وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا. ونقل ذلك من تفسير ابن جرير بإسناده إلى ابن عباس، ثم ساق الأحاديث في نهر الكوثر وقال: بل قد تواتر من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث. وكذلك أحاديث الحوض ثم ذكر كثيرا مما جاء في الحوض. وإنما أشرنا إلى هذا كله ليخزي الذين لا يؤمنون بالغيب، ويتأولون ما يتعلق بالقيامة والبعث والجنة والنار، ثم يزعمون أنهم مؤمنون وينتسبون إلى الإسلام " (1) .
__________
(1) انظر مسند أحمد (ترتيب أحمد محمد شاكر) 8 \ 159.(54/160)
العيون
: قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (1) . قال الألوسي: " والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} (2) الآية. ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر " (3) .
ولقد جاء ذكر العيون كثيرا في كتاب الله تعالى حيث بين أسماء بعضها وميزتها، وهذا من فضل الله تعالى الذي أعده لعباده المتقين. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (4) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} (6) وقال
__________
(1) سورة الحجر الآية 45
(2) سورة محمد الآية 15
(3) روح المعاني 14 \ 57 دار الفكر.
(4) سورة الدخان الآية 51
(5) سورة الدخان الآية 52
(6) سورة المرسلات الآية 41(54/160)
تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (1) ، قال ابن كثير: " أي: عين سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات، وليس المراد بها عينا واحدة وإنما هذا جنس، يعني فيها عيون جاريات " (2) .
وقال تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} (3) ، قال الشوكاني: " هذا أيضا صفة أخرى لجنتان. أي: في كل واحدة منهما عين جارية. قال الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم. وقال عطية إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين، قيل: كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافا مضاعفة " (4) . وقال تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} (5) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي فياضتان، والجري أقوى من النضخ، وقال الضحاك: أي: ممتلئتان ولا تنقطعان " (6) . فهذه العيون الجارية، ذات المياه الصافية، والحلاوة الطارية، مما أعد الله تعالى في الجنة لعباده المتقين، يتنعمون به شربا، أو يتلذذون به رؤية، أو يتمتعون به أكلا، مما تنبت من الثمار المختلفة نوعا وشكلا.
__________
(1) سورة الغاشية الآية 12
(2) تفسير القرآن العظيم 4 \ 794.
(3) سورة الرحمن الآية 50
(4) فتح القدير 5 \ 140.
(5) سورة الرحمن الآية 66
(6) تفسير القرآن العظيم 4 \ 435.(54/161)
قال وتعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (1) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (2) .
قال ابن كثير: " أي: هذا المزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويروون بها {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (3) أي: يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا من قصورهم ومجالسهم ومحالهم. والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (4) ، وقال تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (5) (6) ، وقال تعالى {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} (7) {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} (8) . قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " أي: يسقون- أي الأبرار أيضا- في هذه الأكواب (كأسا) أي: خمرا {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} (9) فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار؛ ليعتدل الأمر. وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة، ومن هذا تارة. وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا كما قاله قتادة وغيره. {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} (10) أي: الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا. قال عكرمة: اسم عين في الجنة. وقال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جريها. قال قتادة: عين سلسلة مستنفذ ماؤها، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها
__________
(1) سورة الإنسان الآية 5
(2) سورة الإنسان الآية 6
(3) سورة الإنسان الآية 6
(4) سورة الإسراء الآية 90
(5) سورة الكهف الآية 33
(6) تفسير القرآن العظيم 4 \ 712.
(7) سورة الإنسان الآية 17
(8) سورة الإنسان الآية 18
(9) سورة الإنسان الآية 17
(10) سورة الإنسان الآية 18(54/162)
سميت "بذلك لسلاستها في الخلق، واختار هو أنها تعم ذلك كله وهو كما قال " (1) .
وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (2) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (3) {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (4) {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} (5) {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (6) {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} (7) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (8) هذا حال الأبرار في الجنة يجلسون على الأسرة ذات الحجال، ينظرون إلى ما أرادوا، وما قد أباح الله لهم من أجل اكتمال نعيمهم، وجوههم تتلألأ من النور من فرح ما هم فيه من الملك والسلطان والنعيم العظيم. يشربون من خمر الجنة التي لا كدر فيها ولا زوال عقل، لا يفك ختم إنائها إلا هم، ونهاية شرابها المسك.
قال الشوكاني: " قال مجاهد: مختوم: مطين، كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار. وقال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي: ختامه: آخر طعمه، وهو معنى قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} (9) أي: آخر طعمه ريح المسك، إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل: مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته. والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 \ 715.
(2) سورة المطففين الآية 22
(3) سورة المطففين الآية 23
(4) سورة المطففين الآية 24
(5) سورة المطففين الآية 25
(6) سورة المطففين الآية 26
(7) سورة المطففين الآية 27
(8) سورة المطففين الآية 28
(9) سورة المطففين الآية 26(54/163)
كما تختم الأشياء بالطين ونحوه " (1) . ومن أجل هذا فليتسابق العباد في عمل الطاعات والتكاثر من ذلك للظفر بهذا النعيم وهذا الشراب الذي ذكر الله تعالى عنه {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} (2) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (3)
قال البغوي: شراب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم، وقيل: يجري في الهواء متسنما فينصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها، فإذا امتلأت أمسك. وهذا معنى قول قتادة. وأصل كلمة السنام من العلو، يقال للشيء المرتفع: سنام، ومنه سنام البعير. قال الضحاك: هو شراب اسمه تسنيم وهو أشرف الشراب. قال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونها صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة. وهو قوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} (4) (5) عينا يشرب بها المقربون أي: منها، وقيل: يشرب بها المقربون صرفا (6) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: " وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق؛ فلذلك كانت خالصة للمقربين الذين هم أعلى الخلق منزلة، وممزوجة لأصحاب اليمين، أي: مخلوطة بالرحيق وغيره من الأشربة اللذيذة " (7) . والعيون في الجنة كثيرة جدا وإن لم يرد مسماها، بل قد بين سبحانه وتعالى شيئا منها وصفته وميزته، ليشمر العباد عن ساق الجد والمثابرة في ميدان العمل في الحياة الدنيا؛ للظفر بذلك النعيم المهيأ لعباد الله العاملين.
__________
(1) فتح القدير 5 \ 402.
(2) سورة المطففين الآية 27
(3) سورة المطففين الآية 28
(4) سورة المطففين الآية 27
(5) تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 4 \ 461.
(6) تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 4 \ 462.
(7) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7 \ 592.(54/164)
المساكن:
قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) ، من نعيم الجنة الذي وعد الله به عباده من المؤمنين والمؤمنات المساكن الطيبة في جنات عدن يأوون إليها ويسكنون فيها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) ، إن المساكن الطيبة التي في الجنة والتي جعلها الله تعالى لعباده الصالحين تختلف في أشكالها وألوانها ومسمياتها على حسب أعمال العباد، قال صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا (5) » .
وسنرى مشاهد تلك المساكن إن شاء الله تعالى وهي:
أ- القصور.
ب- الخيام.
ج- الغرف.
__________
(1) سورة التوبة الآية 72
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) رواه البخاري في صحيحه (كتاب المظالم) باب 1 حديث 2440 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من حديث القنطرة التي بين الجنة والنار.(54/165)
القصور:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب. فذكرت غيرته، فوليت مدبرا؛ فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ (1) » .
وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة، فإذا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش. فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب إلا ما أعلمه من غيرتك، قال: وعليك أغار يا رسول الله (2) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3242. ورواه مسلم (كتاب فضائل الصحابة) حديث 2395، وفيه قال أبو هريرة: فبكى عمر ونحن جميعا في المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن ماجه في المقدمة باب 11 حديث 107.
(2) رواه البخاري في صحيحه (كتاب التعبير) باب 31 حديث 7024. ورواه الترمذي (كتاب المناقب) باب 18 حديث 3688 عن أنس وقال الترمذي حسن صحيح. ورواه أحمد في المسند 2 \ 107.(54/166)
فقال: " يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل، ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولانصب (1) » .
قال النووي: " وقوله أولا: (قد أتتك) معناه توجهت إليك. وقوله: «فإذا هي أتتك- أي وصلتك- فاقرأ عليها السلام (2) » أي: سلم عليها. وهذه فضائل ظاهرة لخديجة رضي الله عنها. وقوله: «ببيت من قصب (3) » قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف. وقيل: قصب من ذهب منظوم بالجوهر. . . قال الخطابي وغيره: المراد بالبيت هنا القصر، وأما الصخب فبفتح الصاد والخاء، وهو الصوت المختلط المرتفع، والنصب المشقة والتعب. . . " (4) .
عن أبي سنان قال: دفنت ابني سنانا وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فقال: ألا أبشرك يا أبا سنان. قلت: بلى. فقال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عزوب عن أبي موسى الأشعري أن
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (كتاب فضائل الصحابة) حديث 2432. ورواه البخاري في (كتاب مناقب الأنصار) باب 20 حديث 3820.
(2) صحيح البخاري المناقب (3821) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2432) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3816) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2435) ، سنن ابن ماجه النكاح (1997) ، مسند أحمد بن حنبل (6/202) .
(4) شرح النووي على مسلم 15 \ 200.(54/167)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟! فيقولون: نعم. فيقولون: قبضتم ثمرة فؤاده؟! فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (1) » .
فالجنة فيها قصور أعدها الله لعباده العاملين بأوامره المنتصبين على ذلك. قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج (2) ، له خمسة آلاف باب، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد، وقال الحسن: قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل (3) .
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا" قال بكير حسبته أنه قال: " يبتغي
__________
(1) رواه الترمذي (كتاب الجنائز) باب 36 حديث 1021 وقال حسن غريب. وله شاهد عند البخاري من حديث أبي هريرة (كتاب الرقاق) باب 6 حديث 6424.
(2) المروج: المرج الفضاء. وقيل المرج: أرض ذات كلأ ترعى فيها الدواب. لسان العرب مادة (مرج) 2 \ 364.
(3) تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 2 \ 310.
(4) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الصلاة) باب 65 حديث 450، ورواه مسلم (كتاب المساجد) حديث 533، ورواه الترمذي (كتاب الصلاة) باب 237 حديث 318، ورواه النسائي من حديث عمرو بن عبسة (كتاب المساجد) 2 \ 31، ورواه ابن ماجه (كتاب المساجد) باب 1 حديث 736.(54/168)
به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة (1) » . ومعلوم أن مساكن الجنة تختلف عن مساكن الدنيا في الكبر وفي الشكل. قال ابن حجر رحمه الله تعالى: " وهذا يشعر بأن المثلية لم يقصد بها المساواة من كل وجه " (2) .
__________
(1) بكير: بالتصغير أحد رواة الحديث: هو ابن عبد الله بن الأشج، تابعي. انظر فتح الباري 1 \ 544. (4)
(2) فتح الباري 1 \ 546.(54/169)
الخيام:
أخبر الله عز وجل أن في الجنة خياما، لكنها ليست كخيام الدنيا، فجاءت السنة مفسرة ومبينة لذلك، في مشهد تحن له القلوب، وتستشرف له الأنفس. قال الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (1) . عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة (3) ، عرضها ستون ميلا، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين،
__________
(1) سورة الرحمن الآية 72
(2) رواه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير) سورة الرحمن باب 2 حديث 4879، ورواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2838 وفيه '' يطوف عليهم المؤمن ''، ورواه الترمذي (كتاب صفة الجنة) باب 3 حديث 2528.
(3) الخيمة بيت مربع من بيوت الأعراب. انظر صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4 \ 2182. (2)(54/169)
يطوف عليهم المؤمنون» .
وفي رواية عنه عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيمة درة مجوفة، طولها في السماء ثلاثون ميلا، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون (1) » وفي رواية أيضا عنه عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا، فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا (2) » .
من الأحاديث الثلاثة التي مرت معنا يتبين لنا أن الخيمة في الجنة طولها وعرضها سواء، ستون ميلا في ستين ميلا، وارتفاعها ثلاثون ميلا، وهذه مسافة شاسعة مع شكلها الجميل، وأنها من لؤلوة واحدة، جوانبها وسقفها، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3243، ورواه الدارمي (كتاب الرقائق) باب في خيام أهل الجنة 2 \ 336.
(2) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2838.(54/170)
الغرف:
قال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) الغرف: جمع غرفة، هي العلية (2) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 20
(2) روح المعاني 23 \ 254(54/170)
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: " ما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة سبأ: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (1) ، وقوله تعالى في سورة الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ " (3) .
وقال الله تعالى بعد ذكر صفات المؤمنين: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (4) . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (5) . وقال الألوسي: " الغرفة: الدرجة العالية من المنازل، وكل بناء مرتفع عال. وقد فسرت هنا على ما روي عن ابن عباس: ببيوت من زبرجد ودر وياقوت. . . " (6) .
فهذه المنازل من الغرف جعلها الله تعالى مرتفعة عالية على غيرها من المساكن الأخرى، واختص بها من شاء من عباده الذين
__________
(1) سورة سبأ الآية 37
(2) سورة الصف الآية 12
(3) أضواء البيان 7 \ 51 طبعة الأمير أحمد بن عبد العزيز.
(4) سورة الفرقان الآية 75
(5) سورة العنكبوت الآية 58
(6) روح المعاني 19 \ 53(54/171)
بلغوا ذلك بسبب أعمالهم التي تفوقوا بها على غيرهم فأهلتهم لهذا. عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما ترون الكوكب في السماء (1) » .
وقد ذكرت ما يغني عن تكراره من الأحاديث عن هذا في مشهد درجات الجنة.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2830.(54/172)
أشجار الجنة وبساتينها:
خلق الله الجنة وجعل فيها من الأشجار والبساتين والثمار والغرس ما تكمل به سعادة الإنسان، مما لا يعلمه إلا هو سبحانه. وسنرى هنا بعض هذه المشاهد: قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} (1) {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} (2) {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (3) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (4) {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} (5) {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} (6) {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} (7) قال سيد قطب: " إنهم {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} (8) والسدر شجر النبق الشائك، ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (9) والطلح من شجر الحجاز، من نوع العضاة، فيه شوك ولكنه هنا منضود، معد للتناول بلا كد ولا مشقة {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (10) {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} (11) وتلك جميعا من مراتع البدوي ومناعمه، كما يطمح إليه خياله، وتهتف بها أشواقه {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} (12) {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} (13)
__________
(1) سورة الواقعة الآية 27
(2) سورة الواقعة الآية 28
(3) سورة الواقعة الآية 29
(4) سورة الواقعة الآية 30
(5) سورة الواقعة الآية 31
(6) سورة الواقعة الآية 32
(7) سورة الواقعة الآية 33
(8) سورة الواقعة الآية 28
(9) سورة الواقعة الآية 29
(10) سورة الواقعة الآية 30
(11) سورة الواقعة الآية 31
(12) سورة الواقعة الآية 32
(13) سورة الواقعة الآية 33(54/172)
تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين " (1) .
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق، ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام. قال: فيخرج إليها أهل الجنة، أهل الغرف وغيرهم، فيتحدثون في ظلها. قال: فيشتهي بعضهم، ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحا من الجنة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا " (2) .
وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (3) {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (4) {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (5) قال ابن كثير: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (6) أي: أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة. . . إلى أن قال: قال عكرمة: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (7) يقول: ظل الأغصان على الحيطان ". ألم تسمع قول الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل "حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
__________
(1) في ظلال القرآن 6 \ 3464.
(2) تفسير القرآن العظيم 4 \ 452، قال ابن كثير: هذا أثر غريب وإسناده جيد وقوي حسن.
(3) سورة الرحمن الآية 46
(4) سورة الرحمن الآية 47
(5) سورة الرحمن الآية 48
(6) سورة الرحمن الآية 48
(7) سورة الرحمن الآية 48(54/173)
تدعو أبا فرخين صادف طاويا ... ذا مخلبين من الصقور قطاما
" (1) .
وقال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (2) قال القرطبي: قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه، إنما يعطف على غيره، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (3) وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (4) . وقيل: إنما كررهما لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا؛ لأن النخل عادة قوتهم والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم، من المدينة إلى مكة إلى ما والاهما من أرض اليمن، فأخرهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرمانة في الجنة مثل
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 \ 431.
(2) سورة الرحمن الآية 68
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) سورة البقرة الآية 98(54/174)
البعير "المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم. قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود والعنقود اثنا عشر ذراعا ".
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
«إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد أو المضمر السريع مائة عام وما يقطعها (1) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في
__________
(1) رواه البخاري (كتاب الرقاق) باب 51 حديث 6553، ورواه مسلم (كتاب الجنة) حديث 2828، ورواه الترمذي (كتاب صفة الجنة) باب 1 حديث 2523، ورواه ابن ماجه (كتاب الزهد) باب 29 حديث 4335 ورواه الدارمي (كتاب الرقائق) 2 \ 338، ورواه أحمد في المسند 2 \ 257(54/175)
الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة. واقرءوا إن شئتم (2) » .
في الحديثين بيان لعظم أشجار الجنة، واتصالها ببعضها، وامتداد ظلها، بما يحصل به سعادة أهل الجنة، وتمتعهم بما تركن إليه النفوس، وتطمئن به القلوب.
وعن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه: - في حديث الإسراء- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران. فسألت جبريل فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران النيل والفرات (3) » .
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وذكر له سدرة المنتهى، قال: يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب- شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال (6) »
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى شجرة في الجنة، مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج
__________
(1) رواه البخاري (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث3252
(2) سورة الواقعة الآية 30 (1) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
(3) سبق تخريجه وبيان غريبه (مشهد أنهار الجنة) .
(4) رواه الترمذي (كتاب الجنة) باب 9 حديث 2541، وقال حديث حسن غريب.
(5) الفنن: الغصن المستقيم من الشجرة. قال تعالى: (ذواتا أفنان) المعجم الوسيط 2 \ 703. (4)
(6) يحيى: هو ابن عباد بن عبد الله بن الزبير أحد رواة هذا الحديث. (5)(54/176)
من أكمامها (1) » .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت ثياب أهل الجنة، أتنسج نسجا أم تشقق من ثمر الجنة؟ قال: فكأن القوم تعجبوا من مسألة الأعرابي، فقال: " ما تعجبون من جاهل يسأل عالما؟ " قال: فسكت هنية ثم قال: "أين السائل عن ثياب الجنة؟ " قال: أنا. قال: " لا بل تشقق من ثمر الجنة (2) » .
هذه أشجار الجنة، كبيرة الحجم، ذات ظل ظليل، وفواكه شهية، ورؤية ممتعة، وقرة عين لا تنقطع، تزيد المؤمنين حسنا وبهاء، ولذة وسرورا، لا يصل إليهم هم ولا غم، ولا يجدون نكدا ولا حزنا، بل فيها ما تلذ به الأعين وتشتهيه الأنفس، وهم في ذلك خالدون.
قال الله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} (3) {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} (4) .
قال ابن عباس والضحاك: منتزها. وقال مجاهد وقتادة: فازوا فنجوا من النار. قال ابن كثير: " والأظهر هاهنا قول ابن عباس؛ لأنه قال بعده: (حدائق) ، والحدائق البساتين من
__________
(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني 4 \ 639 حديث 1985. وقد حسن هذا الحديث.
(2) رواه أحمد في المسند. انظر تحقيق أحمد محمد شاكر، 11 \ 114 حديث 6890، وقال إسناده صحيح، وفي موضع آخر 12 \ 45 حديث 7095.
(3) سورة النبأ الآية 31
(4) سورة النبأ الآية 32(54/177)
النخيل وغيرها " (1) .
وقال الألوسي رحمه الله: " جمع حديقة وهي بستان فيها أنواع الشجر المثمر. زاد بعضهم والرياحين والزهر " (2) . وقال سيد قطب: " ويخص الأعناب بالذكر والتعيين؛ لأنها مما يعرفه المخاطبون " (3) .
بساتين الجنة كثيرة العدد، مختلفة الأشكال والألوان في النباتات والثمرات. في ذلك رغبة الراغبين، وطلب الطالبين، وأمنية المتشوقين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوما يحدث - وعنده رجل من أهل البادية- أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع. فقال: أولست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، فأسرع وبذر فتبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاؤه وتكويره أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) » .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: " وفي هذا الحديث من
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 \ 729.
(2) روح المعاني 30 \ 22.
(3) في ظلال القرآن 6 \ 3808.
(4) رواه البخاري في (كتاب التوحيد) باب 38 حديث 7519. ورواه أحمد في المسند 2 \ 511، 512.
(5) تكويره: أي جمعه. فتح الباري 5 \ 27. (4)(54/178)
الفوائد- وذكر منها- وفيه الإخبار عن الأمر المحقق الآتي بالفظ الماضي " (1) .
وقال رحمه الله عند قوله «فأحب أن أزرع فأسرع (2) » : فيه حذف، تقديره: فأذن له فزرع فأسرع (3) . وهنا بيان تحقق أمنية المؤمن في الجنة بما يريد ما بين لحظة وأخرى؟ نبت وإثمار وحصاد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«"ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب (4) » .
__________
(1) فتح الباري 5 \ 27.
(2) صحيح البخاري التوحيد (7519) ، مسند أحمد بن حنبل (2/512) .
(3) فتح الباري 13 \ 488.
(4) رواه الترمذي (كتاب الجنة) باب 1 حديث 2525 وقال حديث حسن غريب.(54/179)
ثمار الجنة:
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
هذا بشارة من الله تعالى لعباده- أهل الإيمان والتقى والصدق والوفاء الذين آمنوا به ربا وانقادوا لأوامر رسله واعتنقوا دينه- بنعيم الجنة من الأشجار والغروس والثمار والأنهار المطردة التي تجري في غير أخدود من تحت ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 25(54/179)
قال البغوي: (كلما) متى ما (رزقوا) أطعموا (منها) أي من الجنة (من ثمرة) ثمرة، ومن صلة (رزقا) طعاما {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} (1) وقبل رفع على الغاية، قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (2) قيل: من قبل في الدنيا، وقيل: الثمار في الجنة متشابهة في اللون، مختلفة في الطعم، فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى (3) .
وأما قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (4) ففيه تأويلات:
1- تشابهه أن كله خيار لا رزل فيه. قاله الحسن.
2 - تشابهه في اللون وهو مختلف في الطعم. قاله ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما.
3 - تشابهه في اللون والطعم. قاله مجاهد ويحيى بن سعيد.
4 - تشابهه: تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون وإن اختلف طعومهما. قاله قتادة وعكرمة.
5 - لا يشبه شيء في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء. قاله ابن عباس رضي الله عنه وغيره.
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية تأويل من قال: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (5) في اللون والمنظر والطعم. يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفا في الطعم والذوق؛ لما قدمنا من العلة في تأويل قوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} (6) وأن معناه: كلما رزقوا من الجنان من ثمرة من ثمارها رزقا {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} (7)
__________
(1) سورة البقرة الآية 25
(2) سورة الروم الآية 4
(3) تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 1 \ 56
(4) سورة البقرة الآية 25
(5) سورة البقرة الآية 25
(6) سورة البقرة الآية 25
(7) سورة البقرة الآية 25(54/180)
هذا في الدنيا، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أتوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابها، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم واللذة والذوق فتباينا، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا " (1) .
ثم ذكر سبحانه وتعالى في آخر الآية من نعيم الجنة الأزواج المطهرة والخلود في الجنات ونعيمها وليس من ثمرة إلا وهي في الجنة على ما تشتهي أنفس أهل الجنة ويطلبون. قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (2) ، وقال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} (3) ، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (4) ، وقال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (5) ، وقال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (6) ، وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (7) ، وقال تعالى: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} (8) ، وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (9) ،
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1 \ 172، طبعة الحلبي بمصر 1388 هـ.
(2) سورة محمد الآية 15
(3) سورة يس الآية 57
(4) سورة ص الآية 51
(5) سورة الزخرف الآية 73
(6) سورة الدخان الآية 55
(7) سورة الطور الآية 22
(8) سورة الرحمن الآية 11
(9) سورة الرحمن الآية 52(54/181)
وقال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (1) .
قال ابن عباس رضي الله عنه: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. إلى أن قال في ثمر النخل: وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم (2) .
وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} (3) وقال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} (4) {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} (6) {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (7) وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} (8) {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} (9) . قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " أي لا تنقطع شتاء ولا صيفا، بل أكلها دائم مستمر أبدأ، مهما طلبوا وجدوا، لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء. وقال قتادة: لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد " (10) . كما قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (11) .
وعن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما
__________
(1) سورة الرحمن الآية 68
(2) سبق تخريجه وتعريف غريبه مشهد أشجار الجنة. . .
(3) سورة الواقعة الآية 20
(4) سورة الصافات الآية 41
(5) سورة الصافات الآية 42
(6) سورة المرسلات الآية 41
(7) سورة المرسلات الآية 42
(8) سورة الواقعة الآية 32
(9) سورة الواقعة الآية 33
(10) تفسير القرآن العظيم 4 \ 454.
(11) سورة الحاقة الآية 23(54/182)
- في حديث الإسراء- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر - وعند مسلم - وإذا ثمرها كالقلال (1) » الحديث.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في صفة الكسوف، «قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك كعكعت، قال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدينا (2) » .
ألا إنه نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، سهل المنال، حلو المذاق، كثير الأشكال والألوان.
__________
(1) سبق تخريجه وتعريف غريبه (مشهد أنهار الجنة) .
(2) رواه البخاري (كتاب الكسوف) باب 9 حديث 1052، ورواه مسلم في (كتاب الكسوف) حديث 907.(54/183)
حيوانات الجنة:
ليس من شيء يشتهيه المؤمن في الجنة أو يرغبه إلا وهو موجود؛ لتكمل قرة الأعين في ذلك المسكن الطيب والدار الأبدية. والحيوانات بأنواعها مما يهواه الإنسان وينشرح به صدره بل وتلذ له نفسه، ويشتهي ذلك رؤية أو أكلا. فله ما يشتهي وتلذ به نفسه. فنجد الطير ومشهده: قال الله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (1) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: " ذاك نهر أعطانيه الله- يعني في الجنة-
__________
(1) سورة الواقعة الآية 21(54/183)
أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيها طير أعناقها كأعناق الجزر " (2) » .
عن مسروق (3) قال: «سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية:.
قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال (5) : " أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة
__________
(1) رواه الترمذي (كتاب صفة الجنة) باب 10 حديث 2542، وقال حديث حسن غريب.
(2) (1) . قال عمر: إن هذه لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكلتها أحسن منها
(3) مسروق: ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، ثقة فقيه عابد. تقريب التهذيب 2 \ 242.
(4) رواه مسلم في (كتاب الإمارة) حديث 1887، ورواه أبو داود (كتاب الجهاد) 3 \ 10، ورواه الترمذي (كتاب التفسير) سورة آل عمران حديث 3011، ورواه ابن ماجه (كتاب الجنائز) باب 4 حديث 1449، رواه الدارمي (كتاب الجهاد) 2 \ 206، ورواه أحمد في المسند 1 \ 166.
(5) سورة آل عمران الآية 169 (4) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(54/184)
حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل؛ فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء ففعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» .
ومن حيوانات الجنة الإبل، وقد كانت أغلى شيء عند العرب في الدنيا فستكون في الآخرة لكمال لذة المؤمنين، وكذا الخيل. عن أبي مسعود الأنصاري (1) قال: «جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة (3) » . قال النووي: " قيل: يحتمل أن المراد له أجر سبعمائة ناقة،
__________
(1) أبو مسعود: عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة الأنصاري. الإصابة في تمييز الصحابة 7 \ 24.
(2) رواه مسلم في (كتاب الإمارة) حديث 1892، ورواه الدارمي في (كتاب الجهاد) 2 \ 203، ورواه النسائي (كتاب الجهاد) باب فضل الصدقة في سبيل الله 6 \ 49، ورواه الإمام أحمد في المسند 4 \ 121.
(3) مخطومة: أي فيها خطام وهو قريب من الزمام. انظر صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 \ 1505. (2)(54/185)
ويحتمل أن يكون على ظاهره ويكون له في الجنة بها سبعمائة، كل واحدة منهن مخطومة، يركبهن حيث شاء للتنزه، كما جاء في خيل الجنة ونجبها، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم " (1) .
قال القرطبي: " حكي عن عبد الله بن المبارك: خرج إلى غزو فرأى رجلا حزينا قد مات فرسه فبقي محزونا فقال له: بعني إياه بأربعمائة درهم، ففعل الرجل ذلك أي باعه له، فرأى من ليلته في المنام كأن القيامة قد قامت وفرسه في الجنة وخلفه سبعمائة فرس، فأراد أن يأخذه، فنودي أن دعه فإنه لابن المبارك وقد كان لك بالأمس، فلما أصبح جاء إليه وطلب الإقالة فقال له ولم؟ قال: فقص عليه القصة فقال له: اذهب فما رأيته في المنام رأيناه في اليقظة ".
قال ابن كثير في الكلام على حال السعداء " يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة زمرا، أي جماعة بعد جماعة: المقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم " (2) والشاهد من هذا هو وجود النجائب التي يمتطيها أهل الجنة والتي بأوصاف لا يعرفها إلا الله تعالى ليست كنجائب الدنيا.
ومن حيوانات الجنة الشاء، قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (3)
__________
(1) شرح النووي على مسلم 13 \ 38.
(2) تفسير القرآن العظيم 4 \ 99.
(3) سورة الصافات الآية 107(54/186)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ". . . إن إبراهيم لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تله للجبين وعلى إسماعيل قميص أبيض، وقال: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (1) {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (2) فالتفت إبراهيم، فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين. قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع هذا الضرب من الكباش. . . ".
قال سعيد بن جبير: " كان الكبش الذي ذبحه إبراهيم رعى في الجنة أربعين سنة " (3) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " خرج عليه كبش من الجنة قد رعاها قبل ذلك أربعين خريفا " (4) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 104
(2) سورة الصافات الآية 105
(3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23 \ 86.
(4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23 \ 87.(54/187)
مشهد الحوت والثور:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام(54/187)
يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خبرني بهن آنفا جبريل ". قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها ". قال: أشهد أنك: رسول الله. ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك. فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ "قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخبرنا وابن أخبرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. ووقعوا فيه (2) » .
والشاهد من هذا الحديث هو أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وفي هذا دلالة على وجود الحوت في الجنة. وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الأنبياء) باب1 حديث 3329، ورواه الإمام أحمد في المسند 3 \ 108.
(2) الزيادة: هي القطعة المنفردة المعلقة في الكبد، وهي في المطعم في غاية اللذة. فتح الباري 7 \ 273. (1)(54/188)
يا محمد. . . . قال اليهودي: فمن أول الناس إجازة؟ قال: " فقراء المهاجرين ". قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: " زيادة كبد النون ". قال: فما غذاؤهم (4) »
وفي هذا الحديث جاء ذكر الحوت، وهو ما يقدم زيادة كبده تحفة لأهل الجنة، وإن ذكر في هذه الرواية بعد ذكر فقراء المهاجرين إلا أن المراد أهل الجنة كما وضحته رواية البخاري المذكورة وغيرها، ثم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها ويكون غداء للمؤمنين.
وليس ما ذكرنا فقط هو ما في الجنة من الحيوانات، بل كل ما يتمنى المؤمن يكون موجودا. فلله الحمد والمنة.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الحيض) حديث 215.
(2) إجازة: الإجازة بمعنى الجواز والعبور. صحيح مسلم 1 \ 252 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. (1)
(3) تحفتهم: بإسكان الحاء وفتحها، لغتان وهي ما يهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف. نفس المرجع السابق. (2)
(4) (3) على أثرها؟ قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها "، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: " من عين تسمى سلسبيلا "، قال: صدقت. . . .(54/189)
طعام وشراب أهل الجنة:
قال الله تعالى: يطاف عليهم بصحاف (1) من ذهب وأكواب (2) {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
__________
(1) الصحاف: جمع صحفة: إناء من آنية الطعام. المعجم الوسيط 1 \ 508.
(2) الأكواب: جمع كوب، المستدير الرأس الذي لا أذن له. معاني القرآن للفراء 3 \ 37.
(3) سورة الزخرف الآية 71(54/189)
جميع أنواع المأكولات والمشروبات تكون تحت طلب المؤمن في الجنة، فما من شيء يشتهيه إلا ويأتي إليه، مما لذ وطاب من الطعام والشراب.
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
«إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة، في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله، يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها، ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر؛ لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون إخوانا على سرر متقابلين (1) » .
هذا أدنى أهل الجنة وليس فيهم دني، فكيف بمن هو فوق ذلك؟
قال ابن الجوزي: «ما من شيء اشتهته نفس أو استلذته عين إلا وهو في الجنة، وقد جمع الله تعالى نعيم الجنة في هذين الوصفين، فإنه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس أو العين، وتمام النعيم الخلود؟ لأنه لو انقطع لم تطب (2) »
__________
(1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 25 \ 98. وقال الألوسي: أخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات.
(2) زاد المسير في علم التفسير 7 \ 328.(54/190)
وقال الله تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} (1) وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2) وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (3) وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} (4) {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (5) وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (6) وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (7) .
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. . . وحتى أن اليهودي قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: " زيادة كبد النون "، قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها " قال فما شرابهم عليه؟ قال: " من عين تسمى سلسبيلا "، قال: صدقت. . . (8) » .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله. صلى الله عليه وسلم قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة (9) واحدة
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 102
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة الطور الآية 22
(4) سورة الواقعة الآية 20
(5) سورة الواقعة الآية 21
(6) سورة الحاقة الآية 24
(7) سورة المرسلات الآية 43
(8) سبق تخريجه وبيان غريبه قريبا.
(9) رواه مسلم في صحيحه (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم) حديث 2792، ورواه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق) باب 44 حديث 6520.(54/191)
يكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا (1) لأهل الجنة "، قال: فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن عليك، أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: " بلى " قال: تكون الأرض خبزة واحدة! كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) . قال: فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه. قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: " بلى " قال: إدامهم بالام ونون. قالوا: وما هذا؟ قال: " ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا» .
وعجبا مما كنا نسمعه من الروايات والحكايات الخيالية بأن الأرض كانت طعاما أو شيئا من هذا، ولكن الأمر بعكس ما كنا
__________
(1) نزلا: هو ما يعد للضيف عند نزوله. نفس المرجع السابق.(54/192)
نسمع، فالأرض ستصبح طعاما نزلا لأهل الجنة فسبحان من بيده أمر كل شيء وهو على كل شيء قدير.
وقال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (1) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (2) وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} (3) {قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} (4) {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} (5) {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} (6) .
من نعيم الجنة الطعام والشراب. فنجد في الآية الأولى أن الشراب ممزوج بالكافور ليوافق اللذة والشهية عند المؤمنين، كما نجد في الآية الأخيرة (7) أن الشراب قد مزج بالزنجبيل، وهذا من كمال فضل الله تعالى على عباده المؤمنين، كما نرى في الآيات التي معنا أن الأواني التي يقدم فيها الطعام أو الشراب أواني من فضة وأكواب من قوارير من فضة، وهذا لتتم السعادة في الجنة لعباد الله المؤمنين.
قال الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (8) {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (9) {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} (10) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان، والأباريق التي جمعت الوصفين، والكؤوس الهنايات. والجميع من خمر من عين جارية معين،
__________
(1) سورة الإنسان الآية 5
(2) سورة الإنسان الآية 6
(3) سورة الإنسان الآية 15
(4) سورة الإنسان الآية 16
(5) سورة الإنسان الآية 17
(6) سورة الإنسان الآية 18
(7) هذه الآيات سبق تفسيرها عند الكلام عن عيون الجنة.
(8) سورة الواقعة الآية 17
(9) سورة الواقعة الآية 18
(10) سورة الواقعة الآية 19(54/193)
ليس من أوعية تنقطع وتفرغ، بل من عيون سارحة. لا تصدع رءوسهم ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة " (1) .
وقد بين تعالى نوعا آخر من أنواع الشراب للأبرار، فقال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} (2) {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (3) {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} (4) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (5) .
يشربون من خمر الجنة التي لا كدر فيها ولا زوال عقل، لا يفك ختم إنائها إلا هم نهاية شرابها طعم المسك.
قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم:
" يشربها المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا " (6) . وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (7) {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (8) {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (9)
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: " أي يتردد عليهم الولدان المستعدون لخدمتهم بالأشربة اللذيذة، بالكاسات الجميلة المنظر، المترعة من الرحيق المختوم بالمسك، وهي كاسات الخمر. وتلك الخمر تخالف خمر الدنيا من كل وجه، فإنها في لونها (بيضاء) من أحسن الألوان، وفي طعمها
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 \ 446.
(2) سورة المطففين الآية 25
(3) سورة المطففين الآية 26
(4) سورة المطففين الآية 27
(5) سورة المطففين الآية 28
(6) تفسير القرآن العظيم 4 \ 766.
(7) سورة الصافات الآية 45
(8) سورة الصافات الآية 46
(9) سورة الصافات الآية 47(54/194)
{لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (1) يلتذ شاربها وقت شربها وبعده.
وأنها سالمة {لَا فِيهَا غَوْلٌ} (2) العقل وذهابه، ونزفه، ونزف مال صاحبها، وليس فيها صداع ولا كدر " (3) إن أرادوا الماء العذب الزلال المحلى مما تطيب به أنفسهم أو أرادوا اللبن أو الخمر ذا اللذة في شربه أو العسل المصفى فكل ذلك عند طلبهم ورغبتهم يكون بين أيديهم. قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (4) وقال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (5) . قال مقاتل: " هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغل وحسد " (6) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 46
(2) سورة الصافات الآية 47
(3) تفسير كلام المنان 6 \ 377.
(4) سورة محمد الآية 15
(5) سورة الإنسان الآية 21
(6) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 5 \ 352.(54/195)
لباس وحلي أهل الجنة:
قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} (1) . إنهم المؤمنون يزدانون في الجنة بحلي الذهب وبلباس الحرير الأخضر ما رق منه وما غلظ. فبعد أن كانوا ممنوعين منه في دار التكليف حلوا وألبسوا ذلك في الجنة، فهم يرفلون بالحرير ويتجملون بالحلي تكرمة ورفعة وعزة وفخرا
__________
(1) سورة الكهف الآية 31(54/195)
جزاء من ربك عطاء حسابا.
قال الألوسي: " وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى " (1) .
وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (2) قال ابن كثير: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} (3) من الحلية. {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} (4) أي: في أيديهم. كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (5) » {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (6) في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير استبرقه وسندسه " (7) .
وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (8) ، وقال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (9) ، وقال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} (10) .
__________
(1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 15 \ 272.
(2) سورة الحج الآية 23
(3) سورة الحج الآية 23
(4) سورة الحج الآية 23
(5) رواه مسلم (كتاب الطهارة) حديث 250 من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي 1 \ 93، ورواه الإمام أحمد في المسند 1 \ 371.
(6) سورة الحج الآية 23
(7) تفسير القرآن العظيم 3 \ 342.
(8) سورة فاطر الآية 33
(9) سورة الإنسان الآية 12
(10) سورة الإنسان الآية 21(54/196)
قال الشوكاني: " السندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. . . إلى أن قال: ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة، وفي سورة فاطر: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} (1) وفي سورة الحج: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} (2) ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة، وسوارات الفضة تارة، وسوارات اللؤلؤ تارة، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك " (3) .
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا (4) » .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه (5) » .
__________
(1) سورة فاطر الآية 33
(2) سورة الحج الآية 23
(3) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 5 \ 352.
(4) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3249، ورواه مسلم (كتاب فضائل الصحابة) حديث 2468.
(5) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2836.(54/197)
فرش أهل الجنة:
لقد فرشت منازل المؤمنين بالحرير، وصفت الأرائك من السرر المنسوجة بقضبان الذهب على صف واحد في تلك المنازل؛ للاتكاء على ذلك، وأخذ كمال الحرية، وبلوغ غاية الانبساط والسرور والانشراح. قال الله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} (1) {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (2) {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} (3) {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (4) .
__________
(1) سورة الغاشية الآية 13
(2) سورة الغاشية الآية 14
(3) سورة الغاشية الآية 15
(4) سورة الغاشية الآية 16(54/197)
قال ابن كثير: ". {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} (1) أي: عالية ناعمة كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور العين، قالوا فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له. {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (2) يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها من أربابها. {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} (3) قال ابن عباس: النمارق: الوسائد، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك والسدي والثوري وغيرهم. {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (4) قال ابن عباس: الزرابي: البسط، وكذا قال الضحاك وغير واحد. ومعنى مبثوثة أي: هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها " (5) .
وقال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} (6) ثم نشاهد المؤمنين وهم يتنعمون على تلك الفرش وهم في غاية الانبساط، كما قال تعالى مبينا ذلك: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (7) وكما قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (8) وكما قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} (9) {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} (10) " قيل: الموضونة: المنسوجة بقضبان الذهب، وقيل: المصفوفة " (11) . وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} (12)
__________
(1) سورة الغاشية الآية 13
(2) سورة الغاشية الآية 14
(3) سورة الغاشية الآية 15
(4) سورة الغاشية الآية 16
(5) تفسير القرآن العظيم 4 \ 794.
(6) سورة الواقعة الآية 34
(7) سورة الكهف الآية 31
(8) سورة الطور الآية 20
(9) سورة الواقعة الآية 15
(10) سورة الواقعة الآية 16
(11) انظر أضواء البيان 3 \ 148 طبعة الأمير أحمد بن عبد العزيز. سورة الرحمن، الآية 54.
(12) سورة الرحمن الآية 54(54/198)
قال ابن جرير: " يقول تعالى ذكره: بطائن هذه الفرش من غليظ الديباج، والإستبرق عند العرب ما غلظ من الديباج وخشن " (1) . قال ابن مسعود رضي الله عنه: " قد أخبرتم بالبطائن، فكيف لو أخبرتم بالظواهر؟ " (2) .
وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (3) . قال البغوي: " قال سعيد بن جبير: الرفرف: رياض الجنة، خضر: مخضبة، ويروى ذلك عن ابن عباس، واحدتها رفرفة، وقال: الرفارف جمع الجمع، وقيل: الرفوف: البسط، وهو قول الحسن ومقاتل والقرظي. وروى العوفي عن ابن عباس: الرفرف: فضول المجالس والبسط. وقال الضحاك وقتادة: هي مجالس خضر فوق الفرش. وقال ابن كيسان: هي المرافق. وقال ابن عيينة: الزرابي. وقال غيره: كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف. {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (4) هي الزرابي والطنافس الثخان، وهي جمع واحدتها عبقرية. وقال قتادة: العبقري: عتاق الزرابي. وقال أبو العالية: هي الطنافس المخملة إلى الرقة. وقال القتيبي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري. وقال أبو عبيدة هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. قال الخليل: كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبقري، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقريا يفري فريه (6) »
__________
(1) جامع البيان عن تأويل أي القرآن 27 \ 149 الطبعة الحلبية بمصر.
(2) نفس المرجع السابق.
(3) سورة الرحمن الآية 76
(4) سورة الرحمن الآية 76
(5) رواه البخاري في صحيحه (كتاب فضائل الصحابة) باب 6 حديث 3682 وهو قطعة من حديث رواه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: '' أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن '' ورواه مسلم في صحيحه (كتاب فضائل الصحابة) حديث 2393، ورواه أحمد في المسند 2 \ 28.
(6) تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 4 \ 278. (5)(54/199)
لم يكن شيء مما طاب من نفيس الفرش والمتكأ إلا وقد هيئ للمؤمنين في منازلهم وفي منتزهاتهم على أبدع ما نظم، ومن أفضل ما صنع، ما لم تر له عين مثل، ولم يخطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (1) نزع الله عز وجل ما في القلوب من غل؛ لأنهم في دار النعيم، في دار اللذة والسرور، يجلسون على السرر، وجوه بعضهم إلى بعض، يتحدثون فيما شاءوا ويتنعمون بما شاءوا، حياة كلها سعادة، لا يتطرق لها كدر في أي أمر من أمور حياتهم.
__________
(1) سورة الحجر الآية 47(54/200)
خدم أهل الجنة:
قال الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (1) .
قال الخازن: " {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} (2) أي: للخدمة ولدان
__________
(1) سورة الواقعة الآية 17
(2) سورة الواقعة الآية 17(54/200)
أي: غلمان مخلدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون ولا ينتقلون من حالة إلى حالة، وقيل: مخلدون: مقرطون، والخلد: القرط، وهو الحلقة تعلق في الأذن. واختلفوا في هؤلاء الولدان، فقيل: هم أولاد المؤمنين الذين ماتوا أطفالا، وفيه ضعف؛ لأن الله أخبر أنه يلحقهم بآبائهم، ولأن من المؤمنين من لا ولد له، فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم. وقيل: هم صغار الكفار الذين ماتوا قبل التكليف، وهذا القول أقرب من الأول، لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب، فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم، وتوقف فيهم طائفة، والمذهب الثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون: أنهم من أهل الجنة. . . وقيل: هم أطفال ماتوا، لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها، ومن قال بهذه الأقوال يعلل بأن الجنة ليس فيها ولادة. والقول الصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله أنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور، وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة، أطلق عليهم اسم الولدان؛ لأن العرب تسمي الغلام وليدا ما لم يحتلم والأمة وليدة وإن أسنت " (1) .
هؤلاء الولدان خلقهم الله تعالى من أجل خدمة عباده المؤمنين في جناته سبحانه وتعالى، أخبر عز وجل عن صفاتهم، فقال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} (2) .
__________
(1) تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل 7 \ 16.
(2) سورة الطور الآية 24(54/201)
قال ابن جرير: " كأنهم لؤلؤ في بياضه وصفائه، مكنون: يعني مصون في كن فهو أنقى له وأصفى لبياضه " (1) وقال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} (2) . قال صديق حسن خان: " أي: إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء ألوانهم ونضارة وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم، لؤلؤا مفرقا، قال عطاء: يريد في بياض اللؤلو وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما " (3) .
مما مر معنا نجد أن خدم أهل الجنة مخلدون لا يموتون ولا يتغيرون بأي حال من الأحوال، قد شبههم المولى عز وجل باللؤلؤ الذي كان محفوظا في كن لم يتعرض لأي مؤثر من المؤثرات التي تغير حاله، فإذا نثر فإذا هو يتلألأ من وضاءته وجماله، فهؤلاء خدم أهل الجنة فكيف بالمخدومين، إنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 27 \ 29.
(2) سورة الإنسان الآية 19
(3) فتح البيان في مقاعد القرآن 10 \ 178 دار الفكر العربي.(54/202)
زوجات أهل الجنة:
من تمام اللذة واكتمال الغبطة الزوجة، فبها يحصل الأنس، وتحصل الفرحة، ويكون التمتع، فإذا كان في الدنيا يعتري ذلك شيء من النغص والضيق وحصول المشاكل وعدم اكتمال الغبطة واللذة والتمتع، إلا أن الله عز وجل حقق بغية عباده المؤمنين في الجنة بما تشتهيه أنفسهم وتلذ به أعينهم. والزوجات من ضمن(54/202)
ذلك النعيم.
قال الله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) . أي: في جنات رب العالمين يكون لهم فيها الزوجات الطاهرات من كل خبث ومن كل سوء. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " والمطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ " (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب على
__________
(1) سورة البقرة الآية 25
(2) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح باب 53 ذكر نساء أهل الجنة وأصنافهن وحسنهن وأوصافهن وجمالهن ص 165.
(3) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد) باب 6 حديث 2796، ورواه الترمذي في (كتاب فضائل الجهاد) باب 17 حديث 1651.(54/203)
رأسها خير من الدنيا وما فيها (1) » . لقد اتصفت الزوجات في الجنة بصفات عجيبة من الحسن والجمال والأدب وحسن المقال، وهذا جزاء من الرب الكريم على ما كان من عباده المتقين من طيب الأعمال. قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (2) . على ما كان من العطاء الجزيل من المولى عز وجل من النعيم لعباده، كذلك يزوجهم بالحور العين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " والحور: جمع حوراء، وهي المرأة الشابة الحسناء البيضاء شديدة سواد العين " (3) . وفي معرض تعداد نعم الله تعالى على عباده في الجنة قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} (4) {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (5) .
قال صديق حسن خان: " {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (6) أو المصون في الصفاء والنقاء، شبهن باللؤلؤ المكنون، وهو الذي لم تمسه الأيدي ولا وقع عليه الغبار، والشمس والهواء، فهو أشد ما يكون صفاء. قال ابن عباس: " المكنون: المخزون الذي في الصدف " (7) . قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} (8) . قال
__________
(1) (3) قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد- يعني سوطه- خير من الدنيا وما فيها. ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها
(2) سورة الدخان الآية 54
(3) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح باب 53 ص 166.
(4) سورة الواقعة الآية 22
(5) سورة الواقعة الآية 23
(6) سورة الواقعة الآية 23
(7) فتح البيان في مقاصد القرآن 7 \ 259.
(8) سورة الرحمن الآية 58(54/204)
الزمخشري: " قيل: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان وصغار الدر أنصع بياضا " (1) .
وقال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (2) . قال " ابن جرير رحمه الله تعالى: " شبهن في بياضهن، وأنهن لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ببياض البيض الذي هو داخل القشر، وذلك هو الجلدة الملبسة المح قبل أن تمسه يد أو شيء غيرها، وذلك لا شك هو المكنون، فأما القشرة العليا فإن الطائر يمسها، والأيدي تباشرها، والعش يلقاها. والعرب تقول لكل مصون مكنون ما كان ذلك الشيء لؤلؤا كان أو بيضا أو متاعا. . . " (3) .
وقال تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} (4) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: " النواهد اللاتي لم ينكسر ثديهن من شبابهن وقوتهن ونضارتهن على سن واحد متقارب. ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات، متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة أعدل ما يكون من الشباب " (5) .
وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (6) .
__________
(1) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.
(2) سورة الصافات الآية 49
(3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23 \ 57.
(4) سورة النبأ الآية 33
(5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7 \ 555.
(6) سورة الرحمن الآية 56(54/205)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وصفهن سبحانه وتعالى بقصر الطرف في ثلاثة مواضع: أحدها: هذا. والثاني: قوله تعالى في الصافات: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} (1) . والثالث: قوله تعالى في ص: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (2) والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم. وقيل: قصرن طرف أزواجهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن، وهذا صحيح من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه، وأصله قاصر طرفهن أي: ليس بطامح متعد " (3) .
وقال رحمه الله تعالى: " {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (4) أي لم يمسسن. قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن، هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء، فبعضهم يقول: هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها، وبعضهم يقول: يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفن. قال الشعبي: نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ أنشئن خلقا. وقال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة. وقال عطاء عن ابن عباس: هن الآدميات اللاتي متن أبكارا. وقال الكلبي: لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان. قلت- ابن القيم -: " ظاهر القرآن أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا؛ وإنما هن من الحور
__________
(1) سورة الصافات الآية 48
(2) سورة ص الآية 52
(3) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح باب 53 فصل 1 ص167.
(4) سورة الرحمن الآية 56(54/206)
العين، وأما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس، ونساء الجن قد طمثهن الجن، والآية تدل على ذلك " (1) . وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} (2) {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (3) {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (4) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: " أي: في الجنات خيرات الأخلاق حسان الأوجه، فجمعن بين جمال الظاهر والباطن، وحسن الخلق والخلق، محبوسات في خيام اللؤلؤ قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهن، ولا ينفي ذلك خروجهن في البساتين ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك المخدرات الخفرات " (5) (6) .
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} (7) {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (8) {عُرُبًا أَتْرَابًا} (9) قال صديق حسن خان: " قيل: هن الحور العين، أنشأهن الله لم تقع عليهن الولادة ولم يسبقن بخلق. وإنهن لسن من نسل آدم عليه السلام، بل مخترعات، وهو ما جرى عليه أبو عبيدة وغيره. وقيل: المراد نساء بني آدم، والمعنى أن الله سبحانه أعادهن بعد الموت إلى حال الشباب، والنساء وإن لم يتقدم لهم ذكر لكنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، فتلخص أن نساء الدنيا يخلقهن الله في القيامة خلقا جديدا من غير توسط ولادة خلقا
__________
(1) نفس المرجع السابق ص 168.
(2) سورة الرحمن الآية 70
(3) سورة الرحمن الآية 71
(4) سورة الرحمن الآية 72
(5) الخفر: بالتحريك شدة الحياء. لسان العرب مادة (خفر) 4 \ 253.
(6) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7 \ 258.
(7) سورة الواقعة الآية 35
(8) سورة الواقعة الآية 36
(9) سورة الواقعة الآية 37(54/207)
يناسب البقاء والدوام، وذلك يستلزم كمال الخلق، وتوفر القوى الجسمية، وانتفاء سمات النقص، كما أن خلق الحور العين على ذلك الوجه " (1) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: " {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (2) صغارهن وكبارهن، وعموم ذلك يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف- وهو البكارة ملازم لهن في جميع الأحوال؟ كما أن كونهن {عُرُبًا أَتْرَابًا} (3) ملازم لهن في كل حال. والعروب هي: المرأة المتحببة إلى بعلها، وحسن هيئتها ودلالها وجمالها ومحبتها، فهي التي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة، والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحا وسرورا، وإن انتقلت من محل إلى آخر امتلأ ذلك الموضع منها ريحا طيبا ونورا. والأتراب: اللاتي على سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة التي هي غاية ما يتمنى، أكمل سن الشباب، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، ولا يحزن ولا يحزن بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار " (4) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون. آنيتهم فيها الذهب،
__________
(1) فتح البيان في مقاصد القرآن 9 \ 262 دار الفكر العربي.
(2) سورة الواقعة الآية 36
(3) سورة الواقعة الآية 37
(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7 \ 267.(54/208)
أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك. ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا (1) » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوء كوكب دري في السماء. لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب (2) » . وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء. لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من ورائها (3) » .
وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) 8 حديث 3245، ورواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2834، ورواه الترمذي (كتاب الجنة) باب 7 حديث 2537.
(2) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2834.
(3) رواه الترمذي في (كتاب صفة الجنة) باب 5 حديث 2535، وقال هذا حديث حسن.
(4) رواه الترمذي في (فضائل الجهاد) باب 25 حديث 1663، وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه ابن ماجه في (كتاب الجهاد) باب 16 حديث 2799.(54/209)
مقعده من الجنة (2) » .
على ما كان من المولى عز وجل من الخلقة السوية لزوجات المؤمنين في الجنة، ومن الجمال، ومن الأدب، والخلق، والخصال الفاضلة الكثيرة، والتي وقفنا على البعض منها، ومما لا تتصوره العقول، إلا أن الأمر فوق ذلك وأعظم.
ولقد جعل سبحانه وتعالى القوة القادرة والكافية للمؤمنين؛ ليتمكنوا من اللذة، وبما يتلاءم مع تلك الزوجات. فقد أعطى سبحانه وتعالى لكل مؤمن قوة مائة رجل.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
«يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع ". قيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: " يعطى قوة مائة (3) » .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " والأحاديث الصحيحة إنما فيها أن لكل منهم زوجتين، وليس في الصحيح زيادة على
__________
(1) دفعة: بفتح الدال المهملة وسكون الفاء: هي الدفعة من الدم. تحفة الأحوذي 5 \ 303. (4)
(2) (1) ، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه
(3) رواه الترمذي في (كتاب صفة الجنة) باب 6 حديث 2536 وقال حديث صحيح غريب.(54/210)
ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظة، فإما أن يراد بها ما لكل واحد من السراري زيادة على الزوجتين ويكونون في ذلك على حسب منازلهم في القلة والكثرة كالخدم والولدان، وإما أن يراد أنه يعطى قوة من يجامع هذا العدد ويكون هذا هو المحفوظ، فرواه بعض هؤلاء بالمعنى، فقال: له كذا وكذا زوجة. وقد روى الترمذي في جامعه من حديث قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع " قيل: يا رسول الله، أو يطيق ذلك؟ قال: " يعطى قوة مائة (1) » . هذا حديث صحيح، فلعل من رواه يفضي إلى مائة عذراء رواه بالمعنى، أو يكون تفاوتهم في عدد النساء بحسب تفاوتهم في الدرجات. والله أعلم. ولا ريب أن للمؤمن في الجنة أكثر من اثنتين لما في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر عن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للعبد المؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة، طولها ستون ميلا، للعبد المؤمن فيها أهلون، فيطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا (3) » .
في الجنة تتحقق أمنية المتمنين، وتحصل رغبة الراغبين، مما يخطر على البال، وتشتهي الأنفس، وذلك بفضل أرحم الراحمين.
__________
(1) سنن الترمذي صفة الجنة (2536) .
(2) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3243، ورواه مسلم (كتاب الجنة) حديث 2538.
(3) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح باب 53 فصل 7 ص 175. (2)(54/211)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي (1) » .
قال الترمذي: " وقد اختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم: في الجنة جماع ولا يكون ولد، هكذا روي عن طاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي. وقال محمد- يعني البخاري - قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة واحدة كما يشتهي ولكن لا يشتهي (2) » قال محمد- يعني البخاري -: وقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد (3) »
وفي مشهد مؤنس للمؤمنين في الجنة نجد الحوريات يطربن أزواجهن بالغناء الذي يهز الأشواق، ويرقق القلوب، ويجلب الفرحة والسرور.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
«إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط. إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنه (4) »
__________
(1) رواه الترمذي في (كتاب صفة الجنة) باب 23 حديث 2563، وقال حديث حسن غريب.
(2) سنن الترمذي صفة الجنة (2563) ، سنن ابن ماجه الزهد (4338) ، سنن الدارمي الرقاق (2834) .
(3) رواه الترمذي في (كتاب صفة الجنة) باب 23 انظر سنن الترمذي 4 \ 696. دار إحياء التراث العربي (تحقيق وتعليق إبراهيم عطوة علي) .
(4) صحيح الجامع الصغير 2 \ 48 حديث رقم 1557 وصححه الألباني. .(54/212)
وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحور العين لتغنين في الجنة. يقلن: نحن الحور الحسان، خبئنا لأزواج كرام (1) » .
لا يتمنى المؤمن شيئا في الجنة إلا كان بين يديه، ولا ترغب نفسه حاجة من الحاجات إلا حققت له، مما يخطر على باله؛ لأنه في دار السعادة والنعيم، دار من قد رضي الله عنهم ورضوا عنه.
__________
(1) صحيح الجامع الصغير 2 \ 58 حديث رقم 1598 وصححه الألباني.(54/213)
سوق الجنة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
«إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا (1) » . قال النووي: " المراد بالسوق: مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق، ومعنى يأتونها كل جمعة: أي في مقدار كل جمعة أي أسبوع، وليس هناك حقيقة أسبوع؟ لفقد الشمس والليل والنهار. وقال القاضي: وخص ريح الجنة بالشمال؛ لأنها ريح المطر عند العرب، كانت تهب من جهة الشام، وبها يأتي سحاب المطر، وكانوا يرجون السحابة الشامية، وجاءت في الأحاديث تسمية هذه
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة وصفة نعيمها) حديث 2833.(54/213)
الريح المثيرة، أي المحركة؛ لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها " (1) . إن سوق الجنة هو مكان اللقاء للمؤمنين بعضهم لبعض؛ لازدياد النعيم بما يجدونه من لذة وسؤدد، وتحدث بعضهم لبعض؛ وتذاكرهم بما كان في الدار الدنيا وما آلوا إليه في الدار الآخرة؛ ويتجدد هذا اللقاء كل جمعة كما جاء في الحديث؛ لرؤية بعضهم لبعض وأنس بعضهم ببعض، ولم يكن لقاء بعضهم لبعض في سوق الجنة فحسب، بل يتزاورون في المنازل، وفي مخير المنازل من مرافق، تحت الأشجار، وعلى شواطئ الأنهار، وفي جميع المنتزهات المختلفة، متى شاءوا من الأوقات التي تتناسب معهم ويرتاحون لها بل ويرغبونها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أهل الجنة ليتزاورون فيها (2) » .
إنها الزيارات الممتعة، والحياة السعيدة، والأنس الذي لا ينقطع، واللذة المستمرة.
__________
(1) شرح النووي على مسلم 17 \ 170.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 335 وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر 16 \ 180 حديث 8404.(54/214)
النظر إلى الله عز وجل:
قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) قال ابن كثير: " وقد روي عن جماعة من الصحابة تفسير هذه الزيادة
__________
(1) سورة يونس الآية 26(54/214)
بالنظر إلى وجه الله عز وجل، منهم: أبو بكر الصديق، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف رحمهم الله وأكرم مثواهم أجمعين " (1) .
قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (2) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) عن صهيب رضي الله عنه عن النبي خير قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب. فما أعطوا شيئا أحب إليهم
__________
(1) النهاية في الفتن والملاحم 2 \ 388.
(2) سورة القيامة الآية 22
(3) سورة القيامة الآية 23(54/215)
من النظر إلى ربهم عز وجل (1) » وهذا من النعيم الذي لا أعلى منه نعيم، وهو النظر إلى وجه الله عز وجل بما تستبشر به النفوس كما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله: «فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل (2) » ، وهذا يضاده ما ذكر سبحانه وتعالى عن الفجار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (3) . فإذا حجب الفجرة عن رؤية ربهم، ظفر البررة برؤيته سبحانه وتعالى.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) حديث 181.
(2) صحيح مسلم الإيمان (181) ، سنن الترمذي صفة الجنة (2552) ، سنن ابن ماجه المقدمة (187) ، مسند أحمد بن حنبل (4/333) .
(3) سورة المطففين الآية 15(54/216)
مشاهد أهل الجنة:
الجنة طيبة وطيب من فيها، فهي مستقر أولياء الله تبارك وتعالى من الملائكة والرسل والأنبياء والمؤمنين. عن بريدة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعين من سائر الأمم (1) » .
والله سبحانه وتعالى أعلم بعدد من في هذه الصفوف، فالأعداد كثيرة والصفات حميدة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون. آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك. ولكل واحد منهم زوجتان،
__________
(1) رواه الترمذي (كتاب الجنة) باب 13 حديث 2546 وقال: حديث حسن، وفي مشكاة المصابيح 3 \ 1569 حديث 5644 قال الألباني سنده صحيح.(54/216)
يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا (1) » .
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أثرهم كأشد كوكب إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض. لكل امرئ منهم زوجتان: كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشية. لا يسقمون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون. آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة: يعني العود- ورشحهم المسك (3) » . قال ابن حجر: " قوله «آنيتهم فيها الذهب (4) » زاد في الرواية الثانية " والفضة " وقال في الأمشاط عكس ذلك، وكأنه اكتفى في الموضعين بذكر أحدهما عن الآخر، فإنه يحتمل أن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3245.
(2) رواه البخاري في صحيحه (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3246، وروى مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2834 نحوه، وروى الترمذي نحوه في (كتاب صفة الجنة) باب 5 حديث 2535، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى أحمد في المسند نحوه 2 \ 230.
(3) (2) - قال أبو اليمان
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3245) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2834) ، سنن الترمذي صفة الجنة (2537) ، سنن ابن ماجه الزهد (4333) ، مسند أحمد بن حنبل (2/316) .(54/217)
يكون الصنفان لكل منهم، ويحتمل أن يكون أحد الصنفين لبعض والآخر للبعض الآخر، ويؤيده حديث أبي موسى مرفوعا «جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما؟ وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما (1) » . ويؤيد الأول ما أخرجه الطبراني بإسناد قوي عن أنس مرفوعا «إن أدنى أهل الجنة درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، بيد كل واحد صحفتان، واحدة من ذهب والأخرى من فضة (2) » . . . .
وقال القرطبي: " قد يقال: أي حاجة لهم إلى المشط وهم مرد وشعورهم لا تتسخ؟ وأي حاجة لهم إلى البخور وريحهم أطيب من المسك؟ قال: ويجاب بأن نعيم أهل الجنة من أكل وشرب وكسوة وطيب ليس عن ألم وجوع أو ظمأ أو عري أو نتن، وإنما هي لذات متتالية ونعم متوالية، والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا " (3) .
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون "، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: " جشاء ورشح كرشح المسك. يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4878) ، صحيح مسلم الإيمان (180) .
(2) فتح الباري 6 \ 324.
(3) نفس المرجع 6 \ 324، 325.
(4) رواه مسلم في صحيحه (كتاب صفة الجنة) حديث 2835.
(5) جشاء: الجشاء هو تنفس المعدة من الامتلاء. صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4 \ 2181. (4)(54/218)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يجيبونك، تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. فزادوه ورحمة الله. فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن (1) » .
وعنه رضي الله عنه قال: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة الألنجوج (3) » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة جردا (4)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الأنبياء) باب 1 حديث 3326، وروى مسلم نحوه (كتاب صفة الجنة) 28 حديث 2841.
(2) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الأنبياء) باب 1 حديث 3327، وروى مسلم نحوه (كتاب صفة الجنة) حديث 2834.
(3) (2) عود الطيب، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم؟ ستون ذراعا في السماء
(4) رواه أحمد في المسند. انظر تحقيق أحمد محمد شاكر 15 \ 74 حديث 7920، وقال إسناده صحيح، وروى الترمذي بعضه بإسناد حسن غريب كتاب صفة الجنة باب 12 حديث 2545، وانظر صحيح الجامع 6 \ 337 حديث 7928.(54/219)
مردا (1) بيضا جعادا مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، على خلق آدم، ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (2) » .
قال النووي: " قيل: مثلها في رقتها وضعفها، كالحديث الآخر «أهل اليمن أرق قلوبا وأضعف أفئدة (3) » ، وقيل: في
__________
(1) مردا: المرد نقاء الخدين من الشعر ونقاء الغصن من الورق، لسان العرب مادة (مرد) 3 \ 401.
(2) رواه مسلم كتاب صفة الجنة حديث 7840.
(3) صحيح البخاري كتاب المغازي باب 74 حديث 4388، ومسلم كتاب الإيمان حديث 52.(54/220)
الخوف والهيبة. والطير أكثر الحيوان خوفا وفزعا. كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) وكان المراد قوم غلب عليهم الخوف، كما جاء من جماعات من السلف في شدة خوفهم. وقيل: المراد متوكلون. والله أعلم " (2) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) شرح النووي على مسلم 17 \ 177.(54/221)
صفحة فارغة(54/222)
إمام المغازي محمد بن إسحاق
د. مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي (1)
بين يدي الحديث:
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن لهذا البحث سببا وهو أن من له علاقة بالبحث في علم الرجال يلفت نظره الاختلاف في توثيق إمام المغازي محمد بن إسحاق، وكم يتمنى طالب العلم أن يجد قولا فصلا في كل قضية خلافية، موثقا بالأدلة والبراهين القاطعة.
فعزمت أن أبحث هذه المسألة فوجدت عددا من أهل العلم يوثق محمد بن إسحاق، وآخرين يضعفونه، وآخرين يدافعون عنه.
فكان هذا البحث ويشتمل على المباحث التالية:
__________
(1) أستاذ مساعد بكلية المعلمين بمكة المكرمة.(54/223)
المبحث الأول: اسمه، كنيته، نسبته، مولده، وفاته.
المبحث الثاني: علمه، وتوثيق العلماء له.
المبحث الثالث: رحلاته العلمية ومؤلفاته.
المبحث الرابع: شيوخه وتلاميذه.
المبحث الخامس: مقارنته بغيره.
المبحث السادس: جرح العلماء له والأجوبة على ذلك.
الخاتمة.
روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه من حديث محمد بن سيرين قال: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (1) » . . . ثم قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (2) .
وقال ابن أبي حاتم في كتابه (الجرح والتعديل) ما يلي:
" فلما لم نجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية، وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة " (3) .
وبهذا يتضح لكل باحث أهمية علم الرجال (الجرح
__________
(1) سنن الدارمي المقدمة (424) .
(2) صحيح مسلم ج1 ص15، دار إحياء التراث العربي.
(3) الجرح والتعديل 1 \ 5- 11، ط. حيدر آباد بالهند.(54/224)
والتعديل) لأنه به تتميز الأخبار، ويعرف به من كان ثقة ثبتا يؤخذ حديثه ليعمل به، ومن هو كاذب أو متهم فيتجنب ما جاء به أو رواه، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(54/225)
المبحث الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، ومولده ووفاته:
محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، وقيل: ابن يسار بن كوثان، المديني، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان جده يسار من سبي (عين تمر) وهي بلدة قريبة من الأنبار، غربي الكوفة، مشهورة بالتمر، وهي قديمة، افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر على يد خالد بن الوليد في سنة 12هـ، وكان فتحها عنوة، فسبى نساءها، وقتل رجالها (1) .
__________
(1) معجم البلدان 4 \ 176.(54/225)
ويكنى: أبا بكر؛ قاله: علي بن المديني، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم القشيري، وأحمد بن جعفر بن محمد بن المنادي.
ويكنى: أبا عبد الله؛ قاله: خليفة بن خياط، ومحمد بن سعد، ويعقوب بن أبي شيبة (1) . وهو من أهل المدينة ولذلك ينسب بالمديني أو المدني (2) .
ولد ابن إسحاق سنة ثمانين، وقيل: 85 هـ.
أقام ببغداد حتى مات بها سنة 151هـ إحدى وخمسين ومائة.
ودفن في مقابر الخيزران، ورأى أنس بن مالك بالمدينة وسعيد بن المسيب، وقيل: مات سنة 152هـ، وقيل: خمسين ومائة، وقيل: 144 هـ (3) .
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 215- 217.
(2) الثقات 7 \ 380.
(3) الطبقات 7 \ 321، سير أعلام النبلاء 7 \ 36، تاريخ بغداد 1 \ 232- 233.(54/226)
المبحث الثاني: علمه وتوثيق العلماء له:
قال ابن شهاب - ورأى ابن إسحاق مقبلا -: لا يزال بالحجاز علم كثير ما دام هذا الأحول (1) .
وقال: لا يزال بالمدينة علم جم ما كان فيهم ابن إسحاق (2) .
وكان شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 33.
(2) تاريخ بغداد 1 \ 218- 220.(54/226)
الحديث، ومن أحسن الناس سياقا للأخبار، وأحسنهم حفظا لمتونها (1) .
وقال: لو سود أحد في الحديث لسود محمد بن إسحاق.
وقال: ابن إسحاق سيد المحدثين لحال حفظه (2) .
وقال: محمد بن إسحاق صدوق الحديث.
وقال: محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث، وفي رواية أخرى: أمير المحدثين (3) .
وقال: أما محمد بن إسحاق وجابر الجعفي فصدوقان (4) .
وكان شعبة وسفيان يقولان: محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث، ومن أحسن الناس سياقا للأخبار، وأحسنهم حفظا لمتونها (5) .
وقال عبد الله بن أحمد - وسأله رجل عن محمد بن إسحاق - فقال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيرا بالعلو والنزول ويخرجه في المسند، وما رأيته اتقى حديثه قط (6) .
وكان الإمام أحمد بن حنبل يتبسم متعجبا من أحاديث
__________
(1) الثقات 7 \ 383- 384
(2) تاريخ بغداد 1 \ 220.
(3) الجرح والتعديل 7 \ 192، سير أعلام النبلاء 7 \ 36.
(4) عيون الأثر 1 \ 9.
(5) الثقات 7 \ 383- 384
(6) عيون الأثر 1 \ 11.(54/227)
محمد بن إسحاق ويستحسنها.
وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق (1) .
وقال سفيان بن عيينة: لا يزال بالمدينة علم ما عاش هذا الغلام- يعني ابن إسحاق (2) .
وقال أبو حاتم الرازي: قال يونس بن بكير: سمعت محمد بن إسحاق يقول: حفظت المغازي بمكة مرة ثم تفلت مني، ثم عدت فيها فحفظتها (3) .
وقال: حدثنا أبو أمية الطرسوسي فيما كتب إلي قال:
حدثنا علي بن الحسن النسائي، حدثنا فياض بن محمد الرقي، قال: سمعت ابن أبي ذئب يقول: " كنا عند الزهري فنظر إلى محمد بن إسحاق مقبلا فقال الزهري: لا يزال بالحجاز علم كثير ما دام هذا الأحول بين أظهرهم " (4) .
وقال: حدثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثنا علي بن المديني قال: قال سفيان بن عيينه: رأيت محمد بن إسحاق جاء إلى ابن شهاب فقال: كيف أنت يا محمد؟ أين تكون؟ قال: لست أصل إليك مع إذنك هذا، فدعا البواب فقال: " إذا
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 220.
(2) تاريخ بغداد 1 \ 226- 228.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 54، الجرح والتعديل 1 \ 192.
(4) الجرح والتعديل 7 \ 191.(54/228)
جاءك هذا فلا تحبسه عني " (1) .
وقال: لم يكن أحد بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه ولا يوازيه في جمعه.
وقال: كان محمد بن إسحاق يكتب عمن فوقه ومثله ودونه؛ لرغبته في العلم وحرصه عليه.
وقال: كان محمد بن إسحاق يكتب عمن فوقه ومثله ودونه؛ لرغبته في العلم وحرصه عليه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه (2) .
وقال العجلي: محمد بن إسحاق مدني، ثقة (3) . وروى المفضل بن غسان، عن يحيى بن معين: " ثبت في الحديث " (4) .
قال علي بن المديني مدار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة، فذكرهم ثم قال: فصار علم السنة عند اثني عشر، أحدهم ابن إسحاق.
وقال: سمعت سفيان يقول: قال ابن شهاب - وسئل عن مغازيه- فقال: هذا أعلم الناس، يعني ابن إسحاق (5) .
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 192.
(2) الثقات لابن حبان 7 \ 383، 384.
(3) الثقات ص 400 رقم 1433.
(4) عيون الأثر 1 \ 10.
(5) تاريخ بغداد 1 \ 218- 220.(54/229)
وقال مرة: هو صالح وسط.
وقال: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين، نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة (1) » والزهري عن عروة، عن زيد بن خالد: «" إذا مس أحدكم فرجه (2) » هذين لم يروهما عن أحد، والباقون يقولون: ذكر فلان، ولكن هذا فيه حدثنا ".
وقال مرة: " وقع إلي من حديثه شيء فما أنكرت منه إلا أربعة أحاديث ظننت أن بعضه منه وبعضه ليس منه " (3) .
وقال أبو زرعة الدمشقي: ابن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم: سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد، وروى عنه من القدماء يزيد بن أبي حبيب (4) .
وقال عبد الله بن فايد: كنا إذا جلسنا إلى محمد بن إسحاق فأخذ في فن من العلم قضى مجلسه في ذلك الفن (5) .
وقال إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي -بتكرار الطرق-.
وقال: كان عند إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق نحو من
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (526) ، سنن أبو داود الصلاة (1119) ، مسند أحمد بن حنبل (2/32) .
(2) سنن أبو داود الطهارة (181) ، سنن الدارمي الطهارة (725) .
(3) عيون الأثر 1 \ 10، 11.
(4) سير أعلام النبلاء 7 \ 39- 40.
(5) تاريخ بغداد 1 \ 220.(54/230)
سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه (1) .
وقال يعقوب الجوزجاني: محمد بن إسحاق يشتهون حديثه (2) .
وقال ابن سعد: كان ابن إسحاق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج من المدينة قديما فأتى الكوفة والجزيرة والري وبغداد فأقام بها حتى مات (3) .
وقال الخليلي: محمد بن إسحاق عالم كبير، وإنما لم يخرجه البخاري من أجل روايته المطولات، وقد استشهد به وأكثر عنه فيما يحكي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أحواله، وفي التواريخ، وهو عالم واسع الرواية والعلم، ثقة (4) .
وقال: قال ابن إدريس الحافظ: كيف لا يكون ابن إسحاق ثقة، وقد سمع من الأعرج ويروي عنه، لم يرو عن أبي الزناد عنه، ثم يروي عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عنه، ثم قال الخليلي: روى عن ابن إسحاق عن أستاذيه الزهري وصالح بن كيسان وعقيل ويونس (5) .
__________
(1) تهذيب التهذيب 9 \ 41، سير أعلام النبلاء 7 \ 39.
(2) تاريخ بغداد 1 \ 224- 225.
(3) الطبقات 4 \ 322.
(4) التهذيب 9 \ 46.
(5) الثقات لابن حبان 7 \ 383، تاريخ بغداد 1 \ 228.(54/231)
ولما سئل ابن المبارك قال: إنا وجدناه صدوقا، ثلاث مرات.
وقال الحاكم: وذكر البوشنجي أنه قال: هو عندنا ثقة ثقة (1) .
وقال يعقوب بن شيبة: سألت ابن المديني: كيفا حديث محمد بن إسحاق صحيح؟ قال نعم، حديثه عندي صحيح. . وسمعت عليا يقول: إن حديث محمد بن إسحاق ليتبين منه الصدق (2) .
وقال: سألت يحيى بن معين عنه: في نفسك شيء من صدقه؟ قال: لا، هو صدوق، وقال يحيى: ليس به بأس، وقال يعقوب: سألت ابن المديني: كيف حديث ابن إسحاق عندك؟ فقال: صحيح. قلت له: فكلام مالك فيه؟ قال: لم يجالسه ولم يعرفه (3) .
وقال البخاري: ينبغي أن يكون له ألفا حديث ينفرد بها لا يشاركه فيها أحد.
وقال: رأيت علي بن المديني يحتج بحديثه وقال لي: نظرت في كتابه فما وجدت. عليه إلا حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين.
__________
(1) التهذيب 9 \ 46.
(2) عيون الأثر 1 \ 10، التهذيب 9 \ 42، 43.
(3) عيون الأثر 1 \ 10، التهذيب 9 \ 42.(54/232)
وكان ابن إدريس معجبا بابن إسحاق، كثير الذكر له، ينسبه إلى العلم والمعرفة والحفظ (1) .
وقال ابن عدي: ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد روى عنه أئمة الناس، ولو لم يكن من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل- منها شيء إلى الاشتغال بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومبدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق إليها، وقد صنفها بعده قوم فلم يبلغوا مبلغه، وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد فيها ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره، ولا بأس به (2) .
وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: هو حسن الحديث (3) .
وقال الذهبي عنه: العلامة الحافظ الأخباري.
وقال: قد كان في المغازي علامة (4) .
وقال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق، وكان من أحفظ الناس، وكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء فاستودعها محمد بن
__________
(1) عيون الأثر 9 \ 1، 10.
(2) التهذيب 9 \ 45.
(3) عيون الأثر 1 \ 10.
(4) سير أعلام النبلاء 7 \ 33.(54/233)
إسحاق، وقال: احفظها علي، فإن نسيتها كنت قد حفظتها علي (1) . وقال: كان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك، أخرج إلي كتب ابن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخبت منها كثيرا (2) .
وقال الحسن بن علي الحلواني: سمعت يزيد بن هارون يقول: لو كان لي سلطان لأمرت ابن إسحاق على المحدثين.
وقال يزيد بن هارون: لو سود أحد في الحديث فسود محمد بن إسحاق (3) .
وقال ابن سيد الناس: حدث عنه أئمة العلماء (4) .
وقال: وقد استشهد به البخاري، وأخرج له مسلم متابعة، واختار أبو الحسن بن القطان أن يكون حديثه من باب الحسن- لاختلاف الناس فيه (5) .
ويتضح من العرض السابق أن الأئمة الأثبات ممن يعتد بتعديله وتجريحه قد أثنوا على محمد بن إسحاق في قوة حفظه وسعة علمه ومكانته العلمية، بل بعضهم وثقه توثيقا مطلقا، منهم:
1 - محمد بن مسلم الزهري.
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 211- 220.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 39.
(3) سير أعلام النبلاء 3 \ 54، الجرح والتعديل 7 \ 192، عيون الأثر 1 \ 9.
(4) عيون الأثر 1
(5) عيون الأثر 1 \ 13.(54/234)
2 - شعبة بن الحجاج.
3 - محمد بن إسماعيل البخاري.
4 - أحمد بن عبد الله العجلي.
5 - ابن سيد الناس.
6 - علي بن المديني.
7 - محمد بن إدريس الشافعي.
8 - عبد الله بن فايد.
9 - عبد الرحمن بن عمرو (أبو زرعة) .
10 - أحمد بن حنبل.
11 - يزيد بن هارون.
12 - عبد الله بن أحمد بن حنبل.
13 - محمد بن أحمد الذهبي.
14 - ابن عدي.
15 - عبد الله بن المبارك.
16 - أبو يعلى الخليلي.
17 - محمد بن سعد.
18 - ابن حبان.
19 - الخطيب البغدادي.
20 - الحاكم.
21 - البوشنجي.
22 - علي الحلواني.
فهؤلاء الأئمة أغلبهم وثقوا محمد بن إسحاق، صحيح أن(54/235)
ألفاظ توثيقهم له متفاوتة من أعلى المراتب إلى أدناها كما يلي:
أمير المؤمنين في الحديث، أمير المحدثين، من أحفظ الناس، ثقة ثقة، ثبت في الحديث، ثقة، صحيح الحديث، الحافظ، صدوق، حسن الحديث، صالح وسط، لا بأس به، ليس به بأس.
وهذا دليل على إمامة ابن إسحاق، وخاصة في مغازي وأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو حجة في المغازي، أما حديثه في الأحكام فلا ينزل عن الحسن، والله أعلم.(54/236)
المبحث الثالث: رحلاته العلمية ومؤلفاته:
رحل من المدينة إلى الكوفة، وإلى الجزيرة، والري، وبغداد، وأقام بها حتى مات (1) .
رحل إلى الإسكندرية سنة 119 هـ، فروى عنه منهم الأكابر، مثل: يزيد بن أبي حبيب، وقيس بن أبي يزيد (2) .
ورحل إلى الحيرة، وقصته مع أبي جعفر المنصور مشهورة في التأليف لابنه كتابا (3) .
مؤلفاته:
1 - السيرة النبوية: وهو ما رواه ابن هشام، وهو مطبوع في
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 7 \ 321.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 47، 48، التهذيب 9 \ 44.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 33، 48، تاريخ بغداد 1 \ 214، تذكرة الحفاظ 1 \ 172، وفيات الأعيان 4 \ 277.(54/236)
أربعة مجلدات وقال ابن سعد: كان ابن إسحاق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 - الخلفاء.
3 - المبدأ (1) .
ويمكن أن يكون له كتب أخرى، بدليل قول علي بن عبد الله: نظرت في كتب ابن إسحاق فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين (2) .
وأيضا قول إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي (3) .
وقول الذهبي: وهو أول من دون العلم بالمدينة، وذلك قبل مالك وذويه، وكان في العلم بحرا عجاجا (4) .
وقول أحمد بن حنبل عندما ذكر محمد بن إسحاق:
كان رجلا يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. ويتضح من الأقوال السابقة أنه ألف في الأحكام والمغازي
__________
(1) معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 9 \ 44، ط دار إحياء التراث بيروت
(2) تاريخ بغداد 1 \ 231، سير أعلام النبلاء 7 \ 41.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 39.
(4) سير أعلام النبلاء 7 \ 39.(54/237)
والخلفاء والمبدأ وغير ذلك، وهذا فيه دليل على سعة علمه وعلى كثرة حفظه.(54/238)
المبحث الرابع: شيوخه وتلاميذه:
تتلمذ على عدد من الشيوخ والأعلام مما كان له كبير الأثر في بناء شخصيته العلمية، منهم:
والده، وعمه موسى بن يسار، وأبان بن عثمان - فيما قيل- وبشير بن يسار، وسعيد بن أبي هند، وسعيد المقبري، وأبي سفيان طلحة بن نافع، وعباس بن سهل بن سعد، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وأبي جعفر الباقر، ومكحول الهذلي، ونافع العمري، وأبي سلمة بن عبد الرحمن -إن صح- وفاطمة بنت المنذر بن الزبير، ومعبد ابن كعب بن مالك، والزهري، والقاسم بن محمد -فيما قيل- وعكرمة بن خالد المخزومي، وسعد بن إبراهيم، وسعيد بن عبيد ابن السباق، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصدقة بن يسار، والصلت ابن عبد الله بن نوفل بن الحارث الهاشمي، وعبادة بن الوليد بن عبادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، وعبد الرحمن بن القاسم، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن أبي أمامة بن سهل، ومحمد بن طلحة بن يزيد ابن ركانة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، ومحمد بن المنكدر، ومحمد بن يحيى بن حبان، ونبيه بن وهب، ويعقوب بن عتبة، وأبي عبيدة بن محمد بن عمار، ومحمد بن الزبير الحنظلي،(54/238)
وسليمان بن سحيم، وابن طاووس، وخلق كثير، إلى أن ينزل إلى صالح بن كيسان، ومحمد بن السائب الكلبي، وروح بن القاسم، وشعبة، وطائفة (1) .
وروى عن جماعة من أهل مصر، منهم: عبيد الله بن المغيرة، ويزيد بن أبي حبيب، وثمامة بن شفي، وعبيد الله بن أبي جعفر، والقاسم بن قرمان، والسكن بن أبي كريمة.
وأدرك سعيد بن المسيب وهو غلام، ورأى أنس بن مالك (2) .
وسمع من عطاء (3) ، ورأى سالم بن عبد الله بن عمر يلبس الصوف (4) .
كما يدل على سماعه المتقدم وحرصه على صحبة المشايخ والأئمة منذ صغره.
وحدث عنه:
يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من التابعين وفاقا، وشعبة، والثوري، والحمادان، وأبو عوانة، وهشيم، ويزيد بن زريع، وأبو شهاب الحناط، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وزهير بن معاوية، وموسى بن أعين، وجرير بن حازم، وجرير بن عبد الحميد، وابن عون، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وهما أكبر منه،
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 34.
(2) تاريخ بغداد 1 \ 217.
(3) تاريخ بغداد 1 \ 218.
(4) تاريخ بغداد 1 \ 218.(54/239)
وسفيان بن عيينة، وحفص بن غياث، وعبدة بن سليمان، وأبو خالد الأحمر، وابن إدريس، وابن نميير، وزياد البكائي، وسلمة الأبرش، وسعدان بن يحيى، وعبد الأعلى السامي، ومحمد بن سلمة الحراني، وابن فضيل، وابن أبي عدي، ومحمد بن يزيد الواسطي، ويزيد بن هارون، ويونس بن بكير، ويعلى بن عبيد، وأخوه محمد بن عبيد، وعبد الرحمن بن مغراء، ويحيى بن سعيد الأموي، وأبو تميلة يحيى بن واضح، وأحمد بن خالد الوهبي، وأمم سواهم يشق استقصاؤهم ويبعد إحصاؤهم (1) .
وحدث عنه من أهل مصر الأكابر، مثل: قيس بن أبي يزيد، ويزيد بن أبي حبيب وهو من شيوخه (2) .
ولم يرو عنه من أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد؛ لأنه خرج من المدينة قديما (3) .
مما كان له الأثر الإيجابي على تلاميذه، حيث أصبحوا من أعلام هذه الأمة، مما يعكس لنا منزلته ووثوق الناس به وبرواياته وبعلمه.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 35.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 48.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 48.(54/240)
المبحث الخامس: مقارنة ابن إسحاق بغيره:
جرت عادة علماء الجرح والتعديل أن يسألوا عن أحد من الناس مقارنا بغيره من الأقران، مثل:(54/240)
سئل يحيى بن معين: محمد بن إسحاق أحب إليك أو موسى بن عبيدة؟ فقال: محمد بن إسحاق، محمد بن إسحاق صدوق، ولكنه ليس بحجة (1) .
وسئل أبو حاتم: محمد بن إسحاق أحب إليك أو أفلح؟ فقال: هو أحب إلي من أفلح بن سعيد، يكتب حديثه (2) .
وسئل الإمام أحمد بن حنبل: أيما أحب إليك: موسى بن عبيدة الربذي أو محمد بن إسحاق؟ فقال: لا، محمد بن إسحاق. وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو: قلت ليحيى - وذكرت له الحجة- فقلت: محمد بن إسحاق منهم؟ فقال: كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس، وذكر قوما آخرين (3) . وقال الخطيب: وأخبرنا أبو بكر البرقاني قال: سألت أبا الحسن علي بن عمر الحافظ عن محمد بن إسحاق، وعن أبيه فقال: جميعا لا يحتج بهما، وإنما يعتبر بهما (4) .
وبتأمل هذه النصوص الواردة في مقارنة ابن إسحاق بغيره من العلماء نجد ما يلي:
1 - مقارنة محمد بن إسحاق بأفلح بن سعيد نجد أن أفلح بن سعيد الأنصاري المدني أبا محمد: صدوق مات سنة
__________
(1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 7 \ 192.
(2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 7 \ 194، عيون الأثر 1 \ 12.
(3) تاريخ بغداد 1 \ 232.
(4) تاريخ بغداد 1 \ 232.(54/241)
156 هـ، روى له مسلم والنسائي (1) .
وتقديم أبي حاتم محمد بن إسحاق على أفلح بن سعيد هو الحق، علما بأن أفلح بن سعيد ممن يحتج بحديثه، وهذا فيه دلالة أن محمد بن إسحاق أعلى منزلة من أفلح بن سعيد، وأوثق منه.
2 - وبمقارنة محمد بن إسحاق بعبيد الله بن عمر، ومالك ابن أنس وقوم آخرين ثم الحكم من قبل يحيى بن معين بأنه ثقة فقط والآخرين حجج، نقول:
إن عبيد الله بن عمر هو ابن حفص العمري المدني أحد الفقهاء السبعة ثقة، ثبت، مات سنة 147 هـ (2) .
ومالك بن أنس الأصبحي أبو عبد الله المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة الحجة مات سنة 179 هـ روى له الستة وغيرهم (3) . ويتضح أن ترجيح ابن معين معقول، لكن قوله ليس فيه انتقاص لابن إسحاق -فيما يبدو- وإنما زيادة توثيق وإطراء لمن ذكر، لتميزهم عن غيرهم، فهم فقهاء، وأئمة، وحفاظ.
3 - ويحيى بن معين قدم محمد بن إسحاق على موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة هو ابن نشيط بن عمرو بن الحارث الربذي أبو عبد العزيز المدني، قال عنه ابن حجر: ضعيف ولا سيما في
__________
(1) التقريب 1 \ 82، الكاشف 1 \ 86.
(2) التهذيب 7 \ 38، التقريب 1 \ 537.
(3) التقريب 2 \ 223.(54/242)
عبد الله بن دينار، وكان عابدا مات سنة 153 هـ (1) .
وقال الذهبي: ضعفوه (2) .
ويتضح أن تقديم يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل محمد بن إسحاق على موسى بن عبيدة هو الحق، فمحمد بن إسحاق بالنسبة لموسى بن عبيدة لا يقاربه، فهذا ثقة وهذا ضعيف، وهذا محتج به وهذا غير ذلك، والله أعلم.
__________
(1) تقريب التهذيب 2 \ 286.
(2) الكاشف 3 \ 164.(54/243)
المبحث السادس: جرح العلماء له والأجوبة على ذلك:
رمي ابن إسحاق بعدد من التهم وهي:
1 - رمي بالقدر.
2 - رمي بالكذب.
3 - رمي بالتشيع.
4 - رمي بالتدليس.
5 - رمي برواية أحاديث في الصفات.
6 - الضعف في الحديث.
7 - يحدث عن المجهولين، والضعفاء.
8 - روايته عن أبناء اليهود.
أولا: القدر:
أ- قال الذهبي: وروي عن حميد بن حبيب أنه رأى ابن إسحاق مجلودا في القدر، جلده إبراهيم بن هشام الأمير (1) .
__________
(1) ميزان الاعتدال 3 \ 472.(54/243)
ب- وقال الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم الدمشقي في كتابه إلينا، قال: أنبأنا أبو الميمون البجلي، ثم أخبرنا البرقاني قراءة قال: أنبأنا محمد بن عثمان القاضي، قال: نبأنا أبو الميموني عبد الرحمن بن عبد الله البجلي بدمشق قال: قال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري:. . . وقد ذاكرت دحيما قول مالك، فرأى أن ذلك ليس للحديث إنما هو لأنه اتهمه بالقدر (1) .
ج- أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي فيما أجاز لنا، وحدثنا ثقة سمعه منه قال: أنبأنا محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة قال: نبأنا جدي، قال: سمعت سعيد ابن داود الزنبري قال:
حدثني والله عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: كنا في مجلس محمد بن إسحاق نتعلم، فأغفى إغفاءة [ثم تنبه] فقال: إني رأيت في المنام الساعة كأن إنسانا دخل المسجد ومعه حبل فوضعه في عنق حمار فأخرجه، فما لبثنا أن دخل المسجد رجل معه حبل حتى وضعه في عنق ابن إسحاق فأخرجه فذهب به إلى السلطان، فحله، قال ابن أبي زنبر: من أجل القدر.
د- أخبرنا الحسين بن علي الصيمري قال: نبأنا علي بن الحسين الرازي قال: نبأنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: نبأنا أحمد بن زهير قال: سمعت هارون بن معروف يقول: كان محمد بن إسحاق قدريا.
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 224، سير أعلام النبلاء 7 \ 42.(54/244)
هـ- أخبرنا علي بن محمد بن الحسين الدقاق قال: قرأنا على الحسين بن هارون الضبي عن أبي العباس بن سعيد قال: نبأنا موسى بن هارون بن إسحاق قال: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير يقول: وكان محمد بن إسحاق يرمى بالقدر وكان أبعد الناس منه، وقال ابن عيينة: اتهموه بالقدر (1) .
ونقول على ما تقدم من روايات في رمي ابن إسحاق بالقدر ما يلي:
1 - رواية الذهبي وردت بصيغة التمريض " روي " مما تضعف به الرواية.
2 - حميد بن حبيب لم أجد له ترجمة، ولا نستطيع أن نحكم بأن الواقعة حدثت بالفعل إلا إذا عرفنا صدق راويها.
أما رواية الخطيب البغدادي " ب " ففي إحدى الروايتين؛ محمد بن عثمان بن الحسن القاضي النصيبي: كذاب (2) .
ومذاكرة أبي زرعة " دحيما " لقول مالك، فإن دحيما هو عبد الرحمن بن محمد الأسدي له حديث موضوع (3) .
والرواية "ج " فإن في سندها سعيد بن داود الزنبري وهو ضعيف (4) .
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 225- 226، سير أعلام النبلاء 7 \ 43.
(2) تاريخ بغداد 3 \ 51.
(3) لسان الميزان 2 \ 429، 3 \ 433، 5 \ 146.
(4) الكاشف 1 \ 284، ميزان الاعتدال 2 \ 133، تقريب التهذيب 1 \ 194.(54/245)
والرواية " د " فإن في سندها أحمد بن زهير وهو ينسب أيضا إلى القول بالقدر ولربما -إذا صحت الرواية- يريد بذلك تكثير المنتسبين إلى القول بالقدر (1) .
والرواية " هـ " فإن محمد بن عبد الله بن نمير أحد رواتها نفى أن يكون محمد بن إسحاق قدريا، بل قال: وكان أبعد الناس منه (2) .
أما الرواية الأخيرة وهي رواية ابن عيينة: فلم يجزم بما اتهم به ابن إسحاق، بل جعلها تهمة مبنية للمجهول.
وإجابة ابن سيد الناس خاتمة في رد هذه التهمة التي لم تثبت في حق الإمام الجليل محمد بن إسحاق وهي قوله:
قلت: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته ولا يوقع فيها كبير وهن. . . وكذلك القدر والتشيع لا يقتضي الرد إلا بضميمة أخرى ولم نجدها ها هنا (3) . والله أعلم.
__________
(1) لسان الميزان 1 \ 174.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 43.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 52.(54/246)
ثانيا: الكذب:
أ- اتهام هشام بن عروة لابن إسحاق بالكذب:
قال الرازي: عن يحيى بن سعيد القطان قال: قال هشام بن عروة: هو كان يدخل على امرأتي؟ - يعني محمد بن(54/246)
إسحاق - كالمنكر.
وقال في رواية أخرى قال: أهو كان يصل إليها؟ وقال الرازي: قال عمر بن حبيب: قلت لهشام بن عروة:
حدثنا محمد بن إسحاق قال: ذاك كذاب (1) .
وقال الغلاس: كنا عند وهب بن جرير، فانصرفنا من عنده فمررنا بيحيى القطان فقال: أين كنتم؟ فقلنا: كنا عند وهب بن جرير - يعني نقرأ عليه كتاب المغازي عن أبيه، عن ابن إسحاق - فقال: تنصرفون من عنده بكذب كثير.
وقال يحيى القطان: ما تركت حديثه إلا لله، أشهد أنه كذاب.
وقال يحيى بن سعيد القطان: قال لي وهيب بن خالد: إنه كذاب، قلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك: أشهد أنه كذاب، قلت لمالك: ما يدريك؟
قال: قال لي هشام بن عروة: أشهد أنه كذاب، قلت لهشام: ما يدريك؟ قال: حدث عن امرأتي فاطمة. . . الحديث (2) .
وروى الهيثم بن خلف الدوري: ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 193، تاريخ بغداد 1 \ 222.
(2) عيون الأثر 1 \ 12، سير أعلام النبلاء 7 \ 49- 52.(54/247)
أبو داود صاحب الطيالسة قال: حدثني من سمع هشام بن عروة، وقيل له: إن ابن إسحاق يحدث بكذا وكذا عن فاطمة فقال: كذب الخبيث (1) .
وروى القطان عن هشام أنه ذكره فقال: العدو لله الكذاب يروي عن امرأتي من أين رآها.
وقال العقيلي: حدثنا العباس بن الفضل الإسفاطي، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا وهيب: سمعت هشام بن عروة يقول: ابن إسحاق كذاب (2) .
ويتضح من عرض الروايات السابقة أن مدارها على هشام ابن عروة زوج فاطمة بنت المنذر.
قال الذهبي: قال ابن المديني: سمعت سفيان، وسئل عن ابن إسحاق: لم لم يرو أهل المدينة عنه؟ فقال: جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة، وما يتهمه أحد من أهل المدينة، ولا يقول فيه شيئا، فقلت له: كان ابن إسحاق يجالس فاطمة بنت المنذر؟ فقال: أخبرني أنها حدثته، وأنه دخل عليها، فعقب الذهبي بقوله: هو صادق في ذلك بلا ريب (3) .
وقال الذهبي أيضا: قلت: هشام صادق في يمينه، فما رآها، ولا زعم الرجل أنه رآها، بل ذكر أنها حدثته، وقد سمعنا
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 11، سير أعلام النبلاء 7 \ 51، تاريخ بغداد 1 \ 222.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 48.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 37. \ 50(54/248)
من عدة نسوة وما رأيتهن، وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة، وما رأوا لها صورة أبدا (1) .
وقال يعقوب بن شيبة: سألت عليا - يعني ابن المديني - فهشام بن عروة قد تكلم فيه؟ فقال علي: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها (2) .
وقال الذهبي: قلت: ويحتمل أن تكون إحدى خالات ابن إسحاق من الرضاعة فدخل عليها وما علم هشام بأنها خالة له أو عمة (3) .
وقال ابن سيد الناس: وقد ذكره أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات له فأعرب عما في الضمير فقال: تكلم فيه رجلان: هشام ومالك، فأما هشام فأنكر سماعه من فاطمة، والذي قاله ليس مما يجرح به الإنسان في الحديث، وذلك أن التابعين كالأسود وعلقمة سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، بل سمعوا صوتها، وكذلك ابن إسحاق كان يسمع من فاطمة والستر بينهما مسبل (4) .
وقال عبد الله بن أحمد: فحدثت أبي بحديث ابن إسحاق فقال: وما ينكر هشام، لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له،
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 38.
(2) سير أعلام النبلاء7 \ 44.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 50.
(4) عيون الأثر 1 \ 16.(54/249)
أحسبه قال: "ولم يعلم (1) . وقال الذهبي: قلت قد أجبنا عن هذا، والرجل فما قال:
إنه رآها، أفبمثل هذا يعتمد على تكذيب رجل من أهل العلم، هذا مردود (2) .
إذن سبب اتهام ابن إسحاق بالكذب في جميع الروايات السابقة والتي مدارها على هشام بن عروة سببها رواية ابن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر ودفاع هشام عن زوجته واتهامه بالكذب، ويصبح هذا الاتهام لاغيا وغير معتبر. . . والله أعلم.
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 222، 223.
(2) ميزان الاعتدال 3 \ 471.(54/250)
ب- اتهام مالك لابن إسحاق بالكذب وغيره:
روى مالك عن هشام بن عروة قوله: أشهد أنه كذاب (1) .
قال الرازي: حدثنا أبو سعيد، حدثنا ابن إدريس قال:
قلت لمالك بن أنس وذكر المغازي فقلت: قال ابن إسحاق: أنا بيطارها، فقال: قال لك: أنا بيطارها؟ نحن نفيناه عن المدينة (2) .
وقال الرازي أيضا: نا مسلم بن الحجاج النيسابوري قال:
حدثني إسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 12.
(2) الجرح والتعديل 7 \ 192- 193، سير أعلام النبلاء 7 \ 251، تاريخ بغداد 1 \ 223.(54/250)
ابن إدريس قال: كنت عند مالك بن أنس، وقال له رجل: يا أبا عبد الله إني كنت بالري عند أبي عبيد الله، وثم محمد بن إسحاق فقال محمد بن إسحاق: اعرضوا علي علم مالك فإني أنا بيطاره، فقال مالك: دجال من الدجاجلة يقول: اعرضوا علي علمه؟ (1) وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن ابن إسحاق فقال: هو حسن الحديث ثم قال: قال مالك: وذكره، فقال: دجال من الدجاجلة (2) .
وقال عباس العنبري: سمعت أبا الوليد، حدثني وهيب قال: سألت مالكا عن محمد بن إسحاق فقال: وقال. . . واتهمه (3) .
وقال أبو جعفر العقيلي: حدثني أسلم بن سهل، حدثني محمد بن عمرو بن عون، حدثنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال: قال أبي: سمعت مالكا يقول: يا أهل العراق من يغت -أي يفسد- عليكم بعد محمد بن إسحاق (4) .
وقال الخطيب: كان مالك بن أنس يسيء القول في ابن إسحاق.
أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: أنبأنا الحسين بن علي
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 193، سير أعلام النبلاء 7 \ 50.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 38، تاريخ بغداد 1 \ 223، ميزان الاعتدال 3 \ 469.
(3) سير أعلام النبلاء 7 \ 49.
(4) سير أعلام النبلاء 7 \ 53.(54/251)
التميمي قال: نبأنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: نبأنا الميموني قال: سمعت أبا الوليد هشام بن عبد الملك يقول: كان مالك بن أنس سيئ الرأي في ابن إسحاق.
أخبرنا محمد بن الحسين القطان، قال: أنبأنا دعلج بن أحمد، قال: أنبأنا أحمد بن علي الأبار قال: نبأنا إبراهيم بن زياد سبلان قال: نبأنا حسين بن عروة قال: سمعت مالك بن أنس يقول: محمد بن إسحاق كذاب (1) .
وقال ابن حبان: وقد تكلم في ابن إسحاق رجلان:
هشام بن عروة، ومالك بن أنس، أما مالك فإنه كان ذلك منه مرة واحدة، ثم عاد له إلى ما يحب، وذلك أنه لم يكن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الناس وأيامهم من محمد بن إسحاق، وكان يزعم أن مالكا من موالي ذي أصبح، وكان مالك يزعم أنه من أنفسهم، فوقع بينهما لهذا مفاوضة، فلما صنف مالك الموطأ قال ابن إسحاق: ائتوني به فأنا بيطاره، فنقل إلى مالك فقال: هذا دجال من الدجاجلة، يروي عن اليهود.
وكان بينهم ما يكون بين الناس حتى عزم محمد بن إسحاق على الخروج إلى العراق فتصالحا حينئذ فأعطاه مالك عند الوداع خمسين دينارا ونصف ثمرته تلك السنة، ولم يكن يقدح فيه مالك من أجل الحديث إنما كان ينكر عليه تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وبني قريظة،
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 223.(54/252)
والنضير، ما أشبهها من الغزوات عن أسلافهم، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا عنهم ليعلم من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن صدوق فاضل يحسن ما يروي ويدري ما يحدث (1) .
والإجابة على اتهام مالك لابن إسحاق بالكذب والدجل وغير ذلك من وجوه:
1 - إحدى الروايات التي يتهم فيها مالك ابن إسحاق بالكذب هي عن هشام بن عروة، وقد تقدم أن هشام بن عروة اتهمه بالكذب؛ لأنه حدث عن زوجته، وهذا الاتهام مردود.
2 - وروايات أخرى اتهم مالك ابن إسحاق بأنه كذاب وأنه دجال وأنهم- أي أهل المدينة - نفوه من المدينة، وسبب هذا الرأي السيئ في ابن إسحاق أن ابن إسحاق كان عالما بالأنساب فذكر أن مالك بن أنس من موالي ذي أصبح، وكان مالك يزعم أنه من أنفسهم، مما أوغر صدر مالك عليه فجرحه جرحا بليغا، وجرحه هذا لسبب ذاتي شخصي.
والسبب الثاني: أن مالكا ألف كتابه " الموطأ " فقال ابن إسحاق: اعرضوا علي علم مالك فأنا بيطاره، فلما بلغ مالك بن أنس قول ابن إسحاق قال كلمته المشهورة فيه: " دجال من الدجاجلة " مما أصل قوله السيئ في ابن إسحاق، ولا شك أن قول مالك بن أنس في محمد بن إسحاق غير معتبر، بل ومردود،
__________
(1) الثقات لابن حبان 7 \ 381- 383.(54/253)
والقاعدة المشهورة في علم الرجال: أن كلام الأقران في بعضهم غير مقبول.
وهنا بعض أقوال العلماء التي تؤكد رد كلام مالك في ابن إسحاق:
قال سفيان: إنه ما رأى أحدا يتهمه، أي ابن إسحاق.
وقال الذهبي: قال البخاري: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق.
وقال: قال إبراهيم بن المنذر: حدثنا عمر بن عثمان أن الزهري كان تلقف المغازي من ابن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر، والذي يذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يتبين، وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك، أخرج إلي كتب ابن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخب منها كثيرا (1) .
وقال الذهبي: وذكر البخاري هنا فصلا حسنا عن رجاله، وإبراهيم بن سعد، وصالح بن كيسان، فقد أكثر عن ابن إسحاق، قال البخاري: ولو صح عن مالك تناوله من ابن إسحاق، فلربما تكلم الإنسان، فيرمي صاحبه بشيء واحد، ولا يتهمه من الأمور كلها، قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في "الموطأ" وهما ممن يحتج بهما، ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 39.(54/254)
فيهم، ونحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة وفيمن كان قبلهم، وتناول بعضهم في العرض والنفس، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة، والكلام في هذا كثير.
قال الذهبي: قلت: لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة، وقد علم أن كثيرا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به، ولا سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف، وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر، فله ارتفاع بحسبه ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا. هذا الذي عندي في حاله، والله أعلم (1) . وقال ابن سيد الناس: ولم يكن يقدح فيه مالك من أجل الحديث، إنما كان ينكر عليه تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وقريظة والنضير وما أشبه ذلك من الغرائب عن أسلافهم، وكان ابن إسحاق يتتبع ذلك عنهم ليعلم ذلك من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن صدوق، قلت: ليس ابن إسحاق، أبا عذرة هذا القول،
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 40- 41.(54/255)
في نسب مالك، فقد حكي شيء من ذلك عن الزهري وغيره (1) . وبهذه النصوص نصل إلى أن جرح مالك بن أنس لابن إسحاق جرح غير معتبر، وإنما سببه ما وقع بينهما من عداوة، حيث تكلم ابن إسحاق في نسب مالك وتحداه لكتابه ولعلمه، ومعلوم عند أهل الجرح والتعديل أن كلام الأقران لا يؤخذ في بعضهم، فما بالك إذا انضاف إلى ذلك ثبوت العداوة بينهما.
ج- اتهام يحيى بن سعيد القطان لابن إسحاق بالكذب وترك حديثه:
قال ابن سيد الناس: قال يحيى بن القطان: ما تركت حديثه إلا لله، أشهد أنه كذاب (2) .
وقال يحيى بن سعيد: قال لي وهيب بن خالد: إنه كذاب، قلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي خالك: أشهد أنه كذاب، قلت لمالك: ما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة: أشهد أنه كذاب، قلت لهشام: ما يدريك؟ قال: حدث عن امرأتي فاطمة (3) .
وروى ابن معين عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان لا يرضى محمد بن إسحاق ولا يحدث عنه (4) .
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 17.
(2) عيون الأثر 1 \ 12، ميزان الاعتدال 3 \ 471.
(3) عيون الأثر 1 \ 13، سير أعلام النبلاء 7 \ 48، 49.
(4) عيون الأثر 1 \ 11.(54/256)
وقال أبو موسي محمد بن المثنى: ما سمعت يحيى القطان يحدث عن ابن إسحاق شيئا قط (1) .
وقال ابن المديني: سمحت يحيى يقول: قال إنسان للأعمش: إن ابن إسحاق حدثنا عن ابن الأسود، عن أبيه بكذا وكذا، فقال: كذب ابن إسحاق، وكذب ابن الأسود، حدثني عمارة بكذا وكذا (2) .
وقال الرازي: قال أبو حفص الغلاس: كنا عند وهب بن جرير فانصرفنا من عنده فمررنا بيحيى بن سعيد القطان فقال: أين كنتم؟ قلنا: كنا عند وهب بن جرير -يعني يقرأ علينا كتاب المغازي عن أبيه، عن ابن إسحاق - قال:
تنصرفون من عنده بكذب كثير (3) .
وقال الرازي: حدثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا علي- يعني ابن المديني - قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: قلت لهشام بن عروة: إن ابن إسحاق يحدث عن فاطمة بنت المنذر فقال: أهو كان يصل إليها؟ فقلت ليحيى: كان محمد بن إسحاق بالكوفة وأنت بها؟ قال نعم، قلت: تركته متعمدا؟ قال: نعم تركته متعمدا ولم أكتب عنه حديثا قط (4) .
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 11.
(2) سير أعلام النبلاء 7 \ 52.
(3) الجرح والتعديل 7 \ 193، ميزان الاعتدال 3 \ 469، سير أعلام النبلاء 7 \ 52.
(4) الجرح والتعديل 7 \ 193، عيون الأثر 1 \ 11.(54/257)
وقيل لأحمد بن حنبل: أروى عنه يحيى بن سعيد؟ قال: لا (1) وقال أبو قلابة الرقاشي: حدثني أبو داود سليمان بن داود قال: قال يحيى القطان: أشهد أن محمد بن إسحاق كذاب (2) . وبتأمل النصوص التي ذكرت أن يحيى بن سعيد القطان كان يتهم محمد بن إسحاق بالكذب نجدها إما رواية عن هشام بن عروة، وقد تقدم الكلام على رواية ابن إسحاق عن زوجة هشام ابن عروة فاطمة بنت المنذر.
وإما تقليدا لمالك وتقليدا لهشام بن عروة، كما قرر ذلك جماعة من أهل العلم: قال ابن سيد الناس: وأما ترك يحيى بن سعيد القطان حديثه فقد ذكرنا السبب في ذلك وتكذيبه إياه رواية عن وهيب بن خالد بن مالك عن هشام فهو ومن فوقه في هذا الإسناد تبع لهشام (3) .
وقال ابن حجر: وكذبه سليمان التيمي ويحيى القطان ووهيب ابن خالد، فأما وهيب والقطان فقلدا فيه هشام بن عروة ومالكا، وأما سليمان التيمي فلم يتبين لأي شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غير الحديث؟ لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل (4) .
__________
(1) ميزان الاعتدال 3 \ 470.
(2) ميزان الاعتدال 3 \ 471.
(3) عيون الأثر 1 \ 14.
(4) التهذيب 9 \ 45.(54/258)
وقال ابن سيد الناس أيضا: وأما ما نقلناه عن يحيى بن سعيد عن طريق ابن المديني ووهب بن جرير فلا يبعد أن يكون قلد مالكا؛ لأنه روى عنه قول هشام فيه (1) .
ومعلوم أيضا أن يحيى بن سعيد القطان من المتشددين في الحكم على الرجال، والله أعلم.
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 16.(54/259)
ثالثا: التشيع:
قال أبو إسحاق الجوزجاني: ابن إسحاق الناس يشتهون حديثه، وكان يرمى بغير نوع من البدع (1) .
وقال الخطيب: وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها: أنه كان يتشيع (2) . وقال ابن سيد الناس: قلت: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته ولا يوقع فيها كبير وهن. . . وكذلك القدر والتشيع لا يقتضي الرد إلا بضميمة أخرى ولم نجدها هاهنا (3) .
ويتضح أن هذه التهمة -إن ثبتت عليه- فهي ليست رفضا، بل تشيع يسير لا يرد به حديثه، مع أن هذا الجرح غير مفسر، والله أعلم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 43، تاريخ بغداد 1 \ 225.
(2) تاريخ بغداد 1 \ 224.
(3) عيون الأثر 1 \ 13.(54/259)
رابعا: التدليس:
قال الرازي: قال الأثرم لأبي عبد الله: ما تقول في محمد بن إسحاق؟ قال: هو كثير التدليس جدا، فكان أحسن حديثه عندي ما قال: أخبرني وسمعت (1) .
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل ذكره فقال: كان رجلا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه (2) .
وقال أحمد: كان يدلس، إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد إذا كان سماعا قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال (3) .
وقال الذهبي عن رواية أبي داود عن أحمد بن حنبل: قلت: هذا الفعل سائغ فهذا (الصحيح) للبخاري فيه تعليق كثير (4) .
وقال ابن سيد الناس: وأما التدليس فمنه القادح في العدالة وغيره ولا يحمل ما وقع هاهنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في العدالة (5) .
وقال ابن سيد الناس أيضا: وأما قوله كان يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه فلا يتم الجرح بذلك حتى
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 194، عيون الأثر 1 \ 12.
(2) عيون الأثر 1 \ 12، التهذيب 9 \ 43.
(3) عيون الأثر 1 \ 12، سير أعلام النبلاء 7 \ 46.
(4) سير أعلام النبلاء 7 \ 46.
(5) عيون الأثر 1 \ 13.(54/260)
ينفي أن تكون مسموعة له، ويثبت أن يكون حدث بها ثم ينظر بعد ذلك في كيفية الأخبار، فإن كان بألفاظ لا تقتضي السماع تصريحا فحكمه حكم المدلسين ولا يحسن الكلام معه إلا بعد النظر في مدلول تلك الألفاظ، وإن كان يروي ذلك عنهم مصرحا بالسماع ولم يسمع فهذا كذب صراح واختلاق محض لا يحسن الحمل عليه إلا إذا لم يجد للكلام مخرجا غيره (1) .
وقال ابن حبان: وإنما أتى لأنه كان يدلس على الضعفاء فوقع المناكير في روايته من قبل أولئك، فأما إذا بين السماع فيما يرويه فيما يرويه فهو ثبت، يحتج بروايته (2) .
وذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين، وهم من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل (3) .
وقال العقيلي: حدثني الخضر بن داود، حدثنا أحمد بن محمد، قلت لأبي عبد الله: ما تقول في ابن إسحاق؟ قال: هو كثير التدليس جدا، قلت: فإذا قال: أخبرني، وحدثني؟ قال؟: فهو ثقة (4) .
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 15.
(2) الثقات لابن حبان 7 \ 383.
(3) طبقات المدلسين ص 22- 79، ط الأولى 407 أهـ تحقيق د. محمد زينهم.
(4) سير أعلام النبلاء 7 \ 54.(54/261)
وقال ابن سيد الناس أيضا:
وأما قوله لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره فهو أيضا إشارة إلى الطعن بالرواية عن الضعفاء، لمحل ابن الكلبي من التضعيف، والراوي عن الضعفاء لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يصرح باسم الضعيف أو يدلسه فإن صرح به فليس فيه كبير أمر روى عن شخص ولم يعلم حاله أو علم وصرح به ليبرأ من العهدة، وإن دلسه فإما أن يكون عالما بضعفه أو لا، فإن لم يعلم فالأمر في ذلك قريب، وإن علم به وقصد بتدليس الضعيف وتغييره وإخفائه ترويج الخبر، حتى يظن أنه من أخبار أهل الصدق وليس كذلك، فهذه جرحة من فاعلها وكبيرة من مرتكبها وليس في أخبار أحمد عن ابن إسحاق ما يقتضي روايته عن الضعيف وتدليسه إياه مع العلم بضعفه حتى ينبني على ذلك قدح أصلا، وجواب ثان: محمد بن إسحاق مشهور بسعة العلم وكثرة الحفظ فقد يميز من حديث الكلبي وغيره مما يجري مجراه ما يقبل مما يرد فيكتب ما يرضاه ويترك ما لا يرضاه، وقد قال يعلى ابن عبيد: قال لنا سفيان الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل له: فإنك تروي عنه، فقال: أنا أعرف صدقه من كذبه، ثم غالب ما يروى عن الكلبي أنساب وأخبار من أحوال الناس وأيام العرب وسيرهم وما يجري مجرى ذلك مما سمح كثير من الناس في حمله عمن لا تحمل عنه الأحكام، وممن حكى عنه الترخص في ذلك الإمام أحمد، وممن حكى عنه التسوية في ذلك بين الأحكام وغيرها(54/262)
يحيى بن معين، وفي ذلك بحث ليس هذا موضعه (1) .
وبتأمل ما ورد من نصوص في اتهام محمد بن إسحاق بالتدليس نجد أنها كلها من رواية الإمام أحمد بن حنبل، وقد ثبت في باب توثيق العلماء له أنه قال عنه: حسن الحديث، وكان يتعجب من حسن القصص الذي يجيء به محمد بن إسحاق، وثبت أن عبد الله بن أحمد قال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيرا بالعلو والنزول، ويخرجه في المسند، وما رأيته اتقى حديثه قط، وقدم الإمام أحمد بن حنبل محمد بن إسحاق على موسى بن عبيدة الربذي، وأنكر على هشام بن عروة في انتقاده ابن إسحاق في تحديثه عن زوجته فقال: وما ينكر لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له -أحسبه قال- ولم يعلم.
والإمام أحمد وثقه إذا صرح بالسماع، وأثبت أن كتاب إبراهيم بن سعد يبين السماع من غيره.
وثبت -كما ورد في كلام الذهبي وابن سيد الناس - أنه يذكر من يحدث عنهم إذا كانوا ضعفاء سواء كان عالما بحالهم أو لم يعلم.
ونخلص إلى أن محمد بن إسحاق كان يصرح بسماع أكثر ما سمعه سواء كان عن الثقات أو عن الضعفاء، والذي ليس فيه تصريح ليس بقادح، كما قال الذهبي وابن سيد الناس؛ لأنه لا يستحل الكذب.
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 15.(54/263)
وإن ثبت عليه التدليس -فهو ليس يجرح في شخصه، بل في اتصال ما رواه بالعنعنة، فما صرح فيه بالسماع فهو مقبول إن توافرت فيه بقية الشروط، وما كان فيه بصيغة (عن) و (قال) ونحوها فهو ضعيف لاحتمال التدليس فيه، كما هو مقرر عند أكثر أهل العلم، والله أعلم.(54/264)
خامسا: اتهام محمد بن إسحاق برواية أحاديث في الصفات:
قال الخطيب: أخبرنا ابن الفضل، قال: أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: نبأنا يعقوب بن سفيان. قال: سمعت مكي بن إبراهيم يقول: جلست إلى محمد بن إسحاق وكان يخضب بالسواد فذكر أحاديث في الصفة [أو الصفات] فنفرت منها، فلم أعد إليه.
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الحازمي البخاري، قال: نبأنا إسحاق بن أحمد ابن خلف البخاري، قال: سمعت عبد الصمد بن الفضل، يقول: سمعت مكي بن إبراهيم، يقول: حضرت مجلس محمد بن إسحاق فإذا هو يروي أحاديث في صفة الله تعالى لم يحتملها قلبي، فلم أعد إليه.
أخبرنا محمد بن الحسين القطان، قال: أنبأنا دعلج بن أحمد، قال: أنبأنا أحمد بن علي الأبار، قال: أنبأنا عبد الرحيم ابن خازم، قال: مكي بن إبراهيم: جعفر بن محمد، ومحمد بن إسحاق، والحجاج بن أرطأة، نبلوا بعد موتهم. قال: وسمعته(54/264)
يقول: تركت حديث ابن إسحاق وقد سمعت منه بالري عشرين مجلسا، فسمعت منه شيئا فتركته (1) .
وقال ابن سيد الناس: في الأجوبة عما رمي به: وأما قول مكي بن إبراهيم أنه ترك حديثه ولم يعد إليه، فقد علل ذلك بأنه سمعه يحدث أحاديث في الصفات فنفر منه، وليس في ذلك كبير أمر، فقد ترخص قوم من السلف في رواية المشكل من ذلك وما يحتاج إلى تأويله، لا سيما إذا تضمن الحديث حكما أو أمرا آخر، وقد تكون هذه الأحاديث من هذا القبيل (2) .
وما ذكره ابن سيد الناس كاف في الإجابة على هذه التهمة علما بأنه لم يصل إلينا طبيعة هذه الأحاديث وهل هي صحيحة أم ضعيفة؟ وما هو المأخذ عليه فيها؟ ثم إنه لم يبين تلك الأحاديث التي وقع في قلبه منها شيء فربما كانت صحيحة، والصفة إذا صح إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهي ثابتة سواء احتملها قلب مكي أو لم يحتملها، وهذا جرح مجمل دم يبين، كما لم يأت في أحاديثه من الصفات ما ينكر عليه.
