل هي ساعة الإجابة؟ وهل يلزم المسلم أن يكون في المسجد في هذه الساعة، وكذلك النساء في المنازل؟
ج: أرجح الأقوال في ساعة الإجابة يوم الجمعة قولان:
أحدهما: أنها بعد العصر إلى غروب الشمس في حق من جلس ينتظر صلاة المغرب، سواء كان في المسجد أو في بيته يدعو ربه، وسواء كان رجلا أو امرأة، فهو حري بالإجابة، لكن ليس للرجل أن يصلي في البيت صلاة المغرب ولا غيرها إلا بعذر شرعي، كما هو معلوم من الأدلة الشرعية.(59/48)
الثاني: أنها من حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة يوم الجمعة، إلى أن تقضى الصلاة، فالدعاء في هذين الوقتين حري بالإجابة.
وهذان الوقتان هما أحرى ساعات الإجابة يوم الجمعة لما ورد فيهما من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك، وترجى هذه الساعة في بقية ساعات اليوم، وفضل الله واسع سبحانه وتعالى. ومن أوقات الإجابة في جميع الصلوات فرضها ونفلها: حال السجود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم: «فقمن أن يستجاب لكم (3) » أي حري.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (482) ، سنن النسائي التطبيق (1137) ، سنن أبو داود الصلاة (875) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1045) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1326) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1120) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1325) .(59/49)
س: ورد في حديث: «إن لله ملائكة سيارة تسير في الأرض تحف الجماعة الذين يذكرون الله (1) » ، ويقال: إن بعض الصوفية يستدلون بهذا الحديث على بعض أعمالهم، فكيف ترد عليهم؟
ج: هذا الحديث صحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة سياحين يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحيطون بهم إلى عنان السماء، ويسمعون منهم أذكارهم وأعمالهم الطيبة، ثم إذا عرجوا سألهم الله عما وجدوا وهو أعلم سبحانه وتعالى، فيخبرونه بما شاهدوا (2) » ، ولا حجة في هذا للصوفية، فالصوفية مبتدعة، عليهم أن يلتزموا بالشريعة ويستقيموا
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(59/49)
عليها ويذكروا الله بما شرع، وإذا ذكروا الله بما شرع فهذا طيب، ولهم أجر ذلك عند الله سبحانه إذا استقاموا على التوحيد، ومن ذكر الله: تعليم القرآن الكريم والسنة المطهرة وأنواع العلم النافع الذي ينفع العباد في دينهم ودنياهم مع الإخلاص لله في ذلك وطلب الثواب منه سبحانه. وبذلك يعلم أن وجود الملائكة في مجالس الذكر لا حجة للصوفية فيه، ولا في اختراعهم البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان وعبادات ما شرعها الله لعباده، كعبادة بعضهم لأهل القبور بالاستغاثة بهم والنذر لهم والطواف بقبورهم وغير ذلك من أنواع العبادات، وكإحداثهم أذكارا وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، وغير ذلك مما اخترعوه من الطرق الباطلة. نسأل الله لنا ولهم الهداية، والله ولي التوفيق.(59/50)
س: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحابا طيبين وزملاء أخيارا، وألا أسافر معهم لأقضي عمرة، مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب على طاعتهم في هذه الحالة؟
ج: ليس عليك طاعتهم في معصية الله، ولا فيما يضرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » ، فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحدا في مصاحبة الأشرار أيضا، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب، وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي كذا، ويا أمي كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب والأسلوب الحسن لا بالعنف والشدة، وإذا
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(59/50)
منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم، ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك. ولكن عليك أن لا تطيعهم إلا في الطاعة والمعروف. وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين أو بشرب الخمر أو الزنا أو بغير ذلك من المعاصي، فلا تطعهم ولا غيرهم في ذلك، للحديثين المذكورين آنفا. وبالله التوفيق.(59/51)
حكم شرب الدخان وبيعه والاتجار به.