__________
(1) تاريخ بغداد 1 \ 226، ميزان الاعتدال 3 \ 474.
(2) عيون الأثر 1 \ 13- 14.(54/265)
سادسا: الضعف في الحديث:
1 - تضعيف أحمد بن حنبل له:
وقال أحمد: ليس هو بحجة.
وقيل له: يحتج به؟ قال: لم يكن يحتج به في السنن.(54/265)
وقال أيوب بن إسحاق بن سافري: سألت أحمد بن حنبل فقلت: إذا انفرد ابن إسحاق بحديث تقبله؟ قال: لا والله، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا (1) .
وقال عباس الدوري: سمعت أحمد بن حنبل وذكر محمد ابن إسحاق فقال: أما في المغازي وأشباهه فيكتب، وأما في الحلال والحرام، فيحتاج إلى مثل هذا، ومد يده، وضم أصابعه (2) .
وقال ابن سيد الناس: وأما قول أحمد: يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا وقد تتحد ألفاظ الجماعة وإن تعددت أشخاصهم، وعلى تقدير أن لا يتحد اللفظ فقد يتحد المعنى، روينا عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثتكم على المعنى فحسبكم، وروينا عن محمد بن سيرين، قال: كنت أسمع الحديث من عشرة اللفظ مختلف والمعنى واحد، وقد تقدم من كلام ابن المديني أن حديثه ليتبين فيه الصدق يروي مرة حدثني أبو الزناد ومرة ذكر أبو الزناد الفصل إلى آخره: ما يصلح لمعارضة هذا الكلام، واختصاص ابن المديني بسفيان معلوم، كما علم اختصاص سفيان بمحمد بن إسحاق، وأما قول عبد الله عن أبيه: لم يكن يحتج به في السنن. فقد يكون
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 46، عيون الأثر 1 \ 11، 12.
(2) عيون الأثر 1 \ 12، الجرح والتعديل 7 \ 193.(54/266)
لما آنس منه التسامح في غير السنن التي هي جل علمه من المغازي والسير، طرد الباب فيه، وقاس مروياته من السنن على غيرها. وطرد الباب في ذلك يعارضه تعديل من عذله (1) .
ومعلوم تعديل الإمام أحمد بن حنبل لابن إسحاق وقد تقدم بطوله في توثيق العلماء له، ومنها أنه قال: حسن الحديث، واستحسن قصص ابن إسحاق، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبي يتتبع حديثه -يعني ابن إسحاق - ويكتبه كثيرا بالعلو والنزول، ويخرجه في المسند، وما رأيته اتقى حديثه قط.
ويمكن مناقشة ما روي عن الإمام أحمد بن حنبل:
1 - يمكن حمل قوله: ليس بحجة، أي ليس في درجة الصحيح المحتج به، بل الحسن وهذا هو المقرر عند أكثر أهل العلم أن حديثه حسن.
2 - أثبت عبد الله بن أحمد أن حديثه مخرج في المسند، وهذا رد على القول بأنه لم يحتج به في السنن.
ثم إن الناظر في المسند يجده قد أخرج حديثه فيه، بل هو كثير، والمسند قد انتقاه من آلاف الأحاديث، فلو لم ير الاحتجاج بحديثه لما أخرجه في المسند.
3 - إدخاله الحديث في الحديث لعله من باب الرواية بالمعنى، كما قال ابن سيد الناس، وعلى ذلك أكثر أهل العلم قبل تدوين الكتب.
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 14، 15، 16.(54/267)
2 - تضعيف يحيى بن معين له:
قال الرازي: حدثنا محمد بن هارون الغلاس المخرمي قال: سألت يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق فقال: ما أحب أن أحتج به في الفرائض (1) .
وقال الرازي أيضا: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: لم يزل الناس يتقون حديث محمد بن إسحاق (2) .
وقال مرة أخرى: ليس بذاك هو ضعيف (3) .
وروى الدوري عنه ثقة ولكنه ليس بحجة (4) .
وقال ابن سيد الناس: وأما قول يحيى ثقة وليس بحجة فيكفينا التوثيق ولو لم يكن يقبل إلا مثل العمري - عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - ومالك، لقل المقبولون (5) .
وقد تقدم في مبحث "توثيق العلماء له " توثيق يحيى بن معين لابن إسحاق مثل: قوله: مدار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة فذكرهم، ثم قال: وصار علم الستة عند اثني عشر، أحدهم
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 194، عيون الأثر 1 \ 12.
(2) الجرح والتعديل 7 \ 194، عيون الأثر 1 \ 11.
(3) الجرح والتعديل 7 \ 194، عيون الأثر 1 \ 11.
(4) عيون الأثر 1 \ 11.
(5) عيون الأثر 1 \ 16.(54/268)
ابن إسحاق. وقوله: " ثبت في الحديث "، وقوله: " صدوق "، وقوله: " ليس به بأس ".
ويتضح من العرض السابق أن هناك تعارضا بين التعديل والتجريح لكنه ذكر أنه لا يحتج به في الفرائض، وكأن يحيى بن معين هنا يفرق بين أحاديث الأحكام، وبين أحاديث المغازي، ويحمل على أن حديثه ليس من الصحيح، بل من الحسن.
3 - تضعيف أبي حاتم الرازي له:
قال أبو حاتم: محمد بن إسحاق ليس عندي في الحديث بالقوي، ضعيف الحديث (1) .
وثبت أن أبا حاتم وثق ابن إسحاق، كما تقدم في مبحث (توثيق العلماء له) . ومنها قوله: يكتب حديثه، وقوله: لم يكن أحد بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه ولا يوازيه في جمعه، وقوله: كان محمد بن إسحاق يكتب عمن فوقه ومثله ودونه لرغبته في العلم، وحرصه عليه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه.
ويتضح أن هناك تعارضا بين تعديل أبي حاتم لابن إسحاق وتجريحه له لكن جرحه له غير مفسر، وتعديله ثابت فيقدم التعديل على التجريح غير المفسر من جانب ومن جانب آخر فأبو حاتم متشدد، ويحمل على أنه يعني ليس بأقوى ما يكون، ولعله قلد مالكا وهشام بن عروة في ذلك.
__________
(1) الجرح والتعديل 7 \ 194.(54/269)
4 - تضعيف حماد بن سلمة له:
روى أبو داود عن حماد بن سلمة قال: لولا الاضطرار ما حدثت عن محمد بن إسحاق (1) .
وروى الهيثم بن خلف الدوري، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو داود صاحب الطيالسة قال: حدثني من سمع هشام بن عروة وقيل له: إن ابن إسحاق يحدث بكذا وكذا عن فاطمة فقال: كذب الخبيث (2) .
وفيما يبدو أن الرواية الأولى تفسر الرواية الثانية التي في سندها انقطاع، فلعله حماد بن سلمة وبالتالي يتضح أن حماد بن سلمة مقلد لهشام بن عروة، هذا من جانب ومن جانب آخر فهو روى عن ابن إسحاق، ومن جانب ثالث فهو ضعفه من دون أن يذكر سبب هذا الجرح فيسقط هذا التضعيف، والله أعلم.
5 - تضعيف النسائي له:
قال النسائي: ليس بالقوي (3) .
أولا: النسائي يعتبر من المتشددين في الحكم في الرجال وهذا الجرح لا يعتبر قويا.
ثانيا: لم يفسر النسائي أسباب جرحه لابن إسحاق.
ثالثا: يحمل كلام النسائي في ابن إسحاق على أنه ليس
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 11.
(2) عيون الأثر 1 \ 11.
(3) عيون الأثر 1 \ 11.(54/270)
بأقوى ما يكون فقد قال في كثير من الرواة الصدوقين والمقبولين: " ليس بالقوي "، يعني بأقوى ما يمكن.
رابعا: لربما كان النسائي أيضا مقلدا لمالك وهشام بن عروة.
6 - تضعيف الدارقطني له:
قال البرقاني: سألت الدارقطني عن محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه: فقال: جميعا لا يحتج بهما وإنما يعتبر بهما (1) . وبتأمل جرح الدارقطني لابن إسحاق نجد أنه مقلد ليحيى ابن معين وغيره، وهو جرح غير مفسر فلا يعتبر به أو يعني حديثه من نوع الصحيح المحتج به، بل من الحسن.
ونخلص في نهاية هذا المبحث إلى أن كل من ضعف ابن إسحاق، ضعفه من دون دليل ومعارض عند الأغلبية ممن ضعفه بالتعديل، وقد احتج بحديث ابن إسحاق في الأحكام كل من الترمذي، وابن حبان وغيرهما ممن عدله ولم يجرحه البتة وبالتالي فتضعيف ابن إسحاق مردود، والله أعلم.
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 11.(54/271)
سابعا: حديث ابن إسحاق عن المجهولين والضعفاء:
قال أبو عبد الله: قدم محمد بن إسحاق إلى بغداد، فكان لا يبالي عمن يحكي، عن الكلبي وغيره (1) .
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 12.(54/271)
وقال ابن سيد الناس: روينا عن يعقوب بن شيبة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير، وذكر ابن إسحاق فقال: إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة (1) .
وقال ابن سيد الناس أيضا: وأما قوله: (لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره) فهو أيضا إشارة إلى الطعن بالرواية عن الضعفاء لمحل ابن الكلبي من التضعيف والراوي عن الضعفاء لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يصرح باسم الضعيف أو يدلسه، فإن صرح به فليس فيه كبير أمر روى عن شخص ولم يعلم حاله أو علم وصرح به ليبرأ من العهدة، وإن دلسه فإما أن يكون عالما بضعفه أو لا، فإن لم يعلم فالأمر في ذلك قريب وإن علم به وقصد بتدليس الضعيف وتغييره وإخفائه ترويج الخبر حتى يظن أنه من أخبار أهل الصدق وليس كذلك فهذه جرحة من فاعلها وكبيرة من مرتكبها، وليس في أخبار أحمد عن ابن إسحاق ما يقتضي روايته عن الضعيف وتدليسه إياه مع العلم بضعفه حتى ينبني على ذلك قدح أصلا وجواب ثان: محمد بن إسحاق مشهور بسعة العلم، وكثرة الحفظ فقد يميز من حديث الكلبي وغيره مما يجري مجراه ما يقبل مما يرد فيكتب ما يرضاه ويترك ما لا يرضاه، وقد قال يعلى بن عبيد: قال لنا سفيان الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل له: فإنك تروي عنه، فقال: أنا أعرف صدقه
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 10.(54/272)
من كذبه، ثم غالب ما يروى عن الكلبي أنساب وأخبار الناس وأيام العرب وسيرهم وما يجري مجرى ذلك مما سمح كثير من الناس في حمله عمن لا تحمل عنه الأحكام، وممن حكي عنه الترخص في ذلك الإمام أحمد، وممن حكي عنه التسوية في ذلك بين الأحكام وغيرها يحيى بن معين، وفي ذلك بحث ليس هذا موضعه (1) .
وقال ابن سيد الناس أيضا: وأما قول ابن نمير: إنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة فلو لم ينقل توثيقه وتعديله لتردد الأمر في التهمة بها بينه وبين من نقلها عنه، وأما مع التوثيق والتعديل فالحمل فيها على المجهولين المشار إليهم لا عليه، وأما الطعن على العالم بروايته عن المجهولين فغريب قد حكي ذلك عن سفيان الثوري وغيره، وأكثر ما فيه التفرقة بين بعض حديثه وبعض، فيرد ما رواه عن المجهولين ويقبل ما حمله على المعروفين، وقد روينا عن أبي عيسى الترمذي، قال: سمعت محمد بن بشار يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ألا تعجبون من سفيان بن عيينة لقد تركت لجابر الجعفي لما حكي عنه أكثر من ألف حديث ثم هو يحدث عنه، قال الترمذي: وقد حدث شعبة عن جابر الجعفي وإبراهيم الهجري ومحمد بن عبيد الله العرزمي وغير واحد ممن يضعف في الحديث (2) .
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 15.
(2) عيون الأثر 1 \ 14.(54/273)
ونخلص إلى أن رواية الأئمة عن الضعفاء والمجهولين إذا لم يصحبه تدليس لهم ليس بجرح؛ لأنه يعرف المتصل من غيره، وينتقي من أحاديثهم، والكلبي منسوب إلى الضعف فرواية ابن إسحاق عنه ليس بجرح، والله أعلم.(54/274)
ثامنا: روايته عن أبناء اليهود:
قال إبراهيم الحزامي: عن ابن أبي فديك قال: رأيت محمد بن إسحاق يكتب عن رجل من أهل الكتاب (1) .
فعقب الذهبي بقوله؟ قلت: هذا يشنع به على ابن إسحاق، ولا ريب أنه حمل ألوانا عن أهل الذمة مترخصا بقوله صلى الله عليه وسلم «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج (2) » .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثني بعض أصحابنا قال: سمعت ابن إسحاق يقوله: حدثني الثقة، فقيل له: من؟ قال: يعقوب اليهودي (3) .
وقال ابن سيد الناس: ولم يكن ويقدح فيه مالك من أجل الحديث، إنما ينكر عليه تتبعه غزوات صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصه خيبر وقريظة والنضير وما أشبه ذلك من الغرائب عن أسلافهم، وكان ابن إسحاق يتتبع ذلك عنهم؛
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 \ 53، ميزان الاعتدال 3 \ 470.
(2) صحيح البخاري 6 \ 361، في أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) ميزان الاعتدال 3 \ 471.(54/274)
ليعلم ذلك من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن صدوق (1) .
وهذا الاتهام ليس بقادح؛ فما دام يعقوب اليهودي أو غيره أسلم وحسن إسلامه فإنه أصبح من المسلمين، وكونه يتتبع روايات قصة خيبر، وقريظة، والنضير وغيرها، ويكتبها من غير أن يحدث بها، ولكن لينظر فيها؛ لا شيء فيه، فالكتابة عن كل أحد لا مطعن فيها فقد قالوا: إذا كتبت فغمش، وإذا حدثت ففتش.
وأيضا فحديثه صلى الله عليه وسلم دليل على جواز الاستماع إلى أهل الكتاب والكتابة أيضا، خاصة ما دام الأمر ليس في الحلال والحرام وإنما في الأخبار.
ثم إن رواية أبي داود منقطعة لا حجة فيها فهي عن بعض أصحابه ولم يسمه، ويعقوب هذا لعله من مسلمة أهل الكتاب الذين حسن إسلامهم، ولم يورد دليلا على صحة مقالته سوى هذه الرواية المنقطعة، وليس غريبا أن يصفوا من أسلم بأنه يهودي، فقد وصفوا كعب الأحبار وغيره باليهودي باعتبار ما كان سالفا، وهذا وإن كان لا يجوز لمن أسلم وحسن إسلامه، لكنه وارد في مقالة السابقين كثيرا، وأيضا فهل وجد الناظر في حديثه في السير والمغازي شيئا من روايته عن يهودي أو نصراني؟!
وإذن فهذه التهمة لا تقدح فيه أصلا، وبالله التوفيق.
__________
(1) عيون الأثر 1 \ 17، التهذيب 9 \ 45، الثقات لابن حبان 7 \ 382، 383.(54/275)
الخاتمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن محمد بن إسحاق بن يسار اختلف فيه تعديلا وتجريحا، وكان المعدلون أكثر عددا، وممن يعتد برأيه، مثل:
1 - محمد بن مسلم.
2 - أحمد بن عبد الله العجلي.
3 - علي بن المديني.
4 - عبد الرحمن بن عمرو (أبو زرعة) .
5 - عبد الله بن المبارك.
6 - الذهبي.
7 - محمد بن سعد.
8 - ابن سيد الناس.
9 - أبو معاوية.
10 - يزيد بن هارون.
11 - الحاكم.
12 - علي الحلواني.
13 - شعبة بن الحجاج.
14 - محمد بن إسماعيل البخاري.
15 - محمد بن إدريس الشافعي.
16 - عبد الله بن أحمد بن حنبل. 17- ابن حبان.(54/276)
18 - ابن عدي.
19 - الخطيب البغدادي.
20 - عبد الله بن فايد.
21 - أبو يعلى الخليلي.
22 - البوشجني.
23 - محمد بن عبد الله بن نمير.
وقد تعارض التعديل والتجريح عند كل من:
1 - يحيى بن معين.
2 - أحمد بن حنبل.
3 - أبو حاتم الرازي.
4 - محمد بن عبد الله بن نمير.
وكان تجريحهم لابن إسحاق غير مفسر فثبت تعديلهم له ورد الجرح.
وقد جرحه كل من:
1 - مالك بن أنس.
2 - هشام بن عروة.
3 - يحيى القطان.
4 - حماد بن سلمة.
5 - سليمان التيمي.
6- ابن أبي فديك.
7 - الدارقطني.
8 - النسائي.(54/277)
9 - مكي بن إبراهيم.
10 - أبو إسحاق الجوزجاني.
فأما الأول: فبسبب اتهامه من قبل ابن إسحاق بأنه من موالي ذي أصبح، وليس من أنفسهم، وسبب آخر قوله: هات كتاب مالك فأنا بيطاره.
وأما الثاني: فمن أجل أنه حدث عن امرأته فاطمة بنت المنذر.
وأما القطان، وحماد بن سلمة، وسليمان التيمي، والدارقطني، والنسائي فهم مقلدون في جرحهم له لغيرهم.
وأما ابن أبي فديك، ومكي بن إبراهيم، وأبو إسحاق الجوزجاني، فجرحهم غير مفسر.
ويتضح أن إمام المغازي محمد بن إسحاق بن يسار: ثقة، إمام في المغازي، صدوق في الحديث، لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، وكل التهم التي اتهم بها غير مسلم بها، بل لم تثبت، والذي ثبت هو تعديله والثناء عليه، فالحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والله أعلم.(54/278)
من رواد العلم والتعليم في المملكة
الشيخ: محمد بن عبد العزيز المانع (1)
1300 - 1385 هـ
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الحديث عن العلماء الأعلام، والرجال الذين تركوا أثرا في جهودهم وأعمالهم لمما يتشوق إليه القارئ، ويتطلع إليه ذوو المعرفة؛ لأن سجل الأمة لا يرصد إلا بجهود رجالها، ولا تبرز مكانتها إلا بما تحقق من تلك الأعمال التي كانت موضع اهتمام أعلام الأمة على اختلاف مهامهم في المسيرة، إذ كل فرد قد يبرز في ميدان غير ميدان الآخر.
والشيخ محمد بن مانع الذي وكل إليه الملك عبد العزيز -رحمهما الله- مهمة الإشراف على التعليم في المملكة فترة من الزمن، واحد من علماء هذه البلاد الذي اهتموا بالعلم وبذلوا طاقتهم في نيل المراتب الرفيعة منه متابعة وشدا للرحال؛ بدافع
__________
(1) مدير عام المعارف في المملكة العربية السعودية من عام 1365 هـ- 1373 هـ.(54/279)
الهمة وحب العلم لذات العلم، حيث بذل في سبيله أقصى ما يستطاع من جهد وتغرب عن الأوطان؛ إرضاء لنهمة في نفسه، وحبا في الارتقاء درجات في المكانة العلمية، وتحمل في هذا الطريق المشاق متمثلا بقول الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... فكن طالبا في الناس أعلى المراتب
فصبر وصابر واغترب وتحمل في زمن تشق الغربة ويشتد ألمها، ولسان حاله يردد مع الإمام الشافعي رحمه الله قوله:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة ... وعلم وآداب وصحبة ماجد
فكان متأسيا بالعلماء من سلف هذه الأمة في حب العلم دراسة وتدريسا وتحمل شظف العيش في سبيله؛ استهانة بالتعب ووعثاء السفر، واحتساب كل ذلك لله سبحانه، فحقق الله على يديه خيرا في كل مكان حل فيه، إذ هو كالغيث أينما حل نفع، وهذه هي سمات العلماء المخلصين، فلم يكل ولم يمل حتى وافاه الأجل وهو على همته في الدعوة والتعليم.(54/280)
نسبه ومولده:
ولد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مانع بن إبراهيم بن حمدان بن محمد بن مانع بن شبرمة، ومن شبرمة إلى وهيب، مؤكدا النسب بلا ريب ولا شك،(54/280)
وإنما يجهل أسماء الآباء وعددهم، فآل مانع من آل شبرمة، التي تشمل معهم آل جنيب، وآل سويكت في الزلفي، وآل أبي حسين، وآل شيحة وغيرهم من الأسر المتفرقة في بلدان نجد، وآل شبرمة من آل محمد الذين هم أحد فخذي آل وهيب، المسمون الوهبة الذين هم من بني حنظلة أحد البطون الكبار في القبيلة الكبيرة، الشهيرة- بني تميم - كما ذكر ذلك الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه علماء نجد خلال ستة قرون (1) في تسلسل نسب الشيخ محمد بن مانع.
وجاء في معجم أسر بني تميم لحمد بن ناصر آل وهيب بعد شبرمة قوله: من آل محمد بن محمد بن علوي بن وهيب الوهبي الحنظلي التميمي (2) .
وعلى قول الشيخ محمد بن مانع في نسبهم- مدير المعارف السابق-: فشب نسبنا في هذه الشبرمة (3) . يقول حمد آل وهيب: قلت: ومعلوم أن الشبرمة شجرة ذات شوك وأغصان معوجة تنبت صيفا، فما دخل فيها قد ينشب (4) .
وجاء في تحفة المستفيد في تاريخ الأحساء لمحمد بن عبد الله آل عبد القادر: محمد بن عبد العزيز آل مانع " ويرد ابن مانع، والمانع " فصل: المنتمون للقبائل العربية من سكانها. .
__________
(1) انظر ج 3: ص 827.
(2) ج2 ص 482.
(3) (علماء نجد خلال ستة قرون) لابن بسام 3: 887 الهامش.
(4) معجم أسر بني تميم 2: 482.(54/281)
آل مانع ينتمون إلى بني تميم، وعميد آل مانع في عصرنا الحاضر: الشيخ محمد بن عبد العزيز آل مانع، ثم قال: ويعتبر من كتاب العلماء الذين تجول أقلامهم في مختلف حقول الإصلاح الديني والثقافي والاجتماعي، وله من الأبناء الذكور الشيخ عبد العزيز، وأوسطهم الشيخ عبد الرحمن، وأصغر منه الشيخ أحمد، فقيه محقق، متخصص بمعرفة الكتب ومؤلفيها (1) .
ويقول الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب عنه: من أسرة برز عدد من أفرادها بالعلم، درس على مشاهير علماء نجد (2) . وقد اختلف الكاتبون في تاريخ ولادته، ففي كتاب علماء آل سليم وتلامذتهم يقول المؤلف صالح بن سليمان العمري:
ولد الشيخ محمد بن مانع -رحمه الله- في آخر القرن الثالث عشر، وقال لي: إنه في سن الشيخ عمر بن سليم، والشيخ عمر ولد عام 1299 هـ، وقد ولد -رحمه الله- في بيت علم ودين، وورع وتقوى (3) ، ولذا نراه لم يحدد سنة معينة لولادته، ولكنه قاس على ولادة الشيخ عمر بن سليم، وكأنه يحدد ميلاده حسب ما قال له بميلاد الشيخ عمر بن سليم.
أما الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه علماء نجد خلال ستة قرون فيقول في ترجمته: ولد المترجم له في بلدة عنيزة، المدينة
__________
(1) انظر تحفة المستفيد 1: 34-36.
(2) مجلة العرب ج 3، 4 س 16 سنة 1401هـ.
(3) انظر ج2 ص 459.(54/282)
الشهيرة بالقصيم عام 1300 هـ (1) ، وعنه أخذ الدكتور علي جواد الطاهر في معجم المطبوعات العربية (2) ، وبه قال تلميذه ابن عبد القادر وهو أقدم من ترجم له في كتابه: تحفة المستفيد (3) . وبمثل هذا جاء في مجلة المنهل تحت عنوان: الرائد الشيخ محمد بن مانع، فقد قال الكاتب الذي لم يسئم ولعل المقال من القائمين على المجلة حيث جاء في الهامش: استعنا بمقال عن الرائد الشيخ محمد بن مانع منشور في الأربعاء الأسبوعي، من إعداد نور الإسلام بن جعفر آل فايز 13 ربيع الآخر عام 1414هـ: ولد الرائد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع بن شبرمة في بلدة عنيزة بالقصيم (4) .
كما أخذ بهذا عبد الله بن أحمد الشباط في حديثه عن الشيخ محمد بن مانع في المجلة العربية، ولعل هؤلاء أخذوا عن الشيخ عبد الله البسام (5) ، وأن الشيخ أخذ عن ابن عبد القادر في تحفة المستفيد كما مر بنا.
أما السيد ولي الدين أسعد الذي تعرف بالشيخ محمد عن كثب وارتبط بابنه أحمد عن قرب؛ لأن عملهما سويا في القاهرة في البعثات السعودية، فإنه قد كتب عن الشيخ محمد مقالا في
__________
(1) ج3 ص827.
(2) انظر ج3 ص1200.
(3) انظر ج1: 34.
(4) مجلة (المنهل) جمادى الآخرة 1414هـ ص89.
(5) المجلة العربية العدد (247) شعبان عام 1418هـ ص36.(54/283)
مجلة المنهل بعد ما توفي الشيخ مباشرة، وبدأ موضوعه بقوله: عرفته رحمه الله كوالد وصديق ورئيس، فلقد جمع العمل بيني وبينه عدة سنوات، فكان هو المدير العام للمعارف ببلادنا، وكنت أنا مديرا للبعثات العلمية والمعتمد الثقافي للمعارف بمصر، فلمست فيه الشمائل العالية النبيلة، والأخلاق الفاضلة العظيمة، فلقد كان مخلصا في عمله، نزيها إلى أقصى حدود النزاهة، محبا للخير وللناس، بعيدا عن الهوى والغرض، والتعصب المذهبي والعنصري.
وبعد أن أثنى عليه وعلى سيرته النزيهة وجهوده في عمله ذكر تاريخ وفاته، ولم يذكر تاريخ ولادته، إلا أنه قال: بعد نيف وثمانين عاما من عمره، قضاها في خدمة العلم والتعليم (1) ، والنيف في اللغة ما بين الواحد إلى الثلاثة (2) فكان يتوقع ولادته ما بين واحد وتسعين إلى ثلاثة وتسعين ومئتين وألف.
والشيخ محمد بن عثمان القاضي بعنيزة، يجزم في كتابه:
روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد، بسنة معينة هي عام 1298هـ، وينسب القول للشيخ نفسه فيقول: ولد هذا العالم الجليل في عنيزة عام 1298هـ، حسبما ذكر لي- رحمه الله- في بيت علم وشرف ودين، فرباه والده أحسن تربية فنشأ نشأة حسنة (3) .
__________
(1) مجلة (المنهل) الجزء (11) المجلد (26) ذو القعدة عام 1385 هـ ص 865، 866.
(2) لسان العرب المجلد 9: 342.
(3) ج2 ص 281.(54/284)
وبنفس العبارة والتاريخ قال صلاح بن إبراهيم الزامل في المجلة العربية، عندما تحدث بلمحات من حياة هذا العالم الجليل، ولعله استقى ذلك من كتاب الشيخ محمد بن عثمان القاضي (1) أما الشيخ صالح السليمان العمري في كتابه: علماء آل سليم، فقد اعتبر ولادة الشيخ محمد بن مانع في آخر القرن الثالث عشر، ولم يحدد سنة معينة، وكان ذلك بما نقله عن قوله -رحمه الله- بأنه والشيخ عمر بن سليم في سن واحدة، وقرر بأن الشيخ عمر بن سليم قد ولد عام 1299 هـ واضطرب الأمر عليه فقال: فكان والده قد توفي وهو في سن مبكرة لم يتجاوز العاشرة (2) . وهذا القول فيه فرق عما قاله غيره، بأن عمره السابعة عندما توفي والده على رأي الأكثرية الذين قالوا: إن ولادته عام 1350 هـ، حيث يقول -رحمه الله- في نبذته التاريخية: توفي والدي عبد العزيز بن محمد في 27 جمادى الأولى عام 1357 هـ في بلد عنيزة (3) .
وقد يتبادر لذهن القارئ أن الأرجح في تاريخ ولادته أنه في عام 1298هـ، وهو ما أورده الشيخ محمد القاضي منسوبا للشيخ نفسه، وهو مصدر يتجه ذهن القارئ معه إلى أنه من أوثق المصادر؟ لأنه إثبات وإخبار منسوب للشيخ بالمشافهة، ولكن قد يكون رأي الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن مانع أقرب للصحة، والقائل به من أقرب الناس للشيخ وهو ابنه؛ لتعارضه مع هذا
__________
(1) العدد (214) ذو القعدة 1415 هـ، ص 88.
(2) علماء آل سليم 2: 459.
(3) مجلة العرب ج 5، 6 س 16 \ 1401هـ ص 390.(54/285)
الإثبات عندما قال ضمن مذكرات الشيخ التاريخية: وولد كاتب الأحرف، على ما في خط الوالد ليلة السبت 9 ربيع الثاني 1300 هـ، ثم أضاف الشيخ حمد الجاسر ناشر هذه المذكرات في مجلة العرب: وهذه الجملة بخط ابنه الأستاذ أحمد (1) . مما يجعلني أجزم بهذا في تاريخ ولادته وأراه الأصح فيها.
__________
(1) مجلة العرب ج 5، 6س 16 \ 1401 هـ ص 389.(54/286)
نشأته:
نشأ الشيخ محمد بن مانع في بيت علم وصلاح، فهو من أسرة عرف رجالها بالعلم والعمل في قضاء المدن التالية: أشيقر وشقراء وعنيزة والرياض، منهم والده الذي تولى قضاء عنيزة، وإمامة وخطابة الجامع الكبير في عنيزة عام 1303 هـ حتى توفي، وقد ترجم حمد بن ناصر آل وهيب في كتابه: معجم أسر بني تميم في الحديث والقديم لمجموعة من علماء آلة مانع، وتحدث عن مكانتهم العلمية، ومنزلة من تولى القضاء منهم (1) .
وعلى ما ذكر الشيخ محمد في مذكراته وبخط يده، فإن والده يعتبر قد توفي، وهو -أي الشيخ محمد - لا يزال صغيرا، حيث جاء في مذكراته التي نوهنا عنها قوله: توفي والدي في 27 جمادى الأولى عام 1307 هـ في بلد عنيزة (2) .
ومن قال: إن والده أدخله الكتاب حين بلغ السابعة من
__________
(1) ينظر هذا الكتاب ج 2 ص 480-483.
(2) مجلة العرب السابق ذكرها ص 390.(54/286)
عمره، وفيه تعلم قراءة القرآن، ووعى الدروس وعيا تاما (1) . فلعله فعل ذلك قبل وفاته بمدة وجيزة، حيث توفي والده وهو في السابعة من عمره، ويؤيد هذا ما قاله الشيخ عبد الله بن بسام: فلما بلغ السابعة أدخله والده كتابا؛ ليتعلم القرآن، وكان والده مريضا إذ ذاك وهو قاضي بلدة عنيزة، وبعد أيام توفي والده، فقرأ القرآن كله وحفظ بعضه ثم اشتغل بطلب العلم (2) .
أما الشيخ محمد بن عثمان القاضي فقد اعتبر عمره عندما توفي والده تسع سنوات؛ لأنه رأى أن ولادته كانت في عام 1298 هـ (3) . وفي علماء آل سليم وتلامذتهم وعلماء القصيم يقول المؤلف صالح السليمان العمري: حدثني الشيخ العلامة والبحر الزاخر الفهامة، الشيخ محمد بن الشيخ عبد العزيز بن الشيخ محمد بن مانع -رحمه الله- قال: لما توفي والدي كنت صغيرا فقالت والدتي- وسماها المؤلف نورة بنت رشيد الشبيلي -: اذهب إلى تلميذ جدك وشيخ أبيك الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم في بريدة، فاقرأ عليه، قال: فذهبت إليه في بريدة فرحب بي وأكرمني واعتبرني كأحد أبنائه، ولازمته حتى توفي رحمه الله، وكنت في سن الشيخ عمر بن الشيخ محمد بن سليم، فكنا نتنافس أينا يسبق الآخر في أخذ حذاء الشيخ محمد بن سليم فيقدمها له عند خروجه من المسجد، قال: فغبت مرة، ولما عدت سبقت
__________
(1) مجلة (المنهل) جمادى الآخرة 1414 هـ ص 89.
(2) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 827.
(3) انظر روضة الناظرين 2: 282.(54/287)
الشيخ عمر في أخذ حذاء الشيخ محمد وقدمتها له، فلما التفت إلي فرح وقال لي: أحسبك آبقا، وكان كثير التحدث عن شيخه الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، ومجلسه وسعة علمه وورعه، وربما ساق بعض الأمثلة التي سمعها من الشيخ محمد في النحو وغيره، وإذا تحدث عنه وصفه بالبحر (1) .
ومن هذا الإيراد تدرك أن الشيخ محمد بن مانع نشأ في بيت علم وفضل وأدب وعرفان بمكانة العلماء، وأن هذه المدرسة العلمية التي نشأ فيها انعكست على والدته التي أحسنت توجيهه بعد وفاة أبيه وكانت له نعم الموجهة إلى درب العلم لإدراكها مكانة العلم ومعرفتها بالمنبع الصافي الذي يمكن أن يرده ابنها لينهل منه، حيث أدركت الرابطة المتينة التي تشد العلماء صلة وبرا وعرفانا بالفضل لأهله، وما ذلك إلا أن للنشأة في بيت العلم انعكاسا على أهله، كحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تجد منه ريحا طيبا، فالعلماء هم المصابيح التي يستضيء بها الساري، ويسترشد بما آتاهم الله الناس، ولذا أحبت هذه الأم لابنها أن يرتقي لمكانة أبيه وجده في العلم؟ لأنها فاهمة مدركة، وهذا جزء من أثر العلماء فيمن حولهم، يقول حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق
__________
(1) علماء آل سليم 2: 459.(54/288)
فكانت لابنها مرشدة بالذهاب إلى شيخ أبيه، وتلميذ جده؛ لأن صلة العلم رابطة مودة ووفاء أقوى من صلة الرحم عند من يدرك للعلم حقه.
والتلميذ محمد بن مانع قد تأصلت في قرارة نفسه جذور الأدب مع مخائل الذكاء منذ حداثة سنه عرفانا بدور العلماء وما يجب لهم من احترام كما كان الوفاء موجودا عند شيخه محمد بن سليم عندما وفد إليه في بريدة، ليمكن الصلة العلمية وليبذر في حفيد شيخه وابن تلميذه ما يستطيع: لعلمه بأن هذا البيت أرضه خصبة، وأن التلميذ معدنه أصيل، ولذا نرى الشيخ محمد بن سليم يفرح عندما رأى تلميذه محمد المانع يقدم له حذاءه بعد غياب ظنه نكوصا عن طلب العلم، وفرحه هذا لم يكن من أجل تقديم الحذاء له وخدمته؛ لأنه يعرف أن هذا من أدب التلميذ مع شيخه، ومن توقير العلم وعرفان التلميذ وهو في السن الصغيرة بمكانة العلم، وما يجب أن يعمل مع حملته من احترام وتقدير، لكنه فرح بعودته لمجلس العلم ورغبته فيه، حيث كان يؤمل فيه خيرا، لحرصه عليه أكثر من حرصه على أولاده رعاية وتوجيها، ذلك أن العالم الحريص على تبليغ ما أفاء الله عليه وتأدية حق العلم الذي حمله في صدره يعتبر تلاميذه كلهم أبناءه، فيحوطهم بالنصح وحسن التوجيه، ويهتم بتنمية مواهبهم ويسعد بالنجباء منهم، يقول العمري في كتابه (علماء آل سليم) بعد أن وفد محمد بن مانع عليهم راغبا في العلم: فتلقاه الشيخ محمد ابن سليم خاصة وآل سليم عامة بكل حفاوة وإكرام؛ لمكانة والده(54/289)
وجده عندهم (1) .
__________
(1) علماء آل سليم 2: 459، 460.(54/290)
رحلته في طلب العلم:
ذكر الكاتبون عن سيرة الشيخ محمد بن مانع أنه سافر في طلب العلم لعدة جهات، بدءا ببريدة التي ذهب إليها بتوجيه من والدته، حيث كان له لقاء مع الشيخ محمد بن سليم فكان أول من أخذ عنه بعد مدرسة الكتاتيب، ثم طوف في البلاد بحثا عن مصادر العلم العذبة النقية، وقد التقى في كل مكان سافر إليه بشيوخ أخذ عنهم، وقد ذكر في مذكراته التاريخية الموجزة شيئا من أسفاره مقرونة بالتاريخ.
وكل كاتب يهمه توثيق المعلومات وربط بعضها ببعض، فإنه يحرص على التنسيق بين ما دون عنه تاريخيا بما قيل عنه علميا. . ولكن ما يصدر عن الكاتب نفسه عن نفسه، فإنه الأوثق والأصح، ولذا فإننا نرى الشيخ محمد بن مانع يقول عن رحلاته العلمية في مذكراته التاريخية التي نشرها الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب:
1 - أول ما خرجت من بلادي عنيزة متوجها إلى البصرة عام 1318 هـ، ثم سافرت منها إلى ". . . . . " (1) ورجعت، وجاء على المكان الفارغ هذا في الهامش تعليق للشيخ حمد الجاسر: كلمة ممحوة أخبرني الأستاذ أحمد ابن الشيخ محمد المانع بأنها عدن، فقد زارها الشيخ ولا يعرف الأستاذ
__________
(1) فراغ هكذا جاء في الأصل.(54/290)
أحمد تعليلا لمحو الكلمة.
2 - وخرجت إلى نجد سنة 1325 هـ، وما أقمت فيها غير شهر واحد، ثم رجعت إلى البصرة، ومنها سافرت إلى بغداد، فوصلتها في ذي القعدة سنة 1320 هـ، ثم سافرت إلى الشام، فمصر في محرم سنة 1322 هـ، ثم رجعت إليها فوصلتها أول يوم من رمضان سنة 1323 هـ.
3 - ثم خرجت منها متوجها إلى نجد في ذي القعدة سنة 1328 هـ، فوصلت عنيزة في 15 صفر سنة 1329 هـ، ثم خرجت منها في 4 ذي الحجة سنة 1329 هـ.
4 - وأقمت بالبصرة والزبير مريضا. . ثم سافرت إلى بغداد في 7 شعبان سنة 133هـ فوصلتها بعد مضي خمسة أيام في الطريق.
5 - بلغني خبر وفاة المرحومة شقيقتي حصة بمكاتيب وردت إلي من وطني عنيزة وأنا في البحرين رحمها الله تعالى.
6 - ورجعت من بغداد في 9 شوال سنة 1330 هـ، وأقمت في الزبير إلى غرة ربيع الأول، ثم سافرت إلى البحرين ووصلتها في 21 ربيع الأول سنة 1331 هـ.
7 - ثم سافرت من البحرين إلى قطر في 4 شوال سنة 1334 هـ، ووصلت قطر في 6 شوال من السنة المذكورة، أي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف " 1334 " (1) .
__________
(1) انظر مجلة العرب ج 5، 6 س 16 ذو القعدة والحجة 1401هـ ص 390- 391.(54/291)
وهذه المذكرات وإن كانت مقتضبة مع ما فيها من تقديم وتأخير وعدم ترتيب زمني إلا أن فيها فائدة جيدة، فهي كما قال الشيخ حمد الجاسر في تقديمه لها بمجلة العرب: لعلها كتبها ويريد تنقيحها وترتيبها، فلم يتهيأ له العودة إليها.
ويقول الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه علماء نجد خلال ستة قرون عنه: فلما بلغ السابعة أدخله والده " كتابا " ليتعلم القرآن، وكان والده مريضا إذ ذاك وهو قاضي بلدة عنيزة، وبعد أيام توفي والده فقرأ القرآن كله وحفظ بعضه، ثم اشتغل بطلب العلم فقرأ مختصرات العلوم والعربية، ككتاب التوحيد، ودليل الطالب، وبلوغ المرام، والشنشوري والآجرومية على علماء عنيزة وبريدة، فلما ناهز البلوغ سافر إلى بغداد للاستزادة من العلم، فقرأ على علمائه النحو والصرف، والفقه والفرائض والحساب، والمنطق، ثم توجه إلى مصر فأقام بالأزهر، فقرأ فقه الحنابلة والنحو وغيرهما، ثم سافر إلى دمشق واتصل بعلمائها وتعرف بهم، فقرأ عليهم في الحديث، ثم عاد إلى العراق ولازم مشايخه السابقين، فتزود منهم في علوم العربية بأنواعها، وقرأ عليهم مختلف أنواع العلم وفنونه، وكان جادا مجدا مواصلا ليله بنهاره في القراءة والتحصيل وإدمان المراجعة والبحث، وكان لا يضيع من وقته قليلا ولا كثيرا، ولقد حدثني خالي صالح المنصور أبا الخيل أن المترجم له كان يطلب العلم في البصرة، وكان في بيت جدي لأمي الشيخ منصور أبا الخيل، فأصيب المترجم له بمرض، فكان حتى في حال المرض يطلب من خالي أن يجلس عند رأسه(54/292)
فيقرأ عليه بالكتب مع شدة وطأة المرض عليه (1) .
وفي معجم أسرة بني تميم في الحديث والقديم، أورد المؤلف رحلاته في طلب العلم مختصرة، ويظهر أنه استقاها من الشيخ عبد الله بن بسام مع تباين يسير بينهما، فقال: فلما بلغ السابعة من عمره، أدخله والده في الكتاتيب ليتعلم القراءة والكتابة، وكان والده مريضا إذ ذاك وهو قاضي عنيزة، وبعد أيام توفي والده فقرأ القرآن كله وحفظه وقرأ مختصرات العلوم الشرعية والعربية، وسافر إلى بغداد للتزود من العلوم، ثم إلى مصر للقراءة على علماء الأزهر، ثم إلى دمشق، ثم عاد إلى وطنه (2) والشيخ صالح العمري في كتابه علماء آل سليم وتلامذتهم يقول عن رحلته في طلب العلم: إنه لما مات الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم الذي كان الشيخ محمد بن مانع ملازما له، رغب التلميذ محمد بن مانع السفر للخارج للتزود من العلم، فعلم بذلك الشيخ علي المقبل، فكتب إلى عمه الشيخ عبد الله بن مانع يعاتبه على السماح له بالسفر، ويقول: إذا كان عليه حاجة فإنه مستعد للإنفاق عليه، ودفع ما يحتاج إليه، فاعتذر عمه وقال: إنه لم يسافر من حاجة، وإنما رغبة في التزود من العلم، وليس من حاجة إلى المال.
ثم قال: وقد أخذ عن مجموعة من علماء العراق والشام ومصر، وكان رحمه الله في أسفاره يشرح للعلماء أهداف دعوة
__________
(1) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 827- 828.
(2) (معجم أسرة بني تميم) 2: 482.(54/293)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقتها، فنفع الله به فاستقاد وأفاد (1) والشيخ محمد القاضي في كتابه: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد، لم يحدد تاريخ السفر لطلب العلم في كل بلد ذهب إليه، ولا التسلسل التاريخي، وإنما جاء بذلك مقتضبا فقال: رحل إلى بريدة مع عمه عبد الله للقراءة على الشيخ محمد بن سليم، ثم سافر إلى بغداد فقرأ على حنابلته، ثم سافر إلى مصر فقرأ على علماء الأزهر الشريف، ثم سافر إلى دمشق واتصل بعلمائها ودخل دار الشطية، ولازم علماء الدار والجامع الأموي، ثم عاد إلى بغداد فلازم الألوسيين في الفقه وعلوم العربية كلها، وجد في الطلب وثابر عليه، وكان نبيها مفرط الذكاء ولديه موهبة ومن أوعية الحفظ، فنبغ في فنون عديدة، وكان قوي البديهة، أكب على كتب الأصحاب الحنابلة وعلى كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم، وكان يزور القصيم والحجاز ويقرأ على علمائها، ورحل إلى المذنب فقرأ على قاضيها عبد الله بن محمد بن دخيل، وفي الزبير قرأ على علمائه ومن أبرز مشائخه في الفقه والفرائض محمد بن عوجان لازمه عام 1330 هـ (2) .
وفي مجلة المنهل جاء في الجزء الحادي عشر المجلد (26) لشهر ذي القعدة عام 1385 هـ يقول السيد ولي الدين أسعد: بأنه في رحلاته يتعلم ويعلم؛ ليستفيد ويفيد، فهو بعد أن تلقى دراسته الأولية في بلده ومسقط رأسه عنيزة من بلاد نجد،
__________
(1) علماء آل سليم وتلامذتهم 2: 460.
(2) (روضة الناظرين) 2: 282، 283.(54/294)
شدا بعض الشيء في التعليم، ثم رحل إلى العراق وتلقى العلم على كثير من علماء بغداد المشهورين، وممن تتلمذ عليهم السيد شكري الألوسي، وهكذا ظل في العراق ردحا من الزمن فهو المتعلم والعالم والمستفيد والمفيد حتى برع وبرز في الدراسات الإسلامية، فعاد حين ذلك إلى موطنه بنجد ولم يمكث ببلاده غير بضع سنين حتى انتقل بعدها إلى مصر، وفي أثناء مروره بسورية وهو في طريقه إلى القطر المصري اتصل ببعض علماء سورية وأخذ عنهم، وأخذوا عنه، وأقام بالقاهرة فترة طويلة، ودرس في الأزهر الشريف، واتصل ببعض علمائه الأعلام في ذلك العصر كالشيخ: محمد عبده، والشيخ رشيد رضا وأضرابهما (1) .
أما العدد لشهر جمادى الآخرة 1414هـ من المنهل، تحت عنوان الرائد الشيخ محمد بن مانع، فيرى الكاتب أن رحلته في طلب العلم بدأت بعد السابعة من عمره، حيث أدخله والده الكتاب وفيه تعلم قراءة القرآن ووعى الدروس وعيا تاما، وسافر إلى بغداد حيث قرأ على أيدي علمائها النحو والصرف والفقه والحساب والمنطق، وكانت رحلته الأخرى إلى الأزهر الشريف في مصر حيث درس فقه الحنابلة والنحو وغيرهما، وتوجه بعد ذلك إلى الشام، وفي دمشق اتصل بالعلماء فقرأ عليهم الحديث، وقرر العودة إلى بغداد مرة أخرى؛ ليلتقي بأساتذته، ويستزيد منهم في علوم اللغة العربية، حتى صار ملما إلماما كاملا بكثير من
__________
(1) ص 865 من العدد المذكور.(54/295)
العلوم والآداب (1) .
وفي المجلة العربية تحدث عنه كاتبان هما صلاح بن إبراهيم الزامل في شهر ذي القعدة من عام 1415هـ وعبد الله بن أحمد الشباط في شهر شعبان من عام 1418هـ.
يقول الأول -ولعله استقى معلوماته أو أكثرها من كتاب علماء آل سليم وتلامذتهم-: شرع في طلب العلم بنهم وشغف، وساعده على ذلك قوة الحفظ فكان من أوعية الحفظ، ثم قرأ على علامة عنيزة الشيخ صالح القاضي ولازم دروسه، ثم ذهب إلى بريدة وقرأ على الشيخ العالم الزاهد محمد بن عبد الله بن سليم، وبعد وفاة الشيخ محمد بن سليم ذهب إلى الخارج، فذهب إلى بغداد ودرس على علامة العراق محمود شكري الألوسي، وبعد ذلك ذهب متوجها إلى الشام ولازم الشيخ جمال الدين القاسمي شيخ مشايخ الشام لا سيما في علم الحديث، ثم علت به همته إلى أن يسافر إلى مصر، فتوجه إلى القاهرة قاصدا الأزهر، وقرأ كتاب الروض المربع وبعضا من شرح دليل الطالب وكذلك قرأ النحو، كل ذلك قراءة على شيخ الحنابلة في الأزهر محمد الذهبي، ثم يقول: ولا أظن وجود عالم نجدي مثل الشيخ محمد بن مانع -رحمه الله- طاف هذه البلاد متحملا مشاق السفر وخطورته قبل استتباب الأمن وقبل توحيد المملكة بل هو الوحيد في عصره من أبناء نجد الذين طافوا البلدان من أجل تحصيل
__________
(1) انظر ذلك العدد من مجلة (المنهل) ص 89.(54/296)
العلم والاستزادة من المعارف المتنوعة التي في عصره (1) .
وهذا جزم من الكاتب يحتاج إلى تدقيق وتثبت، ذلك أنه عرف عن أناس معاصرين للشيخ محمد بن مانع وسابقين له رحلوا في طلب العلم إلى تلك الديار، وزادوا السفر للهند، كالشيخ ابن عتيق، والشيخ إسحاق آل الشيخ، والشيخ عبد الله القرعاوي وهو من المعاصرين له، وغيرهم كثير بل إن الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوه، ممن كان له مكانة في الشام ومصر، ونقل كثيرا من كتب الحنابلة إلى بلده العيينة حيث كانت مقصدا لطلاب العلم والمذكور توفي عام 948 هـ.
أما الثاني فقال باختصار: تعلم مبادئ القراءة والكتابة وبعض العلوم الدينية، ثم رحل إلى العراق، وفي بغداد التقى بالعلامة الشيخ محمود شكري الألوسي وغيره من علماء بغداد وأخذ عنهم، ثم رحل إلى مصر والتقى بالشيخ محمد عبده، وحضر دروسه في التفسير، وفي بغداد ألف كتاب: سبل الهدى في شرح شواهد قطر الندى في اللغة العربية، ثم عاد إلى بلاده وألقى بها عصا التسيار متفرغا للتعليم والتأليف (2) .
والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ يرى في كتابه مشاهير علماء نجد وغيرهم: أن تطوافه في طلب العلم بدأ من بلده عنيزة، حيث تعلم القرآن بها لدى مدرسة الكتاتيب، ثم بعد وفاة والده شرع في القراءة على علماء بلده في مبادئ العلوم،
__________
(1) المجلة العربية ذو القعدة عام 1415 هـ ص 88.
(2) المجلة العربية شعبان عام 1418هـ ص 36.(54/297)
وفي الثامنة عشر من عمره سافر إلى بغداد، وقرأ على مشاهير علماء بغداد، ثم توجه إلى مصر وقرأ على بعض علماء الأزهر مدة برواق الحنابلة، ثم سافر إلى دمشق الشام، وأخذ عن بعض العلماء بالشام، ومنهم محدث الشام بدر الدين بالجامع الأموي، ثم رجع إلى بغداد وأطال المكث فيها، وقد دعاه بعض الأكابر من أهل بغداد ليكون إماما له ويقرأ عليه كتب الحديث، فقرأ عليه بعضا من صحيح البخاري، وجميع صحيح مسلم، والجزء الأول من زاد المعاد لابن القيم، والجزء الأول من مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطأ للإمام مالك، وكثيرا من كتب التاريخ، وقرأ نزهة النظر للحافظ ابن حجر، ثم رجع إلى بلده مدينة عنيزة سنة 1329 هـ، وقرأ على قاضيها الروض المربع، ثم توجه إلى بلدة الزبير من أعمال العراق سنة 1330 هـ.
ثم دعاه مقبل الذكير أحد تجار نجد وأعيانها المقيمين في البحرين للتجارة، دعاه لمكافحة التبشير، وفتح له لهذا الغرض مدرسة آخر عام 1330 هـ، فأقام في البحرين أربع سنين، وشرح في أثناء ذلك بالبحرين العقيدة السفارينية " المسماة الدرة المضيئة " ثم دعاه حاكم قطر آنذاك عبد الله بن قاسم بن ثاني فتوجه إليها في شهر شوال عام 1334 هـ (1) .
وعن الكاتبين عن الشيخ محمد بن مانع أخذ علي جواد الطاهر في معجمه: معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية
__________
(1) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 268- 270.(54/298)
السعودية الذي أشرف على طبعه الشيخ حمد الجاسر (1) .
__________
(1) يراجع ج 3 ص 1200- 1202.(54/299)
شيوخه:
تأتي أهمية العالم من كثرة اهتمامه بالأخذ وتطوافه البلدان بحثا عن مجالس العلم، والشيخ محمد بن مانع قد سمت به همته إلى البحث عن منابع العلم الشرعي وخاصة في الفقه الحنبلي، وتلمس العلماء المشار إليهم بالبنان في سلامة العقيدة واقتفاء أثر السلف الصالح، فكان يهتم بالمتابعة والسؤال ويوالي السفر من أجل ذلك ويحرص على سلامة المأخذ، وقد وهبه الله مع ذلك ذكاء وقادا وذاكرة جيدة يعينانه على تحقيق مطلبه.
ولندرة العلماء الذين يبحث عن نوعيتهم، فإنه تصيدهم في البلاد التي ذهب إليها، ولازمهم حتى أخذ عنهم بسهم وافر، وقد أجمل المترجمون لسيرة حياته الشيوخ الذين أخذ عنهم في كل بلد زارها طالبا للعلم وسائرا من أجله وهم:
1 - في بريدة: قرأ على الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ عبد الله بن فداء، وعدد من علماء القصيم لم يسمهم صالح السليمان العمري في كتابه: علماء آل سليم وتلاميذهم، إلا أنه ذكر الشيخ علي المقبل العلي آل عبيد الذي تلقاه وأكرمه واعتنى به عناية تامة، والذي ذكر أنه لما علم برغبته السفر إلى بغداد كتب إلى عمه الشيخ عبد الله بن مانع يعاتبه على السماح له بالسفر ويقول: إذا كان عليه حاجة فإنه مستعد للإنفاق عليه،(54/299)
ودفع ما يحتاج إليه، فاعتذر إليه عمه وقال: إنه لم يسافر من حاجة وإنما رغبته في التزود من العلم، وليس من حاجة إلى المال (1) . ولم يذكر عن علي المقبل هذا أنه عالم ولعله من الوجهاء الأثرياء المحبين للعلم ولطلاب العلم.
2 - وقد ذكر الشيخ عبد الله بن بسام مشايخه إجمالا في القصيم من بريدة وعنيزة والمذنب فقال:
1 - الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم.
2 - الشيخ عبد الله بن عائض.
3 - الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر.
4 - الشيخ صالح العثمان القاضي.
5 - الشيخ عبد الله بن محمد بن دخيل (2) .
3 - ويرى الشيخ محمد بن عثمان القاضي أنه حفظ القرآن في بلده عن ظهر قلب، ثم شرع في طلب العلم بهمة ونشاط، فقرأ في أصول الدين على عمه الشيخ عبد الله بن مانع، وعلى الجد الشيخ في الأصول والفروع وفي الحديث والمصطلح والتفسير ولازمه زمنا، وكان قد رحل مع عمه عبد الله إلى بريدة للقراءة على الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم؛ وذلك لأنه كان يميل في مطلع عمره إلى الشعر النبطي ويخرج مع الشعراء، فكان عمه ينهاه عن مخالطة من لا يستفيد من مخالطته نفعا دينيا، فأحب أن يتباعد عنهم فرافقه.
__________
(1) انظر ص 460 ج 2 من هذا الكتاب.
(2) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 828.(54/300)
والجد الشيخ صالح هو من أبزر مشائخه، ولازم الشيخ عبد الله بن عائض بالعربية، وإبراهيم بن حمد بن جاسر في الحديث ومصطلحه، ورحل إلى المذنب فقرأ على قاضيها عبد الله بن محمد بن دخي (1) يرى عبد الرحمن آل الشيخ بأنه بعد ما عاد إلى عنيزة قرأ على قاضيها الروض المربع شرح زاد المستقنع وغير ذلك (2)) .
__________
(1) (روضة الناظرين) عن مآثر علماء نجد 282:2
(2) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 269(54/301)
4 - أما في بغداد فقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه مشاهير علماء نجد وغيرهم أنه اتصل بالعلامة السيد محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه وعلى ابن عمه السيد علي بن السيد نعمان أفندي الألوسي، وقرأ على غيرهما من مشاهير العلماء ببغداد، فقرأ في النحو والصرف والفقه والفرائض والحساب، ثم توجه إلى مصر، ثم رجع إلى بغداد ولازم القراءة على العلامة محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه كثيرا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وقرأ عليه في المعاني والبيان والبديع كثيرا من الرسائل المختصرة في هذه الفنون، مثل الفريدة في الاستعارات وشرح التلخيص، وقرأ عليه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وشرح السيوطي، وقرأ شرح القطر للفاكهي، وقرأ عليه في علم الوضع العضد مع شرح العلامة القوشجي، ورسالة أبي بكر الكردي في علم الوضع، وقرأ شرح منظومة حسن العطار، وقرأ لوامع البيان للرازي مع مراجعة لوائح الأنوار(54/301)
للسفاريني، وشرح العقائد الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقرأ عليه بعضا من تفسير البيضاوي، وقرأ شرح السلم وشرح الدمنهوري، وقرأ شرح الرسالة الأندلسية لعبد الباقي الألوسي في العروض والقوافي، وقرأ على السيد علي بن السيد نعمان أفندي الألوسي الأمثلة والبناء في التصريف، وشرح السعد على العزي، ومغني اللبيب لابن هشام، وقرأ على الشيخ عبد الوهاب أفندي نائب أمين الفتوى في بغداد في بعض كتب آداب البحث والمناظرة، وقرأ دليل الطالب في الفقه الحنبلي وشرح الأزهرية في النحو في المدرسة المرجانية على الشيخ عبد الرزاق الأعظمي، وقرأ على السيد يحيى بن قاسم الأثري المدرس في المدرسة الأحمدية في بغداد في شرح العلوي على السلم، وحاشية المرصفي على شرح المقولات العشر، وشرح نظم الورقات في أصول الفقه (1) .
ثم قال: وتوجه إلى بلدة الزبير من أعمال العراق سنة 1330 هـ، وقرأ على الفقيه الحنبلي المشهور في بلدة الزبير محمد العوجان في الفقه الحنبلي والفرائض والحساب (2) . إلا أن الشيخ عبد الله بن بسام أجمل قراءته على الشيخ محمد بن عوجان في الزبير بالفقه (3) .
5 - كما أجمل مشايخه في دمشق وبغداد والقاهرة مثلما
__________
(1) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 268-269.
(2) المصدر السابق ص 269.
(3) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 829.(54/302)
فعل في مشايخه في القصيم بذكر الأسماء دون تخصيص المادة والكتاب الذي قرأه على كل منهم، وعددهم تسعة وهم:
1 - السيد محمود شكري الألوسي.
2 - السيد علي نعمان الألوسي.
3 - الشيخ محمد الذهبي.
4 - الشيخ جمال الدين القاسمي.
5 - الشيخ عبد الرزاق البيطار.
6 - الشيخ بدر الدين.
7 - العلامة الشيخ عبد الوهاب أفندي نائب أمين الفتوى في بغداد.
8 - الشيخ عبد الرزاق الأعظمي البغدادي.
9 - العلامة السيد يحيى بن قاسم الأثري، المدرس في المدرسة الأحمدية ببغداد (1) .
وفي الشام قال عبد الرحمن آل الشيخ بأنه سافر إلى دمشق الشام بعد رجوعه من مصر، ولازم الشيخ جمال الدين القاسمي، وسمع عليه صحيح البخاري، وحضر دروس الشيخ بدر الدين محدث الشام التي كان يلقيها بالجامع الأموي، وحضر دروس العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار (2) ، إلا أن صلاح الزامل في المجلة العربية يرى أن دراسته في مصر كانت بعد دراسته في الشام لا قبلها (3) .
__________
(1) المصدر السابق.
(2) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 268.
(3) العدد (214) ذو القعدة عام 1415 هـ ص 88.(54/303)
وعن دراسته في الشام يقول محمد بن عثمان القاضي في كتابه روضة الناظرين: ثم سافر إلى دمشق واتصل بعلمائها ودخل دار الشطية، ولازم علماء الدار والجامع الأموي في الفقه والحديث وفي المصطلح وعلوم العربية.
ثم قال: ومشايخه في بغداد محمود الألوسي، وعلي بن نعمان الألوسي، وعبد الرزاق الأعظمي البغدادي، ويحيى بن قاسم الأثري، وفي الشام ومصر قرأ على محمد الذهبي، وجمال الدين القاسمي، وعبد الرزاق البيطار، وبدر الدين الأزهري، وعبد الوهاب أفندي (1) . وهؤلاء هم الذين ذكرهم الشيخ ابن بسام إلا أنه زاد تاسعا هو يحيى بن قاسم الأثري. والزركلي في كتابه الأعلام يرى أنه قرأ في مصر على الشيخ محمد عبده ولازم دراسته، وعاد بعد وفاة الشيخ إلى الشام فقرأ على شيخنا جمال الدين القاسمي (2) .
6 - وأبان الشيخ عبد الله بن بسام إجمالا في حديثه عن شيوخه بأنهم كثيرون، فقال بعد تعداد شيوخه: وقرأ على كثير غير هؤلاء ممن لا تحضرني أسماؤهم، ولقد اطلعت على ترجمة مطولة بقلم بعض تلاميذه فحاولت عد الكتب التي قرأها على مشائخه، فوجدتها شيئا يضيق النطاق عن عده، من كتب التوحيد والتفسير، والحديث والفقه، وأصول تلك العلوم، ومن كتب النحو والصرف، والبلاغة والمنطق، من المتون والشروح، والحواشي بعضها من المطولات وبعضها من الرسائل والمختصرات، وكلها قراءة بحث وتحقيق،
__________
(1) (روضة الناظرين) 2: 382- 383.
(2) الأعلام 6: 209.(54/304)
وتدقيق واستيعاب للمسائل (1) .
وبالجملة فالشيخ محمد بن مانع موسوعة علمية، في شتى المعارف، وقد كانت دراسته وثقلها في بغداد، وعن علمائها أخذ، حيث وجد فيهم ضالته في التبحر العلمي، والاستيعاب للعلوم التي هو حريص عليها، للثقة التي وجدها في أولئك العلماء، وهم أكثر عددا من جميع مشايخه في الديار التي زارها طالبا للعلم، ومتابعا لحملته الذين يوثق بهم.
__________
(1) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 829.(54/305)
تلاميذه:
وصف السيد ولي الدين أسعد، الشيخ محمد بن مانع بأنه من العلماء الأعلام الأفذاذ في البلاد العربية، فهو أشبه بدائرة معارف إسلامية متحركة يصدر منها إشعاع المعرفة والعلم بين أرجاء الجزيرة العربية (1) ؛ وما ذلك إلا أن الشيخ محمدا كان يتنقل بين البلدان طالبا للعلم، وفي نفس الوقت يعطي مما أفاء الله عليه من علم، فهو طالب يأخذ العلم من مصادره، ومعلم لا يبخل بما منحه الله من علم ومعرفة، وقد يصح عليه الوصف: كالغيث أينما حل نفع. . وهذه صفة العلماء الحريصين على أداء رسالة العلم وبسط ما أعطاهم الله على الملأ، لإدراكهم بأن أمانة العلم في نشره، وخوفا من التأثم؛ لما ورد من تحذير في كتمان العلم.
__________
(1) مجلة (المنهل) ج 11 جلد 26 ذو القعدة 1385 هـ ص 865.(54/305)
وقد بان أثره في كل من اختلط به، مذاكرة ودعوة، وحرصا على العقيدة الصحيحة، وقدوة صالحة في نفسه.
1 - ففي بغداد وهو يطلب العلم: دعاه بعض الأكابر من أهل بغداد - كما قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه: مشاهير علماء نجد وغيرهم- ليكون إماما له، ويقرأ عليه كتب الحديث، فقرأ عليه بعضا من صحيح البخاري، وجميع صحيح مسلم، والجزء الأول من زاد المعاد لابن القيم، والجزء الأول من مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطأ للإمام مالك، وكثيرا من كتب التاريخ، وقرأ نزهة النظر للحافظ ابن حجر، قبل أن يرجع إلى بلده عنيزة سنة 1329 هـ (1) .
2 - وفي البحرين: درس في ناد أنشأه مقبل الذكير (2) ، يقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه مشاهير علماء نجد وغيرهم: ثم دعاه مقبل الذكير، أحد تجار نجد وأعيانها المقيمين في البحرين للتجارة، دعاه لمكافحة التبشير، وفتح له لهذا الغرض مدرسة آخر عام 1330 هـ، فأقام في بلدة البحرين أربع سنين، وشرح في أثناء إقامته بالبحرين العقيدة السفارينية " المسماة بالدرة المضيئة " (3) إلا أن الشيخ حمد الجاسر يرى أنه: أقام في البحرين حوالي ثلاث سنين، مشرفا على النادي العربي لمكافحة التبشير وذلك بين سنة 1331 هـ إلى أواخر
__________
(1) انظر ص 269 من هذا الكتاب.
(2) (روضة الناظرين) لمحمد القاضي 2 \ 283.
(3) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 269.(54/306)
1334 هـ، حيث سافر إلى قطر (1) .
3 - وفي قطر بعدما دعاه حاكمها الشيخ: عبد الله بن قاسم بن ثاني آخر عام 1334 هـ تولى القضاء والتدريس ورحل إليه كثير من الطلاب، أخذوا عنه العلم في قطر (2) ، وقد سعى لإنشاء المدرسة الأثرية التي أسهم بعض أعيان البلاد في إنشائها، وفي مقدمتهم خالد بن محمد الغانم، وخليل إبراهيم الباكر، وقد استمرت هذه المدرسة تؤدي رسالتها من عام 1913م- إلى عام 1938م. وكان من أوائل الطلاب الذين درسوا على الشيخ محمد بن مانع من رجال قطر، الذين أسهموا في خدمة الحياة الثقافية والأدبية، كما قال عبد الله بن أحمد الشباط:
أ- الشيخ عبد الله بن تركي أحد رجال التعليم في قطر.
ب- الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري رحمه الله، مارس التعليم في المملكة العربية السعودية، ثم عاد إلى قطر، والتحق بوزارة الأوقاف، وأصدر التقويم القطري.
ج- الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رحمه الله، الذي أسندت إليه رئاسة المحاكم الشرعية في دولة قطر.
د- الشاعر القطري أحمد بن يوسف الجابر. وكانت الدراسة في المدرسة الأثرية تسير على النهج التقليدي القديم المتبع في مصر، حيث تبدأ بدراسة العلوم الدينية، كالفقه والحديث والسيرة النبوية، ثم علوم اللغة العربية، النحو والصرف،
__________
(1) (معجم المطبوعات العربية) للدكتور جواد الطاهر، هامش ص 1201.
(2) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ، ص 269، 270.(54/307)
والأدب والخط. . . إلى أن قال:
ففي عهد الشيخ عبد الله بن قاسم، بدأت تظهر بوادر أمل في النهوض بالتعليم في البلاد، وذلك عندما استقدم الشيخ محمد بن مانع من السعودية عام 1910م فتولى القضاء، والخطابة والتدريس في قطر، وكان الشيخ ابن مانع هو المؤسس لهذه المدرسة والمدرس فيها، وذلك بعد أن قام بعض أعيان البلاد بالإسهام في إنشائها، وكان من رعيلها الأول ممن تتلمذوا على الشيخ ابن مانع: الشيخ عبد الله بن تركي، والشيخ عبد الله الأنصاري، والشيخ فالح بن ناصر، والشاعر محمد بن عثيمين، والشاعر أحمد بن يوسف الجابر، وكان لهؤلاء أثرهم الواضح في سير الحركة التعليمية والثقافية والأدبية في البلاد، وأصبح معلم الثقافة الدينية في خريجي هذه المدرسة واضحا متميزا، وقد استمر الشيخ ابن مانع في أداء رسالته في خدمة العلم والشريعة إلى عام 1358 هـ حيث غادر قطر عائدا إلى المملكة، فاستقر به المقام في الأحساء (1) .
4 - أما في المملكة، بعد أن قدم الأحساء في عام 1358 هـ لزيارة بعض أصدقائه ومحبيه، فقد التقى بالشيخ عبد الله السليمان وزير المالية ذلك الوقت، وأشار عليه بالقدوم على الملك عبد العزيز، فذهب للرياض وقابله وأكرمه، ثم عينه مدرسا في المسجد الحرام، فجلس للتدريس. وقد روى صلاح بن
__________
(1) المجلة العربية ضمن مقال للأستاذ عبد الله الشباط، العدد (247) السنة 21، شعبان عام 1418هـ ص 36، 37.(54/308)
إبراهيم الزامل عن الشيخ عبد الرحمن الشعلان رئيس المحكمة المستعجلة بمكة والإمام بالمسجد الحرام - سابقا- أنه قال له: لقد كان شيخنا ابن مانع - رحمه الله- حريصا على أن يستفيد طلابه منه، ويحرص علينا كأننا أبناؤه أو أشد، وبعد مدة من الزمن وتطور البلاد عينه الملك عبد العزيز مسئولا عن إدارة المعارف، ومسئولا عن التعليم بالمملكة، وفتحت عشرات المدارس في عهده، وأدخل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مناهج التعليم على حسب المستويات. . ثم ذكر تلاميذه، وقال: إنهم كثيرون وذكر منهم سبعة وهم:
1- الشيخ عبد الرحمن بن سعدي علامة القصيم رحمه الله.
2 - علامة الخليج العربي الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم في قطر رحمه الله، وهو من الذين أكثروا من ملازمة شيخه ابن مانع، واستفادوا منه فائدة عظيمة.
3 - الشيخ عبد الرحمن بن شعلان رئيس المحكمة المستعجلة السابق بمكة، والإمام بالمسجد الحرام رحمه الله.
4 - شاعر نجد الكبير وشاعر الملك عبد العزيز محمد بن عثيمين رحمه الله.
5 - الشيخ فيصل بن مبارك رئيس محكمة الجوف سابقا، وصاحب المصنفات رحمه الله.
6 - الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد رحمه الله، أول رئيس لتعليم البنات بالمملكة.
7 - الشيخ محمد بن عبد القادر الأحسائي صاحب تاريخ الأحساء(54/309)
رحمه الله (1) ، وهذا له قصائد عديدة في مدح الشيخ محمد بن مانع والإشادة بمكانته العلمية.
أما الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن بسام في كتابه: علماء نجد خلال ستة قرون، فقد قال: إن تلاميذه كثيرون، لا تحضرني أسماؤهم، من المملكة ومن بلدان الخليج العربي. وقد ذكر منهم اثنين وعشرين، منهم السبعة السالف ذكرهم، والباقون هم:
1- الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن آل الشيخ الرئيس العام للتربية الإسلامية بوزارة المعارف بمكة.
2 - معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف سابقا.
3 - الشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لتعليم البنات سابقا، ورئيس ديوان المظالم حاليا.
4 - الشيخ عبد الله الأنصاري رحمه الله مدير الشئون الدينية في حكومة قطر، وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي سابقا.
5 - الشيخ قاسم بن درويش من أعيان قطر.
6 - الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الباهلي قاضي بلد شقراء.
__________
(1) المجلة العربية العدد (214) ذو القعدة عام 1415 هـ مقال لصلاح الزامل ص89.(54/310)
7 - الشيخ عبد العزيز بن محمد بن مانع - رحمه الله- ابن المترجم له.
8 - الشيخ أحمد بن محمد بن مانع، ابن المترجم له، الملحق الثقافي السعودي بالقاهرة سابقا.
9 - الشيخ عثمان بن صالح القاضي.
10 - الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل عبدلي.
11 - الشيخ محمد بن عبد الله آل مانع. . وهذا ابن عم المترجم له.
12 - الشيخ علي بن محمد الهندي المستشار بوزارة المعارف سابقا.
13 - الشيخ محمد بن عبد الرحيم الصديقي المدرس بالطائف سابقا.
14 - الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش - رحمه الله- رئيس المحكمة الكبرى بمكة سابقا.
15 - الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سابقا رحمه الله (1) .
والشيخ محمد بن عثمان القاضي ذكر من تلاميذه قرابة الأربعين، منهم زيادة عما ذكر:
1- نفسه ووالده.
2 - صالح الزغيبي إمام حرم المدينة.
3- عبد الله المحمد القاضي.
__________
(1) انظر (علماء نجد خلاله ستة قرون) 3: 833، 834.(54/311)
4 - وفي دبي والشارقة عبد الله بن تركي، ومحمد حسن الجابر، وأحمد بن يوسف الجابر، ومبارك بن نصر.
5 - وأبناؤه الثلاثة.
6 - وناصر الوهيبي.
7 - والبصيلي.
8 - وإبراهيم السويح وغيرهم (1) .
__________
(1) (روضة الناظرين) 2: 285، 286.(54/312)
مؤلفاته:
كثرة تلاميذ العالم وتعدد مؤلفاته ينبئان عن مكانته العلمية، وهذا ما نلمسه عن الشيخ محمد بن مانع الذي أصبح أبا لتلاميذ المملكة منذ أن تولى إدارة المعارف حتى تحولت في عام 1373 هـ إلى وزارة للمعارف، وتولاها الملك فهد. . (الأمير في ذلك الوقت) . وقد ذكر الكاتبون عنه عددا كثيرا من مؤلفاته نذكر منها:
أولا: عشرة كتب ذكرها الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه: علماء نجد خلال ستة قرون، وكان العاشر منها: شرح شواهد القطر، وشواهد المغني، سماه سبيل الهدى، وقد أطلع عليه بعض مشايخه في بغداد، وقرظه بأبيات منها:
درر قد نثرتها أم دراري ... نبرات لها بديع نثاري
أم مثاني سبل الهدى منك ضاءت ... أثر قطر الندى على الأقطار(54/312)
لو رأى ما حوى ابن هشام ... قال مهلا هشمت أنف افتخار
لو رأى ما نظرت فيه ابن معطي ... قال جاد ابن مانع بنضار
دمت يا من سما بفضل وعلم ... فوق هام السها مدى الأعصار (1)
ثانيا: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه مشاهير علماء نجد وغيرهم، قال: وخلف مكتبة كبيرة حافلة بنوادر الكتب، وخلف مؤلفات منها:
1- إقامة الدليل والبرهان بتحريم الإجارة على قراءة القرآن.
2 - تحديق النظر في أخبار الإمام المهدي المنتظر.
3 - إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب. طبع.
4- الأجوبة الحميدة، رسالة تتعلق بالتوحيد. . طبع.
5 - حاشية على دليل الطالب. . طبع.
6 - سبل الهدى شرح قطر الندى. . خطي.
7 - الكواكب الدرية شرح الدرة المضيئة " في العقيدة " طبع مرتين.
8 - القول السديد فيما يجب لله على العبيد. . طبع.
9 - نبذتان تتعلقان بمدينة عنيزة، إحداهما عن أمرائها، والأخرى عن قضاتها. طبعتا في آخر كتاب المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب لعبد الرحمن بن حمد المغيري.
__________
(1) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 834، 835.(54/313)
10 - سمعت أن لدى ابنه أحمد، دفترا فيه قيود تاريخية لوالده. . والله أعلم (1) .
وما ذكره عن هذا الدفتر التاريخي، قد نشره الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب، في عددين، هما ج3، 4 السنة 16، لشهري رمضان وشوال سنة 1401هـ (2) ، وعدد ج5، 6 السنة 16 ذو القعدة والحجة سنة 1401هـ (3) ، وقد عنون الشيخ لهذا الدفتر بـ (مذكرات تاريخية كتبها الشيخ: محمد بن مانع) .
ثم قال: رحم الله الشيخ ابن مانع وغفر له، فقد كان حافظا لكثير من فنون العلم، وأقوال الفقهاء، وقسط كبير من منظومة ابن عبد القوي في الفقه.
ثالثا: والشيخ محمد بن عثمان القاضي في كتابه: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد، وحوادث السنين، قال: وله مؤلفات كثيرة، طبع معظمها، ومن أبرزها:
1- سبل الهدى شرح قطر الندى. . وكان متبحرا في علوم العربية كلها.
2 - والكواكب الدرية على الذرة المضيئة، مطبوع طبعة هندية ثم طبعة مصرية، وللشيخ ابن سحمان ملاحظات عليه سماه: تنبيه ذوي الألباب السليمة.
__________
(1) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) .
(2) يراجع هذا العدد من ص 180- 192.
(3) يراجع هذا العدد من ص 380- 391.(54/314)
3 - وإرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب.
4 - وإقامة الدليل والبرهان.
5 - وتحقيق النظر في أخبار المهدي المنتظر.
6- والأجوبة المحمدية.
7 - وحواش على دليل الطالب وغيره.
8 - والقول السديد فيما يجب على العبيد.
9 - وحاشية على عمدة موفق الدين.
10 - وكشف الغطاء.
11 - وله رسالة في البحث والمناظرة والجدل.
12 - ومختصر في تاريخ عنيزة وأمرائها وقضاتها. . طبعتا مع المنتخب للمغيري.
13 - وله تاريخ عند ابنه أحمد في خزانته. . وخلف تراثا من العلم ما بين مؤلف ومودع عند تلامذته المتخرجين على يديه. . ومكتبة حافلة بنفائس المخطوطات والمطبوعات.
وهو شاعر منطيق، والمرجع في الأدب والتاريخ، وأثنى عليه معاصروه، ومنهم تلميذه محمد بن عبد الله بن عثيمين الذي نظم فيه قصيدة مطلعها، وهو يقرض:
هذي العلوم التي كنا نحدثها ... من الأوائل إجمالا وتفصيلا
سيقت إليك موشاة مهذبة ... فيها المعارف معقولا ومنقولا(54/315)
فاقطف ثمار المجاني من حدائقها ... واشرب نميرا من التحقيق معسولا (1)
وهكذا نرى أن الكاتبين عن الشيخ يذكر بعضهم كتبا لم يذكرها الآخر، كما يذكر أيضا تلاميذ للشيخ لم يشر إليهم غيره، مما يبرهن على كثرة آثاره العلمية، من الكتب ومن التلاميذ، وأنه محب للعلم، حريص على نشره في الملأ؛ ليبقى بعده أثرا في صدور الرجال، ومرجعا في الكتب التي صدرت عنه.
رابعا: وقد حرص الدكتور علي جواد الطاهر في كتابه معجم المطبوعات السعودية الذي أشرف على إخراجه وطبعه الشيخ حمد الجاسر - بأن يحصر ما تيسر له معرفته من مؤلفات الشيخ محمد بن مانع حسبما وصل إلى علمه، كما أثنى على مكانة الشيخ ابن مانع وعلمه في عدة أماكن من كتابه، وكان مما قال: وله مؤلفات مفيدة، ويعتبر من كتاب العلماء، الذين تجول أقلامهم في مختلف حقول الإصلاح الديني والثقافي والاجتماعي، ثم أفاض في ذكر مؤلفاته، وهي ثمانية عشر كتابا:
1- الأجوبة الحميدة عن الأسئلة المفيدة، انتهى من تحريرها سنة 1336 هـ، طبعت مع كتاب إقامة الدليل والبرهان: رسالة تتعلق بالتوحيد كما قال ابن بسام.
2 - إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب- مطبوع.
3 - أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة، جمعها علي ابن يوسف، أمر بتجديد طبعها علي بن ثاني حاكم قطر،
__________
(1) انظر الجزء الثاني ص 286، 287.(54/316)
بمشورة الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع الذي كان له القدح المعلى في نشر الثقافة والتعليم في الحجاز ونجد وقطر، وللشيخ محمد بن مانع تعليقات على الطبعة الثانية.
4 - الإعلام فيمن ولي عنيزة من الأمراء والقضاة الأعلام. صدر عن المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق وبيروت.
5 - إقامة الدليل والبرهان على تحريم أخذ الأجرة على تلاوة القرآن كتبها في 14 شوال 1337 هـ، وطبعت في بومباي الهند سنة 1337 هـ على نفقة محمد بن إبراهيم الباكر ساكن قطر.
6 - البدرانية شرح المنظومة الفارضية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، طبع على نفقة عبد الله بن عبد العزيز القرعاوي، مطبعة البلاد السعودية، مكة عام 1373 هـ، الأصل منظومة في علم الفرائض.
7 - تحديق النظر في أخبار الإمام المنتظر.
8 - ثلاث رسائل: إرشادات الطلاب، وإقامة الدليل والبرهان، والأجوبة الحميدة. الطبعة الثانية 1383 هـ، على نفقة الشيخ علي بن عبد الله بن ثاني. منشورات المكتب الإسلامي بدمشق، ويقع في 164 صفحة من القطع الكبير.
9 - حاشية على دليل الطالب. . مطبوع.
10 - حجاب المرأة ولباسها في الصلاة وغيرها لشيخ الإسلام ابن تيمية.
11 - زاد المستقنع لشرف الدين موسى المقدسي، بتصحيح(54/317)
وتعليق محمد بن عبد العزيز بن مانع، ط 5، مطابع دار الكتاب العربي، مصر سنة 1373 هـ.
12 - زوائد الكافي والمحرر على المقنع. تأليف عبد الرحمن بن عبيدان الحنبلي، طبعه حاكم قطر برأي الشيخ: محمد بن عبد العزيز بن مانع طبع عام 1373 هـ في دمشق، ويقع في 342 صفحة.
13 - سبل الهدى وشرح شواهد قطر الندى. . مطبوع.
14 - عقود الجمان في جواز تعليم النسوان، تأليف شمس الحق آبادي، يليه كتاب: حجاب المرأة ولباسها في الصلاة وغيرها، طبعت على نفقة حاكم قطر، بمشورة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، وقد راجعها وصححها.
15 - عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر اختصر الجزء الأول منه الشيخ محمد بن مانع، وسليمان الدخيل. صدر ببغداد مطبعة الشابندر عام 1338 هـ.
16 - القول السديد فيما يجب لله على العبيد. . مطبوع.
17 - الكواكب الدرية لشرح الدرة المضيئة على عقيدة أهل الفرقة المرضية، كان الفراغ من تبييضه سنة 1334 هـ على يد جامعه الفقير إلى الله محمد بن عبد العزيز بن مانع الحنبلي مذهبا والسلفي عقيدة. طبع في بومباي بالهند سنة 1336 هـ.
18 - مجموعة التوحيد، وتحتوي على ست عشرة رسالة، طبعت على نفقة علي بن ثاني. منشورات المكتب الإسلامي في دمشق. ثلاث مرات بتحقيق الشيخ: محمد بن عبد العزيز(54/318)
ابن مانع، صفحاتها 918 صفحة.
19 - وله آثار أخرى، منها: مناسك الحج على المذاهب الأربعة، جمعها ابن مانع، ومذكرات تاريخية نشرها الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب، وقال عبد الله بن بسام في ترجمة جده الشيخ صالح بن حمد البسام: والدي ألف رسالة صغيرة في تاريخ عنيزة، نسبها الشيخ محمد بن مانع لنفسه ولم يزد (1) . ولا أظن الشيخ محمد ممن يعمل ذلك لعلمه وسعة اطلاعه، ولمكانته التي لا يتطرق إليها الشك.
__________
(1) انظر (معجم المطبوعات العربية) في المملكة العربية السعودية 3: 1202 إلى ص 1209.(54/319)
أعماله:
كانت الدعوة إلى دين الله الحق، وتوضيح منهج السلف الصالح للناس، والرغبة في تبليغ ما أعطاه الله من علم، من أهم الهواجس التي تعتمل في جوانحه. . ولذا كان في طلبه العلم معلما يبين حقيقة التوحيد ويدافع عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية بين زملاء الطلب، ومع معلميه في كل من العراق والشام ومصر، وفي البحرين والأحساء وقطر، بل وفي مهد طفولته عندما كان يتعلم في القصيم.
1 - وكان أول عمل قام به في بغداد، عندما كان يتعلم، بعدما دعاه بعض أكابر بغداد ليكون إماما له ويقرأ عليه كتب الحديث، فقرأ عليه بعضا من صحيح البخاري، وجميع صحيح مسلم، والجزء الأول من زاد المعاد لابن القيم،(54/319)
والجزء الأول في مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطأ للإمام مالك، وكثيرا من كتب التاريخ، وقرأ نزهة النظر للحافظ ابن حجر (1) ، وكان ذلك قبل رجوعه إلى بلده عنيزة - عام 1329 هـ.
2 - وفي عام 1330 هـ دعاه مقبل بن عبد الرحمن الذكير أحد تجار نجد وأعيانها المقيمين في البحرين (2) إلى أن يكون رئيسا للنادي الذي أنشأه في البحرين لمكافحة التبشير، وتحرير المقالات والتباحث، وإعداد الردود على المسيحيين المبشرين، الذين انتشروا في أطراف الجزيرة العربية والخليج العربي للتبشبر بالنصرانية، وقد قام المترجم له بالعمل خير قيام (3) .
3 - وفي عام 1334 هـ طلبه حاكم قطر الشيخ عبد الله بن ثاني، فرحل إليه وولاه القضاء فيها والتدريس والخطابة في جامعها، فأمضى فيها حوالي ربع قرن، ورحل إلى الدوحة للقراءة عليه جمع لا حصر لعددهم، ونفع الله به، وصارت كلمته عندهم نافذة ومسددا في أعماله (4) . وقد اختلف الكاتبون عنه في مدة بقائه في قطر ما بين 25، 24، 23 سنة.
وفي أثناء وجوده في قطر سعى لإنشاء المدرسة الأثرية
__________
(1) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) لعبد الرحمن آل الشيخ ص269.
(2) المصدر السابق.
(3) (علماء نجد خلال ستة قرون) لابن بسام 3: 830.
(4) (روضة الناظرين) لمحمد القاضي 2: 283.(54/320)
التي أسهم بعض أعيان البلاد في إنشائها، وفي مقدمتهم: خالد بن محمد الغانم، وخليل إبراهيم الباكر، وقد استمرت هذه المدرسة تؤدي رسالتها من عام 1913 م إلى عام 1938 م.
كما ذكر الأستاذ عبد الله بن أحمد الشباط نقلا عن محاضرة التعليم في قطر للدكتور كمال ناجي، حيث بين أثرها، وبعضا من العلماء والأدباء الذين تخرجوا منها (1) .
4 - وفي عام 1358 هـ قدم الأحساء، ومكث فيها إلى شهر جمادى الآخرة من السنة المذكورة- كما ذكر ذلك عبد الرحمن آل الشيخ في كتابه مشاهير علماء نجد وغيرهم- وفي هذه الأثناء قدم الأحساء عبد الله السليمان الحمدان، فاتصل به وقابله، وأشار عليه ابن سليمان بالقدوم على الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود والبقاء عنده، فقبل ذلك، وقدم على الملك عبد العزيز في مدينة" الرياض فأكرمه الملك عبد العزيز وعينه مدرسا في الحرم المكي الشريف، فأقام في مكة واجتمع عليه كثير من طلاب العلم يقرءون عليه في الفقه والحديث، والنحو والفرائض (2) ، ثم ذكر بعضا ممن يعرف من تلاميذه في الحرم.
5 - ثم عينه الملك عبد العزيز رئيسا لثلاث هيئات: هيئة تمييز الأحكام الشرعية، وهيئة الأمر بالمعروف، وهيئة الوعظ
__________
(1) انظر (المجلة العربية) شعبان عام 1418 هـ ص 36 مقال لعبد الله الشباط عن الشيخ محمد بن مانع.
(2) (مشاهير علماء نجد) ص 270.(54/321)
والإرشاد (1) ، فقام بهذه الأعمال إلى جانب قيامه بالتدريس في المسجد الحرام بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة المغرب (2) .
وزاد الشيخ محمد بن عثمان القاضي بقوله: إنه رئيس ومشرف للوعظ والإرشاد في الحرمين، فقام بهذه الوظائف خير قيام، وسدد في أعماله (3) . أما الدكتور جواد الطاهر في معجمه فقال: صدر مرسوم ملكي عام 1365 هـ بتعيينه مديرا عاما للمعارف، ورئيسا لمجلس المعارف، ولهيئة تأديب الموظفين، ورئيسا لهيئة تمييز القضاء الشرعي (4) .
6 - ويجمل السيد ولي الدين أسعد عمل الشيخ في الخليج بقوله: ولما عاد من القاهرة استدعاه أمراء إمارات الخليج كالبحرين وقطر وعمان، واستعانوا به في نشر التعليم، وإنشاء المدارس، وبقي مدة بين البحرين وقطر، وأخيرا استقر به المقام بقطر، ومكث بها نحو أربعة وعشرين عاما، تولى فيها وظيفتي الإفتاء والقضاء، وإلى جانب هذا كله كان يقوم بنشر التعليم في منطقة الخليج العربي بإلقاء الدروس والمحاضرات وإنشاء المدارس، ولقد تتلمذ عليه واستفاد منه خلق كثير في هذه المنطقة، وتخرج عدد كبير من العلماء والمثقفين من المدرسة التي أنشأها بقطر، هم طليعة النهضة التعليمية في تلك البلاد،
__________
(1) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 830.
(2) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 270.
(3) (روضة الناظرين) 2:283.
(4) (معجم المطبوعات العربية) في المملكة العربية السعودية 3: 1200.(54/322)
وفي ساحل عمان (1) . والسيد ولي الدين أسعد هو أول من أشار إلى عمان، ضمن البلاد التي كان له أثر فيها.
7 - وفي عام 1365 هـ صدر مرسوم ملكي كريم، بتعيينه مديرا عاما للمعارف، ثم أسندت إليه رئاسة دار التوحيد بالطائف. .
كما ذكر ابن بسام (2) ، ويرى عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه: مشاهير علماء نجد وغيرهم أن إسناد رئاسة دار التوحيد إليه كان في عام 1366 هـ واستمر في عمله التعليمي إلى أن أحدثت وزارة المعارف سنة 1373 هـ وعين صاحب السمو الملكي الأمير فهد " خادم الحرمين الشريفين " وزيرا للمعارف، فحينئذ نقل الشيخ محمد بن مانع مستشارا برتبة وكيل وزارة إلى عام 1377 هـ (3) .
8 - وفي عام 1372 هـ يذكر الشيخان محمد بن عثمان القاضي وعبد الله بن بسام: أن الشيخ محمد بن مانع قام بجولة تفقدية من مكة على مدارس بعض مناطق المملكة، فمر بجدة فطريق المدينة، حتى وصل المدينة، ومنها إلى حائل ثم القصيم، ثم واصل سيره إلى بلدان الوشم وسدير ثم الرياض، ومنه إلى الأحساء والمنطقة الشرقية والشمالية، ثم عاد إلى الرياض، واستأنف الجولة في جنوب نجد.
وقد استقبل في كل بلدة ومدينة وقرية مع الأعضاء الذين
__________
(1) مجلة (المنهل) ذو القعدة 1385 هـ ص 865.
(2) (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 830.
(3) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 271.(54/323)
انتدبوا معه استقبالا رائعا لم يعهد له مثيل قبله، وخاصة في القصيم، حيث عمل له في عنيزة مخيم كبير في قبلي عنيزة، واحتفوا به احتفاء عظيما، وألقيت بين يديه القصائد الرنانة والخطب الطنانة، وخرج الطلبة وأعيان البلاد، وأنشد الأساتذة والطلاب أناشيد الترحاب بمقدمه الميمون. وكان ممن ودعه لما انتهى من الأحساء تلميذه الشيخ: محمد بن عبد الله آل عبد القادر الأحسائي بقوله:
هبوا إلي صبرا قبل يوم التفرق ... يخفف ما بي من عظيم التشوق
فكيف سلوي عن لطيف شمائل ... أرق وأصفى من شمول معتق
شمائل تهدي الزائرين بعرفها ... لصاحبها الشهم التقي الموفق
محمد المعطي المنى وابن مانع ... لأهل الردى عن غيهم والمعوق
محقق فقه الحنبلي بوقته ... فأكرم به من حافظ ومحقق
وفي عنيزة حياه عبد الله بن محمد السناني بقصيدة طويلة منها قوله:
أهلا بمقدمك السعيد ومرحبا ... وعليك من أم القصيم سلام(54/324)
إنا نحيي فيك حبرا فاضلا ... شهدت له في فضله الأعلام
فانزل على الرحب الرحيب مبجلا ... كالغيث أرسله الغداة غمام
بسمت عنيزة إذ نزلت بساحها ... وتزحزحت بقدومك الآلام
اليوم شرفت البلاد فحبذا ... رجل المعارف لو يطول مقام
شق الشباب بها ميادين العلى ... قدما وأنت القائد المقدام
والنشء هم قلب البلاد وروحها ... وجراحها بطموحهم تلتام
حي المدارس فالتقدم دأبها ... أثر المعاهد والطموح زحام
والنشء مثل الزهر بعض ضاحك ... والبعض لم تقذف به الأكمام
عاش المليك لشعبه وبلاده ... ترنو الملوك إليه والحكام
يدعو بطول بقائه وحياته ... الشعب والعرفان والإسلام(54/325)
وهي طويلة. . أما أخبار الرحلة، فيوجد نبذة عنها في مجلة المنهل العدد الثاني لعام 1373 هـ.(54/326)
9 - ويذكر ولي الدين أسعد في مجلة المنهل: أن المعارف قد ازدهرت في عهده، ونهضت البلاد نهضة مباركة كان من أثرها أن كثرت البعوث إلى مصر، وعني بمدرسة تحضير البعثات، وكثر المتخرجون من الجامعات المصرية، وأنشئت مدارس كثيرة ومن أهم هذه المدارس: كليتا الشريعة الإسلامية واللغة العربية، ولشدة حرصه على نجاح الدراسة بالكليات العالية ككلية الشريعة ودار التوحيد وغيرهما، كان يحضر إلى القاهرة بنفسه ويختار الأساتذة لهذه الكليات بعد دراسة واختبار لحالتهم من جميع النواحي، وفي الوقت نفسه كان يبحث عن العلم والمعرفة وعلى إذاعتهما كما هي عادته، فكان يحضر محاضرات ودروس بعض علماء مصر الأعلام ويباحثهم ويناقشهم في كثير من المسائل العلمية، حتى بهرهم بكثرة علمه وسعة اطلاعه (1) .
10 - يذكر صلاح بن إبراهيم الزامل ضمن مقال له في المجلة عن الشيخ محمد بن مانع بعضا من أبرز أعماله في مجال الدعوة والتعليم فيقول باقتضاب:
أ- في البحرين طلب منه الأديب مقبل الذكير أن يأتي إلى البحرين لأجل مكافحة إرساليات التنصير التي
__________
(1) مجلة (المنهل) ج 11 مجلد 26 ذو القعدة 1385 هـ ص 866.(54/326)
يتزعمها- وقتذاك- القس زويمر، وخصوصا في بلاد البحرين، فقام بهذا العمل هو والأستاذ مقبل الذكير، وكافحا التنصير بتوعية الناس وتحذيرهم من هذا الداء العضال، إضافة إلى نشر الكتب والرسائل التي تحذر من هذا التنصير، وقد استمر في هذا العمل الجليل أربع سنوات.
ب- بعد أن عينه الملك عبد العزيز مسئولا عن التعليم بالمملكة، فتحت عشرات المدارس في عهده، وأدخل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مناهج التعليم على حسب المستويات، فانتفع بها عظيم النفع (1) .
11 - يذكر الشيخان عبد الله البسام، ومحمد القاضي أنه في عام 1374 هـ طلبه حاكم قطر - سابقا- الشيخ علي بن عبد الله بن ثاني من حكومتنا- الحكومة السعودية - فلبت الحكومة نداء الشيخ علي فرحل إلى قطر، وصار مشرفا على سير التعليم فيها وإصلاح مناهجه، ومستشارا وإماما وخطيبا لجامع الدوحة، وصار لكلمته نفوذ وسدد في أعماله، وقد استقبله أهل قطر استقبالا رائعا، وعينه الشيخ علي مشرفا على التعليم والشئون الدينية، فصار جليس صدق، وموضع سر للشيخ علي، وأخذ يشير على الشيخ بطبع كتب العلم النفيسة، وكان عنده أكبر خزانة للمخطوطات، وهم حنابلة، وهو من رجال العلم، مع مخطوطات كثيرة ونفيسة عند الشيخ ابن مانع، وأخذ ينشر الكتب المفيدة بطباعة حسنة نيرة، يوزعها
__________
(1) المجلة العربية العدد (214) ذوالقعدة عام 1415 هـ ص 88، 89.(54/327)
على طلبة العلم مجانا، وأكثر من الطباعة، حتى بلغ ما يزيد على مائة كتاب، من كتب الحنابلة في الفقه، وفي الأدب والتاريخ والتفسير والحديث، والتوحيد، هذا غير الرسائل والمناسك.
ولا شك أن له نصيبا من الأجر، فالدال على الخير كفاعله، فقد وجدت الكتب النادرة، فحصلت منها الفائدة الكبيرة، وقد كتب إليه تلميذه الشيخ محمد بن عبد الله آل عبد القادر قصيدة بعدما وصل إلى قطر للإشراف على سير التعليم وإصلاح مناهجه منها هذه الأبيات:
سقى قطرا قطر السماء وعلها ... فقد جاءها الحبر الكريم وحفها
تبدى بها الشيخ الإمام ابن مانع ... حوى من صفات الأكرمين أجلها
فتاهت به أرجاؤها وتزخرفت ... فهل لبلاد أن تسامى محلها
هو العالم النحرير في فقه أحمد ... إذا ما تصدى للمشاكل حلها (1)
12 - وعن عودته للعمل في قطر يقول ولي الدين أسعد: ولما له من مكانة سامية، وسمعة طيبة يتمتع بها في القطر الشقيق " قطر " لسابق عمله في هذا القطر، قبل أن ينزح إلى الحجاز،
__________
(1) ينظر في هذا كتاباهما (روضة الناظرين) 2: 484، و (علماء نجد خلال ستة قرون) 3: 832.(54/328)
حيث شارك هناك في نشر التعليم، وفي إدارة القضاء- كما أسلفنا- مما جعل أمراء قطر يقدرونه ويحترمونه، ويثقون به، طلبوا من الحكومة السعودية انتدابه للعمل بهذا القطر العربي الشقيق، فلم يسع الحكومة السعودية إلا الموافقة على ذلك، برغم حاجة البلاد إلى أمثاله من رجالات العلم المخلصين.
فانتهت إليه هناك رئاسة الشئون الدينية، وفي الوقت نفسه كان كمستشار لأمير قطر لا يبرم أمرا ما لم يستطلع رأيه فيه أولا، وكان يؤدي عمله في هذا البلد على أتم وجه وأحسنه إلى أن فاجأه المرض (1) .
وعن تاريخ انتقاله إلى قطر - كما مر بنا- يرى الشيخان ابن بسام والقاضي، أن ذلك كان في عام 1374 هـ، وغيرهما ممن كتب عنه يرى الانتقال لقطر دون تحديد تاريخ معين، إلا أن الشيخ: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه (مشاهير علماء نجد وغيرهم يرى أن ذلك كان في عام 1377 هـ (2) ، وأجدني أميل مع قوله هذا؛ لأن الشيخ محمد بن مانع قد انتقل للرياض، واشترى بيتا في شارع آل سويلم، وسكنه فترة من الزمن، وكان له صلة بوالدي وأبناء عمي ومصاهرة، وسكناه الرياض بعد ما انتقلت وزارة المعارف وغيرها من الوزارات للرياض.
كما قال لي أحد كبار العاملين في وزارة المعارف: إن الوزارة بعد انتقاله كانت في بيت مستأجر في الحلة، ولم تنتقل
__________
(1) مجلة (المنهل) ذو القعدة 1385 هـ ص 866.
(2) (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 271.(54/329)
لمبناها إلا بعد مضي فترة لا تقل عن سنتين، وكان للشيخ محمد بن مانع في المبنى الجديد مكتب مؤثث قريب من مكتب الوزير. مما يؤيد ما قاله الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ بأن انتقاله إلى قطر في عام 1377 هـ.(54/330)
صفاته وآثاره:
كان الشيخ محمد بن مانع شغوفا بالعلم، محبا لأهله من علماء وطلاب، مشجعا على طلبه، حريصا على تأصيل العقيدة الصحيحة في القلوب، باذلا في سبيل ذلك ما يستطيع من جهد ونصح ومال ووقت، فهو أينما حل يدعو إلى توحيد الله بالعبادة، والبراءة من الشرك، ويبحث عن الكتب التي تؤصل ذلك في النفوس حمية منه لدين الله، ويهتم بالعلم حثا عليه وترغيبا فيه، ولذلك بانت آثاره في كل محل مر به، وفي كل بلاد اتجه إليها ضمن أسفاره العديدة: عالما ومتعلما. وهو دؤوب على ذلك حتى مع الصغار الذين يهتم بحسن التوجيه لهم. . سؤالا ومتابعة، وترسيخا للمعلومات، إذ يناقش الطلاب في الفصول المدرسية، ويراعي ذلك في الكتب التي تقدم لهم على مقاعد الدراسة، ويناقش المعلمين لئلا يبدر منهم خلفيات تؤثر في عقائد الناشئة، وقد بان أثر ذلك على المدارس عندما كان مديرا عاما للتعليم.
أما بعض أوصافه الجسمانية، فقد ذكر الشيخ محمد بن عثمان القاضي شيئا من ذلك فقال: كان قصير القامة قمحي اللون، خفيف الشعر، طلق الوجه، حسن الخلق، نديما للجليس، من أوعية الحفظ، مفرط الذكاء حاضر البديهة، توالت عليه(54/330)
الأمراض، أولا تعالج في عينيه، وبعد ذلك أصيب بعسر البول، وسافر للقاهرة سنة 1364 هـ بذي القعدة، وشفاه الله وعافاه. وكان يصحب الشيخ علي بن ثاني متى سافر إلى العمرة، أو إلى الحج، أو إلى الاصطياف في الخارج؛ لأنه لا يستغني عن مشورته في كل معضلة، وكان موضع سره، وعيبة النصح له، وكان من تلامذته، ولقد عرفت الشيخ محمدا في الحجاز، وحضرت دروسه بذي القعدة سنة 1361 هـ، وكان محبا لأهل الخير، وصولا للرحم، يحنو على الفقراء (1) .
ويذكر تلاميذه الأوائل في دار التوحيد الذين درسوا خلال الأعوام (69، 70، 71، 72) أن من برنامج الشيخ محمد الخروج شهريا لمدة يومين إلى الطائف لتفقد الدار والاجتماع بالمدرسين، وحضور النادي ليلة الجمعة، يصحبه في هذه الرحلة ابنه أحمد، وكان يجتمع بالطلاب ويحضر بعض الحصص، وكان رحمه الله حريصا على هذه الزيارة الشهرية التفقدية.
ويقول عنه الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه: علماء نجد خلال ستة قرون: كان جادا مجدا، مواصلا ليله بنهاره في القراءة والتحصيل، وإدمان المراجعة، وكان لا يضيع من وقته قليلا ولا كثيرا. . وكان مع هذا سريع الحفظ، بطيء النسيان، حاضر الخاطر، ولذا اطلع على ما لم يطلع عليه غيره، وحفظ من أنواع العلوم ما لم يحفظ سواه، فصار آية في حفظ المتون، واستحضار مسائلها، وما قاله الشراح عليها، فهو آية في العلوم العربية، لا سيما النحو،
__________
(1) (روضة الناظرين) 2: 287- 288.(54/330)
فقد أربى فيه على الغاية، وكان مطلعا على التفاسير وما قاله المفسرون على الآيات، وما اختلفوا فيه، وكان مطلعا وحافظا للسنة، فيستحضر الكثير من أحاديث البخاري بأسانيدها، وكان فقيها مطلعا على خلاف العلماء، ويكاد يحفظ نظم ابن عبد القوي في الفقه، البالغ أربعة عشر ألف بيت في فقه الحنابلة. . هذا عدا المختصرات والمتون، ونظم العلوم. ولكن الحديث يطول لو استرسلت في سيرته، وما زال مجدا في تحصيل العلوم إلى أن أصبح من العلماء الكبار المشار إليهم (1) .
ووصفه محمد القاضي في مطلع ترجمته بقوله: هو العالم الجليل والحبر البحر الفهامة المحقق المدقق (2) .
ويقول السيد ولي الدين أسعد: وللفقيد آثار علمية جليلة منها تعليقاته على كثير من الكتب الخطية المطبوعة؛ لأنه كان واسع الاطلاع على المؤلفات القديمة والخطية والمطبوعة، وله عدة مؤلفات مطبوعة منها: الرسائل الثلاث، والاضطلاع في علوم الدين والأدب والتاريخ، وشرح العقيدة السفارينية ثم ذكر أربعة كتب أخرى (3) .
__________
(1) (علماء نجد خلال ستة قرون) لابن بسام 3: 827-828.
(2) (روضة الناظرين) 2: 281.
(3) مجلة (المنهل) عدد ذي القعدة 1385 هـ ص 867.(54/332)
الأوراق والمكتبة:
يعتبر ما خلفه الشيخ محمد بن مانع من أوراق ومكاتبات بحكم الأعمال الكبيرة المناطة به ثروة كبيرة في الرصد التاريخي(54/332)
للمملكة حسب المعلومات التي تنبئ عنها تلك الوثائق، حيث تنبئ عن مسيرة العمل، وطريقة التنظيم العملي في التعليم والأمور الشرعية، وما يجري في معالجة الأمور بين المسئولين، في دولة فتية حرص الملك عبد العزيز - رحمه الله- وأبناؤه من بعده على تسيير أمورها وفق المنهج الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما القاعدة المكينة، التي رست عليها دعائم الدولة في عهد الملك عبد العزيز، ووحد البلاد على أساسها، وكان العلماء هم مستشاروه في كل أمر، لأنه يراهم بالنسبة لعمل الدولة، كجناحي الطائر، فالخوافي قوة للقوادم.
وما تركه الشيخ محمد بن مانع، يعتبر مادة جيدة للدراسة والتحليل، عن تنظيم الأمور في عهد الملك عبد العزيز يعين الباحثين، وطلاب الدراسات العليا على تحقيق مطالبهم، ويضع أيديهم على قاعدة صلبة تنبئ عن الجهود التنظيمية المبكرة التي بذلت، وما أفاده الشيخ محمد بن مانع كجواد من الرواد في بناء صرح النهضة العلمية في البلاد، وفي الحرص على تأسيس الأمور على قاعدة مكينة، سداها ولحمتها تعاليم دين الله، وتمكين العقيدة الصحيحة من النفوس، ونبذ ما سوى ذلك.
وقد كان لمكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض السبق في ضم مكتبة وأوراق الشيخ محمد بن مانع رحمه الله إليها، ولكثرتها نكتفي بلمحة عنها:
أولا: الوثائق:
في مشروع لمسح المصادر التاريخية الوطنية في المملكة،(54/333)
كان من أعمال دارة الملك عبد العزيز، ومكتبة الملك فهد تجميع المصادر، وكان مما توصلت إليه، مجموعة من أوراق الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله- التي رتبت مبدئيا على النحو التالي في مكتبة الملك فهد الوطنية حيث يوجد تسعة عشر ملفا- صندوقا- هذا توضيحها:
1- صندوق رقم (1) مصروفات الأساتذة والطلاب.
2 - صندوق رقم (2) قضايا هيئة التمييز.
3 - صندوق رقم (3) قضايا هيئة التمييز.
4 - صندوق رقم (4) قضايا هيئة التمييز.
5 - رسائل وبرقيات من الملك عبد العزيز وسعود وفيصل.
6 - صندوق رقم (6) شكاوى المدرسين.
7 - صندوق رقم (7) الشئون المالية والموظفين.
8 - صندوق رقم (8) رسائل خاصة.
9 - صندوق رقم (9) فتاوى وتفسير.
10 - صندوق رقم (10) ديون وعقود إيجار.
11 - صندوق رقم (11) أبيات شعرية وتراجم.
12 - صندوق رقم (12) متفرقات.
13 - صندوق رقم (13) متفرقات.
14 - صندوق رقم (14) مذكرات ونقولات.
15 -19- ومثل ذلك العناوين من 15-19 كلها مذكرات ونقولات. وهذه الوثائق محفوظة في إدارة الوثائق في الدور الأول مع وثائق قصر ثليم.(54/334)
ثانيا: المكتبة:
وهي قسمان مفهرسة، وغير مفهرسة:
1 - المفهرسة محفوظة في المكتبة الوطنية في المتحف الدور الثاني.
2 - غير المفهرسة في مستودع المخطوطات بإدارة المخطوطات الدور الأول.
3 - المخطوطات جار فهرستها حاليا.
نماذج من الوثائق:
إن إيراد نماذج من مكاتبات الشيخ محمد بن مانع من الجهات العليا، تعطي فكرة عن ارتباط هيئة التمييز والمعارف مع المسئولين في تنظيم العمل، وسوف نورد هنا ست رسائل، توضح طرفا من سير العمل مرتبة حسب أقدمية التاريخ:
1 - الرسالة الأولى: رقمها (6) تاريخ 9- 10 \ 9 \ 1361 هـ تمثل قرارا من هيئة التمييز وهذا نصه:
طالع مجلس هيئة التمييز الخطاب الواردة من مقاوم سمو النائب العام الأفخم رقم 10724 في 29 \ 8 \ 1361 هـ بصدد كتاب أخصر المختصرات، في الفقه الحنبلي المقرر تدريسه في المدارس الأميرية، الذي طلبت مديرية المعارف العامة طبع ألف نسخة منه؛ لنفاد النسخ الموجودة منه، بناء على ثناء فضيلة الشيخ محمد بن مانع عليه دائما.
وبناء على صدور الإرادة السنية الملكية في خطاب الديوان العالي برقم 5 \ 2 \ 972 في 24 5 1361 هـ بأخذ رأي هيئة(54/335)
التمييز في طبع هذا الكتاب.
وحيث إن الكتاب المشار إليه، كتاب جليل، ومعتمد لدى أهل المذهب الحنبلي، وهو من كتب الفتوى لديهم، وهو أخصر وأصلح كتاب يدرس بالمدارس.
فإن المجلس يرى الموافقة على طبع هذا الكتاب لتدريسه، وعلى ذلك جرى التوقيع.
وقد وقع هذا القرار رئيس هيئة التمييز محمد بن مانع ومعاونه وثلاثة أعضاء (1) .
2 - الرسالة الثانية: من هيئة التمييز بعدد (21) وتاريخ 25 \ 3 \ 1362 هـ بتوقيع الشيخ محمد بن مانع وهذا نصها: صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم حفظه الله آمين. .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فبالإشارة إلى الأمر السامي الصادر بعدد (279) وتاريخ 21 \ 3 \ 1362 هـ الذي نصه: للاطلاع على الاستدعاء المشفوع بهذا المرفوع لجلالة مولاي من دريب بن مهاوش الفضلي، الإفادة عن حقيقة المستدعى، ورأيكم نحو طلبه المساعدة إنفاذا للأمر العالي، الوارد في الملحق الكريم رقم 3 \ 28 \ 344 وتاريخ 9 \ 3 \ 1362 هـ. . . أحيط سموكم علما أن المذكور من المهاجرين من بلد القبيسة، وسكن في بعض القرى من نجد، وهو رجل من أهل الخير والعبادة، ويحضر
__________
(1) الوثيقة رقم (1) .(54/336)
مجالس العلم في التدريس، وقد طلب العلم طلبا قليلا، ولكنه رجل فقير، مستحق للمساعدة نظرا إلى هجرته ومحبته للدين، وهو الآن بمكة وحده، وليس عنده أهل، فإذا رتب له كسائر الإخوان، فإن هذا إن شاء الله أولى وأحرى، وأسأل الله تعالى أن يحفظ إمام المسلمين ويحفظكم ويديم لكم العز ويحرسكم بمنه وكرمه آمين (1) .
3 - الرسالة الثالثة: من هيئة التمييز بتوقيع الشيخ محمد بن مانع في 16 \ 4 \ 1362 هـ إلى معالي وكيل وزارة المالية وهذا نصها:
صاحب الفخامة معالي وكيل وزارة المالية الأفخم حفظه الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فبالإشارة إلى مذكرتكم رقم 12224 \ 987 في 15 \ 4 \ 1362 هـ بالاستعلام عن درجات طلبة العلم الموضحة أسماؤهم بالمذكرة وهم: عبيد بن ثنيان، ومحمد بن مسلم، وعبد الرحمن العريفي. أحيط فخامتكم علما أن المذكورين من الدرجة الأولى، وهي الدرجة الراقية، ثم نفيدكم أن الطلبة في هذا الوقت حصل لهم نوع من الالتفات لما رأوا كثرة الملام عليهم، وحيث إن عملهم هذا عمل صالح يرجى منه النفع لأنفسهم وللمسلمين، فالذي أرى نظرا لكثرتهم، وخوفا من عدم استمرارهم وتقطعهم، أن يوضع نظام يشتمل على المواد التالية:
__________
(1) الوثيقة رقم (2) .(54/337)
1 - الجد والاجتهاد في طلب العلم، وامتثال ما آمرهم به من الكتب التي يقرءونها وحفظه.
2 - أن من انقطع أياما من الشهر يخصم بقدر المدة التي انقطع فيها، إلا إذا كان له عذر شرعي، والاعتماد في ذلك على ما أبينه للمالية.
3 - إذا تبين منه التكاسل ثلاثة أشهر، يلغى بتاتا ويقطع راتبه.
إن هذه المواد يصدر تبليغها إلي من المقام السامي؛ ليكون ذلك أشد إنفاذا وامتثالا. . وإنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم عز إمام المسلمين وأن يتولاه بعنايته، ويبارك في حياته، وفي ذريته وأعوانه والسلام (1) .
4 - الرسالة الرابعة: من هيئة التمييز بختم الشيخ محمد بن مانع بتاريخ 24 \ 4 \ 1363 هـ موجهة للنائب العام. . وهذا نصها:
صاحب السمو الملكي سمو النائب العام لجلالة الملك المعظم أيده الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فبالإشارة للأمر السامي الصادر بعدد 385 في 15 \ 4 \ 1363 هـ القاضي بالإفادة عما تم في شأن مكتبة المرحوم ماجد كردي، بناء على عمل فهارس لها، أحيط سموكم علما، أني قد اتصلت بكامل كردي، الذي هو كبير الورثة، فأفاد بأن الجواب يصلكم. . . فكتبنا على أثر ذلك لعادل، فورد الجواب من عادل كردي بتاريخ 23 \ 4 \ 1363 هـ
__________
(1) الوثيقة رقم (3) .(54/338)
بما نصه: من خصوص المكتبة فالكل باذل الجهد في وضع الفهارس وتقديمها لفضيلتكم؛ لترفعوها إلى مقام النيابة العامة، ولعرض الحقيقة وجب رفعه \ 24 منه (1) .
5 - الرسالة الخامسة: من المكتب الخاص لنائب جلالة الملك برقم 894 في 25 \ 7 \ 1362 هـ وبتوقيع معاون نائب جلالة الملك. . وهذا نصها:
حضرة المكرم الشيخ: محمد بن مانع حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فبالإشارة إلى كتابكم المرفوع لسمو سيدي الأمير فيصل بتاريخ 3 \ 4 \ 1362 هـ بشأن مكتبة الشيخ ماجد كردي، نخبركم أنه لا مانع من الإيعاز لأبناء الشيخ ماجد كردي، من عمل فهرس لما احتوته المكتبة من الكتب، وتوضيح اسم كل كتاب وعدد أجزائه وبيان التام والناقص، والمكرر واسم المؤلف؛ لأن شراءها جزافا غير مناسب، وبعد تنظيم الفهرس المشار إليه، وتنقيح الكتب الغير مرغوبة منها. .
يقدم هذا إلى المقام؛ لعرضه على أنظار جلالة الملك المعظم والله يحفظكم (2) .
6 - أما الرسالة السادسة: فهي من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ إلى الشيخ محمد بن مانع بتاريخ 25 \ 2 \ 1365 هـ وهذا نصها:
__________
(1) الوثيقة رقم (4) .
(2) الوثيقة رقم (5) .(54/339)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الفاضل الشيخ: محمد بن عبد العزيز المانع وفقه الله وسدده آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد تسلمت كتابكم المكرم المؤرخ 10 \ 2 \ 1365 هـ وتلي علي وحمدت الله تعالى على صحتكم واستقامتكم، وما ذكرت وفقك الله من أن الدين النصيحة، وأن أهمها ما يكون في أمور الدين، المتعلقة بالعقائد، وأن الله قد من من مدة سنوات بإدخال كتب الشيخ محمد رحمه الله في مدارس الحكومة، وأنه مع الأسف أن الذين يقومون بتعليمها وتدريسها ليسوا ممن سبقت لهم دراستها إلى آخر ما ذكرتم. . . فالأمر كذلك.
ولكن لا يخفى فضيلتكم أن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، وأن الشروط المشترطة فيمن يتولى المهمات الدينية، كهذا الأمر الذي نحن بصدده، وكالقضاء ونحوهما، تعتبر حسب الإمكان. وأما تأخر جواب برقيتكم في مطلوبكم للأحساء، فسببه كثرة احتياج الحكومة وفقها الله إلى موظفين من جهتنا إلى جهات شتى، لا تخفى على فضيلتكم، حيث لم يبق عندنا وفيمن نعرف من نراه سادا في مطلوبكم، وإن شاء الله تعالى بعد قليل نسمي لكم من يقع عليه النظر إذا ظفرنا به. وأما مساعدته بما نستطيع فحق. . وهذا من الله سبحانه وتعالى. . وقد وصل إلينا عبد المالك وبلغنا ما حملتموه، وقد عينا للمدرسة التي تحت إدارته اثنين من الإخوان؛ لتعليم الفقه والتوحيد. وقد كنت مسرورا بإسناد(54/340)
المعارف إلى فضيلتكم؛ لمزيد عنايتكم الدينية، واحتياطكم للإسلام. . وبعدكم عما يكدر المشرب النبوي، ويغير في وجه الاعتقاد السلفي مما ابتلي به من أشربت قلوبهم العلوم العصرية التي إن لم تضر فلا نفع فيها للبرية. . هذا ما لزم رفعه، ومنا السلام على الإمام وولي العهد، والشيخ عبد الله والأولاد والطلبة، كما منا الأولاد والإخوة والمشايخ والطلبة بخير والسلام (1) .
__________
(1) الوثيقة رقم (6) .(54/341)
ذكريات تلاميذه:
كل من اتصل بالشيخ محمد بن مانع كانت له عنه ذكريات طيبة، وحفظ عنه أمورا مناسبة للرصد لما فيها من فائدة توضح أخلاق العلماء وما يمتازون به. . ولعل رصد انطباعات واحد من تلاميذه الذين لازموه مدة طيبة تنبئ عن بعض الخفايا في سيرة الشيخ محمد بن مانع.
وأختار واحدا من أسرة الشيخ محمد بن مانع؛ لنرصد عنه بعضا مما ارتسم في ذاكرته عنه. . إنه الشيخ: حسن بن عبد اللطيف المانع، المدرس في معهد إمام الدعوة سابقا، والمتوفى في شهر شعبان عام 1416هـ بالرياض وهو طالب علم متمرس، كفيف البصر، وكانت ملازمته للشيخ محمد بن مانع قرابة (15) عاما من عام 1345 هـ تقريبا إلى نهاية عام 1360 هـ، وكان مع الشيخ محمد يرافقه في حله وسفره، في قطر والأحساء وفي مكة وغيرها،(54/341)
ولم يتزوج الشيخ حسن إلا بعد استقراره في الرياض بفترة.
يقول في ذكرياته عن شيخه: الشيخ محمد بن مانع:
1 - إنه ذهب من عنيزة في أول طلبه العلم إلى العراق مع قافلة مشيا على الأقدام، وذلك حبا في طلب العلم وحرصا عليه.
2 - وعندما وصل إلى العراق، وجد كتابا كان يبحث عنه، وهو شرح الأجرومية في النحو، ولم يكن معه ما يشتريه به، وكان معه تمر جاف "يبيس " فقط جاء به من نجد زادا للرحلة، فبادله بالكتاب.
3 - أول من قابل في العراق من العلماء: محمد نعمان الألوسي وتدارس معه.
4 - كان يحفظ كثيرا من منظومة ابن عبد القوي في الفقه المعروفة بـ: عقد الفرائد وكنز الفوائد. . وقد طبعت في جزأين، وكان كثير الاستشهاد بها. . وكان يدور في داخل المسجد عندما كان يتعلم في بغداد - إذا فرغ- يكررها حفظا. . يقول الشيخ حسن: أظنه كان يحفظها كلها.
5 - يقول الشيخ حسن: كان بعض مشايخنا يسمي الشيخ محمد بن مانع مكنسة المذهب. . كما يسمى كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع مكنسة المذهب.
6 - وكان الشيخ محمد بن مانع دائم الاستعاذة من سنة تسع، ويقول: فيها مات العلماء كالشيخ عبد الله بن عبد اللطيف سنة 1339 هـ، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف والد الشيخ محمد سنة 1329 هـ والشيخ إسحاق بن عبد الرحمن سنة 1319 هـ(54/342)
وفيها أيضا مات الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي. وفي عام 1349 هـ مات الشيخان: سليمان بن سحمان، وسعد بن عتيق، وفي عام 1389 هـ مات الشيخ محمد بن إبراهيم. . . وهكذا غيرهم. يقول الشيخ حسن بن مانع: فاستجاب الله دعاءه فمات سنة 1385 هـ.
7 - كان حريصا على تحصيل الإجازات من مشايخه، لكنه رحمه الله لا يجيز أحدا إلا نادرا.
8 - يقول الشيخ حسن: لولا الله ثم عناية الشيخ محمد بن مانع لضاع نسب آل مانع؛ لأنه هو الذي بحث عنه، ودونه وذلك في كتابه: نبذة في أنساب بعض الأسر في نجد.
9 - وكان حريصا على طبع كتب العقيدة السلفية، وكتب الحنابلة، وكان يحض التجار على ذلك كبعض آل ثاني، وقاسم فخرو، وغيرهم.
10 - وكانت اللهجة النجدية القصيمية لا تزال معه، حتى وفاته، حتى أنه كانت تظهر منه في خلال دروسه، ويبدو أنه كان يعتز بها.
11 - وكان الشيخ محمد بن مانع يعظم الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن إبراهيم يعظمه أيضا، وكان من أدب الشيخ ابن مانع مع الشيخ محمد بن إبراهيم أنه لا يتحدث بحضرته احتراما له.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يحيل على الشيخ محمد بن مانع بعض المسائل ويسأله خصوصا عن الروايات في(54/343)
المذهب، وقد أوصى الشيخ محمد بن مانع الشيخ حسن بن مانع بملازمة الشيخ محمد بن إبراهيم فلازمه من سنة 1360 هـ إلى أن توفي الشيخ محمد بن إبراهيم عام 1389 هـ.
12 - وكان من محفوظات الشيخ محمد بن مانع نظم الواسطية لابن علوان، وألفية ابن مالك، وألفية السيوطي، ودليل الطالب والزاد. . . وغيرها. . وكان يحث طلبة العلم على الحفظ، وكان محبا للطلاب ويساعدهم ويذاكرهم ويرغبهم في المثابرة والحرص على طلب العلم والصبر في سبيله.(54/344)
وفاته:
يذكر محمد بن عثمان القاضي، أن الشيخ محمد بن مانع أصيب بمرض البروستات، فسافر إلى بيروت ودخل مستشفى الجامعة الأمريكية (1) ، وأجريت له عملية جراحية توفي على أثرها في 17 من شهر رجب عام 1385 هـ ونقل إلى قطر، وصلي عليه في جامعها، وخرج أهالي الدوحة مع جنازته وحزنوا لفراقه حزنا شديدا، ورثي بمرثيات عديدة، وصلي عليه صلاة الغائب في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وخلف مكتبة حافلة بنفائس المخطوطات والمطبوعات، وبعضها بخطه المتوسط في الحسن (2) . أما الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) فيقول: أصيب بمرض البروستات، فأجريت له عملية
__________
(1) لعل صحة ذلك أنه في مستشفى البريري.
(2) (روضة الناظرين) 2: 288، وعلماء آل سليم وتلامذتهم لصالح العمري 2: 463.(54/344)
جراحية بأحد مستشفيات بيروت، فأخذت صحته في التأخر حتى وافاه الأجل في اليوم السابع عشر من شهر رجب عام 1385 هـ في بيروت، ونقل جثمانه إلى قطر وصلى عليه رجال الحكومة القطرية، والأهالي حزنوا عليه، ودفن في قطر معه بحر زاخر من العلوم والمعارف- فرحمه الله- وقد خلف ثلاثة أبناء: عبد العزيز وعبد الرحمن وأحمد، وقد أثني على أولاده خيرا فرحم الله من توفي منهم (1) .
يقول القاضي: وقد بارك الله في أوقات حياة الشيخ ابن مانع لنفع الخلق، ونشر العلم: تعلما وتعليما وإفتاء وتدريسا، وسعيا في نشره للطباعة، فقد جلس للطلبة في الخليج، وأطال التدريس في قطر وفي الحجاز وفي عنيزة، وكان حسن التعليم جدا، وتدريسه على طريقة الجد وشيخنا عبد الرحمن يجمع الطلبة على فنين ويطول تقريره والبحث والنقاش، وتخرج على يديه خلق لا حصر لعددهم (2) .
وقد علقت مجلة المنهل على مقال الأستاذ / السيد ولي الدين أسعد بالقول: كما أن للفقيد تغمده الله برحمته، كثيرا من المقالات الدينية والتاريخية القيمة، وفى عهد إقامته بالمملكة العربية السعودية اختار هذه المجلة منبرا لكثير من إنتاجه، وكان رحمه الله خير مشجع لها وأخذ بيدها أدبيا وماديا، وقد نشرت له ترجمة في هذه المجلة عن حياته في حياته، وعلمنا أن بعض مريديه من قطر أزمعوا
__________
(1) (علماء نجد خلاله ستة قرون) 3: 835.
(2) (روضة الناظرين) 2: 285.(54/345)
إخراج كتاب عن تاريخ حياته، فعسى أن يطلعوا على هذه المقالة القيمة للصديق الوفي المربي الجليل السيد ولي الدين أسعد الذي كان الشيخ- يرحمه الله- يقدره ويحبه، ويرفده بتشجيعه. فيضموها إلى كتابهم القيم إن شاء الله (1) .
__________
(1) مجلة (المنهل) ذو القعدة 1385 هـ ص 867.(54/346)
خاتمة:
وبعد، فهذه نبذة عن سيرة الشيخ محمد بن مانع رحمه الله لا أدعي أنها وافية بالحديث عنه، ولا بإبانة مكانته وعلمه، وجهوده وحرصه، فهو عالم من أكابر العلماء، وأديب في مقدمة الأدباء، وإن قيل إن له شعرا، فإن العلماء مع قدرتهم على الشعر لا يميلون إليه إلا تذوقا، وفي المناسبات؛ لأنه- كما قال الشافعي - بالعلماء يزري.
وهو من رواد التعليم والدعوة في بلادنا، حيث ظهرت آثاره في عمله في التعليم في توسع التعليم، وفي أصالة المناهج، وفي حسن اختيار المعلمين، وفي النصائح والتوجيهات، وفي الحماسة الدينية حيث أنيطت به أعمال كبيرة، فكان فيها مسددا وموفقا.
فهو يستحق من الباحثين دراسات عديدة وفي مناح كثيرة تبرز في شخصيته علما وتعليما. ولعل من طلاب الدراسات العليا من يتصدى لهذه الشخصية المهمة، فالمجال واسع والمصادر عنه ثرة وحية، منها المرصود ومنها ما لا يزال أثره في الصدور باقيا وقريب التناول من محبي الشيخ محمد المانع، ومن الذين(54/346)
تتلمذوا عليه، والذين عاصروه في التعليم وقبسوا من توجيهاته ما أعانهم في أعمالهم التعليمية في المملكة مع النهضة المباركة في هذه البلاد.
فعسى أن يتحقق من ذلك ما يسد ثغرة كبيرة في الدراسة والمقارنة مع نهضة البلاد واتساع دائرته وفق توجيهات الملك عبد العزيز رحمه الله ثم توجيهات ومتابعة أبنائه من بعدهم كابرا بعد كابر.(54/347)
الملاحق(54/348)
واجب الشباب
للشيخ: علي بن فاسم الفيفي
الحمد لله، والصلاة السلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
لا شك أن الثناء الحسن، والذكر الجميل، والسمعة الطيبة، من الأمور التي يحرص عليها كل إنسان عاقل؛ لأنه مطلب جليل ومقصد من المقاصد الشرعية. قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1) وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (2) ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (3) ، وقد يرخص المرء نفسه لئلا يلصق به أو بعشيرته قالة سوء.
والشباب هم المحرك، والعنصر الفاعل، والقوة الهائلة التي تبنى الأمم والشعوب على كواهلها وبقوة سواعدها، ولذلك نجد أن كل أصحاب الحركات الإصلاحية الناجحة في كل العصور هم من الشباب. فإبراهيم عليه السلام الذي أمرنا الله سبحانه باتخاذه أسوة حسنة لنا بقوله تعالى:
__________
(1) سورة الشعراء الآية 84
(2) سورة مريم الآية 50
(3) سورة الزخرف الآية 44(54/355)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) ، كان عليه السلام فتى حين تصدى لدعوة قومه، قال تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (2) {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (3) . وأصحاب الكهف كانوا فتية، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (4) ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (5) . وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين حملوا دعوته والتفوا حوله ونصروه ونشروا دعوته في أرجاء المعمورة كان معظمهم من الشباب. إذن فالشباب هم ركيزة الأمة وحجر الزاوية وواجباتهم عظيمة وشاقة.
إن الله جل شأنه، وتباركت أسماؤه، خلق الإنسان في أحسن تقويم، ومنحه من القوى والقدرات ما جعله أهلا للتشريف والتكريم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (6) ، وجعله عاقلا ناطقا قابلا للتفهم والتفهيم، واستخلفه في الأرض؛ ليعمرها ويقيم فيها معالم دينه القويم، وشرعه الحكيم، قال تعالى:
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة الأنبياء الآية 59
(3) سورة الأنبياء الآية 60
(4) سورة الكهف الآية 10
(5) سورة الكهف الآية 13
(6) سورة الإسراء الآية 70(54/356)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وسخر له الكون بما حوى من الأفلاك والطاقات والإمكانات الهائلة؛ ليستخدمها في شؤون حياته اليومية، ويستعين بما أودعه الله له فيها على ممارساته الحياتية، كما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) ، خلق فقدر، وشرع فأحكم، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (4) ، بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب والحكمة؛ ليبينوا للناس ما نزل إليهم، وما خلقوا من أجله، وما هم مكلفون به، ومحاسبون عليه يوم لقائه؛ ليكونوا على بصيرة من أمرهم، ولئلا تكون لهم على الله حجة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (5) ، فليس بعد إرساله الرسل وإنزاله الكتب لأحد حجة، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6) ، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (7) ، وهذا مناط التشريف ومقتضى
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة الجاثية الآية 13
(4) سورة الحجر الآية 86
(5) سورة فصلت الآية 46
(6) سورة النحل الآية 36
(7) سورة النساء الآية 165(54/357)
التكليف، وغاية الحكمة والتدبير. وقد كان آخر الرسل وخاتمهم وأفضلهم وإمامهم رسول الهدى ونبي الرحمة محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعليهم أجمعين- بعثه الله برسالة خاتمة وشريعة شاملة كاملة، هي خلاصة الرسالات السابقة وزبدتها، ولب الشرائع السماوية وثمرتها، ضمنها كتابه المكنون، المبرأ من الأوهام والظنون، الذي قال فيه منزله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) ، وقال أيضا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) ، وقال أيضا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (5) ، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (6) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (7) . فهو كتاب مبارك، كتاب هداية ونور، كتاب بشارة ونذارة، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأي تشريف وأي تكريم أجل وأعظم من مخاطبة الرب لعباده بكلامه الطيب المبارك المنزل بلسان عربي مبين، نعرف مدلولات كلماته، ونفهم معاني عباراته، بيسر وسهولة، فنعيها ونفقه مراده بها، إذ جعله ميسرا تلاوة وفهما، قريب المأخذ دلالة ومعنى، قال
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الإسراء الآية 10
(3) سورة فصلت الآية 3
(4) سورة فصلت الآية 4
(5) سورة الأنعام الآية 38
(6) سورة فصلت الآية 41
(7) سورة فصلت الآية 42(54/358)
تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) ، ثم تكفل بحفظه لنا في الصدور والسطور، وبصونه عن التغيير والتبديل على ممر العصور والدهور، قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) ، وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (3) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (4) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (5) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (6) . هدايته مشرقة مبهرة، وقطوفه دانية مثمرة، يجدها الإنسان العادي على طرف الثمام؛ ولذلك خاطب به الخواص والعوام، بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (7) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (8) ليأخذوا منه الأحكام مباشرة. أما المتبحر في العلوم فإنه يغوص لالتقاط نفائس درره في التخوم، وكلما ازداد تعمقا ازداد تفوقا في العلوم، فلله الحمد والمنة على هذا التكريم.
__________
(1) سورة القمر الآية 17
(2) سورة الحجر الآية 9
(3) سورة القيامة الآية 16
(4) سورة القيامة الآية 17
(5) سورة القيامة الآية 18
(6) سورة القيامة الآية 19
(7) سورة البقرة الآية 21
(8) سورة البقرة الآية 104(54/359)
ويجب علينا ونحن في هذا العصر المكفهر، السريع التقلب والتغير، أن نستعرض واقع حياتنا المليئة بالمتناقضات في ضوء القرآن الكريم، الذي أنزله الله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وأن نقتبس الهداية من خلاله، وأن نسير في جميع أمورنا على منوآله، وفي فيء ظلاله؛ لنسلم من الزلل والخطل؛ لأن ذلك معنى التكليف، ومدلول الخطاب الشريف، حينما يخاطب العامة بمثل قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (1) {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (2) فهو جل شأنه يخاطبنا بما
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) سورة آل عمران الآية 118(54/359)
تدركه عقولنا، وبما يجب علينا تدبره وتأمله وتفهمه، كما كان سلفنا الصالح يفعلون ذلك. ذكر أهل السير أن الأحنف بن قيس رحمه الله كان من أخص أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسيد قومه، فسمع ذات مرة وهو جالس إنسانا يقرأ القرآن، فإذا به يقرأ قول الله سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (1) فانتبه كأنه كان نائما فاستيقظ، وظل يردد الآية الكريمة لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ويقول لنفسه: هل في القرآن حديث عني؟ ثم قال: علي بالمصحف؟ علي بالمصحف؟ فصار يقلب الصفحات يفتشه من غير قصد، فإذا به يمر بقوم يقول الله تبارك وتعالى عنهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (5) قال اللهم لا أجد نفسي في هؤلاء، ثم مر بقوم يصفهم الله بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (6) قال: اللهم لا أجد نفسي في هؤلاء، أنا أصغر من هؤلاء، ثم مر بقوم يقول الله عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (7) قال: اللهم إني لا أجد نفسي في هؤلاء، ثم قلب الصفحات فإذا به يمر بقوم يصفهم الله بصفات معاكسة
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 10
(2) سورة المؤمنون الآية 1
(3) سورة المؤمنون الآية 2
(4) سورة المؤمنون الآية 3
(5) سورة المؤمنون الآية 4
(6) سورة الفرقان الآية 63
(7) سورة السجدة الآية 16(54/360)
فيقول: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (1) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (2) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (3) {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (4) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (5) {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (6) قال: اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء، ولكن أين أنا؟ أين صفتي؟ ويقلب الصفحات حتى مر بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) قال: اللهم إني ههنا، اللهم إني ههنا. بل قد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحفظ أحدهم عشر آيات من كتاب الله فلا يعدوها حتى يعرف متى نزلت وأين نزلت وفي من نزلت وماذا اشتملت عليه من أحكام فيحل حلالها ويحرم حرامها ثم ينتقل إلى غيرها.
هكذا يجب علينا أن نقرأ القرآن، وأن نتدبر معانيه، وأن نستعرض أحوالنا على ضوئه، وأن نستوضح عنها من خلاله، وأن نبحث عن مكاننا فيه، وعن الواقع الذي نعيشه منه، في هذه المجتمعات البشرية، والنماذج الأممية، الغابرة والحاضرة، كما فعل الأحنف بن قيس؛ لأن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وهدايته قائمة في كل آن، ونحن مخاطبون به كما خوطب به الأولون، بل نحن أحوج ما نكون إلى هدايته من غيرنا، فعلينا أن نستضيء دائما بنوره الساطع، وأن لا نكون عنه معرضين، وعن تدبر معانيه غافلين، فقد حذرنا الله من الغفلة، فقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (8) .
__________
(1) سورة المدثر الآية 42
(2) سورة المدثر الآية 43
(3) سورة المدثر الآية 44
(4) سورة المدثر الآية 45
(5) سورة المدثر الآية 46
(6) سورة المدثر الآية 47
(7) سورة التوبة الآية 102
(8) سورة الأعراف الآية 179(54/361)
فالغفلة تلحق الإنسان ببهيمة الأنعام، التي لا تستفيد من حواسها إلا في مجالات متع الحياة، من الأكل والشرب والنكاح، ولماذا يكون الغافل أضل منها؟ أليس إلا لأنه محاسب ومجازى على أعمال؟ أما بهيمة الأنعام فإنها في آخر المطاف يقال لها: كوني ترابا. فتكون ترابا، وقضي أمرها، قال تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (1) ، وقال تعالى عن المعرضين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (3) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (4) . وأي عقوبة أنكى وأشد من ترك الله لهذا الغافل المعرض وشأنه؟ يهيم على وجهه، ناسيا ما كلف به، غافلا عما يراد منه، وما هو قادم إليه، ومجازى عليه، جزاء وفاقا على سوء صنيعه؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا نسي ما خلق من أجله نسيه الله، أي سلبه هداية التوفيق حتى أنساه نفسه، وإلا ما كان ربك نسيا، غير أنه يمهل ولا يهمل، قال سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (5) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (6) ، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (7) .
__________
(1) سورة النبأ الآية 40
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة طه الآية 125
(4) سورة طه الآية 126
(5) سورة القلم الآية 44
(6) سورة القلم الآية 45
(7) سورة الحشر الآية 19(54/362)
نعوذ بالله من الغفلة ومن سوء العاقبة.
وكلنا يعرف أن الإنسان سمي إنسانا؛ لأنه ينسى، وإذا استحكم به النسيان غفل؟ ولذلك يجب على كل واحد معالجة هذه الظاهرة بالتذكر والتذكير والمذاكرة، كما أمر الله عباده بذلك؛ لأن الإيمان يزيد وينقص. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول أحدهم للآخر: تعال يا أخي نؤمن ساعة. فيتذاكرون فيما بينهم ويذكر أحدهم الآخر. ومن أجل ذلك أمر الله تعالى بالذكر والتذكر والتذكير في غير ما آية، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (1) {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (2) {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} (3) {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (4) ، وأوجب على العامة سؤال أهل الذكر عما جهلوه من شؤون دنياهم وأخراهم، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) ، وأوجب على أهل العلم البيان وعدم الكتمان، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (6) . والتذكر مطلوب في كل حين، وأفضل الذكر وأعظمه وأنفعه هذا القرآن العظيم، الذي يزخر بالمعارف والعظات؛ لأنه يضع الأصابع على الوتر الحساس، وعلى مواضع الداء العضال، ويصف الدواء الناجع الفعال، فقد وصفه منزله بالذكر الحكيم، قال سبحانه: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (7) ،
__________
(1) سورة الأعلى الآية 9
(2) سورة الأعلى الآية 10
(3) سورة الأعلى الآية 11
(4) سورة الأعلى الآية 12
(5) سورة الأنبياء الآية 7
(6) سورة آل عمران الآية 187
(7) سورة آل عمران الآية 58(54/364)
وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (1) . وقد قص الله علينا في القرآن من أنباء الأمم السابقة، وكيف نزل بمن نزل بهم العقاب، وما هي مسبباته، وفي ذلك تنبيه وتحذير للأمم اللاحقة؛ لئلا يضلوا عن سواء السبيل، فيقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك القوم، فهو كتاب بشارة ونذارة، ونور وهداية للناس أجمعين، يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين، وما حكاه الله سبحانه عن الحضارات البائدة، والمجتمعات المندثرة، إنما هي عبر ودروس للأجيال اللاحقة، وتذكير لهم بسنن الله الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وتحذير لهم من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه، من الإغراق في الغفلة وبطر النعمة فيهلكوا مع الهالكين. فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان يتخم بالغنى، ويبطر النعم، ويسأم من النمط الواحد للحياة، ويعافه ويزهد فيه، ويتطلع إلى التغيير والتبديل، وذلك للضعف البشري الغالب على طبعه، فبنو إسرائيل مثلا لما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهي من ألذ الأطعمة، تمنوا البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، فعاقبهم الله عقابا أليما على سوء صنيعهم، كما حكى الله لنا ذلك عنهم بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) ،
__________
(1) سورة يونس الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 61(54/364)
ومثل ذلك ما قصه الله لنا عن قوم سبأ بقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (1) {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (2) {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (3) {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (4) {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (5) . هذا هو الضعف البشري، يسأم النعمة ويبطرها ويشتهي جوا آخر غير الجو الذي ألفه واعتاده ولو كان قاسيا. وهداية القرآن تعالج ذلك بالتحذير من الأشر والبطر، وتبين سوء العاقبة لمن استزلهم الشيطان، فوقعوا في تلك المزالق. وإنما قص الله علينا هذا القصص للاعتبار والاتعاظ والحذر، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (6) ، وقال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (7) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة سبأ الآية 15
(2) سورة سبأ الآية 16
(3) سورة سبأ الآية 17
(4) سورة سبأ الآية 18
(5) سورة سبأ الآية 19
(6) سورة يوسف الآية 111
(7) سورة الأعراف الآية 176(54/365)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) . فالقرآن الكريم مصدر إشعاع ونور وهداية وبشارة ونذارة لكل من بلغ إليه من الأمم في كافة العصور والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد أردت بهذا الاستطراد الوصول إلى صلب الموضوع الذي أنا بصدد التحدث عنه، من خلال ثلاثة مطالب تتعلق بعصرنا الهائج المائج بالفتن والمغريات والاضطرابات، أحسب أنها سترسم لنا الخطوط العريضة لما يجب علينا كطلبة علم وحملة شريعة وعوام من التبصر والتبصير والتذكر والتذكير وصولا إلى بر السلام.
الأول: استذكار الوضع المتدني الذي كنا عليه قبل العهد السعودي كي ندرك مقدار النعمة التي نحن فيها فنحافظ على بقائها واستمرارها.
الثاني: كيف يمكننا التعامل مع الظروف والتيارات المعاصرة في ظل الإسلام بسلام.
الثالث: كيف نحافظ على توازننا مستقبلا ونربي أجيالنا في ظل هذه النهضة المباركة دون انحراف أو انزلاق. فأقول والله المستعان، وعليه التكلان:
__________
(1) سورة يوسف الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 19(54/366)
المطلب الأول:
قال الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام. وهذا قول صادق ينطبق علينا اليوم تمام الانطباق، فقد كانت تردت أحوال أمتنا العربية والإسلامية في كافة أنحاء العالم عامة، وفي بلدان الجزيرة العربية خاصة، قبل قيام هذا الكيان العظيم، وبلغت الحياة في كافة مجالاتها درجة سيئة للغاية من التدني والانحطاط، فالجهل ضارب بجرانه، والتفكك واضطراب حبل الأمن قد بلغ حدا لا مزيد عليه، إلى أن هب المنقذ العظيم، والمصلح الشهيم، جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، فرفع راية الجهاد في سبيل الله، وحمل السلاح معتصما بالكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، فكتب الله له النصر والنجاح، وأعز به الإسلام والمسلمين، فأرسى قواعد الحكم، ولم شعث الأمة في الجزيرة العربية، وضم أطراف البلاد، ووحد كلمة أهلها باسم المملكة العربية السعودية، فصارت منطلقا للدعوة إلى الله تعالى واتباع سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، من بعد أن كانت قد تمزقت كل ممزق، وتشتت شملها، وتفكك كيانها، وعمت الفوضى والاضطراب كل أرجائها، وانفرط حبل الأمن فيها، وانفلتت أزمة الأمور من أيدي أهلها، وانتشر الفساد في كل
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(54/367)
ربوعها، حتى في أقدس بقاع الأرض، مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وهما مهبط الرسالة، ومنبثق النور، ومنطلق الدعوة الإسلامية، حيث عادت مظاهر الجاهلية الأولى على نحو قريب مما كانت عليه قبل الإسلام، يعرف ذلك كل من كان في سني أو أسن مني، فالشركيات والبدع والخرافات وسفك الدم الحرام والزنا والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل والتحاكم إلى الطاغوت منتشرة بين الأقوام، الخواص منهم والعوام، وقد أدركت في فيفاء بالذات بعض الأنصاب والمزارات والمناشح، واطلعت في القواعد القبلية على ما يشير إلى بعض الأماكن التي كانوا يتخذونها أعيادا ومتابات، وبلغ الجهل حدا لا مزيد عليه، مع أن فيفا كانت أحسن حالا من غيرها، حيث ظهرت فيها جماعة الموحدة وبعض العلماء والنزاع من رؤساء العشائر، الذين أدخلوا بعض الإصلاحات في قواعدهم، كالشيخ يحيى بن شريف الذي منع المناصب، وختان التجليد، والختنة، وحرب العدة والعزيمة، وسار على نهجه من بعده ولده الشيخ علي بن يحيى بن شريف، إلا أن مظاهر الجهل والفساد بقي الغالب، حتى ضبط أمر البلاد الملك عبد العزيز رحمه الله، فقضى عليها قضاء مبرما. وبعد استتباب الأمن وعلى وجه التحديد في عام 1357 هـ بدأت انطلاقة التعليم، حيث ألزم أمير فيفاء رشيد بن خثلان والشيخ علي بن يحيى بن شريف بمعاليم لتعليم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة وأمور الدين، فظهر جيل من الناس يقرؤون ويكتبون ويحسنون أداء شعائر الدين، ثم أسس الداعية المصلح الشيخ عبد الله القرعاوي أول مدرسة علمية عام(54/368)
1363 هـ كنت أحد طلابها ومن الله علي بمواصلة الطلب ثم التحقت بالقضاء في محكمة فيفاء عام 1373 هـ ثم قمت بالإشراف على مدارس في فيفاء وبني مالك إلى جانب عمل القضاء وكان قد بلغ عددها في فيفاء (18) مدرسة تضم نحو (1400) طالبا واستمرت نحو ثماني سنوات ودخل التعليم كل بيت وزالت مظاهر الجهل والضلال واختفت البدع والخرافات، ثم جاء دور التعليم النظامي الذي حل محلها وفتحت أول مدرسة ابتدائية تابعة لوزارة المعارف عام 1377 هـ في النفيعة ثم نما وتطور حتى غطت المدارس النظامية كل الجهات بمراحلها الابتدائية والمتوسطة والثانوية بنين وبنات حيث بلغ عددها حتى الآن (51) مدرسة بالإضافة إلى المعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وبلغ عدد الجامعيين من أهل فيفاء خاصة إلى غاية يومنا هذا (450) متخرجا من مختلف التخصصات كما جاء ذلك في بعض الإحصائيات، والتحق بعضهم بدراسات عليا، كما أن التطور والازدهار قد شمل جميع المجالات صحية واجتماعية وزراعية وعمرانية وصناعية وطرق واتصالات وكل المرافق الخدمية، وأنشئت بها هيئة تطوير وتعمير، وبلدية، ومستشفى عام ومثلت فيها جميع الأجهزة الحكومية، وعم الرخاء والازدهار جميع أرجاء المملكة فصارت بهذا المستوى المرموق ولله الحمد، وما كان لمثل ذلك أن يكون لولا صدق العزيمة من ولاة أمرنا، نسأل الله لهم دوام التوفيق وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وبهذا الاستعراض للوضع المتدني الذي كان سائدا قبل العهد السعودي، ثم كيف(54/369)
نما التطور وترعرع حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من الرخاء والأمن والاستقرار، ندرك مدى النعمة التي نحن فيها، نسأل الله أن يوزعنا شكرها، وأن يحفظها علينا من الزوال.(54/370)
المطلب الثاني:
أما كيف يمكننا التعامل مع الظروف والتيارات المعاصرة بسلام في ظل الشريعة المطهرة، فإننا إذا أدركنا أن ديننا الحنيف دين يسر وسماحة لا إصر فيه ولا أغلال؛ لأنه دين فطرة لا ركود فيه ولا جمود، وأنه صالح لكل زمان ومكان، قابل لمسايرة أي تطور في نمط الحياة؛ لأنه من لدن حكيم عليم، هو الذي ارتضاه لنفسه دينا، وأتم به النعمة علينا، القائل عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، والقائل عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، وهو الذي رفع به عنا الإصر والأغلال، كما قال تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (3) ، قال الله تعالى: قد فعلت، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة بمعناها الواسع التي خلقنا الله من أجلها فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) ، هي الطاعة والانقياد لأوامر الشرع، والتأطر به وبتعاليمه اعتقادا
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة الذاريات الآية 56(54/370)
وعبادة وسلوكا ومعاملة على نحو ما كان عليه سلف هذه الأمة، يؤدي العبد ما عليه من الفرائض، ويسعى في مناكب الأرض للابتغاء من فضله، فلا تنافر في الإسلام بين الدين والحياة، فكل عمل مؤطر بإطار الشرع يعتبر عبادة لله وعملا صالحا يثاب عليه العبد عند ربه، ولو كان من حظوظ النفس وشهواتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة "، قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر (1) » ، وكذلك سائر الأعمال؛ لأن الدين دين الفطرة، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (2) ، ومن تأمل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه أدرك هذا المعنى، ولقد كان الوافد يفد على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة فينطق بالشهادتين، ويصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض الفرائض ويأخذ هيئات الصلاة عنه عمليا عن طريق المعاينة ثم يعود إلى قومه داعيا ومعلما وهذا منتهى البساطة واليسر والفطرية. ومن النماذج الحية لذلك، ذلك الرجل الذي سمع النداء للصلاة فجاء من ضيعته وربط بعيره عند باب المسجد ودخل في الصلاة مع الجماعة فرأى الإمام أطال صلاته فانسل من الصف وصلى لنفسه صلاة خفيفة، ثم أخذ بعيره وانصرف، فخاض الناس في أمره واتهموه بالنفاق، ولما علم
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1006) ، مسند أحمد بن حنبل (5/168) .
(2) سورة الروم الآية 30(54/371)
النبي صلى الله عليه وسلم قصته أنب الإمام وقال: «أفتان أنت يا معاذ؟ إذا صليت للناس فتجوز في صلاتك، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة (1) » ، والنماذج لفطرية الدين كثيرة لا نطيل بها. ومن توجيه القرآن لهذا المعنى قول الله سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2) ، وقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (3) . والمقصود أن سعادتنا في الدنيا والآخرة لا تتحقق إلا في ظل الإسلام بانتهاج نهجه الوسط بين التفريط والإفراط في جميع الأمور، فلا تبتل ولا رهبنة ولا انقطاع عن الأعمال الدنيوية، كما أنه لا تهالك على المادة دون مراعاة لأحكام الشرع، بل عمل وسعي للدنيا والآخرة معا في إطار شرع الله، وفي قصة الرهط الذين جاءوا يتقصون عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فتقالوها وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ثم قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل فلا أنام، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار فلا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس وقد ظهر عليه الغضب فقال: «ما بال أناس يقولون كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (4) » أو
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6106) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .
(2) سورة القصص الآية 77
(3) سورة البقرة الآية 201
(4) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .(54/372)
كما قال صلى الله عليه وسلم، بهذا المسلك القويم يستطيع المسلم المحافظة على التوازن والاعتدال وعدم الإخلال بشيء من أمور الدنيا أو الآخرة، والتعامل مع كل الظروف والتيارات المعاصرة بسلام، على منهج الإسلام الصحيح، الذي لا تنافر فيه بين الدين وشؤون الحياة، فهو دين يجمع بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، بل ويعتبر العمل الدنيوي المؤطر بالشريعة الإسلامية عملا أخرويا ومن الأعمال الصالحة التي يثاب عليها في الآخرة.(54/373)
المطلب الثالث:
أما كيف نحافظ على توازننا مستقبلا في ظل ما وصلنا إليه من النهضة الشاملة، والمستوى الحضاري المرموق، دون انحراف عن الصراط المستقيم الذي رسمه لنا المولى بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ، فإن ذلك يكمن في الثبات والاستقامة على هذا المنهج القويم الذي تركنا عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك كتاب الله وسنتي (2) » ، وأن نستديم هذه النعم الوفيرة بحمد الله وشكره عليها؛ عملا بقول المولى سبحانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (3) ، وبقوله تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .
(3) سورة النساء الآية 147(54/373)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) ، وأن نقتبس العبرة والعظة مما قصه الله علينا في كتابه العزيز عن الأمم السابقة وما ضربه لنا من الأمثال والنماذج المختلفة عنها، وأن نتجنب ما هلك أولئك القوم بسببه من الفساد وبطر النعمة؛ لأن القرآن كتاب نور وهداية، وبشارة ونذارة، وسنن الله ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (2) والمتتبع لآي الذكر الحكيم يجد أن سبب هلاك الأمم ودمارها بطر النعمة والفسق والعصيان والانحراف عن مبادئ الدين، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (3) وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (4) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، فعلينا أن نحذر من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه فيصيبنا مثل ما أصابهم، ونحن ولله الحمد أصحاب فطرة وحكمة وإيمان وعقول نيرة نسأل الله المزيد من فضله، وأن يوزعنا شكر نعمه الظاهرة والباطنة، والشكر واجب قولا وعملا، قولا: لقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (5) ، وعملا: بإظهار أثر النعمة التزاما بطاعة
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة الأحزاب الآية 62
(3) سورة القصص الآية 58
(4) سورة الإسراء الآية 16
(5) سورة الضحى الآية 11(54/374)
المنعم وطلبا لمراضيه، واجتنابا لمعصيته خشية من عقابه، وخوفا من أليم عذابه، واستقامة على أمره في حدود الوسطية والاعتدال، وعدم الانغماس في الترف والبطر الذي هلكت الأمم المندثرة بسببه، نسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي ختام بحثي هذا أود أن أوجه نصيحتي إلى إخواني وأبنائي في جميع ديار المسلمين أن ينموا أواصر المحبة والألفة فيما بينهم وأن ينتزعوا الغل والحسد والأحقاد من صدورهم، وأن يكونوا إخوانا وعلى الحق أعوانا؛ لأن ذلك من أسمى مبادئ الدين، قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه (3) » رواه مسلم. ومن الأمور المهمة التي يجب العناية بها والتركيز عليها ما يلي:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) صحيح البخاري الأدب (6066) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن النسائي البيوع (4506) ، مسند أحمد بن حنبل (2/394) ، موطأ مالك البيوع (1391) .(54/375)
أولا: أنه يجب على كل فرد أن يتعاون مع ولاة الأمر في كل ما له صلة بتوطيد الأمن والاستقرار واقتلاع جذور الفساد، كل واحد من موقعه ولا يسفه نفسه، أو يقلل من شأنه، ويقول: إن الأمر لا يخصني، أو لا علاقة لي به؛ لأن الأمن للجميع ويجب على الجميع المحافظة عليه، ومن أعظم الفساد التستر على المفسدين وإيواؤهم وعدم الدلالة عليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من آوى محدثا"، ويعتبر عدم التعاون مع السلطات في هذا المجال خيانة ونكثا بالعهد الذي أمر الله بالإيفاء به، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1) ، وعقوبة النكث بالعهد قد تعجل للناكث في الدنيا، قال الله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (2) ، وقد كثر في الآونة الأخيرة التهاون في إحضار المجرمين وعدم التعاون على قبضهم وهذه ظاهرة خطيرة ينبغي ألا تكون موجودة في مجتمعنا.
ثانيا: مما يحز في النفس مجاهرة بعض الشباب بفعل المنكرات ومنها شرب الدخان علنا، من غير مراعاة لشعور الآخرين، مما يدل على قلة المروءة لدى هؤلاء المستهترين، وذلك مما يقدح في العدالة لو كانوا يعلمون، ويقلل من مكانة الشخص الاجتماعية؛ لأن التزام التقوى والمروءة شرط للعدالة عند أهل العلم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 34
(2) سورة الفتح الآية 10(54/376)
ثالثا: من الظواهر السيئة التي نلاحظها عدم العناية بصلاة الجماعة في كثير من المساجد جريا على العادة المألوفة أيام الخوف والفتن وقبل بناء المساجد، ويجب أن تختفي هذه الظاهرة؛ لأن عدم المحافظة على أداء الصلاة في وقتها جماعة من علامات النفاق. قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء والفجر (4) » ، ومن المؤسف جدا أن كثيرا من الناس لا يصلي الفجر إلا إذا استيقظ من نومه حينما يريد الذهاب لعمله، وكأنه غير معني بقول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (5) ، وبقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (6) ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الأعمى الذي سأله، أتجد لي رخصة أصلي في بيتي يا رسول الله؟ قال: «أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة (7) » وما في معنى هذه الآيات والأحاديث، فالحذر الحذر من إغواء الشيطان لهؤلاء نسأل الله العافية.
__________
(1) سورة مريم الآية 59
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة النساء الآية 143
(4) سنن النسائي الإمامة (843) ، سنن أبو داود الصلاة (554) ، مسند أحمد بن حنبل (5/140) ، سنن الدارمي الصلاة (1269) .
(5) سورة البقرة الآية 238
(6) سورة النساء الآية 103
(7) سنن أبو داود الصلاة (552) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (792) .(54/377)
رابعا: ومع كل ما ذكرت فهم أحسن حالا من غيرهم، ولعل التقصير حاصل من طلبة العلم في عدم التذكير والتنبيه على مثل هذه الأمور، ولعل من العادات الحسنة التي يجب المحافظة عليها اهتمامهم بالزواج المبكر للفتيان والفتيات وتسهيل أمر الزواج، من حيث تخفيف المهر، وتقسيطه، وتيسير الدخول بالمرأة عند أهلها، وبذلك يستطيع الطالب والطالبة الجمع بين الدراسة وتحصين الفرج فني سن مبكرة، ولا يخفى أن أخطر مراحل العمر، فترة المراهقة، وإذا لم يحصن الشاب والشابة بالزواج، فإنه يخشى عليهما من الفتنة، ويخشى على الفتاة أيضا من التعنس إذا تجاوزت الخمس والعشرين سنة ولم تتزوج.
هذا ما أردت التطرق إليه في هذا البحث، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(54/378)
وجوب الحذر من استقدام غير المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا وإمامنا وسيدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد شكا إلي كثير من الناس ظاهرة استقدام غير المسلمين من خدم وسائقين وعمال، وأن بعض الناس يفضلهم على المسلمين.
وحيث إن هذه الظاهرة ظاهرة خطيرة على مجتمعنا - قد لا يظهر ضررها للبعض في الوقت الحاضر وإنما في المستقبل - فقد رغب إلي كثير من الناصحين أن أكتب في هذا الشأن نصيحة للمسلمين عامة، وللذين يفضلون استقدام الكفار على المسلمين خاصة، تتضمن تحذيرهم من التمادي والتساهل في الأمر، أسأل الله سبحانه أن ينفع بها.
فأقول مستعينا بالله سبحانه: لا شك أن في استقدام الكفار من خدم وسائقين وعمال عواقب وخيمة، ونتائج خطيرة على الأسر والأولاد والمجتمع، لا تخفى على من له أدنى بصيرة، وأنا لا أحصي من يتذمر ويتضجر منهم، وما يحصل منهم من جرائم ومخالفات لقيم هذه البلاد، وأخلاقها الإسلامية ممن وصلتني أخبارهم، وما يخفى من ذلك أكثر، وقد تمادى بعض(54/379)
الناس هداهم الله وتساهل في استقدام غير المسلمين، مع ما يتصف به هؤلاء الكفار من ضلال وحقد على المسلمين وغش لهم، ودعوة إلى الكفر والفساد، ومذاهب ضالة وديانات باطلة وأديان مخالفة لتعاليم الإسلام، مع ما يحاولون بثه في المجتمع من شرور مختلفة ; كالأفلام الهابطة، والصور الخليعة الماجنة، والمخدرات، والمسكرات، والفساد الأخلاقي، ومنشورات وكتب تدعو إلى اعتناق دياناتهم الضالة والمحرفة، ومع هذا يحتج من يفضل استقدام الكفار على المسلمين بأنهم أخلص من المسلمين في العمل وأتقى.
وهذه الحجة بلا شك حجة باطلة واهية، يزينها الشيطان وحب الدنيا، وكأنه لا يعلم أن هؤلاء الكفار أعداء لنا، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (1) ، ولا يحبون لنا الخير، كما قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (2) ، وقال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (3) ; لذلك فإن هم كل واحد منهم أن يحصل على أكبر قدر من المال من أي طريق، فهم يتظاهرون بالإخلاص ويتصفون به في بعض الأحيان ; ليستميلوا المسلمين إليهم ويرغبوهم فيهم، وفي بقائهم في العمل،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 118
(2) سورة البقرة الآية 105
(3) سورة النساء الآية 89(54/380)
ويترقبون فرص الغفلة، فإذا سنحت لهم نفذوا ما يريدون من جرائم ثم هربوا بعد ذلك، إن استطاعوا، فهم كالحية ملمسها لين ولكنها تحمل السم القاتل؛ حيث إنهم لا يرسلون لنا في الغالب إلا العاطلين عن العمل هناك، أو من سجن عدة مرات، أو من كانت خبرته قليلة، فيأتي ليتعلم في مجتمعنا، أما من مهر في الصناعة أو الطب أو غيره فإنهم يحتفظون به لبلادهم، ولا يرسلونه أبدا، وإن أرسلوه فبشروط وأجور مرتفعة.
أما التقصير الذي يحدث من بعض المستقدمين المسلمين فسببه: أن المستقدم لا يجتهد في اختيار من كان أقرب إلى الخير، وأبعد عن مظاهر الفسق والفساد، فيكون من بينهم من يدعي الإسلام وهو غير ملتزم به ولا بأحكامه، فيحصل به ضرر عظيم وفساد كبير وتشويه لسمعة المسلمين.
والواجب على من رأى من أحد المستقدمين المسلمين تقصيرا أن ينصحه، ويوجهه، ويصبر عليه، حتى يعرف ما يراد منه من عمل، فإن استقام وإلا استبدله بغيره من المسلمين الصالحين المخلصين الذين لا تخلو منهم كل بلد من بلاد المسلمين، والحمد لله، أما أن يستمر في استقدام الكفار فهذا أمر لا يجوز، لما في ذلك من تقريب من أبعده الله، وائتمان من خونه الله.
ومن أثنى عليهم ومدحهم وفضلهم على المسلمين في العمل وغيره فإنه قد أتى إثما عظيما، وأساء الظن بإخوانه المسلمين.
ومن المعلوم أن هذه الجزيرة لا يجوز أن يستقدم(54/381)
إليها الكفار إلا بصفة مؤقتة.
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بالناس فيما يفعلون من استقدام الكفار ; لأن أكثر الخلق لا يتقيدون بحكم الشرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكفار من هذه الجزيرة، وأوصى عند موته بذلك، وأن لا يبقى فيها إلا الإسلام فقط، فهي منبع الإسلام ومهبط الوحي، فلا يجوز أن يقر فيها الكفار إلا بصفة مؤقتة، لحاجة يراها ولي الأمر، كالباعة الذين يجلبون البضائع التي يحتاج إليها المسلمون ثم يرجعون إلى بلادهم، كما استخدم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر ; للضرورة إليهم، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه لما استغنى عنهم.
فأوصي إخواني جميعا في هذه الجزيرة بالحذر من استقدام الكفار من النصارى والهندوس وغيرهم والتواصي بذلك، وأن يعتاضوا عنهم بالمسلمين المعروفين بحسن السيرة والعقيدة والأمانة، طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وعملا بسنته، وحماية لهذا المجتمع الإسلامي من مكائد أعدائه وأخلاقهم الذميمة.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(54/382)
حديث شريف
عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا على اثنتين رجل آتاه الله هذا الكتاب فقام به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فتصدق به آناء الليل وآناء النهار (1) » .
(رواه البخاري ومسلم واللفظ له)
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7529) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (815) ، سنن الترمذي البر والصلة (1936) ، سنن ابن ماجه الزهد (4209) ، مسند أحمد بن حنبل (2/133) .(54/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1)
(سورة الأنعام، الآية 155)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155(55/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(55/2)
مجلة البحوث الإسلامية
ISLAMIC RESEARCH MAGAZINE
تصدرها
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
عنوان المراسلات
مجلة البحوث الإسلامية(55/3)
المحتويات
الافتتاحية
إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على ما أنكر من ذلك لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 21
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 53
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 93(55/4)
البحوث
الماتريدية ربيبة الكلابية للدكتور / محمد بن عبد الرحمن الخميس 123
حكم الطهارة من الحدث للطواف للدكتور / عبد الله بن إبراهيم الزاحم 161
الرزق: مصدره، أسباب حصوله وزيادته، حلاله وحرامه، شروطه للدكتور / مسفر بن سعيد الغامدي 223
مسألة التحلل الأول في الحج للشيخ / فريح بن صالح البهلال 325
بيان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم الزواج المدني 377
دعوة إلى مساعدة مسلمي كوسوفا لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 379(55/5)
صفحة فارغة(55/6)
إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي، والرد على من أنكر ذلك
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية وغيرها في شعبان من هذا العام، أعني عام 1407هـ، أحاديث مختصرة ومطولة عما حصل من إعلان بعض الجن الذي تلبس ببعض المسلمات في الرياض إسلامه عندي، بعد أن أعلنه عند الأخ عبد الله بن مشرف العمري المقيم في الرياض، بعدما قرأ المذكور على المصابة، وخاطب الجني وذكره بالله ووعظه وأخبره أن الظلم حرام وكبيرة عظيمة، ودعاه إلى الإسلام لما أخبره الجني أنه كافر بوذي، ودعاه إلى الخروج منها، فاقتنع الجني بالدعوة وأعلن إسلامه عند عبد الله المذكور. ثم رغب عبد الله المذكور وأولياء المرأة أن يحضروا عندي بالمرأة حتى أسمع إعلان إسلام الجني، فحضروا عندي، فسألته عن أسباب دخوله فيها فأخبرني بالأسباب ونطق بلسان المرأة لكنه كلام رجل وليس كلام امرأة، وهي في الكرسي الذي بجواري، وأخوها وأختها وعبد الله بن مشرف المذكور وبعض المشايخ يشهدون ذلك، ويسمعون كلام(55/7)
الجني، وقد أعلن إسلامه صريحا، وأخبر أنه هندي بوذي الديانة، فنصحته وأوصيته بتقوى الله وأن يخرج من هذه المرأة ويبتعد عن ظلمها، فأجابني إلى ذلك، وقال: أنا مقتنع بالإسلام، وأوصيته أن يدعو قومه للإسلام بعدما هداه الله له فوعد خيرا وغادر المرأة، وكان آخر كلمة قالها: السلام عليكم. ثم تكلمت المرأة بلسانها المعتاد وشعرت بسلامتها وراحتها من تعبه، ثم عادت إلي بعد شهر أو أكثر مع أخويها وخالها وأختها، وأخبرتني أنها في خير وعافية وأنه لم يعد إليها والحمد لله، وسألتها عما كانت تشعر به حين وجوده بها فأجابت: بأنها كانت تشعر بأفكار رديئة مخالفة للشرع، وتشعر بميول إلى الدين البوذي والاطلاع على الكتب المؤلفة فيه، ثم بعدما سلمها الله منه زالت عنها هذه الأفكار ورجعت إلى حالها الأولى البعيدة من هذه الأفكار المنحرفة. وقد بلغني عن فضيلة الشيخ علي الطنطاوي أنه أنكر حدوث مثل هذا الأمر، وذكر أنه تدجيل وكذب، وأنه يمكن أن يكون كلاما مسجلا مع المرأة ولم تكن نطقت بذلك. وقد طلبت الشريط الذي سجل فيه كلامه وعلمت منه ما ذكر، وقد عجبت كثيرا من تجويزه أن يكون ذلك مسجلا مع أني سألت الجني عدة أسئلة وأجاب عنها، فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل ويجيب؟ هذا من أقبح الغلط ومن تجويز الباطل، وزعم أيضا في كلمته أن إسلام الجني على يد الإنسي يخالف قول الله تعالى في قصة سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (1) ، ولا شك
__________
(1) سورة ص الآية 35(55/8)
أن هذا غلط منه أيضا - هداه الله - وفهم باطل، فليس في إسلام الجني على يد الإنسي ما يخالف دعوة سليمان. فقد أسلم جم غفير من الجن على يد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أوضح الله ذلك في سورة الأحقاف وسورة الجن، وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي، فأمكنني الله منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي. فرده الله خاسيا (1) » هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي. فرده الله خاسئا (2) » .
وروى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى
__________
(1) رواه البخاري في (الجمعة) باب ما يجوز من العمل في الصلاة برقم (1210) .
(2) رواة مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب جواز لعن الشيطان برقم (541) .(55/9)
وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح موثقا حتى يراه الناس (1) » ، ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد، وفيه: «فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها (2) » . وخرج البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به جـ4 ص486 من الفتح «عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيعود، فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلى عيال لا أعود، فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من
__________
(1) رواه النسائي في (السنن الكبرى) كتاب التفسير، تفسير سورة ص، باب قوله تعالى: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي برقم (11340) .
(2) صحيح البخاري الطب (5747) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2141) .(55/10)
الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك الشيطان حتى تصبح. فخليت سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان (3) » .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن صفية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (4) » .
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الوكالة) باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل برقم (2311) .
(2) سورة البقرة الآية 255 (1) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(3) سورة البقرة الآية 255 (2) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(4) رواه البخاري في (الاعتكاف) باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه برقم (2039) ، ومسلم في (السلام) باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته.. برقم (2174) .(55/11)
وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند ج4 ص216 بإسناد صحيح أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله، حال الشيطان بيني وبين صلاتي وبين قراءتي، قال: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أنت حسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا، قال: ففعلت ذاك فأذهبه الله عز وجل عني، (1) » ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل إنسان معه قرين من الملائكة وقرين من الشياطين، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الله أعانه عليه فأسلم، فلا يأمره إلا بخير. وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنسي وصرعه إياه، فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم ولا هدى، بل تقليدا لبعض أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك إن شاء الله.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث عثمان بن أبي العاص برقم (17440) ، ومسلم في (السلام) باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة برقم (2203) .(55/12)
بيان كلام المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) :
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) ما نصه: يعني بذلك يتخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي يخنقه فيصرعه "من المس " يعني من الجنون " وقال البغوي رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (3) أي: الجنون. يقال: مس الرجل، فهو ممسوس إذا كان مجنونا " اهـ.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكرا. وقال ابن عباس رضي الله عنه: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق. رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك " انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (5) في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275(55/13)
من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس " اهـ.
وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير من أراده وجده.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين) الموجود في مجموع الفتاوى جـ19 ص9 إلى ص65 ما نصه بعد كلام سبق: " ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك. ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني، يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه. وهذا مبسوط في موضعه ".
وقال أيضا رحمه الله في جـ24 من الفتاوى ص276، 277 ما نصه: " وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275(55/14)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1) » .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن الجني لا يدخل بدن المصروع، فقال: يا بني، يكذبون، هذا يتكلم على لسانه.
وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله. وقد يجر المصروع وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور، من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان.
وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك، وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك " اهـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) جـ4 ص66 إلى 69 ما نصه: " الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية. وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، في سببه وعلاجه.
__________
(1) سبق تخريجه ص11.(55/15)
وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه. فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل. وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به. وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها. . . إلى أن قال: وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج. فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه، جيدا. وأن يكون الساعد قويا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل،(55/16)
فكيف إذا عدم الأمران جميعا. يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه. ولا سلاح له.
والثاني من جهة المعالج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: " اخرج منه " أو يقول: " بسم الله " أو يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله "، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اخرج عدو الله، أنا رسول الله ".
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه. ويقول: قال لك الشيخ اخرجي فإن هذا لا يحل لك. فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب، فيفيق المصروع ولا يحس بألم. وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا. . . إلى أن قال: وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة. وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا " انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية، وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة، على جواز دخول الجني بالإنسي، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك، وخطأ فضيلة الشيخ علي الطنطاوي في(55/17)
إنكاره ذلك.
وقد وعد في كلمته أنه يرجع إلى الحق متى أرشد إليه، فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق.
ومما ذكرنا أيضا يعلم أن ما نقلته صحيفة الندوة في عددها الصادر في 14 \ 10 \ 1407 هـ عن الدكتور محمد عرفان، من أن كلمة جنون اختفت من القاموس الطبي، وزعمه أن دخول الجني في الإنسي ونطقه على لسانه، أنه مفهوم علمي خاطئ مائة في المائة، كل ذلك باطل نشأ عن قلة العلم بالأمور الشرعية، وبما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وإذا خفي هذا الأمر على كثير من الأطباء لم يكن ذلك حجة على عدم وجوده، بل يدل ذلك على جهلهم العظيم بما علمه غيرهم من العلماء، المعروفين بالصدق والأمانة والبصيرة بأمر الدين، بل هو إجماع من أهل السنة والجماعة، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم، ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه نقل ذلك عن أهل السنة والجماعة، ونقل ذلك أيضا عن أبي الحسن الأشعري، العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي، المتوفى سنة 799 هـ في كتابه " آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان" في الباب الحادي والخمسين من كتابه المذكور.
وقد سبق في كلام ابن القيم رحمه الله أن أئمة الأطباء وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، وإنما أنكر ذلك جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم وزنادقتهم، فاعلم ذلك أيها القارئ، وتمسك(55/18)
بما ذكرناه من الحق، ولا تغتر بجهلة الأطباء وغيرهم، ولا بمن يتكلم في هذا الأمر بغير علم ولا بصيرة، بل بالتقليد لجهلة الأطباء وبعض أهل البدع من المعتزلة وغيرهم. والله المستعان(55/19)
تنبيه:
قد دل ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كلام أهل العلم، على أن مخاطبة الجني، ووعظه وتذكيره ودعوته للإسلام، وإجابته إلى ذلك، ليس مخالفا لما دل عليه قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام في سورة " ص " أنه قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) ، وهكذا أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وضربه إذا امتنع من الخروج، كل ذلك لا يخالف الآية المذكورة، بل ذلك واجب، من باب دفع الصائل، ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يفعل ذلك مع الإنسي. وقد سبق في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذعت الشيطان حتى سال لعابه، على يده الشريفة عليه الصلاة والسلام، وقال: «لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح موثقا حتى يراه الناس (2) » وفي رواية لمسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت:
__________
(1) سورة ص الآية 35
(2) سبق تخريجه ص10.(55/19)
أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة (1) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهكذا كلام أهل العلم. وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق، وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن علينا جميعا بإصابة الحق في الأقوال والأعمال، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من القول عليه بغير علم، ومن إنكار ما لم نحط به علما إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب جواز لعن الشيطان برقم (542) .(55/20)
الحاجز الذي ينبغي أن يكون
بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة من إعداد بحث في الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه، وحيث إن الموضوع يتطلب البحث في أمرين:
أحدهما: سد الذرائع.
والثاني: الحاجز الذي يكون بين المصلي والمقبرة.
أعدت اللجنة بحثا مختصرا فيهما، وفيما يلي الحديث عنهما، وبالله التوفيق:
أولا: سد الذرائع:
سبق أن كتبت اللجنة الدائمة بحثا في سد الذرائع في موضوع الأسورة المغناطيسية وموضوع شارات الطيارين، هذا نصه:
رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر:
إن تطبيق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته، واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من(55/21)
كتاب الله تعالى قد يكون ذريعة إلى التبرك به، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره وتقيه شر الهزائم، وتكفل له النصر في ميادين القتال، ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار. ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها.
سد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها، وبناء الأحكام عليها.
وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، فقال (1) :
(الوجه الرابع والعشرون) أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها.
والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة؛ ولهذا قيل: الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا، كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء نفسه فسادا، كالقتل والظلم، فهذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه،
__________
(1) الفتاوى الكبرى 3 \ 256 - 295.(55/22)
أو لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة، وإلا سميت سببا ومقتضيا ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت تفضي وقد تفضي لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت تفضي أحيانا فإن يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا.
ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا (القسم الثاني) بجامع الحيل، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع فصارت الأقسام (ثلاثة) .
أولا: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به، كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى، وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ وكقرض بني آدم.
الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها، كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن.
الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل، كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة.(55/23)
والغرض من هذا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع.
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها، وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا، فيصير ذريعة، فيسد هذا الباب؛ لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا، ويقول القائل لم أقصد به ذلك، ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفي من نفسه على نفسه.
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جلبت (1) عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيها، فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه، جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة.
أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر:
(فالأول) قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2)
__________
(1) كذا بالأصل، ولعل الصواب: (جبلت) إدارة المجلة.
(2) سورة الأنعام الآية 108(55/24)
حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم.
(الثاني) ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «" من الكبائر شتم الرجل والديه " قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: " نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه (1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «" إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه (2) » فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما، وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره.
(الثالث) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام.
(الرابع) أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر، وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة،
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
(2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .(55/25)
لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه، لا لإتلافها على شاربها.
ثم إنه قد نهى عن الخليطين، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها؛ حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما نهى عن بعض ذلك؛ لئلا يتخذ ذريعة، فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه (1) » . يعني - صلى الله عليه وسلم - أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا.
(الخامس) أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير.
(السادس) أنه نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
(السابع) أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك أنها وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس، أو أخذ أحوال بعض عابديها.
(الثامن) أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بأهل الكتاب، في أحاديث كثيرة، مثل قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (2) » ،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/207) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .(55/26)
«إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في عاشوراء: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع (2) » ، وقال في موضع: «لا تشبهوا بالأعاجم» ، وقال فيما رواه الترمذي: «ليس منا من تشبه بغيرنا (3) » . حتى قال حذيفة بن اليمان: من تشبه بقوم فهو منهم. وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض.
(التاسع) أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» . حتى ولو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها درة، لم يجز ذلك، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك؛ لأن الطباع تتغير، فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (4) ، وهذا نص في اعتبار الذريعة.
(العاشر) أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (652) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) .
(3) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(4) سورة النساء الآية 3(55/27)
(الحادي عشر) أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام، حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين.
(الثاني عشر) أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل اشتراط إعلانه، إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما، ومثل اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وكان أصل ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (1) و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (2) ، وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة وقوع السفاح بصورة نكاح، وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها، ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع؛ فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم، كما جعل بينهما في قوله تعالى: {نَسَبًا وَصِهْرًا} (3) .
وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح، حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه.
__________
(1) سورة النساء الآية 24
(2) سورة النساء الآية 25
(3) سورة الفرقان الآية 54(55/28)
(الثالث عشر) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح. ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا.
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر. يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا، وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، ولكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها، فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له.
(الرابع عشر) أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا؛ وما ذاك إلا سدا للذريعة.
(الخامس عشر) أنه تقدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له، أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض؛ وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية، فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية.(55/29)
(السادس عشر) أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء، إما القاتل عمدا كما قال مالك، أو القاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق، أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث، أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا؛ وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل، فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر.
(السابع عشر) أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت، حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة. وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف. مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله، فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين.
(الثامن عشر) أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
(التاسع عشر) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار.
(العشرون) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه، ونهى(55/30)
عن صوم يوم الشك، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه. وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن يستديم استقبال القبلة وندب المأموم إلى هذا التمييز، ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض.
(الحادي والعشرون) أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه، ولا يصمد إليه صمدا؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه.
(الثاني والعشرون) أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (راعنا) مع قصدهم الصالح؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم -، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا.
(الثالث والعشرون) أنه أوجب الشفعة؛ لما فيه من رفع الشركة، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة(55/31)
والقسمة؛ سدا لهذه المفاسد بحسب الإمكان.
(الرابع والعشرون) أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن، وأمر أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير.
(الخامس والعشرون) أن الله سبحانه منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به.
(السادس والعشرون) أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر، وإن كانت العقوبات من جنس الشر؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف، دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير. ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم(55/32)
بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(السابع والعشرون) أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم. ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة، وصلاح ذات البين، وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات - لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال، وزجر عن ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا.
(الثامن والعشرون) أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع.
(التاسع والعشرون) أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم.
(الثلاثون) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته. قالوا: وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل(55/33)
رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع.
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه، أو منصوص عليه، أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام، كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما وإن أفضت إليه، كما فعل من استشهد للذرائع، فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا.
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم آخر غير ما ذكرناه من الذرائع، وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به المحرم، أو بأن لا يقصد به، يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه، فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما، وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط.(55/34)
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله:
فصل في سد الذرائع (1) :
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها؛ فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل؛ فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كله كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه.
فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 147 - 153.(55/35)
تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء.
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه، فنقول:
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها، كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد، وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب؛ فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده، أو بغير قصد منه؛ فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث، ونحو ذلك. والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله، ونحو ذلك. ثم هذا القسم من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته؛ فهاهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها.(55/36)
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم. ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها، وأمثال ذلك. ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (1) ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة.
بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما فنقول:
الدلالة على المنع من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) . فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين - مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم - لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز؛ لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
__________
(1) قوله: '' يطؤها '' كذا في الأصل، والصواب: يطبها.
(2) سورة الأنعام الآية 108(55/37)
الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) . فمنعن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} (2) . أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقائهم ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة؛ لندورها وقلة الإفضاء إليها، فجعلت كالمقدمة (3) .
الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (4) . نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير - لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها؛ سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - تشبها بالمسلمين، يقصدون
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 58
(3) كذا بالأصل وصوابه كالمعدوم.
(4) سورة البقرة الآية 104(55/38)
بها غير ما يقصده المسلمون.
الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون:
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (1) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) .
فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له - مع أنه حقيق به - ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز؛ لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.
الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.
الوجه السابع: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
الوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه " قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: " نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (3) » . متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: " يسب أبا
__________
(1) سورة طه الآية 43
(2) سورة طه الآية 44
(3) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .(55/39)
الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (1) » . فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه، وإن لم يقصده.
الوجه التاسع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين - مع كونه مصلحة - لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه. فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخلوا فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
الوجه العاشر: أن الله تعالى حرم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب. ثم بالغ في سد الذريعة، فنهى عن الخليطين، وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم بها؛ حسما لمادة قربان المسكر. وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل، فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه (2) » .
الوجه الحادي عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى أمر بغض البصر - وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله - سدا لذريعة
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/207) .(55/40)
الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
الوجه الثالث عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها، وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدا، وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده، ومن لم يقصده بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
الوجه الرابع عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد، مع بعد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟
الوجه الخامس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (1) » . وقوله: «إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (2) » ، وقوله في عاشوراء: «خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده (3) » ، وقوله: «لا تشبهوا بالأعاجم» ، وروى الترمذي عنه: «ليس منا من تشبه بغيرنا (4) » وروى الإمام أحمد عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم» . وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها،
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (652) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/241) .
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .(55/41)
والمرأة وخالتها، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» . حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور. وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع. وأباح الأربع - وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن - لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن، فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر: أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجح في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر: أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي الإحرام، وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء، ولا ينقضي هذا بالصيام، فإن زمنه قريب جدا فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.
الوجه العشرون: أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة.
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا. . .) ثم قال: باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان: أحدهما: مقصود(55/42)
لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة به، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. اهـ ".(55/43)
ثانيا: الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه:
بحث شراح الحديث والفقهاء هذا الموضوع وفيما يلي نقول عنهم:
1 - نقول عن بعض شراح الحديث:
أ - روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (1) » . قال النووي رحمه الله على هذا الحديث: فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر. قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. اهـ (2) .
ب - وقال السنوسي رحمه الله على هذا الحديث: " ولا تصلوا إليها ": أي لا تجعل قبلة؛ سدا للذريعة إلى عبادتها، واعتقاد الجهال التقرب بذلك، قاله: (ع) قال الأبي: وما علل به النهي هو الجواب عن إجازته في المدونة أن يصلي وبين يديه قبر أو مرحاض. ابن العربي: تكره الصلاة في القبور وتحرم
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 7 \ 38.(55/43)
الصلاة إليها وهو كفر من فاعله (1) .
ج - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: " وما يكره من الصلاة في القبور" يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر، أو إلى القبر، أو بين القبرين. وفي ذلك حديث رواه مسلم عن طريق أبي مرثد الغنوي مرفوعا: «ولا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها أو عليها (2) » ، قلت: وليس هو على شرط البخاري، فأشار إليه في الترجمة، وأورد معه أثر عمر الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة، والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري، ولفظه: " بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر: القبر القبر، فظن أنه يعني القمر، فلما رأى أنه يعني القبر جاز القبر وصلى". وله طرق أخرى بينتها في "تعليق التعليق " منها من طريق حميد: عن أنس نحوه، وزاد فيه: " فقال بعض من يليني: إنما يعني القبر، فتنحيت عنه " وقوله: " القبر القبر" بالنصب فيهما على التحذير، وقوله: " ولم يأمره بالإعادة " استنبطه من تمادي أنس على الصلاة، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف (3) .
2 - نقول عن بعض الفقهاء:
أ - قال النووي رحمه الله: فقال أصحابنا: ويكره أن يصلي إلى قبر. هكذا قالوا: يكره. ولو قيل: يحرم؛ لحديث أبي مرثد وغيره مما سبق لم يبعد. قال صاحب التتمة: وأما الصلاة
__________
(1) شرح الأبي والسنوسي على صحيح مسلم 3 \ 100.
(2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(3) فتح الباري 1 \ 523، 524.(55/44)
عند رأس قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجها إليه فحرام.
ب - قال ابن قدامة رحمه الله: وقال أبو عبد الله بن حامد:
إن صلى إلى المقبرة والحش فحكمه حكم المصلي فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل؛ لما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها (1) » متفق عليه.
وقال الأثرم: ذكر أحمد حديث أبي مرثد، ثم قال: إسناده جيد. وقال أنس: رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر فجعل يشير إلى: القبر. قال القاضي: وفي هذا تنبيه على نظائره من المواضع التي نهي عن الصلاة فيها. والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: «جعلت الأرض مسجدا (2) » يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته، وقياس ذلك على الصلاة إلى المقبرة لا يصح؛ لأن النهي إن كان تعبدا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه، وإن كان لمعنى مختص بها وهو اتخاذ القبور مسجدا والتشبه بمن يعظمها ويصلي إليها فلا يتعداها الحكم؛ لعدم وجود المعنى في غيرها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك (3) » وقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » يحذر ما صنعوا، متفق عليهما. فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور؛ للنهي عنها، ويصح إلى غيرها؛ لبقائها في عموم الإباحة، وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه. والله أعلم (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(5) المغني والشرح 1 \ 724.(55/45)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:
ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك. وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة؛ لأنه لا يتناول اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا، وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب. والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر. وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه. فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه. وذكر الآمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه، أي المسجد الذي قبلته إلى القبر، حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر. وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد (1) .
وقال ابن مفلح رحمه الله:
وتصح الصلاة إليها مع الكراهة، وقيل: لا تصح، وقيل: إلى مقبرة، اختاره صاحب المغني والمحرر وهو أظهر، وعنه: وحش، اختاره ابن حامد، وقيل: وحمام ولا حائل، ولو كمؤخرة الرحل، وظاهره ليس كسترة صلاة، فيكفي الخط، بل كسترة المتخلي، كما سبق، ويتوجه أن مرادهم لا يضر بعد كثير عرفا، كما لا أثر له في مار مبطل، وعنه:، لا يكفي حائط المسجد، جزم به صاحب المحرر
__________
(1) الفتاوى المصرية 4 \ 411.(55/46)
وغيره؛ لكراهة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش (1) .
وقال العنقري رحمه الله:
قوله: " وتصح إليها" وقيل: لا تصح الصلاة إلى المقبرة. اختاره الموفق، والمجد، وصاحب النظم والفائق. قال في الفروع: وهو أظهر. وعنه: لا تصح إلى المقبرة والحش. اختاره ابن حامد والشيخ تقي الدين. اهـ.
وعنه: لا يكفي حائط المسجد. جزم به صاحب المحرر وغيره؛ لكراهة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش. اهـ.
واختلفت نسخ الإقناع، ففي بعضها: لا يكفي الخط. ولعلها أصح، وفي أخرى: لا يكفي حائط المسجد. اهـ (م ص) (2) .
وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا.
قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى - فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز، ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلوا إلى القبور (3) » وقال: إسناده جيد. انتهى.
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق. فتبين
__________
(1) الفروع 1 \ 374.
(2) الروض المربع 1 \ 154 - حاشية العنقري.
(3) رواه مسلم.(55/47)
بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله، كما هو الواقع. والله المستعان.
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى. وهذا كله باطل من وجوه:
منها: أنه من القول على الله بلا علم. وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله.
ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا؛ لما يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء؛ لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند(55/48)
قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (1) .
قال عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله:
وأجاب الشيخ محمد ابن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: مسجد الطائف الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس رضي الله عنهما، الصلاة في المسجد إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع يخرج القبر عن مسمى المسجد فلا تكره الصلاة فيه. وأما القبر إذا هدمت القبة التي عليه فيترك على حاله ولا ينبش، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين (2) .
وقال ابن حزم رحمه الله:
" قال علي: وكره الصلاة إلى القبر وفي المقبرة وعلى القبر أبو حنيفة والأوزاعي وسفيان، ولم ير مالك بذلك بأسا، واحتج له بعض مقلديه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر المسكينة السوداء.
قال علي: وهذا عجب ناهيك به أن يكون هؤلاء القوم يخالفون هذا الخبر فيما جاء فيه، فلا يجيزون أن تصلى صلاة الجنازة على من قد دفن، ثم يستبيحون بما ليس فيه منه أثر ولا
__________
(1) فتح المجيد ص243.
(2) الدرر 3 \ 133.(55/49)
إشارة مخالفة السنن الثابتة، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال علي: وكل هذه الآثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا، إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحرم ما نهى عنه، ونعد من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل، فأمره ونهيه حق، وفعله حق، وما عدا ذلك فباطل، والحمد لله رب العالمين " (1) .
وقال علي محفوظ رحمه الله:
ومن البدع اتخاذ المقابر مساجد بالصلاة إليها. فعن أبي مرثد كناز بن الحصين رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (2) » رواه مسلم وأبو مرثد بفتح الميم واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (3) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. وقال صلوات الله وسلامه عليه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» متفق عليه.
والسر في ذلك أن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها. وقد ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن ودا وسواعا وإخوانهما كانوا قوما صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وكان هذا مبدأ
__________
(1) المحلى 4 \ 32.
(2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(3) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .(55/50)
عبادة الأصنام. أخرجه ابن جرير. ولهذه المفسدة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد الصلاة عندها، ووقت طلوع الشمس وعند استوائها وعند غروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها، فنهى أمته عن الصلاة وإن لم يقصد ما قصد المشركون؛ سدا للذريعة وبعدا عن التشبه بعبدة الأوثان.
(وعلى الجملة) تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما، وكذا الصلاة عليها للتبرك والإعظام، كما صرح به الإمام النووي في شرح المهذب. وليس معنى الإعظام أن تقصد أرباب القبور بالسجود فإنه كفر صراح، بل المعنى أنه بتحريه الصلاة لله تعالى على هذا الوجه زاعما أنه أرجى للقبول عند الله تعالى ببركة صاحب الضريح يكون قد أعظم من شأن هذا الولي، وهذا يقع كثيرا من العامة (1) .
هذا ما تيسر جمعه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإبداع في مضار الابتداع ص 190.(55/51)
صفحة فارغة(55/52)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(55/53)
صفحة فارغة(55/54)
فتوى رقم (20261)
وتاريخ 3 \ 3 \ 1419 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي \ ع. ن. ف. من جدة، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (1474) وتاريخ 19 \ 2 \ 1419 هـ. وقد سأل المستفتي سؤالا هذا نصه: " كثر في الآونة الأخيرة التردد على قبر آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأبواء، بحجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاره، فهل زيارته سنة أو لا؟ وهل كان الصحابة والسلف الصالح يزورونه؟ وهل زاره النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة أو مرات؟ نرجو الإجابة الشافية، فالأمر مشكل جدا؟ لأن بعض الناس يترددون عليه الآن بشكل ملفت للنظر، وفقكم الله ونفع بكم الإسلام والمسلمين ".
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن المعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما زار قبر أمه مرة واحدة، وأستأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له، ولم يعرف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كرر الزيارة لقبر أمه بعد ذلك، ولم يعرف عن الصحابة والسلف(55/55)
الصالح فيما نعلم أنهم زاروا هذا القبر أو ترددوا عليه أو سافروا إليه؛ لأن السفر لزيارة القبور منهي عنه؛ لأنه من وسائل الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1) » فالسفر لزيارته لا يجوز، كسائر القبور؛ للحديث المذكور، وإذا انضاف إلى ذلك طلب الحوائج من صاحب القبر أو الاستغاثة به فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، فالواجب على المسلمين التمسك بالسنة والابتعاد عن البدعة وعن الشرك ووسائله.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله الغديان ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(55/56)
الفتوى رقم 4480
س: أبعث إليكم مستفسرا عن حكم استقبال أو استدبار القبلة وقت قضاء الحاجة في المباني أو الخلاء، ثم ما حكم المباني المستعملة الآن والتي يوجد بها مراحيض تستقبل أو تستدبر القبلة ولا يمكن تعديله إلا بهدم الحمام كله أو جزء منه لإجراء التعديل، وأخيرا إذا كان يوجد لدينا مخططات ولم تنفذ بعد وبعض المراحيض تستقبل القبلة أو تستدبرها هل يجب تعديلها أم أنها تنفذ ولا حرج في ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا الصحيح من أقوال العلماء أنه يحرم استقبال القبلة - الكعبة - واستدبارها عند قضاء الحاجة في الخلاء ببول أو غائط، وأنه يجوز ذلك في البنيان، وفيما إذا كان بينه وبين الكعبة ساتر قريب، أمامه في استقبالها، أو خلفه في استدبارها؛ كرحل أو شجرة أو جبل أو نحو ذلك، وهو قول كثير من أهل العلم؛ لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها (1) » . رواه
__________
(1) رواه الإمام أحمد 2 \ 247، 250 و 3 \ 487 و5 \ 416، ومسلم 1 \ 155، والنسائي 1 \ 23(55/57)
أحمد ومسلم، ولما رواه أبو أيوب الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا (1) » رواه البخاري ومسلم، ولما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة (2) » رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
وروى أبو داود والحاكم «أن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك، قال: إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (3) » ، وسكت عنه أبو داود وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: إسناده حسن. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها (4) » ،
__________
(1) رواه الإمام أحمد 2 \ 247، والبخاري 1 \ 45، ومسلم 1 \ 154، وأبو داود 1 \ 3، والنسائي 1 \ 24، والترمذي 1 \ 23، وابن ماجه برقم 318، والدارقطني 1 \ 60.
(2) رواه الإمام أحمد 2 \ 41، والبخاري 1 \ 45، ومسلم 1 \ 155، وأبو داود 1 \ 4، والنسائي 1 \ 25، والترمذي 1 \ 26، وابن ماجه برقم 322، والدارقطني 1 \ 61.
(3) رواه أبو داود 1 \ 3، والدارقطني 1 \ 58.
(4) رواه الإمام أحمد 3 \ 360، وأبو داود 1 \ 4، والترمذي 1 \ 29، وابن ماجه برقم 325، والدارقطني 1 \ 58.(55/58)
وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم جمعا بين الأدلة بحمل حديث أبي هريرة ونحوه على ما إذا كان قضاء الحاجة في الفضاء بلا ساتر وحديث جابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم على ما إذا كان في بنيان أو مع ساتر بينه وبين القبلة، ومن هذا يعلم جواز استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة في المباني وكنفها.
ثانيا: إذا كان هناك مخططات لمبان لم تنفذ وبها مراحيض تستقبل القبلة أو تستدبرها فالأحوط تعديلها حتى لا يكون في قضاء الحاجة بها استقبال القبلة أو استدبارها خروجا من الخلاف في ذلك وإذا لم تعدل فلا إثم لما تقدم من الأحاديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/59)
من الفتوى رقم 2243
السؤال الثاني: رجل حينما ينتقض عليه وضوءه بسبب البول يتأخر برؤه، بمعنى أنه بعد ما يستجمر لا بد وأن يهبط عليه نقطة من البول أو نقطتان بعد وقت يقدر تقريبا بـ 10 دقائق الشيء الذي يجعله ينتظر هذه المدة ثم يتوضأ ولكنه أحيانا يقع في الحرج المرفوع عن هذه الأمة بمعنى أنه يكون(55/59)
مسافرا راكبا سيارة البريد وفي الطريق يذهب للخلاء فيقضي حاجته ولكن سائق السيارة لا يسمح له أن يمكث بعد قضاء حاجته هذه المدة فماذا يفعل هل يكفي أن يستنجي بالماء مثلا بعد ما يغلب على ظنه أن البول قد انقطع أم ماذا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما يحس به الشخص من الخارج بعد قضاء الحاجة على حسب ما ورد في السؤال قد يكون هواء، وهذا لا أثر له وقد يكون ماء وهذا لا بد أن يعيد الشخص الاستنجاء، وله أن يكتفي بالاستجمار ثم يتوضأ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/60)
من الفتوى رقم 6970
السؤال الأول: شخص غسل يديه ووجهه وذراعيه ورجليه أي توضأ قبل أن يستنجي وبعد أن توضأ استنجى فما الحكم؟(55/60)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر لم يصح وضوؤه؛ لأن من شرط صحة الوضوء أن يتقدمه الاستنجاء أو الاستجمار من البول أو الغائط على الصحيح من قولي العلماء.
السؤال الرابع: قال لنا مدرس المادة الدينية: أن الوضوء من الريح مكروه أي أن الإنسان إذا ظهرت منه ريح من دبره بعد وضوئه مكروه له أن يتوضأ هل هذا صحيح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يكره الاستنجاء من الريح لما في ذلك من الغلو، لكن متى خرج الريح بعد الوضوء بطل الوضوء بإجماع المسلمين، ولا يسمى غسل الدبر والقبل وضوءا وإنما يسمى استنجاء إن كان بالماء أما إن كان بالحجارة ونحوها فإنه يسمى استجمارا.
وبالته التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/61)
من الفتوى رقم 7466
السؤال الرابع: هل يلزم الإنسان أن يستنجي كل مرة يريد أن يتوضأ فيها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يلزمه الاستنجاء كلما أراد أن يتوضأ، إنما يلزمه الاستنجاء بغسل قبله إذا خرج منه بول ونحوه، ويغسل دبره إذا خرج غائط ثم يتوضأ للصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/62)
الفتوى رقم 10196
س: يحدث بعض الأوقات أن ينزل من قمة الذكر ماء أبيض أو ماء مثل الصمغ ويتيمم بالتراب فيحين وقت الصلاة(55/62)
وهو على ذلك التيمم فيتيمم فيصلي، أقصد وهو في الخلاء فهل تصح صلاته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه يجب على من خرج من ذكره شيء أن يستنجي بالماء ثم يتوضأ فإن لم يجد ماء فيستجمر بثلاثة أحجار فأكثر حتى ينقي المحل ثم يتيمم للصلاة بعد دخول وقتها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/63)
الفتوى رقم 11882
س: لدي قريب يعمل مدرسا للمرحلة الابتدائية للمواد الدينية في أحد مناطق البادية ومن ضمن هذه المواد القرآن الكريم وهو يقول: الطلاب يخرجون إلى الخلاء وهم لا يستنجون وذلك لأن هناك دورات للمياه ولكن إدارة المدرسة منعت الطلاب من الدخول إليها لسببين:(55/63)
الأول: قلة الماء في هذه المنطقة. الثاني: سوء استخدامها من قبل الطلاب.
ثم يحين وقت صلاة الظهر فيقومون بالوضوء بدون استنجاء في أماكن للوضوء، فيبدءون بغسل الأيدي ثم يكملون الوضوء، فما حكم قراءتهم للقرآن؟ وما حكم صلاتهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجب الاستنجاء أو الاستجمار من خروج البول والغائط وإذا لم يحصل كل من الاستجمار والاستنجاء فلا يصح الوضوء ولا الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/64)
من الفتوى رقم 4588
السؤال الأول: المسلم إذا استيقظ من نومه وأراد أن يتوضأ للصلاة أو خرج منه ريح فقط هل يلزمه أن يستنجي أم يتوضأ بدون أن يستنجي؟ وما هو الدليل أثابكم الله عز وجل؟(55/64)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليس على من قام من النوم ولم يخرج منه بول ولا غائط ولا مذي ولا ودي ولا مني إلا أن يتوضأ فقط للصلاة، وكذا من خرج منه ريح فقط ليس عليه استنجاء وإنما عليه الوضوء فقط للصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/65)
من الفتوى رقم 7371
السؤال الأول: بالنسبة للوضوء للصلاة هل يدخل معه الاستنجاء، أم الاستنجاء خاص فقط عند خروج الغائط، أرجو تفصيل ذلك علما أنه فيما ظهر لي من بعض الكتب أن الاستنجاء لا يدخل مع الوضوء. وإذا أنني قمت من النوم صباحا هل يجوز أن أبدأ بغسل الوجه وإكمال الوضوء المعروف دون غسل السبيلين لأنني نمت وأنا على وضوء وفي الصباح لم أدخل الحمام بل أتوضأ ابتداء من الوجه إلى الرجلين؟(55/65)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الاستنجاء إنما يكون قبل الوضوء بغسل ما خرج من القبل أو الدبر من بول أو غائط ونحوهما، وليس من الوضوء المعروف شرعا، بل الوضوء يبدأ بغسل اليدين إلى الكوعين، وهما العظمان اللذان يفصلان الكفين عن الذراعين ثم المضمضة، وينتهي بغسل الرجلين، ومن قام من النوم ولم يخرج من مخرجيه بول ولا غائط توضأ فقط بغسل يديه إلى الكوعين ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه مع المرفقين ومسح رأسه كله مع الأذنين وغسل رجليه مع الكعبين، وليس عليه استنجاء.
السؤال الثاني: هل الهواء الذي يخرج وأقصد الفساء أو الضراط ينقض الوضوء وهل يجب الاستنجاء منه، أم يكفي الوضوء العادي من مضمضة واستنشاق وغسل وجه إلى آخر الوضوء دون غسل السبيلين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الفساء والضراط من نواقض الوضوء بإجماع العلماء، فمن حدث منه ذلك وجب عليه الوضوء الذي تقدم بيانه في جواب السؤال الأول إذا أراد الصلاة، ولا يشرع من خروج الفساء والضراط الاستنجاء (غسل السبيلين) .
السؤال الثالث: يحدث أنه بعد الاستنجاء والوضوء(55/66)
أشعر بخروج قطرة من البول مما يدعوني للوضوء مرة أخرى وبعض الأحيان إلى مرتين علما أنني بعد خروج البول أمكث حوالي خمس دقائق حتى أتأكد أنه انقطع البول ولكن بعد أن أنتهي من الوضوء أشعر أنه خرج مني قطرة من البول صغيرة وأنا أحاول أن أتجاوز ذلك حتى لا يكون هناك نوع من الشك أو الوسواس. ثم إذا حدث أن أصيب السروال أو الثوب بقطرة من هذا هل يلزم أن أغسله؟ وإذا صليت فيه هل يمنع جواز الصلاة؟ وهل هي جائزة؟ لأنه بعض المرات أقوم بغسل السروال خوفا من الشك أنه أصابه قطرة بول؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كنت قد تحققت من نزول القطرة وجب عليك الاستنجاء والوضوء منه لكل صلاة وغسل ما أصاب ملابسك منه. أما مع الشك فلا شيء عليك في ذلك وينبغي أن تعرض عن الشكوك حتى لا تصاب بالوسوسة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/67)
من الفتوى رقم 2922
السؤال العاشر: نستعمل في بريطانيا المناديل والأوراق في الاستنجاء في الحمامات فهل يجب استعمال الماء بعد استعمال المناديل أو لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز استعمال المناديل والأوراق ونحوهما في الاستجمار وتجزئ إذا أنقت ونظفت المحل من قبل أو دبر، والأفضل أن يكون استعمال ما يستجمر به وترا، ويجب ألا ينقص عن ثلاث مسحات ولا يجب استعمال الماء بعده، لكنه سنة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/68)
من الفتوى رقم 8502
السؤال السابع: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (1) » ما المقصود بهذا الحديث ومتى يطبق؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معناه أن إبلاغ السلطان الظالم الحق بالمشافهة أو الكتابة ونحوهما أفضل أنواع الجهاد، قال المناوي في شرح الجامع الصغير: " لأن ظلم السلطان يسري إلى جم غفير، فإذا كفه فقد أوصل النفع إلى خلق كثير بخلاف قتل الكافر ". اهـ
وهو من مناصحة ولاة الأمور في كل زمان لمن قدر عليه مع العلم والحلم والصبر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن النسائي البيعة (4209) ، مسند أحمد بن حنبل (4/315) .(55/69)
من الفتوى رقم 6363
السؤال الأول: قال صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي مرحومة لا تعذب في الآخرة، عذابها في الدنيا الزلازل والفتن (1) » رواه أبو داود في سننه في باب الفتن. ما معنى هذا الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث في سنده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي. قال المنذري: استشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد. وقال العقيلي: - تغير في آخر عمره، في حديثه اضطراب. وقال ابن حبان: اختلط حديثه فلم يتميز فاستحق الترك. ثم متنه منكر وشاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على أن كثيرا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يعذبون في الآخرة، كما في حديث الشفاعة الطويل وغيره.
السؤال الثاني: قال صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا (2) » . ولهذا قال معاوية رضي الله عنه بعد انقضاء الثلاثين سنة: " أنا أول الملوك ".
__________
(1) سنن أبو داود الفتن والملاحم (4278) ، مسند أحمد بن حنبل (4/410) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (5/220) .(55/70)
من رسالة أبي زيد القيرواني 1 \ 96. ما معنى هذا الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وأبو يعلى في المسند وابن حبان في صحيحه والترمذي في السنن، ومعنى هذا الحديث بينه الحافظ في الفتح فقال: " أراد بالخلافة خلافة النبوة وأما معاوية ومن بعده فعلى طريقة الملوك ولو سموا خلفاء ".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/71)
من الفتوى رقم 7673
السؤال الخامس: ما تفسير حديث الرسول: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج (1) » " وما المقصود بالاعوجاج؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معناه أن المرأة لا تخلو "من اعوجاج في أخلاقها كالضلع فمن أراد كمالها لم يستطع ذلك إلا بطلاقها، فالمشروع
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) ، سنن الترمذي الطلاق (1188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، سنن الدارمي النكاح (2222) .(55/71)
له الصبر والتغاضي عن بعض الاعوجاج مع الاستمرار في النصيحة والتوجيه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/72)
من الفتوى رقم 7849
السؤال الثامن: رجاء شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين (1) » "؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث المذكور ضعيف، ومعناه لو صح: هو أن يكون متواضعا بعيدا عن أسباب الفتن؛ لأن الغنى غالبا يكسب التكبر والوقوع في الفتن والمعاصي والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2352) .(55/72)
من الفتوى رقم 9580
السؤال الرابع: أسأل عن درجة هذا الحديث: «ويأتي زمان على الناس هموهم بطونهم، وشربهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم، ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا نعلم أن ما ذكرته حديث، وذلك بعد المراجعة والتتبع في الكتب المؤلفة في هذا الشأن.
السؤال الخامس: أيضا: وجدت حديثا بهذا النص في جزء من مجلة، فهل ورد حديث بهذا النص، وهو حديث قدسي عن الله تبارك وتعالى: «إنني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ذكر في كتاب الإتحافات السنية عن معاذ رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تبارك وتعالى.
«إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق(55/73)
ويشكر غيري»
السؤال السابع: هل يمكن أن توضحوا لنا كيف اختلاف الأئمة رحمة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه» . . . "، وفيه: «واختلاف أصحابي لكم رحمة» . رواه البيهقي في المدخل بسند منقطع، وأخرجه الطبراني والديلمي، وفيه ضعف كما في كشف الخفاء، ومنه تعلم أن الحديث ليس بصحيح، وقد قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (1) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (2) الآية من سورة هود.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة هود الآية 118
(2) سورة هود الآية 119(55/74)
فتوى رقم 9882
السؤال الأول: «دخل - صلى الله عليه وسلم - المسجد فرأى جمعا من الناس على رجل، فقال: "ما هذا "؟ قالوا: يا رسول الله، رجل علامة. قال: " وما العلامة "؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب. فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والسؤال: هل يعني هذا الحديث أن الإنسان إذا تعلم هذه الأشياء العربية والشعر. . . لذاتها فإنها مذمومة أو لمعنى غير ذلك؟ وما هي الأشياء والمعاني التي قد تفهم خطأ في ظاهر هذا الحديث؟ وهل هناك أحاديث تتعارض مع هذا الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ورد في ذم الشعر أحاديث كثيرة منها الصحيح ومنها غير الصحيح، فمن الصحيح ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يمتلئ جوف رجل قيحا حتى(55/75)
يريه خير له من أن يمتلئ شعرا (1) » . وقد كان من الصحابة رضي الله عنهم شعراء، ومن أشهرهم حسان رضي الله عنه، وقد أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على شعره، بل أمره أن ينافح عنه فكان يسلق المشركين بشعره. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكمة (2) » . وعلى هذا يتبين أنه ليس كل الشعر مذموما، بل يذم منه ما كان ماجنا أو فيه إبطال حق أو نصر باطل أو شغل عن حق أو كان كذبا ونحو ذلك، ويحمد ما كان ضد ذلك. والشعر من جنس الكلام والأصل فيه الإباحة حتى يكون ما يخرجه عن ذلك، وارجع في ذلك إلى مقدمة دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.
أما الأنساب فقد ورد في الحث على تعلمها أحاديث، منها الصحيح وغيره، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليما بالأنساب وكذا بعض الصحابة، والناس في حاجة إلى معرفتها لصلة الأرحام، وأداء حقوق الميراث إلى أهلها، وتحمل الديات، ونحو ذلك، والمذموم إنما هو معرفتها للتفاخر وللعصبية والتناصر على الباطل. والحديث المذكور في السؤال ذكره صاحب كتاب (البيان والتعريف في معرفة أسباب ورود الحديث) ابن حمزة الحسني فقال: «هذا علم لا ينفع وجهالة لا تضر» . أخرجه الديلمي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(سببه) : كما في (الجامع) عن بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «دخل
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6155) ، صحيح مسلم الشعر (2257) ، سنن الترمذي الأدب (2851) ، سنن أبو داود الأدب (5009) ، سنن ابن ماجه الأدب (3759) ، مسند أحمد بن حنبل (2/480) .
(2) صحيح البخاري الطب (5767) ، سنن الترمذي البر والصلة (2028) ، سنن أبو داود الأدب (5007) ، مسند أحمد بن حنبل (2/94) ، موطأ مالك الجامع (1850) .(55/76)
المسجد فرأى جمعا من الناس على رجل فقال: " ما هذا "؟ قالوا: يا رسول الله، رجل علامة. قال: " وما العلامة "؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب وبالشعر وبما اختلف فيه العرب. فقال: " هذا» فذكره (1) اهـ.
وهذا سنده ضعيف؛ لأن بقية وهو بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن ومتنه منكر.
السؤال الثاني: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال له: (أنت فلان بن فلان) قال: نعم، فضربه بعصا معه، فقال: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقرأ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} (4) إلى قوله {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (5) فقرأها ثلاثا وضربه ثلاثا، فقال الرجل: ما لي؟ فقال: " أنت نسخت كتب دانيال "، قال: مرني بأمرك اتبعه، قال: " فانطلق فامحه ثم لا تقرأه أنت ولا تقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة، كما قال: لقد انتسخت كتابا من كتب أهل الكتاب وجئت وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " كتابا نسخته لنزداد علما إلى علمنا "، فغضب - صلى الله عليه وسلم - فأمر بالصلاة جامعة
__________
(1) البيان والتعريف ج2 ص253.
(2) سورة يوسف الآية 1
(3) سورة يوسف الآية 2
(4) سورة يوسف الآية 3
(5) سورة يوسف الآية 3(55/77)
وخطب فقال: «يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا (لا تتحيروا) ، ولا يغريكم المتهوكون» . وقال لعمر: «لا تسألوهم عن شيء فيحدثونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني (1) » .
وجاء من حديث آخر عن ابن مسعود أنه قال كلاما بنفس المعنى ثم قال: «إن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» .
فهل هناك تعارض بين هذين الحديثين وحديث.
«وحدث عن بني إسرائيل ولا حرج (2) » ؟ هذه الأحاديث في الجزء الثالث من حياة الصحابة، فضل العلم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ظاهر ما ورد في ذلك التعارض، وقد بين ابن كثير في مقدمة تفسيره ذلك، وبين المخرج منه، فقال: " ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل، ولا
__________
(1) رواه أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (14736) ، والدارمي في (المقدمة) برقم (435) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(55/78)
من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، ويجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود لأمر ديني " (1) اهـ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج1 ص5.(55/79)
من الفتوى رقم 8540
السؤال الثامن: ما معنى «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ (1) » ومعنى «خير القرون قرني (2) » ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معنى " بدأ الإسلام غريبا " غربته بغربة أهله، حيث دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام سرا فآمن به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وزوجته خديجة ومولاه زيد، ثم أخذ يعرض الإسلام على من يثق به فآمن به من آمن حتى زالت الغربة وانتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا. وفي آخر الدنيا تعود الغربة ثانية إلى دين الإسلام، فلا يكون في القبيلة إلا الرجل
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2652) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2533) ، سنن الترمذي المناقب (3859) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2362) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .(55/79)
الواحد على دين الإسلام.
ومعنى «خير القرون قرني (1) » أن الأفضيلة للقرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرن هو الجيل الذي يكون فيه الإنسان، سمي قرنا من الاقتران؛ لأن أهله يقترنون في أعمارهم وأحوالهم في زمن واحد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2652) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2533) ، سنن الترمذي المناقب (3859) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2362) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .(55/80)
الفتوى رقم 5550
س: لقد قرأت حديثا في كتاب اسمه (رياض الصالحين) تأليف أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي صفحة 305 رقم ح392 باب الرجاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى، قال: «أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربي، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربي،(55/80)
اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليقل ما شاء (1) » متفق عليه. فأرجو من ساداتي العلماء معلومات عن مدى صحة هذا الحديث ومعناه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- القدسي: " أذنب عبد ذنبا. . . " إلخ حديث صحيح ثابت، فقد أخرجه كل من الإمام البخاري في كتابه الصحيح المسند كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. قال الإمام مسلم حدثني عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عن ربه -عز وجل-، قال: «أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك (2) » .
قال البخاري: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7507) ، صحيح مسلم التوبة (2758) ، مسند أحمد بن حنبل (2/296) .
(2) صحيح البخاري التوحيد (7507) ، صحيح مسلم التوبة (2758) ، مسند أحمد بن حنبل (2/296) .(55/81)
عاصم حدثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: سمعت أبا هريرة قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «" إن عبدا أصاب ذنبا، وربما قال أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا، وربما قال أصبت، فاغفره، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، أو أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت أو أصبت آخر فاغفره، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا، وربما قال. أصاب ذنبا، فقال: رب أصبت أو قال أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي ثلاثا فليعمل ما شاء (1) » في كتاب التوحيد.
أما معناه فلا إشكال فيه وهو أن العبد ما دام يذنب ثم يستغفر استغفار النادم التائب المقلع من ذنبه العازم أن لا يعود فيه فإن الله يغفر له، ولا يفهم من قوله: " فليقل ما شاء " إباحة المعاصي والإثم، وإنما المعنى هو ما سبق من مغفرة الذنب إذا استغفر وتاب.
قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال في هذا الحديث: إن المصر على المعصية في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، مغلبا الحسنة التي جاء بها وهي (اعتقاده) أن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له، واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (2) ، ولا حسنة أعظم
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7507) ، صحيح مسلم التوبة (2758) ، مسند أحمد بن حنبل (2/296) .
(2) سورة الأنعام الآية 160(55/82)
من التوحيد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/83)
الفتوى رقم 8225
السؤال الثامن: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «" من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» أو «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» أو كما قال. فما المقصود بالحديث في العصر الراهن وكيف نفهمه ونطبقه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث الأول لا نعلم صحته بهذا اللفظ، وأما الحديث الثاني فأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن نافع -رحمه الله- قال: لما خلعوا يزيد واجتمعوا علي ابن مطيع أتاه ابن عمر -رضي الله عنه- فقال عبد الله بن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن(55/83)
وسادة، فقال له عبد الله بن عمر: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية (1) » .
ومعنى الحديث: أنه لا يجوز الخروج على الحاكم (ولي الأمر) إلا أن يرى منه كفرا بواحا، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، كما أنه يجب على الأمة أن يؤمروا عليهم أميرا يرعى مصالحهم ويحفظ حقوقهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1851) ، مسند أحمد بن حنبل (2/97) .(55/84)
من الفتوى رقم 9840
السؤال الثاني: هل هذا الحديث صحيح أم لا، فقد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا رهبانية في الإسلام» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(55/84)
ج: هذا الحديث صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/85)
الفتوى رقم 9893
السؤال الثالث: ما مدى صحة هذا الحديث: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: «أين أبي؟ قال له: " في النار " فلما ولى قال له: " يا هذا، أقبل: أبي وأبوك في النار (1) » ، وما مدى صحة هذا الحديث أيضا: «من دخل السوق وقال حيث يدخلها: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كتبت له ألف ألف حسنة (2) » ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث الأول صحيح رواه مسلم
في صحيحه، والحديث الثاني قال فيه ابن القيم: هذا الحديث معلول، أعله أئمة الحديث. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال:
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (203) ، سنن أبو داود السنة (4718) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3428) ، سنن ابن ماجه التجارات (2235) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) ، سنن الدارمي الاستئذان (2692) .(55/85)
حديث منكر. وضعفه غير واحد من أئمة الحديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/86)
الفتوى رقم 8378
السؤال الثاني: «ثلاث لا ترد: اللبن والوسادة والعود (1) » .
هل هذا حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم -؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه الترمذي في سننه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث لا ترد: الوسائد والدهن واللبن (2) » . والمراد بالدهن: الطيب. ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير براموز الحسن، وسنده جيد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2790) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2790) .(55/86)
الفتوى رقم 5414
السؤال الثالث: «ويل للعرب من شر قد اقترب (1) » ، هل هذا حديث صحيح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: «ويل للعرب من شر قد اقترب (2) » هذه الجملة جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للعرب من شر قد اقترب (3) » وساق الحديث: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أنها قالت: «استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من النوم محمرا وجهه يقول: " لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وعقد سفيان تسعين أو مائة، قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث (4) »
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3346) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2880) ، سنن الترمذي الفتن (2187) ، سنن ابن ماجه الفتن (3953) ، مسند أحمد بن حنبل (6/429) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3346) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2880) ، سنن الترمذي الفتن (2187) ، سنن ابن ماجه الفتن (3953) ، مسند أحمد بن حنبل (6/429) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3346) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2880) ، سنن الترمذي الفتن (2187) ، سنن ابن ماجه الفتن (3953) ، مسند أحمد بن حنبل (6/429) .
(4) صحيح البخاري الفتن (7059) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2880) ، سنن الترمذي الفتن (2187) ، سنن ابن ماجه الفتن (3953) ، مسند أحمد بن حنبل (6/428) .(55/87)
الفتوى رقم 6290
السؤال التاسع: في كتاب- أخرجه البخاري حديث هو: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء (1) » رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-، يقول: بأن الذباب لا يعمل إلا الأمراض، فكيف يكون في أحد جناحيه دواء؟ يقولون: هذا لا يوافق العقل، فهل هذا الحديث صحيح؟ وبماذا نرد على هؤلاء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث صحيح سندا رواه البخاري، وله شواهد من طريق أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه ومن طريق أنس بن مالك عند البزار، ومتنه لا يتعارض مع العقل؛ فإن العقل لا يدرك أن في جناحي الذباب داء أو دواء أو أن في أحدهما داء وفي الآخر شفاء، وإنما يعرف ذلك إما عن طريق تجربة أو تحليل لمادة الجناحين وإجراء تجارب، وإما عن طريق وحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم، ولم يثبت عن طريق التحليل والتجارب شيء من ذلك حتى يقال: إنه معارض للحديث أو موافق، إنما هو مجرد استبشاع منشؤه نفرة الطبع البشري واشمئزاز النفس الإنسانية، أما
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5782) ، سنن أبو داود الأطعمة (3844) ، سنن ابن ماجه الطب (3505) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الأطعمة (2038) .(55/88)
الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يعرف ذلك عن دراسة وتحليل أيضا، فإنه أمي عاش حياته في أمة أمية لا عهد لها بهذا الحكم، وإنما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- عن وحي من الله تعالى الذي خلق كل شيء وعلم خواصه قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) فإذا ثبت الحديث سندا، وجاء الخبر وحيا ممن أحاط بكل شيء علما على لسان الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- وجب الحكم بصحة الحديث وكانت دعوى معارضة العقل له قولا لحمته الخرص وسداه الرجم بالغيب، فوجب اطراحها، وبذلك حصحص الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الملك الآية 14(55/89)
الفتوى رقم 2158
السؤال الرابع: «من بدا فقد جفا» ، هل هو حديث وما مرتبته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(55/89)
ج: جاء في كتاب (كنوز الحقائق) في حديث خير الخلائق بهامش الجامع الصغير ج 2 ص 97 بلفظ: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل (1) » رواه الطبراني، وجاء في الجامع الصغير ومعه كنوز الحقائق 112 \ ج 2 بلفظ: «من بدا جفا (2) » رواه الإمام أحمد عن البراء، ورمز له السيوطي بأنه حسن، وجاء فيه أيضا بلفظ: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن (3) » وأشار إلى أنه أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ورمز له بأنه حسن، وقال أبو داود: حدثنا مسدد ثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال مرة سفيان ولا أعلمه إلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن (4) » .
السؤال الخامس: «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس» . . . إلخ، هل هو حديث أو من كلام عمر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس، وقد ذكره السيوطي في- الجامع الصغير بهذا اللفظ: «صنفان من الناس إذا
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2256) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4309) ، سنن أبو داود الصيد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (1/357) .
(2) رواه الإمام أحمد (4 \ 297) .
(3) سنن الترمذي الفتن (2256) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4309) ، سنن أبو داود الصيد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (1/357) .
(4) رواه الإمام أحمد (3 \ 111) .(55/90)
صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء» ورمز له السيوطي بالضعف، ونقل المناوي في شرحه للجامع الصغير عن الحافظ العراقي أنه ضعيف، وذكر أخونا العلامة الشيخ \ ناصر الدين الألباني في كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة أنه موضوع؛ لأن في إسناده محمد بن زياد اليشكر وهو كذاب قاله أحمد وابن معين.
السؤال السادس: «والذي نفسي بيده لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ألا وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا» هل هو من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وما حكم مرتبته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا نعلم له أصلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما يروى من كلام قس بن ساعدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(55/91)
من الفتوى رقم 5881
السؤال الأول: هل هذه الأحاديث صحيحة:
أ- «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (1) » ؟
ب- «ملعون ملعون " قيل: من يا رسول الله؟ قال: (ضارب الدف وسامع المزمار» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: (أ) حديث: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (2) » صحيح رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(ب) ضرب الدف لإعلان النكاح مشروع للنساء خاصة واستعمال المزامير والموسيقى ونحوها من آلات اللهو والاستماع إليها ممنوع؛ لما ورد من الأدلة الشرعية في تحريم ذلك.
أما حديث «ملعون ملعون» . . . إلخ فلا نعلم له أصلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3322) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن الترمذي الأدب (2804) ، سنن النسائي الزينة (5348) ، سنن ابن ماجه اللباس (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3322) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن الترمذي الأدب (2804) ، سنن النسائي الزينة (5348) ، سنن ابن ماجه اللباس (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .(55/92)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم صيام الثالث عشر من ذي الحجة بنية أنه من أيام البيض
س: الأخ ع. ع. ح. من بريدة يقول في سؤاله: والدتي وفقها الله تصوم الأيام الثلاثة البيض من كل شهر وبالطبع يوافق اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة ثالث أيام التشريق فهل تصومه أم تكتفي بصيام الرابع عشر والخامس عشر فقط من شهر ذي الحجة؟
ج: ليس لوالدتك ولا غيرها أن تصوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- «نهى عن صيام أيام التشريق، وقال: فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله -عز وجل - (1) » إلا من عجز عن هدي التمتع أو القران فإنه لا حرج عليه في صيامهن؛ لما روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن عائشة
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) في باقي مسند أبي هريرة برقم (10534) واللفظ له، ومسلم في (الصيام) باب تحريم. صوم أيام التشريق برقم (1141) .(55/93)
وابن عمر -رضي الله عنهما- أنهما قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي (1) » . ولها أن تصوم الرابع عشر والخامس عشر، وإن شاءت أن تصوم السادس عشر أو غيره من أيام شهر ذي الحجة حتى تكمل الثلاثة الأيام فذلك أفضل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء صادفت أيام البيض أم لا، لكن إذا صامها المسلم في أيام البيض كان أفضل. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب صيام أيام التشريق برقم (1998) .(55/94)
الشهر كله محل لصيام ثلاثة أيام وكونها في البيض أفضل
س: هل يجوز قضاء الأيام البيض بحيث يبدأ الإنسان بصيامها ثم يحبسه حابس ويقطعه عن صيامها؟
ج: المشروع للمؤمن والمؤمنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن صامها في الأيام البيض كان أفضل، وإن صامها في بقية الشهر كله كفى ذلك، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وبين أن الأيام البيض أفضل من غيرها، فإذا كانت المرأة أو الرجل يصومان الأيام البيض، ثم شغلا عنها شرع لهما الصيام من بقية الشهر، والحمد لله، ولا(55/94)
يسمى قضاء؛ لأن الشهر كله محل صيام من أوله إلى آخره، فإذا صام المؤمن أو المؤمنة من أوله أو من وسطه أو من آخره ثلاثة أيام حصل المقصود وحصلت السنة وإن لم يصمها في أيام البيض.(55/95)
الأيام البيض تصام على حسب التقويم وللمسلم جمعها وتفريقها
س: الأخ ع. م. م. من طنطا في مصر يقول في سؤاله: لا يخفى على سماحتكم أن الأشهر العادية لا يعلم الإنسان موعد دخولها، فكيف يكون الحال بالنسبة لصيام الأيام البيض من كل شهر؟ أقصد كيف يعرف الإنسان هذه الأيام حتى يتمكن من صيامها؟ نرجو إرشادنا جزاكم الله خيرا.
ج: يشرع له أن يصومها حسب التقويم؛ عملا بغالب الظن، وإن صامها في غير أيام البيض كفى ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على صيامها من كل شهر ولم يقيدها بأيام البيض، كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: «صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر (1) » ،
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب صوم الدهر برقم (1976) ، ومسلم في (الصيام) باب النهي عن صوم الدهر برقم (1159) .(55/95)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: «أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل النوم (1) » . والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وهو مخير إن شاء جمعها وإن شاء فرقها؛ لإطلاق الأحاديث وعدم تقييدها بالتتابع. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب صيام أيام البيض برقم (1981) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب صلاة الضحى برقم (721) .(55/96)
النوافل يثاب فاعلها ولا يأثم تاركها
س: الأخت التي رمزت لاسمها بأم يوسف من مكة المكرمة تقول في سؤالها: هل يأثم المرء بسبب ترك بعض النوافل التي كان يداوم على أدائها؟ لأنني مثلا أثناء حملي تركت صوم الاثنين والخميس. أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: النوافل جميعا يثاب فاعلها ولا يأثم تاركها، مثل صوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وسنة الضحى، والوتر، ولكن يشرع للمؤمن أن يواظب ويحافظ على السنن المؤكدة؛ لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ولأن النوافل يكمل بها نقص الفرائض. والله الموفق.(55/96)
يستحب صيام الأيام البيض ولو من شعبان
م س: ما حكم صيام نصف شعبان وهي الأيام (13، 14، 15) ؟
ج: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من شعبان أو غيره، لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بذلك، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أيضا أنه أوصى أبا الدرداء وأبا هريرة بذلك، وإن صام هذه الثلاثة من بعض الشهور دون بعض، أو صامها تارة وتركها تارة فلا بأس؛ لأنها نافلة لا فريضة، والأفضل أن يستمر عليها في كل شهر، إذا تيسر له ذلك.(55/97)
الجمع بين حديث: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا (1) » . . .،، وحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- يصل شعبان برمضان
س: الأخ ع. ع. ض. من الرياض يقول في سؤاله: لقد قرأت في صحيح الجامع الحديث رقم (397) تحقيق الألباني وتخريج السيوطي (398) صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان (2) » . ويوجد حديث آخر خرجه السيوطي برقم (8757) ، صحيح، وحققه الألباني في صحيح الجامع برقم (4638) عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت:
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (738) ، سنن أبو داود الصوم (2337) ، سنن ابن ماجه الصيام (1651) ، مسند أحمد بن حنبل (2/442) ، سنن الدارمي الصوم (1740) .
(2) سنن الترمذي الصوم (738) ، سنن أبو داود الصوم (2337) ، سنن ابن ماجه الصيام (1651) ، مسند أحمد بن حنبل (2/442) ، سنن الدارمي الصوم (1740) .(55/97)
«كانت أحب الشهور إليه -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه، شعبان ثم يصله برمضان (1) » فكيف نوفق بين الحديثين؟
ج: بسم الله والحمد لله، وبعد فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان كله وربما صامه إلا قليلا، كما ثبت ذلك من حديث عائشة وأم سلمة. أما الحديث الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان فهو صحيح، كما قال الأخ العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني، والمراد به النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف، أما من صام أكثر الشهر أو الشهر كله فقد أصاب السنة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود الصوم (2431) .(55/98)
من لم يكمل صيام الأيام البيض يحسب له أجر ما صام منها
س: الأخ ع. أ. م. من أم درمان بالسودان يقول في سؤاله: صمت يومين من الأيام البيض ولم أصم اليوم الثالث لبعض الظروف، فهل يحسب لي أجر هذين اليومين؟
ج: لا شك أنه يحسب لك أجرهما إذا كنت صمتهما لله سبحانه لا رياء ولا سمعة؛ لقول الله -عز وجل-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (1) ، وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 160(55/98)
صيام الاثنين والخميس
س: الأخ م. ع. ع. من المدينة المنورة يقول في سؤاله: سماحة الشيخ أنا لا أستطيع صيام يوم الخميس لأسباب خاصة، فهل يكفي أن أصوم يوم الاثنين من كل أسبوع، أم لا بد من صيامهما معا؟
ج: لا حرج في صوم أحد اليومين المذكورين دون الآخر، وصيامهما سنة وليس بواجب، فمن صامهما أو أحدهما فهو على خير عظيم، ولا يجب الجمع بينهما، بل ذلك مستحب؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. والله ولي التوفيق.(55/99)
فضل صيام الاثنين والخميس على الأيام البيض
س: والدتي تواظب ومنذ زمن طويل على صيام يومي الخميس والاثنين من كل أسبوع، وهي الآن تريد الاستفسار ومعرفة هل هذا العمل أفضل أم أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ نرجو الإفادة، وجزاكم الله خيرا.
ج: هذا العمل أفضل وأكثر أجرا، وصيام الثلاثة الأيام داخل في ذلك، «وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم الاثنين(55/99)
والخميس ويقول: إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله سبحانه فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم (1) » . والله ولي التوفيق.
شهر شوال كله محل لصيام الست
س. هل يجوز للإنسان أن يختار صيام ستة أيام في شهر شوال، أم أن صيام هذه الأيام لها وقت معلوم؟ وهل إذا صامها تكون فرضا عليه؟
ج: ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر (2) » خرجه الإمام مسلم في الصحيح. وهذه الأيام ليست معينة من الشهر بل يختارها المؤمن من جميع الشهر، فإذا شاء صامها في أوله، أو في أثنائه، أو في آخره، وإن شاء فرقها، وإن شاء تابعها، فالأمر واسع بحمد الله، وإن بادر إليها وتابعها في أول الشهر كان ذلك أفضل؛ لأن ذلك من باب المسارعة إلى الخير. ولا تكون بذلك فرضا عليه، بل يجوز له تركها في أي سنة، لكن الاستمرار على صومها هو الأفضل والأكمل؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل (3) » . والله الموفق.
__________
(1) رواه النسائي في (الصيام) باب صوم النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (2358) .
(2) رواه مسلم في (الصيام) باب استحباب صوم ستة أيام من شوال برقم (1164) .
(3) رواه مسلم في (الصيام) باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان برقم (782) .(55/100)
حكم قضاء الست بعد شوال
س: امرأة تصوم ستة أيام من شهر شوال كل سنة، وفي إحدى السنوات نفست بمولود لها في بداية شهر رمضان، ولم تطهر إلا بعد خروج رمضان، ثم بعد طهرها قامت بالقضاء، فهل يلزمها قضاء الست كذلك بعد قضاء رمضان حتى ولو كان ذلك في غير شوال أم لا يلزمها سوى قضاء رمضان؟ وهل صيام هذه الستة الأيام من شوال تلزم على الدوام أم لا؟
ج: صيام ست من شوال سنة وليست فريضة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. والحديث المذكور يدل على أنه لا حرج في صيامها متتابعة أو متفرقة؛ لإطلاق لفظه.
والمبادرة بها أفضل؛ لقوله سبحانه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (2) ، ولما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من فضل المسابقة والمسارعة إلى الخير. ولا تجب المداومة عليها ولكن ذلك أفضل؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل (3) » . ولا يشرع قضاؤها بعد انسلاخ شوال؛ لأنها سنة فات محلها سواء تركت لعذر أو لغير عذر. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1164) ، سنن الترمذي الصوم (759) ، سنن أبو داود الصوم (2433) ، سنن ابن ماجه الصيام (1716) ، مسند أحمد بن حنبل (5/417) ، سنن الدارمي الصوم (1754) .
(2) سورة طه الآية 84
(3) صحيح البخاري الصوم (1970) ، صحيح مسلم الصيام (782) ، سنن النسائي القبلة (762) ، سنن أبو داود الصلاة (1368) ، سنن ابن ماجه الزهد (4238) ، مسند أحمد بن حنبل (6/199) .(55/101)
المشروع تقديم القضاء على صوم الست
س: هل يجوز صيام ستة من شوال قبل صيام ما علينا من قضاء رمضان؟
ج: قد اختلف العلماء في ذلك، والصواب أن المشروع تقديم القضاء على صوم الست وغيرها من صيام النفل؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر (1) » خرجه مسلم في صحيحه. ومن قدم الست على القضاء لم يتبعها رمضان، وإنما أتبعها بعض رمضان، ولأن القضاء فرض، وصيام الست تطوع، والفرض أولى بالاهتمام والعناية. وبالله التوفيق.
س: الأخت ص. ع. م. من المجمعة تقول في سؤالها: لم أستطع صيام شهر رمضان بسبب النفاس وقد طهرت أيام العيد، ولي رغبة شديدة في صيام الست من شوال، فهل يجوز لي أن أصومها ثم أصوم القضاء أم لا؟ أفتوني وفقكم الله للخير.
ج: المشروع أن تبدئي بالقضاء؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. فبين -صلى الله عليه وسلم- أن صوم الست يكون بعد صوم رمضان. فالواجب المبادرة بالقضاء، ولو فاتت الست للحديث المذكور، ولأن الفرض مقدم على النفل. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1164) ، سنن الترمذي الصوم (759) ، سنن أبو داود الصوم (2433) ، سنن ابن ماجه الصيام (1716) ، مسند أحمد بن حنبل (5/417) ، سنن الدارمي الصوم (1754) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1164) ، سنن الترمذي الصوم (759) ، سنن أبو داود الصوم (2433) ، سنن ابن ماجه الصيام (1716) ، مسند أحمد بن حنبل (5/417) ، سنن الدارمي الصوم (1754) .(55/102)
صيام الست سنة وليس بواجب ومن لم يستطع إكمالها لعذر شرعي يرجى له أجرها
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ ص. ك. ل. من عمان في الأردن تقول في سؤالها: بدأت في صيام الست من شوال ولكني لم أستطع إكمالها بسبب بعض الظروف والأعمال حيث بقي علي منها يومان، فماذا أعمل يا سماحة الشيخ، هل أقضيها؟ وهل علي إثم في ذلك؟
ج: صيام الأيام الستة من شوال عبادة مستحبة غير واجبة، فلك أجر ما صمت منها ويرجى لك أجرها كاملة إذا كان المانع لك من إكمالها عذرا شرعيا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل مقيما صحيحا (1) » رواه البخاري في صحيحه. وليس عليك قضاء لما تركت منها. والله الموفق.
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد) باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة برقم (2996) .(55/103)
لا حرج في وصل صوم القضاء بصوم الست من شوال
س: الأخ أ. ص. م. من اللاذقية يقول في سؤاله: سمعت أنه لا يجوز للإنسان أن يصل صوم القضاء بصوم النفل،(55/103)
بمعنى أنه إذا كان عليه أيام من رمضان أفطرها بسبب عذر شرعي ثم قضاها في شهر شوال وأراد أن يصوم ستة أيام من شوال فإنه لا يصل هذه بتلك، وإنما يفطر بينهما يوما، فهل هذا الكلام صحيح؟ نرجو الإفادة.
ج: لا أعلم لما ذكرته أصلا، والصواب أنه لا حرج في ذلك؛ لعموم الأدلة. والله ولي التوفيق.(55/104)
الترغيب في صوم يوم عاشوراء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصوم يوم عاشوراء ويرغب الناس في صيامه؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه؛ فيستحب لكل مسلم ومسلمة صيام هذا اليوم شكرا لله -عز وجل-، وهو اليوم العاشر من المحرم. ويستحب أن يصوم قبله يوما أو بعده يوما مخالفة لليهود في ذلك، وإن صام الثلاثة جميعا التاسع والعاشر والحادي عشر فلا بأس؛ لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده (1) » وفي رواية
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن العباس برقم (2155) ، ورواه البيهقي في (السنن الكبرى) باب صوم يوم التاسع برقم (8418) .(55/104)
أخرى: «صوموا يوما قبله أو يوما بعده (1) » . وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: «يكفر الله به السنة التي قبله (2) » . والأحاديث في صوم يوم عاشوراء والترغيب في ذلك كثيرة. ونظرا إلى أن يوم السبت الموافق ثلاثين ذي الحجة من عام 1416 هـ حسب التقويم يحتمل أن يكون من ذي الحجة من جهة الرؤية وإكمال العدد، ويحتمل أن يكون هو أول يوم من شهر عاشوراء1417 هـ إذا كان شهر ذي الحجة 29 يوما، فإن الأفضل للمؤمن في هذا العام أن يصوم الاثنين والثلاثاء احتياطا؛ لأن يوم الأحد يحتمل أن يكون التاسع إن كان شهر ذي الحجة ناقصا، ويحتمل أن يكون هو الثامن إن كان شهر ذي الحجة كاملا، ومن صام يوم الأحد والاثنين والثلاثاء فحسن؛ لما في ذلك من تمام الاحتياط لهذه السنة، ولأن صوم ثلاثة أيام من كل شهر سنة معلومة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وللبيان والإيضاح جرى تحريره. وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يجعلنا جميعا من المسارعين إلى كل خير، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) رواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) باب الصوم قبل يوم عاشوراء برقم (4315) .
(2) رواه مسلم في (الصيام) باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر برقم (1162) .(55/105)
حديث النهي عن صوم يوم السبت غير صحيح
س: هل حديث النهي عن صوم يوم السبت إلا فيما افترض علينا صحيح؟
ج: الحديث المذكور غير صحيح؟ لاضطرابه وشذوذه كما نبه على ذلك الكثير من الحفاظ؛ لأنه قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده (1) » متفق على صحته. واليوم الذي بعده هو يوم السبت.
والحديث المذكور صريح في جواز صومه نافلة مع الجمعة. وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد، ويقول: «إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم (2) » رواه النسائي وصححه ابن خزيمة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) في باقي مسند أبي هريرة برقم (10052) ، وابن خزيمة في (صحيحه) باب ذكر الخبر برقم (2154) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) حديث أم سلمة برقم (26210) .(55/106)
جواز صوم يوم السبت تطوعا
سماحة الوالد \ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام الديار السعودية سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كما تعلمون- حفظكم الله- وافق هذا العام يوم التاسع من(55/106)
محرم 1415 هـ يوم السبت، وكان يوم العاشر يوم الأحد حسب تقويم أم القرى، وعملا بالحديث: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر (1) » الحديث أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، صمت يومي السبت والأحد. ولكن أحد الإخوة اعترض على صيام يوم السبت، وقال: إن صيامه تطوعا منهي عنه؛ لما ورد في الحديث. وذكر معناه ولم يذكر نصه. ولرغبتي في استجلاء الموضوع، وعملا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) أرجو من سماحتكم إيضاح هذا الإشكال مع ذكر الحديث ومدى صحته، وما نصيحتكم حول هذا الموضوع؟ والله يحفظكم.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
الحديث المذكور معروف وموجود في بلوغ المرام في كتاب الصيام، وهو حديث ضعيف شاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده (3) » ومعلوم أن اليوم الذي بعده هو يوم السبت، والحديث المذكور في الصحيحين. وكان -صلى الله عليه وسلم- «يصوم يوم السبت ويوم الأحد ويقول: " إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم (4) » . والأحاديث في
__________
(1) رواه مسلم في (الصيام) باب أي يوم يصام فيه عاشوراء برقم (1134) .