س: إن في المسجد عندنا جهازا للإنذار والعاملون عليه من الدفاع المدني يرابطون أربعا وعشرين ساعة، ويدخنون في غرفة تابعة للمسجد، ويريد السائل توجيه النصيحة إليهم. أثابكم الله.
ج: لا يجوز التدخين في المسجد ولا في الغرف التابعة له؛ لأن التدخين محرم، وهو في المسجد أشد تحريما، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل ثوما أو بصلا عن دخول المسجد، فكيف بالتدخين فيه. ومعلوم أن البصل والثوم طعامان مباحان لكن لهما رائحة كريهة، فلذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكلهما عن دخول المسجد حتى تذهب الرائحة.
فإذا كان الذي يأكل البصل والثوم لا يدخل المسجد، فكيف بالدخان الذي هو محرم وخبيث وضار بأهله وغيرهم ممن يشم رائحته.
فيجب عليهم أن يحذروا ذلك وألا يدخنوا في الحجرة التابعة للمسجد، وأن يحذروا الدخان ويبتعدوا عنه في كل مكان وزمان لتحريمه وخبثه، ولأنه ضرر عليهم في دينهم ودنياهم وصحتهم واقتصادهم وشر محض. نسأل الله للجميع الهداية.(59/51)
س: ما وجهة من يقول بأن الدخان محرم في شرع الله تعالى؟
ج: وجهته أنه مضر ومخدر في بعض الأحيان، ومسكر في بعض الأحيان، والأصل فيه عموم الضرر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ضرر ولا ضرار (1) » فالمعنى: كل شيء يضر بالشخص في دينه أو دنياه محرم عليه تعاطيه من سم أو دخان أو غيرهما مما يضره؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (3) » ، فمن أجل هذا حرم أهل التحقيق من أهل العلم التدخين لما فيه من المضار العظيمة التي يعرفها المدخن نفسه ويعرفها الأطباء ويعرفها كل من خالط المدخنين. وقد يسبب موت الفجأة وأمراضا أخرى، ويسبب السعال الكثير والمرض الدائم اللازم، كل هذا قد عرفناه وأخبرنا به جم غفير لا نحصيه ممن قد تعاطى شرب الدخان أو الشيشة أو غير ذلك من أنواع التدخين، فكله مضر، وكله يجب منعه، ويجب على الأطباء النصيحة لمن يتعاطاه، ويجب على الطبيب والمدرس أن يحذرا ذلك؛ لأنه يقتدى بهما.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(59/52)
س: ما حكم شرب الدخان؟ وهل هو حرام أم مكروه؟ وما حكم بيعه والاتجار فيه؟
ج: الدخان محرم، لكونه خبيثا ومشتملا على أضرار كثيرة، والله سبحانه وتعالى إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب وغيرها، وحرم عليهم الخبائث. قال الله سبحانه(59/52)
وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) ، وقال سبحانه في وصف نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) ، والدخان بأنواعه كلها ليس من الطيبات، بل هو من الخبائث وهكذا جميع المسكرات كلها من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه ولا بيعه ولا التجارة فيه لما في ذلك من المضار العظيمة والعواقب الوخيمة. والواجب على من كان يشربه أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود في ذلك، ومن تاب صادقا تاب الله عليه كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) ، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما كان قبلها» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » .
ونسأل الله أن يصلح حال المسلمين وأن يعيذهم من كل ما يخالف شرعه إنه سميع مجيب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة طه الآية 82
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(59/53)
س: يوجد لدينا بالمستشفى وكذلك في جميع المستشفيات بعض الأدوية التي تستعمل لعلاج الآلام بعد العمليات وكذلك(59/53)
لعلاج الآلام المختلفة وهذه الأدوية تحتوي على مواد مخدرة وأخرى كحولية بنسب متفاوتة فهل من حرج في استخدامها؟ إذا كان هناك حرج شرعي في استخدامها فهل هنالك من خطوة إيجابية للنظر فيها وعرضها على الجهات المسئولة لوقف تداولها؟
ج: الأدوية التي يحصل بها راحة للمريض وتخفيف للآلام عنه لا حرج فيها ولا بأس بها قبل العملية وبعد العملية إلا إذا علم أنها من شيء يسكر كثيره فلا تستعمل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » أما إذا كانت لا تسكر ولا يسكر كثيرها ولكن يحصل بها بعض التخفيف والتخدير لتخفيف الآلام فلا حرج في ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(59/54)
س: أرجو من سماحتكم أن تبينوا لنا طريقة التيمم الصحيحة؟
ج: التيمم الصحيح مثل ما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) ، المشروع ضربة واحدة للوجه والكفين، وصفة ذلك: أنه يضرب التراب بيديه ضربة واحدة، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه (2) » ، ويشترط أن يكون التراب طاهرا. ولا يشرع
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) صحيح البخاري التيمم (338) ، صحيح مسلم الحيض (368) ، سنن أبو داود الطهارة (321) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (569) .(59/54)
مسح الذراعين بل يكفي مسح الوجه والكفين للحديث المذكور. ويقوم التيمم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمم صلى بهذا التيمم النافلة والفريضة الحاضرة والمستقبلة ما دام على طهارة حتى يحدث، أو يجد الماء إن كان عادما له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزا عن استعماله، فالتيمم طهور يقوم مقام الماء كما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طهورا.(59/55)
س: أفطرت في إحدى السنوات الأيام التي تأتي فيها الدورة الشهرية ولم أتمكن من الصيام حتى الآن، وقد مضى علي سنوات كثيرة وأود أن أقضي ما علي من دين الصيام ولكن لا أعرف كم عدد الأيام التي علي، فماذا أفعل؟
ج: عليك ثلاثة أمور: الأمر الأول: التوبة إلى الله من هذا التأخير، والندم على ما مضى من التساهل، والعزم على ألا تعودي لمثل هذا؛ لأن الله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وهذا التأخير معصية والتوبة إلى الله من ذلك واجبة.
الأمر الثاني: البدار بالصوم على حسب الظن - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها - فالذي تظنين أنك تركته من أيام عليك أن تقضيه، فإذا ظننت أنها عشرة فصومي عشرة أيام وإذا ظننت أنها
__________
(1) سورة النور الآية 31(59/55)
أكثر أو أقل فصومي على مقتضى ظنك، لقول الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) .
الأمر الثالث: إطعام مسكين عن كل يوم إذا كنت تقدرين على ذلك يصرف كله ولو لمسكين واحد، فإن كنت فقيرة لا تستطيعين الإطعام فلا شيء عليك في ذلك سوى الصوم والتوبة.
والإطعام الواجب عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد ومقداره كيلو ونصف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة التغابن الآية 16(59/56)
حكم مس الحائض للقرآن الكريم
س: هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن الكريم في أيام عذرها؟ وهل لها أن تقرأ القرآن الكريم إذا أوت إلى النوم وتقرأ آية الكرسي بدون أن تلمس المصحف؟ نرجو من سماحة الشيخ أن يتفضل بإشباع هذا الموضوع حتى نكون فيه على بصيرة.
ج: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد: فقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع غير مرة وبينت أنه لا بأس ولا حرج أن تقرأ المرأة وهي حائض أو نفساء ما تيسر من القرآن عن(59/56)
ظهر قلب؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك، وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في هذا: فمن أهل العلم من قال: إنها لا تقرأ كالجنب واحتجوا بحديث ضعيف رواه أبو داود عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) » ، وهذا الحديث ضعيف عند أهل العلم؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة.