(2) سورة الأنبياء الآية 7
(3) صحيح البخاري الصوم (1985) ، صحيح مسلم الصيام (1144) ، سنن الترمذي الصوم (743) ، سنن أبو داود الصوم (2420) ، سنن ابن ماجه الصيام (1723) ، مسند أحمد بن حنبل (2/422) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (6/324) .(55/107)
هذا المعنى كثيرة، كلها تدل على جواز صوم يوم السبت تطوعا. وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(55/108)
حكم إفراد يوم الجمعة بصيام
س: هل يجوز صيام يوم الجمعة منفردا قضاء؟
ج: صيام يوم الجمعة منفردا نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان صومه لخصوصيته؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- «دخل على امرأة من نسائه فوجدها صائمة يوم الجمعة، فقال: " أكنت صمت أمس؟ " قالت: لا، فقال: " أتريدين أن تصومي غدا؟ " قالت: لا، قال: فأفطري (1) » ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده (2) » . لكن إذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة فصامه المسلم وحده فلا بأس بذلك؛ لأن هذا الرجل صامه لأنه يوم عرفة لا لأنه يوم جمعة. وكذلك لو كان عليه قضاء من رمضان ولا يتسنى له فراغ إلا يوم الجمعة فإنه لا حرج عليه أن يفرده؛ وذلك لأنه يوم فراغه. وكذلك لو صادف يوم الجمعة يوم عاشوراء فصامه فإنه لا حرج عليه أن يفرده؛ لأنه صامه لأنه يوم عاشوراء لا لأنه يوم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6732) ، والبخاري في (الصوم) باب صوم يوم الجمعة برقم (1986) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1985) ، صحيح مسلم الصيام (1144) ، سنن الترمذي الصوم (743) ، سنن أبو داود الصوم (2420) ، سنن ابن ماجه الصيام (1723) ، مسند أحمد بن حنبل (2/422) .(55/108)
الجمعة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام (1) » فنص على التخصيص، أي على أن يفعل الإنسان ذلك لخصوص يوم الجمعة أو ليلتها.
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب صوم يوم الجمعة برقم (1985) ، ومسلم في (الصيام) باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا برقم (1144) .(55/109)
ما جاء في صيام عشر ذي الحجة من أحاديث والجمع بينها
س: روى النسائي في سننه عن أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «كان لا يدع ثلاثا: صيام العشر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة (1) » .
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قولها: «ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائما في العشر قط. وفي رواية: لم يصم العشر قط (2) » .
وقد ذكر الشوكاني في الجزء الرابع ص 324 من نيل الأوطار قول بعض العلماء في الجمع بين الحديثين، حديث حفصة وحديث عائشة، إلا أن الجمع غير مقنع، فلعل لدى سماحتكم جمعا مقنعا بين الحديثين؟
ج: قد تأملت الحديثين واتضح لي أن حديث حفصة فيه اضطراب، وحديث عائشة أصح منه. والجمع الذي ذكره الشوكاني فيه نظر، ويبعد جدا أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سنن النسائي الصيام (2416) .
(2) صحيح مسلم الاعتكاف (1176) ، سنن الترمذي الصوم (756) ، سنن أبو داود الصوم (2439) ، سنن ابن ماجه الصيام (1729) .(55/109)
يصوم العشر ويخفى ذلك على عائشة، مع كونه يدور عليها في ليلتين ويومين من كل تسعة أيام؛ لأن سودة وهبت يومها لعائشة، وأقر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فكان لعائشة يومان وليلتان من كل تسع. ولكن عدم صومه -صلى الله عليه وسلم- العشر لا يدل على عدم أفضلية صيامها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تعرض له أمور تشغله عن الصوم. وقد دل على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح. فيتضح من ذلك استحباب صومها في حديث ابن عباس، وما جاء في معناه. وهذا يتأيد بحديث حفصة وإن كان فيه بعض الاضطراب، ويكون الجمع بينهما على تقدير صحة حديث حفصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم العشر في بعض الأحيان، فاطلعت حفصة على ذلك وحفظته، ولم تطلع عليه عائشة، أو اطلعت عليه ونسيته. والله ولي التوفيق.(55/110)
ليلة القدر هي أفضل الليالي
س: بمناسبة ليلة القدر نود من سماحتكم التحدث لعامة المسلمين بهذه المناسبة الكريمة؟
ج: ليلة القدر هي أفضل الليالي، وقد أنزل الله فيها القرآن، وأخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر، وأنها مباركة، وأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، كما قال سبحانه في أول سورة(55/110)
الدخان: {حم} (1) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (3) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (4) {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (5) {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (7) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (8) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (9) {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (10) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (11) وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (12) » متفق على صحته. وقيامها يكون بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير. وقد دلت هذه السورة العظيمة أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر مما سواها. وهذا فضل عظيم ورحمة من الله لعباده. فجدير بالمسلمين أن يعظموها وأن يحيوها بالعبادة، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأن أوتار العشر أرجى من غيرها، فقال عليه الصلاة والسلام: «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في كل وتر (13) » وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله
__________
(1) سورة الدخان الآية 1
(2) سورة الدخان الآية 2
(3) سورة الدخان الآية 3
(4) سورة الدخان الآية 4
(5) سورة الدخان الآية 5
(6) سورة الدخان الآية 6
(7) سورة القدر الآية 1
(8) سورة القدر الآية 2
(9) سورة القدر الآية 3
(10) سورة القدر الآية 4
(11) سورة القدر الآية 5
(12) رواه البخاري في (الصوم) باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا برقم (1901) ، ومسلم في (صلاة المسافرين) باب الترغيب في قيام رمضان برقم (7060) .
(13) رواه البخاري في (الاعتكاف) باب الاعتكاف في العشر الأواخر برقم (1986) . و (1992) ، والترمذي في (الصوم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) باب ما جاء في ليلة القدر برقم (792) .(55/111)
صلى الله عليه وسلم: أن هذه الليلة متنقلة في العشر، وليست في ليلة معينة منها دائما، فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون في ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين وهي أحرى الليالي، وقد تكون في تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع. فمن قام ليالي العشر كلها إيمانا واحتسابا أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز بما وعد الله أهلها. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص هذه الليالي بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول. قالت عائشة -رضي الله عنها- «كان النبي -صلى الله عليه وسلم-: يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها (1) » . وقالت: «كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر (2) » . وكان يعتكف فيها عليه الصلاة والسلام غالبا، وقد قال الله -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) .
«وسألته عائشة -رضي الله عنها- فقالت يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر فما أقول فيها، قال: قولي، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (4) » وكان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- -رضي الله عنهم-، وكان السلف بعدهم، يعظمون هذه العشر ويجتهدون فيها بأنواع الخير.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (796) .
(2) صحيح البخاري صلاة التراويح (2024) ، صحيح مسلم الاعتكاف (1174) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1639) ، سنن أبو داود الصلاة (1376) ، سنن ابن ماجه الصيام (1768) ، مسند أحمد بن حنبل (6/41) .
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) رواه الترمذي في (الدعوات) باب في عقد التسبيح باليد برقم (3513) .(55/112)
فالمشروع للمسلمين في كل مكان أن يتأسوا بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- وبأصحابه الكرام -رضي الله عنهم- وبسلف هذه الأمة الأخيار، فيحيوا هذه الليالي بالصلاة وقراءة القرآن وأنواع الذكر والعبادة إيمانا واحتسابا حتى يفوزوا بمغفرة الذنوب، وحط الأوزار والعتق من النار. فضلا منه سبحانه وجودا وكرما. وقد دل الكتاب والسنة أن هذا الوعد العظيم مما يحصل باجتناب الكبائر. كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض المسلمين قد يجتهد في رمضان ويتوب إلى الله سبحانه مما سلف من ذنوبه، ثم بعد خروج رمضان يعود إلى أعماله السيئة وفي ذلك خطر عظيم. فالواجب على المسلم أن يحذر ذلك وأن يعزم عزما صادقا على الاستمرار في طاعة الله وترك المعاصي، كما قال الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 31
(2) رواه مسلم في (الطهارة) باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة برقم (233) .
(3) سورة الحجر الآية 99(55/113)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (2) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (3) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (4) ومعنى الآية أن الذين اعترفوا بأن ربهم الله وآمنوا به وأخلصوا له العبادة واستقاموا على ذلك تبشرهم الملائكة عند الموت بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن مصيرهم الجنة من أجل إيمانهم به سبحانه واستقامتهم على طاعته وترك معصيته، وإخلاص العبادة له سبحانه، والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على وجوب الثبات على الحق، والاستقامة عليه، والحذر من الإصرار على معاصي الله -عز وجل-. ومن ذلك قوله -تبارك وتعالى-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (5) {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (6) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (7) {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (8) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة فصلت الآية 30
(3) سورة فصلت الآية 31
(4) سورة فصلت الآية 32
(5) سورة آل عمران الآية 133
(6) سورة آل عمران الآية 134
(7) سورة آل عمران الآية 135
(8) سورة آل عمران الآية 136(55/114)
فنسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين في هذه الليالي وغيرها لما يحبه ويرضاه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم.(55/115)
ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان
س: فضل سبحانه وتعالى شهر رمضان المبارك عن بقية الأشهر، ولياليه العشر الأخيرة عن ليالي العام، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، هل ليلة القدر محددة التاريخ أم أنها خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم؟
ج: ليلة القدر أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها في العشر الأخيرة من رمضان، وبين عليه الصلاة والسلام أن أوتار العشر آكد من أشفاعها فمن قامها جميعا أدرك ليلة القدر. وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » . والمعنى أن من قامها بالصلاة وسائر أنواع العبادة من قراءة ودعاء وصدقة وغير ذلك إيمانا بأن الله شرع ذلك واحتسابا للثواب عنده لا رياء ولا لغرض آخر من أغراض الدنيا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
وهذا عند جمهور أهل العلم مقيد باجتناب الكبائر لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصلوات الخمس والجمعة إلى
__________
(1) سبق تخريجه في ص111(55/115)
الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (1) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه. فنسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا في كل مكان بقيامها إيمانا واحتسابا إنه جواد كريم.
__________
(1) سبق تخريجه في ص113(55/116)
قد ترى ليلة القدر بالعين
س: هل ترى ليلة القدر عيانا أي أنها ترى بالعين البشرية المجردة حيث إن بعض الناس يقولون إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورا في السماء ونحو هذا، وكيف رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر، وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها. نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
ج: قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يستدلون عليها بعلامات، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا، فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان- كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بذلك- طالبا للأجر والثواب فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه(55/116)
الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها. قال -صلى الله عليه وسلم-: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى خارج الصحيحين: «. . . فمن قامها ابتغاءها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. . (2) »
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، وكان أبي بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين، ويستدل بهذه العلامة، والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها، وأوتارها أحرى، وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقراءة والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير، أدرك ليلة القدر بلا شك، وفاز بما وعد الله به من قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سبق تخريجه في ص 111
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) باب حديث عبادة بن الصامت برقم (22205)(55/117)
ما هو الاعتكاف
س: ما هو الاعتكاف؟ وإذا أراد الإنسان أن يعتكف فماذا عليه أن يفعل وماذا عليه أن يمتنع؟ وهل يجوز للمرأة أن تعتكف(55/117)
في البيت الحرام؟ وكيف يكون ذلك؟
ج: الاعتكاف: عبادة وسنة وأفضل ما يكون في رمضان في أي مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، كما قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) فلا مانع من الاعتكاف في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، من الرجل والمرأة، إذا كان لا يضر بالمصلين ولا يؤذي أحدا فلا بأس بذلك. والذي على المعتكف أن يلزم معتكفه ويشتغل بذكر الله والعبادة، ولا يخرج إلا لحاجة الإنسان كالبول والغائط ونحو ذلك أو لحاجة الطعام إذا كان لم يتيسر له من يحضر له الطعام فيخرج لحاجته فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج لحاجته، ولا يجوز للمرأة أن يأتيها زوجها وهي في الاعتكاف، وكذلك المعتكف ليس له أن يأتي زوجته وهو معتكف؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2) والأفضل له ألا يتحدث مع الناس كثيرا بل يشتغل بالعبادة والطاعة، لكن لو زاره بعض إخوانه أو زار المرأة بعض محارمها أو بعض أخواتها في الله وتحدثت معهم أو معهن فلا بأس، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزوره نساءه في معتكفه ويتحدث معهن ثم ينصرفن فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك.
والاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة؟ لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك، وهو
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 187(55/118)
عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجبا بالنذر وهو في حق المرأة والرجل سواء، ولا يشترط أن يكون معه صوم على الصحيح فلو اعتكف الرجل أو المرأة وهما مفطران فلا بأس في غير رمضان.(55/119)
يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم س. ع. م. سلمه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 4886 وتاريخ 24 \ 10 \ 1408 هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة ومنها: س: ما صحة الحديث: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» وإن صح الحديث هل يعني فعلا لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؟
ج: يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة إلا أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه إقامة صلاة الجماعة فيه فإن كانت لا تقام فيه صلاة الجماعة لم يصح الاعتكاف فيه، إلا إذا نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة فإنه يلزمه الاعتكاف بها وفاء لنذره. وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(55/119)
مضاعفة الأعمال الصالحة بمكة
س: الاعتياد على صيام رمضان في مكة المكرمة كل عام، هل فيه فضل خاص لمن هم خارجها؟
ج: لا شك أن مكة المكرمة أفضل بقاع الله فإن الصلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه، كما أنه لا شك أن الأعمال الصالحة تضاعف في الحرمين الشريفين مضاعفة لا يعلم مبلغها إلا الله ما عدا الصلاة فقد جاء بيان مقدار مضاعفتها وصيام رمضان في مكة المكرمة يجتمع فيه فضل الزمان وفضل المكان، فمن وفق لصيام رمضان في مكة المكرمة ولم يترتب على صيامه فيها تعطيل واجب كلف به، أو إخلال بمسئولية أوكلت إليه فذلك مع النية الصالحة فيه خير عظيم.
أما إن كان بقاء المسلم خارج الحرم أنفع له أو للمسلمين في الدين ويترتب عليه مصالح كبيرة وفوائد كثيرة. فإن الأفضل للمسلم أن يبقى في المكان الذي يكثر فيه نفعه للمسلمين وتكثر فيه حسناته.(55/120)
حكم التفرغ للعبادة في رمضان
س: هل من السنة التفرغ في رمضان للأعمال الصالحة والانصراف للراحة والعبادة؟
ج: المسلم عمله كله عبادة، وواجباته التي يؤديها- إذا صلحت نيته كلها عبادة فليست العبادة مجرد صلاة أو صيام فقط، فتعلم العلم وتعليمه والدعوة إلى الله، وتربية الأولاد ورعايتهم، والقيام بشئون الأهل والإحسان لعباد الله، وبذل الجهد في مساعدة الناس، والتنفيس عن المكروبين والمهمومين، ونفع الناس بكل عمل مباح، وطلب الرزق الحلال كل ذلك عبادة لله تعالى إذا صلحت النية، والمسلم الذي يوفقه الله للجمع بين العبادات الخاصة والعامة يكون قد حصل على خير عظيم، وهكذا أداء الوظيفة المسندة إليه في رمضان بنصح وصدق من جملة العبادة التي يثاب عليها ومن اقتصر على العبادة الخاصة لعجزه عما سواها فهو على خير عظيم إذا أخلص لله وصدق في العمل الصالح ولقد مر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رمضانان كان فيهما مجاهدا. فغزوة بدر الكبرى كانت في السابع عشر من رمضان عام اثنين من الهجرة، وغزوة فتح مكة كانت في رمضان في العام الثامن من الهجرة، وقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان وأفطر فيه لما رأى ما حل بالناس من المشقة بالصيام،(55/121)
والمقصود أن المسلم يجتهد في رمضان في الأعمال الصالحة ولا يتخذ من الشهر المبارك وقتا للبطالة والنوم والغفلة والإعراض.(55/122)
الماتريدية ربيبة الكلابية
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الماتريدية التي تنسب إلى أبي منصور الماتريدي ما هي إلا نتاج من أفكار الكلابية. وإليك التفصيل.
(أ) التعريف:
الماتريدية فرقة كلامية تنسب إلى محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي، أبي منصور الحنفي السمرقندي.
والماتريدي نسبة إلى (ماتريد) بفتح الميم وسكون الألف وضم التاء الفوقانية المثناة وكسر الراء المهملة وسكون الياء ودال مهملة، وهي محلة من سمرقند (1) ، ولم يعرف تاريخ مولده على وجه الدقة، وإن كان المرجح أنه حول عام (238 هـ) .
وأشهر مؤلفاته:
(1) كتاب التوحيد. (2) تأويلات أهل السنة.
__________
(1) الأنساب (12 \ 2) ، والفوائد البهية (195) .(55/123)
وأشهر شيوخه:
(1) محمد بن مقاتل الرازي المتوفى سنة (248 هـ) . (2) نصير بن يحيى، ويقال نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة (268 هـ) . (3) أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صبيح الجوزجاني ثم البغدادي الحنفي. (4) أحمد بن العباس بن والحسين بن جبلة السمرقندي أبو نصر العياضي المتوفى في الثلث الأول من القرن الرابع.
وأشهر تلاميذه:
(1) أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الحكيم السمرقندي المتوفى سنة (342 هـ) . (2) أبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390 هـ) . (3) أبو الحسن علي بن سعيد الرستغفني. (4) أبو عصمة بن أبي الليث البخاري. وقد توفي أبو منصور الماتريدي عام (333 هـ) كما ذكر عامة المؤرخين له.(55/124)
(ب) النشأة والتطور: أولا: النشأة: نشأت فرقة الماتريدية على يد أبي منصور الماتريدي والذي تنسب إليه كما تقدم، ولم يكن هناك من أصل لهذه التسمية قبل الماتريدي، ولا نعرف هل ظهرت هذه النسبة إليه في حياته أم بعد وفاته؟ وقد تأثر الماتريدي ولا شك بالحنفية من الجهمية والمعتزلة والمرجئة أكثر مما تأثر بالحنفية السنية السلفية، فجنى عليه هؤلاء، فيما أثر هو في أتباعه الماتريدية، وجنى عليهم كذلك.
ويبدو أن لا وجود للماتريدية بصورة فرقة إلا بعد وفاة إمامهم الماتريدي؛ لأن الفرقة تتكون من مجموعة تلامذته.
وقد أثر الماتريدي في الحنفية في سمرقند تأثيرا بالغا، حتى أصبح غالب الحنفية من الماتريدية.
ثانيا: التطور: لقد مرت الماتريدية بعدة أدوار تاريخية أهمها ما يلي:
(1) دور التأسيس ووضع الأصل: وهذا كان مرتبطا بحياة الماتريدي ما بين عامي (238- 333 هـ) ، وقد تميز هذا الدور بكثرة المساجلات بين الماتريدي وبين المعتزلة.
(2) دور التكوين: وقد ارتبط هذا الدور بتلاميذ الماتريدي، ويمتد منذ وفاة الماتريدي إلى نحو عام (400 هـ) ، حيث انتشر تلاميذ الماتريدي، وبدءوا في نشر كلامه وأفكاره والانتصار لها والدفاع عنها.(55/125)
(3) دور الانتشار: وقد ارتبط ذلك بظهور أشخاص أكثروا من التأليف والكتابة عن الماتريدي وأفكاره وأصوله والانتصار لها، ويمكن اعتبار هذا الدور ممتدا ما بين عام 400هـ حتى يومنا هذا، وقد ظهر فيه أمثال أبي اليسر البزدوي (493هـ) ، وازداد انتشارها على يد أبي المعين النسفي (508هـ) ، ونجم الدين عمر النسفي (537هـ) ، وحافظ الدين عبد الله النسفي (710هـ) . وهذا الدور كان من أهم أدوار الماتريدية، وشهد مناظرات بين الماتريدية والأشعرية، وخصوصا عند نور الدين أحمد بن محمد الصابوني (580هـ) .
وكذلك فقد شمل هذا الدور فترة الحكم العثماني بكاملها والتي شهدت تمكنا وتسلطا من الماتريدية على عموم الوظائف الدينية في ولايات الدولة العثمانية، وكذلك شهد انتشار مذهب الماتريدية في كثير من البلاد الإسلامية، وشهد ظهور كثير من أعلام الماتريدية كالتفتازاني والجرجاني وابن الهمام ومرورا بمحمد قاسم الديوبندي وأحمد رضا البريلوي ثم الكوثري الماتريدي وغيره.
وقد شهد هذا الدور كذلك هجوما شديدا من الماتريدية على أصحاب العقيدة السلفية ووصفهم لهم بأشنع الأوصاف وأقبحها، وخصوصا بعد انتشار الدعوة السلفية- التي أطلقوا عليها تشنيعا اسم الوهابية - في الجزيرة العربية.(55/126)
(ج) مصادر التلقي:
ترى الماتريدية أن مصدر التلقي الأول في "معظم أبواب التوحيد هو العقل دون النقل؛ وذلك لأن الأدلة العقلية عندهم قطعية (1) ، أما السمعية فإنها- بزعمهم- ظواهر ظنية (2) . وقد قسموا أصول الدين إلى عقليات وسمعيات، فمصدر التلقي في العقليات هو العقل، وهو الأصل، والنقل تابع له، ويشمل هذا معظم أبواب التوحيد والصفات.
وأما السمعيات فمصدر التلقي فيها هو النقل، والعقل تابع له، وتشمل أمورا: كعذاب القبر والصراط وأحوال الآخرة. وأما إذا قدر تعارض بين الأدلة العقلية والسمعية- يعني في أبواب التوحيد- فإنهم يقدمون الأدلة العقلية التي هي عندهم قطعية، وأما السمعية فعندهم مصيرها التأويل والتحريف أو النفي؛ لأنها إنما هي ظنية بزعمهم (3) . قال الزبيدي عند كلامه عن صفتي الاستواء والنزول حيث أراد وضع قانون كلي لإبطال تلك الصفات فقال: وأجيب عنه بجواب إجمالي، وهو كالمقدمة للأجوبة التفصيلية، وهو أن الشرع إنما ثبت بالعقل. . . فلو أتى الشرع بما يكذبه العقل وهو شاهده لبطل الشرع
__________
(1) إشارات المرام (189، 199) ، شرح العقائد النسفية (5، 42) ، نشر الطوالع (222) .
(2) حاشية عبد الحكيم على الخيالي (ص 184) مع المصادر السابقة.
(3) إشارات المرام (199) ، شرح العقائد النسفية (42) ، نشر الطوالع (228) ، المسايرة (32، 35) .(55/127)
والعقل معا، إذا تقرر هذا فنقول: كل لفظ يرد في الشرع. . . وهو مخالف للعقل. . . إما أن يتواتر أو ينقل آحادا، والآحاد إن كان نصا لا يحتمل التأويل قطعنا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهرا فظاهره غير مراد، وإن كان متواترا فلا يتصور أن يكون نصا لا يحتمل التأويل، بل لا بد وأن يكون ظاهرا. . . والقاعدة عندهم: أن كل نص إذا أخبر به الصادق وهو أمر ممكن ولم يكن مخالفا فلا يؤول، كالبعث والنشر ونعيم الجنة وعذاب النار، أما إذا كان نصا دالا على أمر محال مخالف للعقل- بزعمهم- فلا بد من تأويله، كعلو الله تعالى واستوائه على عرشه، ونزوله في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا (1) .
ويقولون: إن النصوص إذا كانت خلاف العقل، فإن كانت متواترة فهي وإن كانت قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة، فالعقل مقدم عليها؛ فلذلك الأدلة النقلية تؤول أو تفوض، أما الأدلة العقلية، فلا تأويل لها، بل تأويلها محال (2) .
فالحاصل أن منهج الماتريدية في نصوص الوحي باطل فاسد؛ لأنه صريح في أن العقل أصل والشرع تابع له.
__________
(1) النبراس في شرح العقائد النسفية (ص 316- 317) .
(2) شرح العقائد النسفية (ص 5، 42) .(55/128)
(د) الأصول والمبادئ:
إن أصول الماتريدية ومبادئهم قد وافقوا أهل السنة في بعضها وخالفوهم في البعض الآخر، وسنحاول بإذن الله استعراض هذه الأصول بغير إسهاب:
أولا: الأصول التي وافقوا فيها أهل السنة والجماعة:
(1) الصحابة: وافق الماتريدية أهل السنة والجماعة في شأن الصحابة -رضي الله عنهم- جميعا، فهم يرون تفضيل أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه-، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم-، وذلك على ترتيبهم في الخلافة، ويرون أن الحروب التي وقعت بين الصحابة كانت عن اجتهاد، منهم من أصاب، ومنهم من أخطأ، وكلهم مأجور، ولا يجوز القدح فيهم، ويجب الكف عنهم، ويرون أن الطعن في الصحابة إما أن يكون كفرا أو بدعة أو فسقا.
(2) الخلافة والإمامة: وهذا كذلك من الأصول التي وافق الماتريدية فيها أهل السنة والجماعة، فهم يرون أن الخلافة الراشدة كانت ثلاثين سنة، ويرون أن الخليفة ينبغي أن يكون من قريش، ويرون ضرورة تنصيب خليفة على الناس، وإمام لهم، يقيم الحدود، ويسد الثغور، ويجيش الجيوش، ويأخذ الصدقات، ويرد المتسلطة وقطاع الطرق، ويقطع المنازعات، وأن(55/129)
يكون ظاهرا لا مختفيا، ولا يشترط أن يكون معصوما، ويرون الصلاة خلف كل بر وفاجر من الأئمة، ويمنعون الخروج على الإمام ولو كان جائرا (1) .
(3) القدر: وافق الماتريدية أهل السنة كذلك في إثبات القدر، وهم يقولون: إن أفعال العباد كلها من الخير والشر مخلوقة لله تعالى، وإن الله -عز وجل- هو خالق أفعال الخير والشر وليس كما يزعم المعتزلة أن العبد خالق فعل نفسه. وهم يقولون: إن أفعال العباد خلق لله، وكسب من العباد واختيار منهم. وهم يرون أن هناك فرقا بين الحركات الاختيارية الإرادية كالبطش ونحوه، وبين الحركات اللاإرادية كالارتعاش ونحوه، والعبد يثاب على الطاعات الاختيارية، ويعاقب على المعاصي الاختيارية كذلك (2) .
(4) النبوات: يرى الماتريدية أن النبوة تثبت للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بطرق، منها:
(أ) ما تواتر من أحواله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته وكرم أخلاقه وبعده عن الشر والظلم مع قدرته عليه، فكل ذلك يصدقه في دعوى النبوة.
(ب) ما ثبت له -صلى الله عليه وسلم- من المعجزات الكثيرة البالغة حد التواتر، مثل: شق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام والشراب، ونحوها كثير.
__________
(1) نفس المصادر والمواضع السابقة.
(2) العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص (75- 83) .(55/130)
(ج) أنه أتى بالقرآن المعجز وتحدى به الفصحاء البلغاء مع أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وعجزوا على أن يأتوا بمثله، أو معارضته ولو بأقصر سورة (1) . غير أن الكثيرين منهم يرون أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة فقط؛ لأنها الدليل اليقيني القاطع الذي لا يقبل الشك. وأكثرهم يقولون بعصمة الأنبياء من الصغائر، وأن ما صدر منهم كان من قبيل فعل خلاف الأولى (2) .
(5) اليوم الآخر: وافق الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان بالآخرة، وما فيها من الحشر والنشر وأحوال البرزخ والجنة والنار والصراط والميزان والشفاعة وغيرها، وقالوا: إنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، ونطق بها الكتاب والسنة؟ فتحمل على ظاهرها (3) .
ثانيا: الأصول التي خالف فيها الماتريدية أهل السنة والجماعة:
(1) التوحيد: يقسم أهل السنة التوحيد من خلال استقرائهم للنصوص الشرعية إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيثبتون هذه الأنواع الثلاثة لله -عز وجل-.
__________
(1) العقائد النسفية مع شرحها (134- 137) ، والتوحيد للماتريدي (302، 303) ، والبداية للصابوني (89- 93) .
(2) مدارك التنزيل (1 \ 43) ، كتاب التوحيد للماتريدي (202) .
(3) العقائد النسفية مع شرحها (148- 163،، والبداية للصابوني (ـ 105) ، وأصول الدين للبزدوي (178، 198) .(55/131)
أما الماتريدية فإن التوحيد عندهم ثلاثة أنواع: توحيد في الذات، فالله تعالى لا قسيم له بمعنى أنه لا يتبعض ولا يتجزأ (1) . وتوحيد في الصفات، فالله تعالى لا شبيه له. وتوحيد في الأفعال، فالله تعالى لا شريك له في أفعاله.
يقول ملا علي القاري: واحد في ذاته، واحد في صفاته، وخالق لمصنوعاته (2) .
ويتضح من هذا أنهم جعلوا توحيد الربوبية هو الغاية العظمى، مع أنه أمر فطري لا يخالف فيه أحد، وكذلك أنهم أهملوا توحيد الألوهية تماما ولم يتطرقوا إليه بكلمة، مع أنه الغاية العظمى من بعثة الرسل.
وأما الاستدلال على وجود الله تعالى فإنهم يستدلون على وجود الله تعالى بطريقة الحدوث، وهي إثبات حدوث العالم أولا؛ وذلك أن العالم عندهم جواهر وأعراض، والجواهر لا تنفك عن الأعراض، والأعراض حادثة، وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث (3) . فالعالم إذن حادث، وإذا ثبت حدوث العالم، فإن الأجسام في العالم لا تجتمع ولا تفترق بنفسها ولا هي قادرة على إصلاح ما فسد منها في حال قوتها وكمالها، وإذا كانت الطبائع المتنافرة لا تجتمع بنفسها فلا بد من قاهر يقهرها على غير طبعها
__________
(1) العقائد النسفية مع شرحها (39) .
(2) ضوء المعاني (ص 13) .
(3) كتاب التوحيد للماتريدي (11- 13) .(55/132)
وهو الله تعالى (1) .
وهذه الطريقة في الاستدلال مخالفة لطريقة السلف أهل السنة والجماعة الذين يستدلون على وجود الله بدلالة الفطرة وغيرها؛ وذلك لأن طريقة المتكلمين فيها تعقيد شديد، وتكلف قد يخفى على كثير من الناس، وكذلك فإن هذه الطرق توقع في الشبهات التي قد تؤدي إلى زعزعة الإيمان في النفس، ولا سيما في نفوس العوام، إضافة إلى أنه قد يطرأ عليها شبهات كثيرة طويلة تحتاج إلى إبطال لها.
(2) الصفات: ضيق الماتريدية دائرة الإثبات، وتظاهروا بإثبات ثماني صفات هي: الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (2) .
والحقيقة أنهم لم يثبتوا حتى تلك الصفات الثماني، بل أثبتوا بعضها. أما صفتا السمع والبصر فأكثرهم يثبتهما، وبعضهم يرجعهما إلى غيرهما (3) . وإثباتهم للإرادة يختلف عن إثبات بقية السلف.
وأما صفة الكلام فإنهم يقولون بالكلام النفسي الذي لا يسمع، وليس بحرف ولا بصوت. وصفة التكوين عندهم هي
__________
(1) كتاب التوحيد للماتريدي (17- 19) بتصرف.
(2) إشارات المرام (107- 114) .
(3) كما صنع ابن الهمام في المسايرة (69) فإنه أرجعهما إلى العلم.(55/133)
مرجع لجميع الصفات الفعلية المتعدية، كالإحياء والإماتة والتخليد، ولكنها في الواقع ليست صفة حقيقية عندهم؛ لأنهم يزعمون أن الصفات الفعلية ليست قائمة بالله، فرارا من حلول الحوادث به (1) . وهم يعطلون ما سوى ذلك من الصفات، كصفة الوجه واليدين والاستواء والنزول والغضب والرضا والمجيء والمحبة والعلو والكلام الحقيقي وغير ذلك. فهم قد صرفوا نصوص إثبات الوجه إلى الذات (2) والوجود (3) ، وصرفوا نصوص إثبات اليدين إلى إثبات كمال القدرة (4) أو الملك والمنة (5) ، وصرفوا نصوص إثبات صفة الاستواء إلى الاستيلاء (6) ، وعطلوا صفة النزول وصرفوا نصوصها إلى اللطف والرحمة (7) وغيرها
__________
(1) المواقف (293) ، والإنصاف (96، 97) ، والإرشاد (128 - 137) .
(2) مدارك التنزيل للنسفي (2 \ 670) ، وتفسير أبي السعود (7 \ 28) .
(3) إشارات المرام (189) .
(4) إشارات المرام (189) .
(5) بحر الكلام ص (20) .
(6) التوحيد للماتريدي (72) .
(7) شرح المواقف (8 \ 25)(55/134)
(3) الإيمان: اتفق الماتريدية مع أهل السنة في عدم تكفير مرتكب الكبيرة التوحيد للماتريدي (333، 334) ، والعقائد النسفية مع شرحها (106- 108) ، وبحر الكلام (43، 44) .، لكنهم خالفوهم في أكثر مباحث الإيمان، فمن ذلك:
(أ) قالوا بخروج الأعمال عن مسمى الإيمان، وذلك(55/134)
خلافا لمذهب السلف.
(ب) قالوا بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهذا مخالف لمذهب السلف.
(ج) حرموا الاستثناء في الأيمان، وهذا كذلك خلاف مذهب السلف.
(د) ذهب أكثرهم إلى مذهب الماتريدي في تعريف الإيمان، وأنه هو التصديق لا غير، وأما الإقرار فهو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهذا غلو في الإرجاء، وهو خلاف(55/135)
مذهب السلف الذين قالوا: إن الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوراح والأركان. وإن كان فيهم من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق والإقرار، غير أن جمهورهم ذهب إلى تعريف الإيمان بأنه التصديق فقط، كما سبق.(55/136)
(هـ) أشهر الرجال والفرق:
أولا: أشهر الرجال: وسأشير إلى بعض الرجال من المتقدمين والمتأخرين ممن أسهموا في نشر عقائد الماتريدية وتطويرها، وهم:
(1) البزدوي:
أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى ابن مجاهد نسبة إلى بزدة أو بزدوة.
ولقبه القاضي الصدر، وكان شيخ الحنفية في عصره، ولد عام 421 هـ، وجده عبد الكريم من تلاميذ أبي منصور الماتريدي، وممن تلقى البزدوي عنهم العلم: أبوه، وإسماعيل بن عبد الصادق،(55/136)
وأبو يعقوب يوسف بن منصور السياري، ويعقوب بن يوسف بن محمد النيسابوري، والشيخ أبو الخطاب، وكان أبو اليسر البزدوي ينهى عن النظر في كتب الفلاسفة والمعتزلة، ويرى أنها سبب للوقوع في الشرك والشك والزيغ، وجوز النظر في كتب الأشعري لمن عرف أخطاءه، ولكنه لم يقف على شيء من كتب ابن كلاب، وكان يرى أن كتاب التوحيد للماتريدي فيه تطويل، وأن ترتيبه صعب؛ لذلك ألف كتاب أصول الدين، وهو عبارة عن إعادة ترتيب وتبسيط لكتاب التوحيد للماتريدي مع بعض إضافات، كخلافه مع الأشعرية.
ومن أشهر كتبه: المرطب، وهو حاشية على كتاب الجامع الصغير للشيباني، وكتاب: الواقعات، وكتاب: المبسوط، وهما في الفقه، وكتاب: أصول الدين، السابق الذكر.
وكانت له مكانة كبيرة جدا عند الماتريدية، وتتلمذ عليه كثيرون، من أشهرهم: ولده القاضي أحمد أبو المعالي، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب العقائد النسفية، وعثمان بن علي البيكندي، وأحمد بن نصر البخاري. توفي ببخارى سنة 493 هـ.
(2) أبو المعين النسفي: ميمون بن محمد بن محمد بن معتمد بن محمد بن محمد ابن مكحول بن أبي الفضل المكحولي، نسبة إلى نسف، مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند، والمكحولي نسبة إلى جده الأعلى(55/137)
مكحول، وغلبت عليه النسبة إلى البلد، لقب بعدة ألقاب.، وقد ولد سنة 438 هـ.
ويعتبر من أشهر علماء الماتريدية، ويعد في الماتريدية كالباقلاني والغزالي في الأشعرية، ومن مؤلفاته: تبصرة الأدلة، وهو أشهر مؤلفاته، ويعتبر من أهم الكتب في عقائد الماتريدية، بل هو أوسعها وأشملها على الإطلاق، وهو عبارة عن عرض لعقائد الماتريدية، ورد على مخالفيهم، وخصوصا المعتزلة، وله كذلك كتاب: بحر الكلام، وكتاب التمهيد، وهو عبارة عن مختصر لتبصرة الأدلة، وكتاب شرح الجامع الكبير للشيباني، وكتاب: إيضاح المحجة لكون العقل حجة، وكتاب: مناهج الأئمة، وغيرها، توفي سنة 508 هـ عن سبعين سنة.
(3) نور الدين الصابوني:
أحمد بن أبي بكر الصابوني البخاري أبو محمد، ولقبه نور الدين، ولا يعرف تاريخ مولده، لكنه توفي ليلة الثلاثاء السادس عشر من صفر سنة 580 هـ.
ومن مؤلفاته: البداية في أصول الدين، والمغني في أصول الدين، وذكر ابن قطلوبغا، والهداية في علم الكلام، والكفاية في الهداية، وغيرها.(55/138)
(4) الكوثري:
محمد زاهد بن الحسن التركي الجركسي، نسبة إلى أحد أجداده كوثر، أو إلى قرية الكواثرة بضفة نهر شبز ببلاد القوقاز، وقاعدة النسب ترجح الأول.
ولد ونشأ في قرية من أعمال دوزجة بشرق الأستانة، وتفقه في جامع الفاتح بالأستانة، واضطهده الاتحاديون خلال الحرب العالمية الأولى، فاتجه إلى الإسكندرية سنة 1341 هـ، وتنقل بين مصر والشام، ثم استقر في القاهرة موظفا في دار المحفوظات، يترجم الوثائق التركية إلى العربية، ويكتب ويصنف، وكان يجيد عدة لغات، وتوفي بالقاهرة سنة 1371 هـ. وكان من أشهر متأخري الماتريدية، ومن أشدهم على أهل السنة، أكثر من الطعن والسب والقدح في أئمة أهل السنة، وتمجيد الماتريدية، وله كتب ومؤلفات كثيرة، منها: تأنيب الخطيب، وكتاب مقالات الكوثري، وتعليق على كتاب العالم والمتعلم، وكتاب الرسالة، وكتاب الفقه الأبسط المنسوب إلى أبي حنيفة، وكتاب تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم، وله كتب وتعليقات أخرى كثيرة.
ثانيا: الفرق: لم تفترق الماتريدية إلى فرق بينها تباين في الأصول أو نحو ذلك، لكن يمكن القول بأن هناك مدارس للماتريدية، تولت نشر(55/139)
عقائدها والدفاع عنها في زمن معين أو في بلد معين، فمنها: البريلوية، والديوبندية، وغيرها.(55/140)
(و) الانتشار في العصر الحاضر: نستطيع القول بأن الماتريدية مع الأشعرية قد تقاسموا الانتشار والتسلط في معظم المدارس والجماعات في أكثر البلاد الإسلامية ما عدا الديار السعودية. وقد انتسب إلى الماتريدية عامة متأخري الحنفية، بل وأكثر متقدميهم كذلك. والعقائد الماتريدية منتشرة في بلاد العجم، كالهند وباكستان وتركيا وغيرها، وكذلك فإنها واسعة الانتشار في معظم البلاد العربية مع الأشعرية، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم أهل السنة، وسموا علم التوحيد علم الكلام، وعمت بهم البلوى في الأزمنة المتأخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكان من أهم أسباب انتشار عقائدهم ونفوذهم ما كان من تبني الدولة العثمانية للمذهب الماتريدي، ومحاولتها فرضه في كل الولايات الخاضعة لها، والعمل على تمكين الماتريدية من كل الوظائف الدينية، كالإفتاء والقضاء والتدريس وغيره؛ فلذلك انتشر هذا المذهب في كثير من البلاد الإسلامية كما سبق.(55/140)
(ز) التقويم:
تقدم القول أن الماتريدية وافقوا أهل السنة والجماعة في بعض أصولهم، وسبق بيانها، لكنهم خالفوهم كذلك في أصول أخرى وقد سبق الكلام عنها كذلك، فهم كسائر الطوائف الأخرى التي خالفت أهل السنة في أمور، عندهم حق وباطل، لكنهم أبعد عن أهل السنة من الكلابية، فالكلابية كانوا أقرب منهم إلى أهل(55/140)
السنة والجماعة، وهؤلاء أبعد عن الحق من الكلابية، لكنهم على كل حال أقل شرا وأخف خطرا من الجهمية والمعتزلة وأشباههم، غير أنه ينبغي الحذر من المسائل التي خالفوا أهل السنة فيها، وينبغي الاحتياط من دعواهم أنهم أهل السنة والجماعة.(55/141)
مراجع للتوسع:
(1) الماتريدية دراسة وتقويم. لأحمد بن عوض الله الحربي.
(2) الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات. للشمس السلفي الأفغاني.
(3) منهج الماتريدية في العقيدة. للدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس.(55/141)
الكلابية
(أ) التعريف: الكلابية فرقة تنتسب إلى أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصري. ولقب كلابا لأنه كان يجتذب الخصم إليه بقوته في المناظرة، كما يجتذب الكلاب الشيء إليه. وكان رأس المتكلمين بالبصرة في زمنه (1) . وكان يرد على المعتزلة والجهمية، وكانت له معهم مناظرات ومجادلات، وهو الذي دمر المعتزلة في مجلس الخليفة المأمون وفضحهم ببيانه (2) . وزعم البعض أنه أخو يحيى بن سعيد القطان الحافظ العالم بالحديث النبوي، وهذا غير
__________
(1) السير (11 \ 174) .
(2) أصول الدين للبغدادي ص (309) .(55/141)
صحيح (1) . واتهم ابن كلاب بأنه ابتدع أقواله ليدخل دين النصارى في دين المسلمين إرضاء لأخته النصرانية لما اعترضت على إسلامه، وقد كذب ذلك ابن تيمية (2) والذهبي (3) . ولم تشر مصادر ترجمته إلى شيوخه، وأما تلامذته فقد ذكر منهم الذهبي (4) : داود الظاهري، والحارث المحاسبي.
__________
(1) لسان الميزان (3 \ 291) ، إتحاف السادة المتقين (2 \ 6) .
(2) منهاج السنة (2 \ 397) ، ودرء التعارض (6 \ 155) ، ومجموع الفتاوى (5 \ 555، 8 \ 115) .
(3) السير (11 \ 175) .
(4) السير (11 \ 175) .(55/142)
(ب) النشأة والتطور:
نشأت الكلابية على يد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي عاش في زمن شهد سطوة المعتزلة وتسلطهم واستمالتهم للخلفاء، وبلغ ذلك ذروته في عهد الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، واستمر في عهد المعتصم والواثق إلى أن رفع الله هذا البلاء في زمن المتوكل. وقد وقعت مناظرات ومساجلات بين ابن كلاب وبين المعتزلة والجهمية، وأراد ابن كلاب نصرة عقيدة السلف الصالح بالطرق والبراهين العقلية والأصولية، حتى عده كثير من المؤرخين للفرق من متكلمة أهل السنة والجماعة.
قال المقدسي: الكلابية أصحاب عبد الله بن كلاب، مناظرهم ولسانهم وبدرهم (1) .
__________
(1) البدء والتاريخ (5 \ 150) .(55/142)
وقال الشهرستاني: حتى انتهى الزمان إلى عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي. وهؤلاء كانوا من جملة السلف، إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية (1) وهذان المذكوران- المحاسبي والقلانسي - وغيرهما، هم من تلامذته الذين نشروا مذهبه، إلى أن تلقف هذا المذهب في القرن الرابع الهجري كل من: أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333) ، وأبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (330) ، فنشرا أقوال ابن كلاب، وأشاعاها، وهكذا تطور المذهب الكلابي على أيدي هؤلاء ومن جاء بعدهم من الماتريدية والأشعرية، وذلك كما في مسائل العلو والاستواء والرؤية وغيرها على النحو التالي:
(1) كان ابن كلاب مثبتا للعلو والاستواء، مثبتا للرؤية، بينما نفى الماتريدية والأشعرية صفة العلو، وقالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه. وأولوا الاستواء بأنه الاستيلاء، وأما بخصوص الرؤية فإنهم اشترطوا لها شروطا مخترعة، فقالوا: يرى بلا جهة ولا مسافة. بل إن بعض محققيهم صرحوا بأنه ليس بينهم وبين المعتزلة خلاف في مسألة الرؤية فإنها- عندهم- رؤية قلبية وليست بصرية.
(2) في الإيمان: كان ابن كلاب يقول في الإيمان: إنه معرفة بالقلب وإقرار باللسان. ويرى صحة إيمان المقلد،
__________
(1) الملل والنحل (1 \ 85) .(55/143)
ويحكم له بالإسلام، بينما يذهب جمهور الأشعرية والماتريدية إلى أن الإيمان تصديق بالقلب، ولا يشترطون لزوم النطق باللسان.
ويرى بعض منهم عدم صحة إيمان المقلد (1) .
(3) في القدر: كان ابن كلاب يثبت القدر في الجملة على طريقة أهل السنة والجماعة، أما الأشعري فإنه أتى بعد ذلك بنظرية (2) الكسب، وهي أقرب ما تكون إلى مذهب الجبرية.
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (13: 362) .
(2) شرح المواقف (8 \ 145، 146) .(55/144)
(ج) مصادر التلقي:
ذكرنا فيما سبق أن ابن كلاب أراد نصرة السنة ببراهين أصولية وحجج عقلية؛ فلذا كان يقدم العقل على النقل في بعض المسائل، قال السجزي: " فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما " (1) .
فمن ذلك: مسألة القرآن:
فقد كان الناس فريقين في شأن القرآن، حيث ذهب أهل السنة إلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وذهب المعتزلة إلى أنه مخلوق، فحاول ابن كلاب التوسط بين المذهبين، فأتى بقول هو تلفيق منهما، فقال: " إن القرآن هو حكاية عن كلام الله ". هذا
__________
(1) الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص 81) .(55/144)
مع أنه يقول: " إن كلام الله تعالى غير مخلوق". وهو أول من أحدث القول ببدعة الكلام النفسي وأنكر الحرف والصوت، وهذه البدعة لا دليل عليها من الشرع، وإنما أتى بها لما ظنها دليلا عقليا لنصرة مذهب أهل السنة والجماعة (1) .
بعض مسائل الصفات:
فقد صرف بعض النصوص في الصفات عن ظاهرها، واستخدم التأويل العقلي، وذلك في مثل صفة الأصابع لله تعالى، فقد صرف النص عن ظاهره، وأول الأصابع بأنها نعم الله تعالى، فحديث: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن (2) » . . . فالإصبعان هنا نعمتان من نعم الله تعالى (3) وأما عموم المسائل الأخرى فإنه قدم فيها النقل على العقل. ومما يدل على ذلك إثباته للصفات الخبرية، كالوجه والعين واليد، والصفات الفعلية كالعلو والاستواء. فقد قال بعد كلامه عن تقرير صفة العلو: فكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له (4) أما من اتبعوا طريقته فقد توسعوا في استعمال العقل حتى قدموه على النقل في أكثر المسائل، ويدل على ذلك إنكارهم
__________
(1) المصدر السابق، نفس الصفة.
(2) مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (4 \ 2045 \ ح2654) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) طبقات الحنابلة (2 \ 133) .
(4) درأ التعارض (6 \ 194) ونقله عن ابن فورك.(55/145)
للصفات الخبرية، كالوجه والعين واليدين، وكذلك الصفات الفعلية، كالعلو والاستواء وغيرها، وكثير من هؤلاء ممن انتسب إلى الأشعري والماتريدي. وسأنقل هنا قولا لأحد أئمة الماتريدية في بيان منهجهم، ثم أتبعه بقول لأحد أئمة الأشعرية توضح منهجهم كذلك في التلقي:
(1) قال الزبيدي الماتريدي: إن الشرع إنما ثبت بالعقل. . .، فلو أتى الشرع بما يكذبه العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل معا. إذا تقرر هذا فنقول: كل لفظ يرد في الشرع. . . وهو مخالف للعقل. . . إما أن يتواتر أو ينقل آحادا، والآحاد إن كان نصا لا يحتمل التأويل قطعنا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهرا فظاهره غير مراد، وإن كان متواترا فلا يتصور أن يكون نصا لا يحتمل التأويل، بل لا بد وأن يكون ظاهرا. . .
(2) قال الرازي الأشعري: اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
(أ) إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين، وهو محال.
(ب) وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين، وهو محال.
(ج) وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية،(55/146)
وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظهور المعجزات على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية، صار العقل متهما غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا وأنه باطل، ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة، إلا أن المراد منها غير ظواهرها. . . (1)
والحاصل أن عامة المتبعين لابن كلاب من المتأخرين يجعلون العقل أصل التلقي في مسائل الإلهيات ويجعلون النقل تابعا، ثم إن أهل التصوف منهم يضيفون الكشف والذوق كمصادر للتلقي، فيقدمونها على النص، ويؤولون النص ليوافقهم (2) . وكل هذه الطرق مخالفة للحق الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم.
والواجب تقديم النص والنقل على ما عداه، فإنه وحي الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما العقل فإنه يخطئ ويصيب، ولا يجوز جعله عمدة التلقي فضلا
__________
(1) أساس التقديس للرازي (168، 173) .
(2) الرسالة اللدنية للغزالي ضمن مجموعة القصور العوالي (1 \ 114- 118) .(55/147)
عن تقديمه على النقل والنص.
والنص حجة بين الإنسان وبين ربه -عز وجل- فالواجب تقديمه على كل ما سواه، وجعله العمدة في التلقي، وما سواه فإنه له تابع وشاهد فقط.(55/148)
(د) الأصول والمبادئ:
لقد وافق ابن كلاب أهل السنة والجماعة في بعض أصوله، وخالفهم في بعضها الآخر. وسوف أقتصر فقط على ابن كلاب دون المنتسبين إليه الذين لحق بعضهم بالماتريدي وبعضهم بالأشعري. ونظرا لعدم وجود كتب لابن كلاب، فسأنقل عنه من خلال المصادر التي ذكرت أقواله كمقالات الأشعري وغيرها.
أولا: الأصول التي وافق فيها ابن كلاب أهل السنة والجماعة:
(1) إثبات الأسماء الحسنى لله تعالى:
فيقول: لم يزل الله تعالى عالما، قادرا، حيا، سميعا، بصيرا، عزيزا، عظيما، جليلا، متكبرا، جبارا، كريما، جوادا، واحدا، صمدا، فردا، باقيا، ربا، إلها، مريدا، كارها، راضيا عمن علم أنه يموت مؤمنا وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من علم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا، محبا، مبغضا، مواليا، معاديا، قائلا، متكلما، رحمانا (1) .
(2) في الصفات:
(أ) الصفات الخبرية:
يثبت ابن كلاب بعض الصفات الخبرية، كالوجه واليد والعين
__________
(1) مقالات الإسلاميين للأشعري (ص 169) ط. ريتر.(55/148)
والحياة والسمع والبصر والقدرة، فيقول: " أطلق اليد والعين والوجه خبرا؛ لأن الله أطلق ذلك، ولا أطلق غيره، فأقول: هي صفات الله عز وجل، كما قال في العلم والقدرة والحياة أنها صفات " (1) .
وقال: " بعلم، وقدرة، وحياة، وسمع، وبصر، وعزة، وعظمة، وجلال، وكبرياء، وجود، وكرم، وبقاء، وإرادة، وكراهة، ورضى، وسخط، وحب، وبغض، وموالاة، ومعاداة، وقول، وكلام، ورحمة، وأنه قديم لم يزل بأسمائه وصفاته " (2) .
ويقول أيضا: " معنى أنه عالم: أن له علما، ومعنى أنه قادر: أن له القدرة، ومعنى أنه حي: أن له حياة، وكذلك القول في سائر أسمائه وصفاته " (3) .
(ب) الصفات الفعلية:
يثبت ابن كلاب بعض الصفات الفعلية، كالاستواء والعلو، فيقول في كتاب الصفات: " فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمه جميعا به، يجيز السؤال بأين وبقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به، ولو كان خطأ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك فتوهمين أن الله -عز وجل- محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي:
__________
(1) مقالات الإسلاميين (ص 217، 218) .
(2) مقالات الإسلاميين (ص 169) .
(3) نفس المصدر والصفحة.(55/149)
إنه في كل مكان؛ لأنه الصواب دون ما قلت، كلا، لقد أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يوجب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ والكتاب ناطق به وشاهد له " (1) .
وقال ابن كلاب أيضا: ولو لم يشهد لصحة مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء، إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح، ولا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان- كما يقولون- وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن (2) .
وأما الاستواء فإنه يقول: فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول استوى على الأرض، واستوى على الجدار وفي صدر البيت (3) .
__________
(1) درء التعارض (6 \ 193، 194) ، ونقله عن ابن فورك.
(2) نفس المصدر السابق (6 \ 194) .
(3) نفس المصدر (6 \ 119، 120) .(55/150)
ويرى ابن كلاب أن استواء الله تعالى على العرش بلا مماسة (1) .
(3) في الرؤية:
يثبت ابن كلاب رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى بأبصارهم في الجنة، ولا يرى مانعا عقليا من ذلك، بالنظر إلى أن كل قائم بنفسه يرى. .
(4) في الإيمان:
يوافق ابن كلاب أهل السنة والجماعة في الحكم بصحة إيمان المقلد، وكذلك يوافق أهل السنة أيضا في شأن مرتكب الكبيرة، وأنه فاسق لم يخرج من الإيمان، وإنما هو تحت المشيئة الإلهية، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له (2) .
غير أنه يأخذ اتجاها مخالفا لأهل السنة في تعريف الإيمان، كما سترى ذلك فيما بعد- إن شاء الله- ضمن الأصول التي خالف فيها أهل السنة.
(5) القدر:
يثبت ابن كلاب أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، وأن ما يقع في الكون بمشيئة الله وإرادته، وأن أفعال العباد من خير وشر خلق لله تعالى.
__________
(1) أصول الدين للبغدادي (ص 113) .
(2) المقالات للأشعري (293، 298) .(55/151)
يقول ابن كلاب: أقول في الجملة: إن الله أراد حدوث الحوادث كلها خيرها وشرها، ولا أقول في التفصيل: إنه أراد المعاصي، وإن كانت من جملة الحوادث التي أراد حدوثها. كما أقول في الجملة عند الدعاء: يا خالق الأجسام. ولا أقول: يا خالق القرود والخنازير والدم والنجاسات، وإن كان هو الخالق لهذه الأشياء كلها (1) .
ثانيا: الأصول التي خالف ابن كلاب فيها أهل السنة والجماعة:
(1) في الصفات:
فابن كلاب وإن وافق السلف في إثبات صفات الذات، لكنه خالفهم فنفى الصفات والأفعال الاختيارية، مثل: الرضى والغضب والمحبة والكرم، بل جعل كل هذه الصفات ذاتية أزلية، تماما كصفات السمع والبصر؛ وذلك لأنه ينفي الصفات والأفعال الاختيارية، لأنه يرى أن في إثباتها إقرارا بحلول الحوادث في ذات الله تعالى، كذلك روي عنه التأويل في بعض الصفات، حيث أول الأصابع بالنعمة.
(2) في مسألة القرآن والكلام الإلهي:
فعلى الرغم من إقرار ابن كلاب بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لكنه أتى ببدعة عجيبة، وهي أن القرآن إنما هو حكاية عن كلام الله تعالى، وأتى ببدعة الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت (2) ، وقال: إن الكلام الإلهي قائم بذات الله، تماما
__________
(1) أصول الدين للبغدادي (ص 104) .
(2) الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص 81) و (ص 178) .(55/152)
كما أن القدرة قائمة به، والعلم قائم به، وأن كلام الله تعالى لا ينقسم ولا يتبعض، وليس بحروف وصوت، وأنه معنى واحد بالله عز وجل، وأن رسم القرآن يتغاير، ولكن كلام الله نفسه لا يتغاير ولا يتجزأ، وأنه معنى واحد، وإنما يسمى أمرا لعلة، ونهيا لعلة، وخبرا لعلة، وأن كلامه تعالى لا يتصف بالأمر والنهي والخبر أزلا، بل يرى أن هذه الأمور حادثة مع قدم الكلام الإلهي نفسه، وهكذا يطول كلامه في شأن القرآن، لكنه إن وافق أهل السنة في جزء من كلامه فقد خالفهم في كثير مما يتعلق بصفة الكلام، كما يتضح ذلك مما نقلناه.
(3) قوله بالموافاة:
ومعناها أن الله لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا، وإن كان أكثر عمره كافرا، ولم يزل ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا، حتى وإن كان أكثر عمره مؤمنا. ويفهم من ذلك أن الرضى عن المؤمن- الذي كان كافرا- بعد السخط عليه لا يكون أبدا؛ حتى لا يقول: إن الله حدث له أمر لم يكن موجودا من قبل (1) .
(4) في الإيمان:
يذهب ابن كلاب إلى تعريف الإيمان بأنه الإقرار باللسان
__________
(1) المقالات للأشعري (ص 298، 547) ، المجرد لابن فورك (ص 45) .(55/153)
والمعرفة. وهو بهذا يخالف جماهير أهل السنة والجماعة، فإن الإيمان عند السلف- أهل السنة والجماعة- تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح (1) . فهم يجعلون الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، أما ابن كلاب فيخالفهم في ذلك، وإن كان يوافق في مسألة صحة إيمان المقلد ومرتكب الكبيرة كما سبق الكلام عنه.
وكذلك له قول آخر عجيب في صفات الذات، وهو أن صفات الباري سبحانه وتعالى لا تتغاير، وأن العلم لا هو القدرة ولا غيرها، وكذلك كل صفة من صفات الذات لا هي الصفة الأخرى ولا غيرها (2) .
وهو بهذا يقترب من قول النفاة من المعتزلة، كأبي الهذيل العلاف المعتزلي، فإن الأشعري لما نقل مقالة أبي الهذيل في صفات الذات، وأن الصفة منها لا يقال فيها هي الأخرى ولا هي غيرها، قال الأشعري: وهذا نحو ما أنكر من قول عبد الله بن كلاب (3) .
__________
(1) أصول الدين للبغدادي (ص 104، 149) ، وطبقات السبكي (1 \ 95) .
(2) المقالات (ص 170، 546) .
(3) المقالات (ص 117) .(55/154)
(هـ) أشهر الرجال والفرق:
(1) أشهر الرجال:
قام تلامذة لعبد الله بن كلاب بنشر مذهبه والانتصار له والذب عنه؛ لذلك سموا الكلابية، وأشهر هؤلاء التلاميذ هم:(55/154)
(أ) الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي، أبو عبد الله:
ولد بالبصرة عام 165 هـ تقريبا، وانتقل إلى بغداد فعاش بها، وكان المحاسبي مشهورا بالتصوف، وكان يرى كفر المعتزلة، وكان على خلاف مع أبيه الذي نسب إلى القول في القدر بقول المعتزلة، حتى إن الحارث دعاه إلى تطليق أمه، ولما مات لم يأخذ من تركته شيئا.
وكان الحارث على صلة بأهل الحديث، وروى عن بعضهم، لكنه انشغل بالتصوف والكتابة في شأن التصوف حتى نقم عليه أهل الحديث، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وقد اهتم المحاسبي اهتماما كبيرا بإصلاح القلب والنية والعمل، وصنف في ذلك التصانيف الكثيرة، واهتم به جدا، وكان مع ذلك يأمر باتباع الكتاب والسنة ولزوم حدودهما، ويحذر من مخالفتهما جدا، غير أنه انتقد بعض أهل الحديث والفقه بما لا يتابع ولا يوافق عليه بحال. وقد وافق الحارث أهل السنة في إثبات الصفات الإلهية على الجملة، وكذلك إثبات أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، كذلك فإنه انتصر بشدة لإثبات صفة العلو والاستواء، ورد على الحلولية ردا موسعا قويا، وكذلك وافق أهل السنة في إثبات الشفاعة، وفي مسألة مرتكب الكبيرة، وشنع بشدة على المعتزلة ووصفهم بالضلال.
غير أنه قد روي عنه أقوال في شأن الصفات والأفعال الاختيارية يوافق فيها ابن كلاب، بما يعني نفي الصفات والأفعال الاختيارية، إذ حكم بأزلية الصفات جميعها، وله نصوص في(55/155)
ذلك يرجع إليها في مواضعها (1) .
وقد ذكر غير واحد أنه وافق ابن كلاب في هذه المقالات ونحوها. وتوفي الحارث بن أسد المحاسبي ببغداد في عام 243 هـ.
(ب) أبو العباس القلانسي:
تاريخ ولادة القلانسي غير محدد على وجه الدقة؛ وذلك لأن كتب التراجم لم تهتم بترجمته كثيرا، وكذلك تاريخ وفاته، لكن المؤكد أنه كان معاصرا لأبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى (2) .
وقد اتفق القلانسي مع ابن كلاب في أكثر المسائل التي انفرد بها عن جمهور أهل السنة، ومنها قوله: إن الله قديم بقدم هو قائم به. خلافا للأشعري القائل بأنه قديم لذاته (3) . وقد أجاز وجود الكلام لما ليس بحي، وذلك خلافا للأشعرية الذين جعلوا
__________
(1) فهم القرآن للمحاسبي (ص 263، 307، 340- 346، 370) .
(2) تبيين كذب المفتري (ص 398) .
(3) أصول الدين للبغدادي (ص 89) .(55/156)
الحياة شرطا للكلام (1) . وله أقوال أخرى في مسائل وافق فيها ابن كلاب.
وقد نسبه إلى الكلابية جماعة، منهم البغدادي في أصول الدين، ومنهم الشهرستاني، ومنهم ابن تيمية رحمه الله تعالى.
لكن يرى ابن تيمية أن القلانسي كان أقرب إلى أهل السنة من كلابية خراسان، فيقول: " كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب، كأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة، وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب " (2) . فهذان الشيخان هما أشهر تلاميذ مدرسة ابن كلاب الكلامية المذكورة.
وهناك تلاميذ آخرون لهذه المدرسة، لكنهم ليسوا كهذين في الشهرة، ولعل أبا الحسن الأشعري رحمه الله أشهر من سلك طريقة ابن كلاب في كثير من مسائلها، لكن هذا كان في الطور الثاني من مراحله الفكرية، إلا أنه استقر في طوره الثالث والأخير على عقيدة أهل السنة؛ ولهذا فإننا لن تكلم هنا عن الأشعري.
قال الشهرستاني: وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب (3) . لكن كما ذكرنا فإنه استقر في آخره على عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
__________
(1) المصدر السابق (29) .
(2) الملل والنحل (1 \ 89) .
(3) الملل والنحل (1 \ 89) .(55/157)
(2) الفرق:
لقد اندثر اسم كلاب - أو كاد- ولم يعد له وجود كاسم إلا في كتب التاريخ والفرق، لكن المبادئ والأصول استمرت في أتباع أبي الحسن الأشعري وأتباع أبي منصور الماتريدي، الذين طوروا كثيرا من تلك الأصول.(55/158)
(و) الانتشار في العصر الحاضر:
كما ذكرنا فإن الأشعرية والماتريدية هم الذين تلقفوا أصول الكلابية وطوروها وزادوا عليها، فحيثما وجد الأشعرية والماتريدية فهم حاملوا أصول الكلابية. ومن المعلوم أن كثيرا من الشافعية والمالكية في الأزمنة المتأخرة هم من الأشعرية، وكثيرا من الحنفية هم من الماتريدية. وهذا موجود في أكثر البلدان الإسلامية، بما فيها من جامعات إسلامية ومعاهد علمية، حيث سيطر عليها الأشعرية والماتريدية، فجعلوا مناهج دراسة العقائد هي المناهج الكلامية، بل وأصبح علم التوحيد نفسه عندهم يسمى علم الكلام، وأطلقوا على علمائهم الأشعرية والماتريدية لقب أهل السنة، فهم أصحاب السنة عندهم، وأما السلف الصالح فهم الحشوية والمجسمة، إلى غير ذلك من هذه الألقاب، فالله المستعان.(55/158)
(ز) التقويم:
للإنصاف يمكننا القول بأن ابن كلاب أقرب إلى أهل السنة من متأخرة الأشعرية؛ ولذلك عده كثير من أهل العلم من متكلمة أهل السنة، والرجل كان من أهل الإثبات في الصفات، وإنما وقع(55/158)
فيما وقع فيه من مخالفات حين أراد نصرة مذهب السلف بالأدلة العقلية فوقع فيما وقع فيه. فهم- أي الكلابية - أقرب المتكلمين إلى أهل السنة، ولكن على الرغم من ذلك فقد أنكر كثير من السلف عليهم إنكارا شديدا، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فقد حذر منهم، وكان له مواقف مشهورة من الحارث المحاسبي، مردها إلى خوض هذا الأخير في علم الكلام، وقد ذكر ذلك المترجمون للمحاسبي (1) .
وممن أنكر عليهم كذلك الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى، الذي أنكر بشدة على اثنين من تلاميذه كانا يقولان بمذهب ابن كلاب: أن الله تعالى لا يتكلم إذا شاء متى شاء وأن كلامه أزلي. فوقعت بينه وبينهما خصومة شهيرة، واستتابهم من أقوالهم هذه (2) .
وممن أنكر عليهم أبو عبد الرحمن السلمي، الذي كان يلعن الكلابية (3) . ومنهم أبو نصر السجزي، وكان يلعن الكلابية (4) ، وغيرهما (5) .
__________
(1) تاريخ بغداد (8 \ 214) ، ميزان الاعتدال (1 \ 430) ، الكامل في التاريخ (7 \ 84) ، تلبيس إبليس (162) .
(2) درء التعارض (2 \ 77) ، والسير (14 \ 277) .
(3) نقلا عن درء التعارض (2 \ 82) .
(4) رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 87، 88) .
(5) درء التعارض (2 \ 83) .(55/159)
(ح) مراجع للتوسع:
(1) مقالات الإسلاميين. لأبي الحسن الأشعري.
(2) الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية. رسالة دكتوراه في كلية أصول الدين، قسم العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر بالقاهرة.
(3) موقف ابن تيمية من الأشاعرة. د. عبد الرحمن بن صالح المحمود.
(4) فهم القرآن. للحارث المحاسبي.
(5) درء تعارض العقل والنقل. لابن تيمية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/160)
حكم الطهارة من الحدث للطواف
للدكتور \ عبد الله بن إبراهيم الزاحم (1)
المقدمة:
الحمد لله الذي أوجدنا من العدم، وأمدنا بالنعم، وفضلنا على كثير من الأمم، والصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود والحوض المورود، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فمن توفيق الله لي، وفضله علي أن يسر لي المشاركة في التوعية في الحج لعدة أعوام، ورأيت ما يقع فيه الحجاج من مخالفات، أو تقصير في كثير من أعمال المناسك، كما أحسست بأهمية الفقه في هذه العبادة، إذ إن الخطأ فيها ليس كالخطأ في غيرها، فهي لا تؤدى إلا في وقت مخصوص، وفي زمن محدود، وفي مكان معين بخلاف غيرها من العبادات.
فبعض المسلمين لا يستطيعون أداء هذه العبادة لعجزهم عن شرطها، ومن استطاع أداءها فلم يكن ذلك له سهلا ميسورا، بل بمشقة وكلفة كبيرتين.
ولذا توجه اهتمامي للكتابة والبحث في فقه هذه العبادة. ورأيت أن أهم ما ينبغي صرف النظر إليه أركانها التي لا تصح إلا
__________
(1) عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(55/161)
بها، ولما كان الطواف من أعظم هذه الأركان، ولا يختص بالحج وحده، آثرت تقديمه على غيره.
وقد من الله علي بالكتابة في أنواعه، وفي شروطه، وفي أثناء كتابتي في واجباته استوقفتني مسألة الطهارة من الحدث، حيث كثر الكلام فيها، فمن مشترط لها، ومن مقيد لهذا الاشتراط، ومن مستحب لها.
ولا شك أنها من أهم المسائل المتعلقة بشروط الطواف وواجباته. والحاجة إلى دراستها وبحثها ملحة لكثرة السؤال عنها، فمن سبقه الحدث في أثناء طوافه، في هذا الزحام الشديد، فهل يلزم بالخروج للطهارة؟ وإن أكمله فهل يصح منه ويجزئه أم يؤمر بالإعادة؟ والمرأة إن جاءها عذرها الشهري فحاضت قبل طواف الإفاضة وتعذر عليها الإقامة فهل لها أن تطوف في هذه الحال؟
وقد تناول شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين بن تيمية - رحمه الله تعالى- هذه المسألة بالبحث والدراسة بما لم يسبق إليه، فسبر أغوارها، وأوضح أسرارها، وساق من الحجج والأدلة والاعتراضات على أدلة الجمهور ما جعلني أخص هذه المسألة بمزيد من البحث، إذ جلت معه حيث جال، وطوفت بحججه واعتراضاته، وأرخيت بعد ذلك لقلمي العنان، فكان هذا البحث الذي أرجو من الله أن يكون خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم الدين، فإن وفقت فيه للصواب فهو مرادي، وإن كانت الأخرى فحسبي أني قد استفرغت وسعي، وبذلت جهدي، فأرجو من الله ألا يحرمني أجر اجتهادي.(55/162)
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وستة مطالب، وخاتمة.
أما المقدمة: فأشرت فيها إلى أهمية هذا البحث وسبب إفرادي له، وخطة البحث.
وأما المطالب فهي:
الأول: في المراد بالطهارة من الحدث.
الثاني: في أقوال العلماء في المسألة.
الثالث: في تحرير رأي ابن تيمية.
الرابع: في الأدلة.
الخامس: في مناقشة أدلة الجمهور.
السادس: في الرأي المختار وسبب الاختيار.
أما الخاتمة: فقد ضمنتها ما توصلت إليه من نتائج خلال هذا البحث.
وآمل من كل من قرأه أو اطلع عليه ورأى فيه خللا أو زللا ألا يحرمني نصحه وإرشاده، فالحق ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.(55/163)
المطلب الأول: المراد بالطهارة:
الطهارة في اللغة: مصدر طهر، بضم الهاء، وهي النظافة والنزاهة عن الأقذار.(55/163)
قال في المصباح: " الطهارة بمعنى التطهير " (1) .
وفي الاصطلاح هي: ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال النجس، أو ارتفاع حكم ذلك.
والحدث في اللغة: الأمر الحادث. وأحدث: إذا زنى، والأحداث: أمطار أول السنة (2) .
والمراد بالحدث ما يوجب وضوءا، ويوصف بالحدث الأصغر، أو يوجب غسلا ويوصف بالحدث الأكبر (3) .
قال في المصباح: " الحدث هو: الحالة الناقضة للطهارة شرعا ".
فالمراد بالطهارة من الحدث: طهارة الطائف من الحدث الأصغر، الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل، وطهارة المرأة من الحيض والنفاس.
__________
(1) المصباح المنير 2 \ 379.
(2) انظر: القاموس المحيط ص 214، لسان العرب، المصباح المنير 1 \ 124 مادة (حدث) .
(3) انظر: المطلع ص 7.(55/164)
ولن أخوض غمار هذه الأحداث، مبينا نواقض الوضوء أو موجبات الغسل، أو علامات الحيض والنفاس ومدتهما. . إلى غير ذلك من التفصيلات المتعلقة بالطهارة من الحدث، فإن ذلك يطول ويخرجنا عما نحن بصدد بحثه (1) .
والذي يخصنا من ذلك ونود التعرف عليه في هذا المبحث هو: آراء العلماء في اشتراط الطهارة من الحدث لصحة الطواف.
__________
(1) لأن بحث تلك المسائل، والخوض في تفصيلاتها متعلق بكتاب الطهارة.(55/165)
المطلب الثاني: أقوال العلماء:
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف، فمن طاف محدثا، لم يصح طوافه، ولا يعتد به.
وإلى هذا القول ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد في(55/165)
المشهور عنه، وجمهور العلماء.
القول الثاني: أن الطهارة من الحدث في الطواف واجبة، وليست شرطا لصحته، فمتى طاف للزيارة غير متطهر من الحدث، أعاد ما دام في مكة، فإن تعذرت عليه الإعادة لبعده عنها جبره بدم.
وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، وأحمد في(55/166)
رواية،(55/167)
صفحة فارغة(55/168)
صفحة فارغة(55/169)
صفحة فارغة(55/170)
صفحة فارغة(55/171)
والمغيرة من أصحاب مالك (1) .
القول الثالث: أن الطواف بالبيت على غير طهارة، جائز مطلقا حتى للنفساء، ولا يحرم إلا على الحائض فقط.
وإلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري.
القول الرابع: أن الطهارة من الحدث سنة، وأن الحائض والنفساء إذا احتاجتا للطواف لتعذر الإقامة، طافتا، ولا شيء عليهما. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية.
__________
(1) انظر: منسك خليل ص 63. مواهب الجليل 3 \ 68.(55/172)
المطلب الثالث: تحرير رأي ابن تيمية في المسألة:
من خلال دراستي لرأي ابن تيمية في هذه المسألة من مجموع الفتاوى تبين لي أن رأيه قد تدرج ثلاث مراحل:(55/172)
المرحلة الأولى: تقرير القول بوجوب الطهارة في الطواف والمنازعة في اشتراطها. فقال: " وليس في المناسك ما تجب له الطهارة إلا الطواف، فإن الطواف بالبيت تجب له الطهارة، باتفاق العلماء. . . ثم تنازع العلماء في الطهارة. هل هي شرط في صحة الطواف، كما هي شرط في صحة الصلاة، أم هي واجبة إذا تركها جبرها بدم، كمن ترك الإحرام من الميقات، أو ترك رمي الجمار، أو نحو ذلك؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد " (1) ثم قال بعد أن أشار إلى القولين، وما استدل به من قال بالاشتراط: " فما ثبت بالنص من إيجاب الطهارة والستارة في الطواف متفق عليه، وأما ما ثبت باللزوم من كون ذلك شرطا فيه كالصلاة ففيه نزاع " (2) .
المرحلة الثانية: المنازعة في القول بالوجوب. يظهر أن شيخ الإسلام- رحمه الله- بعد أن كان يقرر القول بوجوب الطهارة للطواف، وأنها محل اتفاق العلماء ومقتضى النص أخذ ينازع في هذا الوجوب أيضا ويشير إلى أنه ليس محل وفاق بين العلماء وإنما هو محل اختلاف، وموضع نظر واجتهاد، بل وألمح إلى أن الأدلة والنصوص لا تقتضي الإيجاب.
فقال- رحمه الله-: " يؤمر الطائف أن يكون متطهرا. . . لكن في وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف، ولا نهى
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 220، 221.
(2) المرجع السابق 26 \ 222.(55/173)
المحدث أن يطوف، ولكنه طاف طاهرا، لكنه ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف. . . . ".
المرحلة الثالثة: اختيار القول بعدم الوجوب.
بعد أن نازع شيخ الإسلام- رحمه الله- في القول بالوجوب، وأنه ليس محل اتفاق بين العلماء، وأن الأدلة والنصوص ليس فيها أمر بالطهارة، ولا نهي المحدث أن يطوف، أشار إلى اختياره في هذه المسألة وهو: القول بعدم وجوب الطهارة من الحدث للطواف مطلقا. وذلك بعد أن ضعف الاستدلال بقوله: «الطواف بالبيت صلاة (1) » . وأن الصلاة تخالف الطواف في أمور كثيرة فلا يصح إلحاق الطواف بالصلاة في إيجاب الطهارة. فقال: ". . . ثم تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف، ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى فإن الأدلة
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(55/174)
الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه ".(55/175)
المطلب الرابع: الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول، القائلون باشتراط الطهارة بما يلي:
الأول: بحديث عائشة - رضي الله عنها-: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت (1) » متفق عليه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم» .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة. . . (63) 2 \ 163، وباب الطواف على وضوء (78) 2 \ 168. ومسلم في الحج باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف 8 \ 219.(55/175)
وجه الاستدلال منه من وجهين:
أ- أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ديان لمجمل القرآن، لأن الله عز وجل أمر بالطواف في كتابه العزيز ولم يبين كيفيته، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ توضأ قبل طوافه، والفعل إن جاء بيانا لأمر واجب دل على وجوبه، فدل ذلك على وجوب الطهارة من الحدث قبل الطواف.
ب- أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم بأخذ مناسكه، والاقتداء به في ذلك دليل على وجوب جميع ما صدر منه في بيان أفعال المناسك- إلا ما دل الدليل على استثنائه- ومن ذلك الطهارة من الحدث قبل الطواف (1) .
الثاني: وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه المنطق فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير (2) » .
وجه الاستدلال منه من وجهين:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة وليس المراد التشبيه
__________
(1) انظر المرجع السابق.
(2) تقدم تخريجه في بحث! شروط الطواف! وبيان صحته مرفوعا وموقوفا.(55/176)
في الأفعال والهيئة لتباينهما. وإنما المراد التشبيه بها في الحكم. فدل ذلك على أن للطواف جميع الأحكام المتعلقة بالصلاة- إلا ما استثناه الدليل- ومن ذلك اشتراط الطهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور (1) » .
ب- من قوله: «إلا أن الله أباح فيه المنطق (2) » فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم إباحة المنطق في الطواف، دليل على اشتراط ما عداه كما يشترط في الصلاة، ومن ذلك اشتراط الطهارة من الحدث.
الثالث: وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت وهي محرمة: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (3) » متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «حتى تغتسلي (4) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعائشة أن تفعل وهي حائض جميع ما يفعله الحاج، ولم يمنعها إلا من الطواف، وجعل ذلك مقيدا باغتسالها، وتطهرها. فدل ذلك على ترتب منع الطواف على
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 3 \ 102، وانظر: شرح فتح القدير 3 \ 50.
(2) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(3) أخرجه البخاري في الحيض، باب الأمر للنساء إذا نفسن (1) 1 \ 77، وباب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (7) 1 \ 79، وفي الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف.. (81) 2 \ 171، ومسلم في الحج باب بيان وجوه الإحرام 8 \ 146، 147. قال الحافظ في الفتح 3 \ 505، ضبط كلمة تطهري: '' وهو بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضا. أو هو على حذف إحدى التائين وأصلها تتطهري، ويؤيده قوله في رواية مسلم '' حتى تغتسلي ''.
(4) أخرجه البخاري في الحيض، باب الأمر للنساء إذا نفسن (1) 1 \ 77، وباب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (7) 1 \ 79، وفي الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف.. (81) 2 \ 171، ومسلم في الحج باب بيان وجوه الإحرام 8 \ 146، 147. قال الحافظ في الفتح 3 \ 505، ضبط كلمة تطهري: '' وهو بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضا. أو هو على حذف إحدى التائين وأصلها تتطهري، ويؤيده قوله في رواية مسلم '' حتى تغتسلي ''.(55/177)
انتفاء الطهارة، وعلى أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وعلى عدم صحته بدونها، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد.
فإن قيل: إنما نهاها لأن الحائض لا تدخل المسجد.
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلق ذلك بانقطاع الدم، فلم يقل: حتى ينقطع دمك، بل علقه بالاغتسال والتطهر (1) .
ولأن المنع إنما كان من الطواف ولم يكن من دخول المسجد فلم يقل: (لا تدخلي المسجد حتى تطهري) فدل أن الحيض مانع من الطواف.
الرابع: وبقوله صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن صفية حاضت «أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذا (2) » .
__________
(1) انظر: المجموع للنووي 8 \ 18.
(2) متفق عليه من حديث عائشة- رضي الله عنها- أخرجه البخاري في الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت (145) 2 \ 195 واللفظ له. ومسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 82 بلفظ: '' لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: عقرى حلقى، إنك لحابستنا - ثم قال لها- أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت: نعم، قال: فانفري(55/178)
وجه الاستدلال منه:
إخباره صلى الله عليه وسلم بانحباسه- وانحباس من كان معه لانحباسه- لحيض صفية، لو لم تكن قد أفاضت، مع ما في ذلك من المشقة العامة، دليل ظاهر- إن لم يكن نصا صريحا- على اشتراط الطهارة لصحة الطواف.
فإن قيل: إنما كان ذلك لأن الحائض منهية عن دخول المسجد مخافة تلويثه.
فالجواب: لو كان المنع لهذا الأمر، لأمرها بأن تتلجم- تتحفظ- لئلا تلوث المسجد. ولكان هذا عذرا للحائض بدخول المسجد. ولم يكن الأمر موجبا لغضبه وقوله لها:(55/179)
«عقرى، حلقى (1) » وإخباره صلى الله عليه وسلم بانحباسه من أجلها، ولن ينحبس وحده، بل ينحبس معه الركب، إذ لن ينفروا من مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بها.
الخامس: وقالوا: إنها عبادة متعلقة بالبيت، فكانت الطهارة شرطا لها كالصلاة (2) .
السادس: وقالوا: إن كل من لا يصح منه فعل الصلاة، لا يصح منه فعل الطواف، كالمحدث إذا كان مقيما بمكة (3) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني- القائلون بوجوب الطهارة- بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) .
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب، بخبر الواحد (5) . قال البابرتي في شرحه:
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1561) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (6/266) .
(2) انظر: المغني 5 \ 223، المنتقى 2 \ 290
(3) انظر الحاوي 4 \ 145
(4) سورة الحج الآية 29
(5) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 129(55/180)
" وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بالطواف، وهو الدوران حول الكعبة من غير قيد الطهارة، فلم يكن فرضا بالآية، ولا تجوز الزيادة عليه بخبر الواحد، لأنها نسخ " (1) .
الثاني: وبالأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول:
وجه استدلالهم منها:
أن مقتضاها وجوب الطهارة من الحدث في الطواف، وذلك لا يستلزم اشتراطها، لأن الدليل عليها أخبار آحاد، وهي توجب العمل، فيثبت بها الوجوب دون الفرضية، وأما القول باشتراطها فإنه يفضي إلى نسخ مطلق الكتاب بأخبار الآحاد، وهو ممنوع.
الثالث: وبما رواه سعيد بن منصور بسنده عن عطاء قال: " حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة رضي الله عنها فأتمت بها عائشة سنة طوافها " (2) .
قالوا: دل هذا الأثر على أن عائشة رضي الله عنها لم تر أن الحيض مانع من صحة الطواف، ولذا أتمت بها الطواف، والناس
__________
(1) شرح العناية على الهداية 3 \ 50 وانظر: شرح فتح القدير على الهداية 3 \ 51.
(2) أورده في القرى ص 265، وهداية السالك 2 \ 763. شرح فتح القدير على الهداية 3 \ 51(55/181)
إنما تلقوا خبر منع الحائض من الطواف منها. فدل ذلك على أن منعها من الطواف لم يكن لعدم صحة الطواف منها.
الرابع: وبما رواه أحمد عن حماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر أنهما سئلا عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ، فلم يريا به بأسا (1) . فدلت هذه الآثار على أن الطهارة ليست شرطا لصحة الطواف.
الخامس: وقالوا: إن الطواف ركن للحج، فلم يشترط له الطهارة كالوقوف بعرفة (2) .
3 - واستدل أصحاب القول الثالث- القائلون بجواز الطواف من غير طهارة إلا للحائض - بما يلي:
الأول: بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (3) » .
وجه الاستدلال منه:
قال ابن حزم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- إذ حاضت- من الطواف بالبيت، «وولدت أسماء بنت عميس بذي الحليفة فأمرها صلى الله عليه وسلم بأن تغتسل وتهل (4) » ، ولم ينهها عن الطواف، فلو كانت الطهارة من الشروط لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين أمر الحائض. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6) .
__________
(1) أورده في مجموع الفتاوى 26 \ 182، وشرح فتح القدير على الهداية 3 \ 51
(2) انظر: المغني 5 \ 223، المجموع 8 \ 17.
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرجه مسلم في الحج، باب إحرام النفساء واغتسالها للإحرام 8 \ 133.
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4(55/182)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) (2) .
الثاني: وقالوا: إن الأصل براءة الذمة، وعدم الاشتراط إلا بدليل، وقد اتفق العلماء على عدم اشتراط الطهارة لأداء المناسك من وقوف ومبيت ورمي فالتفريق بينها وبين الطواف واشتراط الطهارة له لا يثبت إلا بالدليل. فدل ذلك على عدم اشتراط الطهارة للطواف، وجواز الطواف مطلقا إلا للحائض.
4 - استدل أصحاب القول الرابع- القائلون باستحباب الطهارة من الحدث - بما يلي:
الأول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر عام تسع لما أمره على الحج ينادي: «ألا يطوف بالبيت عريان (3) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طواف العراة بالبيت. ولم يثبت أنه أمر بالطهارة للطواف. فدل ذلك على أن الطهارة ليست واجبة إذ لو كانت واجبة لأمر بها.
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) المحلى 7 \ 179.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري في الصلاة، باب ما يستر من العورة (10) 1 \ 96، وفي الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان (67) 2 \ 164، ومسلم في الحج، باب لا يحج البيت مشرك 9 \ 115(55/183)
الثاني: وقالوا: إن الأصل براءة الذمة. وعدم وجوب الطهارة إلا بالدليل ولا دليل صريح صحيح على وجوبها (1) .
__________
(1) سيأتي مزيد تفصيل لأدلة هذا القول وحججه عند الحديث على مناقشة أدلة الجمهور.(55/184)
المطلب الخامس: مناقشة أدلة الجمهور:
لما كانت هذه المسألة من أهم المسائل التي دار فيها الخلاف - مما يتعلق بالطواف- ويتكرر الكلام فيها وإثارتها في كل عام خاصة مع النساء الحيض، اللاتي يأتيهن الدم قبل أن يطفن للزيارة، ويتعذر عليهن البقاء بمكة إلى حين أن يطهرن، فهل يطفن وهن حائضات، لأنه لا دليل صريح على اشتراط الطهارة؟ أم أنهن يدخلن في حكم أهل الضرورة، فيصح الطواف منهن لا من غيرهن لأنهن مضطرات إلى ذلك، أم أن الطهارة شرط لصحة الطواف، فلا يصح إلا بالطهارة منهن أو من غيرهن. . . إلخ؟ لما كانت هذه المسألة من أهم المسائل أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الكلام عليها، وناقش أدلة المشترطين للطهارة القائلين بعدم صحة طواف الحائض، وإن كانت مضطرة للرجوع إلى بلدها.(55/184)
وسأشير إلى خلاصة ما ناقش به الجمهور في أدلتهم وقولهم، وما يمكن أن يجاب على ذلك- سائلا الله التوفيق والسداد- جاعلا ذلك في ثلاثة جوانب، ليتسنى إيضاح ذلك مرحلة مرحلة دون تداخل بينها.
الجانب الأول: القول بوجوب الطهارة في الطواف.
الجانب الثاني: القول باشتراطها لصحة الطواف.
الجانب الثالث: القول بعدم صحة طواف الحائض، ولو اضطرت لذلك.
الجانب الأول: القول بوجوب الطهارة في الطواف:
ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القائلين بوجوب الطهارة من عدة جوانب يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1 - عدم ورود الدليل الموجب للطهارة في الطواف.
2 - عدم ورود الدليل المانع للمحدث من الطواف.
3 - الأدلة على عدم وجوب الطهارة في الطواف.
1 - عدم ورود الدليل الموجب للطهارة في الطواف:
من المقرر لدى العلماء أن الأصل براءة الذمة وعدم إشغالها إلا بدليل يقتضي ذلك، ولذا ذهب شيخ الإسلام إلى أن الطهارة من الحدث لا تشترط في الطواف، لعدم الأدلة على الوجوب فقال: " فليست محظورات الصلاة محظورة فيه ولا واجبات الصلاة واجبات فيه، كالتحليل والتحريم. فكيف يقال: إنه مثل الصلاة فيما يجب لها ويحرم فيها؟ فمن أوجب له الطهارة الصغرى فلا بد له من دليل شرعي، وما أعلم ما يوجب ذلك.(55/185)
فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه " (1) .
وقال ابن القيم: " لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر المسلمين بالطهارة، لا في عمره ولا في حجته، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجبا ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع " (2) .
2 - عدم ورود الدليل المانع للمحدث من الطواف:
وتقرير هذا الأمر كسابقه، فكما أن الأصل براءة الذمة، وعدم إشغالها إلا بدليل يقتضي ذلك، فإن القول: بعدم صحة طواف المحدث، أو القول: بمنعه من الطواف. يقتضي تكليفه بالتطهر للطواف، وإشغال لذمته بوجوب الطهارة للطواف. وهذا الرفع للبراءة الأصلية لا بد من دليل شرعي يدل عليه، وليس هناك دليل مسلم يمنع المحدث من الطواف. يقول شيخ الإسلام في تقرير ذلك:
" والاحتجاج بقوله: «الطواف بالبيت صلاة (3) » حجة ضعيفة، فإن غايته أن يشبه بالصلاة في بعض الأحكام، وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، وإنما أراد أنه كالصلاة في اجتناب المحظورات التي تحرم خارج الصلاة. . . فليست محظورات الصلاة محظورة فيه " (4) . وقال: " ولم تأت سنة تمنع المحدث منه " (5) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 26 \ 199
(2) تهذيب السنن 1 \ 52
(3) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(4) مجموع الفتاوى 26 \ 198، 199
(5) المرجع السابق 26 \ 202(55/186)
3 - الأدلة على عدم وجوب الطهارة في الطواف:
يمكن إجمال هذه الأدلة التي بثها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ثنايا بحثه ومناقشاته. فيما يلي:
أ- صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث أبا بكر عام تسع لما أمره على الموسم، ينادي: «ألا يطوف بالبيت عريان (1) » ولم ينقل أحد عنه أنه أمر الطائفين بالوضوء، ولا باجتناب النجاسة، كما أمر المصلين (2) .
أي: فدل ذلك على أن الطهارة ليست واجبة، إذ لو كانت واجبة لأمر بها، فأمر أبا بكر أن ينادي: ألا يطوف بالبيت إلا طاهر.
ب- الأصل عدم وجوب الطهارة حتى يرد الدليل، ولا دليل على وجوبها.
ذلك أن الأصل ألا تشغل الذمة بشيء إلا بدليل يدل على ذلك، وقد تقدم بيان أن الشارع لم يأمر بالطهارة للطواف، ولم ينه المحدث عن الطواف. فالأصل براءة الذمة وأن الطهارة ليست واجبة في الطواف. وليس القول بوجوب الطهارة أيضا محل إجماع. بل مجال نظر واجتهاد، فليس لأحد أن يحتج
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3092) .
(2) مجموع الفتاوى 26 \ 176(55/187)
بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص أو الإجماع، أو دليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية، لا بأقوال بعض العلماء.
ج- مناقشة أدلة الموجبين للطهارة:
ليس كل من استدل بدليل صح دليله، أو استقام استدلاله، فإذا أمكن مناقشة أدلة الموجبين للطهارة وبيان ضعفها، كان الرجوع إلى الأصل من براءة الذمة وعدم إلزامها بشيء، أمرا لازما لا مناص منه لكل منصف.
ونأخذ ذلك دليلا دليلا:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها وأن أول شيء بدأ به عليه الصلاة والسلام حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت.
في الواقع لم أقف له على مناقشة لهذا الحديث لكن لعله يمكن القول في مناقشته:
ليس في الحديث ما يدل على اشتراط الطهارة أو وجوبها، إذ لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بها، أو نهاهم عن الطواف محدثين، غاية ما يدل عليه الحديث استحباب الطهارة في الطواف. وهذا لا خلاف فيه.(55/188)
2 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما-: «الطواف بالبيت صلاة (1) » . . . .
الجواب عن هذا الحديث من وجهين:
الأول: أن هذا الحديث ضعيف، لم يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح وقفه على ابن عباس.
والثاني: غاية ما في هذا الحديث تشبيه الطواف بالصلاة في بعض الأحكام، ولا يعني ذلك أنه يشبهها من كل الوجوه، ولا أنه يشترط له ما يشترط لها من الطهارة. وإنما أراد أنه كالصلاة في اجتناب المحظورات التي تحرم خارج الصلاة. فالفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع، فإنه يباح فيه الكلام، والأكل، والشرب، والعمل الكثير، وليس فيه تحريم ولا تحليل، ولا ركوع ولا سجود، ولا قراءة ولا تشهد، وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة، وخصوص كونه متعلقا بالبيت. وهذا لا يعطيه شروط الصلاة، كما لا يعطيه واجباتها وأركانها.
بل إن قياس الحج على الصلاة غير صحيح إذ كيف يقاس ما يجب في العمر مرة واحدة، بما يجب في اليوم والليلة خمس
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(55/189)
مرات، وإذا لم يصح قياسه على الصلاة فكيف يقاس بعض أفعاله وهو الطواف بالصلاة؟!
وغاية ما يمكن قوله أن يشبه بالصلاة في اشتراط الطهارة، وهذا لا يقتضي المنع من الطواف عند العجز عنها كشروط الصلاة.
3 - حديث عائشة رضي الله عنها وقوله صلى الله عليه وسلم: «واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت (1) » ومثله حديث «أحابستنا هي (2) » ؟ .
والجواب عنه:
أن الحديث يدل على منع الحائض من الطواف وليس فيه ما يدل على منع المحدث، أو إيجاب الطهارة من الحدث. ومنعها من الطواف، لأنه مختص بالمسجد، وهي ممنوعة منه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب (3) » .
وسيأتي مزيد مناقشة لهذا الاستدلال عند الحديث على الجانب الثالث.
4 - قولهم: إنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة شرطا فيه كالصلاة.
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (294) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن النسائي الطهارة (290) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4401) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك الحج (822) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(3) رواه أبو داود في الطهارة، باب في الجنب يدخل المسجد 1 \ 60 (232) ، وابن خزيمة 2 \ 284 (1327) وقد ضعف الحديث جماعة منهم: البيهقي، وابن حزم، وعبد الحق الأشبيلي وغيرهم ووافقهم الألباني، وصححه آخرون منهم: ابن خزيمة، والشوكاني، وحسنه ابن القطان، وقال ابن سيد الناس: ولعمري، إن التحسين لأقل مراتبه. انظر: معالم السنن 1 \ 77، نصب الراية 1 \ 193، تلخيص الحبير 1 \ 139، تحفة المحتاج لابن الملقن 1 \ 203، نيل الأوطار 1 \ 229، الإرواء1 \ 196.(55/190)
والجواب عنه من وجهين:
(أحدهما) ليس كل عبادة متعلقة بالبيت يجب لها الطهارة فضلا عن اشتراطها. فالنظر إلى البيت عبادة ولا يشترط له الطهارة. واشتراط الطهارة للصلاة لا لكونها متعلقة بالبيت بل لكونها صلاة. ولهذا اشترطت لها قبل التحول إلى الكعبة، وفي صلاة النافلة ولو كان غير متوجه لها.
(الثاني) أن هذا القياس معارض بمثله. إذ يقال: عبادة من شرطها المسجد، فلم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف. وقد قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) .
وليس إلحاق الطائفين بالركع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين، بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه. فإن المسجد شرط في كل منهما بخلاف الركع السجود.
فإن قيل: الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف، والصلاة لا تكون إلا بطهارة.
فالجواب عليه: أن وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، ولو قيل: بوجوبهما، لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف. وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ولو خطب محدثا ثم توضأ وصلى الجمعة جاز، فجواز طوافه محدثا ثم يتوضأ ويصلي ركعتي الطواف أولى بالجواز.
الجانب الثاني: القول باشتراط الطهارة لصحة الطواف:
ناقش شيخ الإسلام رحمه الله القول باشتراط الطهارة لصحة
__________
(1) سورة البقرة الآية 125(55/191)
الطواف من وجوه:
1 - أن التسليم بدلالة الأحاديث على وجوب الطهارة، لا يلزم منه التسليم باشتراطها. وقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى القول بوجوب الطهارة، ولم يجعلوا ذلك شرطا لصحته، فلو طاف محدثا صح طوافه وأجزأه وعليه دم لإخلاله بهذا الواجب، فالقول باشتراط الطهارة لصحة الطواف لم يدل عليه نص، ولا إجماع، بل فيه النزاع قديما وحديثا.
2 - أن غاية أدلة المشترطين للطهارة قوله: «الطواف بالبيت صلاة (1) » . وعلى التسليم بدلالة الحديث على وجوب الطهارة، لا يلزم منه القول باشتراطها. للفوارق الكثيرة بين الصلاة والطواف، فلا يلزم من اشتراط ذلك في الصلاة اشتراطه في الطواف.
الجانب الثالث: القول بعدم صحة طواف الحائض، ولو اضطرت لذلك:
لعل محور كلام شيخ الإسلام رحمه الله دائر على هذا الجانب، فقد أشار إلى أن هذه المسألة مما عمت بها البلوى واحتاجها الناس ولم يجد للعلماء قبله في ذلك تفصيلا فلذلك خاض غمارها، وكشف أستارها، وسبر أغوارها.
إذ قال: " ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علما وعملا لما تجشمت الكلام حيث لم أجد فيها كلاما لغيري، فإن الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به " (2) . وقد ناقش مسألة طواف الحائض من جهتين:
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(2) مجموع الفتاوى، 26 \ 241.(55/192)
(الأولى) علة منع الحائض من الطواف.
(الثانية) منع الحائض من الطواف عند الضرورة مخالف لمقاصد الشريعة.
(الأولى) علة منع الحائض من الطواف:
ناقش شيخ الإسلام رحمه الله علة منع الحائض من الطواف وأنها لا تخلو من أحد ثلاثة أمور:
1 - أن يكون ذلك لحرمة المسجد.
2 - أن يكون ذلك للطواف نفسه لأنها ممنوعة منه.
3 - أن يكون لمجموعهما، بحيث لو انفرد أحدهما لم يحرم.
1 - منع الحائض من الطواف لحرمة المسجد:
أشار رحمه الله إلى أن المنع قد يكون لحرمة المسجد، لأن الحائض ممنوعة من اللبث فيه.
(فأجاب عن ذلك) : بالفرق بين اللبث والمرور، إذ قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أذن للحائض بالمرور بالمسجد، ولم يأذن باللبث فيه (1) ، ولهذا ذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث، جمعا بين الأحاديث.
__________
(1) كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض.(55/193)
ومقتضى هذا إلحاق الطواف بالمرور، لا باللبث، فلا تكون ممنوعة منه، خاصة إذا احتاجت إليه.
ولو قيل: بأن الطواف لبث بالمسجد، وهي ممنوعة من ذلك لحرمة المسجد.
فالجواب: إن لبث الحائض في المسجد للضرورة جائز كما لو خافت من يقتلها إذا لم تدخل المسجد، أو كان البرد شديدا. . .، فيجوز لها حينئذ الطواف للضرورة، كما يباح سائر المحرمات مع الضرورة.
2 - منع الحائض من الطواف لمعنى في نفس الطواف:
هذا المنع لا يقتضي أن يكون الحيض مانعا من صحة الطواف، ولا أن تكون الطهارة منه شرطا لصحة الطواف، بل قد يكون واجبا، فيصح طوافها وتجبره بدم. كمذهب أبي حنيفة والرواية الثانية عن أحمد.
فاشتراط الطهارة من الحيض لصحة الطواف ليس محل إجماع، بل مجال نظر واجتهاد، والخلاف فيه قديم، وممن نقل عنهم التسهيل في هذا عطاء، إذ نقل عنه في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف، فإنها تتم طوافها. فهذا صريح عن عطاء(55/194)
أن الطهارة من الحيض ليست شرطا. وقوله مما اعتد به أحمد. وممن نقل عنهم ذلك عائشة رضي الله عنها فقد قال سعيد بن منصور: ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال: حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين، فأتمت بها عائشة بقية الطواف (1) .
والناس إنما تلقوا منع الحائض من الطواف من حديث عائشة (2) .
ولو سلم القول باشتراط الطهارة من الحيض لصحة الطواف. فلا يلزم من ذلك عدم صحة الطواف منها عند العجز منه للضرورة، يبين ذلك أن ستر العورة شرط لصحة الطواف، بل إن اشتراطه أصرح من اشتراط الطهارة، والنهي عنه آكد لوجوه:
أحدها: أن طواف العريان منهي عنه بالقرآن والسنة، وطواف الحائض منهي عنه بالسنة وحدها.
الثاني: أن كشف العورة حرام في الطواف وخارجه.
الثالث: أن طواف العريان أقبح شرعا وعقلا وفطرة من طواف الحائض. فإذا صح طوافها مع العري للحاجة، فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحرى.
ومما يؤكد ذلك أن وجوب الطهارة في الصلاة آكد من
__________
(1) انظر: القرى ص 265، هداية السالك 2 \ 763
(2) إن صح ذلك عنها، كان مذهبا لها، وروايتها مقدمة على رأيها. انظر: القرى للطبري ص 265.(55/195)
وجوبها في الطواف. فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق، وأما طواف الحائض بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران، وإذا كانت شروط الصلاة تسقط للعجز عنها، فسقوطها في الطواف عند العجز عنها أولى وأحرى.
3 - منع الحائض من الطواف للأمرين السابقين:
إن كان منعها من الطواف لمجموع السببين السابقين، كان الكلام على هذا التقدير كالكلام على التقديرين الأولين. قال ابن القيم: " وبالجملة فلا يمتنع تخصيص العلة لفوات شرط، أو لقيام مانع " (1) .
(الثانية) منع الحائض من الطواف عند الضرورة مخالف لمقاصد الشريعة:
أشار رحمه الله إلى الاحتمالات التي يمكن أن تؤمر بها الحائض، وقد أوصلها إلى خمسة احتمالات، وزادها ابن القيم ثلاثة فكملت بذلك ثمانية احتمالات، لا يمكن أن تؤمر الحائض بغيرها، ثم فندها واحدا واحدا، حتى لم يبق إلا الوجه الذي اختاره.
وسأشير إلى كل واحد من هذه الاحتمالات وجوابه عليها باختصار:
1 - أن يقال لها: أقيمي بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي، وإن حصل لها بالمقام بمكة ما حصل من الضرر.
الجواب عليه: إن هذا لا يجوز أن تؤمر به الحائض، لما فيه من الفساد في دينها ودنياها ما يعلم بالاضطرار أن الله ينهى
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 35.(55/196)
عنه فضلا عن أن يأمر به.
2 - أن يقال لها: أن ترجع من غير طواف، وتبقى على ما هي عليه من إحرامها، إلى أن يمكنها الرجوع ويمتنع عليها أن تتزوج، وإن كانت ذات زوج أن يقربها زوجها، ولو أقامت على ذلك سنين.
والجواب عليه: إن هذا لا يجوز أن تؤمر به الحائض أيضا، لثلاثة أوجه:
أ- أن الله لم يأمر أحدا أن يبقى محرما إلى أن يموت، ولا خلاف بين العلماء أن المحصر إذا كان دوام الإحرام يحصل به ضرر يزول بالتحلل، فله التحلل ولو كان الإحصار بمرض. ومعلوم أن هذه المرأة إذا دام إحرامها تبقى ممنوعة من الوطء، وفي هذا ضرر كبير.
ب- أن هذه إذا أمكنها العود فعادت مع الوفد يمكن أن يصيبها الحيض مدة مقامهم بمكة، فيلزمها أن تعود مرة أخرى.
ج- أن في هذا القول إيجاب سفرين كاملين على الإنسان للحج من غير تفريط منه ولا عدوان، وهذا خلاف الأصول.
3 - أن يقال: إذا عجزت عن المقام حتى تطهر، فلها أن تتحلل كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت(55/197)
على الحج لزمها.
الجواب عليه: أن الإحصار أمر عارض يمنع من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكنة من البيت، فجعلها كالمحصر موجب للقول بعدم وجوب الحج عليها؛ لأن المسلم لا يؤمر بحج يحصر فيه، فقيام العذر الموجب للتحلل بالإحصار يمنع إيجاب الحج عليها ابتداء، ويلزم من هذا القول القول الرابع وهو:
4 - أن يقال: لا يجب الحج على المرأة إذا علمت أو غلب على ظنها أنها تحيض في أيام الحج، وهي عاجزة عن البقاء للطواف.
والجواب عليه: أن هذا القول يلزم منه سقوط الحج عن كثير من النساء، وهذا باطل فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها، ولا عن بعض أركانها، بل يفعل المقدور عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » . وبالجملة فهذا القول لا يعلم به قائل.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) متفق عليه، رواه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) 8 \ 142، ومسلم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر9 \ 100.(55/198)
وقبل أن أشير إلى الاحتمال الخامس الذي ارتضاه، أشير إلى الاحتمالات الثلاثة التي أوردها ابن القيم، وإن كانت مبثوثة في ثنايا كلام ابن تيمية، وهي:
5 - أن يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه.
الجواب عليه: أن هذا مع أنه لا قائل به، فلا يمكن القول به؛ لأنه ركن الحج الأعظم، وهو الركن المقصود لذاته.
6 - أن يقال: إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته، جاز لها أن تقدمه على وقته، فتطوف للإفاضة قبل الوقوف بعرفة.
الجواب عليه: أن هذا كسابقه لا يعلم به قائل، وهو يختلف عما نقله البصريون عن مالك فيمن طاف وسعى قبل التعريف، ثم رجع إلى بلده ناسيا، أو جاهلا، أن هذا يجزيه عن طواف الإفاضة؛ لأن هذا معذور، بخلاف من طاف متعمدا.
7 - أن يقال: لها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب، وقد أجزأ عنها الحج، وإن انقطع حيضها بعد ذلك.
الجواب عليه: أن هذا كسابقيه لا يعرف به قائل، وذلك لأن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي أيس من زوال عذره، فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض، لم يكن له أن يستنيب، وهذه لا تيأس من زوال عذرها، لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم. وهو رجوع إلى الاحتمال الرابع.
وحيث ردت الاحتمالات السبعة المتقدمة، وتبين فساد القول بها، لم يبق إلا الاحتمال الثامن، والذي يتعين القول به.
وهو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه عليه تلميذه ابن القيم(55/199)
رحمهما الله وهو:
8 - أن يقال: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج، ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات، كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص، وكما يسقط عنها فرض السترة إذا عجزت عنها لسرقة ونحوها، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء، أو مرض بها. وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف، إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها، وكما يسقط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه، وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز إلى بدله وهو الإطعام. ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقا.
فهذا الاحتمال هو الذي تدل عليه النصوص المتناولة لذلك، والأصول المشابهة له، وليس في ذلك مخالفة الأصول. وقد علم أن وجوب ذلك جميعه مشروط بالقدرة، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » .
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) قال ابن القيم: '' وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض، والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم، إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عجز، ولا حرام مع ضرورة '' إعلام الموقعين 3 \ 31.(55/200)
المطلب السادس: الرأي المختار، وسبب الاختيار:
أولا: الرأي المختار:
لا شك أن من يقرأ كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه(55/200)
المسألة وما أورده من حجج لتأييد ما ذهب إليه وما ساقه من نصوص وقواعد تشهد لما اختاره، يدرك شيئا مما وهب الله لهذا العالم الجليل والفقيه النحرير من مقدرة عجيبة لسوق الأدلة في المسألة التي يبحثها، وفهم ثاقب وتحليل دقيق للنصوص.
كما يلحظ من إيراد الاحتمالات التي يمكن أن تؤمر به الحائض، الأفق الواسع، والنظرة الشاملة، بل الإحساس المرهف بأحوال أولئك المضطرين ومدى معاناتهم.
وقبل أن أشير إلى الرأي الذي أختاره أنبه إلى أمر يكون توطئة لهذا الاختيار وهو: أن ابن القيم رحمه الله أورد هذه المسألة ضمن الأمثلة التي أوردها على تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.
فقال: " المثال السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر وقال: «واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت (1) » فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك، وتمسك بظاهر النص. . . " (2) .
وأشار إلى أن هناك من فرق في هذه المسألة، فلم يجعله حكما عاما، بل غير الحكم بما يتناسب مع تغير الأحوال والأزمان. فقال: ". . . قالوا: وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (294) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن النسائي الطهارة (290) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) .
(2) إعلام الموقعين 3 \ 25، 26.(55/201)
وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت «أحابستنا هي (1) » ؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلتنفر إذا (2) » . وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها، فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض. . " (3) .
وإذا كان الأمر كذلك فيعني هذا: أنه ينبغي إعادة النظر في هذه المسألة مرة أخرى وخاصة بعد تغير الأحوال عما كانت عليه تغيرا كبيرا.
ولذا فإن الرأي الذي أختاره ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن الطهارة شرط لصحة الطواف لا يصح الطواف بدونها مع القدرة عليها، وأن الحائض لا يصح طوافها، ولو طافت فلا يعتد بذلك.
ثانيا: سبب الاختيار:
يمكن أن أجمل سبب اختياري لرأي الجمهور في النقاط التالية:
1 - عدم التسليم بعدم ورود الأمر بالطهارة للطواف.
2 - عدم التسليم بعدم ورود الدليل المانع للمحدث من الطواف.
3 - خلاف الأحناف في هذه المسألة ليست حجة تبرر الخلاف.
4 - منع القول باضطرار الحائض للطواف في زمننا وعموم البلوى لهذه المسألة.
5 - منع الحائض من الطواف لا ينافي مقاصد الشريعة.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4401) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك الحج (822) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(2) سنن الترمذي الحج (943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/38) .
(3) المرجع السابق 3 \ 26(55/202)
1 - عدم التسليم بعدم ورود الأمر بالطهارة للطواف:
إن القول بعدم ورود الأمر بالطهارة للطواف غير مسلم لأمور:
أ- ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم طاف، كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لتأخذوا عني مناسككم» فكان فعله بيانا لمجمل الكتاب، إذ جاء الأمر بالطواف مجملا دون بيان لصفته وما يشترط فيه، فكان البيان بفعله صلى الله عليه وسلم دليلا على الوجوب، وأكد ذلك بأمره العام أن يقتدى به في بيان أفعال المناسك. والطواف منها.
ولهذا اشترط العلماء أن يكون الطواف سبعا، وأن يكون البيت عن يسار الطائف. . . إلى غير ذلك من الشروط والواجبات التي لم يأت الأمر الصريح بآحادها.
وبعض هذه الأمور محل اتفاق، بل إجماع وذلك ككون الطواف سبعة أشواط، ولم يخالف الأحناف في وجوبها، أو في اشتراط أكثرها، وإنما قالوا في اشتراط ما زاد على الأكثر- كما بيناه في بحث سابق.(55/203)
وخلاصة القول:
أن عدم الأمر الصريح بالطهارة ليس دليلا على عدم وجوبها أو اشتراطها، بل إن ثبوت وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قبل طوافه، دليل على وجوبها، ويزيده تأكيدا أمره بذلك في قوله.
«لتأخذوا عني مناسككم» .
ولهذا ترجم له البخاري بقوله: " باب الطواف على وضوء " (1) .
ب- أن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الطواف بالصلاة دليل على وجوب الطهارة في الطواف واشتراطها لصحة الصلاة.
وما أشير إليه من فوارق بين الصلاة والطواف دلت النصوص على استثنائها، فيبقى ما عدا ذلك ملحقا بالصلاة، ومنه الطهارة، إذ لم يرد ما يدل على استثنائها في الطواف. ومن المعلوم أن صحة التشبيه لا تستلزم مماثلة المشبه بالمشبه به من كل وجه، فقياس الطواف على الصلاة أولى من قياسه على الوقوف بعرفة.
وأما الطعن في صحة رفع الأثر تبين الجواب عليه عند تخريج الحديث (2) وأنه حديث مرفوع صحيح، ولا يقدح في صحة رفعه روايته موقوفا من بعض الطرق، ومع التسليم بوقفه فهو حجة يجب العمل به.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الطواف على وضوء (78) 2 \ 168.
(2) في بحث شروط الطواف، المطلب الرابع: النية.(55/204)
2 - عدم التسليم بعدم ورود الدليل المانع للمحدث من الطواف:
إن القول بعدم ورود الدليل المانع للمحدث من الطواف غير مسلم أيضا لأمور:
أ- لم يأت شيخ الإسلام- رحمه الله- بحجة إثباتية على عدم اشتراط الطهارة أو على جواز طواف المحدث، إنما أراد أن يستدل بعدم ورود الأمر الصريح بالطهارة للطواف على عدم الاشتراط اعتمادا على البراءة الأصلية. وهو دليل مختلف فيه وحجة ضعيفة؛ لأنها حجة عدمية، وليست حجة إثباتية.
ب- قد ثبت الأمر بالطهارة للطواف- كما تقدم بيانه- والأمر بها نهي عن ضدها، فيكون الطواف مع الحدث منهيا عنه.
ج- ثبت نهي الحائض عن الطواف حتى تغتسل- كما في حديث عائشة في الصحيحين- فهو نص صحيح صريح في نهي الحائض عن الطواف حتى تغتسل، والاغتسال تطهر من الحدث.
د- إن تفريق الظاهرية بين الحائض والنفساء، تفريق لا تساعد عليه النصوص الشرعية، ولا اللغة، ولا النظر الصحيح. فالشارع ماثل بينهما في الأحكام؛ فمنع صحة العبادات، أو وجوبها عليهن كالصلاة والصيام.
وصح إطلاق النفاس على الحيض وكان التسليم للتفريق(55/205)
بينهما لو ثبت أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها طافت، أما ولم ينقل شيء من ذلك فلا يعد عدم النقل بمنعها خاصة دليلا على طوافها، بل الأمر الذي يشك فيه أنها علمت بما أمرت به عائشة رضي الله عنها ففعلت مثلها، لأن البيان لواحدة منهما بيان للأخرى ويزيد ذلك وضوحا أن ابن حزم قرر في كتاب الطهارة أن الحيض والنفاس سواء في كل شيء، بل ونقل الإجماع على ذلك.
3 - خلاف الأحناف في هذه المسألة ليس حجة تبرر الخلاف:
يلاحظ المتأمل لكلام شيخ الإسلام تبريره خلاف الجمهور(55/206)
في اشتراط الطهارة للطواف بخلاف أبي حنيفة رحمه الله ويحسن التنبيه هنا إلى أن خلاف الأحناف للجمهور في هذه المسألة ونظيراتها لا يرجع إلى ثبوت نص أو خفائه، أو صحته، أو ضعفه، أو سلامة قياس أو فساده. . .، وإنما يرجع ذلك في الجملة إلى خلاف أصولي، ترتب عليه الخلاف في تلك المسائل لاتحاد أصلها، واتساق نظمها وهو الخلاف في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) . هل هو من باب المطلق أم المجمل؟
وإذا كان من باب المطلق فهل تقييده يعد زيادة على النص؟
وهل الزيادة على النص تعد نسخا، ولذا فإنه يشترط في المقيد ألا يقل درجة عن المطلق؟
وهذا ما ذهب إليه الأحناف، إذ اعتبروا أن الله جل وعلا أمر بالطواف في كتابه مطلقا من كل قيد، والطواف هو الدوران حول البيت، فمن دار حول البيت فقد أدى المأمور به في الآية، فصح طوافه. وأن ما جاء في السنة من أوامر بأشياء أو نواه عن أمور فإنها قيود في ذلك الطواف، والقول باشتراطها يقتضي زيادة على ما في الكتاب وهو مفض إلى نسخ إطلاق الكتاب بأخبار الآحاد وذلك ممنوع؛ لأن من شرط النسخ اتحاد درجة النصين في الثبوت، فلا ينسخ قطعي الثبوت- المتواتر- بخبر الآحاد.
قال ابن الهمام: " قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} (2) يقتضي
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) سورة الحج الآية 29(55/207)
الخروج عن عهدته بالدوران حول البيت مع الطهارة وعدمها، فجعله لا يخرج مع عدمها نسخ لإطلاقه، وهو لا يجوز، فرتبنا عليه موجبه من إثبات وجوب الطهارة حتى أثمنا بتركها، وألزمنا الجابر، وليس مقتضى خبر الواحد غير هذا، لا الاشتراط المفضي إلى نسخ إطلاق كتاب الله تعالى " (1) وفيما ذهب إليه الأحناف نظر من عدة أوجه:
(أحدها) أن الآية المشار إليها من قبيل المجمل؛ لأن المجمل: ما لم تتضح دلالته، أو ما له دلالة غير واضحة (2) . فالآية وإن دلت على الأمر بالطواف إلا أنها أجملت ذلك ولم توضح كيفيته ولا عدده. . . ولا شك أن المراد بالطواف في الآية ليس المعنى اللغوي أو الحقيقة اللغوية، وإنما المراد به المعنى الشرعي والحقيقة الشرعية.
فلا يقال لمن ألم بالبيت أو دار حوله مرة واحدة إنه طاف بالبيت شرعا، إجماعا، وإن كان يطلق عليه ذلك لغة. فبيان هذا الإجمال، ومعرفة المراد بالطواف في الآية إنما جاء بفعله صلى الله عليه وسلم والفعل إن كان بيانا لمجمل واجب كما هو الحال في مسألتنا فإنه يحمل على الوجوب، على التحقيق عند العلماء.
ونظير هذا أمره سبحانه وتعالى بالحج في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (3)
__________
(1) انظر: شرح فتح القدير 3 \ 51
(2) انظر: شرح الكوكب المنير 3 \ 414 شرح فتح القدير 3 \ 51. أصول الفقه لأبي الخطاب 2 \ 229.
(3) سورة آل عمران الآية 97(55/208)
فلا يقال إن الله أمر بالحج مطلقا من كل قيد، فكل من فعل ما يصدق عليه لفظ الحج فقد صح حجه. بل ذلك من قبيل المجمل، فكان البيان بفعله عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا المعنى يقول ابن النجار الفتوحي (1) : وأي لفظ له محمل لغة وشرعا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة (2) » فإنه يحتمل أنه كالصلاة في الأحكام، ويحتمل أنه صلاة لغة؛ لأن معناها لغة: الدعاء، فسمي صلاة لما فيه من الدعاء.
فعند أصحابنا وأكثر العلماء يحمل على المحمل الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لتعريف الأحكام لا اللغة- وفائدة التأسيس أولى- وأيضا: ليس في الطواف حقيقة الصلاة الشرعية فكان مجازا.
والمراد: أن حكمه حكم الصلاة في الطهارة، والنية، وستر العورة وغيره.
ويدل على ذلك قوله في بقية الحديث: «إلا أن الله أحل فيه الكلام (3) » فدل على أن المراد كونه صلاة في الحكم إلا ما استثنى، ولأنه إذا تعذر المسمى الشرعي للفظ حقيقة رد إليه بتجوز، محافظة على الشرعي ما أمكن.
وقيل: إن ذلك مجمل لتردده بين المجاز الشرعي والمسمى اللغوي.
__________
(1) انظر: شرح الكوكب المنير 3 \ 433- 435.
(2) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(3) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(55/209)
ثم أشار إلى مسألة مقاربة، وهي: إذا كان اللفظ له حقيقة لغة وشرعا فلأيهما يحمل فقال: " خطاب الشرع إذا ورد بلفظ له حقيقة في اللغة، وحقيقة في الشرع: كالوضوء، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ونحوها، فإنه يجب حمل ذلك على عرف الشرع عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: يحمل على اللغوي إلا أن يدل دليل على إرادة الشرعي. قال: لأن الشرعي مجاز، والكلام لحقيقته حتى يدل دليل على المجاز. وأجيب: بأنه بالنسبة إلى الشرع حقيقة، وإلى اللغة مجاز، فذلك دليل عليه لا له. وقيل: وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله إنه مجمل. وأشار إلى أن بيان المجمل يحصل بالفعل عند جمهور العلماء فقال (1) : " البيان يحصل بالفعل على الصحيح، وعليه معظم العلماء، والمراد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخالف في ذلك شرذمة قليلون. دليل المعظم- كما قال ابن الحاجب وغيره-: أنه صلى الله عليه وسلم بين الصلاة والحج بالفعل، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي (2) » . وقال: «خذوا عني مناسككم (3) » . . .، لا يقال: إن الذي وقع به البيان قول. وهو قوله: " صلوا " و" خذوا "؛ لأنا نقول: إنما دل القول على أن فعله بيان، لا أن نفس القول وقع بيانا ".
وقال صاحب أضواء البيان (4) : " إن فعله صلى الله عليه وسلم في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتى به عليها، كلها بيان تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (5)
__________
(1) انظر: المرجع السابق 3 \ 442، 443.
(2) صحيح البخاري الأذان (631) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، سنن النسائي الأذان (635) ، سنن أبو داود الصلاة (842) ، مسند أحمد بن حنبل (5/53) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(4) انظر: أضواء البيان 5 \ 203، 204
(5) سورة الحج الآية 29(55/210)
وقد تقرر في الأصول: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم؛ ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن قطع النبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب. . .، ثم قال: يعرف حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب أو غيره بالبيان، فإذا بين أمرا واجبا كالصلاة والحج، وقطع السارق، بالفعل، فهذا الفعل واجب إجماعا، لوقوعه بيانا لواجب إلا ما أخرجه دليل خاص- وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وقد بينه صلى الله عليه وسلم بفعله، وقال: «خذوا عني مناسككم (3) » ومن فعله الذي بينه به: الوضوء له- كما ثبت في الصحيحين- فعلينا أن نأخذه عنه إلا بدليل، ولم يرد دليل يخالف ما ذكرنا ".
(الثاني) : لا يسلم أن تقييد المطلق، ومثله تخصيص العام زيادة تقتضي النسخ، وتفضي إلى نسخ الكتاب بخبر الآحاد.
بل إن التخصيص، قصر العام على بعض أجزائه، والتقييد نحوه: أي قصر المطلق على بعض أفراده. فهو لا يقتضي زيادة على النص تفضي إلى نسخ الكتاب بخبر الآحاد، وإنما هو بيان للمراد في الكتاب العزيز، ولذا فإن جمهور العلماء مع اتفاقهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة الحج الآية 29
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(55/211)
على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الآحاد، متفقون على جواز تخصيص عمومه، وتقييد مطلقه بخبر الآحاد. وخالف في ذلك الأحناف. قال المجد بن تيمية (1) : " فإن كان المطلق والمقيد مع اتحاد السبب والحكم في شيء واحد، كما لو قال: إذا حنثتم فعليكم عتق رقبة. وقال في موضع آخر: إذا حنثتم فعليكم عتق رقبة مؤمنة. فهذا لا خلاف فيه، وأنه يحمل المطلق على المقيد، اللهم إلا أن يكون المقيد آحادا والمطلق متواترا، فينبني على مسألة الزيادة على النص، هل هي نسخ، وعلى النسخ للتواتر بالآحاد، والمنع قول الحنفية " وقال ابن اللحام بعد نقله كلامه: " والأشهر بين الأصوليين: أن المقيد بيان؛ لأن المراد من المطلق كان هو المقيد، لا نسخا له " (2) .
وهذا الأصل الفاسد دفع الأحناف إلى رد كثير من الأحاديث الصحيحة والسنن الثابتة بحجة أنها زيادة على ما في الكتاب، والزيادة تقتضي النسخ، والقول بها يفضي إلى نسخ الكتاب بأخبار الآحاد.
(الثالث) لو سلم أن التقييد زيادة على ما في النص، وأن آية الطواف نكرة في معرض الأمر فهي من باب المطلق، إذ المطلق ما تناول واحدا غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه (3) .
وأن ما جاء في السنة من هيئات، وصفات، أو أوامر،
__________
(1) انظر: المسودة، ص 146.
(2) انظر: القواعد والفوائد الأصولية، ص 282.
(3) انظر: شرح الكوكب المنير 3 \ 392.(55/212)
ونواه تقييد لمطلق الآية، وزيادة على ما تضمنته، لو سلم ذلك، فإن هذه الزيادة على آية الطواف لا تقتضي نسخا ولا تفضي إلى نسخ الكتاب بخبر الآحاد؛ لأن حقيقة النسخ: رفع حكم شرعي، بدليل شرعي متراخ عنه (1) . وهذه الزيادة لم ترفع حكما شرعيا، وإنما رفعت أمرا مسكوتا عنه، وهذا لا يسمى نسخا، كما لا يسمى رفع البراءة الأصلية نسخا.
قال صاحب أضواء البيان (2) مبينا حجة أبي حنيفة في مخالفته الجمهور في اشتراط الطهارة والستارة للطواف: " فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة، متركبة من مقدمتين:
إحداهما: أن الزيادة على النص نسخ.
والثانية: أن الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد.
فقال في المسألة التي نحن بصددها: قال الله تعالى في كتابه:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) وهو نص متواتر، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة، والستر، فإن هذه الزيادة نسخ، وأخبارها أخبار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية. . . ثم قال: والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل: فإن كانت الزيادة أثبتت شيئا نفاه المتواتر، أو نفت شيئا أثبته، فهي نسخ له.
__________
(1) انظر: المصدر السابق 3 \ 526.
(2) انظر: أضواء البيان، 5 \ 211، 212
(3) سورة الحج الآية 29(55/213)
وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء لم يتعرض له النص المتواتر، فهي زيادة شيء مسكوت عنه، لم ترفع حكما شرعيا، وإنما رفعت البراءة الأصلية، التي هي الإباحة العقلية، ورفعها ليس بنسخ. ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات: زيادة تغريب الزاني البكر عاما بالسنة الصحيحة على آية الجلد، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين على آية: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (1) وزيادة الطهارة والستر التي بينا أدلتها على آية {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2)
وهذا الأصل لا يقره شيخ الإسلام، فخلاف الأحناف لا يبرر الأخذ برأيهم لعدم اعتماده على أصل حجتهم في ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة الحج الآية 29(55/214)
4 - منع القول باضطرار الحائض للطواف في زمننا وعموم البلوى بهذه المسألة:
إن الدارس لكلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة يدرك أن الدافع له لهذه الدراسة عموم البلوى بها، لكثرة ما تقع فيه النساء من هذا الأمر، وما يسببه منعهن من الطواف من حرج وضيق ينافي مقاصد الشريعة وأصولها، وأنهن في زمنه قد بلغت بهن الحاجة إلى الطواف مع الحيض إلى درجة الضرورة. . . إلخ.
ولن أناقش شيخ الإسلام رحمه الله في الظروف التي دفعته إلى ذلك الاختيار، لكنني أستطيع أن أخلص من خلال كلامه وما أورده رحمه الله من حجج وتعليلات إلى القول: بأن ما كان ضرورة في زمنه لم يصبح ضرورة في زمننا، وما كان عاما في زمنه أصبح قليلا ونادرا في زمننا. فلم تعد الضرورة قائمة لتقييد ذلك المنع،(55/215)
- لو قيل بتقييدها له- وإيضاح ما أجملته في النقاط التالية:
أ- أشار رحمه الله إلى أن أمراء الحج كان يحتبسون للحيض زمن الخلفاء الراشدين، ولهذا أفتى العلماء وفقهاء الأمصار بأن على المكاري أن يحتبس لها. . .
ولن أستنبط من ذلك: الإجماع على منع الحائض من الطواف زمن الحيض، أو اشتراط الطهارة له. لكني آخذ من ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتحملون مشقة عامة لتتمكن الحائض من الطواف على طهارة. فتحمل الحائض ومحرمها لبعض من المشقة- إن وجدت- لتتمكن من الطواف على طهارة أولى وأحرى.
ب- أن انتشار الحبوب المنظمة للحيض، أو التي تستطيع المرأة بتناولها أن تمنع نزول الحيض زمن الطواف، أو تقطعه زمن نزوله قلل الحاجة إلى الطواف أثناء الحيض، فلم تعد الحاجة(55/216)
عامة ولا المسألة مما تعم بها البلوى.
ولو قيل: بضررها، أو بعدم مناسبتها لجميع النساء.
فالجواب: إن الضرر الناتج من استعمالها- لو قيل به- يتحمل لقلته، في مقابل مصلحة صحة طوافها، خروجا من خلاف من منع صحته، إذا كانت غير مستطيعة للبقاء.
ولو اضطربت عادتها فاستمر معها الدم، فإن لم يكن الدم متميزا زمن الطواف، فإن حكمها حكم المستحاضة تتلجم- تتحفظ- وتطوف.
ج- أن وجود وسائل النقل الحديثة، وتيسر السفر عما كان عليه في السابق، واستتباب الأمن في بلاد الحرمين- فضلا من الله ونعمة- فأصبحت الظعينة تأتي من أقصى المشرق أو المغرب لا تخشى إلا الله. كل ذلك يمنع القول باضطرار الحائض إلى الطواف. وإذا علم أن جميع الحجاج القادمين من خارج بلاد الحرمين- أو كثير منهم- يقدم قبل الحج بزمن طويل، بل ويمكثون في المدينة المنورة ثمانية أيام أو أكثر من ذلك مع ما ينفقونه من أموال في ذلك، تبين انعدام حاجتهن إلى ذلك، فضلا عن القول باضطرارهن إليه.
وأن ما يقع من سؤال بعضهن وإظهار الحاجة لذلك، إنما سببه التفريط، وعدم أخذ الحيطة لذلك.
د- أن مدة الحيض لغالب النساء تمتد من خمسة إلى سبعة أيام، ولو قيل بأن ابتداء حيضتها يوم النحر، فمعنى ذلك أنها مطالبة بالجلوس يومين أو أربعة أيام بعد النفر الأول، وهي مدة(55/217)
قصيرة لا تدفع إلى القول بحاجتها أو اضطرارها للطواف وهي حائض.
فإن قيل: إن عدم سفرها في موعد حجزها، يستلزم عدم إمكانية سفرها إلا بعد مدة طويلة قد لا تستطيع بقاءها، إما لنفاد نفقتها، أو انقضاء مدة سكناها في مكان إقامتها مما قد يضطرها إلى الخروج، وقد لا تجد سكنا. أو لارتباطها بأعمال تتعلق بمصالحها، أو عدم قدرة أو استعداد محرمها للبقاء معها. . . إلى غير ذلك من الأسباب.
فالجواب: إن تقديم حجزها، مع خوفها من الحيض زمن الطواف تفريط منها وعدم أخذ للحيطة. ولا يقال: بعدم قدرتها على الطواف، أو باضطرارها إليه زمن حيضها.
5 - منع الحائض من الطواف لا ينافي مقاصد الشريعة:
لن أخوض في نقاش طويل مع شيخ الإسلام رحمه الله في إقرار هذا الأمر أو نفيه لكن الذي أريد إيضاحه هنا يتلخص في جانبين:
أ- أن القول بأن على الحائض المضطرة إلى السفر أن تبقى على إحرامها إلى أن تعود للطواف مرة أخرى. لا يتنافى مع أصول الشريعة ومقاصدها، بل تقره الأحكام المماثلة لذلك، فإن ترك الطواف الذي هو ركن الحج موجب للرجوع ولو كان الترك بعذر.
فمن ترك الطواف نسيانا- والنسيان عذر (1) - يجب عليه أن
__________
(1) لا يقال: كيف ينسى ذلك، إذ النسيان لا حد لصوره.(55/218)
يبقى محرما إلى أن يعود مرة أخرى للطواف. ولا يقال: إن ذلك إيجاب لحجتين، أو لسفرين لحج واحد. ولا يقال: إن ذلك مما يخالف مقاصد الشريعة وأصولها. بل من غلب على ظنه أن الواجب الطواف من داخل الحجر، لأن المأمور به الطواف بالبيت، ومخالفة الحجر لبناء بقية البيت وانفصاله عنه بفتحتين متقابلتين قرائن على أن البيت إنما هو البناء المستور، وإن ما يفعله بقية الناس زيادة تطوع، وهو يريد الاقتصار على الواجب. كل ذلك لا يعد عذرا له، في بقائه على إحرامه، ورجوعه مرة أخرى لإعادة الطواف (1) .
ب- أن القول بأن على الحائض المضطرة إلى السفر أن تتحلل من إحرامها تحلل المحصر، ويبقى الحج في ذمتها، لا يتنافى مع أصول الشريعة ومقاصدها، بل تقره الأحكام المماثلة لذلك. فإن المحصر من منع من إكمال مناسكه، فالحائض تقاس على المحصر بمرض على القول بأنه كالمحصر بعدو، أو تقاس على المحصر بعدو؛ لأن المانع لها من الطواف زمن طهرها هو محرمها أو الركب الذين معها، إذا رفضوا الإقامة معها
__________
(1) إلا على قول الأحناف: إن الطواف من داخل الحجر، ترك لربع الطواف. وترك الأقل موجب للدم.(55/219)
وانتظارها إلى أن تطهر، فهم بامتناعهم من انتظارها أشبه بالعدو المانع لها من الطواف زمن طهرها. (والله أعلم) .(55/220)
الخاتمة:
في نهاية هذا التجوال في ثنايا البحث، حيث طوفنا بأقوال العلماء في هذه المسألة المهمة من مسائل الطواف، وما استدل به كل فريق لقوله.
ووقفنا مع شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين بن تيمية أثناء تعرضه لهذه المسألة، وما أجال فيها رحمه الله من واسع نظره، وغزير علمه، وقوة حجته، وأشرنا إلى بعض الأصول التي ينبني عليها الخلاف في هذه المسألة.
يحسن في نهاية هذا البحث أن أشير إلى أهم ما توصلت إليه من نتائج، ويمكن إجمال ذلك في النقاط التالية:
1 - أن العلماء مختلفون في هذه المسألة على أربعة أقوال، والمشهور من ذلك قولان.
2 - أن ما نسب إلى بعض الأحناف من القول بأنها سنة، ليس(55/220)
المراد بذلك السنة الاصطلاحية، وإنما المراد ثبوتها بالسنة، لتحقيق صفة الواجب بتركها.
3 - أن نسبة القول بوجوب الطهارة للإمام أحمد، محل نظر، لأنه لم ينص عليها، وإنما استنبطها القاضي وغيره من مفهوم كلامه في بعض الحالات.
4 - أن نسبة القول باستحباب الطهارة للإمام أحمد، محل نظر، لأنها مخرجة على قوله في الناسي.
5 - أن القول بعدم ورود الأمر بالطهارة للطواف، غير مسلم.
6 - أن عدم الأمر الصريح بالطهارة ليس دليلا على عدم وجوبها أو اشتراطها.
7 - أن القول بعدم ورود الدليل المانع للمحدث من الطواف، غير مسلم.
8 - أن خلاف الأحناف في هذه المسألة ينبغي ألا يعبأ به؛ لأنه خلاف لا يرجع إلى صحة دليل، أو قوة تعليل، وإنما يرجع إلى خلاف أصولي.
9 - أن هذه الأصول التي تمسك بها الأحناف في هذه المسألة، أصول غير سديدة، إذ ردوا بها الأحاديث الصحيحة، والسنن الثابتة، فينبغي عدم التعويل عليها.
10 - عدم التسليم باضطرار الحائض للطواف في زمننا.
11 - أن تفريق الظاهرية بين الحائض والنفساء في الطواف لا يساعد عليه نقل ولا نظر.
12 - أن ما ترجح من القول باشتراط الطهارة لصحة الطواف(55/221)
مع القدرة عليها وأن الحائض لا يصح طوافها هو الذي تؤيده الأدلة الشرعية.
والحمد لله في الأولى والآخرة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/222)
الرزق: مصدره، أسباب حصوله وزيادته، حلاله وحرامه، شروطه
جمع وإعداد: د. مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي (1)
التمهيد:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
وبعد: فإن نعم الله عظيمة وجسيمة وكبيرة، لا يستطيع أن يعدها عاد، ولا أن يحصيها محص، ولذلك يقول الكريم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (6) . خيره نازل، وفضله فائض،
__________
(1) سبقت ترجمة لفضيلته في العدد (41) ص 283.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة إبراهيم الآية 34(55/223)
ونعمه تترى، يداه سحتان بالليل والنهار، يعطي المؤمن كما يعطي الكافر، ويعطي المتقي كما يعطي الفاسق، أعطى الأولين والآخرين، ولا يزال يعطي، واقتضت حكمته أن يعطي إلى ما لا نهاية، فله الحمد وله الشكر، وله الثناء الحسن، حتى يرضى وبعد الرضى، أهل المجد والثناء.
اقتضت حكمة الله سبحانه أن تكون الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر؛ لأنها هينة عليه سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (1) » «وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلا من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: " أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم (2) » .
كما اقتضت حكمته سبحانه أن الغنى ليس عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4 \ 2272 رقم 2956، والترمذي في جامعه 4 \ 562 رقم 2324 من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 4 \ 2272 رقم 2957.
(3) أخرجه الترمذي في الجامع 4 \ 586 رقم 2373، وأحمد في المسند 2 \ 243 من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح.(55/224)
واقتضت حكمته أيضا أن تكون فتنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم المال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال (1) » .
ومن الحكم العظيمة أن ابن آدم يشيب وتشب معه خصلتان: حب المال، وطول الأمل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يهرم ابن آدم، وتشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر (2) » .
إن المال قد زرع حبه في قلوب بني آدم اختبارا وامتحانا، وأصبح كثير منهم لا هم لهم في الحياة إلا جمعه، بل أغلبهم يصيبه من حله ومن حرمته؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام عندما سأله: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى (3) » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه (4) » .
إن المال الحقيقي هو ما يقدمه الإنسان لنفسه؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من
__________
(1) أخرجه الترمذي في الجامع 4 \ 569 رقم 2336 من حديث كعب بن عياض، ثم قال عنه: حسن صحيح غريب.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 2 \ 724 رقم 1047 من حديث أنس بن مالك.
(3) انظر فتح الباري 11 \ 258 رقم 6441.
(4) أخرجه الترمذي في جامعه 4 \ 588 رقم 2376 من حديث كعب بن مالك، ثم قال: حديث حسن صحيح.(55/225)
مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت (1) » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: «. . . إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح فيه يمينه وشماله، وبين يديه، ووراءه، وعمل فيه خيرا (2) » .
إن للغنى فتنة وللفقر فتنة؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر. . . (3) » .
ومن أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا (4) » ، وحث الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم على التقلل من الدنيا، ونهى عن أن يعبد الإنسان نفسه لها، حيث قال: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض (5) » ، بل كان واقع رسولنا صلى الله عليه وسلم يتمثل كل ما دعا إليه أمته ووجهها إليه وحثها عليه. روت عائشة رضي الله عنها فقالت: «ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا
__________
(1) أخرجه الترمذي في جامعه 4 \ 572 رقم 2342 من حديث مطرف عن أبيه، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. ونحوه أخرجه أحمد في المسند 2 \ 668 من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم في الصحيح 2 \ 688 رقم 33 من حديث أبي ذر.
(3) أخرجه الترمذي في جامعه 5 \ 525 رقم 3495 من حديث عائشة، ثم قال: حسن صحيح.
(4) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2281 رقم 19 من حديث أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري في الصحيح، انظر فتح الباري 6 \ 81 رقم 2886 من حديث أبي هريرة.(55/226)
من خبز بر، حتى مضى لسبيله (1) » ، وقالت: «والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم (2) » .
وهذا كله وغيره لأن الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي دار اختبار وامتحان، وكل ما يحصله العبد إنما يستعين به على طاعة الله وحصول مرضاته. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2281 رقم 21.
(2) أخرجه الترمذي في جامعه 4 \ 579 رقم 2356 ثم قال: حسن صحيح.(55/227)
المقدمة:
الرزق دلالة ومفهوما: الرزق هو الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر. ورزقه الله يرزقه رزقا حسنا: نعشه. وجمعه: أرزاق؛ قال تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} (1) . قيل: هو عنب في غير حينه. وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} (2) ، وقال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (3) {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} (4) . وارتزقه، واسترزقه: طلب منه الرزق، والرزق ما ينتفع به.
والرزق: العطاء، وقد يسمى المطر رزقا؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (5) ، ولقوله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 37
(2) سورة الأحزاب الآية 31
(3) سورة ق الآية 10
(4) سورة ق الآية 11
(5) سورة الجاثية الآية 5(55/227)
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (1) . قال مجاهد: هو المطر.
وأرزاق الجند: أطماعهم. وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم.
والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان، كالأقوات. وباطنة للقلوب والنفوس، كالمعارف والعلوم؛ قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) .
وأرزاق بني آدم مكتوبة مقدرة لهم، وهي واصلة إليهم؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) .
والرازق والرزاق: هو الله، وهي صفة لله؛ لأنه يرزق الخلق أجمعين، وهو الذي خلق الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها، وأوصلها إليهم. وفعال: من أبنية المبالغة.
والرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان أم أخرويا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة؛ قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (4) . أي: من المال والجاه والعلم.
وقال في العطاء الأخروي: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (5) . أي: يفيض الله عليهم
__________
(1) سورة الذاريات الآية 22
(2) سورة هود الآية 6
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة المنافقون الآية 10
(5) سورة آل عمران الآية 169(55/228)
النعيم الأخروي.
وقد يكون وصول الرزق بسبب وبغير سبب، وبطلب وبغير طلب، وقد يرث الإنسان مالا فيدخل في ملكه من غير قصد إلى تملكه، وهو من جملة الأرزاق، وكل ما وصل منه إليه من مباح فهو رزق الله، على معنى أنه قد جعله له قوتا ومعاشا. . . إلا أن الشيء إذا كان مأذونا له في تناوله فهو حلال حكما، وما كان منه غير مأذون له فيه فهو حرام حكما (1) .
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (2) {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (3) {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (4) . وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده أن نوع أرزاقه وفضله ونعمه وعددها؛ فجعل منها ما هو ظاهر، وما هو باطن، ومنها ما هو أول، ومنها ما هو آخر، ومنها ما هو مادي، ومنها ما هو معنوي؛ ومنها ما عجله لعباده في الحياة الدنيا، ومنها ما أخره.
والآية فيها إشارة إلى ذلك حيث خلق لنا كل شيء، وسخر لنا كل شيء، وأعطانا من كل شيء سألناه، ومن كثرة نعمه لا
__________
(1) شأن الدعاء للخطابي ص 55. 56. ط دار المأمون 1404 هـ الأولى.
(2) سورة إبراهيم الآية 32
(3) سورة إبراهيم الآية 33
(4) سورة إبراهيم الآية 34(55/229)
يمكن أن يحصيها أحد، ولا يمكن أن يعدها عاد، فلله الحمد، وله الشكر، وله الثناء الحسن.
وللرزق مفهومان: مفهوم عام، ومفهوم خاص:
فالعام: هو كل ما تفضل به الله على عباده وأنعم، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وسواء كان هذا الرزق ماديا أو معنويا.
أما الخاص: فهو المادي في الدنيا، ومن كسب الإنسان، وهو موضوع بحثنا هذا بفصوله وتفصيلاته.
وسأورد باختصار أمثلة على الرزق بمفهومه العام فيما يلي:
1 - تفضل سبحانه بخلق المخلوقات علويها وسفليها لصالح الإنسان؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (2) {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (3) ، وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 29
(2) سورة النحل الآية 80
(3) سورة النحل الآية 81
(4) سورة غافر الآية 64(55/230)
2 - تفضله سبحانه وتعالى على من يشاء بالملك والعز والخير؛ قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) .
3 - وتفضل عز وجل فأنعم على عباده بإنزال المطر وبإنشاء الجنات وبالأنعام؛ قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (3) {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (4) ، وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (5) {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (6) {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (7) {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (8) {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (9) .
4 - ما أنعم الله على عباده من الذرية والأزواج والرزق من الطيبات؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (10) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 26
(2) سورة آل عمران الآية 27
(3) سورة الأنعام الآية 141
(4) سورة الأنعام الآية 142
(5) سورة المؤمنون الآية 18
(6) سورة المؤمنون الآية 19
(7) سورة المؤمنون الآية 20
(8) سورة المؤمنون الآية 21
(9) سورة المؤمنون الآية 22
(10) سورة النحل الآية 72(55/231)
5 - ما وعد به الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين من النعيم في الجنة؛ قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (1) {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (2) {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (3) {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} (4) ، وقال عز وجل: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (5) {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (6) {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (7) {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (8) {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} (9) {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (10) ، وقال الكبير المتعال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (11) ، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (12) ، وقال المعطي سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (13) .
__________
(1) سورة مريم الآية 60
(2) سورة مريم الآية 61
(3) سورة مريم الآية 62
(4) سورة مريم الآية 63
(5) سورة ص الآية 49
(6) سورة ص الآية 50
(7) سورة ص الآية 51
(8) سورة ص الآية 52
(9) سورة ص الآية 53
(10) سورة ص الآية 54
(11) سورة التوبة الآية 72
(12) سورة البقرة الآية 25
(13) سورة هود الآية 108(55/232)
6 - ومما تفضل به سبحانه تكريمه للإنسان؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) .
7 - ومما تفضل الله به سبحانه وتعالى على عباده أن أحل لهم الطيبات؛ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، وقال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (4) .
8 - ومن فضل الله ونعمته ما من به على الشهيد؛ قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (5) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (6) {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (7) {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (8) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (9) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 88
(5) سورة آل عمران الآية 169
(6) سورة آل عمران الآية 170
(7) سورة آل عمران الآية 171
(8) سورة آل عمران الآية 172
(9) سورة آل عمران الآية 173(55/233)
وأخرج الإمام أحمد في المسند من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق- نهر بباب الجنة في قبة خضراء- يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا (1) » .
9 - ومن فضل الله ونعمته الحب بين المؤمنين؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) .
10 - ومن فضل الله على عباده الليل والنهار؛ قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (3) .
11 - ومن فضل الله على عباده الطهر والعفة؛ قال تعالى:
{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (4) .
__________
(1) المسند 1 \ 266، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5 \ 294 ثم قال: رواه أحمد ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط.
(2) سورة الحشر الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 12
(4) سورة النور الآية 26(55/234)
12 - ومن فضل الله ونعمه اصطفاؤه لبعض عباده وتفضيل بعضهم على بعض؛ قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (1) {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (5) وقال الرزاق العليم؛ {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (6) .
13 - ومن فضله سبحانه أن ذلل الأرض للإنسان؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (7) .
14 - ومن فضل الله البحر وما فيه من أرزاق وخيرات؛ قال عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (8) .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث جابر، قال:
__________
(1) سورة الزخرف الآية 57
(2) سورة الزخرف الآية 58
(3) سورة الزخرف الآية 59
(4) سورة النمل الآية 15
(5) سورة النمل الآية 16
(6) سورة النحل الآية 71
(7) سورة الملك الآية 15
(8) سورة فاطر الآية 12(55/235)
«غزونا جيش الحبط وأمر أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا، فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله، وأطعمونا إن كان معكم "، فأتاه بعضهم بعضو فأكله (1) » .
15 - ومن فضل الله الحكمة؛ قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) .
16 - ومن فضل الله ورزقه ونعمته الحرم الآمن، وجبي ثمرات كل شيء إليه؛ قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
17 - ومن فضل الله المال والعلم؛ أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها (4) » .
__________
(1) انظر فتح الباري 8 \ 78 رقم 4362.
(2) سورة البقرة الآية 269
(3) سورة القصص الآية 57
(4) انظر فتح الباري 13 \ 120 رقم 7141، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين باب 37.(55/236)
18 - ومن فضل الله ورزقه الأمن، والعافية، وقوت اليوم؛ أخرج الترمذي في جامعه من حديث عبيد الله بن محصن الخطمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا (1) » قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
19 - ومن فضل الله ورزقه القناعة؛ أخرج مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس (2) » .
20 - ومن فضل الله ورزقه الواسع الصبر؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: «أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: " ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر (3) » .
21 - ومن فضل الله ورزقه الغنائم؛ أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة
__________
(1) جامع الترمذي 4 \ 574 رقم 2346، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 5918 ثم حسنه.
(2) صحيح مسلم 2 \ 626 رقم 1051، جامع الترمذي 4 \ 586 رقم 2373.
(3) صحيح مسلم 2 \ 729 رقم 1053.(55/237)
والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم (1) » .
22 - ومن فضل الله ورزقه اليقين والمعافاة؛ أخرج الإمام أحمد من حديث أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الناس لم يعطوا في الدنيا خيرا من اليقين والمعافاة، فسلوهما الله عز وجل (2) » .
23 - ومن أرزاق الله وفضله الجليس الصالح؛ أخرج البخاري في صحيحه من حديث إبراهيم النخعي قال: ذهب علقمة إلى الشام، فأتى المسجد فصلى ركعتين فقال: اللهم ارزقني جليسا. فقعد إلى أبي الدرداء (3) .
24 - حب الحبيب من فضل الله ورزقه؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد رزقت حبها (4) » يعني خديجة (5)
25 - ومن أعظم فضل الله ورزقه وعطائه النظر إلى وجهه الكريم يوم القيامة؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟
__________
(1) المسند 7 \ 121 رقم 5114 بتحقيق أحمد شاكر، ثم قال: إسناده صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 2626.
(2) المسند 1 \ 156 رقم 5 بتحقيق أحمد شاكر، ثم قال: إسناده صحيح.
(3) انظر فتح الباري 11 \ 68 رقم 6278.
(4) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2435) .
(5) صحيح مسلم 4 \ 1888 رقم 75.(55/238)
قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل (1) » .
26 - ومن فضل الله الرفق؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه (2) » .
والأمثلة كثيرة بأدلتها من الكتاب والسنة، لكن ما أوردناه كاف في الدلالة على أن للرزق مفهوما عاما يدخل تحته كل نعم الله، وعطائه، وفضله؛ ما ظهر وما بطن، وما تقدم وما تأخر، وما كان في الدنيا أو في الآخرة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (3) صدق الله العظيم.
__________
(1) صحيح مسلم 1 \ 163 رقم 297، وأخرجه الترمذي في الجامع 4 \ 687 رقم 3552.
(2) صحيح مسلم 4 \ 2004 رقم 2593.
(3) سورة إبراهيم الآية 34(55/239)
علاقة الرزق بالقضاء والقدر:
إن ما قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره كائن ولا بد، وإن مما قضاه وقدره أربعة أمور: العمل، والرزق، والسعادة أو الشقاء.
أخرج البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا يؤمر بأربع كلمات ويقال له:(55/239)
اكتب عمله، ورزقه، وشقي أو سعيد. . . (1) » الحديث.
لكن كثيرا من الناس يظن أن أمر الرزق أنف، وأنه كلما اجتهد في طلبه كان تحصيله له أكثر، وكلما بذل له الأسباب كاملة كان حجمه أكبر.
ولو تأملنا أرزاق الناس لوجدناها متفقة مع قضاء الله وقدره، فكم من مجتهد في طلب الرزق وقد قدر عليه، وكم من كسول قد بسط له في رزقه؛ لأن قضاء الله وقدره متفق وحكمته سبحانه، فهو يعطي ويبسط في الرزق لمن يشاء لحكمة عظيمة؛ ويمنع ويقدر أيضا لحكمة عظيمة؛ لذلك فالرزاق والرازق هو الله لا غيره، وقد تسمى بأسماء عظيمة؛ من هذه الأسماء ما له علاقة بالرزق، منها:
الواسع، المغني، الكريم، المقتدر، الوهاب، الوكيل، الرزاق. هذه الأسماء ودلالتها في باب الرزق واضحة وجلية كما سيأتي:
ا- الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه. والسعة في كلام العرب: الغنى، ويقال: الله يعطي عن سعة؛ أي: عن غنى (2) .
قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (3) وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 6 \ 303 رقم 3208 كتاب بدء الخلق.
(2) انظر كلام الخطابي في كتابه (شأن الدعاء) ص 72.
(3) سورة النساء الآية 130
(4) سورة البقرة الآية 247(55/240)
إن من يعطي الليل والنهار، ويرزق الخلق أجمعين؛ لا بد وأن يكون واسعا، وأن يكون غنيا، وتكون لديه خزائن لا تنفد، وهذا كله لا يكون إلا لله، فهو إنما يقول للشيء: كن، فيكون.
ومن سعته وكثرة نعمه أعطى الأولين والآخرين، ولا يزال يعطي، وسيعطي؛ لأنه لا يعجزه شيء، ولذلك تسمى بالواسع.
والعبد الفقير إذا علم ذلك، فإنه يلجأ إليه، ويسأله من واسع فضله، ويسأله الرزق، ويسأله الصحة والعافية، ويسأله الزوجات والأولاد، ويسأله الأموال، ويسأله كل شيء؛ لأنه الواسع العليم الحكيم سبحانه وتعالى.
2 - المغني: هو الذي جبر مفاقر الخلق، وساق إليهم أرزاقهم، وأغناهم عمن سواه؛ قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (1) .
ويكون المغني بمعنى: الكافي، من الغناء وهو الكفاية (2) . قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (3) ، وقال عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (4) وقال سبحانه: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} (5) ، وقال جل شأنه: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (6) .
__________
(1) سورة النجم الآية 48
(2) شأن الدعاء ص 93.
(3) سورة التوبة الآية 74
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) سورة الأنعام الآية 133
(6) سورة محمد الآية 38(55/241)
إذن هو غني غنى لا حدود له، وإلا لما كان مغنيا، فهو سبحانه وتعالى يفيض على خلقه: الإنس والجن، الحيوانات والحشرات والطير. . . يفيض عليهم من فضله، بل ويغنيهم عمن سواه، ويكفيهم فلا يحتاجون غيره، ولذلك تسمى بالمغني.
3 - المقتدر: هو التام القدرة، لا يمتنع عليه شيء، ولا يحتجز عنه بمنعة وقوة؛ قال تعالى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (1) ، وقال عز وجل: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (2) ، وقال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (3) أي: قادر على ما يشاء، فهو قد رزق جميع المخلوقات بأنواع الأرزاق المختلفة، بالكيفيات المتنوعة، السهل منها والصعب؛ كل بما يناسبه، وبالهيئة التي اقتضت حكمة الحكيم أن يكون عليها، بواسطة وبغير واسطة، فهو على كل شيء قدير؛ ولذلك تسمى سبحانه وتعالى بالمقتدر.
4 - الوهاب: هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة، ولا يستحق أن يسمى وهابا إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا، فكثرت نوافله ودامت. والمخلوقون إنما يملكون أن يهبوا مالا، أو نوالا في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم، ولا ولدا لعقيم، ولا هدى لضال، ولا عافية لذي بلاء. والله الوهاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلق جوده
__________
(1) سورة القمر الآية 55
(2) سورة القمر الآية 42
(3) سورة الكهف الآية 45(55/242)
ورحمته، فدامت مواهبه، واتصلت مننه وعوائده. . . (1) قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (2) ، وقال الوهاب: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا} (3) قال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (4) .
والوهاب: من أبنية المبالغة، لكثرة هباته وعطاياه الخالية عن الأعواض والأغراض سبحانه. وهو بمعنى: المنعم على العباد، ولا يطلق الوهاب إلا على الله؛ لأنه دائم العطاء والإنعام. . . ولذلك سمى نفسه بالوهاب (5) .
5 - الكريم: وهو كثير الخير، يقال للناقة الكثيرة الحليب: كريمة، ويقال للنخلة: كريمة، وللعنب: كرمة؛ أي كريمة. وقد يسمى الشيء الذي له قدر وخطر: كريما.
ومن كرم الله سبحانه أن يبدأ بالنعمة قبل استحقاق، ومن كرمه أن العبد إذا تاب عن السيئة محاها عنه وكتب له مكانها حسنة (6) .
قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (7) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (8) ،
__________
(1) شأن الدعاء ص 53.
(2) سورة الشورى الآية 49
(3) سورة ص الآية 43
(4) سورة مريم الآية 50
(5) انظر لسان العرب 1 \ 803 بتصرف.
(6) شأن الدعاء ص 70، 71.
(7) سورة المؤمنون الآية 116
(8) سورة النمل الآية 40(55/243)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (1) .
إن أكرم الأكرمين هو الله، تكرم فخلق الخلق، وأوجدهم من العدم، ورباهم بالنعم، وتفضل بأنواع النعم التي لا تعد ولا تحصى، على الأولين والآخرين.
من كرمه سبحانه أنه يعطي من دون مسألة، وإذا سئل، وبعد السؤال، وكلما ألح العبد بالسؤال زاده من فضله، بل ويغضب إذا لم يسأل.
ومن كريم كرمه وعظيمه أنه يعطي من يحب ومن لا يحب، ويعطي ويتكرم على البر والفاجر، وعلى المؤمن والكافر، وعلى كل مخلوق حي، خيره على الدوام نازل، والشر ليس إليه، يتحبب إلى أوليائه بنعمه وفضله، ويأمرهم بشكره والثناء عليه حتى يزيدهم من فضله؛ لأنه كريم، ولذلك تسمى بالكريم.
6 - الوكيل: هو الكافي، ومعناه: الكفيل بأرزاق العباد، والقائم عليهم بمصالحهم.
وحقيقته أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه. ومن هذا قول المسلمين: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) أي نعم الكفيل بأمورنا والقائم بها (3) .
قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (4)
__________
(1) سورة الانفطار الآية 6
(2) سورة آل عمران الآية 173
(3) شأن الدعاء ص 77.
(4) سورة الأنعام الآية 102(55/244)
وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1) ، وقال جل وعلا: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (2) ، وقال عز من قائل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (3) .
ودلالة الآيات واضحة في أنه سبحانه وتعالى قد تكفل وقام بكل شيء تحتاجه مخلوقاته؛ لأنه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء، ولأنه حكيم وخبير يضع كل شيء في مكانه، ولأنه رحيم لطيف؛ ولذلك تسمى بهذا الاسم الحسن (الوكيل) .
7 - الرزاق: هو المتكفل بالرزق، والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وسع الخلق كلهم رزقه ورحمته، فلم يختص بذلك مؤمنا دون كافر، ولا وليا دون عدو، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيل له ولا مكتسب فيه، كما يسوقه إلى الجلد القوي ذي المرة السوي، يوصل الرزق إلى محتاجه بسبب وبغير سبب، وبطلب وبغير طلب. . . (4) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (5) وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 132
(2) سورة المزمل الآية 9
(3) سورة الأحزاب الآية 3
(4) شأن الدعاء ص54، 55.
(5) سورة الذاريات الآية 58
(6) سورة سبأ الآية 24(55/245)
وقال عز من قائل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) ، وقال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) ، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) .
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم (4) » .
ما سبق من النصوص وغيرها كثير، له دلالة واضحة في أن الله هو الرزاق، ولا رازق غيره في شتى أنواع الرزق، سواء الرزق الظاهر أو الباطن أو ما كان ماديا أو معنويا، وسواء للعقلاء أو لغيرهم.
والأرزاق التي تأتي عن طريق المخلوقين، إنما هم في ذلك أسباب اقتضت حكمة الله أن تكون عن طريقهم، وهي سنة من سنن الله. ومثال ذلك: حصول الولد لا يكون إلا بعد الزواج، وحصول المحصول لا يكون إلا بعد حرث الأرض وتعهدها، وحصول الوظيفة لا يكون إلا بعد التقدم إلى من تكون عنده. . . الخ.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة هود الآية 6
(3) سورة العنكبوت الآية 60
(4) انظر فتح الباري 13 \ 360 رقم 7378، وأخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2160 رقم 50.(55/246)
لكن ذلك كله وغيره بتقدير الله وتدبيره وبرحمته ولطفه، فإذا لم يرد الله أو يقدر ترتيب النتائج على الأسباب، فإنه لا يحصل المراد؛ فكم من باذل للأسباب لم يحصل له مقصوده؛ لأن الله لم يرده لحكمة يعلمها هو، والرزاق دائم العطاء؛ عطاؤه لحكمة، ومنعه لحكمة.
ومعرفة أسماء الله وصفاته، وتأمل معانيها ودلالاتها، تجعل العبد يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن الرزق من الله للعباد وفق سنن وأسباب قدرها الله لحكم عظيمة؛ لأنه أعلم بما يصلح الخلق، ولعلمه المحيط والسابق.(55/247)
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر:
بعلم الله وحكمته، يعطي ويمنع، ويبسط ويقدر؛ يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة. عطاؤه في كل الأحوال ليس دليلا على الرضا، ومنعه في كل الأحوال ليس دليلا على المقت، وفي كل الأحوال عطاؤه ومنعه وبسطه وقدره فتنة واختبار وامتحان؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (2) ، وقال عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} (3) {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (4) {كَلَّا} (5) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة الأنعام الآية 165
(3) سورة الفجر الآية 15
(4) سورة الفجر الآية 16
(5) سورة الفجر الآية 17(55/247)
وعلى هذا فالله يعطي بسبب وبدون سبب، ويبسط الرزق ويقدر، وكل ذلك بقضائه وقدره، وفق حكمته وعلمه ورحمته ولطفه؛ قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) . قال ابن كثير: " أي: يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء، وله الحكمة والعدل التام {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) (3) . وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (4) {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (5) {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (6) {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (7) ، وقال سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (8) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (9) ، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (10) ، وقال عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (11) {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (12) ،
__________
(1) سورة الشورى الآية 12
(2) سورة الشورى الآية 12
(3) تفسير ابن كثير 7 \ 182 ط الشعب.
(4) سورة سبأ الآية 36
(5) سورة سبأ الآية 37
(6) سورة سبأ الآية 38
(7) سورة سبأ الآية 39
(8) سورة الروم الآية 36
(9) سورة الروم الآية 37
(10) سورة الرعد الآية 26
(11) سورة الشورى الآية 27
(12) سورة الشورى الآية 28(55/248)
وقال جل وعلا: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (2) {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (3) {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (4) {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (5) ، وقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (7) {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (8) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (9) ، وقال عز وجل: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (10) .
وعن عبد الله بن مسعود قال: " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يؤتي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يؤتي الإيمان إلا من أحب، فإذا أحب الله عبدا أعطاه
__________
(1) سورة الزمر الآية 52
(2) سورة الإسراء الآية 29
(3) سورة الإسراء الآية 30
(4) سورة الإسراء الآية 31
(5) سورة الإسراء الآية 32
(6) سورة العنكبوت الآية 60
(7) سورة العنكبوت الآية 61
(8) سورة العنكبوت الآية 62
(9) سورة العنكبوت الآية 63
(10) سورة القصص الآية 82(55/249)
الإيمان. فمن ضن بالمال أن ينفعه، وهاب العدو أن يجاهده، والليل أن يكابده، فليكثر من قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله " (1) .
وقال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) ، وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3) ، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4) .
ويتضح من النصوص السابقة أن الرزق وسعته وضيقه من الله، فهو سبحانه وتعالى يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء وفق قضائه وقدره المبني على علمه وحكمته على الأوجه التالية:
1 - إما فضلا منه ورحمة ابتداء.
2 - أو امتحانا، واختبارا.
3 - أو استدراجا وإمهالا وعذابا.
__________
(1) أخرجه الطبراني (انظر مجمع الزوائد 10 \ 9) ثم قال الهيثمي: رواه الطبراني موقوفا، ورجاله رجال الصحيح.
(2) سورة آل عمران الآية 37
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) سورة النحل الآية 75(55/250)
ويضيق الله الرزق على من يشاء وفق قضائه وقدره المبني على علمه وحكمته على الأوجه التالية:
1 - إما حماية لعبده منة ورحمة به.
2 - أو امتحانا له واختبارا.
3 - أو حرمانا وعذابا.
وهو سبحانه يبسط الرزق لبعض عباده؛ لأنه يعلم أنه لا يصلحه إلا بسط الرزق، ويضيق الرزق على بعض عباده؛ لأنه يعلم أن التضييق عليه في الرزق أصلح له، ولله في قضائه وقدره حكم عظيمة، وكل ما يقدره ويقضيه لعباده فيه الخير والصلاح.(55/251)
مصدر الرزق:
الله سبحانه وتعالى في علاه، مستو على عرشه، فوق خلقه؛ خيره نازل، والشر ليس إليه؛ القلوب والعقول والأكف تتجه بالعبادة والدعاء إليه في السماء.
فكيف لا يكون أساس ومصدر الرزق من السماء؛ لكن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن تكون الأرض أيضا من مصادر الرزق؛ قال جل جلاله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (1) .
قال ابن كثير: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} (2) أي المطر، {وَمَا تُوعَدُونَ} (3) أي الجنة (4) .
وقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} (5) ،
__________
(1) سورة الذاريات الآية 22
(2) سورة الذاريات الآية 22
(3) سورة الذاريات الآية 22
(4) تفسير ابن كثير 7 \ 396 ط الشعب
(5) سورة غافر الآية 13(55/251)
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (1) الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) ، وقال جل جلاله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} (3) . ووردت آيات كثيرة تدل على هذا المعنى.
والرازق هو الله، لكن السماء والأرض سببان قدرهما الله لتيسير وصول رزقه إلى عباده. فمصدر الرزق السماء، ومصدر إخراجه إلى العباد الأرض. ونستخلص من الآيات السابقة وغيرها ما يلي:
1 - أن الماء أساس الرزق؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (4) . والمصدر الأساسي للماء هو السحاب الذي في السماء.
2 - أن الله سبحانه وتعالى جعل السماء بناء، والأرض فراشا، لتحقيق الحكمة التي من أجلها خلق الخلق، ولاستمرار الحياة البشرية على وجه الأرض للغاية نفسها.
3 - إنزال المطر، وإخراج الثمرات، فيه آيات عظيمة لمن ينيب لتوحيد الله وعبادته.
__________
(1) سورة سبأ الآية 24
(2) سورة الجاثية الآية 5
(3) سورة البقرة الآية 22
(4) سورة الأنبياء الآية 30(55/252)
4 - الماء الذي ينزله الله من السماء؛ منه شراب، ومنه ثمرات أساسية، وكمالية، ولتجري الفلك عليه.
5 - يسكن الله هذا الماء في باطن الأرض لاستخراجه عند الحاجة إليه.
6 - إرسال الرياح سبب لإنزال المطر بإذن الله.
7 - أن الماء وإنزاله من أعظم رحمات الله لعباده، إذ يحيي به الله الأرض بعد موتها.
8 - أن الأنعام والتي هي من أسباب حصول الأرزاق؛ مقومات وجودها ما تخرجه الأرض.
وبهذا نكون قد ألقينا بعض الضوء على مصدر الرزق الأساسي وهو السماء، والله أعلم.(55/253)
الله طيب لا يقبل إلا طيبا:
الله طيب، ولا يصعد إليه إلا الكلم الطيب، وهو الذي يهدي إلى الطيب من القول، وهو الذي أمر بالأكل من الحلال الطيب، وهو الذي أحيا الذين عملوا الصالحات حياة طيبة، وأمرنا أن نسلم على أنفسنا تحية من عنده مباركة طيبة، وألهم عباده الصالحين أن يدعوه أن يهب لهم ذرية طيبة، وأمر الرسل بالأكل من الطيبات وعمل الصالحات؛ قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (1) ، وقال جل
__________
(1) سورة التوبة الآية 54(55/253)
جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 267(55/254)
الإنفاق من فضل الله واجب شرعي ودليل إيماني:
اتصف سبحانه وتعالى بصفات الجلال والجمال والكمال، ومن هذه الصفات (الكرم) وله الأسماء الحسنى، ومن هذه الأسماء (الكريم) ، وأمر عباده بالاتصاف به سبحانه، وبالإنفاق من فضله وعطائه، وجعل ذلك صفة من صفات المؤمنين، ووعد المنفقين بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة؛ قال عز وجل: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (2) ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (4) {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (5) ، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6) ،
__________
(1) سورة القصص الآية 54
(2) سورة الرعد الآية 22
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) سورة فاطر الآية 29
(5) سورة فاطر الآية 30
(6) سورة السجدة الآية 16(55/254)
وقال جل جلاله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (1) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفقي (أو انضحي أو انفحي) ولا تحصي، فيحصي الله عليك (2) » . وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب: أي فل هلم (3) » وأخرج ابن ماجه في سننه من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وكسبه من طيب (4) » . وأخرج أبو داود من حديث أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان (5) » .
__________
(1) سورة الحديد الآية 7
(2) صحيح مسلم 2 \ 713 رقم 1029.
(3) صحيح مسلم 2 \ 712 رقم 86، ومعنى فل: أي فلان، وهو ترخيم لكلمة فلان.
(4) سنن ابن ماجه 2 \ 1384 رقم 4130 ثم قال المحقق في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
(5) سنن أبي داود 4 \ 220 رقم 4681، وذكره الألباني في الصحيحة رقم 380 ثم قال: إسناده حسن ورجاله ثقات.(55/255)
أمر الله عباده الصالحين بالأكل من الطيبات:
أمر الله سبحانه وتعالى رسله الكرام وعباده المؤمنين بالأكل من الطيبات وعمل الصالحات؛ لحكم عظيمة، منها: استمرار الحياة البشرية، والقدرة على إعمار الحياة، والتلذذ بالطيبات وشكر الله على ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) ، وقال عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) . وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:. . . . (5) » . الحديث. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (6) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 51
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة الأنفال الآية 69
(4) صحيح مسلم 2 \ 703 رقم 1015، وأخرجه الدارمي في السنن 2 \ 210 رقم 2720.
(5) سورة المؤمنون الآية 51 (4) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(6) سورة البقرة الآية 172(55/256)
شروط الرزق الحلال:
الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولم يحل إلا الطيبات، واختار لمجاورته في الجنة الطيبين والطيبات، وحرم ونهى عن كل ما يضاد الطيب. ولذلك للرزق الحلال شروط ومواصفات، منها:
1 - أن الحلال هو ما أحله الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو بقي على أصله في الحل؛ قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
2 - أن الطيب باق، ومبارك، وواضح؛ لقوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2) ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين. . . (3) » الحديث.
3 - أن الحلال يبقى طيبا، وإن كان قليلا، ولا يستوي والخبيث، وإن كثر الخبيث؛ لقوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 32
(2) سورة الأنفال الآية 37
(3) أخرجه البخاري في الصحيح (كتاب البيوع) رقم الحديث 1910، وأخرجه مسلم في الصحيح (كتاب المساقاة) رقم الحديث 2996.
(4) سورة المائدة الآية 100(55/257)
4 - المؤمن الطيب متميز عن غيره؛ قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (1) .
5 - المؤمن الطيب كالأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها؛ لقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (2) .
6 - الله طيب لا يقبل إلا طيبا؛ لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (3) .
7 - المال الحلال هو المبارك الخالص من جميع الشوائب؛ قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (4) .
8 - الطيبون للطيبات، والطيبات للطيبين؛ قال تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (5) .
9 - الكلمة الطيبة أصيلة وثابتة وتؤتي أكلها كل حين؛ قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (6) {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (7) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 179
(2) سورة الأعراف الآية 58
(3) سورة البقرة الآية 267
(4) سورة البقرة الآية 276
(5) سورة النور الآية 26
(6) سورة إبراهيم الآية 24
(7) سورة إبراهيم الآية 25(55/258)
10 - التيسير من الله لليسرى، بعد العطاء من العبد لأخيه، دليل على أن ماله طيب وحلال؛ قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (1) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (2) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (3) .
11 - المال الحلال لا يلهي عن ذكر الله؛ قال عز وجل: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (4) .
وهناك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة قد يستنبط منها شروط ومواصفات للرزق الحلال، لكن ما ذكر يكفي في الدلالة على أن للرزق الحلال شروطا ومواصفات لا بد من تحققها. والله أعلم.
أسباب حصول الرزق وزيادته:
إن لله سننا في خلقه، اقتضت حكمته سبحانه أن يسير خلقه ومخلوقاته على مقتضى هذه السنن، وإذا أراد أمرا يخالف هذه السنن- لحكمة معينة- فإنه لا معقب لحكمه يفعل ما يشاء، إذا شاء، كيف شاء. ومن هذه السنن الكثيرة
__________
(1) سورة الليل الآية 5
(2) سورة الليل الآية 6
(3) سورة الليل الآية 7
(4) سورة النور الآية 37(55/259)
أسباب حصول الرزق وزيادته: وهي كثيرة، منها:
1 - إقامة الصلاة: من أعظم شعائر الإسلام الصلاة، وهي الصلة بين العبد والرب، فضائلها عظيمة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الفضائل: أن الرزق يحصل ويزداد بالمداومة عليها، وإقامتها كما أرادها سبحانه وتعالى، وكما أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (1) .
__________
(1) سورة طه الآية 132(55/259)
قال ابن كثير: وقوله: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (1) يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) ، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (5) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (6) ؛ ولذلك قال: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (7) قال الثوري: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} (8) أي: لا نكلفك الطلب (9) .
ودلالة النص تتمثل في أن الله قد تكفل بالأرزاق كافة، وعلى وجه الخصوص لمن أقام الصلاة، وأمر أهله بها، وداوم على ذلك.
__________
(1) سورة طه الآية 132
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة الذاريات الآية 57
(6) سورة الذاريات الآية 58
(7) سورة طه الآية 132
(8) سورة طه الآية 132
(9) تفسير ابن كثير 5 \ 321.(55/260)
2 - تقوى الله: والتقوى هي: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله؛ وأن تترك معصية الله، على نور من الله؛ تخاف عقاب الله. قاله طلق بن حبيب.
وقال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (1) قال: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) انظر فتاوى ودروس في الحرم المكي للشيخ ابن عثيمين ص 294.(55/260)
إن التقوى سبب في حصول الرزق والسعة في الدنيا قبل الآخرة؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) ، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (4) . قال ابن كثير: " أي: ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجا. {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5) أي: من جهة لا تخطر بباله " (6) .
وأخرج أحمد في مسنده من حديث أبي ذر قال: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية: حتى فرغ من الآية ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. قال: فجعل يتلو بها ويرددها حتى نعست (8) » .
إن للتقوى في الدنيا فوائد كثيرة، وآثار عظيمة، من أهمها: أنها سبب للخروج من المآزق، وحصول الرزق والسعة من حيث لا يحتسب؛ لأن أرزاق الله متنوعة ومتعددة، والأسباب في الحصول على الأرزاق متنوعة ومتعددة، فإذا اتقى الإنسان ربه فإنه يرزقه رزقا لم يخطر بباله، ويكون بسبب لم يتعمد فعله، أو
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة الأعراف الآية 96
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) تفسير ابن كثير 8 \ 172.
(7) المسند 5 \ 178- 179 وقال عنه الساعاتي في (الفتح الرباني 23 \ 36 رقم 80) : فالحديث جيد الإسناد.
(8) سورة الطلاق الآية 2 (7) {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}(55/261)
بدون سبب، بل ولربما لم يفكر فيه، لأن الله هو الرزاق، وهو مسبب الأسباب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم (1) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4220) ، مسند أحمد بن حنبل (5/179) ، سنن الدارمي الرقاق (2725) .(55/262)
3 - الاستغفار: وهو الانكسار بين يدي الله، والرجوع إليه، وسؤاله أن يعفو عنه، وأن يقيله من عثرته، وأن يتوب عليه.
والغفور، والغفار- جل ثناؤه- من أبنية المبالغة، ومعناهما: الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم (1) .
فإذا استغفر العبد ربه، وعاد إليه، فإنه يغفر له ويرحمه ويرزقه ويمتعه؛ قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (2) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (3) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (4) ، وقال عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (5) .
إن من طبيعة الإنسان الخطأ، لكن العليم الحليم الحكيم- سبحانه- شرع لعباده الاستغفار؛ لتسديدهم ولجبر عثرتهم، بل وأمرهم بذلك؛ ليطهرهم وينقيهم، وزيادة على ذلك يبدل سيئاتهم حسنات، وهذا من كرم الله، بل وأبعد من ذلك كله؛ يرزقهم ويعطيهم ويزيدهم من فضله. فله الحمد والشكر والثناء الحسن.
وأخرج ابن حجر في فتح الباري، ما ذكره الحسن البصري، قال: إن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه
__________
(1) لسان العرب 5 \ 25.
(2) سورة نوح الآية 10
(3) سورة نوح الآية 11
(4) سورة نوح الآية 12
(5) سورة هود الآية 3(55/262)
آخر الفقر، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر عدم الولد، فقال: استغفر الله، ثم تلا عليهم هذه الآية: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} (1) إلى قوله: {أَنْهَارًا} (2) .
وهذا يدل على فضل الاستغفار، وأن المستغفرين يحظون برعاية الله لهم، وتلبية مطالبهم، مهما كانت، وعظمت، وتنوعت، وتعددت، أو قلت أو كثرت. وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ويتضح أن الاستغفار وطلب المغفرة من الله سبب من أسباب حصول الرزق بشتى أنواعه، ومن أسباب زيادته ونموه وبركته.
__________
(1) سورة نوح الآية 10
(2) سورة نوح الآية 12(55/263)
4 - الإنفاق والسخاء: أنفق المال: صرفه. واستنفقه: أذهبه. والنفقة: ما أنفق، والجمع نفاق. وأنفق القوم: نفقت سوقهم. ونفق ماله ودرهمه وطعامه نفقا ونفاقا، ونفق، كلاهما: نقص وقل، قيل: فني وذهب. وأنفقوا: نفقت أموالهم. ونفدت نفاق القوم ونفقاتهم، بالكسر، إذا نفدت وفنيت. والنفاق بالكسر: جمع النفقة من الدراهم. . . (1)
قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (3) .
__________
(1) لسان العرب 10 \ 357-358.
(2) سورة سبأ الآية 39
(3) سورة الطلاق الآية 7(55/263)
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: انفق يا ابن آدم أنفق عليك (1) » . وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا (2) » .
إن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الرزق وزيادته، سواء كان هذا الإنفاق واجبا أو تطوعا؛ لأن حكمة الله اقتضت أنه يخلف كل ما أنفقه العبد على نفسه أو على الفقراء والمساكين وباقي الثمانية، أو على كل من له حق واجب أو غير واجب؛ لكون المال هو مال الله، وإنما الإنسان مستخلف فيه، اختبارا وامتحانا؛ ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس (3) » . وهذا من لطف الله ورأفته ورحمته بعباده أن كتب لهم أجر الإنفاق في الآخرة، وعوضهم في الدنيا بخير منه.
__________
(1) انظر فتح الباري 9 \ 497 رقم 5352.
(2) انظر فتح الباري 8 \ 304 رقم 1442، صحيح مسلم 2 \ 700 رقم 1010.
(3) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2273 رقم 2959.(55/264)
5 - التوكل على الله: التوكل في اللغة له معان عديدة، منها: التكفل، الاعتماد على الغير.(55/264)
وفي الاصطلاح: التوكل: حركة ذات الإنسان في الأسباب بالظاهر والباطن، وسكون إلى المسبب وركون إليه، بحيث لا يضطرب قلبه معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه (1) . وهو الاطمئنان إلى أن الله سيتولاه ويحقق له كل ما توكل عليه فيه، من جلب المصالح ودفع المضار، ثم الرضا بما اختاره الله له؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3) .
إن الله يكفي كل من توكل عليه، يكفيه في كل شيء، ومن هذه الأشياء الرزق؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (4) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (6) .
ومن يتوكل على الله له رزق كريم، والرزق الكريم هو الحلال الطيب المبارك الذي يكسبه صاحبه من حله، ويستمتع به وينفقه في وجهه، ويكون عونا له على طاعته، وسببا لحصول خيري الدنيا والآخرة.
أخرج الترمذي بسنده من حديث عمر بن الخطاب قال:
__________
(1) لسان العرب 11 \ 734- 736، النهاية لابن الأثير 5 \ 221، مدارج السالكين 2 \ 114- 117.
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 2
(5) سورة الأنفال الآية 3
(6) سورة الأنفال الآية 4(55/265)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا (1) » .
الطير لا تفكر ولا تخطط، لكنها مفطورة على ذكر الله، وعلى تسبيحه، وعلى التوكل عليه؛ ولذلك يرزقها الله ببذل أدنى الأسباب، وهو الغدو، وهذا من رحمة الله ولطفه بمخلوقاته.
وأخرج أبو داود بسنده من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي (2) » .
إن المتوكل على الله يهديه ويكفيه ويقيه؛ ومن الكفاية كفايته في رزقه وشئونه وأعماله ووظيفته وأسباب معاشه؛ ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى عبده وخليله بالتوكل عليه، وقصر الكفاية عليه، فقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (3) . والأمر للرسول عليه السلام أمر لجميع المؤمنين، وهذا كله دليل على أهمية التوكل وفضله في الدنيا والآخرة.
__________
(1) جامع الترمذي 4 \ 573 ثم قالت: حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد في المسند 1 \ 30، 52، وصححه أحمد شاكر في المسند النسخة المحققة 1 \ 206
(2) أخرجه أبو داود في السنن 4 \ 325 رقم 5095، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 513 ثم قال: '' صحيح ''.
(3) سورة الأحزاب الآية 3(55/266)
6 - صلة الأرحام: الصلة: أن يفعل الإنسان مع أقاربه ما يعد به مواصلا غير منافر ولا مقاطع.
والأرحام: هم القرابة، بدءا بالآباء والأمهات، ولهم حق زائد عن غيرهم، ثم البنين والبنات، والإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، والأجداد، والجدات، وأولاد العم، والأدنى فالأدنى.
أخرج البخاري ومسلم بسنديهما من حديث أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه (1) » .
إن صلة الرحم بأنواع الصلات - سواء كانت مادية أو معنوية - سبب من أسباب حصول الرزق، بل وبسطه وزيادته، سواء كانت الزيادة حسية، أو معنوية.
وهذا من لطف الله ورحمته أن جعل صلة الأرحام من أعظم القربات والطاعات، بل وجعل عاقبة هذه الصلة في الدنيا زيادة ونماء، بل وبسط في الأرزاق بشتى أنواعها. فمن أحب أن يرزقه الله رزقا مباركا واسعا فعليه بصلة الرحم؛ وذلك بإعطائهم من مال الله ما يكفيهم ويسد حاجاتهم الضرورية، ويزورهم في الله، ويقول لهم قولا لينا، ويتلطف معهم، ويحنو عليهم، ويعلمهم أمور دينهم، ويهدي إليهم ما يستل به سخيمة قلوبهم، إلى غير ذلك من الصلات المشروعة.
__________
(1) انظر فتح الباري 4 \ 301 رقم 2067، وصحيح مسلم 4 \ 1982 رقم 2557.(55/267)
فالله هو الرزاق وهو اللطيف وهو الكريم، فكلما أنفق العبد وأعطى وتصدق على أقربائه أعطاه الله ورزقه، وزاده، والعكس بالعكس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولأن الله قد وعد بأن يصل من يصل رحمه ويقطع من يقطعها.
أخرج مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم 4 \ 1980 رقم 2554.(55/268)
7 - فعل الطاعات: جرت حكمة الله وسنته أن لا ينال ما عند الله من الرزق الكريم والفضل العظيم إلا بطاعة الله وعبادته، وامتثال أمره، والانتهاء عن نهيه.
العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة؛ قال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (1) {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) ، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) ، وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ،
__________
(1) سورة النور الآية 37
(2) سورة النور الآية 38
(3) سورة الأنفال الآية 74
(4) سورة النحل الآية 97(55/268)
وقال عز من قائل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (2) .
أخرج مسلم بسنده من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها (3) » . وفي رواية أخرى: «إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته (4) » .
وأخرج مسلم بسنده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان. فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال
__________
(1) سورة المائدة الآية 66
(2) سورة الجن الآية 16
(3) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2808) ، مسند أحمد بن حنبل (3/125) .
(4) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2162 رقم 2808.(55/269)
له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه (1) » .
وهذا الحديث اشتمل على طاعات عدة؛ منها: النفقة على النفس والعيال من غير إسراف أو مخيلة. ومنها: تخصيص جزء من ثمار هذه الحديقة للفقراء والمساكين والسائلين وابن السبيل؛ مبتغيا بذلك وجه الله متوكلا عليه سبحانه؛ ولذلك تكفل عز وجل بسقي حديقته دون غيرها بطريقة عجيبة حتى لا يتضرر ما بداخلها من ثمار ومزروعات.
وهذا فيه دلالة على أن الله يرزق من يشاء، بأسباب ومن دون أسباب وفق حكمته، وهذا بفعل الطاعات، ومنها الإنفاق من أعظم أسباب حصول الأرزاق.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2288 رقم 2984.(55/270)
8 - الحج والعمرة: وهي عبادة مخصوصة بهيئة مخصوصة، في زمن مخصوص، في مكان مخصوص، يشترك فيها البدن والمال، من أداها وهو مستطيع، ولم يضيع بها حقا، وكانت مبرورة، فإنه يزيد بها رزقه ويغفر بها ذنبه؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (3) ، وقال عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (4) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (5) .
__________
(1) سورة الحج الآية 32
(2) سورة الحج الآية 33
(3) سورة الحج الآية 34
(4) سورة الحج الآية 27
(5) سورة الحج الآية 28(55/270)
وأخرج الترمذي بسنده من حديث عبد الله بن مسعود، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج العمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» . ثم قال عنه أبو عيسى: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح غريب.(55/271)
9 - تلاوة القرآن: القرآن كلام الله، كتاب هداية للعالمين، ومنهج حياة للناس أجمعين؛ من تلاه، ورتله، وحفظه، وتعلمه، وعلمه، وعمل بما فيه، واشتغل به، فإن الله يكرمه في الدنيا والآخرة، بل ويرزقه ويزيده من فضله؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (1) {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (2) ، وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (3) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 29
(2) سورة فاطر الآية 30
(3) سورة الإسراء الآية 82(55/271)
وأخرج الترمذي بسنده من حديث أنس بن مالك، قال: «كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لعلك ترزق به» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (1) .
وأخرج الترمذي بسنده من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب (2) . وقال أبو هريرة: البيت الذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة، وتخرج منه الشياطين، ويتسع بأهله، ويكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن تخرج منه الملائكة، وتحضره الشياطين، ويضيق بأهله، ويقل خيره (3) .
إن تلاوة القرآن من أفضل القربات الذي يجازى تاليه بالزيادة في الفضل، وبالشفاء من جميع الأمراض، وبالرحمة، وبالرزق والعطاء، والسعة في البيوت، وكثرة الخير، وهذا كله وغيره يتحقق بحفظ القرآن الكريم وتلاوته وترتيله وتدبره والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) جامع الترمذي 4 \ 574 رقم 2345.
(2) جامع الترمذي 5 \ 184 رقم 2926.
(3) ذكره الوصابي في كتابه (البركة في فضل السعي والحركة) ص 117.(55/272)
10 - البكور: وهو التبكير في طلب الرزق وطلب العلم(55/272)
والاجتهاد بالطاعة أول النهار؛ لأن الله يقسم الأرزاق أول النهار، ولأن أول النهار وقت مبارك، ويكون فيه الإنسان أقوى ما يكون وأنشط.
أخرج الترمذي وغيره بسنده من حديث صخر الغامدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لأمتي في بكورها "، قال: وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا، وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار، فأثرى وكثر ماله» . قال أبو عيسى: حديث صخر الغامدي: حديث حسن (1) .
وأخرج الطبراني بسنده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الغداة كان في ذمة الله حتى يمسي (2) » .
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، وما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم دليل على فضله وأهميته، بل وكان يفعل البكور في الأمور المهمة، وخاصة بعث البعوث، فكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم أول النهار؛ لتحقيق البركة بالنصر والظفر والغنيمة ودحر الأعداء. وفهم ذلك الصحابة رضي الله عنهم فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة صخر الغامدي، أثرى من بركة البكور. ثم إن صلاة الفجر مع الجماعة سبب لدخول المصلي في حفظ الله وتوفيقه حتى المساء، ومن يكون في ذمة الله ييسر الله له أموره، ومنها حصوله على الرزق والفضل من الله الرزاق العليم.
__________
(1) جامع الترمذي 3 \ 1212، وأخرجه أبو داود برقم 2606، وأحمد 3 \ 416، 417.
(2) انظر صحيح الجامع للألباني رقم 6219 ثم قال عنه: صحيح.(55/273)
11 - التزوج بالنساء الصالحات: إن اختيار طريق الطهر والعفة في قضاء الوطر له آثاره الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن الآثار الجميلة وجود الأولاد الصالحين الذين هم قرة العيون في الحياة الدنيا، ومنها السكن والمتعة والراحة والاطمئنان مع الزوجات اللاتي هن من نعيم الدنيا، ومن هذه الآثار الرزق والغنى؛ قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) لأن قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (3) وأخرج ابن أبي حاتم بسنده من حديث أبي بكر الصديق قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى؛ قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (4) وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح؛ يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (5) وأخرج الترمذي بسنده من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف (6) » قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرج الحاكم بسنده من
__________
(1) سورة النور الآية 32
(2) سورة النور الآية 32
(3) سورة النور الآية 32
(4) سورة النور الآية 32
(5) سورة النور الآية 32
(6) أخرجه الترمذي في جامعه 4 \ 184 رقم 1655، وأخرجه النسائي في السنن 6 \ 61، وأخرجه البغوي 5 \ 74، وذكره ابن كثير في التفسير 4 \ 108، 6 \ 54.(55/274)
حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال (1) » ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «التمسوا الرزق بالنكاح (2) » .
ودلالة هذه النصوص واضحة في أن الله قد تكفل بالرزق والفضل والعطاء لمن كان فقيرا وأراد العفاف بالزواج. وفضائل النكاح كثيرة ومتعددة؛ ولذلك أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وحثا عليه. والله لا يأمر إلا بما هو حق وفضل وبر وخير للإنسان في العاجل والآجل، وهنا أمر بالنكاح ووعد عليه بالغنى والفضل، وناسب أن يختم سبحانه وتعالى الآية بـ {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3) نعم هو الواسع الذي عنده خزائن كل شيء؛ أعطى الأولين والآخرين، ولا يزال يعطي آناء الليل وآناء النهار، ومع ذلك لم تنفد خزائنه سبحانه، ولن تنفد أبدا؛ لأنه لا يقول للشيء إلا كن فيكون، وهذا من فضل الله ورحمته، حيث أمرهم بالطهر والعفة، ووعدهم مع ذلك بالرزق. فله الحمد والشكر والثناء الحسن.
__________
(1) المستدرك 2 \ 161.
(2) ذكره العجلوني في كشف الخفاء 1 \ 177 ثم عزاه إلى الثعلبي في تفسيره، والديلمي بسند فيه لين، عن ابن عباس رفعه، لكن حديث عائشة السابق والذي أخرجه الحاكم شاهد له. والله أعلم.
(3) سورة النور الآية 32(55/275)
12 - إنجاب الأولاد: إن وجود الأولاد سبب من أسباب الرزق، والإنجاب من رزق الله، فهو الوهاب سبحانه وتعالى،(55/275)
يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لم يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. والمؤمن يجب أن يعتقد أن من يهب الذرية فلا بد وأن يرزقهم؛ لأنه الرؤوف الرحيم؛ قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (1) ، وقال عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) ، وقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) .
من يخلق يرزق، بل يرزق الله الآباء بسبب الأبناء، بل قدم سبحانه رزق الأبناء على الآباء في إحدى الآيات، وحرم قتل الأبناء خوفا من الفقر، وتكفل برزق الجميع، وجعل وجود الذرية سببا للرزق. فله الحمد والشكر والثناء الحسن.
__________
(1) سورة طه الآية 132
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الإسراء الآية 31(55/276)
13 - حمد الله تعالى وشكره على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة: قال ابن القيم: " الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمر الله به، ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببا للمزيد من فضله، وحارسا وحافظا لنعمته. . . " (1) .
وقال الوصابي: " وحقيقة الشكر أن تظهر في قلبك الفرح
__________
(1) تهذيب مدارج السالكين ص 383.(55/276)
بالله وبنعمته وفضله عليك، ثم تخوض في العمل بموجبه، وذلك بالجوارح، والقلب واللسان. . . " (1) .
قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (2) ، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (4) ، وقال جل ذكره: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (5) ، وقال سبحانه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (6) ، وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (7) .
قال الوصابي: " فشكر العين: ستر كل عيب تراه من المؤمن، وأن لا تنظر بها إلى المعاصي. . . وشكر الأذن: ستر كل ما تسمع من العيوب، وأن لا تسمع بها إلا مباحا. وشكر
__________
(1) (البركة في فضل السعي والحركة) ص 167.
(2) سورة إبراهيم الآية 7
(3) سورة الأنفال الآية 26
(4) سورة النحل الآية 114
(5) سورة العنكبوت الآية 17
(6) سورة إبراهيم الآية 37
(7) سورة القصص الآية 73(55/277)
البطن: حفظه عن تناول الحرام والشبه. وشكر اليد: الإعانة للمسلمين، والتقوي بها على الدين، وحفظها عن أن يضرب بها مسلما، أو يتناول بها حراما، أو يؤذي بها أحدا، أو يخون مسلما في أمانة أو وديعة، أو يكتب بها ما لا يجوز النطق به، فالقلم أحد اللسانين. . . وشكر الفرج: حفظه عما حرم الله من الزنا، واللواطة ونحوه، ولا تصل إلى حفظه إلا بحفظ العين عن النظر، والقلب عن الفكر، والبطن عن الشبع. والرجل شكرها: السعي إلى الطاعات، والشفاعات، والإعانة في الحاجات، وحفظها عن المشي إلى المحرمات، وإلى أبواب الظلمة؛ فإن المشي إليهم من غير ضرورة معصية، فإنه تواضع لهم وإكرام، وقد نهينا عنه. . . ثم قال الوصابي: وأما القلب فشكره دوام المراقبة، وتخوفك من الله تعالى فإنه يراك، والتفكر في الملكوت وما خلق الله من شيء. . . وحسن ظنك بالله وبالمسلمين، ورحمتك لجميع الخلق، وإضمارك الخير لهم، وحفظه عن الحسد والرياء والكبر والعجب. . . واللسان شكره: ذكر الله تعالى، وتلاوة كتابه، وإرشاد الخلق إلى طريق الخير وطريق السلامة، والدعاء لهم، وحفظه من الآفات " (1) .
__________
(1) (البركة في فضل السعي والحركة) ص 167 - 170.(55/278)
14 - الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإكثار من ذلك:
ومعنى الصلاة: الدعاء والتبريك من الآدميين، وأما الصلاة من الله فلها معنى آخر؛ قيل: إنها رحمته، وقيل: مغفرته، وقيل: ثناؤه، وقيل غير ذلك. وإذا أمر الله بأمر فهذا دليل على أهميته(55/278)
وفضله، وقد أمر الله بالصلاة والسلام على رسوله، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) . والله سبحانه وتعالى يعطي العبد مسألته إذا قدم لها بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرج الترمذي بسنده من حديث عبد الله بن مسعود قال: «كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه (2) » . ثم قال: حديث حسن صحيح.
ودلالة هذا النص تتمثل في أن كل ما يسأله العبد من ربه يجيبه، ويحقق له مسألته، ومن هذا الرزق، وهو من الأمور المهمة للإنسان في الحياة الدنيا.
وذكر ابن القيم في (جلاء الأفهام) أربعين فائدة وثمرة تحصل للمصلي عليه صلى الله عليه وسلم، نذكر هنا ما له علاقة بهذا البحث:
أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه، أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمه، أنها سبب لقضاء الحوائج، أنها زكاة للمصلي، وطهارة له، أنها سبب لنفي الفقر (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) جامع الترمذي 2 \ 488 رقم 593.
(3) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم ص 262-270.(55/279)
15 - قضاء الحوائج وتفريج الكربات: وهو التيسير على المعسرين بالإعفاء أو الإمهال، وإعانة المسلمين، ورحمة(55/279)
المخلوقين، ونصرة المظلومين.
إن الإنسان في هذه الحياة تعترضه مشكلات، ويحتاج إلى حاجات، ويمر بكربات، ويتمنى أن يبقى مستورا أمام البريات؛ ولذلك شرع الله قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وستر العورات، والعون على الملمات.
أخرج البخاري بسنده من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1) » .
وأخرج مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. . . (2) » وأخرج ابن أبي الدنيا بسنده من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يكن في حاجة أخيه، يكن الله في حاجته (3) » . وأخرج
__________
(1) انظر فتح الباري 5 \ 97 رقم 2442، وأخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 1996 رقم 2580
(2) صحيح مسلم 4 \ 2074 رقم 2699
(3) قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا ص 46 بتحقيق محمد عطا ثم عزاه إلى السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة(55/280)
أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي الدرداء قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم (1) » .
وأنشد بعضهم في هذا المعنى فقال:
إذا شئت أن تبقي من الله نعمة ... عليك فسارع في حوائج خلقه
ولا تعصين الله ما نلت ثروة ... فيحظر عنك الله واسع رزقه (2)
إن من لطف الله ورحمته بعباده أن جعل بعضهم يحنو على بعض، بل أمرهم بعدم ظلم بعضهم لبعض، وبعدم خذلان بعضهم لبعض، ووعد من يكون في حاجة أخيه أن يكون هو سبحانه القوي العزيز في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه. والمسلم أحوج ما يحتاج إلى ربه في هذه الحياة؛ لأن الله على كل شيء قدير، ولأنه- أي الإنسان- أضعف ما يكون في الحياة، بل تعترضه عوامل الضعف في أغلب أحايينه فهو ينام، ويمرض، ويعجز، ويجهل، ويكسل، ويظلم، والحياة الدنيا ليست بدار قرار، وإنما دار امتحان واختبار، فهو دائما في حاجة الله. وأقرب طريق إلى عون الله وتوفيقه ورزقه وتفريج كرباته هو كونه
__________
(1) انظر صحيح الجامع الصغير للألباني رقم 48 وصححه
(2) ذكره الوصابي في كتابه (البركة في فضل السعي والحركة) ص 177(55/281)
دائما في عون إخوانه، وتسديد حاجاتهم، وقضائها، والموفق هو من وفقه الله لهذا الفضل العظيم.(55/282)
16 - الدعاء: ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله وإضافة الجود والكرم إليه؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة (1) » .
ولصحة الدعاء وقبوله شروط، منها:
1 - الإخلاص.
2 - إظهار الفقر والمسكنة أمام الله.
3 - التضرع والخشوع.
4 - تقديم الثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله بين يدي الدعاء.
5 - عدم الاستعجال، وعدم الاعتداء في الدعاء.
قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) ، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (3) .
أخرج البخاري بسنده من حديث أنس، قال: «كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
__________
(1) ذكره الخطابي في كتابه (شأن الدعاء) ص 4
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 186(55/282)
عذاب النار (1) » . وأخرج الترمذي بسنده من «حديث علي أن مكاتبا جاءه فقال: إني قد عجزت عن كتابتي فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل صبير دينا أداه الله عنك؟ قال: قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك (2) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وأخرج البخاري بسنده من حديث أنس، قال: كنت أسمعه يكثر أن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والعجز، والكسل، والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال (3) » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر (4) » . وأخرج الحاكم بسنده من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد ينصب وجهه إلى الله عز وجل في مسألة إلا أعطاه الله إياها؛ إما أن يعجلها، وإما أن يدخرها (5) » . ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما من حديث أبي هريرة، قال:
__________
(1) انظر فتح الباري 11 \ 191 رقم 6389، وأخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2068 رقم 2688
(2) جامع الترمذي 5 \ 560 رقم 3563، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1 \ 538 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
(3) انظر فتح الباري 9 \ 554 رقم 5425
(4) أخرجه الترمذي من حديث سلمان، وأحمد في المسند 5 \ 577، والحاكم في المستدرك 1 \ 493 بإسناد صحيح، وتتمة الحديث: \ 32 وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه \ 32
(5) المستدرك 1 \ 497(55/283)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم، ما لم يستعجل. . . (1) » وأخرج الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل (2) » . وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يعطى هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفرج الصبح (3) » . وأخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أرزقكم. . . (4) » الحديث، ثم قال: هذا حديث حسن. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك، قال: «أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا؟ فرفع يديه- وما ترى في السماء قزعة- فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره
__________
(1) انظر فتح الباري 11 \ 140 رقم 6340، صحيح مسلم 4 \ 2096 رقم 92
(2) جامع الترمذي 4 \ 563 رقم 2326
(3) صحيح مسلم 1 \ 522 رقم 170
(4) جامع الترمذي 4 \ 656 رقم 2495، وهو في صحيح مسلم معناه وزيادة(55/284)
حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، فالذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي- أو قال غيره- فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود (1) » .
الكريم خلقنا من العدم تفضلا منه وكرما، وربانا بالنعم من غير حول منا ولا قوة، وأعطانا من دون أن نسأله، وأمرنا بالسؤال حتى يزيدنا من فضله؛ فمن سأله رضي عنه، وأحبه، وأعطاه مسألته، ومن لم يسأله يغضب عليه ويحرمه. جعل الدعاء هو العبادة تحببا منه لعباده، رتب العطاء والرزق والزيادة على من أقبل عليه ودعاه وألح في دعائه، وسأله استجابة لدعوته، وطمعا في كرمه وخوفا من عذابه، تكفل لكل من سأله أن يجيبه، وحدد أوقاتا وأزمانا وأمكنة لسؤاله حتى لا يبتعد عنه عباده، أو يغفلوا، وحتى يلازموا بابه؛ لينهمر عليهم رزقه وفضله وعطاؤه. نسأل الله مزيدا من نعمه وآلائه في الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر فتح الباري 2 \ 413 رقم 933(55/285)
17 - الغنائم والفيء: الغنيمة: ما أوجف عليه المسلمون بخيلهم وركابهم من أموال المشركين. والفيء: ما أفاء الله من أموال المشركين على المسلمين بلا حرب، ولا إيجاف عليه (1) .
__________
(1) لسان العرب 12 \ 446(55/285)
أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق بكلماته، أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة (1) » . وأخرج الحاكم بسنده من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحب شاهقة، يأكل من رسل غنمه، أو رجل من وراء الدروب، آخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه (2) » . وأخرج أحمد بسنده من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم (3) » .
إن من أفضل المكاسب ما يغنمه المسلم من مال الكافر؛ لأنه حصله من أفضل الأعمال وهو الجهاد، ولذلك قصر النبي صلى الله عليه وسلم الرزق على ما يأتي من أثر الجهاد؛ صح عند مسلم من حديث أبي هريرة في الحديث الطويل الذي ذكره صلى الله عليه وسلم عن نبي من الأنبياء
__________
(1) انظر فتح الباري 13 \ 441 رقم 463، وأخرجه مسلم في الصحيح 3 \ 1496 رقم 1876
(2) المستدرك 2 \ 93
(3) المسند 2 \ 50، 92، وذكره ابن كثير في التفسير 1 \ 213، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 2828 ثم قال: صحيح، وصححه أحمد شاكر في المحققة 7 \ 121 رقم 5114(55/286)
فقال: «. . . فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا؛ ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا (1) » . فهي طيبة مباركة، حلال لهذه الأمة. فلله الحمد والمنة.
__________
(1) صحيح مسلم 3 \ 1366، 1367 رقم 1747(55/287)
18 - العمل الوظيفي: اقتضت حكمة الله أن يخلق الناس خلقا متفاوتا في الجسم والعقل والتفكير والقدرة الجسمية والعقلية والمهارات وغير ذلك؛ ولذلك يقول تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
إن الكسب عن طريق العمل الوظيفي، وخاصة عمل اليد من أطيب المكاسب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده (2) » . وأخرج أحمد بسنده من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الكسب كسب يد عامل إذا نصح (3) » .
وقال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (4) ، وقال عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (5) .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32
(2) انظر فتح الباري 4 \ 303 رقم 207
(3) مسند الإمام أحمد 1 \ 334، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 3278
(4) سورة القصص الآية 26
(5) سورة يونس الآية 61(55/287)
وأخرج البيهقي بسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه (1) » . وأخرج مسلم بسنده من حديث عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوق، كان غلولا يأتي به يوم القيامة (2) » . وأخرج البخاري في صحيحه بسنده من حديث عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته (3) » .
__________
(1) انظر صحيح الجامع رقم 1876، والصحيحة رقم 1113
(2) صحيح مسلم 3 \ 1465 رقم 1833
(3) انظر فتح الباري 2 \ 380 رقم 893(55/288)
19 - الجعل والإجارة: الجعل: ما جعل له على عمل معين، الاسم بالضم، والمصدر بالفتح، يقال: جعل لك جعلا وجعلا، وهو الأجر على الشيء فعلا وقولا (1) . والأجر: الجزاء على العمل، والجمع أجور. والإجارة: من أجر يأجر، وهو ما
__________
(1) لسان العرب 11 \ 111(55/288)
أعطيت من أجر في عمل. والأجر: الثواب (1) .
قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (2) .
وأخرج البخاري بسنده من حديث ابن عباس «أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ- أو سليم- فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغا- أو سليما-. فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ. فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا؟ حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (3) » .
هذا الجعل من أسباب حصول الرزق بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الأعمال التي يقوم بها الإنسان مقابل مبلغ من المال، بل جرت سنة الله في خلقه أن سخر بعضهم لبعض حتى يحصل التكامل، وحتى تقضى الحاجات وتتنوع الأرزاق، وهذه من الحكم العظيمة التي أقام الله بها عمارة الحياة البشرية.
أما الإجارة فقال تعالى حكاية عن ابنة شعيب: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} (4) {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (5) {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (6)
__________
(1) لسان العرب 7 \ 10
(2) سورة يوسف الآية 72
(3) انظر فتح الباري 10 \ 198 رقم 5737
(4) سورة القصص الآية 26
(5) سورة القصص الآية 27
(6) سورة القصص الآية 28(55/289)
وقال عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) ، وقال تعالى حكاية عن موسى للخضر:
{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (2) .
وأخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة (3) » . وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك، قال: «حجم أبو طيبة النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع أو صاعين من طعام، وكلم مواليه فخفف عن غلته أو ضريبته (4) » . وأخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث عبد الله بن مسعود، قال: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها (5) » .
والإجارة عقد يقوم على القدرة والإتقان والأمانة، وهو يحتاج إلى قبول وإيجاب بين المؤجر والمؤجر. والمتأمل في هذا الباب يجد أن حكمة الله ظاهرة في تسخير الناس بعضهم
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) سورة الكهف الآية 77
(3) انظر فتح الباري 4 \ 441 رقم 2262
(4) انظر فتح الباري 4 \ 458 رقم 2277
(5) انظر فتح الباري 4 \ 462 رقم 3285(55/290)
لبعض؛ ولذلك قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1) . ولولا هذه السنة الإلهية لتوقفت الحياة، ولقلت الأرزاق، ولتعطلت المصالح والطاقات، لكن حكمة الله عظيمة، وفضله كبير. فالحمد لله أولا وآخرا.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32(55/291)
20 - الوصايا: وصى الرجل ووصاه: عهد إليه. والوصية: ما أوصيت به. وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت. ووصى الرجل وصيا: وصله. وصيت الشيء ووصلته سواء. . . (1)
قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) ، وقال عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (3) {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4) {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
وأخرج البخاري في الصحيح من «حديث عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه، قال: مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن لا يردني على عقبي. قال: لعل الله يرفعك وينفع بك ناسا. قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنة،
__________
(1) لسان العرب 15 \ 394- 395
(2) سورة النساء الآية 12
(3) سورة البقرة الآية 180
(4) سورة البقرة الآية 181
(5) سورة البقرة الآية 182(55/291)
قلت: أوصي بالنصف؟ قال: النصف كثير. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير أو كبير. قال: فأوصى الناس بالثلث وجاز ذلك لهم (1) » .
يجوز للإنسان أن يوصي ببعض ماله لنفسه أو لغيره، والوصية من أسباب حصول الرزق، بانتقالها من ملكية الميت إلى ملكية الموصى إليه، وهذه من الحكم العظيمة لهذا الدين العظيم؛ حيث جعل للميت حقا في ماله لا يذهب إلى الورثة، وإنما يذهب لمن يرى هذا الميت قبل أن يموت بالضوابط الشرعية.
__________
(1) انظر فتح الباري 5 \ 369 رقم 2744(55/292)
21 - الإرث: أرث بين القوم: أفسد. والتأريث: الإغراء بين القوم، وأيضا: إيقاد النار. والإرث في الحسب، والورث في المال. والإرث من الشيء: البقية من أصله (1) . وهو المال الذي يورثه الميت لورثته؛ قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (2) ، وقال عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (3) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (4) ، وقال عز من قائل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (5) .
__________
(1) لسان العرب 2 \ 110- 112
(2) سورة النساء الآية 11
(3) سورة مريم الآية 5
(4) سورة مريم الآية 6
(5) سورة النساء الآية 176(55/292)
وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (1) .
وأخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه دين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلا فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (2) » . وأخرج البخاري في صحيحه من حديث الأسود بن يزيد، قال: أتانا معاذ بن جبل باليمن معلما وأميرا، فسألناه عن رجل توفي وترك ابنته وأخته. فأعطى الابنة النصف، والأخت النصف (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 12
(2) انظر فتح الباري 4 \ 477 رقم 2298، وأخرجه مسلم في الصحيح 3 \ 1237 رقم 1619
(3) انظر فتح الباري 12 \ 15 رقم 6734(55/293)
22 - الصداق: الصداق: مهر المرأة، وقد أصدق المرأة حين تزوجها، أي جعل لها صداقا، وقيل: أصدقها: سمى لها صداقا (1) . وهو ما يعطي للمرأة عوضا عن نكاحها؛ قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (2) .
__________
(1) لسان العرب 10 \ 196- 197
(2) سورة النساء الآية 4(55/293)
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سفيان، قال: حدثني حميد أنه سمع أنسا رضي الله عنه قال: «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار كم أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب (1) » . وأخرج البخاري ومسلم من «حديث سهل بن سعد، كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا، فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه، فخفض فيها النظر ورفعه، فلم يردها، فقال رجل من أصحابه: زوجنيها يا رسول الله، قال: أعندك من شيء؟ قال: ما عندي من شيء. قال: ولا خاتم من حديد؟ قال: ولا خاتم من حديد، ولكن أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف. قال: لا، هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن (2) » . وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها (3) » . وفي حديث معاذ عن أبيه: «تزوج صفية وأصدقها عتقها (4) » .
إن المرأة المسلمة لا تستقر حياتها ولا يهدأ لها بال ولا يحصل لها السكن إلا داخل الأسرة، والتي هي أحد أركانها، وعلى هذا فهي تنتقل من أسرتها التي نشأت وتربت وترعرعت فيها إلى الأسرة الجديدة، وتحتاج إلى ما فرضه الله لها من مال؛ لتستعين به على حياتها الجديدة. والمهر حق من حقوقها، لا
__________
(1) انظر إرواء الغليل للألباني 6 \ 343 رقم 1923
(2) انظر إرواء الغليل 6 \ 345 رقم 1925
(3) صحيح مسلم 2 \ 1045 رقم 85
(4) صحيح مسلم 2 \ 1045 رقم 85(55/294)
يجوز لأي أحد أن يأخذ منه شيئا، حتى أقرب الناس لها، إلا بإذنها. وهو من مصادر الرزق، والذي يمكن أن يكون نواة لفتح باب رزق أكبر، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.(55/295)
23 - ما يأخذه المحتاج من أموال الزكاة والصدقة: الزكاة أحد أركان الإسلام، وفرض من فروضه. وأصل الزكاة النماء والزيادة، وسميت بذلك؛ لأنها تثمر المال وتنميه. يقال: زكا الزرع: إذا كثر ريعه، وزكت النفقة: إذا بورك فيها. وهي واجبة بالإجماع (1) . وهي حق مخصوص، في مال مخصوص، لطائفة مخصوصة، في زمن مخصوص؛ قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) . وهي للثمانية الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3) .
وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن، فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد
__________
(1) الإفصاح لابن هبيرة 1 \ 195 ط السعيدية بالرياض
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة التوبة الآية 60(55/295)
على فقرائهم (1) » .
من الناس أغنياء، ومنهم فقراء، ومنهم بين ذلك، وكيف تسد حاجة الفقراء؟
في الإسلام للفقراء حق في أموال الأغنياء؛ من هذا الحق ما هو فرض، ومنه ما هو مستحب. وقد بين سبحانه من يستحق النفقة الواجبة في الثمانية الأصناف المذكورين في الآية الكريمة السابقة، وهو حق واجب ورزق كريم، لا تجوز فيه المنة، بل يصبح هذا المال ملكا يتصرفون فيه كيفما شاءوا.
__________
(1) انظر فتح الباري 3 \ 261 رقم 1395، وأخرجه مسلم في الصحيح 1 \ 50 رقم 29(55/296)
24 - ما يؤخذ من النفقة الواجبة: وهي ما ينفقه المسلم نفقة واجبة على نفسه وزوجه وأرحامه والأقرب فالأقرب، وعلى المحتاجين والمملوكين، والبهائم وغير ذلك؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1) ، وقال عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، قال:
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 233(55/296)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني (1) » . وأخرج البخاري في صحيحه من «حديث المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم (2) » .
الرجل في الإسلام هو المكلف بالإنفاق على النفس، وعلى الزوجة والأولاد، والخدم، والبهائم التي تحت يده. وهذه النفقة جعلها الله واجبة على الرجل، والزوج، والأب، والمالك. وإلا فمن ينفق على الضعفة من النساء والأولاد والمماليك وغير ذلك؟ وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده أن سخر بعضهم لبعض، وكلف بعضهم بالإنفاق على بعض.
__________
(1) انظر فتح الباري 9 \ 50 رقم 5355
(2) انظر فتح الباري 1 \ 84 رقم 30(55/297)
25 - التجارة والسفر لابتغاء الرزق: وهو الاسترباح بالبيع والشراء في كل ما هو مباح؛ قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الملك الآية 15(55/297)
وقال سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) ، وقال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (2) {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (3) {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (4) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (5) .
وأخرج البخاري من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (6) » .
وقال الشاعر:
تغرب على اسم الله في طلب العلا ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم , واكتساب معيشة ... وعلم , وآداب , وصحبة ماجد (7)
إن الخروج من المنزل بهدف الاكتساب، والمشي في الأرض، والضرب فيها، سبب من أسباب حصول الرزق. هذه سنة الله في خلقه، بل دلالة النصوص السابقة وغيرها واضحة في أمر الله لعباده بطلب الرزق بواسطة التجارة بالرحلة وبالسعي في الأرض.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) سورة قريش الآية 1
(3) سورة قريش الآية 2
(4) سورة قريش الآية 3
(5) سورة قريش الآية 4
(6) انظر فتح الباري 4 \ 309 رقم 2079
(7) ذكره الوصابي في كتابه (البركة في فضل السعي والحركة) ص202(55/298)
26 - الرعي: وهو مصدر رعى الكلأ، والراعي يرعى الماشية، أي: يحوطها ويحفظها، ويجتهد في أن تأكل ما ينفعها. . . (1)
وهو يشمل الإبل والبقر والغنم والخيل وغير ذلك؛ قال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} (2)
وأخرج البخاري وابن ماجه من حديث أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط (3) » .
وأخرج ابن ماجه وأبو يعلى من حديث عروة البارقي مرفوعا: «الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة (4) » .
وعلى هذا فالرعي للماشية مصدر من مصادر الرزق بمفهومه الواسع؛ فهو من أعظم أسباب وطرق الكسب المادي، حيث قد بارك الله في هذه الماشية وخاصة الغنم.
والرعي أيضا من أسباب وطرق كسب أرزاق أخرى مثل: اليقظة، والحرص الممدوح، وحسن السياسة، والأمانة، وغير ذلك؛ ولذلك رعى الغنم- خاصة- الأنبياء كلهم؛ لتكون مرحلة
__________
(1) لسان العرب 14 \ 325، 326
(2) سورة طه الآية 54
(3) انظر فتح الباري 4 \ 441 رقم 2262.
(4) سنن ابن ماجه رقم 6305، مسند أبي يعلى 4 \ 1614، وذكره الألباني في الصحيحة 4 \ 362 رقم 1763 ثم قال: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين كما في الزوائد (162 \ 1) .(55/299)
تعليمية، وتربوية، وتدريبية، لما سيليها من مراحل.
والرعي من المهن المعروفة منذ القدم، وهو سبب هام من أسباب الرزق الحلال المبارك.(55/300)
27 - الزراعة وإحياء الموات: الزراعة: وهي بذر الحب، وقيل: نبات كل شيء يحرث، والزراعة: موضع الزرع، وهي عمارة الأرض واستخدامها لاستخراج ثمار ما يزرع بها.
أما إحياء الموات: فهو استصلاحها والاستفادة منها. . . (1) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3)
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (4) {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (5)
وقال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (6)
__________
(1) لسان العرب 8 \ 141.
(2) سورة الأنعام الآية 141
(3) سورة الرعد الآية 4
(4) سورة النحل الآية 10
(5) سورة النحل الآية 11
(6) سورة السجدة الآية 27(55/300)
وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1)
وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (3)
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (4) {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (5) {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (6)
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (7)
وقال عز وجل: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (8) وقال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} (9) {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (10) {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} (11) {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (12) {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} (13) {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} (14) {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} (15) {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (16) {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (17)
وأخرج مسلم في الصحيح بسنده من حديث جابر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل
__________
(1) سورة الزمر الآية 21
(2) سورة الدخان الآية 25
(3) سورة الدخان الآية 26
(4) سورة ق الآية 9
(5) سورة ق الآية 10
(6) سورة ق الآية 11
(7) سورة الأنعام الآية 99
(8) سورة المؤمنون الآية 20
(9) سورة عبس الآية 24
(10) سورة عبس الآية 25
(11) سورة عبس الآية 26
(12) سورة عبس الآية 27
(13) سورة عبس الآية 28
(14) سورة عبس الآية 29
(15) سورة عبس الآية 30
(16) سورة عبس الآية 31
(17) سورة عبس الآية 32(55/301)
منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبع منه فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة (1) » .
وأخرج أحمد والطيالسي والبخاري في (الأدب المفرد) وغيرهم من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل (2) » .
وأخرج ابن جرير من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن معقل بن يسار، قال: دخل رجل على عثمان بن عفان وهو يغرس غراسا، فقال له: يا أمير المؤمنين، الغرس، وهذه الساعة قد جاءت؟ فقال: أن تأتي وأنا من المصلحين خير وأحب إلي من أن تأتي وأنا من المفسدين (3) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله، قال: «كان لرجال فضول أرضين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه (4) » .
وقال البخاري: باب من أحيا أرضا مواتا.
ورأى ذلك علي في أرض الخراب بالكوفة موات.
وقال عمر: من أحيا أرضا ميتة فهي له.
ويروى عن عمرو بن عوف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال في
__________
(1) صحيح مسلم 3 \ 1188 رقم 1552، وأخرج البخاري بنحوه، انظر فتح الباري رقم 2320.
(2) مسند أحمد 3 \ 183، 184، 191، وانظر الصحيحة للألباني 1 \ 11 رقم 9 ثم قال: إسناد صحيح على شرط مسلم.
(3) انظر كنز العمال 3 \ 909 رقم 9137.
(4) صحيح مسلم 3 \ 1176 رقم 89.(55/302)
غير حق مسلم: وليس لعرق ظالم فيه حق.
ويروى فيه عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (1) .
وأخرج الترمذي بسنده من حديث جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له (2) » وقال عنه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرج الترمذي بسنده من حديث ابن عمر، «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (3) » . قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
إن الزراعة من أعظم مصادر الرزق وطرقه وأسبابه، وهي مهنة قديمة يعرفها كل البشر، بل الحياة لا تقوم إلا على المنتجات الزراعية في الدرجة الأولى، بل جعل الله البركة والخير والنماء فيما تخرج الأرض، وأمر سبحانه عباده بإنشاء الجنات، والحدائق، والبساتين، وزراعة أنواع المزروعات: من حبوب، وفواكه، وخضروات، وتمور، وحمضيات، وغير ذلك.
والفرق بين المؤمن والكافر في الزراعة، أن المؤمن يحتسب أمر الزراعة عند الله، ويكتب له أجر زراعته، وأجر ما يؤكل منها، أما الكافر فهو يطغى بها ويتجبر، ويستخدمها كأداة للضغط، والاستعمار، وإذلال الشعوب، والدول، والأمم.
والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزل الماء، وأخرج به من الأرض ثمرات كل شيء، متاعا ورزقا للعباد إلى حين.
__________
(1) انظر فتح الباري 5 \ 18 رقم 15.
(2) جامع الترمذي 3 \ 655 رقم 1379.
(3) جامع الترمذي 3 \ 658 رقم 1383.(55/303)
28 - الصيد: من حكمة الله ولطفه بخلقه ورحمته بهم أن جعل أرزاقهم موزعة ما بين السماء والأرض والبحار، بل جعل الصيد من أكبر أسباب الرزق الطيب المبارك؛ قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (1)
وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) وقال عز وجل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (4) وقال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (5)
وأخرج الترمذي بسنده من حديث ابن أبي عمار، قال: قلت لجابر: «الضبع؛ صيد هي؟ قال: نعم، قال: قلت: آكلها، قال: نعم، قال: قلت له: أقاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم (6) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرج البخاري بسنده من حديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي، أنه
__________
(1) سورة المائدة الآية 96
(2) سورة النحل الآية 14
(3) سورة فاطر الآية 12
(4) سورة الرحمن الآية 22
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) جامع الترمذي3 \ 198 رقم 851.(55/304)
«أهدى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم (1) » .
وأخرج البخاري بسنده من حديث جابر، قال: «غزونا جيش الحبط، وأمر أبو عبيدة، فجعنا جوعا شديدا، فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله، يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا. فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم فآتاه بعضهم فأكله (2) » .
وأخرج البخاري بسنده من «حديث أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا نبي الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل (3) » .
وأخرج البخاري بسنده من حديث ابن عباس في الحديث الطويل في شأن إبراهيم مع
__________
(1) انظر فتح الباري 9 \ 31 رقم 1825، وأخرجه الترمذي في الجامع 3 \ 197 رقم 849.
(2) انظر فتح الباري 8 \ 78 رقم 4362.
(3) انظر فتح الباري 9 \ 622 رقم 5496.(55/305)
إسماعيل وزوجتيه، وفيه: «قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد. . . (1) » .
إن صيد البر والبحر نعمة من الله وفضل، حيث أحله لعباده، بل طيبه وجعله لذيذا.
وهناك شعوب تعتمد على الصيد في معيشتها، وتقتات من صيدها، فأصحاب سواحل البحار- مثلا- يعيشون أكثر ما يعيشون على صيد الأسماك، وأصحاب الغابات يتغذون على أنواع من صيد البر، وهكذا. . .، سواء كان هذا الصيد حيوانا أو طيورا أو زواحف أو أسماكا أو غير ذلك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) انظر فتح الباري 6 \ 398 رقم 3365(55/306)
29 - الاحتطاب: الحطب: معروف، وهو ما أعد من الشجر شبوبا للنار.
والاحتطاب: الجمع. وحطبني فلان: إذا أتاني بالحطب. والحطابة: الذين يحتطبون. وأرض حطبة: كثيرة الحطب (1) .
روى البزار بسنده من حديث أبي هريرة، «أن رجلين أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه؟ فقال: اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا، فبيعاه، فذهبا فاحتطبا ثم جاءا فباعا، فأصابا طعاما، ثم ذهبا فاحتطبا أيضا، فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين، ثم ابتاعا حمارين، فقالا: قد بارك الله لنا في أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (2) » .
__________
(1) لسان العرب 1 \ 221، 222.
(2) انظر مجمع الزوائد للهيثمي 3 \ 94، وفيه بشر بن حرب، وفيه كلام، وقد وثق.(55/306)
وأخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث أنس بن مالك، «أن رعلا وذكوان وعصية، وبني لحيان، استمدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل. . . (1) » الحديث.
الاحتطاب مهنة معروفة قديمة بقدم الإنسان، حيث كان الناس ولا يزالون في أقطار كثيرة يستخدمون الحطب في صنع الأطعمة، وفي التدفئة وفي غير ذلك. وهي أيضا مهنة مربحة لمن يزاولها، رغم التقدم التكنلوجي، وظهور المصنوعات الحديثة التي تستخدم في الطهي والتدفئة.
وقد ناقش العلماء ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في «أن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والحطب،» وجعلوا هذه الأمور أمورا مشتركة لا يجوز احتكارها، وهذا فيه دليل على أهميتها، والله أعلم.
__________
(1) انظر فتح الباري 7 \ 385 رقم 4090.(55/307)
30 - اللقطة: أخذ الشيء من الأرض.
واللقطة: اسم الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه. والالتقاط: أن تعثر على الشيء من غير قصد وطلب. واللقطة في جميع البلاد لا تحل إلا لمن يعرفها سنة، ثم يتملكها بعد السنة، بشرط الضمان لصاحبها إذا وجده، لكن مكة صانها الله ففي لقطتها خلاف، فقيل: إنها كسائر البلاد، وقيل: لا (1) .
__________
(1) لسان العرب 7 \ 392، 393.(55/307)
أخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل عن اللقطة، فقال: «اعرف وكاءها -أو قال وعاءها- وعفاصها ثم عرفها سنة ثم استمتع بها فإن جاء ربها فأدها إليه، قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه، فقال: ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها، قال: فضالة الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب (1) » .
وفي رواية أخرى زاد: " فإن جاء ربها فأدها إليه " أي: بعد السنة.
وأخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث أنس، قال: «مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة في الطريق قال: " لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها (2) » .
إن إتلاف الأموال أو التسبب في إتلافها بتركها، أو غير ذلك، أمر محرم في الشريعة الغراء؛ ولذلك شرع الله التقاط اللقطة، والانتفاع بها، بعد أن تعرف سنة حتى لا تهلك أو تتلف، ولأن من سنة الله في النعم شكرها والمحافظة عليها، وعدم إتلافها؛ حتى يزيدها الله لأصحابها ويبارك فيها، وهذا من لطف الله ورحمته بعباده.
__________
(1) انظر فتح الباري 5 \ 84 رقم 2429.
(2) انظر فتح الباري 5 \ 86 رقم 2431.(55/308)
31 - استخراج ما في باطن الأرض من معادن: وهي نوعان: جامدة، وجارية. والمعدن- بكسر الدال- هو المكان الذي يثبت فيه الناس؛ لأن أهله يقيمون فيه، ولا يتحولون عنه شتاء ولا(55/308)
صيفا، ومعدن الذهب والفضة سمي معدنا لإثبات الله فيه جوهرهما، وإثباته إياه في الأرض حتى عدن، أي: ثبت فيها. . . (1)
وهي عبارة عن المواد الخام التي تحتاج إلى صناعة وصياغة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2)
إن أرزاق الله وأنعامه وأفضاله قديما وحديثا تترى، فما زالت الأرض تخرج من كنوزها بإذن ربها، بل كلما تقدم العلم الحديث اكتشف واستخرج نوعا من الكنوز التي أوجدها الله في داخل الأرض بأشكال وأنواع مختلفة لخدمة الإنسان، كالذهب والفضة، والماس، والحديد بأنواعه، والبترول بأنواعه؛ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
وحديثا أصبح الاقتصاد العالمي يعتمد اعتمادا كليا على ما يستخرج من باطن الأرض، بل وأصبحت البلاد الغنية بالمعادن الجامدة والسائلة من أغنى البلاد في العالم، والبلاد الإسلامية من هذه البلاد التي حباها الله هذه النعم؛ لتشكر الله، وتستعين بهذه النعم على نشر دين الله، وصد أعداء الله، والتمكين لأولياء الله على أرض الله.
__________
(1) لسان العرب 13 \ 279، 280.
(2) سورة الملك الآية 15(55/309)
32 - الصناعة: هي حرفة الصانع، وعمله: الصنعة. والصناعة: ما تستصنع من أمر، وهي المهارة باليدين. والصنع: الرزق (1) .
__________
(1) لسان العرب 8 \ 208.(55/309)
أخرج البخاري في صحيحه من حديث المقدام رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده (1) » .
وأخرج البخاري في صحيحه من «حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل، قال: تعين ضائعا أو تصنع لأخرق، قال: فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك (2) »
قال ابن حجر: قال أهل اللغة: رجل أخرق: لا صنعة له. وقال: الضائع هو: ذو الضياع من فقر أو عيال، وقيل: إنها مصحفة من الصانع (3) .
لكن الشرع المطهر أشار إلى عدد من الصناعات، منها:
أ- صناعة السفن: السفن: القشر. والسفينة: الفلك؛ لأنها تسفن وجه الماء، أي تقشره. وقيل: سميت سفينة لأنها تلزق على وجه الأرض (4) . وهي تصنع من الحديد والخشب والبترول وغير ذلك؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (5)
__________
(1) انظر فتح الباري 4 \ 303 رقم 2072.
(2) صحيح البخاري العتق (2518) ، صحيح مسلم الإيمان (84) ، مسند أحمد بن حنبل (5/163) ، سنن الدارمي الرقاق (2738) .
(3) انظر فتح الباري 5 \ 148 رقم 2518.
(4) لسان العرب 13 \ 209- 211.
(5) سورة النحل الآية 14(55/310)
وقال عز وجل: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (1) وقال عز من قائل: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (2) وقال تعالى: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3)
إن صناعة السفن مهنة قديمة، عرفتها البشرية، وأشار إليها الإسلام، وهي مهنة مربحة؛ لكثرة استخدامها ولتعدد مهامها؛ ومنها: استخدامها وسيلة مواصلات، ووسيلة صيد، وهي من أعظم وسائل الرزق.
ب- صناعة السيارات والقطارات والطائرات والعربات وغير ذلك: إن العلم الحديث ابتدع بدعا جميلة ومهمة لم تكن من قبل، وفرت على الإنسان الجهد والمال والوقت؛ وخاصة في مجال المواصلات، والنقل.
والإسلام أشار إلى هذه الوسائل في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) فقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (5) فيه إشارة إلى الوسائل الحديثة للمواصلات؛ وفي صناعة وسائل المواصلات دفعة قوية للاقتصاد، بل إن الشركات والدول المصنعة لهذه الوسائل من
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 22
(2) سورة الإسراء الآية 66
(3) سورة الروم الآية 46
(4) سورة النحل الآية 8
(5) سورة النحل الآية 8(55/311)
أغنى وأثرى الشركات والدول العالمية؛ لأنها أصبحت من ضروريات الحياة ومستلزماتها، ومعظم هذه الوسائل مصنوعة من الحديد والبترول (المعادن) والخشب وغير ذلك.
ج- صناعة المعادن (الحديد، النحاس، الرصاص، الذهب، الفضة، وغير ذلك. . .) : قال تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} (1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (2) وقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (4) قال ابن كثير: يعني صنعة الدروع، قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلقا. . . (5)
وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (6) {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (7) قال
__________
(1) سورة الكهف الآية 96
(2) سورة سبأ الآية 10
(3) سورة الحديد الآية 25
(4) سورة الأنبياء الآية 80
(5) تفسير ابن كثير 5 \ 352 ط الشعب.
(6) سورة سبأ الآية 12
(7) سورة سبأ الآية 13(55/312)
ابن كثير: وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} (1) قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء الخرساني، وقتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد: القطر: النحاس. ثم قال: المحاريب: هي المساجد، والقصور، قاله: قتادة.
والتماثيل هي الصور، قاله: عطية العوفي، والضحاك، والسدي.
أما الجواب فهي جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء.
والقدور الراسيات: هي الثابتات في أماكنها لا تتحول، ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها، كذا قال مجاهد والضحاك وغيرهما.
وقال عكرمة: أثافيها منها (2) .
إن صناعة المعادن من أهم أسباب ووسائل تحصيل الأرزاق، سواء كان في القديم أو في الحديث، لكن صناعة المعادن في الأعصار الحديثة أكثر وأشمل وأدق منها في القديم، سواء من هذه المعادن ما كان سائلا أو جامدا، بل تكاد تكون الصناعات المعدنية حديثا هي المقوم الأساسي للاقتصاد عالميا، على مستوى الأفراد والشركات والدول والتجمعات.
ويدخل تحت هذه الصناعات المعدنية صناعة الأسلحة، ووسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية، ووسائل الاتصالات، بل وحتى وسائل رفاهية الحياة في كل جوانبها، بل وفي جوانب التربية والتعليم، والترفيه، وغير ذلك.
ولا شك أن هذا تقدم نوعي في حياة البشر في جوانب الأغراض السلمية، أما في جوانب الأسلحة المدمرة فهو خطر
__________
(1) سورة سبأ الآية 12
(2) تفسير ابن كثير 6 \ 487، 488.(55/313)
عظيم يهدد الإنسانية، نسأل الله العافية.
د- صناعة الغزل والنسيج والحياكة: ويشمل الصوف والقطن والكتان، بل وحتى البترول وغير ذلك؛ قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (1) قال ابن كثير: قال العوفي عن ابن عباس: الرياش: اللباس (2) . وقال عز وجل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (3) قال ابن كثير: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (4) وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} (5) كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك " (6) وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (7) وهذا فيه إشارة إلى هذه المهنة المشروعة.
وأخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث سهل بن سعد، قال: «جاءت امرأة ببردة، قال سهل: هل تدري ما البردة؟ قال: نعم، هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت: يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره، فحسنها رجل من القوم، فقال: يا رسول الله، اكسنيها، قال: نعم، فجلس ما شاء
__________
(1) سورة الأعراف الآية 26
(2) تفسير ابن كثير 4 \ 510.
(3) سورة النحل الآية 80
(4) سورة النحل الآية 81
(5) سورة النحل الآية 81
(6) تفسير ابن كثير 4 \ 510.
(7) سورة النحل الآية 92(55/314)
الله في المجلس، ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه وقد عرفت أنه لا يرد سائلا، فقال الرجل: والله ما سألتها إلا لتكون كفني يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه (1) » .
الإنسان في أمس الحاجة إلى اللباس والسرابيل التي تقي الإنسان البرد والحر؛ ولذلك امتن الله على عباده في إنزاله اللباس لنستر به عوراتنا، ونستخدمه في حاجاتنا الضرورية والكمالية.
ولهذا أصبحت مهنة الغزل والنسيج والحياكة مهنة رابحة؛ أنشئت لها المصانع الضخمة، والأسواق العالمية المتخصصة لهذا الأمر، وهي مهنة معروفة قديما ومشهورة حديثا.
هـ- صناعة الجلود: قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (2) قال ابن كثير: {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} (3) أي: من الأدم، يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر. . . " (4) اهـ.
وأخرج البخاري في الصحيح بسنده من حديث سودة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صارت شنا (5) . وأخرج مسلم بسنده من حديث عبد الله بن عباس، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
__________
(1) انظر فتح الباري 3 \ 143 رقم 1277.
(2) سورة النحل الآية 80
(3) سورة النحل الآية 80
(4) تفسير ابن كثير 4 \ 509.
(5) انظر فتح الباري 11 \ 569 رقم 6686.(55/315)
«إذا دبغ الإهاب فقد طهر (1) » .
إن صناعة الجلود قديما وحديثا مهنة معروفة، تدر على أهلها أموالا طائلة، وخاصة في الأعصار المتأخرة، حيث أصبحت الجلود مادة خاما مهمة جدا لنمو كثير من الصناعات الجلدية، مثل: الأحذية، وبعض الملابس، وبعض الأثاث المهم للناس، على مستويات متعددة، ومتنوعة، وقد أنشئت لهذه الجلود كثير من المصانع المهمة والمتطورة للاستفادة منها.
وحرفة النجارة (صناعة الخشب) : أخرج مسلم في الصحيح بسنده من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كان زكريا نجارا (2) » .
إن وجود الغابات الكبيرة والعظيمة في كثير من أقطار العالم له أهميته؛ حيث تقطع هذه الأشجار، وتنشأ لها المصانع والمناجر الضخمة، وتصدر إلى جميع أقطار الدنيا. وتستخدم الأخشاب في صناعة متطلبات الحياة؛ من منازل، وسفن، وسيارات، وقطارات، وغير ذلك.
وأصحاب هذه المهنة المعروفة منذ القدم يغلون ثروات كبيرة؛ لأنها من أسباب حصول الأزراق.
ز- الصناعة العمرانية: وهي الأبنية والقصور المشيدة؛ قال تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} (3) {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (4) {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (5) وقال سبحانه: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} (6)
__________
(1) صحيح مسلم 1 \ 273 رقم 366.
(2) صحيح مسلم 4 \ 1847 رقم 2379.
(3) سورة الفجر الآية 7
(4) سورة الفجر الآية 8
(5) سورة الفجر الآية 9
(6) سورة الأعراف الآية 74(55/316)
وقال عن قوم هود: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (1) {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (2) قال ابن كثير: " {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (3) اختلف المفسرون في الريع بما حاصله: أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، تبنون هناك بناء محكما باهرا هائلا؛ ولهذا قال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} (4) أي: معلما بناء مشهورا: {تَعْبَثُونَ} (5) وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب، واللهو، وإظهار القوة. . . ثم قال: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (6) قال مجاهد: المصانع: البروج المشيدة، والبنيان المخلد. . . " (7) .
إن الصناعة العمرانية- خاصة في الأزمنة المتأخرة- سبب من أسباب الرزق المبارك حيث تبنى الدور والعمارات والأسواق، وتستثمر في مجالات عدة، وهي تعتبر رافدا من روافد الاقتصاد المهمة في العصر الحاضر، ويشتغل به قطاع كبير من الناس، بل ويعتمدون عليه في أرزاقهم ومعاشهم.
وهناك طرق وأسباب للحصول على الأرزاق، لكن ما ذكرناه فيه الكفاية، والله أعلم.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 128
(2) سورة الشعراء الآية 129
(3) سورة الشعراء الآية 128
(4) سورة الشعراء الآية 128
(5) سورة الشعراء الآية 128
(6) سورة الشعراء الآية 129
(7) تفسير ابن كثير 6 \ 162.(55/317)
الأسباب المنقصة للرزق:
إنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعة الله، كما أن معصية الله(55/317)
سبب لزوال نعم الله، وهذه الأسباب كثيرة؛ منها ما ينافى طرق كسب الرزق المذكورة، ومنها ما سنذكره هنا باختصار:
1 - الكفر والإعراض: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (1) {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (2) {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (3) وقال عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (4)
2 - الطغيان: قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (5) {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (6)
3 - الظلم، وأكل الربا، واكل أموال الناس بالباطل: قال جل وعلا: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (7) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (8)
4 - تبديل النعمة كفرا: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (9)
__________
(1) سورة سبأ الآية 15
(2) سورة سبأ الآية 16
(3) سورة سبأ الآية 17
(4) سورة النحل الآية 112
(5) سورة طه الآية 80
(6) سورة طه الآية 81
(7) سورة النساء الآية 160
(8) سورة النساء الآية 161
(9) سورة إبراهيم الآية 28(55/318)
5 - ظلم النفس: قال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1)
6 - فعل المعاصي: أخرج أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (2) » .
7 - نقص الميزان: أخرج مالك بلاغا عن عبد الله بن عباس أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو (3) .
وقد قيل:
إذا كنت ذا نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بذكر الإله ... فإن الإله سريع النقم
__________
(1) سورة البقرة الآية 57
(2) المسند في مسند الأنصار رقم 21402، 31379، والسنن لابن ماجه كتاب الفتن رقم الحديث 4012، ورجاله ثقات عدا عبد الله بن أبي الجعد: مقبول، وذكره العجلوني في كشف الخفاء 1 \ 227 رقم 700 ثم قال: صححه الحاكم.
(3) الموطأ لمالك 2 \ 460 رقم 26 ثم قال ابن عبد البر: قد رويناه متصلا عنه، ومثله لا يقال رأيا.(55/319)
8 - الكذب وكتمان عيب السلعة: أخرج أحمد وابن ماجه من حديث حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا رزقا بركة بيعهما، فإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما (1) » .
__________
(1) المسند 3 \ 402، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 2893 ثم قال: صحيح.(55/320)
الرزق الحرام:
أحل الله الحلال، وجعله طيبا مباركا، وأمر عباده بكسبه من حله، وإنفاقه في وجهه الشرعي، ورتب على ذلك سعادة الدنيا والآخرة. وحرم الحرام، وجعله خبيثا غير مبارك، ونهى عن المكاسب المحرمة، ولم يقبل إلا طيبا، ورتب على المكاسب المحرمة الشقاء في الدنيا والآخرة.
والمكاسب المحرمة كثيرة ومتعددة، منها: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذبح على النصب، والخمر، والحشيش، والمخدرات جميعها، سواء كانت جامدة أو سائلة أو مشمومة، ولبس الحرير والذهب للرجال، واستعمال آنية الذهب والفضة، والربا، والغلول، والسرقة، والغش، والتطفيف في الكيل والوزن، والاحتكار، والنهب، والسلب، والغصب، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل المال بالباطل، ويتفرع منه: الرشوة، ولعب الميسر، والقمار، والاختلاس، والتكسب عن طريق السحر، والعرافة والكهانة، والشعوذة، وبيع ما ليس عند الإنسان، وتلقي الركبان،(55/320)
وبيع الملامسة، والمنابذة، والحصاة، وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع حاضر لباد، وبيع النجش، وكسب الإماء، ومهر البغي، وثمن الكلب، وعسب الفحل، والقسامة وسواء باع أو اشترى، أو أكل، أو شرب، أو تعاطى، أو عمل، أو أعان، أو ساهم، أو استعمل، أو زرع، أو صنع، أو فعل أي فعل هو حرام في ذاته، أو يتوصل به إلى الحرام، فهو حرام.
وسأورد هنا بعض المحرمات بالدليل، مثل:
1 - الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير: قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)
2 - الربا: قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
وقال عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3)
3 - أكل أموال اليتامى بالباطل: قال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (4)
4 - أكل الأموال بالباطل، والإدلاء بها للحكام: قال جل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة النساء الآية 10(55/321)
جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقال عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2)
5 - كنز الذهب والفضة وعدم إنفاقهما: قال جل جلاله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4)
6 - ما لم يذكر اسم الله عليه والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب: قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (5) وقال جل جلاله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (6)
7 - الخمر والميسر: قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (8)
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 188
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) سورة التوبة الآية 35
(5) سورة الأنعام الآية 121
(6) سورة المائدة الآية 3
(7) سورة المائدة الآية 90
(8) سورة المائدة الآية 91(55/322)
8 - السرقة: قال جل جلاله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
9 - مهر البغي، وثمن الكلب، وحلوان الكاهن، وعسب الفحل: قال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده من حديث ابن مسعود «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (3) » .
وأخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كسب الإماء (4) » .
وأخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عمر، قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل (5) » .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة، قالت: " كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة النور الآية 33
(3) انظر فتح الباري 4 \ 465 رقم 2284.
(4) انظر فتح الباري 4 \ 470 رقم 2283.
(5) انظر فتح الباري 4 \ 461 رقم 2282، وعسب الفحل هو: أجرة جماع الذكر من الحيوان للأنثى.(55/323)
تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه " (1) .
10 - الاحتكار: أخرج مالك في الموطأ قول عمر بن الخطاب: لا حكرة في سوقنا، أيعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله (2) .
11 - الغلول: أخرج مسلم في صحيحه من حديث عدي الكندي، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة (3) » .
وفيما ذكرنا من الأمثلة كفاية في بيان المكاسب المحرمة بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، ولو ذهبنا في الاستقصاء لطال بنا المقام.
__________
(1) انظر فتح الباري 7 \ 149 رقم 3842.
(2) موطأ مالك 2 \ 651 رقم 56.
(3) أخرجه مسلم في الصحيح 3 \ 1465 رقم 1833، وأبو داود في السنن 3 \ 134 رقم 2943 من حديث عبد الله بن بريدة.(55/324)
مسألة التحلل الأول في الحج
للشيخ: فريح بن صالح البهلال
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وسلم- تسليما كثيرا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) وبعد: فإن التحلل الأول من الإحرام بالحج، الذي يحل به
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(55/325)
للمحرم الطيب وسائر محرمات الإحرام إلا النساء فيه نزاع بين أهل العلم، أي: بأي عمل من أعمال الحج يحصل، وكذلك التحلل من العمرة؟ ولما يترتب على ذلك من أحكام، أحببت معرفة الحق والصواب من الأقوال، ولا ريب أن الحق والصواب منها، الذي يقوم عليه الدليل الصحيح، والحق أحق أن يتبع.