وبعض أهل العلم قاسها على الجنب قال: كما أن الجنب لا يقرأ فهي كذلك؛ لأن عليها حدثا أكبر يوجب الغسل، فهي مثل الجنب. والجواب عن هذا أن هذا قياس غير صحيح؛ لأن حالة الحائض والنفساء غير حالة الجنب، الحائض والنفساء مدتهما تطول وربما شق عليهما ذلك وربما نسيتا الكثير من حفظهما للقرآن الكريم، أما الجنب فمدته يسيرة متى فرغ من حاجته اغتسل وقرأ، فلا يجوز قياس الحائض والنفساء عليه، والصواب من قولي العلماء أنه لا حرج على الحائض والنفساء أن تقرآ ما تحفظان من القرآن، ولا حرج أن تقرأ الحائض والنفساء آية الكرسي عند النوم، ولا حرج أن تقرآ ما تيسر من القرآن في جميع الأوقات عن ظهر قلب، هذا هو الصواب، وهذا هو الأصل، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة لما حاضت في حجة الوداع قال لها: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (2) » ولم ينهها عن قراءة القرآن. ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن. فيدل ذلك على أنه لا حرج عليها في قراءته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما منعها من الطواف؛ لأن الطواف كالصلاة وهي لا تصلي وسكت
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .
(2) سنن النسائي الطهارة (290) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (941) ، سنن الدارمي المناسك (1846) .(59/57)
عن القراءة، فدل ذلك على أنها غير ممنوعة من القراءة، ولو كانت القراءة ممنوعة لبينها لعائشة ولغيرها من النساء في حجة الوداع وفي غير حجة الوداع. ومعلوم أن كل بيت في الغالب لا يخلو من الحائض والنفساء، فلو كانت لا تقرأ القرآن لبينه - صلى الله عليه وسلم - للناس بيانا عاما واضحا حتى لا يخفى على أحد، أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن بالنص ومدته يسيرة متى فرغ تطهر وقرأ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله في كل أحيانه إلا إذا كان جنبا انحبس عن القرآن حتى يغتسل عليه الصلاة والسلام كما قال علي رضي الله عنه: «كان عليه الصلاة والسلام لا يحجبه شيء عن القرآن سوى الجنابة (1) » ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بعدما خرج من محل الحاجة، فقد قرأ وقال: «هذا لمن ليس جنبا أما الجنب فلا ولا آية (2) » فدل ذلك على أن الجنب لا يقرأ حتى يغتسل.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/110) .(59/58)
س: إننا طالبات ندرس في مدرسة بنات وفي حصة القرآن الكريم يأمرنا الأستاذ بقراءة القرآن ونكون في حالة العذر، ونستحي أن نخبر الأستاذ فنقرأ مراعاة لذلك، فهل يجوز هذا؟ وإن كان لا يجوز فكيف نعمل أيام الامتحان إذا صادفتنا ونحن في حال الدورة الشهرية؟
ج: اختلف العلماء رحمة الله عليهم في قراءة الحائض والنفساء للقرآن الكريم: فذهب جماعة من أهل العلم إلى تحريم ذلك وألحقوهما بالجنب، وقالوا: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجنب لا يقرأ القرآن؛ لأن الجنابة حدث أكبر، والحيض مثل ذلك، والنفاس مثل ذلك فقالوا: لا تقرأ الحائض ولا النفساء حتى تطهرا، واحتجوا أيضا(59/58)
بحديث رواه الترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) » .
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب؛ لأن مدتهما تطول أياما كثيرة فلا يصح قياسهما على الجنب؛ لأن مدته قصيرة؛ لأن في إمكانه إذا فرغ من حاجته أن يغتسل ويقرأ، أما الحائض والنفساء فليس في إمكانها ذلك، وقالوا في الحديث السابق الذي احتج به المانعون إنه حديث ضعيف، ضعفه أهل العلم لكونه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة، وهذا القول هو الصواب.
فيجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب؛ لأن مدتهما تطول فقياسهما على الجنب غير صحيح، فعلى هذا لا بأس أن تقرأ الطالبة القرآن، وهكذا المدرسة في الامتحان وغير الامتحان عن ظهر قلب لا من المصحف، أما إن احتاجت إحداهن إلى القراءة من المصحف فلا حرج عليها بشرط أن يكون ذلك من وراء حائل كالقفازين ونحوهما.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .(59/59)
س: هنالك مجموعة من الأسئلة تدور حول الحجاب فبعض هذه الأسئلة تبين صفة الحجاب القائم عند بعض النساء في بعض هذه المستشفيات، نأمل من سماحتكم بيان صفة الحجاب الشرعي الذي يجب وخاصة في مثل هذا الحجاب؟
ج: الحجاب الشرعي هو أن تحجب المرأة كل بدنها عن الرجال: الرأس والوجه والصدر والرجل واليد؛ لأنها كلها عورة بالنسبة للرجل غير المحرم؛ لقول الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53(59/59)
وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} (1) المراد بذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم، والنساء غيرهن كذلك في الحكم، وبين سبحانه أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفتنة، وقال سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (2) الآية. والوجه من أعظم الزينة، والشعر كذلك واليد كذلك، ويمكن أن تحجب المرأة وجهها بالنقاب وهو الذي تبدو منه العينان أو إحداهما ويكون الوجه مستورا؛ لأنها تحتاج إلى بروز عينها لمعرفة الطريق، ويمكنها أن تحتجب بحجاب غير النقاب كالخمار لا يمنعها من النظر إلى طريقها لكن تخفي زينتها وتستر رأسها وجميع بدنها، وعلى المرأة أن تجتنب استعمال الطيب عند خروجها للسوق أو المسجد أو محل العمل إن كانت موظفة؛ لأن ذلك من أسباب الفتنة بها.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة النور الآية 31(59/60)
س: ما رأي سماحتكم في أن عمل الطبيب يتطلب في بعض الأحيان رؤية عورة المريض أو مسها للفحص؟ وفي بعض الأحيان أثناء العمليات يعمل الطبيب الجراح في وسط مليء بالدم والبول فهل إعادة الوضوء واجبة في هذه الحالات أم أنه من باب الأفضلية؟
ج: لا حرج أن يمس الطبيب عورة الرجل للحاجة وينظر إليها للعلاج سواء عورة الدبر أو القبل، فله النظر والمس للحاجة(59/60)
والضرورة، ولا بأس أن يلمس الدم إذا دعت الحاجة للمسه في الجرح لإزالته أو لمعرفة حال الجرح، ويغسل يده بعد ذلك عما أصابه ولا ينتقض الوضوء بلمس الدم أو البول، لكن إذا مس العورة انتقض وضوءه قبلا كانت أو دبرا، أما مس الدم أو البول أو غيرهما من النجاسات فلا ينقض الوضوء ولكن يغسل ما أصابه، لكن من مس الفرج من دون حائل يعني مس اللحم اللحم فإنه ينتقض وضوؤه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونهما ستر فقد وجب عليه الوضوء (1) » ، وهكذا الطبيبة إذا مست فرج المرأة للحاجة فإنه ينتقض وضوؤها بذلك إذا كانت على طهارة كالرجل.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/333) .(59/61)
س: ما هو الحكم في التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم؟
ج: لا بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من تصبح بسبع تمرات من تمر المدينة لم يضره سحر ولا سم (1) » وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه، فهكذا إذا خشي من مرض وطعم ضد الوباء الواقع في البلد أو في أي مكان لا بأس بذلك من باب الدفاع كما يعالج المرض النازل، يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه، لكن لا يجوز تعليق التمائم والحجب ضد المرض أو الجن أو العين؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن ذلك من الشرك الأصغر، فالواجب الحذر من ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5445) ، صحيح مسلم الأشربة (2047) ، سنن أبو داود الطب (3876) .(59/61)
س: كيف نوفق بين الحديثين الشريفين: «لا عدوى ولا طيرة (1) » ، و «فر من المجذوم فرارك من الأسد (2) » ؟
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .(59/61)
ج: لا منافاة عند أهل العلم بين هذا وهذا، وكلاهما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول (1) » وذلك نفي لما يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض كالجرب تعدي بطبعها، وأن من خالط المريض أصابه ما أصاب المريض، وهذا باطل، بل ذلك بقدر الله ومشيئته، وقد يخالط الصحيح المريض المجذوم ولا يصيبه شيء، كما هو واقع ومعروف، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب كلها، قال له عليه الصلاة والسلام: «فمن أعدى الأول (2) » .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (3) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «لا يورد ممرض على مصح (4) » فالجواب عن ذلك: أنه لا يجوز أن يعتقد العدوى ولكن يشرع له أن يتعاطى الأسباب الواقية من وقوع الشر، وذلك بالبعد عمن أصيب بمرض يخشى انتقاله منه إلى الصحيح بإذن الله عز وجل، كالجرب والجذام، ومن ذلك عدم إيراد الإبل الصحيحة على الإبل المريضة بالجرب ونحوه، توقيا لأسباب الشر وحذرا من وساوس الشيطان الذي قد يملي عليه أنما أصابه أو أصاب إبله هو بسبب العدوى.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(2) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .
(4) صحيح البخاري الطب (5771) ، صحيح مسلم السلام (2221) .(59/62)
س: ما حكم مصافحة النساء؟
ج: مصافحة النساء فيها تفصيل، فإن كانت للنساء من محارم المصافح كأمه وابنته وأخته وخالته وعمته وزوجته فلا بأس بها. وإن كانت لغير المحارم فلا تجوز، لأن امرأة مدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - يدها لتصافحه فقال: «إنني لا أصافح النساء (1) » ، وقالت عائشة رضي الله عنها:
__________
(1) سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .(59/62)
«والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط ما كان يبايعهن إلا بالكلام (1) » عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز للمرأة أن تصافح الرجال من غير محارمها، ولا يجوز للرجل أن يصافح النساء من غير محارمه للحديثين المذكورين، ولأن ذلك لا تؤمن معه الفتنة.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(59/63)
س: أمرتني والدتي بعدم طبخ نوع معين من الأعشاب، وأردفت قائلة: إذا طبخت هذه الأعشاب ممكن تسبب لي الوفاة لعدم قدرتي على رائحتها، علما أن هذه الأعشاب مشروعة ومباحة. وبالفعل بعد أن تعشيت أنا ووالدتي من تلك الأعشاب توفيت والدتي بعدها بعدة ساعات، فهل أنا آثمة في ذلك؟ وهل لي يد في وفاتها؟ وهل علي ذنب في ذلك؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال فقد أثمت؛ لأن ذلك من العقوق والإساءة إليها، وعليك ذنب في ذلك ما دمت تعلمين أن أمك تتأذى به وأنها نصحتك ونهتك، فأنت مجرمة في هذا العمل عاصية قاطعة للرحم عاقة لوالدتك، وعليك الدية؛ لأن هذا العمل الذي فعلت يعتبر من القتل شبه العمد، وعليك أيضا الكفارة وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن عجزت فصومي شهرين متتابعين ستين يوما، مع التوبة إلى الله عز وجل. نسأل الله لنا ولك قبول التوبة والتوفيق لكل خير.(59/63)
س: تقام في المستشفى عدة جماعات للصلاة، والمساجد قريبة، فهل يلزم من بقربها الذهاب للمسجد أم نكتفي بهذه الجماعات داخل المستشفى؟
ج: هذا فيه تفصيل، فالذي لا بد من وجوده في المستشفى كالحارس ونحوه أو المريض الذي لا يستطيع الوصول إلى المسجد فإنه(59/63)