لذلك استعنت الله سبحانه، فراجعت ما يسر الله لي من المراجع النافعة إن شاء الله تعالى، فوجدت الخلاف في المسألة قويا، والأقوال متباينة، وبعضها ظهر لي دليله، وبعضها لم يظهر.
عند ذلك حررت المسألة بذكر مذاهب العلماء، وما وجدته لهم من أدلة. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) سورة هود الآية 88(55/326)
اختلاف أهل العلم فيما يحصل به التحلل الأول للمحرم:
اعلم أن الأعمال المشروعة للحاج يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، ثم ذبح الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة.
وقد اختلف العلماء- رحمهم الله- فيما يحصل به التحلل الأول منها، أي: الذي يحل فيه للمحرم كل شيء حرم عليه إلا قربان النساء.
فذهب بعضهم إلى أنه يحصل بالرمي وحده، وذهب بعضهم إلى أنه يحصل بفعل اثنين من الثلاثة المذكورة.(55/326)
حصول التحلل الأول بالحلق وحده:
هذا القول يراه بعض علماء الحنفية أنه هو مذهبهم، ويرى بعضهم خلافه.
يقول الكاساني: " ثبت أن التحلل الأول من الإحرام يحصل بالحلق قبل الرمي، ولا تلبية بعد الرمي. . . إلى أن قال: فإذا حلق الحاج، أو قصر، حل له كل شيء حظر عليه بالإحرام إلا النساء عند عامة العلماء. . . إلى أن قال: والأصل أن في الحج إحلالين: الإحلال الأول بالحلق أو التقصير، ويحل به كل شيء إلا النساء.
والإحلال الثاني بطواف الزيارة، ويحل به النساء " (1) .
وقال قبل هذا: " فصل: وأما الحلق فحكمه حصول التحلل، وهو صيرورته حلالا يباح له جميع ما حظر عليه من الإحرام إلا النساء، وهذا قول أصحابنا " (2) اهـ.
وقال السرخسي: فالحاصل أن في الحج إحلالين: أحدهما بالحلق، والثاني بالطواف؛ فبالحلق يحل له كل شيء كان حراما عليه إلا النساء (3) اهـ.
وقال ابن عابدين: " قوله: (وحل له كل شيء) أي: من محظورات الإحرام، كلباس المخيط، وقص الأظافر. وأفاد أنه لا
__________
(1) بدائع الصنائع (2 \ 157، 159) .
(2) بدائع الصنائع (2 \ 142) .
(3) المبسوط (4 \ 22) .(55/327)
يحل بالرمي قبل الحلق شيء، وهو المذهب عندنا، كما في " شرح اللباب " للقاري عن الفارسي.
وفي شرحه على النقابة: والرمي غير محلل من الإحرام عندنا في المشهور، ومحلل عند مالك، والشافعي، وفي غير المشهور عندنا. نص على التحلل بالرمي عندنا في شرح المبسوط لخواهر زادة، في " شرح الجامع الصغير " لقاضي خان بقوله: وبعد الرمي قبل الحلق حل له كل شيء إلا النساء والطيب، وعن أبي يوسف أنه يحل له الطيب أيضا " (1) اهـ.
وخالفهم الإمام الطحاوي فقال: " قد ثبت بما ذكرنا أنه لا بأس باللباس بعد الرمي والحلق، وقد قال ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده. ثم ذكر بسنده من القائلين بذلك: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعائشة أم المؤمنين، وابن الزبير، رضي الله عنهم. ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد رضي الله عنهم. وقد روينا ذلك عن جماعه من التابعين " (2) اهـ باختصار.
وقال ابن قدامة: " فصل: ظاهر كلام الخرقي هاهنا أن الحل إنما يحصل بالرمي والحلق معا. وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول الشافعي، وأصحاب الرأي " (3) اهـ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين، رد المحتار (2 \ 517) .
(2) شرح معاني الآثار (2 \ 231، 232) .
(3) المغني لابن قدامة (5 \ 309) .(55/328)
حصول التحلل الأول برمي جمرة العقبة وحدها:
هذا القول قال به المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال أبو بكر بن حسن الكشناوي: " التحلل الأصغر، قد حصل برمي جمرة العقبة، كما يحصل بخروج وقت أدائها، ولو لم يرمها. وبرميها يحل له كل شيء إلا الجماع، ومقدماته، وعقد النكاح، والصيد، فحرمتها باقية حتى يطوف طواف الإفاضة. . . إلى أن قال: قال النفراوي في " الفواكه ": اعلم أنه قد تقرر أن للحج تحللين: أصغر، وأكبر؛ فالأكبر: طواف الإفاضة؛ لأنه يحل به كل ما كان محرما على المحرم. والأصغر: رمي جمرة العقبة؛ لأنه إنما يحل به غير النساء، والصيد، ويكره مس الطيب. ومثل رميها بالفعل فوات وقت أدائها، وهو طلوع الفجر، إلى غروب الشمس؛ لأن الليل قضاء " (1) اهـ.
ونقل مثل ذلك العلامة محمد العليش في شرح مختصر خليل (2) .
وبنحوه نقل الباجي (3) وابن رشد (4) وابن عبد البر (5) وزاد ابن عبد البر: أن هذا المذهب هو قول الشافعي، وسائر العلماء القائلين بجواز الطيب عند الإحرام، وقبل الطواف بالبيت، على حديث عائشة " اهـ.
__________
(1) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك (1 \ 471) .
(2) مختصر خليل المسمى شرح منح الجليل على مختصر خليل (1 \ 490) .
(3) المنتقى للباجي (3 \ 56) .
(4) بداية المجتهد (1 \ 363) .
(5) الاستذكار (13 \ 227، 228) رقم 18670، 18674.(55/329)
وقال ابن قدامة: " وعن أحمد أنه إذا رمى الجمرة فقد حل. وإن وطئ بعد جمرة العقبة، فعليه دم، ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق. وهذا قول عطاء، ومالك، وأبي ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى " (1) اهـ.
قلت: والمتقرر عند الشافعية - كما سيأتي إن شاء الله- أنهم يفصلون في الحلق بقولهم: إن قلنا: الحلق نسك حصل التحلل بفعل اثنين من ثلاثة: الرمي والحلق وطواف الإفاضة. وإن قلنا: إباحة بعد حظر حصل التحلل بدونه؛ أي بفعل واحد من اثنين.
__________
(1) المغني لابن قدامة (5 \ 309) .(55/330)
حصول التحلل الأول بفعل اثنين من الثلاثة: الرمي والحلق أو التقصير والطواف بالبيت:
هذا مذهب الشافعية، والصحيح المشهور في مذهب الحنابلة.
قال الشيرازي: الشافعي في المهذب: " إن قلنا: إن الحلق نسك حصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، وهي: الرمي، والحلق، والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثالث. وإن قلنا: إن الحلق ليس بنسك، حصل التحلل الأول بواحد من اثنين: الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثاني " اهـ.
وقرره شارحه الإمام النووي (1) ، والبغوي (2) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب (8 \ 162) .
(2) شرح السنة للبغوي (7 \ 209) .(55/330)
وقال الماوردي: " فالرمي نسك يتحلل به، ولا يختلف، ونحر الهدي ليس بنسك لا يختلف. وفي الحلق قولان مضيا: أحدهما: أنه نسك يتحلل به.
والثاني: أنه إباحة بعد حظر " (1) اهـ.
وقال ابن قدامة: " مسألة: قال: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء) وجملة ذلك: أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة، ثم حلق، حل له كل ما كان محظورا بالإحرام إلا النساء.
هذا هو الصحيح من مذهب أحمد رحمه الله، نص عليه في رواية جماعة. فيبقى ما كان محرما عليه من النساء، من الوطء، والقبلة، واللمس لشهوة، وعقد نكاح، ويحل له ما سواه، هذا قول ابن " الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبيد الله بن الحسن، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وروي أيضا عن ابن عباس " (2) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرواية المنصوصة عن الإمام أحمد رحمه الله: " قال القاضي: وهي أصح الروايتين " (3) اهـ.
وقال المرداوي رحمه الله: " وهو الصحيح من المذهب " (4) .
وقال العلامة ابن مفلح رحمه الله: " فعلى الرواية الثانية:
__________
(1) الحاوي الكبير (4 \ 189) .
(2) المغني لابن قدامة (5 \ 307) .
(3) شرح العمدة لشيخ الإسلام (2 \ 540) .
(4) الإنصاف (4 \ 41) .(55/331)
الحلق إطلاق من محظور. وفي التعليق: نسك، كالمبيت بمزدلفة، ورمي اليوم الثاني، والثالث. واختار الشيخ أنه نسك، ويحل قبله " (1) اهـ.
قلت: ويعني بالشيخ ابن قدامة، كما تقدم عنه قريبا أنه صحح حصول التحلل الأول بمجرد الرمي فقط.
وقال الغزالي رحمه الله بعد ذكره للرمي والحلق: " ومهما حلق بعد رمي الجمرة فقد حصل له التحلل الأول، وحل له كل المحذورات إلا النساء والصيد. . . إلى أن قال: وأسباب التحلل الأول: الرمي، والحلق، والطواف الذي هو ركن، ومهما أتى باثنين من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين " (2) اهـ.
هذا وقد أجمل بعض أهل العلم في نقل مذاهب العلماء في هذه المسألة، وذلك على النحو التالي: قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهم، يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر وذبح وحلق أو قصر، فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء.
وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " حل له كل شيء إلا النساء والطيب ".
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من
__________
(1) الفروع لابن مفلح (3 \ 515) .
(2) إحياء علوم الدين (1 \ 304) .(55/332)
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وهو قول أهل الكوفة " (1) اهـ.
وقال ابن هبيرة رحمه الله تعالى: " واتفقوا على أن التحلل الأول يحصل بشيئين من ثلاثة، هي: الرمي، والحلق، والطواف، فهو يحصل بالرمي والحلق، أو بالرمي والطواف، أو بالطواف والحلق " (2) اهـ.
ونقل العيني رحمه الله عن ابن المنذر رحمه الله ما نصه: " قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيما أبيح للحاج بعد رمي جمرة العقبة، قبل الطواف بالبيت، فروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وابن الزبير، وعائشة رضي الله عنها أنه يحل له كل شيء إلا النساء. وهو قول سالم، وطاوس، والنخعي، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور " (3) اهـ.
وقال العيني أيضا: " وأما الطيب بعد رمي جمرة العقبة، فقد رخص فيه ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وعائشة، وابن جبير، والنخعي، وخارجة بن زيد، وهو قول الكوفيين، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وكرهه سالم ومالك " (4) اهـ.
__________
(1) سنن الترمذي (3 \ 259) رقم (917) .
(2) الإفصاح (1 \ 296) .
(3) عمدة القاري (10 \ 93) .
(4) عمدة القاري (9 \ 157) .(55/333)
وقال ابن رشد رحمه الله تعالى: " والتحلل تحللان: تحلل أكبر، وهو طواف الإفاضة، وتحلل أصغر، وهو رمي جمرة العقبة " (1) .
وقال في موضع آخر: " للحج تحلل يشبه السلام في الصلاة، وهو التحلل الأكبر، وهو الإفاضة، وتحلل أصغر. وهل يشترط في إباحة الجماع التحللان أو أحدهما؟ ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد فإنهم اختلفوا فيه.
المشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب، وقيل عنه: إلا النساء، والطيب، والصيد؛ لأن الظاهر من قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (2) أنه التحلل الأكبر.
واتفقوا أيضا أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت
__________
(1) بداية المجتهد (1 \ 363) .
(2) سورة المائدة الآية 2(55/334)
وسعى بين الصفا والمروة، وإن لم يكن حلق، ولا قصر؛ لثبوت الآثار في ذلك، إلا خلافا شاذا " (1) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وإذا فعل ذلك (يعني الرمي والحلق) فقد تحلل باتفاق المسلمين التحلل الأول " (2) اهـ.
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: " فإذا أتوا منى أحببنا لهم التطيب بعد أن يرموا جمرة العقبة. . . إلى أن قال: ويحلقون أو يقصرون، والحلق أفضل للرجال، وينحرون الهدي إن كان معهم، ثم قد حل ما كان من اللباس حراما على المحرم، وحل لهم التصيد في الحل، والتطيب حاشا الوطء فقط " (3) .
وقال في موضع آخر: " وأما اختيارنا الطيب بمنى قبل رمي الجمرة فلما قد ذكرنا قبل في اختيار التطيب للإحرام من النص.
وممن قال بذلك من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم، فأغنى عن إعادته.
وأما قولنا: أن يرمي الجمرة، وبدخول وقتها يحل للمحرم بالحج أو القران كل ما كان عليه حراما من اللباس، والطيب، والتصيد في الحل، وعقد النكاح لنفسه، ولغيره، حاشا الجماع فقط، فإنه حرام عليه بعد حتى يطوف بالبيت- فهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم.
__________
(1) بداية المجتهد (1 \ 380) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (26 \ 137) .
(3) المحلى لابن حزم (7 \ 147) .(55/335)
وقال مالك وسفيان: إذا رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء والتصيد والطيب. . . إلى أن قال: فصح أن الإحرام قد بطل بدخول وقت الرمي، والحلق، والنحر، رمى أو لم يرم، حلق أو لم يحلق، نحر أو لم ينحر، طاف أو لم يطف. وإذا حل له الحلق الذي كان حراما في الإحرام، فبلا شك أنه قد بطل الإحرام، وبطل حكمه. وإذا كان ذلك فقد حل " (1) انتهى باختصار.
قلت: وخلاصة قول ابن حزم هذا أمور:
1- أنه اختار الطيب بمنى قبل رمي جمرة العقبة.
2 - ذكر الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، وقال بعدها: " ثم قد حل للحاج ما كان من اللباس حراما على المحرم ".
3 - أحب للحاج التطيب بعد رمي جمرة العقبة. وهذا ظاهره التعارض مع فقرة واحد.
4 - يرى أن دخول وقت رمي جمرة العقبة يحل به للمحرم كل ما كان عليه حراما حاشا الجماع. ثم نسبه أيضا للإمام أبي حنيفة والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم.
وجاء في السيل الجرار ما نصه: " السابع: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، مرتبة مباحة طاهرة غير مستعملة. ووقت أدائه من فجر النحر غالبا إلى فجر ثانيه، وعند أوله يقطع التلبية، وبعد يحل له غير الوطء " اهـ وقرره الشوكاني (2) .
__________
(1) المحلى (7 \ 183، 184، 185) .
(2) السيل الجرار (2 \ 186، 205) .(55/336)
أدلة مذاهب أهل العلم في التحلل الأول من الإحرام:
لم أجد دليلا لقول من قال: التحلل الأول يحصل بالحلق أو التقصير فقط.
وأما قول من قال: يحصل التحلل الأول من الإحرام بالرمي وحده، فدليله حديث عائشة، وأم سلمة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء» .
أخرجه أبو داود (1) وأشار إليه الدارقطني (2) ، والطحاوي (3) من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة به.
قال أبو داود: هذا حديث ضعيف؛ الحجاج لم ير الزهري، ولم يسمع منه.
وأخرجه أحمد (4) ، وابن خزيمة (5) ، والدارقطني (6) ، والطحاوي (7) وابن أبي شيبة (8)
__________
(1) سنن أبي داود (2 \ 499) رقم (1978) .
(2) سنن الدارقطني (2 \ 276) رقم (187) .
(3) شرح معاني الآثار (2 \ 228) .
(4) مسند أحمد (6 \ 143) .
(5) صحيح ابن خزيمة (4 \ 302) رقم (2937) .
(6) سنن الدارقطني (2 \ 276) رقم (185، 186، 187) .
(7) شرح معاني الآثار (2 \ 228) .
(8) الجزء المفقود ص 241 رقم (186) .(55/337)
وإسحاق (1) ، والبيهقي (2) ، وأبو يعلى (3) من طريق الحجاج بن أرطاة أيضا عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب إلا النكاح» .
قال البيهقي: هذا من تخليطات الحجاج بن أرطاة.
وقال الزيلعي: " قال الدارقطني: لم يروه غير الحجاج بن أرطاة " (4) . وقال الحافظ ابن حجر: " ومداره على الحجاج، وهو ضعيف، ومدلس. وقال البيهقي: إنه من تخليطاته " (5) اهـ.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كانت ليلتي التي يصير إلي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مساء يوم النحر. قالت: فصار إلي. قالت: فدخل علي وهب بن زمعة، ومعه رجل من آل أبي أمية متقمصين. قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوهب: "هل أفضت بعد أبا عبد الله "؟ قال: لا والله يا رسول الله. قال: " انزع عنك القميص " قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه. ثم قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: " إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن
__________
(1) مسند إسحاق بن راهويه (2 \ 431) رقم (452، 453، 454) .
(2) سنن البيهقي (5 \ 136) .
(3) مسند أبي يعلى (7 \ 441) رقم (4464) .
(4) نصب الراية (3 \ 81) .
(5) تلخيص الحبير (2 \ 260) .(55/338)
تحلوا- يعني من كل ما حرمتم منه إلا من النساء- فإذا أنتم أمسيتم قبل أن تطوفوا بهذا البيت عدتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به» . . . الحديث. أخرجه أحمد (1) وأبو داود (2) ، والحاكم (3) ، والبيهقي (4) ، من طريق محمد بن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، به.
قال النووي: " وهذا الإسناد صحيح، والجمهور على الاحتجاج بمحمد بن إسحاق إذا قال: " حدثنا "، وإنما عابوا عليه التدليس. والمدلس إذا قال: " حدثنا " احتج به. وإذا ثبت أن الحديث صحيح، فقد قال البيهقي: " لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به " هذا كلام البيهقي. قلت: فيكون الحديث
__________
(1) مسند أحمد (6 \ 295) .
(2) سنن أبي داود (2 \ 509) رقم (1999) .
(3) المستدرك (1 \ 489) .
(4) سنن البيهقي (5 \ 136) .(55/339)
منسوخا، دل الإجماع على نسخه، فإن الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ، لكن يدل على ناسخ. والله أعلم " (1) اهـ.
قلت: ونص البيهقي هكذا: " وقد رويت تلك اللفظة في حديث أم سلمة، مع حكم آخر، لا أعلم أحدا من الفقهاء يقول بذلك " اهـ.
وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: " وذكر ابن حزم أنه مذهب عروة بن الزبير " (2) اهـ.
قلت: ابن حزم لم يصحح الحديث.
وإليك نصه: " ولا يصح؛ لأن أبا عبيدة، وإن كان مشهور الشرف والجلالة في الرياسة، فليس معروفا بنقل الحديث، ولا معروفا بالحفظ، ولو صح لقلنا به مسارعين إلى ذلك. وقد قال به عروة بن الزبير " (3) اهـ.
قلت: أبو عبيدة وثقه الحافظ الذهبي في الكاشف. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. أما المتنازع فيه من الحديث فلفظ: «فإذا أنتم أمسيتم قبل أن تطوفوا بهذا البيت عدتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به» . أما لفظ: «إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء» -فما زال أهل العلم يستدلون به على حصول التحلل الأول بالرمي، والحلق معا، كما فعل ابن قدامة (4)
__________
(1) المجموع شرح المهذب (8 \ 165) .
(2) التلخيص الحبير (2 \ 260) .
(3) المحلى لابن حزم (7 \ 189) .
(4) المغني لابن قدامة (5 \ 309) .(55/340)
والزيلعي (1) وعلى حصوله بالرمي فقط كما فعل ابن قدامة أيضا (2) .
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذاك أم لا؟» أخرجه الإمام أحمد هكذا مرفوعا، من طريق وكيع، ثنا سفيان عن سلمة، عن الحسن العرني، عن ابن عباس، به (3) .
قال النووي: " هكذا رواه النسائي وابن ماجه مرفوعا، وإسناده جيد إلا أن يحيى بن معين وغيره قالوا: يقال: إن الحسن العرني لم يسمع ابن عباس. ورواه البيهقي موقوفا على ابن عباس، والله تعالى أعلم " (4) اهـ.
قلت: الحديث جاء من طريق وكيع أيضا، وعبد الرحمن بن مهدي عند أحمد (5) ومن طريق يزيد هو ابن هارون عند أحمد
__________
(1) نصب الراية (3 \ 81) .
(2) المغني (5 \ 310) .
(3) مسند الإمام أحمد (1 \ 134) .
(4) المجموع شرح المهذب (8 \ 163) .
(5) مسند أحمد (1 \ 344) .(55/341)
أيضا (1) ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عند النسائي (2) ، وابن ماجه (3) ومن طريق وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عند ابن ماجه أيضا (4) ، ومن طريق وكيع عند ابن أبي شيبة (5) ، ومن طريق أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد النبيل عند الطحاوي (6) ، ومن طريق عبد الرزاق وابن وهب عند البيهقي (7) -ثمانيتهم عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن بن عبد الله العرني، عن ابن عباس، موقوفا عليه.
وعلى هذا لم يروه النسائي وابن ماجه مرفوعا حسب ما وقفت عليه، وإنما جاء مرفوعا عند أحمد كما تقدم فقط. وأكثر ما فيه أنه قال له رجل: " والطيب؟ " فقال: " أما أنا فقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو؟.
قال الطحاوي: " وفيه أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يضمخ رأسه بالمسك، ولم يخبر بالوقت الذي فعل فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وقد يجوز أن يكون ذلك من
__________
(1) مسند أحمد (1 \ 369) .
(2) سنن النسائي (5 \ 277) .
(3) سنن ابن ماجه (2 \ 1011) رقم (3041) .
(4) سنن ابن ماجه (2 \ 1011) رقم (3041) .
(5) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود ص 241.
(6) شرح معاني الآثار (2 \ 229) .
(7) سنن البيهقي (5 \ 136) .، ومحمد بن كثير عند الطبراني 05 الكبير للطبراني (12 \ 140) رقم (12705) .(55/342)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الحلق، ويجوز أن يكون بعده.
إلا أن أولى الأشياء بنا، أن نحمل ذلك على ما يوافق ما قد ذكرناه عن عائشة رضي الله عنها، لا على ما يخالف ذلك، فيكون ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله من ذلك كان بعد رميه الجمرة، وحلقه، على ما في حديث عائشة رضي الله عنها " (1) اهـ.
هذا من حيث دلالة الحديث على المسألة، أما من حيث إسناده فقال الشوكاني: " قال في البدر المنير: إسناده حسن، كما قاله المنذري، إلا أن يحيى بن معين وغيره قالوا: يقال: إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس " (2) اهـ.
قلت: وقال العلائي في الحسن العرني: " قال أحمد بن حنبل: لم يسمع من ابن عباس شيئا " (3) اهـ.
وقال الحافظ في التقريب: ثقة أرسل عن ابن عباس وهو من الرابعة.
الحاصل: أن الحديث فيه مقال، لكن قال عبيد الله المباركفوري: " وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، فيصح الاحتجاج بها على أنه يحل بالرمي كل محرم من محرمات الإحرام سوى النساء " (4) اهـ.
__________
(1) شرح معاني الآثار (2 \ 229) .
(2) نيل الأوطار (5 \ 81) ، والسيل الجرار (2 \ 205) .
(3) جامع التحصيل ص (166) رقم (136) .
(4) مرقاة المفاتيح (9 \ 323) .(55/343)
وقد استدل بعضهم (1) بحديث عائشة رضي الله عنها، على أن الرمي وحده يحصل به التحلل الأول. وذلك بلفظ: قالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي بذريرة لحجة الوداع، للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة، يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت» . أخرجه أحمد (2) ، وأبو عوانة (3) وعزاه الحافظ ابن حجر للإسماعيلي (4) ، من طريق روح - وهو ابن عبادة - ثنا ابن جريج، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبران عن عائشة، قالت. . . إلخ.
قلت: الحديث بهذا اللفظ تفرد به روح، عن ابن جريج وقد خالفه جماعة، رووه عن ابن جريج بهذا الإسناد نفسه، بدون زياده: «حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة، يوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت» . فرواه عثمان بن الهيثم بن الجهم العبدي عند البخاري (5) ، وأبي عوانة (6) . ورواه محمد بن بكر البرساني عند أحمد (7) ، ومسلم (8) ، وأبي بكر
__________
(1) انظر (حجة الوداع) للألباني، الطبعة السابعة 1405 هـ، ص (81) ، و (المنهاج) للشريم ص (77) .
(2) مسند أحمد (6 \ 244)
(3) مسند أبي عوانة، القسم المفقود ص (300) .
(4) فتح الباري (10 \ 372) .
(5) صحيح البخاري (7 \ 61) ، كتاب اللباس، باب الذريرة رقم (81) .
(6) مسند أبي عوانة، القسم المفقود ص (300) .
(7) مسند الإمام أحمد (6 \ 200) .
(8) صحيح مسلم (2 \ 847) رقم (1189) .(55/344)
الشافعي (1) والمزي (2) . ورواه محمد بن عبد الله الأنصاري عند أحمد (3) والبيهقي (4) ، والمزي (5) . ورواه سعيد بن سالم عند الشافعي (6) وأبي عوانة (7) . ورواه هشام بن سليمان المخزومي عند ابن عبد البر (8) وأبي عوانة (9) -خمستهم عن ابن جريج، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبران عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل، والإحرام» . فالاستدلال بهذا اللفظ على أن التحلل الأول يحصل بالرمي بدون الحلق ضعيف؛ لوجوه:
1 - تفرد روح بهذه الزيادة.
2 - اتفاق الشيخين على إخراجه في صحيحهيما بدونها.
ولا ريب أن اتفاقهما هو الراجح.
3 - كثرة العدد الذين رووه عن ابن جريج بدونها.
4 - أن قيد «وحين رمى جمرة العقبة (10) » لا يقتضي مباشرة الفعل
__________
(1) الغيلانيات ص (193) رقم (495) .
(2) تهذيب الكمال (21 \ 415) .
(3) مسند أحمد (6 \ 200) .
(4) السنن الكبرى (5 \ 136) .
(5) تهذيب الكمال (21 \ 415) .
(6) مسند الشافعي ص (120) .
(7) مسند أبي عوانة، القسم المفقود ص (300) .
(8) التهذيب لابن عبد البر (19 \ 299) .
(9) مسند أبي عوانة، القسم المفقود ص (300) ، ووقع عنده: أبو هشام.
(10) مسند أحمد بن حنبل (6/244) .(55/345)
مطلقا، انظر إلى قولها: «حين أحرم (1) » فإن معناه: حين أراد الإحرام.
ولهذا فإنها قيدت قولها: «وحين رمى جمرة العقبة (2) » بقولها: «قبل الطواف بالبيت (3) » وهذا القيد بالقبلية ظرف واسع.
5 - أن تطييب عائشة رضي الله عنها للنبي -صلى الله عليه وسلم- جاء مقيدا بوقت إرادة زيارة البيت للطواف.
ولا ريب أنه في هذا الوقت قد فعل الرمي والذبح والحلق.
قال الإمام النسائي: أنبأ أحمد بن حرب الطائي، قال: حدثنا ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة، قالت: «كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأطيب ما أجد لحرمه ولحله وحين يريد أن يزور البيت (4) » . إسناده صحيح رجاله ثقات.
قال السندي في شرح الحديث في قولها: «وحين يريد أن يزور البيت (5) » : " الظاهر أن الواو زائدة، أي: ولحله حين يريد. . . إلخ. أو التقدير: وكان لحله، حين يريد أن يزور. . . إلى آخره. والله أعلم " (6) اهـ.
وقال محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة - في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " من رمى الجمرة، ثم حلق أو قصر، ونحر هديا- إن كان معه- فقد حل ما حرم عليه
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (270) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/244) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/244) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/244) .
(4) المجتبى (5 \ 138) ، والكبرى (338) رقم (3671) .
(5) المجتبى (5 \ 138) ، والكبرى (338) رقم (3671) .
(6) حاشية السندي على المجتبى للنسائي (5 \ 138) .(55/346)
في الحج إلا النساء والطيب، حتى يطوف بالبيت "-: " هذا قول عمر وابن عمر، وقد روت عائشة خلاف ذلك، قالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هاتين، بعدما حلق قبل أن يزور البيت (1) » فأخذنا بقولها، وعليه أبو حنيفة والعامة من فقهائنا " اهـ. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد ترجم الإمام البخاري لحديثها بلفظ: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها (2) » بقوله: " باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة ".
وترجم ابن حبان لحديثها بلفظ: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منى، قبل أن يزور البيت» بقوله: " ذكر الإباحة للمحرم إذا أراد طواف الزيارة أن يتطيب قبل إفاضته ".
وترجم الإمام ابن خزيمة بقوله: " باب إباحة التطيب يوم النحر بعد الحلق، وقبل زيارة البيت. . . " إلخ. وستأتي هذه التراجم إن شاء الله تعالى مخرجة.
وقال الإمام الصنعاني في شرح الحديث: " ولحله، قبل أن يطوف بالبيت " وظاهر هذا أنه قد كان فعل الحلق والرمي، وبقي الطواف " (3) اهـ. ونقله عنه شمس الحق العظيم آبادي مقررا له (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1754) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .
(2) صحيح البخاري الحج (1754) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .
(3) سبل السلام (2 \ 397) .
(4) عون المعبود (5 \ 116) ، رقم (1742) .(55/347)
وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: " فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: " قبل أن يطوف بالبيت " (1) اهـ.
وسيأتي- إن شاء الله- مزيد من كلام أئمة الحديث وشراحه عند الاستدلال بهذا الحديث نفسه على أن التحلل الأول لا يحصل إلا بالرمي والحلق معا.
فالحاصل: أن الأحاديث المرفوعة المستدل بها على أن الرمي وحده يكفي في التحلل الأول مخدوشة، إما سندا، وإما دلالة، كما رأيت، ولكنها تعتضد بأحاديث موقوفة صحيحة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال ابن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: " إذا رمى حل له كل شيء إلا النساء، حتى يطوف بالبيت، فإذا طاف بالبيت حل له النساء " (2) . إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وقال أيضا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، سمع ابن الزبير يقول: "إذا رميت الجمرة من يوم النحر، فقد حل لك ما وراء النساء " (3) . إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وقال أيضا: حدثنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد،
__________
(1) فتح الباري (3 \ 399) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود ص (242) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود ص (241) .(55/348)
عن القاسم، عن ابن الزبير، قال: "إذا رمى الجمرة حل له كل شيء، إلا النساء " (1) . إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وأخرجه الحاكم من طريق إبراهيم بن عبد الله، أنبأ يزيد بن هارون، به، وزاد " والطيب " (2) إبراهيم بن عبد الله هذا هو السعدي النيسابوري، ذكره ابن حبان في الثقات (3) . وقال الحافظ ابن حجر: صدوق (4) ، لكن قال الحافظ ابن حجر: " وزيادة (والطيب) شاذة " (5) اهـ.
وأخرجه الطحاوي (6) من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد عن يحيى بن سعيد، به. ولم يذكر لفظ " الطيب ".
وروى مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة، علمهم أمر الحج. . . إلى أن قال: " فمن رمى الجمرة، فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحد نساء، ولا طيبا، حتى يطوف بالبيت " (7) . إسناده صحيح، رجاله ثقات أثبات.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود ص (242) .
(2) مستدرك الحاكم (1 \ 461) .
(3) الثقات لابن حبان (8 \ 87) .
(4) لسان الميزان. (1 \ 74) .
(5) تخريج الهداية (2 \ 27) .
(6) شرح معاني الآثار (2 \ 231) .
(7) الموطأ (1 \ 410) .(55/349)
وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم ما حرم عليكم إلا النساء، والطيب " (1) .
إسناده منقطع؛ سالم لم يلق جده عمر. قاله أبو زرعة (2) .
وقال ابن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا وكيع، عن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: " إذا رمى الجمرة، حل له كل شيء إلا النساء " (3) اهـ. عطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق يهم كثيرا، ويرسل، ويدلس، وقد عنعن هنا فالسند معلولة به.
وقال الطحاوي رحمه الله: " وقد روي عن ابن عمر ما يدل على هذا أيضا " (4) .
وقال ابن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا وكيع، عن الحسن بن عبد الله، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: " إذا رمى الجمرة حل له كل شيء، إلا النساء " (5) الحسن بن عبد الله هو القصاب، ذكره ابن حبان في الثقات (6) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله: " وروى عبد الرزاق، قال:
__________
(1) مسند الشافعي، ص (120) .
(2) المراسيل لابن أبي حاتم، ص (180) ، رقم (219) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود، ص (242) .
(4) شرح معاني الآثار (2 \ 231)
(5) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود، ص (242) .
(6) الثقات لابن حبان (6 \ 161) .(55/350)
حدثنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: " إذا رميت الجمرة، فقد حل لك كل شيء، إلا النساء، والصيد، وإن شئت أن تتطيب فتطيب، ولك أن تقبل ولا يحل لك المسيس " (1) . وعطاء لعله ابن أبي رباح.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: " فإذا رمى الجمرة، فقد انتقض بعض إحرامه، وحل له كل شيء إلا النساء " (2) اهـ.
وقال الشافعي رحمه الله: " وكذلك يتطيبان إذا رميا جمرة العقبة " (3) اهـ.
وقال أيضا: "ويأخذ حصى جمرة واحدة، سبع حصيات، فيرمي جمرة العقبة وحدها بهن، ويرمي من بطن المسيل، ومن حيث رمى أجزأه، ثم قد حل له ما حرم عليه الحج إلا النساء، ويلبي حتى يرمي جمرة العقبة بأول حصاة، ثم يقطع التلبية، فإذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل له النساء " (4) .
__________
(1) الاستذكار (13 \ 229) ، رقم (18679) .
(2) مسائل عبد الله لأبيه (ص 222) رقم (834) .
(3) الأم (2 \ 241) .
(4) الأم للشافعي (2 \ 242) .(55/351)
أدلة من قال: لا يحصل التحلل الأول إلا بالرمي والحلق معا، أو بفعل اثنين من ثلاثة: الرمي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي(55/351)
هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها» أخرجه أحمد، والبخاري (1) ، ومسلم (2) ، وابن خزيمة (3) ، وابن حبان (4) ، وابن الجارود (5) ، وأبو داود (6) ، والنسائي (7) ، والترمذي (8) ، وابن ماجه (9) ، والدارمي (10) ، وأبو عوانة (11) ، وإسحاق (12) ، وابن أبي شيبة (13) ، والطحاوي (14) ، والبيهقي (15) .
__________
(1) صحيح البخاري (2 \ 145، 195) .
(2) صحيح مسلم (2 \ 846) رقم (1189، 1190، 1191) .
(3) صحيح ابن خزيمة (4 \ 156) رقم (2583، 2934) .
(4) صحيح ابن حبان (9 \ 3766، 3881) .
(5) المنتقى، ص (110) رقم (114) .
(6) سنن أبي داود (2 \ 358) رقم (1745) .
(7) المجتبى (5 \ 137) والكبرى (2 \ 338) رقم (367) .
(8) سنن الترمذي (3 \ 259) رقم (917) .
(9) سنن ابن ماجه (2 \ 1011) رقم (3042) .
(10) سنن الدارمي، ص (428) رقم (429) .
(11) مسند أبي عوانة، القسم المفقود، ص (298، 300) .
(12) مسند إسحاق بن راهويه (2 \ 407) رقم (420) ، و (3 \ 629) رقم (664) .
(13) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود، ص (196) رقم (148) .
(14) شرح معاني الآثار (2 \ 130، 131، 228) .
(15) السنن الكبرى للبيهقي (5 \ 136) .(55/352)
وجه الدليل من الحديث يتبين من تراجم أهل العلم، وشروحهم له:
1- فقد ترجم الإمام البخاري له بقوله: " باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة " (1) .
2 - وترجم له إمام الأئمة ابن خزيمة بقوله: " باب إباحة التطيب يوم النحر بعد الحلق، وقبل زيارة البيت ضد قول من زعم أن التطيب محظور حتى يزور البيت " (2) .
3 - وترجم الإمام ابن حبان له بقوله: " باب ذكر الإباحة للمحرم إذا أراد طواف الزيارة أن يتطيب بمنى قبل إفاضته " (3) .
4 - وترجم الإمام الترمذي له بقوله: " باب ما جاء في الطيب عند الإحلال، قبل الزيارة. . . " ثم ساقه، وقال: " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، وذبح، وحلق أو قصر، فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " حل له كل شيء إلا النساء والطيب ". وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهم، وهو قول أهل الكوفة " اهـ. وتقدم.
__________
(1) صحيح البخاري (2 \ 195) .
(2) صحيح ابن خزيمة (4 \ 301) .
(3) صحيح ابن حبان (9 \ 194) .(55/353)
5 - وقال ابن خزيمة موجها لذلك: " وفي أخبار عائشة «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحله قبل أن يطوف بالبيت (1) » دلالة على أنه إذا رمى الجمرة، وذبح، وحلق، كان حلالا، قبل أن يطوف بالبيت، خلا ما زجر عنه من وطء النساء، الذي لم يختلف العلماء فيه أنه ممنوع من وطء النساء، حتى يطوف طواف الزيارة (2) اهـ.
6 - وقال الإمام الطحاوي في شرح الحديث: " فهذه عائشة رضي الله عنها، تخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطيب بعد الرمي، والحلق، قبل طواف الزيارة بما قد ذكرناه " (3) .
7 - وقال الحافظ ابن حجر في قولها رضي الله عنها: " ولحله ": " أي بعد أن يرمي، ويحلق " (4) .
وقال أيضا في موضع آخر: " وهو دال على أن للحج تحللين. فمن قال: إن الحلق نسك- كما هو قول الجمهور، وهو الصحيح من مذهب الشافعية - يوقف استعمال الطيب، وغيره من المحرمات المذكورة عليه، ويؤخذ ذلك من كونه -صلى الله عليه وسلم- في حجته رمى، ثم حلق، ثم طاف. فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: «قبل أن يطوف (5) » اهـ.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1539) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .
(2) صحيح ابن خزيمة (4 \ 304) .
(3) شرح معاني الآثار (2 \ 229) .
(4) فتح الباري (3 \ 398) .
(5) فتح الباري (3 \ 399) .(55/354)
وقال في موضع آخر: " فدل ذلك. على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، وأخذه من حديث الباب من جهة التطيب، فإنه لا يقع إلا بعد التحلل، والتحلل الأول يقع بأمرين من ثلاثة: الرمي، والحلق، والطواف. فلولا أنه حلق بعد أن رمى لم يتطيب " (1) اهـ.
8 - وقال العيني في شرحه للحديث: " (ولحله) أي لتحلله من محظورات الإحرام، وذلك بعد أن يرمي، ويحلق " (2) اهـ.
9 - وقال علي القاري في شرحه له: "ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت" أي بالتحلل الأول، وهو بالحلق " (3) اهـ.
10 - وقال محمد بن الحسن في رده على الإمام مالك في عدم إباحة التطيب بعد التحلل الأول: " وقد روت عائشة خلاف ذلك، قالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هاتين بعدما حلق، قبل أن يزور البيت (4) » فأخذنا بقولها، وعليه أبو حنيفة والعامة من فقهائنا. . . " (5) ثم أورد الحديث.
11 - وقال المباركفوري عبيد الله في شرح الحديث: " (ولحله) أي لأجل خروجه من إحرامه بعد أن يرمي، ويحلق " (6) .
__________
(1) فتح الباري (3 \ 585) .
(2) عمدة ''القاري (9 \ 157) .
(3) مرقاة المفاتيح (3 \ 241) .
(4) صحيح البخاري الحج (1754) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .
(5) موطأ مالك، رواية محمد بن الحسن الشيباني ص (166) رقم (492) .
(6) مرقاة المفاتيح (8 \ 433) .(55/355)
وقال في موضع آخر: «ويوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت (1) » : أي طواف الإفاضة، يعني بعد التحلل الأول، وهو بالحلق. وبه يظهر المناسبة بين الباب وبين هذا الحديث. . . إلى أن قال: في الحديث دليل على حل التطيب بعد رمي الجمرة، والحلق، قبل طواف الإفاضة " (2) اهـ. باختصار.
وقال في موضع آخر بعد أن سرد أقوال العلماء في المسألة: " والحاصل: أن إضافة الحل إلى ما قبل الطواف يومئ إلى أن الحل الأصغر أي التحلل الأول هو بعد الرمي والحلق، وغيرهما، سوى الطواف " مرقاة (3) اهـ.
12 - وقال الإمام الشنقيطي في دلالة الحديث على المسألة: " وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق. . إلى أن قال: والتحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول؛ لحديث عائشة المتفق عليه، الذي هو صريح بذلك " (4) اهـ. باختصار.
قلت: ومما يوضح دلالة الحديث على أن التحلل الأول حصل بالرمي والحلق معا وجوه: الأول: أن أعمال الحج التي فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر في حجته تلك أنه رمى جمرة العقبة، ثم نحر، ثم حلق، ثم طاف بالبيت، كما ثبت ذلك عنه صلى الله
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (270) ، صحيح مسلم الحج (1191) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2692) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .
(2) مرقاة المفاتيح (9 \ 263، 264) .
(3) مرقاة المفاتيح (8 \ 433) .
(4) أضواء البيان (5 \ 293) .(55/356)
عليه وسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظه: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاق: " خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس (1) » . وفي رواية: «لما رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمرة، ونحر نسكه، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: " احلق " فحلق فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس» . أخرجه أحمد (2) ، ومسلم (3) ، والنسائي (4) ، وأبو داود (5) ، والترمذي (6) ، وابن خزيمة (7) ، وابن حبان (8) ، وابن الجارود (9) ، والبيهقي (10) ، والبغوي (11) ، والحميدي (12) ، واللفظ لمسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1305) ، سنن أبو داود المناسك (1981) ، مسند أحمد بن حنبل (3/146) .
(2) مسند أحمد (3 \ 111، 208) .
(3) صحيح مسلم (2 \ 947) رقم (1305) .
(4) السنن الكبرى للنسائي (2 \ 445) رقم (4102) .
(5) سنن أبي داود (2 \ 500) رقم (1981، 1982) .
(6) سنن الترمذي (3 \ 255) رقم (912) .
(7) صحيح ابن خزيمة (4 \ 299) رقم (2928) .
(8) صحيح ابن حبان (9 \ 191) رقم (3879) .
(9) المنتقى، ص (129) رقم (484) .
(10) السنن الكبرى للبيهقي (5 \ 134) والمعرفة (7 \ 320) رقم (10189) .
(11) شرح السنة (7 \ 205) رقم (1962) .
(12) مسند الحميدي (2 \ 512) رقم (1220) .(55/357)
وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عتها التصريح بأنها طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت، وتقييدها الإحلال بقبلية طواف الزيارة يدل على أن الرمي، والحلق، قد تحقق فعلهما قبل الطواف، وأن الحل حصل بهما.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويؤخذ ذلك من كونه -صلى الله عليه وسلم- في حجته رمى، ثم حلق، ثم طاف. فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: " قبل أن يطوف " (1) اهـ.
وقال زين الدين أبو الفضل العراقي رحمه الله في شرحه للحديث: " فيه دليل على إباحة التطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل طواف الإفاضة، وهو المراد بالطواف هنا. وإنما قلنا: بعد رمي جمرة العقبة والحلق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام رتب هذه الأفعال يوم النحر هكذا: فرمى، ثم حلق، ثم طاف.
فلولا أن التطيب كان بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: " قبل أن يطوف بالبيت " (2) اهـ.
وقال النووي رحمه الله: " وأما قولها: " ولحله قبل أن يطوف " فالمراد به طواف الإفاضة. ففيه دلالة لاستباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق، وقبل الطواف. وهذا مذهب
__________
(1) فتح الباري (3 \ 399) .
(2) طرح التثريب (5 \ 77) .(55/358)
الشافعي، والعلماء كافة، إلا مالكا كرهه قبل طواف الإفاضة، وهو محجوج بهذا الحديث. . . إلى أن قال: وقولها في الرواية الأخرى: " ولحله قبل أن يطوف بالبيت " فيه تصريح بأن التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق، قبل الطواف. وهذا متفق عليه " (1) اهـ.
الوجه الثاني: أنه جاء في بعض روايات الحديث أن تطييب عائشة رضي الله عنها للنبي -صلى الله عليه وسلم- كان بعد الحلق، وذلك فيما أخرجه أبو بكر الشافعي البزاز حيث يقول: حدثني علي بن الحسن الفامي، قال: ثنا المسروقي موسى بن عبد الرحمن ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عبد الكريم، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: «كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما يذبح، ويحلق، قبل أن يزور البيت (2) » رجاله ثقات، رجال الصحيح غير شيخ المؤلف، لم أقف له على ترجمة. وإسرائيل هو ابن يونس، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري.
أما شيخ المؤلف، فقد روى عنه في هذا الكتاب أي كتاب الغيلانيات " في موضعين: هذا أحدهما، والثاني: برقم 1087.
وقد جاء برقم 738 هكذا: " حدثني علي بن الحسن القاضي، ثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا أبان
__________
(1) شرح مسلم للنووي (8 \ 99) .
(2) الغيلانيات ص (189) رقم (476) .(55/359)
العطار. . . " إلخ. وجاء برقم 1093: " وحدثنا علي بن الحسين الفامي، ثنا محمد بن شفيق. . . " إلخ.
وذكر المزي في تلاميذ موسى بن عبد الرحمن المسروقي: علي بن الحسن الفامي (1) . ولم أتوصل إلى معرفة هذا الشيخ إلى الآن، ولكن أهل العلم بالرجال قد أثنوا على مؤلف كتاب " الغيلانيات "، وصرحوا بأن أصوله صحيحة، ومتقنة، قد ضبطها. يقول تلميذه الدارقطني عندما سئل عنه: " أبو بكر جبلي، ثقة، مأمون، ما كان في ذلك الزمان أوثق منه، ما رأيت له إلا أصولا صحيحة، متقنة، قد ضبط فيها أحسن الضبط " (2) اهـ.
وقال ابن العماد عن " الغيلانيات ": " وابن غيلان آخر من روى عن تلك الأجزاء، التي هي في السماء علوا " (3) اهـ.
وقال ابن الأثير: " وكان عالما بالحديث، عالي الإسناد " (4) اهـ.
وقال الذهبي: " الإمام المحدث المتقن الحجة الفقيه مسند العراق أبو بكر البغدادي الشافعي البزاز السفار، صاحب الأجزاء الغيلانيات العالية " (5) اهـ.
__________
(1) تهذيب الكمال (29 \ 100) رقم (6278) .
(2) تاريخ بغداد (5 \ 458) .
(3) شذرات الذهب (3 \ 16) .
(4) الكامل لابن الأثير (7 \ 16) حوادث سنة 354 هـ.
(5) سير أعلام النبلاء (16 \ 39) .(55/360)
الوجه الثالث: أن عائشة روي عنها أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب إلا النكاح» . أخرجه أحمد (1) وابن أبي شيبة (2) ، وابن خزيمة (3) ، والدارقطني (4) ، وأبو يعلى (5) ، والطحاوي (6) ، والبيهقي (7) ، من طريق الحجاج بن أرطاة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة به. وتقدم تضعيف أهل العلم للحجاج وأن هذا من تخليطاته.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: " إذا رمى، وذبح، وحلق، فقد حل له كل شيء إلا النساء والطيب ". قال سالم: وكانت عائشة تقول: " فقد حل له كل شيء إلا النساء "، وتقول: «أنا طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم» - ". أخرجه إسحاق بن راهويه (8) ، والنسائي (9) ، من طريق عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: فذكره. إسناده صحيح، رجاله ثقات.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (6 \ 143) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفقود، ص (241) .
(3) صحيح ابن خزيمة (4 \ 302) رقم 2937.
(4) سنن الدارقطني (2 \ 176) رقم (185، 186، 187) .
(5) مسند أبي يعلى (7 \ 442) رقم (4465) .
(6) شرح معاني الآثار (2 \ 228) .
(7) سنن البيهقي (5 \ 136) .
(8) مسند إسحاق (2 \ 539) رقم (578) .
(9) السنن الكبرى للنسائي (2 \ 460) رقم (4166) .(55/361)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: " من رمى الجمرة، ثم حلق أو قصر، ونحر هديا إن كان معه، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب، حتى يطوف بالبيت ". أخرجه مالك، عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب قال. . . الأثر (1) . إسناده صحيح، رجاله ثقات أثبات.
ومن طريق عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. . . إلخ. أخرجه الطحاوي (2) .
وقال الطحاوي أيضا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إذا حلقتم، ورميتم، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب " (3) . إسناده حسن. أبو حذيفة فيه مقال، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وقال البيهقي: أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله بن بشران العدل ببغداد، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عبد الكريم بن الهيثم، ثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب، أخبرني نافع، أن ابن عمر قال: خطب الناس عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه- بعرفة، فحدثهم عن مناسك الحج، فقال فيما يقول: " إذا كان بالغداة- إن شاء الله تعالى- فدفعتم من جمع، فمن رمى جمرة
__________
(1) موطأ مالك (1 \ 410) .
(2) شرح معاني الآثار (2 \ 231) .
(3) شرح معاني الآثار (2 \ 231) .(55/362)
القصوى، التي عند العقبة بسبع حصيات، ثم انصرف، فنحر هديا- إن كان له- ثم حلق أو قصر، فقد حل له ما حرم عليه من شأن الحج إلا طيبا، أو نساء، فلا يمس أحد طيبا ولا نساء، حتى يطوف بالبيت " (1) . إسناده صحيح. رجاله ثقات.
وأخرجه ابن خزيمة (2) ، والبيهقي (3) ، من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، قال: " إذا رمى الرجل الجمرة بسبع حصيات، وذبح، وحلق، فقد حل له كل شيء إلا النساء، والطيب ". قال سالم: وكانت عائشة تقول: "قد حل له كل شيء إلا النساء". وقالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم» - ". هذا لفظ ابن خزيمة. ولفظ البيهقي مثله، وزاد في آخر قولها: «وأنا طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم» - " يعني لحله. إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وعن هشام بن عروة، عن أم الزبير بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنها أخبرته عن عائشة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه دخل عليها عباد بن عبد الله يوم النحر، وهي تمشط جارية لها، فأنكر عليها هو وعروة بن الزبير، فقالت عائشة: " إنها قد رمت وقصرت " اهـ باختصار. أخرجه ابن
__________
(1) سنن البيهقي (5 \ 135) .
(2) صحيح ابن خزيمة (4 \ 303) رقم (2939) .
(3) سنن البيهقي (5 \ 135) .(55/363)
خزيمة (1) . ولم أقف على ترجمة لأم الزبير ولا على أختها عائشة إلا أن ابن خزيمة احتج بخبرهما هذا.
وقال ابن عبد البر: " وذكر معمر أيضا، عن ابن المنكدر، قال: سمعت ابن الزبير يقول: " إذا رميتم الجمرة، وحلقتم، وذبحتم، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء " (2) .
وقال الدارمي: أخبرنا حجاج بن المنهال، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: «كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحرم بأطيب الطيب (3) » . قال: وكان عروة يقول لنا: " تطيبوا قبل أن تحرموا، وقبل أن تفيضوا يوم النحر " (4) . إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وقال ابن هانئ: " وسألت أبا عبد الله، عن الرجل ينسى طواف الزيارة؟ قال: يرجع من حيث ما كان حتى يطوف؛ لأنه إذا حلق، وذبح فقد حل له كل شيء إلا النساء والطيب، يقول بعضهم: " والطيب " ولا يجزئه إلا أن يطوف طواف الزيارة " (5) .
الحاصل: أن القول بأن الحلق يحصل به التحلل الأول لم أقف له على دليل، والتحلل بالرمي دون الحلق لم يقم عليه دليل مرفوع صحيح أيضا، لكن صح عن عائشة، وعمر بن الخطاب،
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (4 \ 304) رقم (3940) .
(2) الاستذكار لابن عبد البر (13 \ 229) رقم (18678) .
(3) سنن الدارمي (1 \ 460) رقم (1747) .
(4) سنن الدارمي (1 \ 460) رقم (1747) .
(5) مسائل ابن هانئ للإمام أحمد (1 \ 170) رقم (858) .(55/364)
وابنه عبد الله، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم موقوفا عليهم.
وقد صح عنهم ما يعارضه كما تقدم، وأن التحلل بالرمي والحلق معا قد ثبت دليله، ومنه حديث عائشة المتقدم بلفظ: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف بالبيت، وبسطت يديها (1) » . وصح من قولها، وقول عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وهو قول الجمهور، بل لقد حكى ابن هبيرة والنووي الاتفاق عليه، وكذلك الترمذي لم يحك عن أهل العلم غيره.
فقد تقدم قول ابن هبيرة: " واتفقوا على أن التحلل الأول يحصل بشيئين من ثلاثة، هي: الرمي، والحلق، والطواف، فهو يحصل بالرمي والحلق، أو بالرمي والطواف، أو بالطواف والحلق ".
وتقدم قول النووي: " وأما قولها: " ولحله قبل أن يطوف " فالمراد به طواف الإفاضة. ففيه دلالة لاستباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق، وقبل الطواف وهذا مذهب الشافعي، والعلماء كافة، إلا مالكا كرهه قبل طواف الإفاضة، وهو محجوج بهذا الحديث.
وقولها: " لحله " دليل على أنه حصل له تحلل، وفي الحج تحللان، يحصلان بثلاثة أشياء: رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم، فإذا فعل الثلاثة حصل التحللان، وإذا فعل اثنين منهما حصل التحلل الأول، أي اثنين كانا. ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات إلا الاستمتاع
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1754) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .(55/365)
بالنساء، فإنه لا يحل إلا بالثاني. . . إلى أن قال: قولها في الرواية الأخرى: «ولحله حين حل، قبل أن يطوف بالبيت (1) » : فيه تصريح بأن التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق، قبل الطواف. وهذا متفق عليه " اهـ.
وتقدم قول الترمذي: " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهم، يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، وذبح، وحلق أو قصر، فقد حل له كل شيء حرم عليه، إلا النساء، وهو قول الشافعي، وأحمد وإسحاق.
وقد روي عن عمر بن الخطاب، أنه قال: "حل له كل شيء إلا النساء والطيب "، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهم، وهو قول أهل الكوفة ".
وقال القرطبي رحمه الله: " وروى الدارقطني، عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رميتم، وحلقتم، وذبحتم، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، وحل لكم الثياب والطيب (2) » .
وفي البخاري: عن عائشة، قالت: «طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هاتين، حين أحرم ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها (3) » . وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء، والتحلل الأكبر طواف الإفاضة، وهو الذي يحل النساء جميع محظورات الإحرام " اهـ.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1539) ، صحيح مسلم الحج (1191) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2687) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/244) ، موطأ مالك الحج (727) .
(2) سنن أبو داود المناسك (1978) ، مسند أحمد بن حنبل (6/143) .
(3) صحيح البخاري الحج (1754) ، صحيح مسلم الحج (1192) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2704) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .(55/366)
مسألة: هل يتم التحلل بدون السعي لمن عليه سعي؟
قال الإمام النووي رحمه الله: " فرع: السعي ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، ولا يجبر بدم، ولا يفوت ما دام صاحبه حيا، فلو بقي منه مرة من السعي، أو خطوة لم يصح حجه، ولم يتحلل من إحرامه، حتى يأتي بما بقي، ولا يحل له النساء، وإن طال ذلك سنين، ولا خلاف في هذا عندنا. . . إلى أن قال: قال أصحابنا: ولا بد من السعي مع الطواف إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم. قال إمام الحرمين والأصحاب: فيعد الطواف والسعي سببا واحدا من أسباب التحلل. فلو لم يرم، ولكن طاف وحلق ولم يسع لم يحصل التحلل الأول؛ لأن السعي كالجزء، فكأنه ترك بعض المرات من الطواف. وهذا لا خلاف فيه. والله تعالى أعلم " (1) اهـ.
وقال البهوتي رحمه الله: " ويحصل التحلل الأول باثنين من حلق، ورمي، وطواف. والتحلل الثاني بما بقي، مع سعي " (2) اهـ.
قال العلامة ابن قاسم رحمه الله معلقا على هذا: " وعليه فالتحلل الأول باثنين من ثلاثة، كما مر، والتحلل الثاني باثنين من أربعة، وفاقا " اهـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله: " وإن لم يكن سعى، لم يحل حتى يسعى، إن قلنا: إن السعي ركن، وإن قلنا: هو سنة، فهل
__________
(1) المجموع شرح المهذب (8 \ 81، 164) ، وشرح مسلم له (8 \ 99) .
(2) حاشية ابن قاسم على الروض المربع للبهوتي (4 \ 163) .(55/367)
يحل قبله؟ على وجهين: أحدهما: يحل؛ لأنه لم يبق عليه شيء من واجباته. والثاني: لا يحل؛ لأنه من أفعال الحج، فيأتي به في إحرام الحج كالسعي في العمرة " (1) اهـ.
__________
(1) المغني (5 \ 314) .(55/368)
مسألة: بأي شيء يكون التحلل من العمرة؟
قال الإمام النووي رحمه الله: " وأما العمرة، فليس لها إلا تحلل واحد بلا خلاف، وهو الطواف والسعي، ويضم إليها الحلق، إن قلنا هو نسك، وإلا فلا " (1) اهـ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والقول بأن الحلق نسك هو قول الجمهور، إلا رواية مضعفة عن الشافعي، أنه قال: استباحة محظور " (2) اهـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله: " والتقصير نسك وهو المشهور فلا يحل إلا به. وفيه رواية أخرى أنه إطلاق من محظور، فيحل بالطواف والسعي حسب " (3) اهـ.
وقال أيضا: " فصل: الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، في ظاهر مذهب أحمد، وقول الخرقي وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي. وعن أحمد: أنه ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند
__________
(1) المجموع (8 \ 164) .
(2) فتح الباري (3 \ 561) .
(3) المغني لابن قدامة (5 \ 244) .(55/368)
الحل، كاللباس والطيب، وسائر محظورات الإحرام. فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه، ويحصل التحلل بدونه. . . إلى أن قال: والرواية الأولى أصح " (1) اهـ.
قلت: وقد غلط شيخ الإسلام رحمه الله الرواية الثانية بقوله: " واعلم أن هذا القول غلط على المذهب، ليس عن أحمد ما يدل على هذا، بل كلامه دليل على أن الحلق من المناسك، وإنما توهم ذلك من توهمه حيث لم يوقف التحلل عليه أو حيث لم يقيد النسك بالوطء قبله. وهذه الأحكام لها مأخذ آخر، ثم هو خطأ في الشريعة كما سنذكره " (2) اهـ.
وقال أيضا رحمه الله: " وقد نص في مواضع كثيرة على أن المعتمر ما لم يحلق، أو يقصر فهو محرم " (3) اهـ. يعني بذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قلت: ومن ذلك قول أبي داود رحمه الله: " سمعت أحمد، سئل عمن دخل مكة معتمرا، فلم يقصر، حتى كان يوم التروية، عليه شيء؟ قال: هذا لم يحل بعد، يقصر، ثم يهل بالحج، وليس عليه شيء، وبئس ما صنع " (4) اهـ.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى: " سألت
__________
(1) المغني لابن قدامة (5 \ 304) .
(2) شرح العمدة لابن تيمية (2 \ 541) .
(3) شرح العمدة لابن تيمية (2 \ 540) .
(4) مسائل أبي داود للإمام أحمد، ص (130) .(55/369)
أبي، فأملى علي حين خرجت إلى مكة، قال: يحرم أهل العراق من ذات عرق، فالذي يستحب أن يهل بعمرة، حين يدخل مكة إن شاء فيطوف بالبيت. . . إلى أن قال: ثم يخرج إلى الصفا. . . إلى أن قال: فإذا سعى بين الصفا والمروة قصر من شعره ثم قد حل، فلا يزال حلالا حتى يوم التروية " (1) اهـ باختصار.
وقال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " يمسك المعتمر عن التلبية إذا استلم الحجر، والحاج إذا رمى جمرة العقبة، فإن كان ممن أهل بالعمرة طاف وسعى وحلق أو قصر، ثم قد حل " (2) اهـ. إسناده صحيح رجاله ثقات. أبو بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية. قال الحافظ في التقريب: ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير.
وعلق المحشي على لفظ: " فإن كان ممن أهل بالعمرة. . . " إلخ، بقوله: في ظ: سمعت أحمد يقول: " فإن كان " يعني: أن هذا القول من كلام أحمد.
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: " ثم إذا رأيناه إذا طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فقد حل له أن يحلق، ولا يحل له النساء ولا اللباس، حتى يحلق " (3) انتهى.
__________
(1) مسائل عبد الله لأبيه، ص (199) .
(2) مسائل أبي داود للإمام أحمد، ص (130) .
(3) شرح معاني الآثار (2 \ 230) .(55/370)
وقال ابن عبد البر رحمه الله في وصف العمرة: " فإذا طاف سبعا وسعى سبعا على سنة الطواف والسعي على حسب ما قدمنا ذكره في الحج حلق رأسه وتمت عمرته، وإن قصر من شعره أجزأ ذلك عنه، والحلق أفضل " (1) اهـ.
وفي المدونة الكبرى: " وقال لي مالك: لو أن امرأة دخلت بعمرة ومعها هدي، فحاضت بعدما دخلت مكة، قبل أن تطوف بالبيت أوقفت هديها معها حتى تطهر، ولا ينبغي لها أن تنحر هديها وهي حرام، ولكن تحبسه حتى إذا طهرت طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة، ثم نحرت هديها وقصرت من شعرها ثم قد حلت " (2) اهـ.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الإمام ابن رشد رحمه الله قال: " واتفقوا أيضا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وإن لم يكن حلق ولا قصر؛ لثبوت الآثار في ذلك، إلا خلافا شاذا " (3) .
هكذا قال رحمه الله؛ وهو خلاف ما تقدم عنهم رحمهم الله، حيث نص أصحاب المذاهب- كما رأيت- الحنفية، والشافعية، والحنابلة على أن من أعمال العمرة التي يحل بها المعتمر الحلق أو التقصير. بل قال ابن قدامة رحمه الله: إنه لا يعلم فيه خلافا. وهذا لفظه: " المتمتع الذي
__________
(1) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي (1 \ 417) .
(2) المدونة الكبرى (1 \ 328) .
(3) بداية المجتهد (1 \ 380) .(55/371)
أحرم بالعمرة من الميقات، فإذا فرغ من أفعالها، وهي الطواف والسعي، قصر أو حلق، وقد حل به من عمرته، إن لم يكن معه هدي؛ لما روى ابن عمر، قال: «تمتع الناس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة قال للناس: "من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي، فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليحلل (1) » . متفق عليه. ولا نعلم فيه خلافا. ولا يستحب تأخير التحلل. قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عمن دخل مكة معتمرا، فلم يقصر حتى كان يوم التروية، عليه شيء؟ قال: هذا لم يحل بعد، يقصر، ثم يهل بالحج، وليس عليه شيء، وبئس ما صنع " (2) . اهـ.
قال النووي رحمه الله: " أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل " فمعناه: يفعل الطواف والسعي والتقصير. وقد صار حلالا. وهذا دليل على أن التقصير أو الحلق نسك من مناسك الحج. وهذا هو الصحيح في مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء. وقيل: إنه استباحة محظور، وليس بنسك، وهذا ضعيف " (3) اهـ.
ونقل هذا الكلام الحافظ ابن حجر - رحمه الله- عن الإمام النووي في شرح. هذا الحديث مقررا له (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1692) ، صحيح مسلم الحج (1227) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2732) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1805) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .
(2) المغني لابن قدامة (5 \ 240) .
(3) شرح مسلم للنووي (8 \ 209) .
(4) فتح الباري (3 \ 540) .(55/372)
قلت: الحديث ورد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- كما قال ابن قدامة - وورد من حديث عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أيضا.
أما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فأخرجه أحمد (1) ، والبخاري (2) ، ومسلم (3) ، والنسائي (4) ، وأبو داود (5) ، بلفظ ابن قدامة هذا.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأخرجه أحمد (6) ، والبخاري (7) . ولفظه عند البخاري: «قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، أمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم يحلوا ويحلقوا أو يقصروا» . ولفظه عند أحمد: «أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحج، فلما قدم طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ولم يقصر ولم يحل من أجل الهدي، وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف، وأن يسعى، ويقصر أو يحلق، ثم يحل» .
وأما حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فأخرجه
__________
(1) مسند أحمد (2 \ 140) .
(2) صحيح البخاري (2 \ 181) باب من ساق البدن معه.
(3) صحيح مسلم (2 \ 901) رقم (1227) .
(4) المجتبى للنسائي (5 \ 151) .
(5) سنن أبي داود (2 \ 397) رقم (1805) .
(6) مسند أحمد (1 \ 241، 338) .
(7) صحيح البخاري (2 \ 189) باب تقصير المتمتع بعد العمرة.(55/373)
البخاري، وابن خزيمة (1) . ولفظه عند البخاري كما قال عطاء بن أبي رباح، «أن جابرا حدثه أنه حج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: " أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج» . . . " الحديث.
وعن المسور، ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من قضية الكتاب، قال لأصحابه: «قوموا، فانحروا ثم احلقوا» . أخرجه أحمد (2) ، والبخاري (3) ، وأبو داود (4) . وللبخاري عن المسور: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك (5) » .
وعن المسور بن مخرمة، ومروان، قالا: «قلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهدي، وأشعره بذي الحليفة، وأحرم منها بالعمرة، وحلق بالحديبية في عمرته، وأمر أصحابه بذلك، ونحر
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (4 \ 241) رقم (2785) .
(2) مسند أحمد (4 \ 326، 331) .
(3) صحيح البخاري (3 \ 182) باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط.
(4) سنن أبي داود (3 \ 209) رقم (2765) .
(5) صحيح البخاري (2 \ 207) باب النحر قبل الحلق في الحصر.(55/374)
بالحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك (1) » . أخرجه أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم به. إسناده صحيح رجاله ثقات.
الحاصل: أن الذي قام عليه الدليل، أن التحلل من العمرة يكون بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير، وهو الذي عليه جماهير العلماء كما حكاه النووي، وابن قدامة، إلا رواية ضعيفة في مذهب الشافعي وأحمد أن الحلق استباحة محظور، وهذا غلط كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وعلى هذا فلا التفات لما قال ابن رشد رحمه الله من الاتفاق على أن التحلل منها يحصل بالطواف والسعي فقط ولو لم يحلق أو يقصر.
فإن قيل: جاء في صحيح البخاري: أن عمرو بن دينار قال: «سألنا ابن عمر رضي الله عنهما عن رجل طاف بالبيت في عمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: " قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (2) » ، ونحوه من الأحاديث التي لم
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4 \ 327) .
(2) صحيح البخاري (2 \ 203) باب متى يحل المعتمر؟(55/375)
تذكر الحلق. هذا يدل على أن الحلق أو التقصير استباحة محظور وليس بنسك؛ لعدم ذكر الحلق.
قيل: قال الحافظ ابن حجر: " أجاب من قال بأنه نسك بأنها سكتت عنه، ولا يلزم من ذلك ترك فعله، فإن القصة واحدة، وقد ثبت الأمر بالتقصير في عدة أحاديث. . . واختلفوا فيمن جامع قبل أن يقصر بعد أن طاف وسعى، فقال الأكثر: عليه الهدي. وقال عطاء: لا شيء عليه. وقال الشافعي: تفسد عمرته، وعليه المضي في فاسدها وقضاؤها " (1) اهـ بتصرف.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) فتح الباري (3 \ 618) .(55/376)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عن حكم الزواج المدني
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية نظرت في البيانات الصادرة عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في لبنان، وعن مجلس المفتين برئاسة سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ / محمد رشيد قباني، المتضمنة رفض مشروع قانون الأحوال الشخصية الاختياري (نظام الزواج المدني) الصادر من رئاسة الجمهورية اللبنانية؛ لما يتضمنه هذا المشروع من أمور كثيرة مخالفة للشريعة الإسلامية بل وللشرائع السماوية كلها، حيث يسمح للمسلمة أن تتزوج بغير المسلم، وللأخ أن يتزوج أخته من الرضاع، ولا يسمح للرجل بالطلاق، ولا يجعل اختلاف الدين مانعا من التوارث بين الزوجين، ويمنع من تعدد الزوجات، إضافة إلى أنه لا يرجع في هذا العقد إلى حكم الشرع وإنما يرجع فيه إلى القانون المدني.
وبناء على ذلك فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية تؤيد ما صدر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وعن مجلس المفتين في لبنان من رفض هذا(55/377)
القانون وإبطاله شرعا، وتحذر المسلمين منه؛ لأنه قانون مخالف للشريعة الإسلامية فلا يترتب عليه شيء من أحكام الزواج الشرعي، من حل الوطء والتوارث وإلحاق الأولاد وغير ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله الغديان ... بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن باز.(55/378)
دعوة إلى مساعدة مسلمي كوسوفا
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين من الملوك والأمراء والأغنياء، وفقهم الله لكل خير، وجعلنا وإياهم ممن يعين على نوائب الحق، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فمما لا يخفى على الجميع ما أصيب به الشعب الكوسوفي من الظلم والعدوان والقتل والتشريد من الصرب المعتدين. ولا شك أن ذلك يوجب على المسلمين عموما التعاون مع إخوانهم المسلمين في كوسوفا، والوقوف في صفهم، وإمدادهم بأنواع المساعدة، بواسطة هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بالمملكة العربية السعودية، وبواسطة مؤسسة الحرمين الخيرية بالمملكة أيضا؛ لأن الجهتين المذكورتين قائمتان بنشاط متواصل في نصر إخوانهم في كوسوفا، وإمدادهم بأنواع المساعدة، وقد قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) ، وقال سبحانه:
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(55/379)
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وقال عز وجل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) ، وقال سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه (4) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (5) » ،
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (6) » .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وأسأل الله أن يخذل أعداء الإسلام ويجعل كيدهم في
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 72
(3) سورة محمد الآية 7
(4) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب نصر المظلوم برقم (2266) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (4684) .
(5) رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم (5552) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (4685) .
(6) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه برقم (2262) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (4677) .(55/380)
نحورهم، وأن ينصر المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق ويكفيهم شر أعدائهم، وأن يعينهم على التمسك بدينهم والثبات عليه، وأن يكفيهم شر الأعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(55/381)
حديث شريف
عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية بنت حيي رضي الله عنها أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال: شيئا (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(55/382)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1)
(سورة البينة، الآية 5)
__________
(1) سورة البينة الآية 5(56/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(56/2)
مجلة البحوث الإسلامية
ISLAMIC RESEARCH MAGAZINE
تصدرها
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
عنوان المراسلات
مجلة البحوث الإسلامية
صندوق بريد 22571 - الرياض - الرمز البريدي (11416)
هاتف (4571584) - تلكس إفتاء إس جي 403090 - فاكس 4571584(56/3)
المحتويات
الافتتاحية
أهمية التمسك بعرى الإسلام وأركانه لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
كسوة الكعبة المشرفة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 21
الفتاوى
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 107
البحوث
تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان تحقيق / بدر بن محمد بن محسن العماش 145
حكم التسمية عند الوضوء د. / عبد الكريم بن يوسف بن عبد الكريم الخضر 175(56/4)
أنواع الحقوق التي تحميها العقوبات الشرعية والآثار المترتبة عليها د. / علي بن عبد الرحمن الحسون 205
البئر وضمانه د. / ياسين بن ناصر الخطيب 233
غزوة تبوك وما فيها من المعجزات للدكتور / محمد بن سعد الشويعر 315
بيان من هيئة كبار العلماء 357
الحث على العناية بكتاب الله وتعلمه لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 363
بيان من الديوان الملكي ينعي سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله) 373
بيان من الديوان الملكي بتعيين سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية 375
سماحة المفتي في سطور 377(56/5)
صفحة فارغة(56/6)
أهمية التمسك بعرى الإسلام وأركانه
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس- يعني على خمس دعائم-: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (1) » متفق على صحته.
وقد أكثر الله من ذكرها في كتابة العظيم؛ لعظم شأنها وشدة حاجة أهلها إليها؛ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويكفي لعظم شأنها أنها قرنت بالتوحيد والصلاة قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) ، ويقول سبحانه في سورة التوبة: فإن تابوا (أي: من الشرك) ، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) .
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم (8) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام برقم (16) .
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 5(56/7)
وجاء ذلك في آيات كثيرات، وفي الأحاديث الصحيحة أيضا الشيء الكثير من ذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » .
وقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن معلما ومرشدا وداعيا إلى الله عز وجل أنه قال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (2) » ، وفي لفظ: «فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله (3) »
والمعنى: ابدأ بالتوحيد والتوجه بالعبادة لله وحده، فهذا أهم أمورهم وهو توحيد الله وتقواه وهو أوجب الأمور، ولهذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله.
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة برقم (25) ، ومسلم في (الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم (22) .
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء برقم (1496) ، ومسلم في (الإيمان) باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (19) واللفظ له.
(3) رواه البخاري في (التوحيد) باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم برقم (7272) .(56/8)
فقد مكث صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يدعو إلى التوحيد قبل أن تفرض الصلوات والزكاة، يدعو الناس إلى أن يخصوا الله بالعبادة وأن يخلعوا ما كانوا يعبدون من دون الله من أصنام وأوثان وغير ذلك. ثم بعد ذلك فرضت الصلوات واستمر في الدعوة لتوحيد الله.
فالتوحيد هو أحب الأمور إلى الله وأوجبها على العبد وهو: (إخلاص العبادة لله وحده) فلا يدعى إلا الله ولا يستغاث إلا به ولا يتوكل إلا عليه مع الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين.
وأكثر الخلق في إعراض عن هذا الأمر العظيم وعدم إقبال عليه إنما يتبعون أهواءهم كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (1) .
فيجب على كل مكلف من الجن والإنس أن يتقي الله وأن يعبد الله وحده؛ لأنه خلق لهذا الأمر كما قال الله تعالى في سورة الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) .
فالإنسان خلق ليعبد ربه وليخصه بالعبادة وليدعوه وليستغيث به وليخافه ويرجوه وليصلي له وليصوم له وليزكي له وليحج له، فكل العبادات يجب أن تكون لله وحده كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (4) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 44
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163(56/9)
فالواجب على جميع الثقلين عبادة الله وحده وأن يخصوا الله بذلك، وأن يخلصوا لله في العبادة ولا يشركوا معه لا ملكا ولا نبيا ولا جنيا ولا إنسيا ولا وليا ولا غير ذلك، فالعبادة حق الله وحده كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) .
والعبادة تكون بالدعاء وبالذبح وبالنذر والصوم والصلاة والخوف والرجاء، وكثير من الناس لا يعرفون هذا الأمر ولا يخصون الله بالعبادة كما قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (4) .
فتجد بعض الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أو يدعو الولي الفلاني، وتجد آخر يدعو الحجر الفلاني أو الشجر أو غير ذلك، وكل هذا شرك أكبر. ومن ذلك دعاء الأموات كالبدوي والحسين وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أو عبد القادر الجيلاني أو الملك الفلاني أو إبراهيم أو إسماعيل أو النبي محمد أو نوح أو عيسى أو موسى أو غيرهم، فكل هؤلاء دعوتهم من دون الله والاستغاثة بهم من الشرك الأكبر وكذلك الذبح لهم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة يوسف الآية 103
(4) سورة الأنعام الآية 116(56/10)
«ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله (1) » أي ادعهم إلى أن يوحدوا الله، والمعنى يبدأ دعوته لهم بالتوحيد كما بدأ جميع الرسل دعوتهم بذلك، وذلك قبل الدعوة إلى الصلاة والزكاة وغير ذلك؛ لأن هذا هو أساس الدين وهو أساس الملة وهو أعظم واجب. يقول جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (2) ويقول جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4) ويقول جل وعلا: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5) .
وفي غالب الأمصار والبلاد- إلا من رحم الله- تجد من عبد مع الله سواه، فهذا يعبد فلانا وهذا يدعو فلانا وهذا يرجو فلانا عند شدة المصائب وعند حدوث الكروب فيفزع إلى البدوي أو إلى عبد القادر أو إلى الحسين أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى إبراهيم أو إلى إسماعيل أو إلى فلان يستعيذ بهم أو يستغيث بهم، فهذا هو الشرك الأكبر وهكذا الذبح لهم والنذر لهم، ومن ذلك أن يدعو الجن ويسألهم قائلا أيها الجن افعلوا كذا افعلوا كذا.
فالعبادة حق الله سبحانه يجب الإخلاص فيها لله. فإذا حزبك أمر فقل: يا الله أغثني، يا الله اهدني، يا الله أدخلني الجنة، يا الله بارك لي فيما أعطيتني، يا رب نجني من كذا، خلصني من كذا،
__________
(1) سبق تخريجه (8) .
(2) سورة النساء الآية 36
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة غافر الآية 14(56/11)
تتضرع إلى الله فهو الذي يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) ، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي} (3) (أي: قل يا محمد إن صلاتي) {وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) ويقول جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (6) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (7) .
فيجب على المكلفين من الإنس والجن أن يخلصوا لله في العبادة بحيث لا يدعون ولا يستغيثون ولا ينذرون إلا لله ولا يذبحون ولا يخافون من غير الله، هكذا بعث الله الرسل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (8) وقال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (9) .
هكذا كل الأنبياء كلهم دعوا الناس إلى توحيد الله، ولهذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل الذين بعثهم إلى البلاد أن يبدءوا بدعوة الناس إلى توحيد الله كما أوصى معاذا بذلك، وكذلك عليا رضي الله عنه، وكذلك أبا موسى الأشعري وكلهم
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) سورة الكوثر الآية 1
(7) سورة الكوثر الآية 2
(8) سورة النحل الآية 36
(9) سورة الأعراف الآية 59(56/12)
يدعون الناس إلى توحيد الله وطاعة الله، ثم بعد ذلك يدعون إلى الصلاة والزكاة. فالذي لا يوحد الله لا صلاة له ولا زكاة ولا صوم بل كلها باطلة؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ويقول تعالى أيضا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3) فلو أنفق الإنسان ما في الأرض ومثل الجبال وهو مشرك ما تقبل منه، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (4) .
فعلم أن المؤمن الموحد هو الذي لا يدعو إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يذبح إلا لله، فإذا حزبه أمر يقول: يا رب أعطني، يا رب اشفني، يا رب انصرني، يا رب ارزقني، يا رب نجني، يا رب أدخلني الجنة، يا رب ارزقني الولد الصالح، يا رب يسر لي الزوجة الصالحة، وهكذا حكم النذر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (5) » ، فإذا قال المسلم: (لله على أن أذبح بقرة) أو
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 72
(4) سورة الفرقان الآية 23
(5) رواه البخاري في (الأيمان والنذور) باب النذر في الطاعة برقم (6696) ، ومسلم في (النذور والأيمان) باب من نذر أن يطيع الله برقم (1526) .(56/13)
(لله على أن أذبح ناقة) أو (لله على أن أتصدق بكذا) وجب عليه هذا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه (1) » ، وهكذا لو قال: (إن شفى الله مريضي فعلي أن أذبح كذا لله) وجب عليه ذلك إذا شفى الله مريضه، ولكن لا ينبغي له النذر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا وإنما يستخرج به من البخيل (2) » متفق على صحته. أما لو قال: (إن شفى الله مريضي فلسيدي البدوي كذا أو للولي عبد القادر كذا أو للولي الفلاني كذا) فهذا شرك أكبر، ولهذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد (باب من الشرك النذر لغير الله) وقال: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) وقال: (باب من الشرك الاستعانة بغير الله) ، ومقصوده رحمه الله بهذه الأبواب التحذير من الشرك؛ لكونه أعظم الذنوب. وكثير من الحجاج عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما يدعونهم من دون الله ويستغيثون بهم وهذا هو الشرك الأكبر، وهكذا في مقبرة البقيع يقع مثل ذلك من بعض الحجاج، كما تفعل الرافضة وأشباههم من عباد القبور فهذا كله من الشرك الأكبر.
فلا يدعى النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا غيرهم من الأموات ولا الملائكة ولا الجن؛ لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، فالنبي صلى الله عليه
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(2) رواه البخاري في (الأيمان والنذور) باب الوفاء بالنذر برقم (6693) ، - ومسلم في (النذر) باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا برقم (1640) .(56/14)
وسلم يصلى عليه: (اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم) يصلى عليه ويتعبد بشريعته. أما العبادة فحق لله، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .
وقد يقول بعض الحجاج وغيرهم وقفت عند قبرك يا رسول الله انصرني أو اشف مريضي أو اشفع لي فلا يجوز ذلك بل هو من الشرك الأكبر. أما إن قال في دعائه لله: اللهم شفع في نبيك يوم القيامة إذا بعث الناس فلا بأس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يشفع في المؤمنين يوم القيامة حتى يدخلوا الجنة، ويشفع في كثير من العصاة الموحدين فيخرجهم الله من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم بعد أن يأذن الله له في ذلك كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما، أما بعد الموت وقبل البعث فلا يدعى ولا يستغاث به صلى الله عليه وسلم وهكذا بقية الأنبياء، وهكذا الصالحون وهكذا غيرهم فلا يدعى غائب ولا ميت ولا جماد كالصنم والشجر وغير ذلك، أما الحي الحاضر القادر فلا بأس أن يسأل فيما تجيزه الشريعة المطهرة كأن تقول يا فلان ساعدني في ثمن شراء السيارة، أو في إصلاح المزرعة، أو تطلب منه قرضا وهو حي يسمع كلامك؛ لأنه قادر كما قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع القبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (3)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة القصص الآية 15(56/15)
وهكذا خوف الإنسان من اللصوص فيضع حرسا كما قال الله تعالى في قصة موسى أيضا: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} (1) أي من مصر خائفا من فرعون؛ لأن فرعون له سلطة وقدرة فخرج موسى خائفا من فرعون - فلا بأس، كأن يكون هناك بلد فيه شر فيخرج المسلم منه اتقاء ذلك الشر، أو يؤذى المسلم فيضع حرسا فلا بأس. أما الخوف من أصحاب القبور ودعاؤهم من دون الله، هكذا دعاء الجن فهو شرك أكبر، والله جل وعلا يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) .
أما الذبح للضيف مثلا فلا بأس، وكذلك الذبح للأكل، أما للجني الفلاني أو لصاحب قبر حتى يشفع لك أو حتى يجيرك من كذا أو حتى يعينك على كذا فهذا من الشرك الأكبر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (3) » ، ولأنه عبادة عظيمة صرفها لغير الله فكان مشركا بالله عز وجل وهذا أمر خطير جدا ويجب الحذر منه.
ثم الصلاة أول شيء بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يسلم المسلم إلا بهما، فإذا قالهما صادقا مخلصا مؤمنا بأن الله هو المستحق للعبادة ومؤمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأنه أرسل بالحق لجميع الناس، صادقا في ذلك
__________
(1) سورة القصص الآية 21
(2) سورة الجن الآية 18
(3) رواه مسلم في (الأضاحي) باب تحريم الذبح لغير الله برقم (1978) .(56/16)
لا منافقا دخل في الإسلام. أما إن قالهما رياء فلا يدخل في الإسلام، وإنما يدخل فيه إذا قالهما صدقا وإخلاصا أن الله هو المعبود بالحق، وأنه هو الإله الحق المستحق للعبادة لا يستحقها سواه، ويشهد أن محمدا رسول الله شهادة جازمة صادقا فيها يعلم أنه رسول الله إلى جميع الثقلين من الجن والإنس، واتبعه وعمل بشرعه نجا وصار إلى الجنة، ومن حاد عن سبيله ولم يتبعه أو لم يصدقه صار إلى النار.
بعد هاتين الشهادتين العظيمتين الصلاة والتي يجب على كل مسلم أن يحافظ عليها في أوقاتها ويؤديها في الجماعة في المسجد إلا المريض المعذور والشيخ الكبير العاجز، هذا هو الواجب؛ لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) ولقوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (2) وهي المساجد يصف الله القائمين فيها بأنهم {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (3) ويقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) " ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا صلى فأساء في صلاته ولم يطمئن فيها أمره أن يعيدها، لما رأى منه من التساهل والنقر، فقال له رسول الله صلى
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة النور الآية 36
(3) سورة النور الآية 37
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2(56/17)
الله عليه وسلم: «ارجع فصل فإنك لم تصل (1) » ، فرجع فصلى كما صلى ولم يتم ركوعها ولا سجودها، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (2) » - وفي لفظ: «ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت (3) » - «ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (4) » .
وعلى ذلك فيجب على المسلم العناية بالصلاة كاملة حتى يطمئن فيها ويؤديها كما شرع الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «صلوا كما رأيتموني أصلي (5) » .
فهي: أي الصلاة عمود الإسلام وأول ما يعرض على المسلم من عمله فإن صلحت فقد أفلح ونجا وإن فسدت فقد خاب وخسر، وهي أيضا إن قبلت قيل من المسلم سائر عمله وإن ردت رد عليه سائر عمله. فيجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعتني بها وأن يؤديها كاملة تامة بطمأنينة
__________
(1) رواه البخاري في (الأذان) باب أمر النبي الذي لا يتم ركوعه بالإعادة برقم (793) ، ومسلم في (الصلاة) باب وجوب قراءة الفاتحة برقم (397) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) حديث رفاعة بن رافع الزرقي برقم (18516) .
(4) رواه البخاري في (الاستئذان) باب من رد فقال عليك السلام برقم (6251) .
(5) رواه البخاري في (الأذان) باب الأذان في السفر برقم (631) .(56/18)
وخشوع وعناية حتى يؤدي حق الله كما أمره، وكما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.
ثم الزكاة وهي الركن الثالث، فيجب أن يعتني المسلمون بها ويتقي كل مسلم الله الذي أعطاه المال والذي إن لم يشكر الله ويؤدي حقه فيه عذبه به فيحمى عليه يوم القيامة ويعذب به إن لم يؤد الزكاة، ويصير على صاحبه وبالا يوم القيامة، وهل يرضى عاقل أن يعذب بماله يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم لا سبيل بعدها إلا إلى الجنة أو النار، فإذا كان موحدا مسلما فإنه يدخل الجنة، أما المفرط فيدخل النار جزاء له على عدم إخلاصه.
وعلى ذلك فالواجب على جميع الناس أن يتقوا الله وأن يؤدوا حقه امتثالا؛ لقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (2) ويقول جل وعلا: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (3) .
وفي الأحاديث الصحيحة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح فيه الناس إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، والثاني يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا (4) » .
__________
(1) سورة الحديد الآية 7
(2) سورة سبأ الآية 39
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) رواه البخاري في (الزكاة) باب قول الله تعالى: '' فأما من أعطى واتقى '' برقم (1442) ، ومسلم في (الزكاة) باب في المنفق والممسك برقم (1010) .(56/19)
وفي الصدقة نفع عظيم للفقراء والمساكين، فليتق المسلمون الله في أموالهم، وليحذروا اكتساب المال من الطرق المحرمة كالغش والخداع والربا، مع الحرص على كسب المال من الطريق الشرعي المباح، وأداء حقه من الزكاة وغيرها من النفقات التي تجب لأولادك والزوجة وغيرهم ممن يجب عليك الإنفاق عليهم والإحسان إليهم.
سائلين الله المولى سبحانه أن يفقهنا في الدين، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه سميع قريب.(56/20)
كسوة الكعبة المشرفة
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على المحضر الرابع من محاضر الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء، المنصوص فيه على تأجيل البت في موضوع كسوة الكعبة المشرفة إلى الدورة المقبلة، وأن تقوم اللجنة الدائمة بإعداد بحث في الموضوع- أعدت اللجنة بحثا مختصرا في ذلك اشتمل على تمهيد، ونقل عن بعض شراح الحديث، وبعض المؤرخين، وبعض فقهاء المذاهب، وخلاصة مستنتجة من تلك النقول.
وفيما يلي ذكر ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه.
1 - تمهيد:
الكعبة المشرفة تكرم بما أكرمها الله به، وأمر عباده به، من التوجه إليها في الصلاة، والطواف بها، وعمل ما شرع عمله نحوها، مما وردت به النصوص فقط، على ضوء ما عليه الأمة من التوسط بين الجفاة والغلاة؛ فلا يجوز لأحد أن يجفو فيستنكف عمل شيء قدر عليه مما شرع عمله تجاهها، ولا أن(56/21)
يغلو فيرتفع بها عن الحد الذي شرعه الله نحوها. وقد وردت النصوص بأنها كانت تكسى في عهده صلوات الله وسلامه عليه، وعهد خلفائه رضوان الله عليهم، وأنها تنظف وتطيب، ولم يرد- فيما نعلم- أنهم أخذوا شيئا من كسوتها، أو ترابها، أو طيبها، أو آلة تنظيفها للتبرك به. والخير كل الخير في اتباعهم، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(56/22)
2 - النقول عن شراح الحديث:
قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب كسوة الكعبة) حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا سفيان، حدثنا واصل الأحدب عن أبي وائل، قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر رضي الله عنه، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته. قلت: إن صاحبيك لم يفعلا. قال: هما المرآن أقتدي بهما. (الحديث 1594- 7275) .
أ - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (باب كسوة الكعبة) أي: حكمها في التصرف فيها ونحو ذلك.
قوله: " حدثنا سفيان " هو الثوري في الطريقين، وإنما قدم الأولى مع نزولها لتصريح سفيان بالتحدث فيها، وأما ابن عيينة فلم يسمعه من(56/22)
واصل، بل رواه عن الثوري عنه، أخرجه ابن خزيمة من طريقه.
قوله: " جلست مع شيبة " هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة، نسبة إلى حجب الكعبة، يكنى أبا عثمان.
قوله: " على الكرسي " في رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عن ابن ماجه والطبراني بهذا السند: بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت، فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي، فناولته إياها، فقال: لك هذه؟ فقلت: لا، ولو كانت لي لم آتك بها. قال: أما إن قلت ذلك، فقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه، فذكره.
قوله: " فيها " أي: الكعبة. قوله: " صفراء ولا بيضاء " أي: ذهبا ولا فضة.
قال القرطبي: غلط من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها، وهو ما كان يهدى إليها، فيدخر ما يزيد عن الحاجة. وأما الحلي فمحبسه عليها كالقناديل، فلا يجوز صرفها في غيرها.
وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيما لها، فيجتمع فيها.
قوله: " إلا قسمته " أي: المال. وفي رواية عمر بن شبة في كتاب مكة عن قبيصة شيخ البخاري فيه: " إلا قسمتها ". وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند المصنف في الاعتصام: " إلا قسمتها بين المسلمين ". وعند الإسماعيلي من هذا الوجه: " لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين ". ومثله في رواية ابن مهدي المذكورة:(56/23)
" قلت: ما أنت بفاعل. قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه وكذا المحاربي، قال: ولم ذاك؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه.
قوله: " هما المرآن " تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة على كل حال، بعدها همزة أي الرجلان.
قوله: " أقتدي بهما ". وفي رواية عمر بن شبة تكرير قوله: " المرآن أقتدي بهما ". وفي رواية ابن مهدي في ألاعتصام: " يقتدى بهما " على البناء للمجهول. وفي رواية الإسماعيلي والمحاربي: " فقام كما هو وخرج ".
ودار نحو هذه القصة بين عمر أيضا وأبى بن كعب، أخرجه عبد الرزاق وعمر بن شبة من طريق الحسن: " أن عمر أراد أن يأخذ كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله، فقال له أبي بن كعب: قد سبقك صاحباك، فلو كان فضلا لفعلاه ". لفظ عمر بن شبة. وفي رواية عبد الرزاق: " فقال له أبي بن كعب: والله ما ذاك لك. قال: ولم؟ قال: أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال ابن بطال: أراد عمر لكثرته إنفاقه في منافع المسلمين، ثم لما ذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له أمسك، وإنما تركا ذلك- والله أعلم- لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف، فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب العدو.
قلت: أما التعليل الأول فليس بظاهر الحديث، بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على(56/24)
قواعد إبراهيم. ويزيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة رضي الله عنها في بناء الكعبة: " لأنفقت كنز الكعبة " ولفظه: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض (1) » . . . الحديث، فهذا التعليل هو المعتمد.
وحكى الفاكهي في (كتاب مكة) «أنه صلى الله عليه وسلم وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، فقيل له: لو استعنت بها على حربك، فلم يحركه» .
وعلى هذا فإنفاقه جائز، كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم؛ لزوال سبب الامتناع.
ولولا قوله في الحديث: " في سبيل الله " لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها، فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس. ويمكن أن يحمل قوله: " في سبيل الله " على ذلك؛ لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله.
واستدل التقي السبكي بحديث الباب على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة ومسجد المدينة، فقال: هذا الحديث عمدة في مال الكعبة، وهو ما يهدى إليها أو ينذر لها، قال: وأما قول الرافعي: لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة، ولا تعليق قناديلها فيها، حكى الوجهين في ذلك: أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف، والآخر المنع إذ لم ينقل من فعل السلف- فهذا مشكل؛ لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد، بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج، وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف.
ثم تمسك للجواز بما وقع في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي، قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1333) .(56/25)
أزاله في خلافته. ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما، قال: وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك، وقد قال الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن، فإنه لم يثبت في الذهب إلا تحريمه على الأمة فيما ينسب للذهب، وهذا بخلافه، فيبقى على أصل الحل ما لم ينته إلى الإسراف. انتهى.
وتعقب بأن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام الإجماع عليه، وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدى به، والوليد لا حجة في فعله، وترك عمربن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معان، فلعله كان لا يقدر على الإنكار خوفا من سطوة الوليد، ولعله لم يزلها؛ لأنه لا يتحصل منها شيء، ولا سيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح، فلعله رأى أن تركها أولى؛ لأنها صارت في حكم المال الموقوف، فكأنه أحفظ لها من غيره، وربما أدى قلعه إلى إزعاج بناء الكعبة فتركه. ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاستدلال بذلك للجواز.
وقوله: إن الحرام من الذهب إنما هو استعماله في الأكل والشرب إلخ، هو متعقب بأن استعماله كل شيء بحسبه، واستعمال قناديل الذهب هو تعليقها للزينة، وأما استعمالها للإيقاد فممكن على بعد، وتمسكه بما قاله الغزالي يشكل عليه بأن الغزالي قيده بما لم ينته إلى الإسراف، والقنديل الواحد من الذهب يكتب تحلية عدة مصاحف.
وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع بكون ذلك لم ينقل عن السلف.(56/26)
وجوابه: أن الرافعي تمسك بذلك مضموما إلى شيء آخر، وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب، فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب- مع عنايتهم بها وتعظيمها - دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي، وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه. والله أعلم.
(تنبيه) : قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر. يعني فلا يطابق الترجمة.
وقال ابن بطال: معنى الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة صوابا كان حكم الكسوة حكم المال تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة.
وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مقصوده التنبيه على أن كسوة الكعبة مشروع، والحجة فيه أنها لم تزل تقصد بالمال يوضع فيها على معنى الزينة إعظاما لها، فالكسوة من هذا القبيل.
قال: ويحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث، كعادته، ويكون هناك طريق موافقة للترجمة إما لخلل شرطها، وإما لتبحر الناظر في ذلك، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون أخذه من قول عمر: " لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة "، فالمال يطلق على كل شيء فيدخل فيه الكسوة، وقد ثبت في الحديث: «ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت (1) » . قال:
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2958) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3354) ، سنن النسائي الوصايا (3613) ، مسند أحمد بن حنبل (4/24) .(56/27)
ويحتمل أيضا- فذكر نحو ما قال ابن بطال وزاد- فأراد التنبيه على أنه موضع اجتهاد، وأن رأي عمر جواز التصرف في المصالح. وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة فليس صريحا في المنع، والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة، إذ في بقائها تعريض لإتلافها، ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية.
قال: ويؤخذ من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأزمنة أهم.
قال: واستدلال ابن بطال بالترك على إيجاب بقاء الأحباس لا يتم إلا إن كان القصد بمال الكعبة إقامتها وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك، ويحتمل أن يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة وسدنتها، أو إرصاده لمصالح الحرم أو لأعم من ذلك. وعلى كل تقدير فهو تحبيس لا نظير له فلا يقاس عليه. انتهى.
ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة هذا ما يتعلق بالكسوة، إلا أن الفاكهي روى في (كتاب مكة) من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " دخل على شيبة الحجبي، فقال: يا أم المؤمنين، إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر، فننزعها ونحفر بئارا فنعمقها وندفنها لكي لا تلبسها الحائض والجنب. قالت: بئسما صنعت، ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين، فإنها إذا نزعت عنها لم يضر من لبسها من حائض أو جنب. فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع له فيضعها حيث أمرته "، وأخرجه البيهقي من هذا الوجه، لكن في إسناده راو ضعيف، وإسناد الفاكهي سالم منه.
وأخرج الفاكهي أيضا من(56/28)
طريق ابن خيثم: " حدثني رجل من بني شيبة، قال: رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين ".
وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه: " أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج ". فلعل البخاري أشار إلى شيء من ذلك.
(فصل) في معرفة بدء كسوة البيت:
روى الفاكهي من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أنه سمعه يقول: «زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أسعد، وكان أول من كسا البيت الوصائل» . ورواه الواقدي عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عنه، ومن وجه آخر عن عمر موقوفا.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: بلغنا أن تبعا أول من كسا الكعبة الوصائل فسترت بها.
قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل عليه السلام.
وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه.
وحكى البلاذري أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أد.
وروى الواقدي أيضا عن إبراهيم بن أبي ربيعة، قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج.
وروى الفاكهي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب، قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها، وكانت كسوة المشركين، فكساها(56/29)
المسلمون بعد ذلك.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن حسن هو ابن صالح عن ليث هو ابن أبي سليم، قال: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسوح والأنطاع. ليث ضعيف، والحديث معضل.
وقال أبو بكر أيضا حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عجوز من أهل مكة، قالت: أصيب ابن عفان وأنا بنت أربع عشرة سنة، قالت: ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه والثوب الأبيض.
وقال ابن إسحاق: بلغني أن البيت لم يكس في عهد أبي بكر ولا عمر. يعني لم يجدد له كسوة.
وروى الفاكهي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلدها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة.
زاد في رواية صحيحة أيضا: فلما كست الأمراء الكعبة جللها القباطي، ثم تصدق بها.
وهذا يدلي على أن الأمر كان مطلقا للناس ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه، قالت: سألت عائشة أنكسو الكعبة؟ قالت: الأمراء يكفونكم.
وروى عبد الرزاق عن الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى عن هشام بن عروة أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير. وإبراهيم ضعيف. وتابعه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف أيضا، أخرجه الزبير عنه عن هشام.
وروى الواقدي عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر الباقر، قال: كساها يزيد بن معاوية الديباج. وإسحاق بن أبي فروة(56/30)
ضعيف.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرت أن عمر كان يكسوها القباطي، وأخبرني غير واحد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها القباطي والحبرات،» وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا: أصاب، ما نعلم لها من كسوة أوفق منه.
وروى أبو عروبة في (الأوائل) له عن الحسن، قال: أول من لبس الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الفاكهي في (كتاب مكة) من طريق مسعر عن جسرة، قال: أصاب خالد بن جعفر بن كلاب لطيمة في الجاهلية، فيها نمط من ديباج، فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها. فعلى هذا هو أول من كسا الكعبة الديباج.
وروى الدارقطني في (المؤتلف) أن أول من كسا الكعبة الديباج نتيلة بنت جناب، والدة العباس بن عبد المطلب، كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج.
وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت، فرده عليها رجل من جذام، فكست الكعبة ثيابا بيضا. وهذا محمول على تعدد القصة.
وحكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان.
فحصلنا في أول من كساها مطلقا على ثلاثة أقوال:
إسماعيل وعدنان وتبع وهو أسعد المذكور في الرواية الأولى، ولا تعارض بين ما روي عنه أنه كساها الأنطاع والوصائل؛ لأن(56/31)
الأزرقي حكى في (كتاب مكة) أن تبعا أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع، ثم أري أن يكسوها، فكساها الوصائل، وهي ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس بعده في الجاهلية. ويجمع بين الأقوال الثلاثة إن كانت ثابتة بأن إسماعيل أول من كساها مطلقا، وأما تبع فأولى من كساها ما ذكر، وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل. وسيأتي في أول غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان.
وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال:
خالد، أو نتيلة، أو معاوية، أو يزيد، أو ابن الزبير، أو الحجاج، ويجمع بينها بأن كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها، وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج، وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته، فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد، وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارتها، فأوليته بذلك الاعتبار، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك، فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج في كل سنة.
وقول ابن جريج أول من كساها ذلك عبد الملك يوافق القول الأخير، فإن الحجاج إنما كساها بأمر عبد الملك.
وقول ابن إسحاق أن أبا بكر وعمر لم يكسيا الكعبة فيه نظر. لما تقدم عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر كان ينزعها كل سنة. لكن يعارض ذلك ما حكاه الفاكهي، عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان أستأذن معاوية في تجريد الكعبة فأذن له، فكان أول من جردها من الخلفاء، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا(56/32)
فوق شيء. وقد تقدم سؤال شيبة لعائشة أنها تجتمع عندهم فتكثر.
وذكر الأزرقي أن أول من ظاهر الكعبة بين كسوتين عثمان بن عفان.
وذكر الفاكهي أن أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد، واستمر بعده. وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض. وكساها محمود بن سبكتكين ديباجا أصفر، وكساها الناصر العباسي ديباجا أخضر، ثم كساها ديباجا أسود، فاستمر إلى الآن.
ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية من نواحي القاهرة، يقال لها بيسوس، كان اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال ثم وقفها على هذه الجهة فاستمر، ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر، فكساها من عنده سنة لضعف وقفها، ثم فوض أمرها إلى بعض أمنائه، وهو القاضي زين الدين عبد الباسط - بسط الله له في رزقه وعمره- فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن صفة حسنها، جزاه الله على ذلك أفضل المجازاة، وحاول ملك الشرق شاه روخ في سلطنة الأشرف برسباي أن يأذن له في كسوة الكعبة فامتنع، فعاد راسله أن يأذن له أن يكسوها من داخلها فقط فأبى، فعاد راسله أن يرسل الكسوة إليه ويرسلها إلى الكعبة ويكسوها ولو يوما واحدا، واعتذر بأنه نذر أن يكسوها ويريد الوفاء بنذره، فاستفتى أهل العصر فتوقفت عن الجواب، وأشرت إلى أنه إن خشي منه الفتنة فيجاب دفعا للضرر، وتسرع جماعة إلى عدم الجواز، ولم يستندوا إلى طائل، بل إلى موافقة(56/33)
هوى السلطان، ومات الأشرف على ذلك (1) .
__________
(1) فتح الباري 3 \ 456- 460.(56/34)
ب- وقال العيني رحمه الله: مطابقته للترجمة من وجوه:
الأول: أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر بن الخطاب لما رأى قسمة الذهب والفضة صوابا كان حكم الكسوة حكم المال يجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة.
الثاني: أنه يحتمل أن يكون مقصود البخاري التنبيه على أن كسوة الكعبة مشروعة، والحجة فيها أنها لم تزل تقصد بالمال، فيوضع فيها على معنى الزينة إعظاما لها، فالكسوة من هذا القبيل.
الثالث: أنه يحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث كعادته، ويكون هناك طريق موافقة للترجمة، وتركه إياه إما لخلل شرطه وإما لتبحر الناظر فيه.
الرابع: أنه يحتمل أن يكون أخذه من قول عمر رضي الله تعالى عنه: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة. فالمال يطلق على كل ما يتمول به، فيدخل فيه الكسوة.
الخامس: أنه لعل الكعبة كانت مكسوة وقت جلوس عمر رضي الله تعالى عنه، فحيث لم ينكره وقررها دل على جوازها،(56/34)
والترجمة يحتمل أن يقال فيها: باب في مشروعية الكسوة، كما ذكرنا.
السادس: أنه يحتمل أن يكون الحديث مختصرا، طوي فيه ذكر الكسوة، فمن هذه الوجوه يتوجه الرد على الإسماعيلي في قوله: ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر، يعني فلا يطابق الترجمة، إلى أن قال: (ذكر ما يستفاد منه) فيه التنبيه على مشروعية الكسوة، وفيه ما يدل من قول عمر أن صرف المال في الفقراء والمساكين آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأمة أهم؛ لأن الأمور المتقادمة تتأكد حرمتها في النفوس، وقد صار ترك الكسوة في العرف عضا في الإسلام وإضعافا لقلوب المسلمين.
وقال ابن بطال: ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف، فلا يجوز تغييره من وجهه، وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب للعدو.
وفي شرح التهذيب قال صاحب التلخيص: لا يجوز بيع أستار الكعبة المشرفة. وكذا قال أبو الفضل بن عبد؛ لأنه لا يجوز قطع أستارها، ولا قطع شيء من ذلك، ولا يجوز نقله، ولا بيعه، ولا شراؤه.
قال: ومن عمل شيئا من ذلك كما يفعله العامة يشترونه من بني شيبة لزمه رده. ووافقه على ذلك الرافعي.
وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى الإمام يصرفه في مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واحتج بما ذكره الأزرقي: أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج.
وعند الأزرقي عن ابن عباس وعائشة أنهما قالا: ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض(56/35)
وجنب وغيرهما. وكذا قالته أم سلمة رضي الله عنها.
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن أبي ليلى، وسئل عن رجل سرق من الكعبة، فقال: ليس عليه قطع.
ويقال: الظاهر جواز قسمة الكسوة العتيقة؛ إذ بقاؤها تعريض لفسادها، بخلاف النقدين (1) .
__________
(1) عمدة القاري 5 \ 236- 238.(56/36)
3 - النقول عن المؤرخين:
أ- قال الأزرقي رحمه الله:
ذكر كسوة الكعبة في الإسلام وطيبها وخدمها وأول من فعل ذلك:
حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثنا أبي عن خالد عن ابن المهاجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عاشوراء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم عاشوراء، يوم تنقضي فيه السنة، وتستر فيه الكعبة، وترفع فيه الأعمال، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم (1) » .
وحدثني جدي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج، قال: كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء، إذا ذهب آخر الحاج، حتى كانت بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج؛ لأن يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (2003) ، صحيح مسلم الصيام (1129) ، سنن النسائي الصيام (2371) ، مسند أحمد بن حنبل (4/96) ، موطأ مالك الصيام (666) .(56/36)
حدثني جدي عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن نافع، قال: كان ابن عمر يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم القباطي والحبرة، فإذا كان يوم عرفة ألبسها إياها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة.
وأخبرني محمد بن يحى عن الواقدى عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة عن أبيه، قال: «كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج» .
ويقال: أول من كساه الديباج يزيد بن معاوية، ويقال: ابن الزبير، ويقال: عبد الملك بن مروان. وأول من خلق جوف الكعبة ابن الزبير، وأول من دعا على الكعبة عبد الله بن شيبة، ويلقب الأعجم، فدعا لعبد الملك بن هشام وكان خليفة.
حدثني محمد بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن حبيب بن أبي ثابت، قال: «كسا النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وكساها أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما» .
وأخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا سليم بن مسلم عن موسى بن عبيدة الربذي أن عمر بن الخطاب كسا الكعبة القباطي من بيت المال.
قال أبو الوليد: وحدثني جدي، قال: حدثني سعيد بن سالم عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الكعبة القباطي من بيت المال، وكان يكتب فيها إلى مصر تحاك له هناك، ثم عثمان من بعده، فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين، كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج، فكانت(56/37)
تكسى الديباج يوم عاشوراء، وتكسى القباطي في آخر شهر رمضان للفطر، وأجرى لها معاوية وظيفة من الطيب لكل صلاة، وكان يبعث بالطيب والمجمر والخلوق في الموسم في رجب، وأخدمها عبيدا بعث بهم إليها، فكانوا يخدمونها، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده.
وحدثني جدي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كسوة البيت على الأمراء.
وحدثني جدي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير كسا الكعبة الديباج.
وحدثني محمد بن يحيى عن سليم بن مسلم عن ابن جريج، قال: كان معاوية أول من طيب الكعبة بالخلوق والمجمر، وأجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت المال.
وأخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي عن عبد العزيز بن المطلب عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة، ويهدون إليها البدن عليها الحبرات، فيبعث بالحبرات إلى البيت كسوة، فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج الخسرواني، فلما كان ابن الزبير اتبع أثره فكان يبعث إلى مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة، فكانت تكسى يوم عاشوراء.
وأخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي عن عبد الله بن عمر عن نافع، قال: كان ابن عمر يجلل بدنه بالأنماط، فإذا نحرها بعث بالأنماط إلى الحجبة، فيجعلونها على(56/38)
الكعبة قبل أن تكسى الكعبة.
وأخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي عن أشياخه، قالوا: فلما ولي عبد الملك بن مروان كان يبعث كل سنة بالديباج فيمر به على المدينة، فينشر يوما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساطين هاهنا وهاهنا، ثم يطوى ويبعث به إلى مكة، وكان يبعث بالطيب إليها والمجمر وإلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان أول من أخدم الكعبة يزيد بن معاوية، وهم الذين يسترون البيت.
حدثني جدي، قال: كانت الكعبة تكسى في كل سنة كسوتين: كسوة ديباج، وكسوة قباطي، فأما الديباج فتكساه يوم التروية، فيعلق عليها القميص ويدلى ولا يخاط، فإذا صدر الناس من منى خيط القميص وترك الإزار حتى تذهب الحجاج؛ لئلا يخرقونه، فإذا كان العاشوراء علق عليها الإزار فوصل بالقميص، فلا تزال هذه الكسوة الديباج عليها حتى يوم سبع وعشرين من شهر رمضان فتكسى القباطي للفطر. فلما كانت خلافة المأمون رفع إليه أن الديباج يبلى ويتخرق قبل أن يبلغ الفطر. ويرقع حتى يسمج، فسأل مبارك الطبري مولاه وهو يؤمئذ على بريد مكة وصوافيها: في أي الكسوة الكعبة أحسن؟ فقال له: في البياض، فأمر بكسوة من ديباج أبيض، فعملت فعلقت سنة ست ومائتين، وأرسل بها إلى الكعبة، فصارت الكعبة تكسى ثلاث كسا: الديباج الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وجعلت كسوة الديباج الأبيض التي أحدثها المأمون يوم سبع وعشرين من شهر رمضان للفطر، وهي تكسى إلى اليوم ثلاث(56/39)
كسا. ثم رفع إلى المأمون أيضا أن إزار الديباج الأبيض الذي كساها يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحجاج قبل أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر الذي يخاط في العاشوراء، فبعث بفضل إزار ديباج أبيض تكساه يوم التروية أو يوم السابع، فيستر به ما تخرق من الإزار الذي كسيته للفطر، إلى أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر في العاشور. ثم رفع إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة، فزادها إزارين مع الإزار الأول، فأذال قميصها الديباج الأحمر وأسبله حتى بلغ الأرض.
سئل أبو الوليد عن أذال، فقال: أسبل.
وقال الشاعر في معنى ذلك:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها فأذالها
جعل فوقه في كل شهرين إزار، وذلك في سنة أربعين ومائتين لكسوة سنة إحدى وأربعين ومائتين. ثم نظر الحجبة فإذا الإزار الثاني لا يحتاج إليه، فوضع في تابوت الكعبة، وكتبوا إلى أمير المؤمنين أن إزارا واحدا مع ما أذيل من قمصها يجزيها، فصار يبعث بإزار واحد فتكساه بعد ثلاثة أشهر ويكون الذيل ثلاثة أشهر.
قال أبو الوليد: ثم أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله عز وجل بإذالة القميص القباطي حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين.(56/40)
حدثني جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أطيب الكعبة أحب إلى من أن أهدي إليها ذهبا وفضة.
حدثني جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره.
حدثني جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثنا هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير خلق جوف الكعبة أجمع.
حدثني جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثنا هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر، ويجمر الكعبة كل يوم جمعة برطلين من مجمر.
ما جاء في تجريد الكعبة وأول من جردها:
حدثنا أبو الوليد، قالت: حدثنا جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينزع كسوة البيت في كل سنة فيقسمها على الحاج، فيستظلون بها على السمر بمكة.
حدثني جدي، قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: كانت على الكعبة كسى كثيرة من كسوة أهل الجاهلية، من الأنطاع والأكسية والكرار والأنماط، فكانت(56/41)
ركاما بعضها فوق بعض، فلما كسيت في الإسلام من بيت المال كان يخفف عنها الشيء بعد الشيء، وكانت تكسى في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما القباطي، يؤتى به من مصر، غير أن عثمان رضي الله عنه كساها سنة برودا يمانية، أمر بعملها عامله على اليمن يعلى بن منبه، فكان أول من ظاهر لها كسوتين، فلما كان معاوية كساها الديباج مع القباطي، فقال شيبة بن عثمان: لو طرح عنها ما عليها من كسى الجاهلية فخفف عنها، حتى لا يكون مما مسه المشركون شيء لنجاستهم، فكتب في ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام، فكتب إليه أن جردها، وبعث إليه بكسوة من ديباج وقباطي وحبرة، قال: فرأيت شيبة جردها حتى لم يترك عليها شيئا مما كان عليها، وخلق جدرانها كلها وطيبها، ثم كساها تلك الكسوة التي بعث بها معاوية إليها، وقسم الثياب التي كانت عليها على أهل مكة، وكان ابن عباس حاضرا في المسجد الحرام وهم يجردونها، قال: فما رأيته أنكر ذلك ولا كرهه.
حدثني محمد بن يحيى عن الواقدي عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، قال: جرد شيبة بن عثمان الكعبة قبل الحريق فخلقها وطيبها، قلت: وما تلك الثياب؟ قال: من كل نحو، كرار وأنطاع وخيرا من ذلك، وكان شيبة يكسو منها، حتى رأى على امرأة حائض من كسوته، فدفنها في بيت حتى هلكت- يعني الثياب- حدثني محمد بن يحيى عن الواقدي عن إبراهيم بن يزيد عن ابن أبي مليكة، قالت: رأيت شيبة بن عثمان(56/42)
جرد الكعبة، فرأيت- عليها كسوة شتى، كرارا وأنطاعا ومسوحا وخيرا من ذلك.
حدثنا محمد بن يحيى عن الواقدي عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي قروة عن هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار، قال: قدمت مكة معتمرا فجلست إلى ابن عباس في صفة زمزم، وشيبة بن عثمان يومئذ يجرد الكعبة، قال عطاء بن يسار: فرأيت جدارها ورأيت خلوقها وطيبها، ورأيت تلك الثياب التي أخبرني عمر بن الحكم السلمي أنه رآها في حديث نذر أمه البدنة قد وضعت بالأرض، فرأيت شيبة بن عثمان يومئذ يقسمها أو قسم بعضها، فأخذت يومئذ كساء من نسج الأعراب، فلم أر ابن عباس أنكر شيئا مما صنع شيبة بن عثمان، قال عطاء بن يسار: وكانت قبل هذا لا تجرد، إنما يخفف عنها بعض كسوتها وتترك عليها، حتى كان شيبة بن عثمان أول من جردها وكشفها.
وأخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا هشام بن سليمان المخزومي عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أنه قال: جرد شيبة بن عثمان الكعبة قبل الحريق من ثياب كان أهل الجاهلية كسوها إياها، ثم خلقها وطيبها. قلت: وما كانت تلك الثياب؟ قال: من كل، كرارا وأنطاعا وخيرا من ذلك، وكان شيبة يقسم تلك الثياب، فرأى على امرأة حائض ثوبا من كسوة الكعبة، فرفعه شيبة فأمسك ما بقي من الكسوة حتى هلكت- يعني الثياب-.
حدثني جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة أم(56/43)
المؤمنين أن شيبة بن عثمان دخل على عائشة فقال: يا أم المؤمنين تجتمع عليها الثياب فتكثر، فيعمد إلى بيار فيحفرها ويعمقها فتدفن فيها ثياب الكعبة؛ لكي لا تلبسها الحائض والجنب. قالت عائشة: ما أصبت وبئس ما صنعت، لا تعد لذلك فإن ثياب الكعبة إذا نزعت عنها لا يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن بعها واجعل ثمنها في سبيل الله تعالى والمساكين وابن السبيل.
وأخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي عن موسى بن ضمرة بن سعيد المازني عن عبد الرحمن بن محمد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال قال: رأيت شيبة بن عثمان يسأل ابن عباس عن ثياب الكعبة، ثم ساق مثل حديث عائشة، فقال له ابن عباس مثل ما قالت عائشة رضي الله عنها.
وأخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي عن خالد بن إلياس عن الأعرج عن فاطمة الخزاعية، قالت: سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالت: إذا نزعت عنها ثيابها فلا يضرها من لبسها من الناس من حائض أو جنب، قال أبو الوليد: سمعت غير واحد من مشيخة أهل مكة يقول: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فجرد الكعبة، وأمر بالمسجد الحرام فهدم، وزاد فيه الزيادة الأولى.
وأخبرني عبد الله بن إسحاق الحجبي عن جدته فاطمة بنت عبد الله، قالت: حج المهدي فجرد الكعبة وطلا جدرانها من خارج بالغالية والمسك والعنبر، قالت: فأخبرني جدك- تعني زوجها محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الحجبي - قال: صعدنا على ظهر الكعبة بقوارير من الغالية،(56/44)
فجعلنا نفرغها على جدران الكعبة من خارج، من جوانبها كلها، وعبيد الكعبة قد تعلقوا بالبكرات التي تخاط عليها ثياب الكعبة، ويطلون بالغالية جدرانها من أسفلها إلى أعلاها. قال أبو محمد الخزاعي: أنا رأيتها وقد غير الجدر الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر، وقد انفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار أصبع من دبرها ومن وجهها، وقد رهم بالجص الأبيض.
حدثني جدي، قال: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة، فرفع إليه أنه قد اجتمع على الكعبة كسوة كثيرة حتى أنها قد أثقلها، ويخاف على جدرانها من ثقل الكسوة، فجردها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئا، ثم ضمخها من خارجها وداخلها بالغالية والمسك والعنبر، وطلا جدرانها كلها من أسفلها إلى أعلاها، من جوانبها كلها، ثم أفرغ عليها ثلاث كسى من قباط وخز وديباج، والمهدي قاعد على ظهر المسجد مما يلي دار الندوة ينظر إليها وهي تطلى بالغالية وحين كسيت، ثم لم يحرك ولم يخفف عنها من كسوتها الشيء، حتى كان سنة المائتين، وكثرت الكسوة أيضا عليها جدا فجردها حسين بن حسن الطالبي في الفتنة، وهو يومئذ قد أخذ مكة ليالي دعت المبيضة إلى نفسها وأخذوا مكة، فجردها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئا. قال جدي: فاستدرت بجوانبها وهي مجردة، فرأيت جدران الباب الذي كان ابن الزبير جعله في ظهرها وسده الحجاج بأمر عبد الملك، فرأيت جداته وعتبه على حالها، وعددت حجارته التي سد بها فوجدتها ثمانية وعشرين حجرا، في تسعة مداميك،(56/45)
في كل مدماك ثلاثة أحجار، إلا المدماك الأعلى فإن فيه أربعة أحجار، رأيت الصلة التي بنى الحجاج مما يلي الحجر، حيث هدم ما زاد ابن الزبير، قال: فرأيت تلك الصلة بينة في الجدر، وهي كالمتبرية من الجدر الآخر.
قال إسحاق: ورأيت جدرانها كلون العنبر الأشهب حين جردت، في آخر ذي الحجة من سنة ثلاث وستين ومائتين، وأحسبه من تلك الغالية. قال: وكان تجريد الحسين بن الحسن إياها أول يوم من المحرم يوم السبت سنة مائتين، ثم كساها حسين بن حسن كسوتين من قز رقيق، إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء، مكتوب بينهما: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأخيار، أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية إلى محمد بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام.
قال أبو الوليد: وابتدأت كسوتها من سنة المائتين، وعدتها إلى سنة أربع وأربعين ومائتين مائة وسبعون ثوبا.
قال محمد الخزاعي: وأنا رأيتها وقد عمر الجدر الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر، فانفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار نصف أصبع من وجهها ومن دبرها، وقد رهم بالجص الأبيض، وقد رأيتها حين جردت في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وستين ومائتين، فرأيت جدرانها كلون العنبر الأشهب من تلك الغالية (1) .
__________
(1) تاريخ الأزرقي من ص 252 إلى ص 265.(56/46)
ب- ذكر تقي الدين الفاسي صاحب شفاء الغرام ما ذكره(56/46)
الأزرقي باختصار، وزاد ما نصه: وكسيت الكعبة بعد الأزرقي أنواعا من الكساء، فمن ذلك الديباج الأبيض الخراساني والديباج الأحمر الخراساني على ما ذكر ابن عبد ربه في (العقد) ، ولنذكر كلامه بنصه لإفادته ذلك وغيره من أمر كسوة الكعبة، قال بعد أن ذكر شيئا من خبرها: " والبيت كله مستوفى إلا الركن الأسود، فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذ دنا وقت الموسم كسي القباطي، وهو ديباج أبيض خراساني، فيكون في تلك الكسوة ما دام الناس محرمين، فإذا أحل الناس ذلك يوم النحر حل البيت، فكسي الديباج الأحمر الخراساني، وفيه دارات مكتوب فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام المقبل، ثم يكسى أيضا على حال ما وصف، فإذا كثرت الكسوة فخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت وهم بنو شيبة ". انتهى كلام صاحب العقد بنصه.
وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة على ما ذكره الذهبي في (العبر) وغيرها، ورأيت في كتابه (العقد) ، ما يقتضي أنه عاش بعد ذلك سنين، كما بيناه في أصل هذا الكتاب. والله أعلم.
ومن ذلك الديباج الأبيض في زمن الحاكم العبيدي، وفي زمن حفيده المستنصر العبيدي، كساها ذلك الصليحي صاحب اليمن ومكة، وكساها أبو النصر الاستراباذي كسوة بيضاء من عمل الهند في سنة ست وستين وأربعمائة، وكسيت في هذه السنة الديباج الأصفر، وهذه الكسوة حملها السلطان محمود بن سبكتكين، ثم ظفر بها نظام الملك وزير السلطان شاه بن ألب أرسلان(56/47)
السلجوقي، فأرسل بها إلى مكة وجعلت فوق كسوة أبي النصر، وكسيت أيضا كسوة خضراء وذلك في مبدأ خلافة الناصر العباسي، ولعلها كانت تكسى ذلك من قبل. والله أعلم.
وكسيت في زمنه أيضا كسوة سوداء وفيها طراز أصفر وكان قبل ذلك أبيض، استمرت فيما أحسب تكسى الديباج الأسود إلى الآن، إلا أنها في سنة ثلاث وأربعين وستمائة كسيت ثيابا من القطن مصبوغة بالسواد، كساها ذلك العفيف منصور بن منعة البغدادي شيخ الحرم بمكة، لما تمزقت كسوتها من الريح الشديدة التي وقعت بمكة في هذه السنة، ووجدت بخط الميورقي ما يقتضي أن هذه الريح كانت في سنة أربع وأربعين وستمائة. والله أعلم.
ولما عريت الكعبة في هذا التاريخ أراد صاحب اليمن الملك المنصور أن يكسوها، فقال له ابن منعة: لا يكون هذا إلا من جهة الديوان- يعني الخليفة العباسي- ولم يكن عند ابن منعة شيء لأجل ذلك، فاقترض ثلاثمائة مثقال، واشترى بها الثياب المشار إليها، وصبغها بالسواد، وركب فيها الطرز القديمة التي كانت في كسوة الكعبة، وكساها بذلك. وفي سنة عشر وثمانمائة أحدثت في جانب الكسوة الشرقي من الكعبة جامات منقوشة بالحرير الأبيض، وصنع ذلك في سنة إحدى عشرة، وفي سنة اثنتي عشرة، وفي سنة ثلاث عشرة، وفي سنة أربع عشرة، وترك ذلك في سنة خمس عشرة وثمانمائة، وجعلت كسوة هذا الجانب كلها سوداء من غير جامات كما كانت أولا، وكذلك في سنة ست عشرة وثمانمائة، وفي سنة سبع عشرة وثمانمائة، وفي سنة ثماني(56/48)
عشرة وثمانمائة، ثم جعلت في كسوة الجانب الشرقي جامات منقوشة من الحرير الأبيض فيما تحت الطراز إلى تحت الكسوة في كل شقة من هذا الجانب، وذلك في سنة تسع عشرة وثمانمائة، وعمل في هذه السنة لباب الكعبة ستارة عظيمة الحسن، أحسن من الستاير الأولى التي شاهدناها، والجامات المشار إليها مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالبياض، وكان ذلك مكتوبا في الشقاق التي أحدثت سنة عشر وثمانمائة وذلك دوائر، واستمرت الجامات البيض المشار إليها خمس سنين متوالية بعد سنة سبع عشرة وثماني عشرة، ثم أزيلت وعوض عنها بجامات سود في سنة خمس وعشرين وثمانمائة.
وفي كسوة الكعبة طراز من حرير أصفر، وكان قبل ذلك أبيض على ما أدركناه، وأول ما عمل أصفر قبل سنة ثمانمائة بسنة أو سنتين.
وفي الطراز مكتوب آيات من القرآن العظيم، في الجانب الشرقي قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (2) ، وفي الجانب الغربي: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4) ، وفي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) سورة البقرة الآية 127
(4) سورة البقرة الآية 128(56/49)
الجانب اليماني: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ، وفي الجانب الشامي اسم صاحب مصر وأمره بعمل الكسوة، وهذا الطراز المذكور في نحو الربع الأعلى من البيت.
وذكر بعض العلماء حكمة حسنة في سواد كسوة الكعبة؛ لأنا روينا عن ابن أبي الصيف مفتي مكة، أن بعض شيوخه قال له: يا محمد تدري لم كسي البيت السواد؟ فقال: لا، قال: كأنه يشير إلى أنه فقد أناسا كانوا حوله، فلبس السواد حزنا عليهم، وهذا معنى كلام ابن أبي الصيف.
ولمهلهل الدمياطي الشاعر في سواد كسوة الكعبة والقفل:
يروق لي منظر البيت العتيق إذا ... بدا لطرفي في الإصباح والطفل
كأن حليتها السوداء قد نسجت ... من حبة القلب أو من أسود المقل
وكسوتها في هذه السنة وفيما قبلها من سبعين سنة من الوقف الذي وقفه السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر أيام سلطنته على كسوة الكعبة في كل سنة، وعلى كسوة الحجرة النبوية والمنبر النبوي في كل خمس سنين مرة.
وهذا الوقف قرية بنواحي القاهرة في طرف القليوبية مما يلي القاهرة، اشتراها الملك الصالح من بيت المال ووقفها على ما ذكر فيها. ولم يكسها أحد من الملوك بعد
__________
(1) سورة المائدة الآية 97(56/50)
ذلك إلا أخوه الملك الناصر حسن، إلا أن كسوته لم تكن لظاهر الكعبة وإنما هي لباطنها، وهي الكسوة التي في جوفها الآن.
وبلغني أنها كانت أطول من هذا بحيث تصل إلى الأرض، وهي الآن ساترة لمقدار النصف الأعلى وسقفها، وهي حرير أسود وفيها جامات مزركشة بالذهب ما خلا شقة من السقف بين الأسطوانتين اللتين تليان الباب، فإنها كمخة حرير حمراء، وفي وسطها جامة كبيرة مزركشة بالذهب، وكان إرسال السلطان حسن بهذه الكسوة في سنة إحدى وستين وسبعمائة.
وبلغني أنه كان في جوف الكعبة قبلها كسوة للملك المظفر صاحب اليمن، والملك المظفر أول من كسا الكعبة من الملوك بعد انقضاء دولة بني العباس من بغداد، وذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة، واستمر يكسوها عدة سنين مع ملوك مصر، وانفرد بكسوتها في بعض السنين، وكان المستولي لذلك غالبا.
وأول من كساها من ملوك مصر بعد بني العباس الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي، وأول سنة كسا فيها الكعبة سنة إحدى وستين وستمائة.
وممن كسا الكعبة من غير الملوك الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط بمكة، كساها من الخيرات وغيرها، فكانت كسوته بثمانية عشر ألف دينار مغربية، على ما قال ابن الأثير، وقيل بأربعة آلاف دينار، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
والكعبة تكسى في عصرنا هذا يوم النحر من كل سنة، إلا(56/51)
أن الكسوة في هذا اليوم تسدل عليها من أعلاها، ولا تسبل حتى تصل إلى منتهاها على العادة وهي شاذروان الكعبة إلا بعد أيام من النحر، ويأخذ سدنتها بنو شيبة يوم النحر ما بقي على الكعبة من كسوتها القديمة وهي مقدار نصفها الأعلى، وأخذهم للنصف الأسفل في سابع عشر ذي القعدة من كل سنة.
وذكر ابن جبير في أخبار رحلته ما يفهم أن كسوة الكعبة تشمر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة ولا تقطع؛ لأنه قال بعد أن ذكر فتح الكعبة في هذا اليوم فتحا عاما للسرور: في هذا اليوم المذكور، الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة، شمرت أستار الكعبة المقدسة إلى نحو قامة ونصف من الجدار من الجوانب الأربعة، ويسمون ذلك إحراما لها، فيقولون: أحرمت الكعبة. وبهذا جرت العادة دائما في الوقت المذكور من الشهر. انتهى.
في هذا مخالفة لما يفعله الحجبة اليوم من وجهين:
أحدهما: أنهم يشمرون كسوة الكعبة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة في كل سنة من جوانبها الأربعة إلى عتبة الباب السفلى، وكانوا يصنعون ذلك بعد العصر في هذا اليوم، ثم صاروا يصنعونه في أول النهار.
والوجه الثاني: أنهم في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة في كل سنة يقطعون كسوة الكعبة من فوق الباب مع ما شمروه من قبل.
وكلام ابن جبير لا يقتضي قطع ذلك في السابع والعشرين وإنما يقتضي تشميره فيه، ولعل ذلك لكون الحجاج الذين تكثر رغبتهم في تحصيل كسوة الكعبة(56/52)
بالشراء وغيره، وهم الحجاج العراقيون، لا يصلون للحج غالبا إلا موافين ليوم عرفة ويقصدونها قبل مكة خيفة فوات الوقوف، وإذا كان كذلك فلا فوت على الحجبة في ذلك الزمان في تأخيرهم قطع كسوة الكعبة في السابع والعشرين وتأخير قطعها إلى أيام منى أو أخذ الكسوة فيها جملة عند وصول الكسوة الجديدة، ولعل سبب قطع الحجبة للكسوة أي كسوة الكعبة في السابع والعشرين من ذي القعدة كون الحجاج من مصر والشام صاروا يقدمون إلى مكة في أوائل العشر الأول من ذي الحجة، فإذا أخر الحجبة قطع ذلك أو أخذوا الكسوة جملة إلى أيام منى، فات الحجبة بعض مقصودهم من بيع الكسوة في العشر الأول من ذي الحجة. والله أعلم.
وذكر ابن جبير ما يقتضي أن الكعبة لا تكسى في يوم النحر وإنما تكسى في يوم النفر الثاني؛ لأنه قال: وفي يوم النحر المذكور سيقت كسوة الكعبة المقدسة من عمل الأمير إلى مكة على أربعة جمال، يقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة، السواد به، والرايات على رأسه، والطبول تهز وراءه، ثم قال: فوضعت الكسوة في السطح المكرم على الكعبة، فلما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المبارك، اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تفيد الأبصار حسنا، ثم قال بعد وصفه للكسوة: فكملت كسوتها وشمرت أذيالها الكريمة، صونا لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتهم عليها وانصبابها. انتهى.
وهذا يخالف ما يفعل اليوم من إسدال الكسوة على الكعبة(56/53)
وتشميرها في يوم النحر، وما يفعل اليوم من كسوة الكعبة في يوم النحر يوافق ما ذكره ابن عبد ربه.
وفي هذا العصر من نحو أربع سنين لا يؤتى بكسوة الكعبة من منى في يوم النحر، وإنما يأتي أمير الحاج المصري ومعه أعلام والدبادب والبوقات تضرب معه حتى يدخل المسجد، ويخرج إليه كسوة الكعبة من جوفها، فتنشر في المسجد في صحنه مما يلي الشق اليماني، تبرز كسوة كل شق، ويرفعها أعوان الأمير مع الحجبة إلى أعلى الكعبة، حتى تكمل وتسدل على الكعبة على الصفة السابقة، وموجب وضعها في الكعبة قبل الحج صونها من السرقة؛ لأنه قبل ذلك سرق بعضها من محل الأمير بمنى، ثم عادت إليه بشيء بذله، وصار الأمراء بعده يضعونها في الكعبة عند توجههم من مكة إلى الموقف.
وفي سنة ثماني عشرة وثمانمائة كسيت الكعبة في رابع ذي الحجة إسبالا على نصفها الأعلى، ولم تكس في سنة تسع عشرة، إلا في يوم النحر على العادة القديمة التي أدركناها، وكسيت في سنة عشرين وثمانمائة في ثالث ذي الحجة وكذلك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وكسيت في ثلاث سنين متوالية بعد ذلك في هذا التاريخ، أو بعده قبل اليوم السادس من ذي الحجة، ثم كسيت في سنة خمس وعشرين وثمانمائة في يوم النحر ضحى.
ونختم هذه الترجمة بمسألة تتعلق بكسوة الكعبة، وهي أن العلماء اختلفوا في جواز بيع كسوة الكعبة، فنقل جواز ذلك عن عائشة وابن عباس وجماعة من الفقهاء، الشافعية وغيرهم، ومنع(56/54)
من ذلك ابن القاضي وابن عبدان من الشافعية.
وذكر الحافظ ابن صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي في قواعده أنه لا يتردد في جواز ذلك الآن؛ لأجل وقف الإمام ضيعة معينة، على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة، والوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها، فينزل لفظ الواقف عليها، قال: وهذا ظاهر لا يعارضه المنقول المتقدم. انتهى باختصار.
وكان أمراء مكة يأخذون من السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة وجانبا كبيرا من كسوتها، أو ستة آلاف درهم كاملة عوضا عن ذلك، فسمح لهم بذلك الشريف عنان بن مغامس بن رميسة بن أبي نمي، لما ولي إمارة مكة في آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وجرى على ذلك الأمراء من بعده في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد سنين من ولايته لمكة صار يأخذ منهم ستارة باب الكعبة وكسوة مقام إبراهيم، ويهدي ذلك لمن يرجوه من الملوك وغيرهم.
ذكر طيب الكعبة وإخدامها:
وروينا من تاريخ الأزرقي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره.
وروينا فيه أيضا، قالت: لأن أطيب الكعبة أحبط إلى من أن أهدي لها ذهبا وفضة.
وروينا فيه عن أبي نجيح أن معاوية بن أبي سفيان أجرى للكعبة وظيفة الطيب بكل صلاة، وكان يبعث لها بالمجمر والخلوق في الموسم وفي رجب وأخدمها عبيدا، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده.
وروينا(56/55)
في تاريخ الأزرقي أن عبد الله بن الزبير كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر، ويجمر الكعبة كل جمعة برطلين من مجمر.
وقال المحب الطبري: المجمر ما يتجمر به وهو العود الرطب، وبالضم ما يتجمر به، والخلوق طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه الصفرة والحمرة.
وقال: قال الإمام أبو عبد الله الحليمي: روي عن سعيد بن جبير أنه كان يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به.
وقال: قال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه. ذكره ابن الصلاح في منسكه. انتهى.
وذكر النووي أنه لا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة، لا للتبرك ولا لغيره، ومن أخذ شيئا من ذلك رده، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه (1) انتهى.
__________
(1) شفاء الغرام، 1 \ 126.(56/56)
ج- وقال حسين باسلامة رحمه الله: (جواز بيع كسوة الكعبة) قد تقدم في الباب الذي قبل هذا حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها أجازت شيبة بن عثمان الحجبي رضي الله عنه، بيع كسوة الكعبة العتيقة.
وروى التقي الفاسي في شفاء الغرام عن كثير من العلماء القائلين بجواز بيع كسوة الكعبة، فقال: إن العلماء اختلفوا في جواز بيع كسوة الكعبة، فنقل جواز ذلك عن عائشة، وابن عباس، وجماعة من الفقهاء، الشافعية وغيرهم، ومنع من ذلك ابن القاضي وابن عبدان من الشافعية.(56/56)
وذكر الحافظ ابن صلاح الدين خليل بن كيكلندي العلائي الشافعي في قواعده أنه لا يتردد في جواز ذلك الآن؛ لأجل وقف الإمام ضيعة معينة، على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة، والوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فيتنزل لفظ الواقف عليها، قال: وهذا ظاهر لا يعارضه المنقول المتقدم. اهـ.
قال الفاسي: وكان أمراء مكة يأخذون من السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة وجانبا كبيرا من كسوتها، أو ستة آلاف درهم كاملة عوضا عن ذلك، فسمح لهم بذلك الشريف عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي، لما ولي إمرة مكة في آخر سنة 788، وجرى على ذلك الأمراء بعده في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد سنين من ولايته لمكة صار يأخذ منهم ستارة باب الكعبة وكسوة مقام إبراهيم، ويهدي ذلك لمن يرجوه من الملوك وغيرهم. اهـ.
وقال القاضي ابن ظهيرة في (الجامع اللطيف) : يجوز بيع ثياب الكعبة عندنا إذا استغنت عنه، وقال به جماعة من فقهاء الشافعية وغيرهم، ويجوز الشراء من بني شيبة؛ لأن الأمر مفوض إليهم من قبل الإمام، نص عليه الطرسوسي من أصحابنا في شرح منظومته، ووافقه السبكي من الشافعية، ثم قال: وعليه عمل الناس.
والمنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها للإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واستدل بما تقدم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستحسن النووي الجواز. اهـ.(56/57)
وقال قطب الدين الحنفي في الأعلام: ومذهب علمائنا في ذلك رجوع أمره إلى السلطان، قال الإمام فخر الدين قاضي خان في كتاب (الوقف) من فتاواه: ديباج الكعبة إذا صار خلقا يبيعه السلطان ليستعين به في أمر الكعبة؛ لأن الولاية فيه للسلطان لا لغيره.
وقال ابن الصلاح: مفوض إلى رأي الإمام، والذي يقتضيه القياس أن العادة استمرت قديما بأنها تبدل كل سنة، وتأخذ بنو شيبة تلك العتيقة فيتصرفون فيها بالبيع وغيره، والذي يظهر لي أن كسوة الكعبة الشريفة إن كانت من قبل السلطان من بيت مال المسلمين فأمرها راجع له يعطيها لمن شاء من الشيبيين وغيرهم، وإن كانت من أوقاف السلاطين وغيرهم فأمرها راجع إلى شرط الواقف فيها، فهي لمن عينها له، وإن جهل شرط الواقف فيها عمل فيها بما جرت العوائد السابقة فيها، كما هو الحكم في سائر الأوقاف، وكسوة الكعبة الآن من أوقاف السلاطين ولم يعلم شرط الواقف فيها، وقد جرت عادة بني شيبة أنهم يأخذون لأنفسهم الكسوة العتيقة بعد وصول الكسوة الجديدة، فيبقون على عادتهم فيها، والله أعلم. اهـ.
هذا حاصل ما وقفت عليه من أمر جواز تصرف آل الشيبي في كسوة الكعبة المعظمة من بيع وإهداء وغير ذلك.
وأما ما كان يأخذه أمراء مكة من كسوة الكعبة، فالذي أعلم في العصر الحاضر أن أمراء مكة كانوا يأخذون ستارة باب الكعبة والحزام وثوب مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وآل الشيبي يأخذون كسوة الكعبة، وستارة باب التوبة الذي هو باب الدرجة(56/58)
التي في داخل الكعبة المصعدة إلى سطحها، وستارة باب مقام إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وذلك كان في إمارة الشريف عون الرفيق، والشريف علي بن عبد الله، والشريف الحسين في إمارته واستقلاله، وربما كان الأمر كذلك في إمارة من تقدم قبل إمارة من أدركتهم من الأمراء، مثل الشريف عبد المطلب، والشريف الحسين بن محمد بن عون، والشريف عبد الله بن محمد، والشريف محمد بن عبد المعين بن عون، والشريف يحيى بن سرور، والشريف غالب، وغيرهم من أمراء مكة إلى الذي ذكره التقي الفاسي فيما تقدم في هذا الباب.
ثم لما استولى جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود ملك المملكة العربية السعودية حفظه الله تعالى على الحجاز، أنعم على آل الشيبي بجميع كسوة الكعبة، من ستارة وحزام وغير ذلك، سواء حال مجيء الكسوة من مصر، أو الكسوة التي أمر جلالته بعملها في المعمل الذي أنشأه في أجياد، كما تقدم تفصيله، وبعمله هذا زال كل إشكال عند بعض الفقهاء القائلين بأن أمر بيع كسوة الكعبة وتصرف آل الشيبي راجع إلى شرط الواقف أو أمر السلطان، وعليه صارت الكسوة حقا من حقوق آل الشيبي يتصرفون فيها كيف شاءوا، وذلك وفقا لإرادة جلالة الملك المعظم، ورأي معظم الفقهاء القائلين بجواز البيع.
وأما تقسيم الكسوة بين آل الشيبي فكلهم فيها سواء، الشيخ والشاب والطفل، والذكر والأنثى، تقسم بينهم بالسوية ما عدا رئيسهم صاحب المفتاح فله سهمان، وذلك باتفاقهم جميعا،(56/59)
وهذه قاعدتهم من قديم الزمان إلى العصر الحاضر على ما علمت، والله أعلم (1) .
__________
(1) الكعبة المعظمة ص 374- 377.(56/60)
4 - النقول عن الفقهاء:
أ- قال ابن عابدين رحمه الله:
(مطلب في استعمال كسوة الكعبة) (قوله: ولا يجوز. . . إلخ) قيل ذكر المرشدي في تذكرته ما نصه: " قال العلامة قطب الدين الحنفي: والذي يظهر لي أن الكسوة إن كانت من قبل السلطان من بيت المال فأمرها راجع إليه، يعطيها لمن شاء من الشيبيين أو غيرهم، وإن كانت من أوقاف السلاطين وغيرهم فأمرها راجع إلى شرط الواقف فيها، فهي لمن عينها له، وإن جهل شرط الواقف فيها عمل فيها بما جرت به العوائد السالفة، كما هو الحكم في سائر الأوقاف. وكسوة الكعبة الشريفة الآن من أوقاف السلاطين، ولم يعلم شرط الواقف فيها. وقد جرت عادة بني شيبة أنهم يأخذون لأنفسهم الكسوة العتيقة بعد وصول الكسوة الجديدة، فيبقون على عادتهم فيها. والله أعلم.
(قوله: وله لبسها) أي: للشاري إن كان امرأة أو كان رجلا وكانت الكسوة من غير الحرير، كما في شرح اللباب.
ونقل بعض المحشين عن المنسك الكبير للسندي تقييد ذلك أيضا بما إذا لم تكن عليها كتابة لا سيما كلمة التوحيد (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 \ 624.(56/60)
ب- قال النووي رحمه الله:
حصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابه إذا نخرت، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، في جواز بيعها وجهان:
أصحهما: تباع؛ لئلا تضيع وتضيق المكان بلا فائدة.
والثاني: لا تباع، بل تترك بحالها أبدأ.
وعلى الأول، قالوا: يصرف ثمنها في مصالح المسجد. والقياس: أن يشترى بثمن الحصير حصير، ولا يصرف في مصلحة أخرى، ويشبه أن يكون هو المراد بإطلاقهم.
وجذع المسجد المنكسر إذا لم يصلح لشيء سوى الإحراق، فيه هذا الخلاف. وإن أمكن أن يتخذ منه ألواح أو أبواب، قال المتولي: يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف.
ويجري الخلاف في الدار المنهدمة، وفيما إذا أشرف الجذع على الانكسار والدار على الانهدام.
قال الإمام: وإذا جوزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف. وقيل: هو كقيمة المتلف، فيصرف إلى الموقوف عليه ملكا على رأي، وإذا قيل به، فقال الموقوف عليه: لا تبيعوها واقلبوها إلى ملكي، فلا يجاب، على المذهب، ولا تنقلب عين الوقف ملكا، وقيل: تنقلب ملكا بلا لفظ (1) .
__________
(1) الروضة 7 \ 357.(56/61)
ج- قال ابن قدامة رحمه الله:
(فصل) وما فضل من حصر المسجد وزيته، ولم يحتج إليه، جاز أن يجعل في مسجد آخر أو يتصدق من ذلك على فقراء(56/61)
جيرانه وغيرهم، وكذلك إن فضل من قصبه أو شيء من نقضه.
قال أحمد في مسجد بني، فبقي من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه، فقال: يعان به في مسجد آخر. أو كما قال.
وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء أو الخشبة. قال: يتصدق به. وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا تخرقت تصدق بها. وقال في موضع آخر: قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة.
وروى الخلال بإسناده عن علقمة عن أمه أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين، إن ثياب الكعبة تكثر عليها فننزعها فنحفر لها آبارا فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب. قالت عائشة: بئس ما صنعت، ولم تصب، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين. فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع، فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة.
وهذه قصة مثلها ينتشر ولم ينكر، فيكون إجماعا، ولأنه مال الله تعالى لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين، كالوقف المنقطع (1) .
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله- في سياق كلامه على نقل وقف تعطلت مصالحه واحتج أيضا بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها: يا أم
__________
(1) المغني والشرح الكبير 6 \ 530.(56/62)
المؤمنين، إن كسوة الكعبة قد يداول عليها. فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير. فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة، وأنها وقف، وصرف ثمنها في سبيل الخير؛ لأن ذلك أصلح للمسلمين.
هكذا قال من رجح قول ابن حامد في وقف الاستغلال كأبي محمد، قال: إن لم تتعطل منفعة الوقف بالكلية، لكن قلت: أو كان غيره أنفع منه أو أكثر ردا على أهل الوقف، لم يجز بيعه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة؛ صيانة لمقصود الوقف عن الضياع، مع إمكان تحصيله، مع الانتفاع به. وإن قلنا يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ من قلة النفع إلى حد لا يعد نفعا، فيكون وجود ذلك كالعدم.
وقال في سياق آخر: فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه، وما يشبهها، مثل صرفه في مساجد أخر، وفي فقراء الجيران، ونحو ذلك؟ لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك، أو يرصد لما يحدث من عمارة، ونحوه. ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه، بل فيه مضرة، وهو حبسه لمن يتولى عليهم، من الظالمين المباشرين، والمتولين الذين يأخذونه بغير حق.
وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له، ففضلت فضلة، فأمر بصرفها في المكاتبين، والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين، صار الصرف إلى نوعه.
ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته، كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام(56/63)
بكسوة الكعبة، يقسمها بين الحجاج (1) .
وقال عبد الله بن جاسر - وفقه الله- قال في شرح الإقناع والمنتهى: قال الإمام أحمد - رحمه الله-: إذا أراد أن يستشفي من طيب الكعبة لم يأخذ منه شيئا، ويلزق عليها طيبا من عنده، ثم يأخذه.
ذكر ذلك في المغني والشرح وشرح المنتهى والإقناع وغيرها. وجواز الاستشفاء بطيب الكعبة، أو بطيب يلزقه عليها من عنده ثم يأخذه، فيه نظر، والأظهر عدم جوازه، وإن خالف نص الإمام؛ لأن الاستشفاء من قبيل التبرك به، وهو ممنوع؛ للأدلة الواردة في مثل ذلك، بخلاف ماء زمزم، فإن التبرك بشربه جائز؛ للأحاديث الواردة فيه. والله أعلم (2) .
__________
(1) المجموع 18 \ 18، 31 \ 223.
(2) مفيد الأنام 1 \ 247، 248.(56/64)
5 - ومما تقدم يستنتج ما يأتي:
أ- أن عمل السلف رضي الله عنهم في كسوة الكعبة المشرفة إذا استغني عنها هو توزيعها على جهة بر؛ للانتفاع بها، كأية وقف على بر استغنت عنه جهته.
ب- أنها إذا أزيلت عن الكعبة لم يبق لها أي اعتبار يميزها عن غيرها من أنواع المفارش والملابس، فتفرش ويلبسها الجنب والحائض، كما صرحت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في فتواها لشيبة الحجبي، إلا المساحة فقط التي كتب عليها قرآن، فيعمل بها كما يعمل بالقرآن الذي(56/64)
على الرقاع والورق ونحو ذلك، وذلك بإحراقه أو دفنه في محل طاهر، كما فعل عثمان رضي الله عنه بالمصاحف التي استغنى عنها.
ج- أن توزيع فاضل الكسوة على شكل يشعر بتعظيمها وتمييزها عن غيرها- كأن يؤخذ منها قطعة صغيرة وتغلف بغلاف جيد أشبه بالغلاف الذي يغلف به المصحف، وتعطى هدية للوجهاء - مخالف لسنة السلف في ذلك، ووسيلة تفتح باب التبرك بها، الذي قد يؤدي إلى التعلق بها من دون الله عز وجل.
د- أن عقيدة السلف وعملهم على منع التبرك بشجر أو حجر أو نحوهما؛ للأدلة التي أسلفنا وغيرها. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/65)
صفحة فارغة(56/66)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(56/67)
صفحة فارغة(56/68)
من الفتوى رقم 5176
السؤال التاسع: ما درجة حديث «صلاة النهار مثنى مثنى» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه في سننهم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى (1) » قال الهيثمي: " حديث صحيح رواته كلهم ثقات، وقول الدارقطني: ذكر النهار مزيد على الروايات فهو وهم من البارقي - ممنوع؛ لأنه ثقة احتج به مسلم وزيادة الثقة مقبولة " اهـ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (424) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1161) .(56/69)
من الفتوى رقم 6357
السؤال الخامس: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء " قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: " الذين يصلحون في الناس بعد فسادهم " هل هذا الحديث صحيح أم ضعيف؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أصل الحديث في صحيح مسلم، فقد أخرجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (1) » .
أما زيادة " قيل: من الغرباء. . .؟ إلخ " فقد أخرجها الإمام أحمد في المسند؛ فروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " قيل: ومن الغرباء؟ قال: " النزاع من القبائل (2) » ج1 ص 298، وأخرج أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء " فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: " أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (3) » الحديث ج2 ص 177.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(2) سنن الترمذي كتاب الإيمان (2629) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/398) ، سنن الدارمي كتاب الرقاق (2755) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/177) .(56/70)
وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن سنة (بالنون المفردة) أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بدأ الإسلام غريبا ثم يعود غريبا كما بدأ فطوبي للغرباء " قيل: يا رسول الله من الغرباء؟ قال: " الذين يصلحون إذا فسد الناس (1) » الحديث، وبهذا نعلم أن الحديث صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه الإمام أحمد (4 \ 73) .(56/71)
فتوى رقم 8820
س: في ص 196 من كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " حديث يقول: «ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم (1) » فما مدى صحة هذا الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي
__________
(1) سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (741) .(56/71)
صلى الله عليه وسلم وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده جبارة بن المغلس وهو ضعيف.
س: في نفس كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " ص 200 حديث مسلم: «سيكون في ثقيف كذاب ومبير» فكان الكذاب المختار الثقفي وكان تشيع للحسين وكان فيها الحجاج وكان فيه انحراف عن علي وشيعته وكان مبيرا فما المقصود بأنه كان مبيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: المبير هو الذي يسفك الدماء ويعتدي على الناس ويظلمهم ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي.
س: في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري رحمه الله ص 281 حديث رقم 1059 عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها (1) » فكيف التوفيق بين هذا الحديث والحديث الآخر: «إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون (2) » البخاري ك 52 ب 9، ومذكور أيضا في مسلم والترمذي وابن ماجه ومسند أحمد وموطأ مالك كما يشير إلى ذلك كتاب مفتاح كنوز السنة؟
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1719) ، سنن الترمذي الشهادات (2295) ، سنن أبو داود الأقضية (3596) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2364) ، مسند أحمد بن حنبل (5/193) ، موطأ مالك الأقضية (1426) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3650) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535) ، سنن الترمذي الفتن (2222) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3809) ، سنن أبو داود السنة (4657) ، مسند أحمد بن حنبل (4/427) .(56/72)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: تحمل أحاديث ذم السبق إلى الشهادة والمسارعة إلى أدائها قبل الاستشهاد على المستخفين بأمر الشهادة الذين لا يتحرون الصدق فيها ولا يبالون؛ لضعف دينهم وقلة خوفهم من الله، ويحمل حديث الثناء على من يؤدي الشهادة قبل أن يسألها على من تعينت عليه الشهادة فأداها قبل أن يسألها إثباتا للحق وخوفا من ضياعه، لعدم من يشهد سواه، وراجع في ذلك (فتح الباري) و (فتح المجيد) لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/73)
من الفتوى رقم 4964
السؤال الثاني: سمعت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني لا أدري هل هو صحيح أم كذب وأريد أن أعرف أصله وفي أي كتب الحديث ورد؟ سألوا رسول الله(56/73)
صلى الله عليه وسلم. فقالوا: «أيكون المؤمن سارقا؟ قال: " نعم " أيكون زانيا؟ قال: " نعم " أيكون كاذبا؟ قال: " لا لا لا» . وفي لفظ آخر: «أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: " نعم " أيكون جبانا؟ قال: " نعم " أيكون كاذبا؟ قال: " لا لا لا» ؟ أفيدونا جزاكم الله.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث رواه المنذري في باب الترغيب في الصدق والترهيب من الكذب من كتابه الترغيب والترهيب جزء 4 بلفظ: " وعن صفوان بن سليم قال: قيل يا رسول الله: «أيكون المؤمن جبانا؟ قال: " نعم " قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: " نعم " قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: " لا (1) » رواه مالك مرسلا، وهو كما قال المنذري حديث مرسل والمرسل من قسم الأحاديث الضعيفة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) موطأ مالك الجامع (1862) .(56/74)
من الفتوى رقم 4029
السؤال السادس: أفتونا في صحة هذا الحديث «إن لله عبادا يفزع الناس إليهم في حوائجهم وهم الآمنون يوم القيامة» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ذكر السيوطي في الجامع الصغير أن الطبراني رواه في الكبير عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «إن لله عبادا اختصهم بحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله» ورمز له براموز الحسن، وذكر المناوي في فيض القدير أن لفظ رواية الطبراني فيه: «خلقا خلقهم لحوائج الناس» بدل «عبادا اختصهم» وقال: قال الهيثمي: فيه شخص ضعفه الجمهور واجد بن طارق الراوي عنه لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح، وهذا يدل على ضعفه الحديث سندا، وعلى فرض صحته يستفاد منه الحث على قضاء حوائج الناس من بذل مال وتعليم علم وإرشاد سائل وإغاثة ملهوف، وإنما يكون ذلك من الأحياء لا من الأموات، وفيه مشروعية الاستعانة بالأحياء في قضاء المصالح ودفع المكروه، أخذا بالأسباب العادية مع التوكل على الله، وليس فيه دلالة على الفزع إلى الأموات واللجوء إليهم في قضاء الحاجات وكشف الكربات؛ للنصوص الدالة على أن(56/75)
ذلك شرك بالله تعالى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/76)
فتوى رقم 585
س: عن مدى صحة الأثرين الشائعين على ألسنة الناس: أحدهما: ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه قال إثر رجوعه من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» والثاني: ما ينسب إليه كذلك من قوله: «من تعلم لغة قوم أمن مكرهم» .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أما الحديث الأول وهو ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه قال إثر رجوعه من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: " جهاد القلب» فقد أورده الغزالي في كتاب:(56/76)
شرح عجائب القلوب من الإحياء، وفي باب: بيان شواهد النقل من أرباب البضائع وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلوب ترك الشهوات، وقال العراقي في كتابه: " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار " قال: حديث «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» أخرجه البيهقي في الزهد من حديث جابر وقال: هذا إسناد فيه ضعف، وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير بعد أن أورد الحديث قال: رواه- أي عن جابر - البيهقي أيضا في كتاب الزهد وهو مجلد لطيف وقال: إسناده ضعيف واتبعه العراقي. اهـ
ونقل السيوطي في الدر المنثور عن ابن حجر أنه قال في كتابه تسديد القوس في كلامه على هذا الحديث: " هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة في الكنى للنسائي " انتهى.
أما حديث: «من تعلم لغة قوم أمن مكرهم» ، فلم نجده فيما اطلعنا عليه من كتب أهل الحديث ولعله قول بعض السلف، ومعناه صحيح؛ فإن من تعلم لغة قوم فجالسهم علم ما يتحدثون فيه فأمن مكرهم به.
وأما ما يقتضيه من الترغيب في تعلم اللغات الأجنبية فإنه مشروع عند الحاجة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لسان اليهود ليكون واسطة مأمونة موثوقة(56/77)
بينه وبين اليهود في نقل كلامه إليهم وكلامهم إليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(56/78)
فتوى رقم 5876
س: يرجى بيان من قائل هذه العبارة فيه مدرسون يقولون حديث شريف وآخرون يقولون قول أحد الصحابة: «علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل» فآمل أن ترسل لنا الجواب الصحيح وبسند صحيح وجزاكم الله خيرآ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «علموا أبناءكم السباحة والرمي والمرأة المغزل» .
ورواه الديلمي في مسند الفردوس عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «علموا بنيكم الرمي فإنه نكاية العدو» وفي سنده عبد الله بن عبيدة أورده الذهبي في الضعفاء وقال ضعيف ووثقه غير واحد، وفيه أيضا منذر بن زياد قال فيه(56/78)
الدارقطني متروك، ورواه ابن منده في المعرفة، وأبو موسى في الذيل، والديلمي في مسند الفردوس عن بكر بن عبد الله بن الربيع الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «علموا أبناءكم السباحة والرماية، ونعم لهو المرأة في بيتها المغزل وإذا دعاك أبواك فأجب أمك» . وفي سنده سليم بن عمرو الأنصاري، قال الذهبي في الميزان: روى عنه علي بن عياش خبرا باطلا وساق هذا الحديث، لكن تعلم الرماية جاء فيه أحاديث صحيحة تدل على شرعيته وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) الآية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(56/79)
من الفتوى رقم 11005
السؤال الثاني: ما مدى صحة الحديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق (1) » " لأن هناك من يضعفه ويقول: إنه مرسل، وكذلك متنه؛ " يقولون: هل يبغض الله شيئا ويحله
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2178) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2018) .(56/79)
فإن الله لا مكره له "؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: جاء في مختصر السنن لأبي داود عن محارب بن دثار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق (1) » المنذري وأخرجه ابن ماجه والمشهور فيه المرسل وهو غريب، وقال البيهقي: وفي رواية ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمر موصولا ولا أراه يحفظه (2) .
وفي رواية عن محارب بن دثار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل شيئا أبغض إليه من الطلاق (3) » وهذا مرسل.
قال ابن القيم: وقد روى الدارقطني من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق (4) » وفيه حميد بن مالك وهو ضعيف.
ونقل المناوي في فيض القدير أن ابن حجر قال: ورجح أبو حاتم الدارقطني الإرسال في حديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق (5) » .
وأورده ابن الجوزي في العلل بسند أبي داود وابن ماجه وضعفه بعبيد الله الوصافي، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث لكن رواه أبو داود رحمه الله بإسناد
__________
(1) أبو داود 2 \ 631، ابن ماجه 1 \ 650.
(2) البيهقي في السنن الكبرى ج 7 \ 322.
(3) سنن أبو داود الطلاق (2177) .
(4) سنن أبو داود الطلاق (2177) .
(5) سنن أبو داود الطلاق (2178) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2018) .(56/80)
متصل صحيح عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا وليس فيه عبيد الله بن الوليد الوصافي الذي أعله به ابن الجوزي، وبذلك يتضح لك صحة الحديث متصلا لا مرسلا ويكون المرسل حينئذ مؤيدا للمتصل لا قادحا فيه، أما متنه فليس فيه نكارة؛ لأنه ليس في إحلال الطلاق وبغضه تناف؛ لأن الله سبحانه حكيم عليم أحله للعباد عند حاجتهم إليه وكرهه لهم عند عدم الحاجة إليه، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسلم برقم 671، والبيهقي 3 \ 65، وأبو عوانة في مسنده 1 \ 390، والإمام أحمد 4 \ 181، والحاكم 2 \ 8.(56/81)
من الفتوى رقم 4927
السؤال السادس: حديث في صحيح الجامع يقول: «كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم» هل الدعاء(56/81)
المقصود بالصلاة أم خارج الصلاة في الدعاء العادي؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث ليس بصحيح، وقد نبه صاحب الجامع الصغير على ضعفه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/82)
من الفتوى رقم 3014
السؤال الرابع: ما هي درجات الأحاديث التالية:
أ- «إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال (1) » .
ب- «إن الله تعالى يحب الحيي المتعفف ويبغض البذيء السائل الملحف» .
ج- «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس (2) » .
د- «من تزوج فقد أحرز شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني» .
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4121) .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6446) ، صحيح مسلم الزكاة (1051) ، سنن الترمذي الزهد (2373) ، سنن ابن ماجه الزهد (4137) ، مسند أحمد بن حنبل (2/539) .(56/82)
هـ- «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله تعالى أعطاه الله تعالى إيمانا يجد حلاوته في قلبه» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث رقم (أ) رواه ابن ماجه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال (1) » وفي سنده حماد بن عيسى الجهني، قال الذهبي: ضعفوه، وموسى بن عيد الرندي قال في الكشاف: ضعفوه، وفي الضعفاء عن أحمد: لا تحل الرواية عنه، وفي سنده أيضا القاسم بن مهران لم يسمع من عمران بن حصين، وقال الحافظ العراقي سنده ضعيف، وقال السخاوي: لكن له شواهد، ورمز له السيوطي في كتابه الجامع الصغير براموز الحسن.
والحديث رقم (ب) : رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، إن الله يحب الحيي الحليم المتعفف ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح (2) » وقال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكره: فيه محمد بن كثير وهو ضعيف جدا، وذكر الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنهما، ثم قال: " فيه سوار بن مصعب وهو متروك " اهـ. لكن الجملة الأولى والجملة الثانية ثابتان في الصحيحين.
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4121) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6019) ، صحيح مسلم اللقطة (48) ، سنن الترمذي البر والصلة (1967) ، سنن ابن ماجه الأدب (3672) ، مسند أحمد بن حنبل (6/385) ، موطأ مالك الجامع (1728) ، سنن الدارمي الأطعمة (2036) .(56/83)
والحديث رقم (ج) : رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس (1) » .
الحديث رقم (د) : أخرجه ابن الجوزي في العلل عن أنس رضي الله عنه مرفوعا وقال: لا يصح. ورواه الطبراني في معاجمه عن أنس مرفوعا بلفظ: «من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان فليتق الله في النصف الباقي» قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، ورواه الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: «من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه الله على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي» ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة.
الحديث رقم (هـ) : رواه الطبراني بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النظر سهم من سهام إبليس مسموم من تركه بعد مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6446) ، صحيح مسلم الزكاة (1051) ، سنن الترمذي الزهد (2373) ، سنن ابن ماجه الزهد (4137) ، مسند أحمد بن حنبل (2/539) .(56/84)
فتوى رقم 2370
س 1: ما مدى صحة الحديث الذي ورد: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان (1) » أو كما ورد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال الترمذي فيه: حسن غريب، وقال الحاكم: ترجمة صحيحة مصرية، وتعقبه الذهبي بأن فيه دراج بن سمعان وهو كثير المناكير وهو في روايته عن أبي الهيثم أشد ضعفا من روايته عن غيره، وقال مغلطاي في شرح سنن ابن ماجه حديث ضعيف، ورمز له السيوطي في كتابه الجامع الصغير براموز الصحة (1) ، وقال الإمام أحمد: حديث دراج منكر، وقال الدارقطني في موضع: دراج ضعيف، وفي آخر: دراج متروك.
س 2: ما مدى صحة الحديث الذي ورد في مسح الوجه بالكفين بعد الدعاء سواء في القنوت أم غيره أو النفث فيهما ثم المسح بهما على سائر الجسم أو بعضه عند أية (2) .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3093) .
(2) انظر فيض القدير 1 \ 357 ط (دار المعرفة للطباعة والنشر) .(56/85)
مناسبة يرفع فيها أكف الضراعة إلى الله، وما رأيكم بجواز ذلك أو عدمه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: عند ابن ماجه «إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك (1) » رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له براموز الحسن، ولكن قال ابن الجوزي لا يصح، فيه صالح بن حسان متروك، وقال ابن حبان: كان صاحب قينات وسماع، وكان يروي الموضوعات عن الأثبات، وضعفه أحمد، وابن معين، وأبو داود، وأبو حاتم، والدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو نعيم الأصبهاني: منكر الحديث متروك.
ثانيا: نصه عند الترمذي هكذا: قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى وإبراهيم بن يعقوب وغير واحد قالوا: حدثنا حماد بن عيسى الجهني عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه (2) » قال محمد بن المثنى في حديثه: «لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه (3) » قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد به وهو قليل الحديث، وحنظلة بن أبي سفيان وثقه يحيى بن سعيد
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1485) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3866) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3386) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3386) .(56/86)
القطان. اهـ. ولكن في سنده حماد بن عيسى؟ وهو ضعيف، وقد تفرد به على ما ذكره الترمذي، وإذا كان الدعاء عبادة مشروعة ولم يثبت في مسح الوجه بالكفين عقبه سنة قولية ولا عملية بل روي ذلك من طرق ضعيفة فمسح الوجه بهما بعد الدعاء غير مشروع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/87)
فتوى رقم 8712
س: بناء على ما جاء في كتاب (قصص الأنبياء) لابن كثير أنه يوجد نبي من أنبياء الله اسمه حنظلة بن صفوان، مع العلم أنه سبق أن نشرت عدة كتب ومؤلفات لم تتضمن اسم هذا النبي. فالرجاء منكم أن تتفضلوا علينا بالإجابة الصحيحة، وكذلك إرشادنا إلى أي مؤلف أو كتاب ذكر فيه اسم هذا النبي، كما نطلب منكم توضيح من هو العبد الأسود الذي سيدخل الجنة هو الأول، وطبعا إن الحافظ ابن كثير أشار إليه في نفس الكتاب المذكور (قصص الأنبياء) الجزء الأول ص 239 في باب: أصحاب الرس، المجلد الصادر عن دار مصر للطباعة؟(56/87)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما ذكر من أن الله تعالى بعث نبيا يسمى حنظلة بن صفوان وأن قومه قتلوه- نقله ابن كثير عن السهيلي في كتاب البداية، ولم يذكر السهيلي ولا ابن كثير له سندا ولم ينسبه لأحد، ومثل هذا لا يعتمد عليه.
وحديث: «إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود» غير صحيح فيما نعلم، وقد ذكره ابن كثير في البداية وقال: إنه مرسل؛ لأن محمد بن كعب القرظي لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/88)
الفتوى رقم 5682
س: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الهوى مغفرة لصاحبه ما لم يعمل به أو يتكلم» رواه أبو نعيم وقال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنهم مهتدون» رواه أبو يعلى عن أبي بكر، ما معنى ما تشابها(56/88)
في الحديثين: الهوى مغفرة، أهلكتهم بالأهواء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث الأول: لا نعرف صحته، والحديث الصحيح المشهور في هذا الباب هو ما رواه البخاري ومسلم رحمهما الله في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قال: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (1) » ، أما الحديث الثاني: فقد عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى أبي يعلى ورمز له بعلامة الضعيف، والمراد بالأهواء: البدع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .(56/89)
من الفتوى رقم 9880
السؤال الثاني. ما مدى صحة حديث: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل: ذكر الله من ذكرني» "؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(56/89)
ج: لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بل هو ضعيف.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/90)
فتوى رقم 9899
س: أرفق لسماحتكم نسخة من منشور وجدته في أحد المساجد بالرياض وهو يتضمن حديثا رواه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد قرأت الحديث أثناء وجودي في المسجد وسألني عن صحته بعض الحاضرين والتمست ذلك في مسانيد خالد -رضي الله عنه- من كتاب المسند للإمام أحمد وغيره فلم أعثر على هذا الحديث، ووجدت في نفسي شيئا منه. فآمل تكرم سماحتكم بإفادتي عن مدى صحة هذا الحديث، ونسبته إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حفظكم الله وأجزل مثوبتكم، ونص الحديث ما يلي: " عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قال: " جاء أعرابي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: جئت أسألك عما يغنيني في الدنيا والآخرة، قال له -صلى الله عليه وسلم-: " سل عما بدا لك " قال: أريد أكون أعلم الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم-:(56/90)
" اتق الله تكن أعلم الناس "، قال: أريد أن أكون أغنى الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: " كن قانعا تكن أغنى الناس "، قال: أحب أن أكون أعدل الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: " أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس "، قال: أحب أن أكون خير الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: " كن نافعا للناس تكن خير الناس "، قال: أحب أن أكون أخص الناس إلى الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: " أكثر ذكر الله تكن أخص الناس إلى الله "، قال: أحب أن يكمل إيماني، قال -صلى الله عليه وسلم-: " حسن خلقك يكمل إيمانك "، قال: أحب أن أكون من المحسنين، قال -صلى الله عليه وسلم-: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، قال: أحب أن أكون من المطيعين، قال -صلى الله عليه وسلم-: " أد فرائض الله تكن من المطيعين "، قال: أحب أن ألقى الله نقيا من الذنوب، قال -صلى الله عليه وسلم-: " اغتسل من الجنابة متطهرا تلقى الله نقيا من الذنوب "، قال: أحب أن أحضر يوم القيامة في النور، قال: " لا تظلم نفسك ولا تظلم أحدا تحشر يوم القيامة في النور "، قال: أحب أن يرحمني ربي يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: " ارحم نفسك وارحم عباده يرحمك ربك يوم القيامة "، قال: أحب أن تقل ذنوبي، قال -صلى الله عليه وسلم-: " أكثر من الاستغفار تقل ذنوبك "، قال: أحب أن أكون أكرم الناس،(56/91)
قال -صلى الله عليه وسلم-: " لا تشك من أمرك شيئا إلى الخلق تكن أكرم الناس "، قال: أحب أن أكون أقوى الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: " توكل على الله تكن أقوى الناس "، قال: أحب أن يوسع الله علي في الرزق، قال -صلى الله عليه وسلم-: " أدم على الطهارة يوسع الله عليك في الرزق "، قال: أحب أن أكون من أحباب الله ورسوله، قال -صلى الله عليه وسلم-: " أحب ما أحبه الله ورسوله تكن من أحبابهما "، قال: أحب أن أكون آمنا من سخط الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: " لا تغضب على أحد من خلق الله تكن آمنا من سخط الله يوم القيامة "، قال: أحب أن تستجاب دعوتي، قال -صلى الله عليه وسلم-: " اجتنب أكل الحرام تستجب دعوتك "، قال: أحب أن لا يفضحني ربي يوم القيامة، قال -صلى الله غليه وسلم-: " احفظ فرجك من الزنا كي لا يفضحك ربك يوم القيامة "، قال: أحب أن يسترني ربي يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: " استر عيوب إخوانك يسترك الله يوم القيامة "، قال: ما الذي ينجي من الذنوب أو قال: من الخطايا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: " الدموع والخضوع والأمراض "، قال: أي حسنة أعظم عند الله تعالى؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: " حسن الخلق والتواضع والصبر على البلاء "، قال: أي سيئة أعظم عند الله تعالى؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: " سوء الخلق والشح المطاع "، قال: ما الذي(56/92)
يسكن غضب الرب في الدنيا والآخرة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: " الصدقة الخفية وصلة الرحم "، قال: ما الذي يطفئ نار جهنم يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: " الصبر في الدنيا على البلاء والمصائب "، قال الإمام المستغفري: ما رأيت حديثا أجمع وأشمل محاسن الدين وأنفع من هذا الحديث جمع فأوعى. رواه الإمام أحمد بن حنبل.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال في كنز العمال في الجزء السادس عشر أنه وجد هذا الحديث بخط الشيخ شمس الدين ابن القماح في مجموع له عن أبي العباس المستغفري قال: قصدت مصر أريد طلب العلم من الإمام أبي حامد المصري والتمست منه حديث خالد بن الوليد، فأمرني بصوم سنة، ثم عاودته في ذلك فأخبرني بإسناده عن مشايخه إلى خالد بن الوليد قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني سائلك في الدنيا والآخرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " سل عما بدا لك. . . . . " إلى آخر الحديث المذكور وبهذا تعلم أن الحديث غير صحيح لما في سنده من المجاهيل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/93)
فتوى رقم 705
س: أرجو الإفادة عن صحة الأحاديث الآتية:
الأول: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» . الثاني: «من زارني بعد موتي فكأنما زار في حياتي» . الثالث: «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا شهيدا يوم القيامة» ، لأنها وردت في بعض الكتب، وحصل منها إشكال، واختلف فيها على رأيين أحدهما يؤيد هذه الأحاديث، والثاني لا يؤيدها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أما الحديث الأول: فقد رواه ابن عدي والدارقطني من طريق عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» وهو حديث ضعيف بل قيل فيه إنه موضوع أي: مكذوب، وذلك أن في سنده محمد بن النعمان ابن شبل الباهلي عن أبيه، وكلاهما ضعيف جدا، وقال الدارقطني الطعن في هذا الحديث على ابن النعمان لا على النعمان، روى هذا الحديث البزار أيضا وفي إسناده إبراهيم الغفاري وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عمر، قال: وإسناده مجهول.
أما الحديث الثاني: فقد أخرجه الدارقطني عن رجل من آل حاطب عن حاطب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، وفي إسناده الرجل المجهول، ورواه أبو يعلى في مسنده وابن عدي في كامله وفي إسناده حفص بن أبي داود وهو ضعيف الحديث.(56/94)
أما الحديث الثالث: فقد رواه ابن أبي الدنيا عن طريق أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي، وهو ضعيف الحديث، ورواه أبو داود الطيالسي من طريق عمر، وفي إسناده مجهول.
هذا وقد وردت أحاديث صحيحة في الحث على زيارة القبور عامة، للعبرة والاتعاظ والدعاء للميت، وأما الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم - خاصة فكلها ضعيفة، بل قيل إنها موضوعة، فمن رغب في زيارة القبور أو في زيارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- زيارة شرعية للعبرة والاتعاظ والدعاء للأموات، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- والترضي عن صاحبيه دون أن يشد الرحال أو ينشئ سفرا لذلك فزيارته مشروعة ويرجى له فيها الأجر، ومن شد الرحال أو أنشأ لها سفرا، فزيارته زيارة مبتدعة لم يصح فيها نص ولم تعرف عن سلف هذه الأمة بل وردت النصوص بالنهي عنها كحديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » . رواه البخاري ومسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله وعلى نبينا محمد وآله وصحبه وسلم-.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(56/95)
فتوى رقم 337
س1: ما مدى صحة حديث: «من عشق فعف وكتم مات شهيدا» ، وهل يقصد بالعشق الحلال (زوجة الإنسان أو يقصد به خلاف ذلك) ؟
س 2: أن تقويم أم القرى كتب هذا الحديث في التقويم فهل هو مستند على صحة هذا الحديث أو يريد تعبئة الأوراق فقط؟
س 3: أن هذا الحديث يضل به بعض الناس حيث يستبيح لغة العشق فيقع في الحرام فما رأيك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث روي من عدة طرق بألفاظ مختلفة لكن لا يصح شيء منها. فروي من طريق سويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن طريق سويد عن علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أنكر على سويد رواية هذا الحديث جماعة من أئمة الحديث منهم أبو أحمد ابن عدي والبيهقي والحاكم وابن طاهر ويحيى بن معين وقال: هو ساقط كذاب،(56/96)
وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وقال الإمام أحمد في سويد بن سعيد: إنه متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال البخاري: كان قد عمي فتلقن ما ليس من حديثه، وقال ابن حبان: يأتي بالمعضلات عن الثقات، يجب اجتناب ما روى، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق كثير التدليس، واعتذر مسلم عن إخراجه حديثه في صحيحه بأنه لم يأخذ عنه إلا ما كان عاليا وتوبع عليه؛ ولأجل هذا أعرض عن رواية هذا الحديث في صحيحه. وقد روى هذا الحديث الحاكم من طريق محمد بن داود بن علي الطاهري عن أبيه عن سويد وتعجب منه، وأخرجه ابن الجوزي من طريق محمد بن المرزبان عن أبي بكر الأزرق عن سويد، وما تقدم من الطعن في سويد كاف في رد هذا الحديث من طريقه، وقد روي هذا الحديث من غير طريق سويد فرواه ابن الجوزي في العلل من طريق ابن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وضعف أحمد بن حنبل يعقوب، ورواه الخطيب من طريق الزبير بن بكار عن عبد الملك ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وعبد الملك هو ابن عبد العزيز الماجشون، كان فقيها لكنه ضعيف في الحديث، قال أبو داود: كان لا يعقل الحديث، وقال الساجي: ضعيف الحديث صاحب رأي، وقال مصعب الزبيري: كان يفتي وكان ضعيفا في الحديث، قال ابن حجر في التلخيص الحبير: وهذه الطريق غلط فيها بعض الرواة فأدخل إسنادا في إسناد، وقد قوى بعضهم هذا الخبر حتى يقال(56/97)
إن أبا الوليد الباجي نظم في ذلك:
إذا مات المحب جوى وعشقا ... فتلك شهادة يا صاح حقا
رواه لنا ثقات عن ثقات ... إلى الحبر ابن عباس ترقا
ولكن ما تقدم من الجرح المبين في سويد بقبوله التلقين بعد أن عمي وبتدليسه وقد عنعن في روايته عمن فوقه، ورواية المناكير كاف في الحكم بعدم صحة هذا الحديث على كل الطرق التي تدور عليه، كما تقدم أنه غير صحيح من طريق يعقوب بن عيسى وطريق الزبير بن بكار لضعف يعقوب وعبد الملك بن الماجشون، يضاف إلى هذا ما ذكره ابن قيم الجوزية وابن معين والحاكم وغيرهم من نكارة متنه حتى قال أبو عبد الله ابن القيم: إن نكارة متنه كافية في رده.
ج 2: مما تقدم في الجواب عن الفقرة الأولى من السؤال يتبين أن الحديث غير صحيح لضعف أسانيده ونكارة متنه، وأما كتابة من يتولى تقويم أم القرى لهذا الحديث في أوراق التقويم فربما كان لعدم معرفته لضعف هذا الحديث، ولعلهم إذا تبين لهم ضعفه أو وضعه وكذبه تركوه حماية لأنفسهم من الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن التغرير بالناس لذريعة الشر، فإن الناس في حاجة إلى ما يفطمهم عن الشر ويعصمهم منه لا إلى ما يغريهم به ويوقعهم فيه.(56/98)
ج3: ما ذكره السائل من أن نشر هذا الحديث يفتح على الناس باب الفتنة ويغريهم بالشر وارتكاب المنكرات، كلام صحيح يؤيده الواقع، فيجب القضاء على ذلك قدر المستطاع؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(56/99)
فتوى رقم 5773
س: هناك تقويم توزعه وكالة سيكو للساعات للحصيني وشركاه يوزع مجانا، دعاية لتجارتهم في هذا النوع من التجارة والحاصل أن في تاريخ 23 من المحرم 1403هـ في نفس الورقة التي بالتقويم والتي تحمل التاريخ المذكور في الخلف منها مكتوب فيه بالخط العريض ما يلي: من أقوال الرسول الكريم: «من عشق فعف وكتم مات شهيدا» ، وهذا الحديث(56/99)
في ظاهره أنه غير صحيح والله أعلم، " قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (1) وقد كتبت هذا الخطاب إلى سماحتكم براءة للذمة، لما أعلم مما ورد في الوعيد الشديد في الكذب على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فمثل هذه التقاويم والصحف والنشرات والكتيبات يجب على وزارة الإعلام الانتباه فيما يكتبونه من الآيات والأحاديث، والتأكيد من صحة ذلك، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، ونرجو من سماحتكم الأمر على من يهمه الأمر بما ترونه صالحا وترون فيه خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث رواه الخطيب في ترجمة عطية بن الفضل لكن بلفظ: «من عشق فعف ثم مات مات شهيدا» وفي سنده أحمد بن محمد بن مسروق، ذكره الذهبي في الضعفاء، وقال: لينه الدارقطني، وفيه أيضا سويد بن سعيد الدقاق وهو منكر الحديث، وإن كان قد أخرج له مسلم في المتابعات فقد قال فيه الإمام أحمد: متروك. وفيه أيضا أبو يحيى القتات ضعفه غير واحد، وقال فيه ابن حبان: فحش غلطه وكثر وهمه حتى سلك مسلك غير العدول في الروايات، ورواه الخطيب أيضا في ترجمة عثمان المروزي بلفظ: «من عشق فكتم وعف ومات مات شهيدا» وفي سنده سويد بن سعيد، وقد قال ابن معين: لو كان لي فرس ورمح لغزوته، وقال ابن الجوزي: دار الحديث عليه فهو لا
__________
(1) سورة يوسف الآية 76(56/100)
يصح من أجله، ورواه الحاكم من طرق كلها هذا الطريق أمثلها، وقال ابن القيم: هذا الحديث والذي قبله كل منهما موضوع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/101)
فتوى رقم 7902
س: أتقدم لفضيلتكم راجيا منكم حفظكم الله ذخرا للإسلام أن تجيبوا على هذا السؤال الآتي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرنا أن نتركهم وما يدينون» السؤال: هل هذا الحديث وارد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وإن كان واردا ما هي درجة صحته؟ وهل يعمل به الآن، أم نسخ الحديث غيره، هذا إذا كان واردا أو كان مكذوبا، فأرجو إيضاح ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا نعلم حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ:(56/101)
«أمرنا أن نتركهم ومايدينون» ولا بمعناه بل هو مخالف للكتاب والسنة الصحيحة الآمرة بإبلاغ الشريعة وجهاد من لم يستجب لها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/102)
من الفتوى رقم 9604
السؤال الأول: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا علي. . . لا تنم إلا أن تأتي أشياء وهي: أ- قراءة القرآن كله. ب- التصدق بأربعة آلاف درهم. ج- زيارة الكعبة. د- حفظ مكانك في الجنة. هـ- إرضاء الخصوم ".
فقال علي كرم الله وجهه: وكيف ذلك يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أما تعلم أنك إذا قرأت (قل هو الله أحد) ثلاث مرات فقد قرأت القرآن كله، وإذا(56/102)
قرأت (الفاتحة) أربع مرات فقد تصدقت بأربعة آلاف درهم، وإذا قلت: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير " عشر مرات فقد زرت الكعبة، وإذا قلت: " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " عشر مرات فقد حفظت مكانك في الجنة وإذا قلت: " أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه " فقد أرضيت الخصوم) .
فضيلة الشيخ: الرجاء من فضيلتكم توضيح سند هذا الحديث وهل هو حديث صحيح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث لا أصل له بل هو من الموضوعات، من كذب بعض الشيعة كما نبه على ذلك أئمة الحديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/103)
فتوى رقم 9562
س: كتب أحد الكتاب في إحدى الجرائد اليومية في دولة الإمارات العربية المتحدة مقالا ذكر فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "العقد شريعة المتعاقدين إلا عقدا حرم حلالا أو أحل حراما "؟
ونظرا لأن المحفوظ عندي هو: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا. . . . " الخ الحديث أو " المؤمنون عند شروطهم " كما في الرواية الأخرى، أخذت أبحث عن هذا الحديث في كتب الحديث التي تحت يدي فلم أجده. أرجو من سماحتكم إفادتنا عن مدى صحة هذا الحديث بالنص الذي ذكره الكاتب.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العقد شريعة المتعاقدين. . . " لا نعلم حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، وإنما هو مما فهمه بعض المتعلمين من نصوص الشريعة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقوله عز وجل:
__________
(1) سورة النساء الآية 29(56/104)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) الآية. فعبر عن فهمه من عند نفسه بالعبارة المذكورة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(56/105)
من الفتوى رقم 9580
السؤال الرابع: أسأل عن درجة هذا الحديث: «يأتي زمان على الناس همومهم بطونهم وشربهم متاعهم وقبلتهم نساؤهم ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم» أو كما قال -صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا نعلم أن ما ذكرته حديث، وذلك بعد المراجعة والتتبع في الكتب المؤلفة في هذا الشأن والأظهر أنه موضوع.
السؤال الخامس: أيضا وجدت حديثا بهذا النص في جزء من مجلة فهل ورد حديث بهذا النص: وهو حديث(56/105)
قدسي عن الله تبارك وتعالى: «إنني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ذكر في كتاب الإتحافات السنية عن معاذ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: قال الله تبارك وتعالى: «إنني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... وعبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(56/106)
من فتاوى سماحة الشخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
النصاب من شروط وجوب الزكاة
س: دخل على رجل مقدار من النقود، وقبل أن يمضي عليه الحول اشترى بجزء منه أرضا والباقي مكث عنده إلى تمام الحول، فهل تجب الزكاة فيما بقي من النقود، وهل تجب في الأرض، ومتى تجب فيها؟
ج: الباقي من النقود إلى تمام الحول فهذا فيه الزكاة إذا كان نصابا أو أكثر، وهكذا لو كان أقل من النصاب إذا كانت الأرض المذكورة اشتريت للبيع وبلغت قيمة الجميع نصابا حتى حال عليها الحول، وأما الأرض فإن كان اشتراها للفلاحة عليها أو لاتخاذها مسكنا أو للتأجير فليس فيها زكاة، أما إن كان اشتراها للتجارة ففيها زكاة، إذا تم حول المال الذي بذل فيها، وبلغت قيمتها نصابا بنفسها أو بضم المال الباقي إلى قيمتها، كما سبق بيان ذلك، وسبق بيان مقدار النصاب في جواب السؤال السابق. والله الموفق.(56/107)
إذا بلغ الباقي بعد النفقة نصابا ففيه زكاة
س: إذا كان عند رجل مبلغ من النقود وحال عليه الحول، وهو يصرف على بيته من دخله، فهل تجب الزكاة في المبلغ المذكور؟ ج: تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، وبلغ النصاب، ومقداره ستة وخمسون ريالا من الفضة أو ما يقوم مقامها من دراهم الورق، ولو كان المبلغ المذكور معدا للنفقة ولكن بقي منه بعد النفقة ما يبلغ النصاب أو أكثر، وحال عليه الحول فإنه تجب فيه الزكاة. والله ولي التوفيق.(56/108)
كلما حال الحول على المال ففيه زكاة
س: هل تجب زكاة الأموال المدخرة بعد أداء زكاتها في البنك ولم يتجر فيها؟
ج: إذا كانت الأموال المذكورة نقودا من الذهب والفضة أو الأوراق التجارية والعملة الورقية فإنها تجب فيها الزكاة كلما حال عليها الحول بإجماع أهل العلم في الذهب والفضة، والعمل الورقية ملحقة بهما في أصح أقوال أهل العلم، أما إن كانت الأموال المدخرة ليست من هذه الأجناس بل من العروض، كالأواني وأنواع الملابس والأخشاب وغير ذلك، فهذه لا زكاة(56/108)
فيها إذا كان مالكها لم يقصد إرصادها للتجارة وإنما أراد حفظها أو استعمالها. والله ولي التوفيق.(56/109)
المال المجموع
من عدة أفراد للحاجة لا يزكى
س: إذا كان هناك جماعة يدفع كل منهم جزءا من المال، ويدخرونه لقصد الاستفادة منه، عند وقوع حوادث لبعضهم- لا سمح الله- واحتاجوا إليه في شئونهم العامة، وحال الحول على هذا المبلغ، فهل عليه زكاة؟ .
ج: هذه الأموال وأشباهها التي يتبرع بها أهلها للمصالح العامة، وللتعاون على الخير فيما بينهم ليس فيها زكاة؛ لأنها قد أخرجت من أملاكهم ابتغاء وجه الله، ومنافعها مشتركة لغنيهم وفقيرهم، ولعلاج الحوادث التي تنزل بهم، فتعتبر بذلك خارجة عن أملاكهم في حكم الصدقات المجموعة لإنفاقها في سبيلها الذي أخرجت له.(56/109)
حكم الزكاة في المبالغ
المرصودة تعويضا عن نزع ملكيات العقار
س: بعض الناس يسألون عن إخراج الزكاة عن مبالغ نقدية ترصد لهم عن طريق نزع ملكيات العقار، علما بأنهم لا يستلمون(56/109)
هذه المبالغ إلا بعد مضي سنين من رصدها فكيف تكون الزكاة على هذه المبالغ؟
ج: العقار الذي نزعت ملكيته وتم تقدير قيمته ولكن مالكه لم يتمكن من قبضها بسبب غير عائد إليه، ليس عليه زكاة حتى يقبض قيمته ويستقبل بها حولا جديدا.(56/110)
حكم زكاة المال الموصى به
س: رجل توفي وأوصى بمبلغ (2000) ريال لأحد إخوانه ليتزوج به وبين وفاة الرجل وزواج أخيه سنوات، فهل يجب على هذا المبلغ زكاة؟
ج: إذا كان أوصى به لشخص معين يكون مالا للشخص المعين إذا قبضه ويزكيه إذا حال عليه الحول ولو تأخر الزواج. والله ولي التوفيق.(56/110)
ما حكم زكاة الدين الذي لم يوف
س: بحمد الله وتوفيقه عملت عشر سنين، كانت حصيلتها ثلاثة مبالغ، أقرضت قريبي قرضا لأجل مسمى، والأيام تجري ولا أمل في تحصيله. والمبلغ الثاني لقريب آخر يعمل به ومرت سنون دون أن يعمل في هذا المبلغ. ومبلغ ثالث احتفظ به لنفسي.
فما حكم زكاة الذي لم يوف؟ وحكم زكاة مال التجارة(56/110)
الذي لم يعمل به؟ وحكم المبلغ الذي أصرف منه؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: يجب عليك أن تزكي المبلغ الذي عندك، والمبلغ الذي عند قريبك للتجارة فيه ولم يفعل كلما حال الحول، إلا أن يكون المبلغ الذي عند قريبك قد أنفقه في حاجته، وأعسر برده فلا زكاة فيه حتى تقبضه ويحول عليه الحول.
أما المبلغ الذي عند القريب الأول ففيه تفصيل:
فإن كان مليئا باذلا فعليك زكاته كلما حال الحول، ولا مانع من تأخير إخراجه حتى تقبضه منه ثم تزكيه عما مضى من السنوات، ولكن زكاته كل سنة أفضل وأحوط حذرا من الموت أو النسيان.
أما إن كان معسرا أو مماطلا فلا زكاة عليك في أصح قولي العلماء حتى تقبضه ثم تستقبل به حولا جديدا؛ لأن الزكاة مواساة ولا تجب المواساة من مال لا تدري هل تحصل عليه أم لا.(56/111)
أقوال العلماء حول
كون الدين مانعا من الزكاة
س: إذا كان عند رجل رأس مال يتجر به ويستدين من هذا ويأخذ من هذا حتى يصفي التجارة، فإذا حال عليه الحول هل يلزمه أن يزكي جميع ما عنده أو يحسب ما عليه من الدين ويزكي الباقي؟ وما هو الراجح لديكم من أقوال العلماء؟
ج: اختلف العلماء في كون الدين مانعا من وجوب الزكاة(56/111)
على أقوال:
أحدها: أن الأموال الباطنة كالنقدين وعروض التجارة لا تجب فيها الزكاة إذا كان الدين ينقصها عن النصاب؛ لأن الزكاة شرعت للمواساة، ومن عليه دين ينقص النصاب أو يستغرقه لا يوصف بالغنى، بل هو أهل لدفع الزكاة إليه.
أما الأموال الظاهرة كالمواشي والثمار فإنه لما كان المنقول عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه رضي الله عنهم إرسال السعاة لأخذ الزكاة منها دون أن يؤثر عنهم الاستفسار هل على أهلها ديون أم لا، فإن الحكم فيها يختلف عن الأموال الباطنة، وبهذا قال مالك والأوزاعي، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد في الأموال الظاهرة.
والقول الثاني: لا تجب فيها كالأموال الباطنة؛ لما سبق.
والقول الثالث: تجب الزكاة في الجميع؛ لما ذكرناه من الأدلة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة ولو كان على أربابها دين، ولأن الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة والباطنة ليس فيها ما يدل على مراعاة الدين، فوجب التعميم.
وهذا قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي في الجديد، وهو الصواب.
وعلى هذا فمحل السؤال تجب فيه الزكاة، عملا بعموم الأدلة وعدم المخصص الذي يحسن الاعتماد عليه. والله أعلم.(56/112)
س: هل زكاة مال القرض الحسن على المقرض أم على(56/112)
المقترض؟
ج: إذا أقرضت مالا وهو عند مليء فعليك زكاته، وإن كان على معسر فلا زكاة عليه، والمقترض يختلف، فإن كنت قد أعطيت إنسانا مليئا مائة ألف أو مائتي ألف أو أكثر أو أقل، وهو مليء غير مماطل بك متى طلبته أعطاك مالك، فهذا المال عليك زكاته وهو يزكي ما عنده من المال إذا كان المال عنده حتى حال عليه الحول، وإن كان قد أنفقه في وجوه أخرى فلا شيء عليه، أما أنت فتزكي المال الذي أقرضته إياه؛ لأنه مال مملوك لك عند مليء باذل فتزكيه أنت، أما إن كان عند معسر أو عند مماطل فليس عليك فيه زكاة كما سبق.(56/113)
بهيمة الأنعام إذا لم تكن
سائمة أغلب الحول فلا زكاة فيها
س: رجل عنده مائة من الإبل لكن أغلب السنة يعلفها فهل فيها زكاة؟
ج: إذا كانت الماشية من الإبل أو البقر أو الغنم ليست سائمة جميع الحول أو أكثره فإنها لا تجب فيها الزكاة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرط في وجوب الزكاة فيها أن تكون سائمة، فإذا أعلفها صاحبها غالب الحول أو نصف الحول فلا زكاة فيها إلا أن تكون للتجارة فإنها تجب فيها زكاة التجارة، وتكون بذلك من عروض التجارة كالأراضي المعدة للبيع(56/113)
والسيارات ونحوها، إذا بلغت قيمة الموجود منها نصاب الذهب أو الفضة، كما تقدم.(56/114)
حكم زكاة الفواكه والخضروات
س: تنتج بعض المزارع أنواعا من الفواكه والخضروات فهل فيها زكاة؟ وما هي الأشياء المزروعة التي تدخلها الزكاة؟
ج: ليس في الفواكه ونحوها من الخضروات التي لا تكال ولا تدخر كالبطيخ والرمان ونحوهما زكاة إلا إذا كانت للتجارة فإنه يزكى ما حال عليه الحول من قيمتها إذا بلغت النصاب كسائر عروض التجارة. وإنما تجب الزكاة في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر كالتمر والزبيب والحنطة والشعير ونحو ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) ، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (2) وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة (3) » متفق على صحته، فدل على وجوبها فيما بلغ ذلك من الحبوب التي تكال وتدخر، ولأن أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الزكاة من الحنطة والشعير يدل على وجوبها في أمثالها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 141
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) رواه البخاري في (الزكاة) باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة برقم (1459) ، ومسلم في (الزكاة) برقم (980) .(56/114)
ما يسقى بالأمطار والأنهار فيه العشر
وما يسقى بالمكائن فيه نصف العشر
س: هناك بعض المزارع يعتمد أصحابها في الزراعة على الأمطار فهل في محصول هذه الزراعة زكاة؟ وهل يختلف عن غيره الذي يسقى بالمكائن والمواطير؟
ج: ما يسقى بالأمطار والأنهار والعيون الجارية من الحبوب والثمار كالتمر والزبيب والحنطة والشعير ففيه العشر. وما يسقى بالمكائن وغيرها ففيه نصف العشر؛ لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر (1) » . رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب العشر فيما يسقى من ماء السماء برقم (1483) ، والنسائي في (الزكاة) باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر برقم (2488) ، وأبو داود في (الزكاة) باب صدقة الزرع برقم (1596) .(56/115)
يجب إخراج زكاة الحلي
منذ العلم بوجوبها
س: الأخت ل. ع. ع. من الهفوف في المملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: عندي قطع من الذهب منذ مدة طويلة(56/115)
وهي معدة للزينة وأحيانا أقوم ببيعها ثم أضيف بعض المال على قيمتها وأشتري أحسن منها، والآن عندي بعض الحلي. وقد سمعت بوجوب الزكاة في الذهب المعد للزينة، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الحكم في المدة الماضية التي لم أزك فيها؟ مع العلم أنني لا أستطيع أن أقدر ما عندي من ذهب طوال هذه المدة الطويلة. أفتونا أثابكم الله ووفقكم.
ج: يجب عليك الزكاة منذ علمت وجوبها في الحلي، وأما ما مضى قبل ذلك من الأعوام قبل علمك، فليس عليك فيها زكاة؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تلزم بعد العلم. والواجب ربع العشر إذا بلغت الحلي النصاب وهو عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها ونصف الجنيه، فإذا بلغت الحلي من الذهب هذا المقدار أو ما هو أكثر منه ففيها الزكاة، في كل ألف خمسة وعشرون. وأما الفضة فنصابها مائة وأربعون مثقالا، ومقدارها من الفضة ستة وخمسون ريالا أو ما يعادلها من العملة الورقية. والواجب في ذلك ربع العشر كالذهب.
وأما الماس والأحجار الأخرى فليس فيها زكاة إذا كانت للبس، أما إن كانت للتجارة ففيها الزكاة على حسب قيمتها، مثل الذهب والفضة إذا بلغت النصاب. والله ولي التوفيق.(56/116)
حكم زكاة العملة الفضية
التي لم تزك منذ (20) سنة
س: رجل لديه مائة ريال [عربي] فضة من العملة التي(56/116)
كانت على عهد الملك عبد العزيز، ولم يؤد زكاتها لمدة تقارب العشرين عاما أو تزيد، هل هذا المبلغ تجب فيه الزكاة؟ وما مقدارها؟ وهل تقوم بالعملة الورقية وتزكى ورقا؟
ج: عليه أن يزكيها عن ما مضى من نفسها، أو يخرج قيمة زكاتها من العملة الورقية.(56/117)
زكاة الحلي على مالكها
س: عند زوجتي ذهب تلبسه يبلغ النصاب، فهل فيه زكاة؟ وهل دفع زكاته واجب علي أم على زوجتي؟ وهل تخرج الزكاة منه أم يقوم بما يساوي القيمة ويزكى بموجبه؟
ج: الزكاة واجبة في الحلي من الذهب والفضة إذا بلغ وزنها النصاب، وهو عشرون مثقالا من الذهب ومائة وأربعون مثقالا من الفضة، ومقدار نصاب الذهب بالعملة الحالية أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع الجنيه، فإذا بلغ الحلي من الذهب هذا المقدار أو أكثر وجبت فيه الزكاة ولو كان يلبس في أصح قولي العلماء.
ومقدار نصاب الفضة بالريال السعودي ستة وخمسون ريالا، فإذا بلغت الحلي من الفضة هذا المقدار أو أكثر وجبت فيها الزكاة، والزكاة ربع العشر من الذهب والفضة وعروض التجارة، وهو اثنان ونصف في المائة، أو خمسة وعشرون في الألف، وهكذا ما زاد على ذلك.(56/117)
والزكاة على مالكة الحلي، وإذا أداها زوجها أو غيره عنها بإذنها فلا بأس، ولا يجب إخراج الزكاة منه بل يجزئ إخراجها من قيمته كلما حال عليها الحول، حسب قيمة الذهب والفضة في السوق عند تمام الحول. والله ولي التوفيق.(56/118)
كيفية زكاة الذهب
المرصع بفصوص وأحجار كريمة
س: ما صفة إخراج زكاة الحلي إذا لم يكن الذهب فيها خالصا وحده بل مرصعا بأنواع عديدة من الفصوص والأحجار الكريمة فهل يحسب وزن هذه الأحجار والفصوص مع الذهب لأنه من الصعب فصل الذهب عنها؟
ج: الذهب هو الذي فيه الزكاة، وأما الأحجار الكريمة والماس فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، فإذا كانت القلائد ونحوها فيها هذا وهذا، فينظر من جهة أهل الخبرة ويقدر ما فيها من الذهب، فإذا بلغ ما فيها من الذهب النصاب وجب أن يزكى، والنصاب عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، وبالجرامات (92) جراما فيزكى كل سنة، والواجب في ذلك ربع العشر ومقداره من كل ألف خمسة وعشرون، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم في الحلي من الذهب والفضة المعدة للبس أو العارية، أما إذا كانت للتجارة فالزكاة واجبة عن الحلي كلها وما فيها من الأحجار حسب القيمة(56/118)
كسائر عروض التجارة عند جمهور أهل العلم، وحكاه بعضهم إجماعا.(56/119)
حكم زكاة المعادن الثمينة
س: تعددت في هذا الوقت أنواع المصوغات كالألماس والبلاتين وغيرهما المعدة للبس وغيره فهل فيها زكاة؟ وإن كانت على شكل أوان للزينة أو للاستعمال؟ أفيدونا أثابكم الله.
ج: إن كانت المصوغات من الذهب والفضة ففيها زكاة إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، ولو كانت للبس أو العارية في أصح قولي العلماء؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك، أما إن كانت من غير الذهب والفضة كالماس والعقيق ونحو ذلك فلا زكاة فيها، إلا إذا أريد بها التجارة فإنها تكون حينئذ من جملة عروض التجارة فتجب فيها الزكاة كغيرها من عروض التجارة. ولا يجوز اتخاذ الأواني من الذهب والفضة ولو للزينة؟ لأن اتخاذها للزينة وسيلة إلى استعمالها في الأكل والشرب، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم (يعني الكفار) في الدنيا ولكم في الآخرة (1) » متفق على صحته
__________
(1) هذا حديث البطاقة المشهور، وقد أخرجه جمع من العلماء، منهم: الترمذي في جامعه كتاب الإيمان باب (17) 5 \ 24 رقم 2639، وقال: حسن غريب. وابن ماجه كتاب الزهد باب (35) 2 \ 1437 رقم 4300. وأحمد 2 \ 213. والحاكم في المستدرك 1 \ 529، وصححه، ووافقه الذهبي وغيرهم، حيث أخرجه جمع كثير من العلماء، كلهم من طريق عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه عن عامر جمع، منهم الليث وابن لهيعة وابن أبي مريم. وهو حديث صحيح. وقد صنف الكناني (ت 357 هـ) جزء البطاقة، مطبوع.(56/119)
وعلى من اتخذها زكاتها مع التوبة إلى الله عز وجل، وعليه أيضا أن يغيرها من الأواني إلى أنواع أخرى لا تشبه الأواني كالحلي ونحوه.(56/120)
لا تسقط الزكاة في المال
بنية الزواج به أو غير ذلك
س: إذا كان الإنسان يجمع مالا يريد أن يتزوج به فهل يعفى من الزكاة؟
ج: لا تسقط عنه الزكاة بنية الزواج، وهكذا من جمع المال ليوفي به دينا أو يشتري به عقارا ليوقفه أو عبدا ليعتقه، بل على الجميع أداء الزكاة إذا حال الحول على المال المجموع؛ لأن الله سبحانه أوجب الزكاة ولم يجعل مثل هذه المقاصد مسقطا لها، والزكاة تزيد المال ولا تنقصه وتزكيه وتزكي صاحبه، كما قال الله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما نقصت صدقة من مال (2) » وفق الله الجميع لما فيه رضاه، وبراءة الذمة من حقه وحق عباده إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله وسلم- على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب استحباب العفو والتواضع برقم (2588) .(56/120)
س: أنا موظف أتقاضى راتبا طيبا والحمد لله إلا أنني لا أعرف كيف أدفع زكاته، هل أخرجها عن كل شهر أم أضع لنفسي حولا معينا لكل ما تحت يدي مما حصلت عليه عن طريق الوظيفة أو غيرها، وإذا نفد المبلغ وتحصلت على مبلغ جديد يصل للنصاب، فهل أبدأ باحتساب الحول من تاريخ المبلغ الأول الذي نفد أم من تاريخ الحصول على المبلغ الجديد؟
ج: كلما حصلت على مبلغ يكون بدء الحول من المبلغ الجديد، وكلما جاءك مال ترسم خطة تضبطه بكتابة، فإذا دار الحول على هذا المال الجديد فزكه، فالذي جاء في محرم زكه في محرم، والذي جاءك في صفر زكه في صفر، والذي جاءك في ربيع آخر زكه في ربيع آخر وهكذا، لكن لو قدمت الأخير مع الأول وعجلت زكاة الأخير مع الأول فأنت مشكور ولا بأس، ولو كان عندك راتب شهر محرم وصفر وربيع أولا وربيع إلى آخره، كل شهر مكتوب عندك، ثم أخرجت زكاة الشهور هذه مع محرم - قدمتها مع محرم- فلا بأس عليك، فتخرج زكاة الجميع بعد تمام الحول على الأول، ولا بأس عليك في ذلك بل ذلك أفضل، لكن الواجب عليك أن تخرج كل زكاة في وقتها، كلما تم الحول على المال أخرجت الواجب حسب ما كتبت عندك ووقت عندك، وإن عجلت بعض ذلك مع زكاة ما قبله فلا بأس عليك كما تقدم.(56/121)
حكم التعامل مع البنوك بالربا وزكاتها
س: كثير من الناس يتعامل مع البنوك وقد يدخل في هذه المعاملات معاملات محرمة كالربا مثلا، فهل في هذه الأموال زكاة وكيف تخرج؟
ج: يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالا لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إذا كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك، أما إن كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) ، أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) . وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم، فإنها من جملة ماله؛ للآية المذكورة والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 275(56/122)
هوايته جمع الفلوس المختلفة فهل يزكيها
س: رجل يهوى جمع الفلوس العربية والأجنبية هواية فقط، وهذه الفلوس منها النفيس، ومنها دون ذلك، فهل عليها زكاة إذا حال عليها الحول؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: تلزمه زكاتها إذا حال عليها الحول، وبلغت النصاب؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة، لأنها في حكم النقود، وتقوم مقامها كالعمل الورقية. والله أعلم.(56/123)
زكاة قلم الذهب
س: أتتني هدية وهي عبارة عن أقلام من الذهب، فما حكم استعمالها؟ وهل على هذه الأقلام زكاة أم لا؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: الأصح تحريم استعمالها على الذكور؛ لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها (1) » ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الذهب والحرير: «هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم (2) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين) حديث أبي موسى الأشعري برقم (19008) ، والنسائي في (الزينة) باب تحريم الذهب على الرجال برقم (5148) .
(2) رواه ابن ماجه في (كتاب اللباس) باب لبس الحرير والذهب للنساء برقم (3595) .(56/123)
أما ما يتعلق بالزكاة، فإن بلغت هذه الأقلام نصاب الزكاة بنفسها أو بذهب آخر لدى مالكها يكمل النصاب وجبت فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وهكذا إن كان عنده فضة أو عروض تجارة يكمل بها النصاب وجبت الزكاة في أصح قولي العلماء؟ لأن الذهب والفضة كالشيء الواحد.(56/124)
حكم زكاة الأرض التي يتردد
صاحبها في بيعها ولم يجزم بشيء
س: إذا كان لدى الإنسان قطعة أرض ولا يستطيع بناءها ولا الاستفادة منها، فهل تجب فيها الزكاة؟
ج: إذا أعدها للبيع وجبت فيها الزكاة، وإن لم يعدها للبيع أو تردد في ذلك ولم يجزم بشيء، أو أعدها للتأجير فليس عليه عنها زكاة، كما نص على ذلك أهل العلم؛ لما روى أبو داود رحمه الله عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود في (الزكاة) باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها زكاة برقم (1562) .(56/124)
كيفية زكاة الأراضي المعدة للبيع والتأجير
س: إذا كنت وكيلا لإحدى العوائل وقد فوضوني في كل شيء في بيع وشراء وإخراج ما يستحق إخراجه من الزكاة، وكان(56/124)
لهم أرض قد تحصلوا عليها من الحكومة وبقيت عندهم ينتظرون إما أن يتيسر ماء فيزرعون، أو فلوس فيعمرون، أو بيع فيبيعون، ومعلوم أن تلك الأراضي جاءت إليهم بدون مقابل وهم لم يأت في ذهنهم أنها معدة للتجارة وهم أغنياء عنها، فهل يلزم لها زكاة أم لا لكي أبرئ ذمتي؟
إذا كان لدي أراض معدة للتجارة ولها مدة طويلة عندي لم تبع وقد أؤجرها في بعض الأحيان، هل أزكيها بأكملها على أنها معدة للتجارة، أو أزكي المتيسر من الأجرة إذا حال عليه الحول؟
بسم الله، الحمد لله، الجواب: أما الأرض الأولى فليس فيها زكاة؛ لأن ملاكها لم يجزموا أنها للتجارة، والزكاة إنما تجب في العروض المعدة للبيع، كما في حديث سمرة، قال: «أمرنا رسول الله أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (1) » أخرجه أبو داود.
وأما الأراضي الأخرى المعدة للتجارة وقد تؤجر، ففيها الزكاة كل سنة، تقوم وتخرج زكاة القيمة على حسب السعر وقت التقويم، وهكذا أجرتها تجب فيها الزكاة تبعا لأصلها؛ للحديث المتقدم، ولا زكاة إلا إذا حال على الأصل الحول، وأما الأجرة فإن كانت بعد الحول ففيها الزكاة، وإن كانت قبل حول أصلها وأنفقت قبل الحول أو تلفت فليس فيها زكاة.
__________
(1) سبق تخريجه في ص 124.(56/125)
س: منحت أرضا من الحكومة وأخذت الأرض في حوزتي حوالي أربع سنين لم أزكها، وبعد ذلك بعتها ولم أخرج الزكاة، هل علي شيء؟
ج: إذا منح الإنسان أرضا من الحكومة أو غير الحكومة وحازها، أو اشتراها من زيد أو عمرو وحازها، فهو بين أمرين: إن نواها للتجارة والبيع زكاها إذا دار الحول بعد النية لبيعها حسب قيمتها، تقوم من أهل الخبرة، يستعين بهم ثم يزكيها بإخراج ربع العشر، فالزكاة ربع العشر في الذهب والفضة وعروض التجارة، وفي الحبوب والثمار نصف العشر إذا كانت تسقى بمؤونة كالمكائن ونحوها، وفيها العشر- سهم من عشرة- إذا كانت بغير مؤونة، كالتي تسقى بالأنهار والعيون والأمطار، وفي الإبل والغنم والبقر زكاة معينة معروفة بينتها الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا كانت سائمة أو للتجارة، فالواجب على المسلم أن ينظر فيما لديه من الأراضي وغير الأراضي، إذا كان أراد بها البيع زكاها إذا دار حولها حسب قيمتها، تقوم ثم يزكي القيمة بإخراج ربع العشر من كل مائة ريالان ونصف، وفي الألف خمسة وعشرون، وهي ربع العشر في الذهب والفضة، وهذه الأوراق النقدية المعروفة المستعملة الآن، وعروض التجارة من أراض وسيارات وغيرها مما يراد به البيع والشراء تقوم إذا حال عليها الحول، فإذا قومت أخرج زكاة القيمة حسب ما تبلغ الأرض أو السيارة أو غيرهما حين تمام الحول إذا كانت كلها للبيع لا للقنية أو الإيجار.(56/126)
الحال الثاني: أن يكون ما أراد بها البيع وإنما أراد بها أن يبني عليها مسكنا، أو يبني عليها بيوتا للإيجار، أو دكاكين وأجرها، فإنه لا زكاة فيها وإنما يزكي الأجرة إذا حال عليها الحول، كما يزكي النقود التي عنده الأخرى إذا حال عليها الحول.(56/127)
حكم الزكاة على السيارات المعدة للنقل
س: هل على السيارات التجارية التي تسافر وتجلب الحبوب وغيرها زكاة، وهكذا ما أشبهها من الجمال؟
ج: ليس على السيارات والجمال المعدة لنقل الحبوب والأمتعة وغيرها من بلاد إلى بلاد زكاة؛ لكونها لم تعد للبيع وإنما أعدت للنقل والاستعمال، أما إن كانت السيارات معدة للبيع، وهكذا غيرها من الجمال، والحمير، والبغال، وسائر الحيوانات التي يجوز بيعها إذا كانت معدة للبيع فإنها تجب فيها الزكاة؛ لأنها صارت بذلك من عروض التجارة، فوجبت فيها الزكاة؛ لما روى أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (1) » . وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم، وحكى الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله إجماع أهل العلم على ذلك. والله المستعان.
__________
(1) سبق تخريجه في ص 124.(56/127)
الأدوات التي تستعمل في المحل لا تزكى
س: رجل أنشأ مستودعا للبوتوغاز فاشترى أنابيب لهذا المستودع بحوالي عشرين ألفا من الجنيهات وأخذ يعبئ الأنابيب ويعطي الأنبوبة المليئة بالبوتوغاز، ويأخذ منهم الفارغة فهو يتاجر في الغاز، فهل على صاحب هذا المستودع بهذه الحالة أن يزكي الأنابيب وهي فارغة أم عليه أن يزكي الربح العائد من الغاز فقط؟
ج: الشيء المعد للاستعمال ليس فيه زكاة أنابيب أو غيرها، إذا كان معدا للاستعمال فإنه ليس فيه زكاة، أما ما كان معدا للبيع والتجارة من أنابيب أو غيرها فإنه يزكى قيمته إذا تم الحول، ويعرف الحول بتحديده بشهر معين، رمضان أو غيره حينما وصل إليه المال، فتمام الحول هو الشهر الذي حصل فيه المال واجتمع لديه المال فيه، من إرث أو هبة أو غير ذلك مما يوجب التملك، فإذا ملك المال في رمضان صار الحول رمضان، وإذا ملك المال في رجب صار الحول رجب وهكذا، والقاعدة أن ما يعد للبيع هو الذي يزكى، وما كان من أدوات تستعمل في المحل فإنها لا تزكى.(56/128)
كيفية زكاة البضائع كالأقمشة ونحوها
س: رجل لديه محلات تجارية بها أنواع عديدة من البضائع كالأقمشة والأحذية والعطورات فكيف يؤدي زكاتها؟
ج: على كل من لديه سلع للبيع سواء كانت أقمشة أو(56/128)
غيرها أن يزكي قيمتها، إذا حال عليها الحول مع النقود التي عنده؛ لما أخرج أبو داود رحمه الله بإسناد حسن عن سمرة بن جندب، قال: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (1) » ، ولأدلة أخرى ذكرها أهل العلم في باب زكاة العروض.
__________
(1) سبق تخريجه في ص 124.(56/129)
زكاة مساهمة الأراضي
س: سائل يقول ما هي زكاة مساهمة الأراضي ويقول: إنه وضع ألف ريال، وبعد خمس سنوات صارت خمسة آلاف ريال؟
ج: إذا وضع الإنسان دراهم مساهمة في أراضي أو نحوها للبيع، فإنه يزكيها كل سنة حسب قيمتها، حسب قيمة الأرض أو غيرها من السلع، كل سنة تقوم ويزكي هو وأصحابه الشركاء، كل يزكي حصته، فإذا بيعت زكى السنوات الماضية بحيث يحسب زكاتها ويخرجها بعد ذلك.
ولكن لا يلزمه أن يزكيها حسب السنة الأخيرة، وإنما كل سنة بحسابها، السنة الأولى على قدر قيمتها، والسنة الثانية على قدر قيمتها وهكذا؛ لأن القيمة تختلف بحيث تكون في أول الأمر رخيصة، ثم تزيد قيمتها أو العكس، فيلزمه أن يزكي القيمة في كل سنة بحسبها، وهي ربع العشر من القيمة، والله ولي التوفيق.(56/129)
زكاة الأسهم في الشركات
س: انتشر في الوقت الحاضر الاكتتاب في الشركات عن طريق الأسهم، فهل في هذه الأسهم زكاة؟ وكيف تخرج؟
ج: على أصحاب الأسهم المعدة للتجارة إخراج زكاتها إذا حال عليها الحول كسائر العروض من الأراضي والسيارات وغيرها، أما إن كانت للمساهمة في أموال معدة للتأجير لا للبيع كالأراضي والسيارات فإنها لا زكاة فيها، وإنما الزكاة تكون في الأجرة إذا حال عليها الحول وبلغت النصاب كسائر النقود. والله ولي التوفيق.(56/130)
زكاة الفطر فرض على كل مسلم
س: ما حكم صدقة الفطر؟ وهل يلزم فيها النصاب؟ وهل الأنواع التي تخرج محددة؟ وإن كانت كذلك فما هي؟ وهل تلزم الرجل عن أهل بيته بما فيهم الزوجة والخادم؟
ج: زكاة الفطر فرض على كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد؛ لما ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد من المسلمين. وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة (1) » . متفق
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب فرض صدقة الفطر برقم (1503) .(56/130)
على صحته.
وليس لها نصاب بل يجب على المسلم إخراجها عن نفسه وأهل بيته من أولاده وزوجاته ومماليكه إذا فضلت عن قوته وقوتهم يومه وليلته.
أما الخادم المستأجر فزكاته على نفسه إلا أن يتبرع بها المستأجر أو تشترط عليه، أما الخادم المملوك فزكاته على سيده، كما تقدم في الحديث.
والواجب إخراجها من قوت البلد، سواء كان تمرا أو شعيرا أو برا أو ذرة أو غير ذلك، في أصح قولي العلماء؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشترط في ذلك نوعا معينا، ولأنها مواساة، وليس على المسلم أن يواسي من غير قوته.(56/131)
حكم إخراج زكاة الفطر
من غير الأصناف المنصوص عليها
س: هل يجوز أداء زكاة الفطر من الحبوب القطنية، كالأرز والذرة والشعير والدخن ولو كانت باقية عليها قشرتها؟
ج: يجوز ذلك إذا كانت من قوت البلد في أصح قولي العلماء، لكن بعد التصفية من القشور؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (1) ، ولأن ذلك
__________
(1) سورة البقرة الآية 267(56/131)
أبرأ للذمة وأرفق بالفقير، إلا الشعير فإنه لا تجب تصفيته من قشره؛ لما في ذلك من المشقة، لكن إذا أخرج من الأرز ونحوه من الحبوب التي الأصلح حفظها في قشرها ما يتحقق معه أنه أدى الواجب من الحب المصفى فإنه لا حرج في ذلك إن شاء الله، مراعاة لمصلحة المالك والفقير. والله الموفق.
س: هل يجوز إخراج زكاة الفطر ريالات؟ وهل يجوز إخراجها في غير بلدها؟
ج: لا يجوز إخراجها نقودا عند جمهور أهل العلم، وإنما الواجب إخراجها من الطعام، كما أخرجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم، وهي صاع واحد من قوت البلد، من تمر أو أرز أو غيرهما، بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والمملوك من المسلمين. والسنة توزيعها بين الفقراء في بلد المزكي وعدم نقلها إلى بلد آخر؛ لإغناء فقراء بلده وسد حاجتهم. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، كما كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم يفعلون ذلك، وبذلك يكون أول وقتها. الليلة الثامنة والعشرين من رمضان. والله ولي التوفيق.(56/132)
المشروع توزيع زكاة
الفطر بين فقراء البلد
س: بالنسبة للفطرة هل توزع على فقراء بلدتنا أم على غيرهم؟
وإذا كنا نسافر قبل العيد بثلاثة أيام ماذا نفعل تجاه الفطرة؟(56/132)
ج: السنة توزيع زكاة الفطر بين فقراء البلد صباح يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز توزيعها قبل ذلك بيوم أو يومين ابتداء من اليوم الثامن والعشرين. وإذا سافر من عليه زكاة الفطر قبل العيد بيومين أو أكثر أخرجها في البلاد الإسلامية التي يسافر إليها، وإن كانت غير إسلامية التمس بعض فقراء المسلمين وسلمها لهم. وإن كان سفره بعد جواز إخراجها فالمشروع له توزيعها بين فقراء بلده؛ لأن المقصود منها مواساتهم والإحسان إليهم وإغناؤهم عن سؤال الناس أيام العيد.(56/133)
حكم من نسي إخراج
زكاة الفطر قبل صلاة العيد
س: أعددت زكاة الفطر قبل العيد لإعطائها إلى فقير أعرفه، ولكنني نسيت إخراجها، ولم أتذكر إلا في صلاة العيد، وقد أخرجتها بعد الصلاة. فما الحكم؟
ج: لا ريب أن الواجب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد كما أمر بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لا حرج عليك فيما فعلت، فإخراجها بعد الصلاة يجزئ والحمد لله، وإن كان جاء في الحديث أنها صدقة من الصدقات، لكن ذلك لا يمنع الإجزاء، وأنه وقع في محله، ونرجو أن يكون مقبولا، وأن تكون زكاة كاملة؛ لأنك لم تؤخر ذلك عمدا، وإنما أخرته نسيانا، وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(56/133)
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " يقول الله عز وجل قد فعلت " (1) ، فأجاب دعوة عباده المؤمنين " في عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ.
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق برقم (126) .(56/134)
الواجب البدار بإخراج
الزكاة وسؤال الثقات عن مستحقيها
س: لدي مبلغ عشرة آلاف ريال سعودي، وأريد أن أخرج زكاتها، ولكني لا أعرف كيف أخرج زكاتها، وهل يجوز أن أبقيها حتى أرجع لبلدي وأخرج زكاتها هناك أم لا يجوز ذلك؟
ج: الواجب على المسلم البدار بإخراج الزكاة إذا حال الحول، فيجب أن يبادر في أي مكان كان، ويلتمس الفقراء والمحاويج ويسأل عنهم أهل الثقة والأمانة في بلده الذي هو فيه ثم يخرج الزكاة، سواء كان في اليمن أو في الشام أو في مكة أو في أي مكان.
والله أوجب عليك هذه الزكاة، وإذا كان المال عشرة آلاف فالزكاة مئتان وخمسون ريالا، أي: ربع العشر، لأن الألف هو العشر وربعه مئتان وخمسون. فعليك أن تلتمس بعض الفقراء(56/134)
وتدفع إليه الزكاة وتستعين في ذلك بأهل الثقة والأمانة من أصحابك وإخوانك كي يدلوك على الفقراء ويرشدوك إليهم.(56/135)
حكم تأخير إخراج الزكاة عدة أشهر
س: هل يجوز تأخير إخراج الزكاة مدة أشهر بعد حلولها من أجل تحري المحتاج أو عدم وجود نقود لديه وقت حلول الزكاة؟
ج: لا بأس بتأخير إخراجها من أجل ما ذكر، ومتى وجد الفقراء، أو المال بادر بإخراجها؛ لأنه لا يجوز تأخيرها بعد تمام الحول إلا لعذر شرعي، مثل ما ذكرتم من عدم وجود المال بيده ذلك الوقت، أو عدم وجود الفقراء.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه والثبات عليه، إنه جواد كريم.(56/135)
حكم تأخير زكاة العروض
في حق من لم يملك النقود
س: عندي دكان لبيع أدوات سيارات، ولكن لم أملك نقودا لكي أزكي في الوقت الحاضر، ذلكم أني لم أبع شيئا، وإنما البضاعة مطروحة، فهل أزكي عندما تكون لدي الفلوس ولو بعد رمضان، أو كيف أتصرف؟(56/135)
ج: متى أيسرت فأخرج الزكاة بعد تمام الحول، وإذا تم الحول وليس عندك نقود فأخرجها متى قدرت. والله ولي التوفيق.(56/136)
نصح وتذكير لمن لم يخرج الزكاة
س: ما نصيحتكم لرجل لا يؤدي الزكاة، لعل قلبه يلين فيرجع إلى الحق؟
ج: نصيحتي لمن بخل بها أن يتقي الله وأن يتذكر أن الذي أعطاه إياها قد ابتلاه بها، الذي أعطاه المال قد ابتلاه به، فإن شكر النعمة وأدى حقها أفلح وإن بخل بالزكاة ولم يؤد حق هذه النعمة خسر وخاب وذاق عذاب ذلك وجزاء ذلك في قبره ويوم القيامة- نسأل الله العافية- فالمال زائل وأمره خطير وعواقبه وخيمة لمن بخل ولم يؤد زكاته، وسوف يدعه لمن بعده ويكون عليه حسابه ووزره، فالواجب على كل مسلم عنده مال أن يتقي الله ويتذكر الموقف بين يدي الله، وأنه سبحانه يجازي كل عامل بعمله وأن هذا المال بلية، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (1) ، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (2) ، فالمال ابتلاء وامتحان، فإن شكرت الله وأديت حقه وصرفته في وجوهه أفلحت كل الفلاح، وصار نعمة في حقك، ونعم الصاحب للمؤمن هذا
__________
(1) سورة التغابن الآية 15
(2) سورة الأنبياء الآية 35(56/136)
المال، يصل به رحمه، ويؤدي به الحقوق التي عليه، ويساهم في المشاريع الخيرية، وينفع المستضعفين ويواسيهم، فهو نعمة بحقه عظيمة، وإذا بخل به فهو بلية عليه عظيمة، وعاقبته وخيمة. فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من كل سوء.(56/137)
من ترك إخراج الزكاة
لزمه إخراجها عما مضى من السنين
س: أنا إنسان لم أخرج الزكاة منذ أن ملكت النصاب قبل حوالي ثلاث سنوات، وقدرت أن ما أملكه بيدي أو في ذمة غيري لي هو مبلغ معين، فهل أدفع زكاة الثلاث سنوات التي مضت إذا حل الحول الثالث في هذا العام، علما بأنني قادر ومستطيع على ذلك، أم ما هو العمل؟
ج: أخرج الزكاة عن الحولين الماضيين واستغفر ربك وتب إليه عما أخرت، وإذا تم الحول الثالث فأخرج زكاته، ولا تؤخر الزكاة بل عجل زكاة الحولين مع التوبة والاستغفار، فإذا تم الحول الثالث فأخرج زكاته.(56/137)
الجهل بفرضية الزكاة لا يسقطها
س: الأخ و. م. ب. من الرياض، يقول في سؤاله: عندي مبلغ من المال منذ حوالي خمس سنوات، وهذا المبلغ يزيد(56/137)
وينقص، وفي هذا العام جرى حديث مع أحد الإخوة عن زكاة المال، وذكر أن أي مبلغ يملكه الإنسان وحال عليه الحول ولو كان يدخره لزواج أو شراء مسكن عليه زكاة. سماحة الشيخ: هل علي زكاة عن السنوات الماضية وأنا لا أعلم أن علي زكاة، أم أزكي هذه السنة فقط التي علمت فيها أن علي زكاة؟ أفتوني جزاكم الله خيرا.
ج: عليك الزكاة عن جميع الأعوام السابقة، وجهلك لا يسقطها عنك؛ لأن فرض الزكاة أمر معلوم من الدين بالضرورة، والحكم لا يخفى على المسلمين، والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، والواجب عليك المبادرة بإخراج الزكاة عن جميع الأعوام السابقة، مع التوبة إلى الله سبحانه من التأخير، عفا الله عنا وعنك وعن كل مسلم. والله الموفق.(56/138)
إخراج الزكاة من مال الطفلة
س: إني أقوم بتربية طفلة تبلغ من العمر (5) سنوات، وإن زوجي يقوم بإعطائها بعضا من المال الذي أقوم بدوري أنا بوضعه بمصرف فيصل الإسلامي، فهل تجب الزكاة على مالها أم لا؟
ج: عليك أن تؤدي زكاة مالها؛ لأنك القائمة عليها.(56/138)
حكم إخراج الزوج زكاة زوجته من ماله
س: هل يجوز أن يخرج زوجي عني زكاة مالي، علما أنه هو الذي أعطاني المال؟ وهل يجوز إعطاء الزكاة لابن أختي المتوفى عنها زوجها وهو شاب في مقتبل العمر ويفكر في الزواج؟ أفيدوني.
ج: الزكاة واجبة عليك في مالك إذا كان عندك نصاب أو أكثر من الذهب أو الفضة أو غيرهما من أموال الزكاة، وإذا أخرجها عنك زوجك بإذنك فلا بأس، وهكذا لو أخرجها عنك أبوك أو أخوك أو غيرهما بإذنك فلا بأس، ويجوز دفع الزكاة لابن أختك مساعدة له في الزواج إذا كان عاجزا عن مؤونته. وفق الله الجميع لما يرضاه.(56/139)
حكم إخراج الزكاة
في غير بلد المزكي
س: هل يجوز إخراج الزكاة في بلد غير البلد التي أسكن فيها؟
ج: الأولى والأحوط توزيع الزكاة في البلد التي يسكن فيها صاحب المال، وإن كان في بلد وماله في آخر فالأفضل(56/139)
إخراج الزكاة في محل المال؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث معاذ رضي الله عنه، لما بعثه إلى اليمن: «ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (1) » متفق على صحته.
ولكن إذا دعت المصلحة الشرعية إلى نقل الزكاة من بلد إلى بلد، إما لأن في البلد الأخرى أقارب فقراء، أو طلبة علم فقراء، أو أناس قد اشتدت حاجتهم، فلا بأس بذلك في أصح قولي العلماء؛ لأحاديث وآثار وردت في ذلك.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب وجوب الزكاة برقم (1395) ، ومسلم في (الإيمان) باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (19) .(56/140)
حكم إخراج الزكاة
عروضا عن العروض وعن النقود
س: هل يجوز إخراج الزكاة من الأقمشة؟
ج: يجوز ذلك في أصح قولي العلماء؟ الطيب عن الطيب، والرديء عن مثله حسب القيمة، مع الحرص على ما(56/140)
يبرئ الذمة: لأن الزكاة مواساة من الغني للفقراء، فجاز له أن يواسيهم من القماش بقماش، كما يواسيهم من الحبوب والتمور والبهائم الزكوية من نفسها.
ويجوز أيضا أن يخرج عن النقود عروضا من الأقمشة والأطعمة وغيرها، إذا رأى المصلحة لأهل الزكاة في ذلك مع اعتبار القيمة، مثل أن يكون الفقير مجنونا أو ضعيف العقل أو سفيها أو قاصرا، فيخشى أن يتلاعب بالنقود، وتكون المصلحة له في إعطائه طعاما أو لباسا ينتفع به من زكاة النقود بقدر القيمة الواجبة، وهذا كله في أصح أقوال أهل العلم.(56/141)
دفع الزكاة للجمعيات الخيرية
س: هل يجوز دفع الزكاة للجمعيات الخيرية؟
ج: إذا كان القائمون عليها ثقات مأمونين، يقدمون الزكاة في مصرفها الشرعي، فلا بأس بدفع الزكاة إليهم؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى.(56/141)
يجب على الوكيل
في توزيع الزكاة تنفيذ ما قاله موكله
س: أولا أود أن أشكر أصحاب الفضيلة المشايخ على مجهوداتهم الكبيرة في الإجابة على أسئلة المسلمين بالصراحة(56/141)
والوضوح التام جزاهم الله خيرا. وأرجو الإجابة على السؤال التالي: أحد الإخوان أعطاني زكاة ماله وطلب مني أن أرسلها إلى أشخاص في السودان بشرط أن يكونوا ملتزمين بالكتاب والسنة قولا وعملا وأن لا تربطني بهم صلة رحم وأن يكونوا محتاجين ومستحقين للزكاة، ولدي أقرباء ومعارف لكن لا تتوفر فيهم هذه الشروط بالدقة التامة، والمبلغ ما زال بحوزتي، أفيدوني ماذا أفعل به؟ هل أرجعه له أو أوزعه على من أراه مستحقا له دون تطبيق شروطه؟ نرجو نشر السؤال والجواب ولكم مني جزيل الشكر وجزاكم الله خيرا.
ج: يجب عليك أن تنفذ ما قاله موكلك في أوصاف من وكلك في دفع الزكاة إليهم، فإن لم تجد من تتوافر فيه الصفات فرد المال إلى صاحبه حتى يتولى صرفه فيمن يستحقه، وليس لك أن تتصرف فيه على غير الوجه الذي أوصاك به صاحب المال؛ لأن الوكيل مقيد بما قيده به الموكل فيما يوافق الشرع المطهر.(56/142)
حكم اعتبار ما يدفع
لمصلحة الزكاة والدخل من الزكاة
س: أنا صاحب مؤسسة أقوم بدفع مبلغ وقدره 2.5% من رأس مالي إلى مصلحة الزكاة والدخل، بحجة أن هذا المبلغ يعتبر زكاة التجارة، وإذا توقفت عنه فسوف تتوقف لي مصالح كثيرة،(56/142)
مثل الاستقدام، وطلب أي تعديل في مستنداتي، ولهذا فأنا ملزم بدفع المبلغ، لكني قرأت في بعض الكتب أن هذا المبلغ ليس زكاة، وإنما يلزمني إخراج زكاة خلاف ما أسدده لمصلحة الزكاة والدخل، أرجو الإفادة، لأن هذا حال جميع الشركات والمؤسسات بالمملكة. وفقكم الله لما فيه الخير.
ج: ما دامت طلبت منك باسم الزكاة وأخرجتها بنية الزكاة فهي زكاة؛ لأن ولي الأمر له طلب الزكاة من الأغنياء ليصرفها في مصارفها، ولا يلزمك إخراج زكاة أخرى عن المال الذي دفعت زكاته للدولة، أما إن كان عندك أموال أخرى أو أرباح لم تخرج زكاتها للدولة، فعليك أن تخرجها لمن يستحقها من الفقراء، وغيرهم من أهل الزكاة. والله ولي التوفيق.(56/143)
حكم إعطاء الوكيل أجرة على توزيع الزكاة
س: لدي مقدار من المال زكاة واجبة علي وأريد أن أرسل منها مبلغا لإحدى البلدان لفقرائها، وأعرف رجلا غنيا في تلك البلد وأريد أن أبعث المال بواسطته ليلتمس له المحتاجين، ولكنه لن يعمل ذلك إلا بمبلغ، فهل يجوز أن أعطيه من مال الزكاة على عمله؟ وإذا حولتها له وأخذ البنك مبلغا، فهل أقتطع هذا المبلغ من الزكاة، أم لا بد أن أدفع ذلك من حر مالي؟ أفيدوني أثابكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ج: الأفضل لك أن توزع زكاتك في فقراء بلدك، وإذا(56/143)
نقلتها إلى بلد آخر فيها فقراء هم أشد حاجة أو لكونهم من أقاربك وهم فقراء فلا بأس، وإذا وكلت وكيلا في توزيع الزكاة فلا مانع أن تعطيه أجرة من غير الزكاة؛ لأن الواجب عليك توزيعها بين الفقراء بنفسك أو بوكيلك الثقة، وعليك أجرته من مالك لا من الزكاة، أما البنك فلا نرى لك أن تحولها بواسطته، خشية أن يستعملها في الربا، ولكن يجب أن يكون التحويل بواسطة ثقة أمين يطمئن قلبك إلى أنه يوصلها إلى مستحقيها بأسرع وقت. والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(56/144)
تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان
للحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي (831- 902 هـ)
تحقيق بدر بن محمد بن محسن العماش (1)
الحمد لله رب العالمين على لطفه وإحسانه، حمدا يليق بجلال عظمته وعز سلطانه، والشكر له على فضله وامتنانه، شكرا لا يحصيه كاتب بقلمه ولا ناطق بلسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره.
أما بعد:
فهذه رسالة في موقف من مواقف الدار الآخرة، للإمام الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ) .
إمام حافظ رحب الفناء ... ومن فضل تمنطق بالسخاء
وقد حداني إلى إخراجها قيمتها العلمية، وترتيبها الحسن، وقلة المصنفات في بابها- كما سيأتي-.
وقد قسمت العمل فيها إلى قسمين:
__________
(1) المحاضر بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(56/145)
أ- الدراسة وينتظم فيها:
1 - ترجمة موجزة للمؤلف ... 2- اسم الرسالة.
3- نسبتها إليه. ... 4- موضوعها.
5- وصف النسخة الخطي. ... 6- المصنفات في الميزان.
7- منهجي في التحقيق.
ب- التحقيق، وفيه النص المحقق.
وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بها، وأن يجعلها في الميزان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم-.
1 - ترجمة المؤلف: الحافظ المؤرخ محمد بن عبد الرحمن(56/146)
السخاوي، شمس الدين، أبو الخير، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة، ونشأ بها، وأخذ عن جملة من الشيوخ والأقران بها وبغيرها، حيث رحل عدة رحلات إلى ديار مصر والحجاز والشام حتى بلغ من أخذ عنه أكثر من ألف ومائتين، ومن أبرزهم الحافظ أحمد بن علي بن حجر (773- 852 هـ) فقد لازمه وأخذ عنه أكثر تصانيفه وتصانيف غيره، والعز ابن الفرات (759- 851 هـ) ، وبرهان الدين بن يخضر (794- 852 هـ) ، والزين رضوان العقبي (769- 852 هـ) ، وسعد الدين ابن الديري (768- 867 هـ) ، وعلم الدين بن البلقيني (791- 868 هـ) وغيرهم ممن ضمتهم معاجم شيوخه التي صنفها. وأخذ عنه خلق كثير من الديار المصرية والحجازية والشامية والهندية وغيرها حيث رحلوا للأخذ عنه والاستفادة من علومه:
وقال الناس لما قل علم ... وحفاظ الحديث لنا وراوي
أفي ذا العصر ترتحل المطايا ... فقلت: نعم , إلى الحبر السخاوي
وقد بلغ من أخذ عنه من تلاميذ ونحوهم أكثر من ألف وأربعمائة، جمعهم في مصنف خاص. ومن أبرز هؤلاء أبو العباس القسطلاني (851- 923 هـ) ، وابن رجب الطوخي (847- 893 هـ) ، وابن عبد السلام المنوفي (847- 927 هـ) ،(56/147)
وجار الله ابن فهد " (891- 954 هـ) ، وعبد الباسط بن خليل الحنفي (844- 920 هـ) ، وعبد الرحمن بن الديبع (866- 944 هـ) ، وعبد العزيز بن عمر بن فهد (850- 921 هـ) وغيرهم. وقد صنف الحافظ جملة من التصانيف زادت على المائتين، منها: الابتهاج بأذكار المسافر الحاج (1) ، ارتياح الأكباد بأرباح فقد الأولاد (2) ، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (3) ، التبر المسبوك في الذيل على السلوك (4) ، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (5) ، الجواهر والدرر في ترجمة ابن حجر (6) ، الذيل على رفع الإصر عن قضاة مصر (7) ، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (8) ، عمدة القاري والسامع في ختم الصحيح الجامع (9) ، الغاية شرح الهداية لابن الجزري (10) ، فتح المغيث بشرح ألفية
__________
(1) طبع طبعتين.
(2) مخطوط، منه نسخة في الظاهرية، وأخرى في دار الكتب الوطنية وغيرهما.
(3) مطبوع عدة طبعات.
(4) مطبوع- بعضه- في بولاق بمصر.
(5) طبع ثلاث طبعات.
(6) طبع الأول منه، والباقي مخطوط.
(7) مطبوع بمصر بتحقيق جودة هلال ومحمد صبح.
(8) مطبوع بعناية المقدسي ثم صور عنها في دار الجيل وغيرها.
(9) مخطوط، في دار الكتب بمصر.
(10) مطبوع بتحقيق محمد سيدي الأمين.(56/148)
الحديث (1) ، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (2) ، المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة (3) ، وغيرها. توفي السخاوي بالمدينة في شهر شعبان سنة اثنتين وتسعمائة، ودفن بالبقيع - رحمه الله تعالى-.
2- اسم الرسالة: وردت هذه الرسالة عند الحافظ السخاوي في كتابه الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (4) ، وإرشاد الغاوي بل إسعاد الطالب والراوي (5) بعنوان " الكلام على الميزان ". ووردت عنده في إرشاد الغاوي (6) - أيضا- وإجازته لأبي بكر الحيشي (7) بعنوان " تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان ".
وذكرها الغزي في الكواكب السائرة (8) باسم " تحرير البيان "
__________
(1) طبع عدة طبعات من أحسنها طبعة الهند، بعناية علي حسين، وحقق في أطروحتين في الرياض.
(2) طبع طبعتين.
(3) طبع طبعتين.
(4) الضوء 8 \ 18.
(5) إرشاد ل 80 \ أ، 181 \ ب.
(6) المصدر السابق ل 64 \ ب.
(7) إجازته ل 2 \ أ.
(8) الكواكب 1 \ 225.(56/149)
في الكلام على الميزان ".
ويبدو أن الأول حكاية موضوعها، والثاني هو اسمها.
3 - نسبتها إلى السخاوي: مما يدل على صحة نسبة الرسالة إلى الحافظ السخاوي عدة أمور:
1 - ذكر السخاوي لها ضمن مؤلفاته في كتابيه الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (1) ، وإرشاد الغاوي بل إسعاد الطالب والراوي (2) .
وقد أشار إليها في مواضع أخرى منهما (3) ، وفي إجازته لأبي بكر الحيشي (4) .
2- نسبها إليه بعض المصنفين، فمن ذلك:
إسماعيل باشا في هدية العارفين (5) ، والغزي في الكواكب السائرة (6) . 3- ذكر السخاوي فيها أحد مصنفاته وأحال إليه فقال: وأوردت في القول البديع. . . الخ.
__________
(1) الضوء 8 \ 18.
(2) إرشاد ل80 \ أ.
(3) الضوء 1 \ 84- 221، 7 \ 196، وإرشاد ل181 \ ب، 183 \ ب، 212 \ أ.
(4) إجازته ل2 \ أ، 4 \ أ.
(5) هدية 2 \ 221.
(6) الكواكب 1 \ 225.(56/150)
4 - موضوعها:
الكلام على ميزان الأعمال يوم القيامة من حيث الإيمان به، وهل هو متعدد أم لا، وهل هو قبل الحساب أو بعده، وكيفيته، وماذا يوزن فيه، وهل هو خاص بالمسلمين أو لبني آدم مسلمهم وكافرهم، والموكل به، وكونه من المواطن المهولة.
5 - وصف النسخة الخطية:
وقد عثرت على نسخة خطية واحدة محفوظة بالمكتبة الظاهرية بدمشق في 5 صفحات، مسطرتها 25 سطرا، ما بين 12 - 15 وهي بخط الشيخ محمد بن محمد بن يوسف الميداني الشافعي، شمس الدين، المتوفى في ذي الحجة سنة 1033 هـ (1) .