لا يجب عليه الخروج إلى المسجد، بل يصلي في محله مع الجماعة التي يستطيع الصلاة معها. أما من يستطيع الوصول إلى المسجد فإنه يجب عليه ذلك عملا بالأدلة الشرعية، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر، قيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما هو العذر؟ قال: (خوف أو مرض) (1) » . رواه ابن ماجه والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم وإسناده صحيح.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .(59/64)
س: إذا ادخر المسلم مبلغا من المال فكيف يكون حساب زكاته في نهاية العام؟
ج: يزكي المسلم كل شيء محل من النقود أو عروض التجارة إذا تم حوله، فالذي ملكه في رمضان يزكيه في رمضان، والذي ملكه في شعبان من راتبه أو غيره من النقود أو عروض التجارة يزكيه في شعبان، والذي ملكه في شوال يزكيه في شوال والذي ملكه في ذي الحجة يزكيه في ذي الحجة، وهكذا كل مال من الأموال المذكورة تتم سنته يزكيه على رأس الحول. وإذا أحب أن يعجل الزكاة قبل تمام الحول لمصلحة شرعية فلا بأس وله في ذلك أجر عظيم، أما اللزوم فلا يلزمه الإخراج إلا بعد تمام الحول.(59/64)
دفع الرشوة للموظفين
س: هل يجوز أن أدفع رشوة لأحد الموظفين أو المسؤولين الذين يحكمون في القضايا مثل القضاة أو رؤساء اللجان التي تقوم بالكشف على الأراضي أم ذلك حرام في حالة إذا لم يثبت حق(59/64)
الشخص إلا بتلك الرشوة وإذا لم يدفعها فإنه يضيع حقه وإذا دفعها فإنه يحصل على حقه من غير ظلم لشخص آخر، فهل يجوز هذا الأمر؟ وأين نذهب من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش (1) » ؟
ج: لا يجوز دفع الرشوة لأحد من المسؤولين سواء كانوا قضاة أو أمراء أو لجانا تفصل بين الناس، ولا شك أن ذلك حرام وأنه من كبائر الذنوب للحديث المذكور؛ ولأن ذلك وسيلة إلى ظلم وإضاعة حق من لم يدفع الرشوة.
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1337) ، سنن أبو داود الأقضية (3580) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) .(59/65)
حكم إطالة الثوب
سواء كان للخيلاء أو بحكم العادة
س: ما حكم إطالة الثوب إن كان للخيلاء أو لغير الخيلاء؟ وما الحكم إذا اضطر الإنسان إلى ذلك سواء إجبارا من أهله إن كان صغيرا أو جرت العادة على ذلك؟
ج: حكمه التحريم في حق الرجال، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «وما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم في الصحيح عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » ، وهذان الحديثان وما في معناهما يعمان من أسبل ثيابه تكبرا أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5330) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .(59/65)
- صلى الله عليه وسلم - عمم وأطلق ولم يقيد، وإذا كان الإسبال من أجل الخيلاء صار الإثم أكبر والوعيد أشد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم: «ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (1) » ، ولا يجوز أن يظن أن المنع من الإسبال مقيد بقصد الخيلاء؛ لأن الرسول لم يقيد ذلك عليه الصلاة والسلام في الحديثين المذكورين آنفا، كما أنه لم يقيد ذلك في الحديث الآخر وهو قوله لبعض أصحابه: «وإياك والإسبال فإنه من المخيلة» ، فجعل الإسبال كله من المخيلة، لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومن لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات، ولأن ذلك إسراف وتعريض لملابسه للنجاسة والوسخ، ولهذا ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه لما رأى شابا يمس ثوبه الأرض قال له: «ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك (2) » .
أما قوله لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما قال: «يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له - صلى الله عليه وسلم: (إنك لست ممن يفعله خيلاء) (3) » ، فمراده - صلى الله عليه وسلم - أن من يتعاهد ملابسه إذا استرخت حتى يرفعها لا يعد ممن يجر ثيابه خيلاء لكونه لم يسبلها، وإنما قد تسترخي عليه فيرفعها ويتعاهدها ولا شك أن هذا معذور، أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتا أو سراويل أو إزارا أو قميصا فهو داخل في الوعيد وليس معذورا في إسباله ملابسه، لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال تعمه بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها. فالواجب على كل مسلم أن يحذر الإسبال وأن يتقي الله في ذلك، وألا تنزل ملابسه عن كعبه عملا بهذا الحديث الصحيح، وحذرا من غضب الله وعقابه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(2) صحيح البخاري كتاب المناقب (3700) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) .(59/66)
حكم من يقصر ثوبه ويطول سروآله
س: بعض الناس يقومون بتقصير ثيابهم إلى ما فوق الكعب ولكن السراويل تبقى طويلة فما حكم ذلك؟
ج: الإسبال حرام ومنكر سواء كان ذلك في القميص أو الإزار أو السراويل أو البشت وهو ما تجاوز الكعبين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم «وما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » . رواه البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » خرجه مسلم في صحيحه، وقال - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه: «إياك والإسبال فإنه من المخيلة» ، وهذه الأحاديث تدل على أن الإسبال من كبائر الذنوب ولو زعم فاعله أنه لم يرد الخيلاء لعمومها وإطلاقها، أما من أراد الخيلاء بذلك فإثمه أكبر وذنبه أعظم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (3) » ، ولأنه بذلك جمع بين الإسبال والكبر نسأل الله العافية من ذلك.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لما قال له: «يا رسول الله إن إزاري يرتخي إلا أن أتعاهده فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم: (إنك لست ممن يفعله خيلاء) (4) » ، فهذا الحديث لا يدل على أن الإسبال جائز لمن لم يرد به الخيلاء، وإنما يدل على أن من ارتخى عليه إزاره أو سراويله من غير قصد الخيلاء فتعهد ذلك وأصلحه فإنه لا إثم عليه.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5330) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .(59/67)
وأما ما يفعله بعض الناس من إرخاء السراويل تحت الكعب فهذا لا يجوز، والسنة أن يكون القميص ونحوه ما بين نصف الساق إلى الكعب عملا بالأحاديث كلها. والله ولي التوفيق.(59/68)
س: إنني أحب الجهاد وقد امتزج حبه في قلبي. ولا أستطيع أن أصبر عنه، وقد استأذنت والدتي فلم توافق، ولذا تأثرت كثيرا ولا أستطيع أن أبتعد عن الجهاد. سماحة الشيخ: إن أمنيتي في الحياة هي الجهاد في سبيل الله وأن أقتل في سبيله وأمي لا توافق. دلني جزاك الله خيرا على الطريق المناسب.
ج: جهادك في أمك جهاد عظيم، إلزم أمك وأحسن إليها، إلا إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا (1) » .
وما دام ولي الأمر لم يأمرك فأحسن إلى أمك، وارحمها، واعلم أن برها من الجهاد العظيم، قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد في سبيل الله، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قيل له: « (يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله) قيل: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) قيل ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) (2) » متفق على صحته. فقدم برهما على الجهاد، وجاء رجل يستأذنه، قال: «يا رسول الله: أحب أن أجاهد معك. فقال له - صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد) (3) » . متفق على صحته، وفي رواية أخرى قال - صلى الله عليه وسلم: «ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما (4) » . فهذه الوالدة ارحمها وأحسن إليها حتى تسمح لك،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن النسائي البيعة (4170) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) ، سنن الدارمي السير (2512) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي مناسك الحج (2624) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3004) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2549) ، سنن الترمذي الجهاد (1671) ، سنن النسائي الجهاد (3103) ، سنن أبو داود الجهاد (2529) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2782) ، مسند أحمد بن حنبل (2/193) .
(4) سنن أبو داود الجهاد (2530) ، مسند أحمد بن حنبل (3/76) .(59/68)