6 - المصنفات في موضوع الرسالة:
اهتم أهل العلم بالكلام عن مسألة الميزان في كتبهم في الاعتقاد وغيرها، فمنهم من أفاض فيها ومنهم من اقتصر، وقد أفردها بعضهم بالتصنيف لأهميتها. وممن وقفت على تصنيفه في ذلك:
1 - الحافظ محمد بن أبي بكر القيسي المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842 هـ) صنف " منهاج السلامة في ميزان القيامة " (2) .
__________
(1) انظر لترجمته خلاصة الأثر 4 \ 170، الأعلام 7 \ 62.
(2) مطبوع بتحقيق مشعل بن باني الجبرين المطيري، دار ابن حزم، بيروت.(56/151)
2 - الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ) صنف " تحرير المقام والبيان في الكلام على الميزان " وهو هذا الجزء الذي نقدم له.
3 - الشيخ أحمد بن سليمان الرومي المشهور بابن كمال باشا (ت 940 هـ) صنف " الميزان في الحشر ".
4 - الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ) صنف " تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان " (1) .
7 - منهج التحقيق:
وقد قمت في هذه الرسالة بعزو الآيات، وتخريج الأحاديث والآثار من مصادرها الأصلية والحكم على أسانيدها، وعزوت النصوص إلى مصادرها، ولم أعلق على المسائل إلا عند الحاجة لذلك- خشية الإطالة-.
__________
(1) مطبوع بتحقيق مشهور حسن سلمان، دار ابن القيم، الدمام، وله طبعة أخرى بتحقيق د. سليمان الخزي.(56/152)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
قال الشيخ الإمام العالم العلامة حافظ عصره شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي الشافعي - رضي الله تعالى عنه-: الكلام على الميزان من أوجه:
الأول: في وجوب الإيمان به. الثاني: هل هو متعدد أو واحد؟ الثالث: في كونه بعد الحساب أو قبله؟ الرابع: في كيفيته. الخامس: في الموزون فيه أهو نفس العمل بأن يجعل الله تعالى له ذاتا توضع في الميزان، أو الصحف المثبت فيها العمل، أو الشخص نفسه؟ السادس: أهو عام لكل بني آدم أو خاص بالمسلمين منهم ثم يستثنى من شاء الله. السابع: في الموكل به. الثامن: في كونه من المواطن المهولة.
واقتصرت على هذا العدد رجاء أن يفتح الله لنا أبواب الجنة الثمانية ندخل من أيها شئنا، كما أن اختصاص الميزان بالذكر للإرشاد إلى أن المرء تزن أفعاله وأقواله بميزان الشرع رجاء أن يثقل ميزانه.(56/154)
فأما الأول: فقد قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (1) ، وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (3) ، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} (5) ، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} (6) {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (7) {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} (8) {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (9) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} (10) {نَارٌ حَامِيَةٌ} (11) ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (12) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (13) {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (14)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 47
(2) سورة المؤمنون الآية 102
(3) سورة المؤمنون الآية 103
(4) سورة الأعراف الآية 8
(5) سورة الأعراف الآية 9
(6) سورة القارعة الآية 6
(7) سورة القارعة الآية 7
(8) سورة القارعة الآية 8
(9) سورة القارعة الآية 9
(10) سورة القارعة الآية 10
(11) سورة القارعة الآية 11
(12) سورة الكهف الآية 103
(13) سورة الكهف الآية 104
(14) سورة الكهف الآية 105(56/155)
إلى غير ذلك من الآيات الشاهدة لثبوته.
«وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان، قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالجنة والنار والميزان، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم، قال: صدقت (1) » . أخرجه البيهقي في البعث والنشور (2) ، وأبو نعيم في المستخرج على مسلم (3) وغيرهما من حديث يونس بن محمد عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه، وذكره، وأصله في صحيح مسلم (4) ، بل هو في صحيح ابن حبان بالزيادة. وما ورد به
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(2) البعث والنشور 2 \ 525 (رسالة دكتوراه) وكذا في الشعب 1 \ 257 رقم 278.
(3) لم أقف على هذه الزيادة في المستخرج.
(4) صحيح مسلم كتاب الإيمان 1 \ 36 رقم 8.(56/156)
خبر الصادق فالإيمان به واجب.(56/157)
وأما الثاني: في التعدد وعدمه، فكلاهما محتمل، وعلى الأول يكون الجمع (1) حينئذ وذلك بالنظر لكل شخص، وعلى الثاني يكون الجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة. والثاني أرجح، ولا يستشكل [ل 2] بكثرة من يوزن عمله؛ لأن أحواله يوم القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا. وبه أجيب من استشكل حديث: «ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي " - أي نطقي- حتى أرد عليه (2) » بأنه يتعدد في كل آن من الأزمان المصلي
__________
(1) كقوله تعالى: ونضع الموازين. وقوله عز وجل: فمن ثقلت موازينه، ونحوهما.
(2) أخرجه أبو داود كتاب المناسك باب (100) زيارة القبور 2 \ 534 رقم 2041، وأحمد 2 \ 227، والطبراني في الأوسط 3 \ 262 رقم 3092، والبيهقي 5 \ 245 وغيرهم، من طريق حيوة بن شريح عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة. وهذا سند حسن؛ لأن فيه حميد بن زياد تكلم فيه، وقد حسنه السخاوي في القول البديع: 150، وجود إسناده ابن عبد الهادي في الصارم المنكي: 114، وقال الحافظ في تخريج الأذكار: حديث غريب، أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله رجال الصحيح إلا أبا صخر فأخرج له مسلم وحده. . . الفتوحات الربانية لابن علان 3 \ 316، وصحح النووي إسناده في الأذكار مع الفتوحات 3 \ 315، وانظر السلسلة الصحيحة رقم 2266. وقع في حاشية النسخة ما نصه: ولك أن تجيب عن الثاني بأن المسلمين لا تخلو حالهم من أن يسلموا معا أو مرتبا، فإن سلموا معا أجزأ الرد عن سلام جميعهم بمرة واحدة إذا قصد بها الرد عليهم، ولا يلزم الرد على كل فرد فرد بخصوصه، وبهذا اندفع استشكال كيف يتصور الرد في آن واحد، وإن وقع سلامهم مرتبا فلا إشكال.(56/158)
عليه، فكيف يتصور الرد على كل فرد في آن واحد؟ فقيل: أحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة فلا تكيف بالدنيا.(56/159)
وأما الثالث (1) : فقال أبو عبد الله القرطبي: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان وزن الأعمال بعده؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال- يعني بعد استخلاصها من المظالم والرياء- والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها (2) ، وهو ظاهر.
__________
(1) هل هو قبل الحساب أو بعده.
(2) التذكرة: 359.(56/159)
وأما الرابع (1) : فروينا عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: " يوضع الميزان وله كفتان لو وضعت في أحدهما السماوات والأرض وما فيهن لوسعتها ".
__________
(1) في كيفيته.(56/159)
وحكمه الرفع إذ لا مجال للرأي فيه.
وكذا قال الحسن: " له لسان وكفتان " (1) بل رويناه (2) في صريح المرفوع من حديث الليث [عن] (3) عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله عز وجل: أتنكر من هذا شيئا، فيقول: لا يا رب، فيقول الله عز وجل: ألك عذر أو حسنة، فيهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: بلى، إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول عز وجل: إنك لا تظلم،
__________
(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول أهل السنة 6 \ 1245 رقم 2210 وسنده حسن.
(2) بفتح الراء مع التخفيف وبضمها مع تشديد الواو.
(3) في الأصل [بن] والصواب ما أثبته.(56/160)
قال: فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة (2) » . وهو حسن.
وروي عن أبي حنيفة [عن] (3) حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي في قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (4) قال: يجاء بعمل رجل فيوضع في كفة ميزانه، ويجاء بمثل الغمام أو السحاب كثرة فيوضع في كفة أخرى في ميزانه، ويقال: أتدري ما هذا؟ فيقال: هذا العلم الذي تعلمته وعلمته الناس، تعلموه وعملوا به بعدك ". وقيل: إنه عكس ميزان
__________
(1) هذا حديث البطاقة المشهور، وقد أخرجه جمع من العلماء، منهم: الترمذي في جامعه كتاب الإيمان باب (17) 5 \ 24 رقم 2639، وقال: حسن غريب. وابن ماجه كتاب الزهد باب (35) 2 \ 1437 رقم 4300. وأحمد 2 \ 213. والحاكم في المستدرك 1 \ 529، وصححه، ووافقه الذهبي وغيرهم، حيث أخرجه جمع كثير من العلماء، كلهم من طريق عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه عن عامر جمع، منهم الليث وابن لهيعة وابن أبي مريم. وهو حديث صحيح. وقد صنف الكناني (ت 357 هـ) جزء البطاقة، مطبوع.
(2) أي خفت، والطيش الخفة. النهاية 3 \ 153. (1)
(3) ما بين الحاصرتين ليس في الأصل، والصواب إثباته.
(4) سورة الأنبياء الآية 47(56/161)
الدنيا، فالراجح يصعد والخفيف يهبط (1) وذلك مناسب (2) ، وهو جسم محسوس.
__________
(1) لوامع الأنوار 2 \ 188.
(2) لكن الصواب أن الراجح يهبط كما يدل عليه حديث البطاقة وغيره.(56/162)
وأما الخامس: في بيان الموزون (1) . فروينا في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (2) » .
وروينا عن أبي الدرداء رضي " الله تعالى عنه رفعه: «أثقل شيء يوضع في الميزان خلق حسن (3) » .
وعن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مرفوعا:
__________
(1) يعني 0 هل توزن الأعمال أم الأشخاص أم الصحائف.
(2) مسلم كتاب الطهارة باب (1) 1 \ 203 رقم 223.
(3) أخرجه أبو داود كتاب الأدب باب (8) 5 \ 149 رقم 4799، والترمذي كتاب البر والصلة باب (62) 4 \ 362 رقم 2002، 2003، وأحمد 6 \ 451، والبخاري في الأدب المفرد 103 رقم 470، والحميدي 1 \ 164، وابن أبي عاصم في السنة رقم 782، 783، وعبد بن حميد 213 رقم 204 وغيرهم، من طرق عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنهم، وهو حديث صحيح.(56/162)
«بخ بخ (2) » . إلى غيرها من الأحاديث التي منها حديث أبي هريرة مرفوعا: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان (3) » وأثر إبراهيم النخعي - الماضي قريبا- (4) .
ولهذا كان الصحيح كما ذهب إليه أهل السنة- وهو الحق- أن الأعمال توزن، فتجسد أو تجعل في أجسام، فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم
__________
(1) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة رقم 167، وابن حبان (الإحسان) (3 \ 114) رقم 833، الحاكم 1 \ 511، وابن أبي عاصم في السنة رقم 781، وابن سعد في الطبقات 7 \ 433، والدولابي في الكنى 1 \ 36، والطبراني في الكبير 22 \ 348 وغيرهم من حديث أبي سلمى الراعي رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الدعاء برقم 1679، والبزار (كشف الأستار) 4 \ 9 رقم 3072 من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الأوسط 5 \ 225 رقم 5152 من حديث سفينة رضي الله عنه. وابن أبي شيبة 10 \ 295 من حديث أبي الدرداء. والحديث صحيح.
(2) (1) لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده
(3) البخاري كتاب التوحيد باب (58) 13 \ 537 رقم 7563، ومسلم كتاب الذكر والدعاء باب (10) 4 \ 2072 رقم 2694 وغيرهم.
(4) ص161.(56/163)
توزن. وبه صرح ابن عباس، فقال: " إن الله يخلق الأعراض أجساما " ولكن حديث البطاقة- الماضي- حيث قيل فيه: «فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة (1) » يشهد لأن الموزون الصحائف، وأوردت في القول البديع (2) - مما حديث البطاقة أولى منه- عن عبد الله بن عمرو في حديث طويل: «إدراك النبي صلى الله عليه وسلم في القيامة شخصا من أمته وهو منطلق به إلى النار، فيخرج من حجزته بطاقة بيضاء كالأنملة، فيلقيها في كفة الميزان اليمنى قائلا: بسم الله، فترجح الحسنات على السيئات (4) » . وكذا قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: " توزن صحائف الأعمال " (5) . وصححه القرطبي.
بل في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2639) ، سنن ابن ماجه الزهد (4300) ، مسند أحمد بن حنبل (2/222) .
(2) القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: 118.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله: 93 رقم 80 وفيه عبد الله بن واقد، متروك. وعزاه السخاوي للنميري وابن البنا قال: وسنده هالك. القول البديع: 118.
(4) الحجزة: موضع شد الإزار وهو وسط الرجل. انظر النهاية 1 \ 344، لسان العرب 5 \ 332 (حجز) . (3)
(5) ذكره القرطبي في التذكرة بلا سند ص 364.(56/164)
«إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " وقال: اقرءوا إن شئتم: (2) » . وفي قول: «يأتي الرجل الأكول والشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها (3) » .
ونحوه في (مسند) (4) أحمد عن ابن مسعود أنه كان يجني سواكا من أراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «" مم تضحكون؟ ! قالوا: يا رسول الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد (5) » .
__________
(1) البخاري كتاب التفسير باب (6) 8 \ 426 رقم 4729، ومسلم كتاب صفة القيامة باب (1) 5 \ 2147 رقم 2785 وغيرهم.
(2) سورة الكهف الآية 105 (1) {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}
(3) أخرجه ابن أبي حاتم كما ذكر ابن كثير في النهاية 2 \ 48. ونحو هذا اللفظ أخرجه ابن عدي في الكامل 6 \ 230، والبيهقي في الشعب 5 \ 34 رقم 5670، وعزا الحافظ ابن حجر نحوه لابن مردويه، الفتح 8 \ 426. وانظر ألفاظا أخرى عند السيوطي في الدر المنثور 4 \ 254.
(4) في الأصل (مستدرك أحمد) والحديث فيهما- كما سيأتي- لكنه في المستدرك من حديث قرة بن إياس.
(5) أخرجه أحمد في مسنده 1 \ 420، وفي فضائل الصحابة 2 \ 843 رقم 1552، والطبراني في الكبير 9 \ 75 رقم 8452، وابن سعد في الطبقات 3 \ 155، وأبو نعيم في الحلية 1 \ 127، والفسوي في التاريخ 545، وغيرهم من حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود. وجاء عن غيره فأخرجه أحمد في مسنده 1 \ 114، والطبراني في الكبير 9 \ 97 رقم 8516، وابن سعد في الطبقات 3 \ 155، والفسوي في التاريخ 2 \ 546 وغيرهم من حديث مغيرة عن أم موسى عن علي بن أبي طالب. وأخرجه الحاكم 3 \ 317 وصححه، والفسوي في التاريخ 2 \ 546 من حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه. وجاء عن غيرهم، وهو صحيح.(56/165)
وكلها دالة على أن الشخص هو الموزون، فيحتمل أن يوزن مع عمله، ويدل لذلك أنه في بعض طرق حديث البطاقة عند أحمد (1) من حديث ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رفعه: «يوضع الميزان يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فتمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار، قال: فإذا أدبر إذا صائح من عند الرحمن يقول: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقي له شيء، فيؤتى ببطاقة له فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفته حتى (يميل) به الميزان (3) » .
وبكل ذلك يرد على المعتزلة المنكرين للميزان متمسكين بأن الأعمال أعراض لا جرم لها فكيف توزن، ولا يساعدهم قول مجاهد وغيره:
__________
(1) المسند 2 \ 221، 222.
(2) سنن الترمذي الإيمان (2639) ، سنن ابن ماجه الزهد (4300) ، مسند أحمد بن حنبل (2/222) .
(3) في الأصل (تثقل) وصحح في الحاشية، وهو كذلك في مصادر الحديث. (2)(56/166)
" الميزان بمعنى العدل والإنصاف "، وذكر الوزن والميزان ضرب مثل، كما يقال: هذا الكلام في وزن هذا، فإن الظاهر أنهم [ل4] إنما فسروا به قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (1) {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (2) {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (3) فالميزان في قوله تعالى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (4) أي العدل، فأمر عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم (5) .
وقد قال الإمام أحمد ردا على من أنكره ما معناه قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (6) فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله تعالى.
__________
(1) سورة الرحمن الآية 7
(2) سورة الرحمن الآية 8
(3) سورة الرحمن الآية 9
(4) سورة الرحمن الآية 7
(5) ونحو ذلك قاله الحافظ ابن كثير في النهاية (2 \ 53) .
(6) سورة الأنبياء الآية 47(56/167)
وأما السادس: فظاهر قول البخاري: وأن أعمال بني آدم وأقوالهم توزن (1) على العموم، ولكن استدل القرطبي (2) لعدم الوزن للكفار بقوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (3) بل ربما قيل في السبعين ألفا الداخلين الجنة بغير
__________
(1) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب (58) 13 \ 537 مع الفتح.
(2) التذكرة: 361.
(3) سورة الرحمن الآية 41(56/167)
حساب أنهم لا توزن أعمالهم، وكذا في الذين يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: «يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من هذا الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سواه (1) » ولكن لا يلزم من هذا أن لا توزن أعمالهم، فقد توزن أعمال السعداء وإن كانت راجحة؛ لإظهار شرفهم على رءوس الناس والتنويه بسعادتهم ونجاتهم، كما أن الكفار توزن أعمالهم وإن لم تكن لهم حسنات تنفعهم؛ لإظهار شقائهم وفضيحتهم على رءوس الخلائق. على أن القرطبي (2) اختار أن الكافر قد يوافي بصدقة وصلة رحم وعتق فيخفف عنه بها العذاب، واستشهد لذلك بقصة أبي طالب حيث جعل في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، ولكن المعتمد اختصاص أبي طالب بما
__________
(1) جزء من حديث طويل، أخرجه البخاري كتاب التفسير، سورة بني إسرائيل باب (5) 8 \ 395، 396 رقم 4712، ومسلم كتاب الإيمان باب (84) 1 \ 184، 185، رقم 194 من حديث أبي هريرة.
(2) التذكرة: 363.(56/168)
تقدم لأجل حياطته بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما يسقى أبو لهب في النقرة التي في ظهر الإبهام بسبب عتاقه لثويبة مولاته التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم حين بشرت مولاها بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وما عداهما فيجازى في الدنيا بصحة ومال ونحوهما، وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (1) وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) .
وأما ما يروى من «أن حاتما الطائي يكون في جهنم في بيت من زجاج يقيه وهج النار لكرمه (3) » ، فضعيف.
وقد «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وقيل: إنه كان يقري الضيف ويصل الرحم ويعتق، أفينفعه
__________
(1) سورة الفرقان الآية 23
(2) سورة النور الآية 39
(3) لم أقف عليه.(56/169)
ذلك؟ فقال: لا لأنه لم يقل يوما من الدهر لا إله إلا الله. وفي لفظ: إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين (1) » .
وقال في حاتم كما روي: «إنه أراد أمرا فبلغه (2) » . يعني الشهرة والذكر. نسأل الله تعالى السلامة.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب (92) 1 \ 196 رقم 214، وأحمد 6 \ 93، وعند الخرائطي في مكارم الأخلاق 1 \ 338 بسند ضعيف أنه قال: فإنه يهون عليه بما قلت.
(2) أخرجه أحمد 4 \ 258، والطبراني في الكبير 17 \ 104 من طريق سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي قلت: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا فقال: '' إن أباك أراد أمرا فأدركه ''. وفيه مري قال فيه الذهبي: لا يعرف. الميزان 4 \ 95.(56/170)
وأما السابع: في الموكل به، فهو فيما رويناه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما جبريل عليه السلام.(56/170)
وأما الثامن (1) : فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها حين ذكرت النار فبكت: «يا رسول الله هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ فقال: [ل5] " أما في ثلاثة مواضع فلا، عند الميزان حتى يعلم أيثقل أم يخف، وعند تطاير الصحف والكتب حتى يعلم
__________
(1) في كونه من المواطن المهولة.(56/170)
أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم وراء ظهره، وعند الصراط حتى يعلم أينجو منه أم لا (1) » «وسأل أنس رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له يوم القيامة قال: إني فاعل، قال: فأين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: اطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان، قال: فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه المواطن الثلاثة (2) » . قال ابن مسعود رضي الله عنه: " للناس عند الميزان تجادل
__________
(1) أخرجه أبو داود ك السنة ب (28) 5 \ 116 رقم (4755) ، وأحمد 6 \ 101، والحاكم 4 \ 578، والآجري في الشريعة: 341، والأصبهاني في الحجة 1 \ 466، وغيرهم، من عدة طرق عن الحسن عن عائشة. وهو منقطع كما قال الحاكم. وأخرجه أحمد 6 \ 110، والآجري في الشريعة: 341، وفي سنده ابن لهيعة يرويه عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة، وابن لهيعة متكلم فيه. وأخرجه الواحدي في تفسيره (الوسيط) 2 \ 350 من طريق مسروق عن عائشة، وفيه عصام بن طليق ضعيف جدا. وروي عن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير 8 \ 7890، والواحدي في تفسيره (الوسيط) 3 \ 240 وفيه الألهاني، ضعيف.
(2) أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة باب (9) 4 \ 621 رقم (2433) وقال: حسن غريب، وأحمد 3 \ 178، واللالكائي في شرح أصول السنة 2 \ 1251 رقم (2220) ، والخطيب في الموضح 1 \ 100، 101 وغيرهم، من طرق عن حرب بن ميمون عن النضر بن أنس عن أنس رضي الله عنه. وسنده حسن.(56/171)
وزحام ". وفي حديث ضعيف: «أنه يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين (كفتي) الميزان فيوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه ذكر عكسه (3) » .
وبالجملة فقد قال البيهقي بعد تصريحه بوجوب الإيمان بالأول: ثم يكون محمولا على الوجه الذي يصح حمله
__________
(1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة (بغية الباحث 2 \ 1004 رقم 1125) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 6 \ 174، والبيهقي في البعث 2 \ 531 (رسالة دكتوراه) من طريق داود بن المحبر عن صالح المري عن جعفر بن زيد عن أنس. وأخرجه البزار (كشف الأستار) 4 \ 160 رقم 3445، وأبو نعيم في الحلية 6 \ 174، واللالكائي في شرح أصول أهل السنة 6 \ 1243 رقم 2205، وابن أبي الدنيا كما ذكر ابن كثير في النهاية 2 \ 50 كلهم من طريق داود بن المحبر عن صالح المري عن ثابت وجعفر ومنصور عن أنس. ومدار الحديث على داود وصالح، والأول متروك، والثاني ضعيف. فالإسناد ضعيف جدا. قال البيهقي: وإسناد هذا الحديث ضعيف بمرة. البعث 2 \ 531.
(2) في الأصل (كتفي) وكتب في الحاشية: (لعله كفتي) وهو كذلك في مصادر تخريج الحديث. (1)
(3) أي '' شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ''. (2)(56/172)
عليه (1) . والله المستعان.
تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) البعث والنشور 2 \ 524.(56/173)
صفحة فارغة(56/174)
حكم التسمية عند الوضوء
للدكتور عبد الكريم بن يوسف بن عبد الكريم الخضر (1)
مقدمة:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحليم العظيم، الكريم الجليل، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، خالق السماوات والأرضين، باعث الناس ليوم عظيم. أحمده حمد من يعترف بفضله ويدين بوحدانيته ويسبح بحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، ومغني العالمين، وأشهد أن محمد بن عبد الله مبعوث رب العالمين إلى الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا بحث متواضع في " حكم التسمية عند الوضوء " أحببت أن أساهم به في بيان حكم مسألة يحتاج إليها جميع المسلمين؛ لأنها تتعلق بأمر الوضوء الذي لا تصح الصلاة إلا به.
سبب اختيار هذا الموضوع وأهميته:
لقد كانت مسألة التسمية عند الوضوء وصيغتها وحكم نسيانها تجول في ذهني كثيرا، وكان لدي رغبة أكيدة في معرفة
__________
(1) أستاذ مساعد في قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود.(56/175)
حكمها، وكنت أمني وأعد نفسي كثيرا ببحثها قدر استطاعتي، خاصة وأنها تتعلق بأمر مهم من أمور العبادة التي لا تستقيم حياة المسلم بدونها.
تلكم هي الصلاة والتي هي من أهم أركان الإسلام، بل لا يصح إسلام المرء بدونها؛ لأنها هي الفيصل بين الرجل والكفر أو الشرك، ولذلك كان لا بد على المسلم من الاهتمام بأمرها والعناية بشأنها أعظم الاهتمام وأشد العناية، وبما أن الصلاة لا تصح بدون وضوء وطهارة، كان لا بد لها من ذلك؛ لأمر الله تعالى بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) .
وحيث إن الوضوء من العبادات الشرعية التي لا بد من الإتيان بها على الوجه الشرعي الصحيح، حتى يعبد العبد ربه على بصيرة من أمره وهدى من ربه، كان لزاما على المسلم أن يعرف جميع الأحكام الشرعية المتعلقة بالوضوء، حتى لا يكون في حيرة من أمره فيما يتعلق بعبادته لربه عز وجل.
وبما أن التسمية هي من أولى الأمور التي يبتدئ بها الإنسان عند إرادته الوضوء، كان لا بد لكل مسلم أن يعرف حكمها الشرعي، وهل هي واجبة في الوضوء، أم سنة فيه، كما يلزمه أن يعرف ما هي صيغتها الشرعية، وما حكم تركها عمدا أو
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(56/176)
نسيانا؟ ولمعرفة هذه الأحكام السابقة استعنت بالله وتوكلت عليه في بحث هذه المسألة.
وأسأله عز وجل المعونة والسداد والدلالة على طريق الهدى والخير حيث كان، إنه نعم المسئول ونعم المجيب.
التمهيد:
المراد بالتسمية عند الوضوء:
التسمية عند الوضوء أو البسملة عند الوضوء بمعنى واحد، وهو أن يذكر الإنسان اسم الله تعالى عندما يريد أن يتوضأ.
وبعض أهل العلم يذكرها بلفظ البسملة، وأكثرهم يقول: التسمية عند الوضوء. وهذا هو المشهور في كتب الفقهاء، كما سيلاحظ القارئ عندما يطلع على كلامهم في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.
والبسملة هي قول: بسم الله. ويقال: بسمل بسملة إذا قال أو كتب بسم الله (1) . ويقال: قد أكثرت من البسملة أي من قول بسم الله.
__________
(1) المصباح المنير 1 \ 68، كتاب الباء، الباء مع السين وما يثلثهما، مادة (بسمل) .(56/177)
حكم التسمية عند الوضوء:
اختلف الفقهاء في حكم التسمية عند الوضوء على أربعة(56/177)
أقوال، هي:
القول الأول: أنها سنة. وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية (1) ، ورواية عند الحنابلة هي ظاهر المذهب عندهم، وهو مذهب الظاهرية (2) .
القول الثاني: أنها واجبة. وهو رواية عند الحنابلة هي المذهب، اختارها أبو بكر عبد العزيز بن جعفر، والقاضي أبو يعلى (3) ، وهو مذهب الحسن البصري، وإسحاق بن راهويه (4) .
القول الثالث: أنها ليست بمشروعة " منكرة ". وهو قول
__________
(1) نهاية المحتاج 1 \ 183، روضة الطالبين 1 \ 157، المجموع 1 \ 345، حلية العلماء 1 \ 136.
(2) المحلى 1 \ 295.
(3) انظر: المغني 1 \ 145، الانتصار في المسائل الكبار 1 \ 250، المستوعب 1 \ 143، الإنصاف 1 \ 128.
(4) المغني 1 \ 145، الانتصار في المسائل الكبار 1 \ 250، الأوسط 1 \ 368، المجموع 1 \ 146.(56/178)
عند المالكية (1) .
القول الرابع: أنها مباحة. وهو قول عند المالكية (2) .
وقد استشكل بعضهم تصور الإباحة مع رجحان الذكر. وأجيب بأن المباح وقوع الذكر الخاص في أول العبادات الخاصة، أما نفس الفعل فراجح الفعل، فمحل الإباحة غير محل الندب (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأولى: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (4) .
الدليل الثاني: عن حمران مولى عثمان «أنه رأى عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه (5) » .
__________
(1) انظر: الخرشي 1 \ 139، تنوير المقالة 1 \ 478.
(2) انظر: الخرشي 1 \ 139، تنوير المقالة 1 \ 478.
(3) الخرشي 1 \ 139.
(4) سورة المائدة الآية 6
(5) رواه البخاري 1 \ 48، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثا، ورواه مسلم 1 \ 205، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، واللفظ له.(56/179)
وجه الدلالة من الدليلين: أن الله سبحانه وتعالى بين واجبات الوضوء في الآية والحديث السابقين ولم يورد فيهما التسمية، مما يدل على عدم وجوبها؛ لأنها لو كانت واجبة لذكرها الله سبحانه وتعالى مع بقية الواجبات (1) .
ونوقش وجه الدلالة السابق من وجهين:
الوجه الأول: أن التسمية وإن لم تذكر في هذه الآية ولا في هذا الحديث فإنها ذكرت في أحاديث أخرى، مما يدل على وجوبها.
يجاب عنه: أن أسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة، فلا يصح الاستدلال (2) بها.
الوجه الثاني: أن النية لم تذكر في الآية ولا في الحديث من ضمن واجبات الوضوء ومع ذلك لم يقل أحد: إنها ليست واجبة فيه.
يجاب عنه: أن وجوب النية في الوضوء، وإن لم يرد في
__________
(1) انظر: المبسوط 1 \ 55، أحكام القرآن للجصاص 3 \ 365، الانتصار في المسائل الكبار 1 \ 257.
(2) انظر: المجموع 1 \ 344، وانظر تفصيل ذلك في ص190- 195 من هذا البحث.(56/180)
هذه الآية ولا في هذا الحديث، فإنه قد ثبت في حديث آخر بين وجوب النية في جميع الأعمال الشرعية. أما التسمية في الوضوء فلم تثبت بنص شرعي آخر مما يدل على عدم وجوبها.
الدليل الثالث: عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم الله، فإنه يطهر جسده كله، فإن لم يذكر أحدكم اسم الله على طهوره لم يطهر إلا ما مر عليه الماء، فإذا فرغ أحدكم من طهوره فليشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم ليصل علي، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة (1) » .
وجه الدلالة: أن هذا الحديث حكم بطهارة الأعضاء مع
__________
(1) رواه الدارقطني، سنن الدارقطني 1 \ 73، 74، باب التسمية على الوضوء واللفظ له. ورواه البيهقي، السنن الكبرى 1 \ 44، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء.(56/181)
عدم التسمية، مما يدل صراحة على عدم وجوب التسمية عند الوضوء (1) .
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف فلا يصح الاستدلال به.
الوجه الثاني: أنه حجة للقائلين بوجوب التسمية، حيث لم يحكم بطهارة بقية البدن مع عدم التسمية، والبدن جميعه محدث، بدليل أنه لا يجوز مس المصحف بصدره، ومع بقاء الحدث في بعض البدن لا تصح الصلاة (2) .
الدليل الرابع: أن التسمية مشروعة عند كثير من الأمور، سواء كانت عبادة، أو غيرها. فتشرع عند الأكل، وعند دخول
__________
(1) انظر: تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق 1 \ 355، الانتصار 1 \ 253.
(2) انظر: تنقيح التحقيق 1 \ 356، الانتصار 1 \ 253.(56/182)
المنزل، والخروج منه، وعند ركوب الدابة، وعند(56/183)
الوطء، وعند تغطية الإناء، وغيرها من المواضع التي تشرع فيها التسمية؛ فيكون الوضوء من الأشياء التي يسن أن تسبق بالتسمية، خاصة مع وجود الأحاديث المثبتة لذلك.
يناقش: إنكم ذكرتم أن الأحاديث المثبتة للتسمية عند الوضوء ضعيفة (1) ولا تصلح للاستدلال بها على وجوب التسمية، فما بالكم قد استدللتم بها الآن؟
__________
(1) انظر: من ص 190 إلى ص 195 من هذا البحث.(56/184)
يجاب عنه: أننا لم نستدل بهذه الأحاديث فنثبت وجوب التسمية؛ لأن إثبات الوجوب يحتاج إلى دليل قوي مستقيم، ولكننا استأنسنا بهذه الأحاديث مع مشروعية التسمية عند كثير من الأمور المتعلقة بالعبادات وغيرها، الثابتة بالأحاديث الصحيحة، فقلنا: إن التسمية عند الوضوء سنة يستحب النطق بها عند البداءة به.
الدليل الخامس: أن التسمية معنى شرع عند الذبح؛ فلم يجب في الطهارة، كاستقبال القبلة (1) .
نوقش: لم كان كذلك؟ ونحن نرى أن استقبال القبلة يشرع في الذبيحة والدعاء، ويجب قي الصلاة، وكذلك ذكر الله تعالى يشرع في الأذان وفي الصلاة وفي الخطبة، فليس إذا شرع الشيء في فعل لا يفعل في غيره (2) .
الدليل السادس: أن الوضوء طهارة فلا تفتقر إلى التسمية، كالطهارة من النجاسة، أو عبادة فلا تجب فيها التسمية، كسائر العبادات (3) .
الدليل السابع: أن التسمية عند الوضوء ذكر يسقط بالسهو فلم يكن واجبا كالتسبيح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (4) .
__________
(1) انظر: الانتصار 1 \ 259.
(2) انظر: الانتصار 1 \ 259.
(3) المغني 1 \ 145.
(4) انظر: الانتصار 1 \ 259.(56/185)
نوقش: أنا لا نسلم لكم أنه يسقط سهوا، ومن سلم قال: لا يمتنع أن يسقط بالسهو ما كان واجبا، كالإمساك في الصوم وكترك الكلام أثناء الصلاة والتسمية على الذبيحة ونحو ذلك، فأما الأصل فلم يشرع في الوضوء أصلا (1) .
الدليل الثامن: أن الوضوء شرط من شرائط الصلاة فلم تشترط في صحته التسمية، كستر العورة وإزالة النجاسة واستقبال القبلة (2) .
نوقش: أنه " لا تأثير لقولكم: شرط. فإن الحج والصيام والزكاة ليس بشرط ولا تسمية فيه أيضا، ولا نسلم الأصل، فإنه إنما يكون شرطا إذا كان فعلها في الصلاة، وفي الصلاة تسمية والطهارة لا تفعل في الصلاة ودوام حكمها ليس بفعل؛ ولهذا لو حلف لا يتطهر وهو متطهر فاستدام لم يحنث، ولو حلف لا يستتر ولا يستقبل القبلة فاستدام حنث؛ ولهذا لا يشرع لتلك الشروط نية مفردة، بخلاف الطهارة. فأما النجاسة فهي نقل عين معينة كرد المغصوب والعواري، أو طريقها التروك فلم تفتقر إلى ذكر، كترك الزنى والربا والسرقة، ولأن الطهارة عبادة منفردة يتنفل بها وترجع إلى شطرها فكانت كالصلاة، بخلاف سائر الشروط " (3) .
__________
(1) انظر: الانتصار 1 \ 259.
(2) انظر: الانتصار 1 \ 258، شرح معاني الآثار 1 \ 29.
(3) انظر: الانتصار 1 \ 258.(56/186)
الدليل التاسع: أن الوضوء عبادة لا يجب في آخرها ذكر فلا يجب في أولها، كالطواف (1) .
ونوقش: لم كان كذلك؟ ونحن نعلم أنه يشرع في أولها الذكر ويستحب ولا يشرع في آخرها، وكذلك يجب إحضار النية في أولها ولا يجب في آخرها. . . وكذلك التسمية ينطق بها في أول الذبح دون آخره، وكذلك يجب التكبير في أول الصلاة ولا يجب في آخرها (2) .
الدليل العاشر: أن المطلوب من المتوضئ هو الطهارة، وترك التسمية لا يقدح فيها؛ لأن الماء خلق طهورا في الأصل فلا تقف طهوريته على صنع العبد (3) .
__________
(1) انظر: المجموع 1 \ 347، الانتصار 1 \ 258.
(2) انظر: الانتصار 1 \ 258.
(3) بدائع الصنائع 1 \ 20.(56/187)
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: - عن كثير بن زيد، عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) » .
__________
(1) رواه ابن ماجه، سنن ابن ماجه 1 \ 139- 140، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء، واللفظ له. والدارمي، سنن الدارمي 1 \ 176، كتاب الوضوء، باب التسمية في الوضوء. وابن أبي شيبة في المصنف 1 \ 2- 3، كتاب الطهارات، في التسمية في الوضوء. والحاكم في المستدرك 1 \ 246، كتاب الطهارة. والبيهقي في السنن الكبرى 1 \ 43، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء.(56/187)
الدليل الثاني: عن عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال المري، قال: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب، يقول: أخبرتني جدتي عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه، ولا يؤمن بالله من لم يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لم يحب الأنصار (1) » .
الدليل الثالث: قال الإمام أحمد: ثنا قتيبة، ثنا محمد بن موسى المخزومي، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (2) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 4 \ 70. والترمذي، سنن الترمذي 1 \ 37- 38، أبواب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء. ورواه ابن ماجه 1 \ 140، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء. ورواه الدارقطني، سنن الدارقطني 1 \ 72- 73، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء، واللفظ له. وابن أبي شيبة، المصنف لابن أبي شيبة 1 \ 3، كتاب الطهارات، في التسمية في الوضوء. والبيهقي، السنن الكبرى 1 \ 43، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 418، واللفظ له. وأبو داود، سنن أبي داود 1 \ 75، كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء، وابن ماجه، سنن ابن ماجه 1 \ 140، كتاب الطهارة، وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء.(56/188)
وجاء من طريق آخر عند الدارقطني: نا ابن صاعد، نا محمود بن محمد أبو يزيد الظفري، نا أيوب بن النجار، عن يحيى بن كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما توضأ من لم يذكر اسم الله، وما صلى من لم يتوضأ، وما آمن بي من لم يحبني، وما أحبني من لم يحب الأنصار (1) » .
الدليل الرابع: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لا يصلي على النبي، ولا صلاة لمن لا يحب الأنصار (2) » .
وجه الدلالة من الأحاديث السابقة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا وضوء " نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، فيعم نفي الكمال والإجزاء، كما أن قوله في أول الحديث: «لا صلاة لمن لا وضوء له (3) » يقتضي نفي الإجزاء والكمال (4) .
__________
(1) رواه الدارقطني 1 \ 71، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء، واللفظ له. والبيهقي، السنن الكبرى 1 \ 44، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء.
(2) رواه ابن ماجه، سنن ابن ماجه 1 \ 140، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء، واللفظ له. والدارقطني، سنن الدارقطني 1 \ 355، كتاب الطهارة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد واختلاف الروايات في ذلك.
(3) سنن أبو داود الطهارة (101) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (399) .
(4) انظر: الانتصار في المسائل الكبار 1 \ 252، المغني 1 \ 145.(56/189)
نوقش: أن أسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة (1) .
ففي الحديث الأول كثير بن زيد. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك. وكان أولا قال: ليس بشيء. وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ما هو. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين. وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه (2) .
وكثير بن زيد حدث به عن ربيح بن عبد الرحمن. قال أبو زرعة عنه: شيخ. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وقال أحمد بن حفص السعدي: سئل أحمد عن التسمية في الوضوء فقال: لا أعلم فيه حديثا يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف (3) .
ونقل الترمذي عن البخاري قوله عن ربيح: منكر الحديث (4) .
__________
(1) المجموع 1 \ 344.
(2) انظر: تهذيب التهذيب 8 \ 414.
(3) انظر: تهذيب التهذيب 3 \ 238.
(4) العلل للترمذي ص12.(56/190)
وأما الحديث الثاني ففيه عبد الرحمن بن حرملة عن أبي ثفال المري عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب.
قال العقيلي: " حدثني آدم بن موسى، قال: سمعت البخاري يقول: أبو ثفال المري عن رباح بن عبد الرحمن: في حديثه نظر.
وحدثنا إبراهيم بن عبد الوهاب الأبزاري، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ، قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: التسمية في الوضوء؟ فقال: أحسن شيء فيه حديث ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد الخدري. قلت: فحديث حدث عبد الرحمن بن حرملة؟ قال: لا يثبت " (1) . ثم عقب العقيلي على ذلك قائلا: " الأسانيد في هذا الباب فيها لين " (2) .
ونقل الترمذي عن البخاري قوله: أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن (3) .
ونقل ابن حجر عن ابن عبد البر قوله: " أبو بكر بن حويطب، يقال: اسمه رباح، ويقال: اسمه كنيته، روى عن جدته، يقال: حديثه مرسل " (4) .
__________
(1) الضعفاء الكبير للعقيلي 1 \ 177.
(2) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(3) سنن الترمذي 1 \ 39.
(4) تهذيب التهذيب 3 \ 23.(56/191)
قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: " ليس في هذا حديث يثبت، وأحسنها حديث كثير بن زيد. وضعف حديث ابن حرملة. وقال: أنا لا آمر بالإعادة، وأرجو أن يجزيه الوضوء؛ لأنه ليس في هذا حديث أحكم به " (1) .
وأما الحديث الثالث فرواه قتيبة عن محمد بن موسى المخزومي عن يعقوب بن سلمة عن أبيه. قال البخاري رحمه الله: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه (2) .
وقال الدارقطني عن محمود بن محمد الظفري: ليس بالقوي، فيه نظر (3) .
وقال البيهقي: " هذا الحديث لا يعرف من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثا واحدا وهو حديث «التقى آدم وموسى (4) » ذكره يحيى بن معين فيما رواه عن ابن أبي مريم، فكان حديثه هذا منقطعا " (5) .
يجاب عن مناقشة هذا الحديث: أن الحاكم رحمه الله قال عنه في المستدرك: " هذا حديث صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة دينار،
__________
(1) تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق 1 \ 357، وانظر: المستدرك 1 \ 7، ونصب الراية 1 \ 4.
(2) التاريخ الكبير 4 \ 76.
(3) لسان الميزان 6 \ 5.
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4736) ، صحيح مسلم القدر (2652) ، سنن الترمذي القدر (2134) ، سنن أبو داود السنة (4701) ، سنن ابن ماجه المقدمة (80) ، مسند أحمد بن حنبل (2/314) ، موطأ مالك الجامع (1660) .
(5) السنن الكبرى 1 \ 44.(56/192)
ولم يخرجاه (1) .
يرد عليه: بما ذكره النووي في المجموع، حيث قال: أما قول الحاكم أبي عبد الله في المستدرك على الصحيحين في حديث أبي هريرة أنه حديث صحيح الإسناد فليس بصحيح؛ لأنه انقلب عليه إسناده واشتبه. كذا قال الحفاظ (2) .
قال ابن حجر في التلخيص الحبير بعد ذكره لهذا الحديث: " رواه الحاكم من هذا الوجه، فقال: يعقوب بن أبي سلمة وادعى أنه الماجشون وصححه لذلك، والصواب أنه الليثي. قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه ولا لأبيه من أبي هريرة، وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جدا، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطئ مع قلة ما روى فكيف يوصف بكونه ثقة؟
قال ابن الصلاح: انقلب إسناده على الحاكم، فلا يحتج لثبوته بتخريجه له. وتبعه النووي. وقال ابن دقيق العيد: لو سلم للحاكم أنه يعقوب بن أبي سلمة الماجشون - واسم أبي سلمة دينار - فيحتاج إلى معرفة حال أبي سلمة، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، فلا يكون أيضا صحيحا (3) .
أما الحديث الرابع ففي إسناده عبد المهيمن. قال عنه
__________
(1) المستدرك 1 \ 246.
(2) المجموع 1 \ 344.
(3) التلخيص الحبير 1 \ 386.(56/193)
الدارقطني: ليس بالقوي (1) . وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد المهيمن. ثم قال: لكنه لم ينفرد به عبد المهيمن، فقد تابعه عليه أبي، أخو عبد المهيمن (2) . قال ابن حجر في التلخيص الحبير: أبي مختلف فيه (3) .
الدليل الخامس: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره يسمي الله (4) » .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مس طهوره يسمي الله عز وجل، وهذا يدل على وجوب التسمية عند الوضوء.
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده حارثة بن محمد،
فلا يصح الاستدلال به.
__________
(1) انظر: سنن الدارقطني 1 \ 355.
(2) مصباح الزجاج 1 \ 60.
(3) التلخيص الحبير 1 \ 390.
(4) رواه الدارقطني، سنن الدارقطني 1 \ 72، واللفظ له. والبزار، مسند البزار 1 \ 137. وابن أبي شيبة، المصنف 1 \ 3.(56/194)
الوجه الثاني: لو سلمنا بصحته فإنا لا نسلم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للشيء دليل على وجوبه، بل قد يدل فعله صلى الله عليه وسلم للشيء على سنيته وندبه.
الدليل السادس: " إنها عبادة يبطلها الحدث، فوجب في أولها نطق، كالصلاة " (1) .
يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه منتقض بالطواف، فالطواف عبادة يبطلها الحدث ومع ذلك لم يجب في أوله نطق.
الوجه الثاني: أنه يمكن قلب الدليل على المستدلين به، فيقال: إن الوضوء عبادة يبطلها الحدث؛ فلم تجب التسمية في أولها، كالصلاة (2) .
__________
(1) انظر: المجموع 1 \ 346.
(2) انظر: المجموع 1 \ 347.(56/195)
دليل القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث على عدم مشروعية التسمية عند الوضوء بعدم وجود دليل شرعي يثبت مشروعيتها في هذا الموضع بالذات (1) .
يناقش: أن التسمية مشروعة عند كثير من الأمور، سواء كانت عبادة أو غيرها. فتشرع عند الأكل، وعند دخول المنزل والخروج منه، وعند ركوب الدابة، وعند الوطء (2) ، وغيرها من
__________
(1) انظر: الخرشي 1 \ 139، تنوير المقالة 1 \ 478.
(2) انظر: بعض هذه الأحاديث في ص182، 183، 184.(56/195)
المواضع التي تشرع فيها التسمية؛ فيكون الوضوء من الأشياء التي يسن أن تسبق بالتسمية، خاصة مع وجود الأحاديث السابقة المثبتة لذلك.(56/196)
دليل القول الرابع: واستدل أصحاب القول الرابع القائلين بإباحة التسمية عند الوضوء بأنه لم يرد دليل شرعي يثبت وجوبها، أو سنيتها؛ فتكون مباحة في هذا الموضع. وبناء عليه فإن المباح هو وقوع الذكر الخاص في أول العبادات الخاصة، أما نفس الذكر فراجح الفعل.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال السابقة والنظر في أدلتها ومناقشة ما احتاج منها إلى مناقشة تبين لي أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو مذهب القائلين بسنية التسمية عند الوضوء؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت في التسمية عند الوضوء، وهي وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، مما يدل على أن لها أصلا؛ فتكون التسمية عند الوضوء سنة ثابتة، وليست بواجبة؛ لعدم وجود الدليل الصحيح الذي يدل على وجوبها. والله أعلم.(56/196)
صيغة التسمية:
اختلف الفقهاء في صيغة التسمية التي تقال عند الوضوء على أربعة أقوال، هي:
القول الأول: أن صيغة التسمية هي قول: بسم الله. لا(56/196)
يقوم غيرها مقامها. وهذا مذهب الحنابلة (1) .
قال الزركشي: وصفتها " بسم الله "، فإن قال: بسم الرحمن، أو القدوس لم يجزئه على الأشهر (2) .
القول الثاني: أن صيغة التسمية: باسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام، وقيل: الأفضل: بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: يجمع بينهما. وهو مذهب الحنفية.
قال ابن الهمام عن التسمية: " لفظها المنقول عن السلف، وقيل: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «باسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام،» وقيل: الأفضل: بسم الله الرحمن الرحيم، بعد التعوذ " (3) .
القول الثالث: أن صيغة التسمية هي أن يقول: بسم الله. وفي زيادة " الرحمن الرحيم " قولان مرجحان؛ فابن ناجي رجح القول بعدم زيادتهما، والفاكهاني وابن المنير رجحا القول بزيادتهما.
وهذا مذهب المالكية.
__________
(1) انظر: المغني 1 \ 146، شرح الزركشي 1 \ 172، المبدع 1 \ 107- 108، الإنصاف 1 \ 129.
(2) انظر: شرح الزركشي 1 \ 172.
(3) شرح فتح القدير 1 \ 19.(56/197)
قال الشيخ صالح الآبي المالكي في جواهر الإكليل وهو يعدد سنن الوضوء: وتسمية عند ابتداء الوضوء بأن يقول: " بسم الله "، وفي زيادة " الرحمن الرحيم " قولان مرجحان (1) .
القول الرابع: أكمل التسمية أن يقول المتوضئ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويجزئه أن يقول: بسم الله. وهذا مذهب الشافعية (2) .
قال النووي: " واعلم أن أكمل التسمية أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: باسم الله فقط، حصل فضيلة التسمية بلا خلاف (3) .
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال السابقة الواردة في هذه المسألة تبين لي أن القول الراجح هو القول الأول، وهو أن صيغة التسمية هي أن يقول الإنسان: " بسم الله "؛ لأن هذه الصيغة هي الصيغة الواردة في كثير من الأحاديث التي ورد فيها الأمر بالتسمية، كحديث التسمية عند الأكل (4) ، وحديث التسمية عند دخول المنزل (5) ، وعند الخروج منه (6) ، وحديث التسمية عند
__________
(1) جواهر الإكليل 1 \ 17.
(2) انظر: المجموع 1 \ 377، نهاية المحتاج 1 \ 184.
(3) المجموع 1 \ 344.
(4) سبق ذكره في هامش ص 182.
(5) سبق ذكره في هامش ص 183.
(6) سبق ذكره في هامش ص 183.(56/198)
الجماع (1) ، وحديث التسمية عند سكب الماء على المتوضئ (2) ، وحديث التسمية عند ركوب الدابة (3) ، وغيرها من مواضع التسمية. والله أعلم.
__________
(1) سبق ذكره في هامش ص 184.
(2) سبق ذكره في هامش ص 184.
(3) سبق ذكره في هامش ص 183.(56/199)
حكم ترك التسمية ونسيانها:
اختلف الفقهاء في حكم ترك التسمية عمدا، ونسيانها سهوا، على أربعة أقوال، هي:
القول الأول: أن من نسي التسمية في أول الوضوء ثم ذكرها في أثنائه، فإنه يسن له أن يأتي بها؛ حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله عز وجل، وإن تركها عمدا فإنه يجزئه وضوءه. وهذا مذهب الشافعية (1) ، ورواية عند الحنابلة (2) . .
قال الشافعي: " وأحب للرجل أن يسمي الله عز وجل في ابتداء وضوئه، فإن سها سمى متى ذكر وإن كان قبل أن يكمل الوضوء، وإن ترك التسمية ناسيا أو عامدا لم يفسد وضوءه إن شاء الله تعالى " (3) .
__________
(1) المجموع 1 \ 344، 345، 346، فتح العزيز 1 \ 392، نهاية المحتاج 1 \ 184، الأم 1 \ 31.
(2) الانتصار 1 \ 250، الإنصاف 1 \ 129، التحقيق في أحاديث الخلاف 1 \ 137، المغني 1 \ 145
(3) الأم 1 \ 145.(56/199)
قال ابن قدامة: " ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه أن التسمية مسنونة في طهارات الحدث كلها. رواه عنه جماعة من أصحابه.
وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه أنه لا بأس به، يعني إذا ترك التسمية " (1) .
القول الثاني: أن من ترك التسمية أو نسيها عند الوضوء فلا شيء عليه، فإن ذكرها أثناء الوضوء فسمى فإنه لا يحصل السنة، بخلاف نحوه في الأكل؛ وذلك لأن الوضوء عمل واحد، بخلاف الأكل، فإن كل لقمة فعل مستقل. والتسمية في أثناء الأكل تحصيل للسنة في الباقي وليست استدراكا لما فات، وبالتالي فإنه لا يحصل السنة في الوضوء؛ لأنه عمل واحد لا تحصل السنة في أثنائه.
ومعنى هذا أنه إذا نسي التسمية عند ابتداء الوضوء فإن إتياته بها في أثنائه وعدم إتيانه بها سواء. وهذا مذهب الحنفية.
جاء في البحر الرائق: " ولو نسي التسمية في ابتداء الوضوء، ثم ذكرها خلاله فسمى لا تحصل السنة، بخلاف نحوه في الأكل " (2) .
القول الثالث: أن من ترك التسمية أو نسيها عند الوضوء
__________
(1) المغني 1 \ 145.
(2) البحر الرائق 1 \ 20.(56/200)
فذكرها في أثنائه فإنه يقول: بسم الله في أوله وآخره، وإن لم يقل فلا شيء عليه. وهو مذهب المالكية (1) .
جاء في شرح الخرشي على مختصر خليل عن نسيان التسمية قوله: " وإن نسيها في أوله قال في أثنائه: بسم الله في أوله وآخره " (2) .
القول الرابع: أنه لا يجوز ترك التسمية عموما، وإذا تركت عمدا لم تصح الطهارة، وإن تركت سهوا صحت الطهارة. نص على ذلك الإمام أحمد في رواية أبي داود (3) .
قال ابن قدامة: " وإن قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته؛ لأنه ترك واجبا في الطهارة أشبه ما لو ترك النية، وإن تركها سهوا صحت طهارته. نص عليه أحمد في رواية أبي داود، فإنه قال: سألت أحمد بن حنبل: إذا نسي التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء " (4) .
الترجيح: الترجيح في هذه المسألة مبني على الترجيح في المسألة السابقة، وهي مسألة حكم التسمية عند الوضوء، وبما أننا قلنا في المسألة السابقة: إن القول الراجح هو القول الأولى، وهو أن
__________
(1) الخرشي 1 \ 139.
(2) الخرشي 1 \ 139.
(3) المغني 1 \ 146، الانتصار في المسائل الكبار 1 \ 250، الإنصاف 1 \ 129، المبدع 1 \ 107.
(4) المغني 1 \ 146.(56/201)
التسمية سنة عند الوضوء وليست بواجبة، فإننا نقول هنا: إن الراجح هو القول الأول، وهو أن ترك التسمية عمدا أو سهوا لا يؤثر في الطهارة وتصح بدونها، ولكن الأفضل للإنسان ألا يخلي هذه العبادة- وهي الطهارة- من ذكر الله، وهي هنا التسمية عند الوضوء، ولا بأس أن يذكرها في أي جزء من أجزاء الطهارة.(56/202)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وتكمل الغايات، وتشكر النعمات، وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق المخلوقات، رافع السماوات، مبدع الكائنات، وأشهد أن محمدا رسول الله، المبعوث بالرحمات من رب الأرض والسماوات.
أما بعد:
فإن لكل شيء بداية ولكل بداية نهاية ونهاية الأشياء أمر حتمي، لذلك كانت هذه الخاتمة نهاية لهذا البحث المتواضع والذي توصلت فيه إلى عدة نتائج، منها:
1 - أن التسمية عند الوضوء سنة وليست بواجبة.
2 - أن صيغة التسمية عند الوضوء هي أن يقول من يريد أن يتوضأ: " بسم الله ".
3 - أن من ترك التسمية عمدا أو سهوا فلا شيء عليه، ويتم وضوءه بدون ذكرها.
هذه بعض النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث، فإن يكن ما توصلت إليه صوابا فمن الله وحده، والفضل والمنة له(56/202)
سبحانه، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله بريئان مما أقول. والحمد لله رب العالمين، وهو حسبي ونعم الوكيل.(56/203)
صفحة فارغة(56/204)
أنواع الحقوق التي تحميها
العقوبات الشرعية والآثار المترتبة عليها
للدكتور: علي بن عبد الرحمن الحسون (1)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن من أهم مقاصد الإسلام تكوين مجتمع صالح متعاون يحقق الغاية التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله أولا، ويحقق الحياة الكريمة والأمن الدائم ثانيا.
فالمجتمع الإسلامي مجتمع مثالي يتعاون أهله في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ومع هذا فإن الإسلام لا ينتظر أن يكون الناس كلهم على قلب رجل واحد من الصلاح وعدم الفساد، حيث يؤمن بوجود أولئك الذين يخرجون على النظام ويبحثون عن الفساد؛ ولهذا فقد قرر عقوبات متنوعة يحافظ بها على حقوق الجماعة ثم على حقوق الأفراد.
__________
(1) الأستاذ المساعد في قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود.(56/205)
وقد رأيت في بحثي المتواضع هذا أن أتطرق إلى حقوق الجماعة وحقوق الأفراد التي حماها الإسلام وأبين الآثار المترتبة عليها، وذلك في مبحثين على النحو التالي:
المبحث الأول: أنواع الحقوق التي تحميها العقوبات.
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على اعتبار الجرائم اعتداء على حق الله أو حق العبد.
المطلب الأول: الخصومة والدعوى.
المطلب الثاني: الإرث بحق الدعوى والشكوى.
المطلب الثالث: العفو.
المطلب الرابع: التوبة.
المطلب الخامس: التناسب بين الجريمة والعقوبة.
المطلب السادس: الصلح والاعتياض.
هذا وختاما أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى إكماله على الوجه الذي يرضيه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(56/206)
المبحث الأول: أنواع الحقوق التي تحميها العقوبات:
ذكر الشاطبي رحمه الله تعالى أن الأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق العبد تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - ما هو حق الله الخالص.
2 - ما هو حق لله وحق للعبد وحق الله هو الغالب.
3 - ما هو حق لله وحق للعبد ولكن حق العبد(56/206)
أغلب (1) .
وذكر بعض أهل العلم أن الحقوق قسمان (2) :
1 - ما هو حق لله تعالى.
2 - ما هو حق للعبد.
وذكر بعضهم أنها أربعة (3) :
1 - حق الله الخالص.
2 - حق العبد الخالص.
3 - ما هو حق لله وللعبد وحق الله أغلب.
4 - ما هو حق لله وللعبد وحق العبد أغلب.
وتقسيم الشاطبي هو الأولى؛ لأنه لا يتصور حق خالص للفرد، إذ ما من حق لآدمي إلا ولله فيه حق.
وقد حافظ الإسلام على هذه الحقوق ومنع الاعتداء عليها، فقد فرض الإسلام العقوبات المتنوعة الحاسمة على الجرائم المرتكبة من قبل مريدي الفساد؛ لأنها تمثل اعتداء على حقوق الجماعة- وتسمى حقوق الله أو الحق العام- وعلى حقوق الأفراد وهو الحق الخاص أو الشخصي.
ومعنى المساس بحقوق الجماعة أو حقوق الله، أن تكون
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 \ 318- 320، وانظر: الفروق للقرافي 1 \ 140- 142.
(2) إعلام الموقعين 1 \ 108.
(3) أصول البزدوي 4 \ 134.(56/207)
الجريمة تمس حدا من حدود الله التي رسمها وعينها، وتمس كيان الجماعة ومصالحها مساسا مباشرا، وتنال من الفضيلة التي تحمي المجتمع من جرائم الانحلال الخلقي وتجعله يعيش في طهر وأمن ونظام.
ويعني الاعتداء على حقوق الفرد أن تكون الجريمة اعتداء على مصالح الأفراد وتمس حقوقهم مساسا مباشرا.
وعلى هذا الأساس فتنقسم الجرائم إلى قسمين: جرائم تمس حق الله الخالص، أو تمس حق الله وحق العبد، وحق الله فيه الغالب. وجرائم تمس حق الله وحق العبد، وحق العبد فيه الغالب (1) .
وتوضيحها كالتالي:
أولا: جرائم تمس حق الله الخالص، أو تمس حق الله وحق العبد وحق الله هو الغالب، ويعبر عنه بحقوق الجماعة:
وهي جرائم الزنى وشرب الخمر، والحرابة والردة، والسرقة، فهذه الجرائم تمس حقوق الجماعة ومصالحها مساسا مباشرا، فشرعت العقوبة عليها حقا لله تعالى وحماية لحقوق الجماعة.
__________
(1) راجع: التشريع الجنائي 1 \ 98- 99، والجريمة ص54، وفي أصول النظام الجنائي الإسلامي ص74 وما بعدها.(56/208)
أما الزنى فيقول الأستاذ عبد القادر عودة: " فالزنا اعتداء على نظام الأسرة، ولو لم يعاقب عليه لكان لكل امرئ أن يشارك الآخر في أي امرأة شاء، وأن يدعي من شاء أو يتنصل ممن يشاء من الأبناء، ولانتهى الأمر بغلبة الأقوياء وهزيمة الضعفاء، وتضييع الأنساب وشقاء الآباء والأبناء. وأخيرا فإن إباحة الزنا معناها: الاستغناء عن نظام الأسرة وهدم الدعامة الأولى من الدعائم التي تقوم عليها الجماعة " (1) .
ويقول الأستاذ محمد أبو زهرة: " إن هذه الجريمة- يعني الزنى- تشيع الفاحشة، وهي اعتداء على النسل، وهي مخالفة للناموس الاجتماعي، والسكوت عن العقوبة عليها يؤدي إلى الإحجام عن الزواج ونحو ذلك " (2) .
وأما شرب الخمر فهو يؤدي إلى فقدان الشعور والعقل، وإذا فقد الإنسان عقله وشعوره يصبح مصدر شر وأداة أذى للمجتمع، ويكون مهيأ لارتكاب الجرائم البشعة، مع ما فيه من إضاعة للأموال وإضعاف للصحة والنسل. يقول الأستاذ عبد القادر عودة: " والنظام الإسلامي يحرم الخمر تحريما قاطعا، فإتيان هذه الجريمة اعتداء من كل وجه على الجماعة، وهدم للنظم التي تقوم عليها الجماعة " (3) .
__________
(1) التشريع الجنائي 1 \ 618.
(2) فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي ص72.
(3) التشريع الجنائي 1 \ 619.(56/209)
أما الحرابة والإفساد في الأرض فهي جريمة تمس كيان المجتمع مساسا شديدا مباشرا؛ لما في ذلك من ترويع للجماعة وتفزيع للناس، وإخلال بالأمن واعتداء على النظام الاجتماعي ونظام الحكم. وقد تقع مصاحبة للجرائم الأخرى، كالقتل والسرقة، وقد تقع منفردة.
وأما الردة فهي أيضا تمس المجتمع الإسلامي مساسا مباشرا شديدا، ففيها خروج على النظام وهدم لأساسه. يقول الأستاذ عبد القادر عودة: " والردة اعتداء على النظام الاجتماعي للجماعة؛ لأن النظام الاجتماعي لكل جماعة إسلامية هو الإسلام، ولأن الردة معناها الكفر بالإسلام والخروج على مبادئه والتشكيك في صحته، ولا يمكن أن يستقيم أمر الجماعة إذا وضع نظامها الاجتماعي موضع التشكيك والطعن؛ لأن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى هدم هذا النظام " (1) .
وأما السرقة ففيها اعتداء على حق الله تبارك وتعالى وحق العبد، ولكن حق الله هو الغالب. فهي اعتداء على المال، ولا بد للمال أن يكون له مالك، وفيها مساس بحقوق المجتمع، ونيل منها؛ إذ فيها إفزاع للناس وتخويف لهم، وإخلال بالأمن، وهدم لنظام الملكية الفردية، وتهديد للنظام الاقتصادي للجماعة.
__________
(1) التشريع الجنائي 1 \ 618.(56/210)
يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: " وجريمة السرقة فيها اعتداء على الأشخاص، وفيها مع ذلك اعتداء على المجتمع يصغر بجواره الأذى الشخصي؛ إذ فيها الترويع والإفزاع. . .، ولهذا المعنى الاجتماعي العام كانت اعتداء على حق الله تعالى " (1) .
ثانيا: الجرائم التي فيها اعتداء على حق العبد وحق الله تعالى، ولكن جانب الاعتداء على حق العبد هو الغالب:
وهي جرائم القصاص والديات، وجريمة القذف على الخلاف فيها، وبيانها على النحو التالي:
أ- أما جريمة القذف ففيها اعتداء على حق العبد والنيل منه؛ إذ فيها جناية على عرض المقذوف وإلحاق العار به، وفيها ناحية اجتماعية أيضا، إذ يترتب عليها إشاعة الفاحشة في المجتمع واتهام البرآء بالفواحش.
يقول الأستاذ أبو زهرة عن القذف: " فيه ناحية شخصية وأخرى اجتماعية، وهي ما يترتب على هذه الجريمة من إشاعة الفواحش في المجتمع الذي يلقى فيه الكلام على عواهنه بالنسبة لجريمة الزنى، فيترتب على ذلك الاستهانة بها، وفي انتشار جريمة القذف بالزنى اتهام البرآء بالإجرام، وإفساد للأخلاق وانتشار للزنى والفساد " (2) .
وقال الأستاذ عبد القادر عودة: " وجريمة القذف اعتداء
__________
(1) فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي ص72.
(2) فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي ص 72- 73 بتصرف.(56/211)
على نظام الأسرة؛ لأنها تمس الأعراض، ويترتب عليه التشكيك في صحة نظام الأسرة، فمن يقذف شخصا فإنما ينسبه لغير أسرته، وإذا ضعف الإيمان بنظام الأسرة فقد ضعف الإيمان بالجماعة نفسها؛ لأن الجماعة تقوم على هذا النظام " (1) .
وقد اختلف الفقهاء في الحق الغالب الذي تمسه جريمة القذف إلى ثلاثة أقوال، بعد اتفاقهم على مساسها بحق الله وحق العبد معا:
1 - فذهب الشافعية (2) والحنابلة (3) على المذهب وأغلب المالكية (4) وبعض الحنفية (5) إلى أن جانب الاعتداء على حق العبد هو الغالب والقوي.
وحجتهم أنها جناية على عرض المقذوف، وإلحاق العار به، والعقوبة فرضت حماية لعرض الإنسان، وهو حق متقرر له، فلا يستوفى إلا بمطالبته، كما أنه يورث، مثله في ذلك مثل الجرائم الماسة بحق الآدمي كالقصاص.
2 - وذهب أكثر الحنفية (6) وفي رواية عند
__________
(1) التشريع الجنائي 1 \ 619 باختصار.
(2) المهذب 2 \ 351- 352، روضة الطالبين 8 \ 325.
(3) المغني 12 \ 386، الفروع 6 \ 93، الإنصاف 10 \ 200.
(4) بداية المجتهد 2 \ 438، الإشراف على مسائل الخلاف 2 \ 226.
(5) فتح القدير 5 \ 327، تبيين الحقائق 3 \ 203- 204.
(6) بدائع الصنائع 7 \ 56، فتح القدير 5 \ 327، تبيين الحقائق 3 \ 203- 204.(56/212)
الحنابلة (1) إلى أن جانب الاعتداء على حق الله هو الغالب والقوي. وحجتهم في ذلك أن عقوبة الجرائم الماسة بحق العبد تعتمد على المماثلة؛ لأنها تجب جبرا لمستحقها، والجبر لا يحصل إلا بالمثل، ولا مماثلة بين عقوبة القذف وجريمة القذف، ولأن فيها يجري كثير من الأحكام التي تجري في الجرائم الماسة بحق الله تبارك وتعالى، ولأنه تعارض فيه الحقان فيغلب حق الله تعالى (2) .
3 - وذهب بعض المالكية إلى التفريق بين الجريمة قبل رفعها إلى القاضي وبعد رفعها إليه، فقبل الرفع إلى القاضي تعتبر العقوبة حقا للآدمي، بينما هي بعد الرفع إلى القاضي تكون حقا لله تعالى، فلا يسقط إلا إذا أراد الستر على نفسه (3) .
ولعل الراجح- والله أعلم- هو ما ذهب إليه الشافعية ومن معهم؛ لوجاهة ما عللوا به، ولأنه شرع صيانة لعرض العبد، فالمصلحة التي تترتب على إقامة العقوبة على القذف ترتبط بالفرد أكثر من ارتباطها بالمجتمع، فلا يقام الحد إلا بطلبه، ولأن المقر بجريمة القذف لو رجع عن الإقرار لم يقبل رجوعه، ولم يسقط عنه الحد، ولو كان الغالب فيه حق الله لقبل رجوعه كسائر
__________
(1) الفروع 6 \ 93، الإنصاف 10 \ 201.
(2) فتح القدير 5 \ 327، تبيين الحقائق 3 \ 302، بدائع الصنائع 7 \ 56.
(3) بداية المجتهد 2 \ 438، حاشية الخرشي على خليل 8 \ 90- 91.(56/213)
الحدود (1) .
وأما تعليل الحنفية بأن عقوبة الجرائم الماسة بحقوق الآدميين تعتمد على المماثلة بين الجريمة والعقوبة، ولا مماثلة بين الحد والقذف، فيجاب أن المماثلة ليست منحصرة في المماثلة صورة ومعنى؛ بل يكفي أن تكون المماثلة معنى، والمماثلة المعنوية متحققة في حد القذف، لأن القاذف ألحق الضرر والعار بالمقذوف، حيث شوه سمعته، وجعله عرضة لألسنة الناس، فعوقب بحد يلحق به ضررا وعارا يماثل ما ألحقه بالمقذوف.
ب- وأما جرائم القصاص والدية بالاعتداء على النفس وما دونها، فهذه الجرائم اعتداء على أفراد معينين، وتلحق بهم ضررا مباشرا، والعقوبات المفروضة على هذه الجرائم إنما فرضت حماية لحقوق العباد وتحقيقا للمصالح الشخصية.
وليس معنى قولنا أن جرائم القصاص تمس حقوق الآدميين يعني نفي مساسها لحقوق الجماعة، بل هذه الجرائم تمثل اعتداء على الناحيتين: ناحية شخصية، وناحية اجتماعية، فهي اعتداء على حياة الأفراد وما دونها من ناحية، ومساس واعتداء على النظام الاجتماعي ونظام الحكم من ناحية أخرى.
وإنما نعني بذلك: تغليب حق الفرد على حق الجماعة، وكذلك الشأن في الجرائم التي قلنا فيها أنها تمس حقوق
__________
(1) المغني 2 \ 386.(56/214)
الجماعة، فإنها تعني أنها تمس مصلحة الجماعة أكثر، وليس معنى ذلك أنها لا تمس حقوق الأفراد؛ لأن الجرائم التي تمس حقوق الجماعة تمس في النهاية حقوق الأفراد ومصالحهم (1) .
قال عبد القادر عودة: " والواقع أن كل جريمة تمس مصلحة الجماعة تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة ولو كان محل الجريمة حقا خالصا للفرد ".
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي 1 \ 99 و 612.(56/215)
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على اعتبار الجرائم اعتداء على حق الله أو حق العبد:
وأما الآثار التي تترتب على هذا التقسيم فنوضحها فيما يلي:
المطلب الأول: الخصومة والدعوى:
الخصومة ليست شرطا في الحدود التي هي حق الله تعالى، كجريمة الزنى، والشرب، والردة، والحرابة، فلا يتوقف ثبوت هذه الجرائم على الدعوى، بل للشاهد على هذه الجرائم أن يتقدم لأداء الشهادة، وإن لم يطلب منه ذلك، وتسمى هذه الشهادة، شهادة الحسبة، أو دعوى الحسبة؛ لأن الشاهد يقوم فيها مقام المدعي (1) .
__________
(1) راجع: الجريمة لأبي زهرة ص 65.(56/215)
كما أن الدعوى والخصومة شرط لإثبات الجرائم التي تقع ضد الأفراد وتمس حقوقهم، كجرائم القصاص، والديات، فليس للقاضي أن يحكم بثبوت حق لشخص على شخص آخر ما لم يطالب صاحب الحق بذلك، أو من ينوب عنه، وليس للشهود أن يتقدموا لأداء شهادتهم في هذه الجرائم ما لم يطالبوا بذلك وما لم تسبق الدعوى على شهادتهم؛ لأن الشهادة شرعت لإظهار الحق المطالب به، وحق الآدمي لا يظهر بغير دعواه " لأنه يحتمل أنه استوفاه أو أبرأ منه وعفا عنه دون أن يكون للشهود علم بذلك (1) .
وهذا الحكم يجري في حد القذف الذي يمس حق الله وحق العبد معا، ولكن حق العبد هو الغالب- كما رجحنا ذلك- حيث ذهب جمهور الفقهاء- سواء منهم من يرى أن الغالب هو حق الله أو حق العبد- إلى اشتراط الدعوى والخصومة في الحكم بثبوته؛ لأن حد القذف شرع حماية لعرض العبد ودفعا للضرر والعار عنه، ولأن إقامة حد القذف بدون مطالبة المقذوف قد يؤدي إلى إلحاق الضرر والعار بالمقذوف، وخاصة إذا لم يكن قذفه مشهورا بين الناس، ففي إقامة الحد في مثل هذه الصورة إلحاق للعار بالمقذوف، وهذا يتنافى مع الهدف الذي شرعت العقوبة من أجله.
__________
(1) راجع: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10 \ 201، وتبيين الحقائق 4 \ 229.(56/216)
وذهب ابن حزم إلى أن الخصومة والدعوى ليست شرطا لإقامة حد القذف، واستدل على ذلك بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: «لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فأمر بالمرأة والرجلين، فضربوا حدهم (1) » .
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على الذين رموا عائشة رضي الله عنها بدون أن تطالب بذلك، فلو كانت المطالبة والدعوى من المقذوف شرطا لتوقيع العقوبة على القاذفين لما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على أولئك النفر الذين رموها بدون مطالبتها بذلك.
وكذلك استدل بإقامة عمر رضي الله عنه الحد على الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنى دون أن يكون هناك مطالبة من المغيرة بن شعبة (2) .
والراجح هو مذهب جمهور الفقهاء؛ لأن القذف حمل للآدمي أو حقه فيه هو الغالب، فتتساوى مع جرائم القصاص التي اشترطت فيها الخصومة بالاتفاق.
__________
(1) أورد هذا الجزء من حديث عائشة في الإفك ابن حزم بسنده في المحلى 11 \ 289، وقد وردت القصة كاملة في البخاري وليس فيها الشاهد الذي هنا. انظر: صحيح البخاري 3 \ 154. وانظر: صحيح مسلم 4 \ 2129 الحديث رقم 2770، مسند أحمد 6 \ 194.
(2) راجع: المحلى 11 \ 289- 290.(56/217)
وأما ما استدل به ابن حزم من حديث عائشة فليس فيه ما يدل على عدم اشتراط الدعوى من المقذوف؛ لأن عدم التصريح بمطالبتها ليس دليلا على انتفاء مطالبتها بذلك. والأمر الثاني أن الدعوى إنما اشترطت دفعا لاحتمال صدق مقولة القاذف، وهذا منتف في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ لثبوت نزاهتها وبراءتها بنص القرآن.
وأما توقيع عمر رضي الله عنه عقوبة القذف على الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنى، فليس التصريح بعدم طلب المغيرة نافيا لطلبه، فقد يكون طلبه ولم ينقل. وهو الأولى، بل هو ظاهر وقائع القصة.
وأما السرقة التي تمس حق الله وحق العبد معا، وإن كان جانب الاعتداء على حق الله هو الغالب، فقد اختلف العلماء في اشتراط الدعوى والخصومة فيها إلى ثلاثة أقوال:
1 - فذهب أبو حنيفة (1) والشافعي (2) وأحمد (3) وغيرهم إلى أن الدعوى ومطالبة المسروق منه بماله شرط لثبوت جريمة السرقة وتوقيع الحد على السارق.
__________
(1) راجع: بدائع الصنائع 7 \ 52، وفتح القدير 5 \ 400، حاشية ابن عابدين 4 \ 106.
(2) الأم 7 \ 151، تحفة المحتاج 4 \ 111.
(3) المغني 12 \ 470- 471، كشاف القناع 6 \ 146.(56/218)
واستدلوا على ذلك بالمنقول والمعقول:
أما المنقول: فقد روي «أن عمرو بن سمرة لما أقر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه سرق بعيرا، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل المسروق منهم، فقالوا:، إنا افتقدنا جملا لنا " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده (1) » .
فقالوا: لو لم تكن الخصومة شرطا لما تأكد من المسروق منهم، ولاكتفى بإقراره.
وأما المعقول فقالوا: إن الظاهر أن من في يده مال فهو له، وعند انتفاء الخصومة لا تتحقق ملكية المسروق لغير السارق، ولأن المال يباح بالبذل فيشترط الخصومة والدعوى حتى ينتفي الاحتمال وتزول الشبهات (2) .
2 - وذهب المالكية (3) وابن أبي ليلى وأبو ثور وغيرهم (4) إلى عدم اعتبار الخصومة والدعوى شرطا لثبوت جريمة السرقة، فرأوا صحة إقامة الحد على السارق متى ما ثبتت الجريمة، وإن لم يتقدم المسروق منه بتحريك الدعوى، واستدلوا بالآية:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه 2 \ 763، قال البوصيري: '' هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن لهيعة ''. انظر: مصباح الزجاجة 2 \ 75.
(2) المغني 2 \ 471.
(3) المدونة الكبرى 4 \ 413، الإشراف على مسائل الخلاف 2 \ 275.
(4) شرح العناية على الهداية 5 \ 400، المغني 12 \ 471.
(5) سورة المائدة الآية 38(56/219)
ووجه الاستدلال: أن الله أمر بقطع يد السارق والسارقة ولم يشترط مطالبة المسروق منه بماله.
3 - وذهب أبو يوسف في رواية مشهورة عنه (1) إلى التفريق بين الشهادة والإقرار، فيرى أن الدعوى والخصومة شرط في الشهادة دون الإقرار؛ لأن المقصود هو ظهور سبب القطع ولا يظهر في الشهادة إلا بحضور المسروق منه ومطالبته، أما في الإقرار فسبب القطع ظاهر لا شك فيه (2) .
ولعل الراجح- والله أعلم- هو القول الأول؛ لوضوح ما استدلوا به من دليل العقل.
ويجاب عما استدل به المالكية: أن الآية جاءت لبيان الحكم العام، ولم تتعرض لبيان الشروط والأحكام الجزئية، وإنما جاء بيانها في السنة.
ويجاب عما استدل به أبو يوسف: أن اشتراط الخصومة ليس لأجل التهمة في الشهادة، وإنما لإثبات ملكية المسروق منه لعين المسروق؛ إذ يحتمل أن يأخذ شخص مالا على وجه السرقة، ثم يتضح له أنه مالك لهذا المال عن طريق الهبة أو الإرث أو ما أشبه ذلك، فاشترطت المطالبة حتى ينتفي كل احتمال.
__________
(1) فتح القدير 5 \ 400، حاشية ابن عابدين 4 \ 106.
(2) فتح القدير 5 \ 400.(56/220)
المطلب الثاني: الإرث بحق الدعوى والشكوى:
ومن الآثار والنتائج التي تترتب على تقسيم الجرائم حسب مساسها بحق الله أو حق الفرد، هو حق ورثة المجني عليه في إرث حق المخاصمة عند وفاة مورثهم أو انتفاء ذلك الحق.
فنقول في هذه المسألة: الجرائم التي تمثل اعتداء على حق الأفراد، أو يكون حقهم هو القوي والغالب، فإنه يرث فيها ورثة المجني عليه حق تحريك الدعوى الجنائية في هذه الجريمة عند موت مورثهم.
وهذه هي جرائم القصاص والدية وجريمة القذف، فينتقل فيها حق الدعوى والشكوى من المجني عليه إلى ورثته في صورة وفاته.
أما الجرائم التي تعتبر اعتداء على حق الجماعة (أو حق الله) فإن انتقال حق الخصومة إلى الورثة غير وارد أصلا؛ إذ الجريمة فيها تقع ضد الجماعة، ولا يتصور انقضاء حياة الجماعة (1) .
__________
(1) راجع: في أصول النظام الجنائي الإسلامي ص 84.(56/221)
وكذلك جريمة السرقة التي غلب فيها جانب الاعتداء على حقوق الجماعة لا ينتقل فيها حق الدعوى والخصومة إلى ورثة المسروق منه لا في حياته ولا بعد وفاته؛ لأنه يحتمل أن يكون المسروق منه قد عفا عن السارق، أو يكون قد وهبه ذلك المال، أو أذن له في الدخول إلى حرزه، أو أباحه للسارق، ولا يكون للورثة العلم بذلك كله مطلقا.(56/222)
المطلب الثالث: العفو:
ومن الآثار والنتائج التي تترتب على اعتبار الجريمة تمس حق الله أو حق الفرد، هو مدى إمكانية العفو وتأثيره على سقوط العقوبة عن الجاني. فكل جريمة غلب فيها جانب الاعتداء على حق الفرد على جانب الاعتداء على حق الجماعة، كان لذلك الفرد المجني عليه أو لأوليائه- في صورة قتل المجني عليه- حق بالعفو عن الجاني، وبذلك تسقط العقوبة المقدرة على الجاني (1) ؛ بل إن العفو في هذه الجرائم أفضل من الاستيفاء، فقد قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (2) ، وقال: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (3) ، وورد عن أنس بن مالك أنه قال: «ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 108.
(2) سورة البقرة الآية 178
(3) سورة المائدة الآية 45(56/222)
أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو (1) » .
وهذه الجرائم التي يكون جانب الاعتداء على حق العبد غالبا هي كما بينا جرائم القصاص والدية وجريمة القذف.
أما الجرائم التي تقع ضد المجتمع وتمس مصالحه مساسا مباشرا، وليس فيها اعتداء على فرد معين، فلا مجال للعفو فيها (2) . فهذه الجرائم بما أنها لا تمس حق العبد فلا يؤثر العفو فيها مطلقا. وهي جرائم الزنى، والشرب، والحرابة.
أما جريمة السرقة وإن كان جانب الاعتداء على حقوق الجماعة فيها غالبا، إلا أن حكمها في هذا الباب يختلف عن
__________
(1) مسند أحمد 3 \ 213، سنن ابن ماجه 2 \ 898، السنن الكبرى للبيهقي 8 \ 55. والحديث من طريق عبد الله بن بكر المزني. قال صاحب حاشية السلسبيل في معرفة الدليل: (قلت: عبد الله بن بكر، قال عنه ابن معين والنسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات ''. انظر: حاشية السلسبيل 4 \ 130.
(2) إعلام الموقعين 1 \ 108.(56/223)
الجرائم التي تمس حقوق الجماعة. فيجوز العفو في جريمة السرقة قبل رفعها إلى القاضي، يدل على ذلك ما روى مالك في الموطأ (1) : " أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به السلطان، فقال الزبير: إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع ".
ومن ذلك: «أن صفوان بن أمية كان نائما على رداء له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء لص فسرقه، فأخذه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده، فقال صفوان: يا رسول الله، لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فهلا قبل أن تأتيني به (2) » .
فهذه الأحاديث تدل على جواز العفو في السرقة قبل رفع الجريمة إلى القضاء، كما تدل على عدم تأثيره بعد رفعها إلى الإمام، وهذا هو الحكم بالنسبة للشفاعة، فهي جائزة قبل رفعها إلى الإمام ومذمومة بعد الرفع، يدل عليه الذي سبق ذكره، ويدل عليه حديث المخزومية أيضا التي سرقت، وشفع المسلمون فيها أسامة بن زيد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم خطب وقال: " يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق
__________
(1) كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان ص 600.
(2) سنن ابن ماجه 2 \ 865، سنن النسائي 8 \ 68، مستدرك الحاكم 4 \ 95، وقال الحاكم: '' صحيح الإسناد ولم يخرجاه '' ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في إرواء الغليل 7 \ 345.(56/224)
الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان 21 \ 87 برقم 6788. ومسلم في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود 3 \ 1315 برقم 1688.(56/225)
المطلب الرابع: التوبة:
بناء على التقسيم السابق من حقوق لله تعالى وحقوق للعباد، فإن التوبة لا تدخل فيما هو من حقوق الآدميين وهو القصاص، أو حقه فيه الغالب على الراجح وهو القذف.
أما إذا كانت الجريمة اعتداء على حق لله تعالى فإن للعلماء تفصيلا في ذلك:
أ - أثر التوبة في جريمة الحرابة:
أجمع الفقهاء على سقوط العقاب في الحرابة بالتوبة بشرط أن يكون قبل القدرة عليه، كما نصت على ذلك الآية الكريمة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، ولكن ما يحصل من اعتداء على حقوق الأفراد في جريمة الحرابة كالقتل وأخذ المال فلا يسقط بالتوبة،
__________
(1) سورة المائدة الآية 34(56/225)
وإنما بالعفو إذا عفا صاحبه (1) .
ب - أثر التوبة في غير جريمة الحرابة:
أما في غير جريمة الحرابة فإن التوبة ليست سببا للإعفاء من العقوبة وذلك بأن النص ورد في الحرابة فلا يتعداها.
ويدل لذلك حديث ماعز والغامدية، فقد طبق فيهما حد الرجم مع وجود التوبة من ماعز والغامدية. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الغامدية: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى (2) » .
__________
(1) الإفصاح لابن هبيرة 2 \ 265، الجامع لأحكام القرآن 6 \ 158.
(2) في حديث ماعز انظر: صحيح البخاري 8 \ 24، وصحيح مسلم 3 \ 1318 - 1322. وفي حديث الغامدية انظر: صحيح مسلم 3 \ 1322 - 1324، سنن أبي داود 4 \ 588.(56/226)
هذا وقد ذكر القرطبي قولا أرى أنه جدير بأن يؤخذ به، حيث قال: " فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا " (1) .
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن 6 \ 158.(56/227)
المطلب الخامس: التناسب بين الجريمة والعقوبة:
إن الجرائم التي يغلب فيها جانب الاعتداء على حق الله تعالى تتسم عقوباتها بالشدة حيث لا يجوز فيها العفو، إما مطلقا لعدم مساسها حقوق أفراد معينين حتى يعفوا عن الجاني، وإما بعد الرفع إلى القاضي كما في جرائم السرقة، فلا يجوز فيها الشفاعة من وال أو غيره بعد رفعها إلى القاضي، كما تقدم من أمر المرأة المخزومية التي سرقت ورفع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفع المسلمون فيها أسامة بن زيد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟ وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها (1) » . على نحو ما تقدم في فقرة العفو (2) .
بينما الجرائم الماسة بحقوق العبد تتسم باللين والتسامح، فيجوز فيها العفو فتسقط العقوبة بالعفو، ويجوز للولي ولغيره أن
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6788) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4902) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .
(2) راجع صفحة 225 من هذا البحث.(56/227)
يشفع لدى المجني عليه أو ورثته ويرغب في العفو، على نحو ما مر من حديث أنس أنه قال: «ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو (1) » .
إذا فعقوبة الجرائم الماسة بحق الله تتسم بالشدة، بخلاف العقوبات في الجرائم الماسة بحقوق العبد، وذلك أنه في تقدير العقوبة في الجرائم الماسة بحق الله لا ينظر إلى الجريمة ذاتها؛ بل ينظر إلى آثارها السيئة على المجتمع والمصالح العامة وحقوق الجماعة. فقد تكون الجريمة بحيث لا يكون فيها أذى حسي لشخص ما، كزنى رجل غير متزوج بامرأة غير متزوجة راضية مختارة، فإذا نظرنا إلى الجريمة من الناحية الشخصية لا نجد فيها معنى الاعتداء واضحا، ولكن فرضت العقوبة نظرا إلى الآثار القبيحة التي يلقاها المجتمع. من جراء هذه الجريمة من إشاعة الفاحشة والاعتداء على النسل والعرض، ومخالفة الناموس الاجتماعي، واختلاط النسب، وضياع أنفس، ونسبة الإنسان إلى غير أبيه وغير ذلك (2) ، ولذلك صارت العقوبة شديدة.
وكذلك نأخذ مثالا آخر، قطاع الطريق إذا خرجوا واتفقوا فيما بينهم، فالشريعة تعاقبهم على مجرد هذا الخروج، وإن لم يرتكبوا أي جريمة أخرى من القتل وأخذ المال وهتك الأعراض ونحو ذلك. فإذا نظرنا إلى مجرد الخروج فلا نجد فيه أي اعتداء حسي على أحد، ولكن الشريعة فرضت العقوبة نظرا إلى الآثار
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4783) ، سنن أبو داود الديات (4497) ، سنن ابن ماجه الديات (2692) ، مسند أحمد بن حنبل (3/213) .
(2) راجع فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي ص 72.(56/228)
التي تصيب المجتمع: من ترويع شديد، وتعطيل نظام السفر والتجارة، ونحو ذلك؛ فكانت كذلك العقوبة شديدة، بخلاف ما لو كانت حقا لآدمي فإنه يلزم التماثل بين الجريمة والعقوبة، فلا تكون شديدة لعدم حصول ضرر كبير على الفرد.
فالجرائم التي تمس حق الله تعالى تكون العقوبة متسمة بالشدة لتتناسب مع الآثار المترتبة عليها ضد المجتمع والصالح العام والفضائل السائدة في المجتمع. أما الجرائم التي تمس حق العبد فالعقوبة تتسم بشيء من التريث، ولا ينظر في فرض العقوبات عليها إلى الآثار المترتبة بقدر ما ينظر إلى نفس الجريمة؛ لأن العقوبات فيها تعتمد على المماثلة بين الجريمة والعقوبة، وهذه المماثلة إما أن تكون صورة ومعنى، أو تكون معنى فقط؛ لأنها شرعت جبرا للنقص والخلل الحاصل على المجني عليه، والجبر لا يحصل إلا بالمماثلة (1) .
قال الكاساني: " إن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة، إما صورة ومعنى، وإما معنى لا صورة؟ لأنها تجب بمقابلة المحل جبرا، والجبر لا يحصل إلا بالمثل " (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 56.
(2) بدائع الصنائع 7 \ 56.(56/229)
المطلب السادس: الصلح والاعتياض:
ومما يترتب على اعتبار الجرائم اعتداء على حق الله تعالى أو حق العباد هو الاعتياض والصلح على مبلغ معين. فيجوز(56/229)
الصلح في الجرائم التي تمس حقوق الآدميين، أو تغلب حقوقهم على حق الله، كجرائم القصاص، والقذف. فإذا تصالح الفريقان على عوض مالي مهما كان قدره تسقط العقوبة المقدرة عن المجرم ويخلى سبيله.
ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عمدا دفع إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية وذلك ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وذلك عقل العمد وما صولحوا عليه فهو لهم (1) » .
وفي عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلا، فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه، فأبى ذلك وقتله.
__________
(1) رواه ابن ماجه، كتاب الديات، باب من قتل عمدا فرضوا بالدية (2 \ 877) برقم 2626، والبيهقي في السنن الكبرى 8 \ 71 - 72، والترمذي في سننه 4 \ 11 - 12، وقال الترمذي: '' حديث حسن غريب '' وحسنه الألباني في إرواء الغليل 7 \ 295.(56/230)
ولا يجوز الاعتياض والتصالح في جرائم تمس حقوق الجماعة، فتقام العقوبة حقا لله تعالى، وكذلك في الجرائم التي يغلب جانب الاعتداء على حقوق الجماعة، كجريمة السرقة (1) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 108.(56/231)
صفحة فارغة(56/232)
البئر وضمانه
للدكتور: ياسين بن ناصر الخطيب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه ومن والاه، ومن أراد لهذه الأمة التيقظ والانتباه، وبعد:
فإن الإنسان - وهو يرى المشاكل قائمة في بعض الأمور التي تهم المجتمع الذي يعيش فيه - ليأسف على قومه كيف لم يتقدموا إلى الشرع يستلهمون منه ما يرشدهم إلى الخير، ويدلهم على ما فيه الصلاح؟ !
وقد رأيت أن الآبار وما شاكلها من حفر البالوعات - البيارات - ومن حفر السواقي والأنهار في الطرقات لتصريف المياه، وحفر الحفر العميقة لزراعة النخيل، كل ذلك سبب مشكلات طويلة، ومآس مزمنة في حياة الناس، وسبب تنازعا وخصاما، وخاصة تلكم المنازعات التي تحدث من جراء الآبار في القرى والأرياف والصحاري والفيافي والطرق، مما يستدعي وضع حلول ناجعة، وأحكام مستنبطة من شرعنا الشريف أو من قواعده العامة، فأحببت أن أدلي بدلوي فأستخرج ما كتبه العلماء(56/233)
من أحكام تدور حول البئر وما يتعلق به.
وبما أنني وجدت أن أكثر المنازعات تخص ضمان ما يسقط في البئر وضمان الأجراء الذين يحفرونها، لذلك جعلت بحثي مقتصرا على هذه المسألة، مع تعريف بالبئر والضمان، ثم بينت أسباب الضمان، وبينت أي أسباب الضمان يدخل في ضمان البئر، وجعلت البئر مثالا.
وقد وجدت أن علماءنا الأعلام لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا بحثوها أو وضعوا قاعدة تكون لها ولغيرها أساسا وأصلا. وهذا وحده كاف للدلالة على عظمة التشريع الإسلامي وشموله لكل نواحي الحياة المختلفة. فسبحان من أحاط بكل شيء؛ علما.
وقد جعلت بحثي هذا مسائل متسلسلة وصلت إلى أربع وستين مسألة، وجعلت المقدمة في التعريفات ثم ختمت البحث بخاتمة في أهم ما توصل إليه البحث. والله الموفق.
ملاحظة:
إذا قلت: (قلت) فهو من كلام الباحث.
إذا قلت: وأستطيع أن أستدل لهؤلاء أو نحو ذلك، فهذا إذا لم أجد دليلا لهم.
وإذا ذكر بعض الفقهاء مسألة ولم يختلفوا فيها ووجدت أنها صحيحة فأقول: وهو الصحيح، أو نحو ذلك. وإن اختلفوا فإني أذكر الخلاف والأدلة والمناقشة والترجيح حسب الوسع.(56/234)
المقدمة: في التعريفات:
(1) تعريف البئر:
البئر: حفرة عميقة يستخرج منها الماء أو النفط، مؤنثة، جمعها أبؤر، وأبآر، وآبار، وبئار.
(2) تعريف الضمان لغة:
عرف الضمان لغة بتعريفات كثيرة يمكن حصرها فيما يلي:
(أ) الاحتواء؛ لقول ابن فارس: الضمان: جعل شيء في شيء يحويه.
(ب) الكفالة؛ لقول ابن فارس: والكفالة تسمى ضمانا من هذا؛ لأنه كأنه إذا ضمنته فقد استوعب ذمته.
(ج) الاشتمال على الشيء؛ لقول الجوهري: فهمت ما تضمنه كتابك، أي ما اشتمل عليه.
(د) الإلزام والالتزام. قال الفيروزآبادي: وضمنته الشيء(56/235)
تضمينا وتضمنه عني: غرمته فالتزمه.
وإذن فإذا ضمن إنسان آخر قيمة متلف فقد ألزم ذمته، فاشتملت على ذلك المبلغ وتكفلت بأدائه.
(3) تعريف الضمان اصطلاحا:
عرف فقهاؤنا المتقدمون والمعاصرون الضمان بتعريفات كثيرة ومختلفة، وقد اخترت التعريف التالي من تلك التعريفات، فقلت: الضمان: إلزام بتعويض عن ضرر.(56/236)
وسبب اختيار هذا التعريف هو لأن كلمة (إلزام) بقوة أن يلزم الشرع شخصا ضر غيره بتعويضه؛ ذلك لأن الإلزام لا يكون إلا من حاكم، والحاكمية لله وحده.
وكلمة (بتعويض) توحي أن هناك خلالا حصل، وضررا حدث، وعلى قاعدة (الضرر يزال) فيجب إزالة الضرر أو ترميم آثاره، وهذا الترميم يكون إما بإعطاء المثل، وحينئذ كأن الضرر لم يحدث؛ لأن المثليات يقوم بعضها مقام بعض، وإما بإعطاء القيمة، فإذا كان التالف قيميا وأعطينا القيمة، فحينئذ يستطيع المضرور أن يشتري بالقيمة مثل ما تلف منه.
وكلمة (ضرر) شاملة لكل أنواع الضرر: الكلي والجزئي، ضرر بالنفس أو بالمال أو بالمنافع.
وطلب التعويض عن الضرر لا يكون إلا إذا أضر الإنسان غيره، فالتعريف إذن واضح موجز.
نعم تعريف الضمان بأنه (تعويض عن ضرر) كما قيل أوجز، لكن هذا التعريف غير مانع، إذ قد يحترق دار إنسان قضاء، ويجمع له أصحابه ما يعوضون به ما احترق، فهذا تعويض عن ضرر لكنه ليس بضمان، فبقي تعريفنا سليما. والله أعلم.(56/237)
(4) أسباب الضمان:
قال الدكتور وهبة الزحيلي (1) في كتابه نظرية الضمان:
__________
(1) الزحيلي: من الفقهاء المعاصرين، كتب كتبا نافعة من أهمها كتابه الفقه الإسلامي وأدلته.(56/237)
يتبين مما ذكر الفقهاء في الفقه العام أن أسباب الضمان ثلاثة: عقد ويد وإتلاف، وبعبارة أخرى العقد، ووضع اليد سواء كانت اليد عادية - أي معتدية غير مؤتمنة - أم ليست بعادية، والإتلاف مباشرة - أي عدوانا - أو تسببا.
(قلت) فالذي يخص موضوع ضمان البئر هو وضع اليد بقسميها اليد المعتدية والأمينة، والإتلاف بقسميه المباشر والتسبب. وسيأتي كل ذلك مفصلا.(56/238)
مسائل ضمان البئر:
وضع علامة على البئر وسدها:
(5) ينبغي لمن حفر بئرا في الطريق الواسعة لمصلحة المسلمين ونفعهم أو في الموات أن يجعل عليها حاجزا تعلم به، لتتوقى. ومن لم يسد بئره سدا يمنع من الضرر ضمن ما تلف بها (1) ا. هـ.
وبعد أن ذكر الماوردي الخلاف في حفر البئر لمصلحة المسلمين، نقل الرملي والشربيني عنه ما يلي:
وخص الماوردي الخلاف بما إذا أحكم رأسها، فإن لم يحكمها وتركها مفتوحة ضمن مطلقا، ومحله أيضا ما إذا لم ينهه
__________
(1) ابن حجر، التحفة 9 \ 7.(56/238)
الإمام، ولم يقصر، فإن نهاه وحفر، ضمن، أو قصر كأن حفر في أرض خوارة ولم يطوها، ومثلها ينهار إذا لم يطو، أو خالف العادة في سعتها ضمن، وإن أذن له الإمام. ا. هـ. قال ذلك الشافعية والحنابلة (1) . وقال ابن تيمية رحمه الله: ومن لم يسد بئره سدا يمنع الضرر ضمن ما تلف بها (2) .
(قلت) وهذا هو الصحيح؛ لأن تغطيتها من تمام نفعها، أما تركها هكذا مكشوفة فهي عرضة لأن يسقط بها الناس خاصة الأطفال والعميان.
ومثل ذلك ما تحفره شركات الهاتف والكهرباء والماء والصرف الصحي، ومثله ما يحفر من أجل زراعة الأشجار والنخيل، فعلى هؤلاء جميعا أن يضعوا ما بين ذلك للمارة، وخاصة السيارات حتى لا تسقط في تلك الحفر، وعليها أن تنير كل ذلك في الليل، وإلا فإنها ضامنة لما يتلف بسببها.
__________
(1) الرملي، النهاية 7 \ 355 الشربيني، مغني المحتاج 4 \ 84، البهوتي، الكشاف 4 \ 135.
(2) المرداوي، الإنصاف 6 \ 225.(56/239)
شروط ضمان البئر:
(6) اشترط الفقهاء شروطا، وهي كما يلي:
اشترط الشافعية لضمان حافر البئر شروطا هي:
(أ) أن يكون حفره عدوانا، وإلا فلا ضمان.(56/239)
(ب) أن لا يكون الواقع فيها قد تعمد الوقوع، وإلا فدمه هدر.
(ج) أن لا يكون هناك مباشرة تقطع سبب الحفر، فلو ردى إنسان آخر في بئر حفرت عدوانا فالضمان على المردي؛ لأنه المباشر.
(د) أن لا يكون الواقع بصيرا والبئر مفتوحة، وإلا فلا ضمان.
(هـ) أن يستمر التعدي إلى حين سقوط الساقط الهالك بها، فلو زال التعدي، كأن حفرت في ملك الغير بدون إذن ثم رضي المالك قبل السقوط أو ملك الحافر البقعة التي فيها البئر، فلا ضمان لزوال التعدي.
(و) أن لا يكون المالك قد عرف الداخل بها، بل غره (1) ا. هـ.
وذكر الحنفية أن الضمان ينتفي بشيئين: بإذن الإمام، أو بتعمد المرور، وكذا لا ضمان فيما فعله الإنسان في ملكه أو في فناء له حق التصرف فيه (2) . ا. هـ. ومعروف أن المردي يضمن
__________
(1) ابن حجر، التحفة. وشرواني، الحاشية 9 \ 7، 8 -، الشربيني، المغني 4 \ 83، 84.
(2) الحصكفي، البدر 2 \ 656.(56/240)
دون الحافر.
وأما المالكية فقد بنوا المسألة كلها على القصد إذا لم يكن هناك ضرر، فيكون القتل عندهم عمدا بشروط ثلاثة:
(أ) أن يقصد الفاعل بفعله الضرر.
(ب) أن يكون من قصد ضرره شخصا معينا.
(ج) وأن يهلك ذلك المعين.
قال الدسوقي: لأنه إذا لم يقصد الضرر لا شيء عليه.
وقال: إن القصاص في صورة واحدة، وهي ما إذا قصد الضرر، بشخص معين، وهلك ذلك المعين. وإن الدية في صورتين:
(أ) أن يقصد ضرر شخص معين، فيهلك غيره.
(ب) أن يقصد ضرر غير معين كائنا من كان من آدمي محترم أو دابة (1) . وسيأتي مزيد بيان لمذهب المالكية.
وقال الحنابلة يشترط للضمان:
(أ) أن لا يقطع السبب بالمباشرة (2) ، وإلا فالضمان، على المباشر.
__________
(1) الدسوقي، الحاشية 4 \ 244، وانظر الزرقاني، شرح المختصر 8 \ 9.
(2) وذلك كأن يتعمد شخص الوقوع فيها، أو يضع حجرا أو سكينا عند فوهة البئر أو يضع داخلها سكينا ونحو ذلك.(56/241)
(ب) أن يكون عدوانا وإلا فلا ضمان.
(ج) أن لا يكون الداخل متعديا وإلا فلا ضمان.(56/242)
(7) مسائل خاصة في المذهب المالكي:
نستطيع أن نلخص خلاف المالكية مع الجمهور في موضوع البئر، بأن المالكية يهتمون أكثر من غيرهم بالقصد غير ناظرين إلى غيره في الغالب، ولذلك نجد عبارات المالكية تحدد القصد من العمل وتجعل الحكم مقصورا عليه وجودا وعدما. قال العدوي: اعلم أن حاصل مسألة البئر أنه إن لم يقصد بحفرها ضررا، فإن حفرها في محل لا يجوز له كالطريق ضمن ما تلف بها؛ لأن فعلها في الطريق يحمل على قصد الضرر، وإن كان في محل يجوز له، فلا ضمان عليه، وإن حفرها بقصد الضرر، ولو في محل يجوز له، فإن حفرها لإهلاك شخص غير معين فإنه يضمن ما هلك فيها غير آدمي، وإن حفرها لإهلاك سارق غير معين، وهلك فيها غير آدمي، فالظاهر الضمان، وإن حفرها لإهلاك شخص بعينه، فإن هلك ذلك الشخص، اقتص منه، وإن هلك غيره ضمن ديته. وإن حفرها لمن يجوز قتله، كحفرها في بيته أو حائطه لنحو سبع فلا يضمن ما هلك فيها من(56/242)
آدمي سارق أو غيره.
وإن حفر بئرا حول زرعه لمنع الدواب عنه خشية أن تفسده فلا ضمان عليه. وإن حفرها لإتلاف دواب الناس ضمن (1) . ا. هـ.
وفي المدونة: قال مالك: من حفر شيئا مما يجوز له في طريق المسلمين أو في غير ذلك أو في داره، فعطب فيها إنسان فلا ضمان عليه.
قال مالك: وإن حفر رجل في دار حفيرا لسارق يرصده ليقع فيه. . . فهو ضامن.
(قلت) لم، وإنما وضعه حيث يجوز له؟ قال: لأنه تعمد بما وضع حتف السارق، قلت: فإن عطب به غير السارق؟ قال: كذلك يضمن. قلت: أسمعته من مالك؟ قال: هو قوله (2) .
وقال الشيخ الدردير في الشرح الصغير (3) : وأما الجناية بالتسبب فأشار له بقوله أو تسبب الجاني في الإتلاف كحفر بئر وإن حفرها ببيته فوقع فيها المقصود - أي الذي قصد قتله - وهلك المعين المقصود بالبئر وما بعده فالقود من المتسبب، وإلا يهلك
__________
(1) عليش، فتح العلي المالك 2 \ 339، وانظر حاشية الشيخ عدوي على الخرشي 8 \ 8.
(2) ابن القاسم، المدونة 4 \ 506.
(3) مع الحاشية بلغة السالك 2 \ 384.(56/243)
المقصود بل غيره، أو لم يكن لمعين بل قصد مطلق الضرر؛ فهلك بها إنسان، فالدية في الحر المعصوم، والقيمة في غيره.
ومفهوم قصد مطلق الضرر أنه إن لم يقصد ضررا بالحفر وما بعده فلا شيء عليه ويكون هدرا.
فهذه النصوص كما هو ملاحظ تدندن حول نقطة واحدة، وهي أنه إن حصل عدوان بحفر البئر، بأن حفرت فيما لا يجوز الحفر فيه ففيه الضمان ولو لم يقصد، فإن حفر فيما يجوز له الحفر فيه فعليه الضمان إذا قصد الضرر مع أن جميع الفقهاء الباقين لم ينظروا إلى القصد، وإنما نظروا إلى العمل نفسه.
ولذلك إذا ردى إنسان آخر في بئر حفرت تعديا فالفقهاء الثلاثة متفقون على أن الضمان على المردي لا على الحافر؛ لأن الحافر متسبب والمردي مباشر، والحكم يضاف إلى المباشر.
وقال المالكية: ينظر إلى القصد لذلك، نص الشيخ الدردير، على أنه يقتل المتسبب مع المباشر، فإذا حفر إنسان بئرا ليقع فيها إنسان معين فجاء ذلك الإنسان فرداه ثالث في البئر أن الضمان على الحافر وعلى المردي، ولو لم يجتمعا وقت الهلاك، ولو من غير تمالؤ من الحافر والمردي (1) . ا. هـ.
هذا كله يدلك على أن للقصد الأهمية العظمى عند المالكية، وأما إذا كان هناك تعد وحصل ضرر فالضمان واجب من غير نظر إلى القصد.
__________
(1) الدردير، الشرح الكبير 4 \ 246، وانظر الزرقاني، شرح المختصر 8 \ 9.(56/244)
قال ابن جزي: الباب العاشر في التعدي. . . أو حفر بئرا - بحيث يكون حفره تعديا - فسقط فيه إنسان أو بهيمة، فهو ضامن لما استهلكه أو أتلفه أو تسبب في إتلافه، سواء فعل ذلك كله عمدا أو خطأ.
وفي تبصرة الحكام: وأما من عمل ما يجوز له: كبئر يحفرها للمطر أو مرحاض يحفره إلى جانب حائطه. قال أشهب: ما لم يضر البئر والمرحاض بالطريق. ا. هـ. أو يحفر بئرا في داره ولا يقصد بها ضررا لأحد، فلا يضمن ما نشأ عن ذلك في هذه الوجوه (1) .
(قلت) وكل هذا ينطبق على ما إذا حفر إنسان حفرة لزرع شجر أو نخل أو حفر لمد أسلاك الكهرباء وغير ذلك.
__________
(1) ابن فرحون، تبصرة الحكام 2 \ 346.(56/245)
ما يضمن في البئر:
(8) يكون الضمان في حفر البئر إذا تلف به آدمي حر، الدية على عاقلة الحافر حيا أو ميتا، وإن كان الهالك عبدا أو بهيمة أو مالا لآخر فيضمن بالقيمة من مال الحافر الحر، قال ذلك الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ذكروا الأخذ من تركته، وبه قال المالكية إذا لم يقصد
__________
(1) ابن حجر، التحفة، وشيرواني، الحاشية 9 \ 7.
(2) البهوتي، الكشاف 4 \ 135 ذكر موت الحافر.(56/245)
المقتول بالحفر، فإن قصده بعينه فالقصاص، وتقدم في المسألة السابقة.(56/246)
الحفر في الموات:
إذا حفر إنسان بئرا فلا يخلو: إما أن يكون في موات أو طريق أو ملك.
(9) فإن حفر البئر في الموات أو في المفازة فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يضمن ما هلك فيها؛ لأنه ليس فيه تعد، وفيه مصلحة للمسلمين، واشترط الحنفية أن لا يكون الحفر في الصحراء في طريق المارة بحيث يحفر في وسط الطريق، فلو حفر وسط الطريق حيث يمر الناس والدواب عليها يضمن، بهذا قيد(56/246)
بعضهم؛ لأنه قد لا يظهر في الظلمة.
قال الكاساني بعد أن نفى الضمان: لأن الحفر في المفازة مباح مطلق. وشرط الشيخ الدردير من المالكية أن لا يقصد بحفر البئر ضررا، لذا قال معلقا على كلام المختصر: ومفهوم قصد الضرر، أنه إن لم يقصد ضررا فلا شيء عليه - وهو كذلك - إن حفر بملكه أو بموات لمنفعة، ولو لعامة الناس.
وقال النووي في المنهاج: ويضمن بحفر بئر عدوانا لا في ملكه وموات. ا. هـ. مفهومه أنه إن حفر بملكه أو بموات لا يضمن.
وقال ابن قدامة: وإن حفرها في موات لم يضمن؛ لأنه غير متعد بحفرها.
الأدلة:
ذكرت الأدلة مع الأقوال وأضيف ما علل به ابن عابدين في الحاشية " رد المحتار، حيث قال: (قوله لم يضمن) لأنه غير متعد فيه، لأنه يملك الارتفاق بهذا الموضع: نزولا، وربطا للدابة وضربا للفسطاط من غير شرط السلامة؛ لأنه ليس فيه إبطال حق المرور على الناس فكان له حق الارتفاق من حيث الحفر للطبخ أو الاستقاء فلا يكون متعديا. ا. هـ. وكذلك إن(56/247)
حفر البئر في ملكه لا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد (1) . (قلت) بشرط أن لا يحفر في طريق المارة المسلوكة، هذا ولا خلاف بين الحنفية في هذه المسألة سواء كان بإذن الإمام أم لا؛ ذلك لأن الإمام يشترط الإذن للملك، وهما - أي الصاحبان - لا يشترطانه، أما هنا فعلى رأي الصاحبين لا نحتاج إلى إذن، وكذا على رأي الإمام، لأنه يجعل الحفر في الموات تحجيرا، وهو بسبيل منه بلا إذن، أي هو مقدمة للإحياء وله ذلك، وإن كان لا يملكه بدون الإذن (2) .
__________
(1) ابن عابدين، رد المحتار 5 \ 383.
(2) ابن عابدين، الحاشية 5 \ 280.(56/248)
الحفر في الطريق:
فإن حفر البئر في الطريق، نظرنا: لأن الطريق لا يخلو إما أن يكون واسعا أو ضيقا، والحفر إما أن يكون بإذن السلطان أو لا، وكذلك إما أن يكون لمصلحة المسلمين أو لمصلحة نفسه، وفي كل إما أن يقصد الضرر أو لا، وعلى ذلك نقول:
(10) أولا: الحفر في الطريق الواسع:
إذا حفر إنسان بئرا في الطريق الواسع فقد اختلفت أقوال الفقهاء بحسب اختلاف زوايا أنظارهم إلى المسألة: فمنهم من نظر مع السعة إلى المصلحة، فقالوا: إن حفر في طريق واسع في موضع لا ضرر فيه، نظرنا، فإن حفرها لمصلحة نفسه فسيأتي.(56/248)
(11) وإن حفر البئر لنفع المسلمين:
مثل أن يوسع في الطريق الواسع المسجد، أو أن تفصل الحكومة بين طريقي الذهاب والإياب بأعمدة للإنارة، أو تزرع النخيل والأشجار وسط الطريق لمصلحة المسلمين، فهذا جائز ولا ضمان فيه.
ومثل أن يحفر لينزل فيه ماء المطر من الطريق، أو ليشرب منه المارة ونحو ذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن بفعله غير متعد بحفره فأشبه باسط الحصير في المسجد.
بهذا قال الحنابلة، وسواء حفرها بإذن الإمام أم لا.
وبهذا قال الشافعية (1) أيضا فهم يرون أنه لا يشترط إذن الإمام فيما إذا كان في حفر البئر في الطريق الواسع مصلحة المسلمين.
قال في التحفة نقلا عن الروض: وله حفرها في الواسع لمصلحة المسلمين بلا ضمان، وإن لم يأذن الإمام. ا. هـ.
وبهذا قال الحنفية لكنهم اشترطوا إذن الإمام، قال
__________
(1) ابن حجر، التحفة 9 \ 7.(56/249)
المرغيناني: " ومن حفر بئرا في طريق المسلمين أو وضع حجرا فتلف بذلك إنسان فديته على عاقلته. . . فإن أمر السلطان بذلك أو أجبره عليه لم يضمن؛ لأنه غير متعد حيث فعل ما فعل بأمر من له الولاية في حقوق العامة، وإن كان بغير أمره فهو متعد، بالتصرف في حق غيره، أو بالافتيات على الإمام، أو هو مباح مقيد بشرط السلامة، وعلى هذا فإذا حفرها بدون إذن السلطان يضمن، وروي عن أبي يوسف أنه لا يضمن، وذلك لأن ما كان من مصالح المسلمين كان الإذن ثابتا دلالة، والثابت دلالة كالثابت نصا.
وأجيب: بأن ما يرجع إلى مصالح عامة المسلمين كان حقا لهم، والتدبير في حق العامة إلى الإمام، فكان الحفر فيه بدون إذن الإمام تعديا كالحفر في ملك الغير (1) .
رأي المالكية: قال الدسوقي معلقا على كلام الشيخ الدردير، فإن حفره بملك غيره بلا إذن أو بطريق أو بموات لا لمنفعة فالدية. . . ا. هـ علق الدسوقي فقال:
قوله: أو بطريق أي مكان حفره بالطريق مضرا بها، بأن كان يضيقها، فإن لم يضر بها فلا غرم عليه لما عطب به (2) . ا. هـ.
والمالكية متفقون على أن الحافر إن قصد الضرر ضمن،
__________
(1) الكاساني، البدائع 7 \ 278.
(2) الدردير، الشرح الكبير، والدسوقي، الحاشية 4 \ 244 ابن فرحون، تبصرة الحكام 2 \ 251 ما لم يضر.(56/250)
وتقدم في المسألة السابعة ببحث مستقل.
وذكر شيخ الإسلام هذه المسألة في الفتاوى 30 \ 403، ومثل لذلك بتوسيع مسجد أو بناء حانوت لمنفعة المسجد، فبين أن البناء في الطريق الواسع لا يضر المارة لمصلحة المسلمين، والمعروف من مذهب أحمد الجواز.
الخلاصة:
رأينا أن الشافعية والحنابلة وأبا يوسف من الحنفية متفقون على أن حافر البئر في الطريق الواسع لا يضمن إذا كان لمصلحة المسلمين وأن ذلك لا يحتاج إلى إذن الإمام.
وأما الحنفية غير أبي يوسف فهم يشترطون إذن الإمام لذلك.
واشترط المالكية لعدم الضمان أن لا يكون الحفر سببا في تضييق الطريق وأن لا يقصد الضرر.
الترجيح:
والذي أرجح من هذه الأقوال هو ما يلي:
أن اشتراط إذن الإمام لحفر بئر في الطريق العام اشتراط صحيح " لأننا لسنا أمام إحياء أرض في الفلاة بعيدا عن العمران وبعيدا عن الناس، وإننا أمام مسألة تخص حياة الناس اليومية، ولذلك فإني أرى أن الراجح أنه يجب أن لا يكون في حفر البئر في الطريق تضييق على الناس ولا ضرر بهم، وأن يكون بإذن الإمام؛ لأنه أعرف بمصلحة الطريق حالا ومستقبلا من الحافر(56/251)
وهكذا لو أراد أن يبني مسجدا أو يحفر ساقية أو أي شيء فيه مصلحة إذا لم يضر.(56/252)
(12) الحفر في الطريق الضيقة:
لا خلاف بين الفقهاء الذين ذكروا هذه المسألة أنه لا يجوز حفر البئر في طريق ضيق يضر المارة حتى إن بعض الفقهاء نص على عدم الجواز ولو أذن الإمام له بذلك؛ لأن أمر الإمام ينبني على المصلحة على قاعدة " الولاية على الرعية منوطة بالمصلحة " (1) . ولا فرق بين أن يكون لمصلحة المسلمين أو لمصلحة نفسه، لأن الفقهاء ذكروه مطلقا. ذكر ذلك المالكية والشافعية والحنابلة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لما عللوا به.
__________
(1) نص على عدم اعتبار إذن الإمام الشافعية والحنابلة، كما تقدم. وانظر للقاعدة المجلة 1 \ 51 م 58.(56/252)
(13) الاشتراك في حفر البئر:
إذا اشترك جماعة - ثلاثة مثلا - في حفر بئر عدوانا فتلف به شيء فالضمان عليهم جميعا أثلاثا.
وإذا حفر إنسان بئرا في الطريق، فوقع فيها رجل فقطعت يده، ثم خرج منها فشجه رجلان فمرض من ذلك - أي من قطع اليد والشج - ثم مات فالدية عليهم أثلاثا؛ لأن ما حصل من الجراحة بالوقوع مضاف إلى الحافر فكأنه فعل ذلك بيده، والمعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات، ألا ترى أنه لو قطع يديه رجلان وشجه رجل آخر فمات من ذلك كانت الدية عليهم أثلاثا، وكذلك لو أن اللذين قطعا يديه شجه أحدهما شجة أخرى، لأن المعتبر عدد الجناة، فقد يتلف المرء من جراحة واحدة، ويسلم من عشر جراحات. ذكر ذلك الحنفية والحنابلة (1) .
(قلت) هو الصحيح؛ لما عللوا به.
__________
(1) السرخسي، المبسوط 27 \ 18، ابن قدامة، المغني 12 \ 89.(56/253)
(14) حفر البئر لمصلحة نفسه:
عرفنا مما سبق أنه إذا حفر البئر لمصلحة المسلمين في الطريق الواسع أنه لا ضمان عليه، كما عرفنا أن الحفر في الطريق الضيق ممنوع مطلقا من غير فرق بين ما إذا كان لمصلحة المسلمين أو لمصلحة نفسه. لكن ما الحكم فيما إذا حفر بئرا في الطريق العام لمصلحة نفسه؟
اختلف الفقهاء في ذلك:(56/253)
فالحنفية (1) اعتبروا أمر السلطان هو الأساس في حفر البئر، فإن حصل أمر السلطان فلا ضمان وإلا ضمن، ولم يقيدوه بما إذا فعله لمصلحة نفسه أو لمصلحة المسلمين، ولذلك نص الحصكفي (2) على أن الضمان ينتفي بأمرين: بإذن الإمام، أو بتعمد المرور (أي أن يتعمد إنسان المرور فوق البئر فيسقط فيها فلا ضمان على الحافر) .
وأما المالكية فإنهم نظروا إلى الضرر والقصد، ولم ينظروا إلى مصلحة نفسه أو غيرها بالنسبة للطريق.
وأما الشافعية (3) فنظروا إلى سعة الطريق وضيقه وإذن الإمام.
قال النووي: ويضمن بحفر بئر عدوانا لا في ملكه وموات.
قال ابن حجر: بأن كانت بملك غيره بغير إذنه، أو بشارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه بغير إذن الإمام. ا. هـ فبين أن إذن الإمام شرط الحفر في الطريق الواسع، أما الطريق الضيق فلا
__________
(1) المرغيناني، الهداية 10 \ 312.
(2) الحصكفي، بدر المتقي 2 \ 657.
(3) المنهاج للنووي، ابن حجر، التحفة 9 \ 7.(56/254)
يصح، وضمن إذا حفر البئر بها ولو أذن الإمام، وكذا يضمن ولو كان لمصلحة المسلمين.
وقال الحنابلة: إن حفرها لمصلحة نفسه ضمن ما تلف به، سواء حفرها بإذن الإمام أو غير إذنه.
الأدلة:
استدل الحنفية عنى اشتراط أمر الإمام لنفي الضمان فقالوا: لأنه إذا أمره السلطان بذلك أو أجبره عليه لم يضمن؛ لأنه غير متعد حيث فعل ما فعل بأمر من له الولاية في حقوق العامة، وإن كان بغير أمره فهو متعد بالتصرف في حق غيره، أو بالافتيات على الإمام، أو هو مباح مقيد بشرط السلامة.
أما المالكية فدليلهم واضح؛ لأنهم إن اشترطوا عدم الضرر فلحديث: «لا ضرر ولا ضرار (1) » ، ولقاعدة الضرر يزال، وإن اشترطوا عدم قصد الضرر فهذا واضح أيضا؛ لأنه لا يجوز لإنسان أن يفعل فعلا يقصد به الضرر بالآخرين للحديث أيضا.
وأما الشافعية فدليلهم على اشتراط السعة والضيق واضح، فحكموا بعدم الضمان في الحفر في طريق واسع إذا كان بإذن الإمام؛ لأن للإمام أن يأذن بالانتفاع بما لا ضرر فيه، وحكموا بالضمان بالحفر في الطريق الضيقة، لأن هذا يضر بمرور الناس فيها ولا مصلحة لهم فيه إنما المصلحة للحافر فقط، ولم يلتفتوا هنا إلى إذن الإمام، بل الضمان واجب أذن الإمام أم لا؛ لأن هذا الحفر فيه ضرر فلا يفيد فيه الإذن، ولما كانت الطريق واسعة لا
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(56/255)
يضر الحفر فيها أباحوه بشرط إذن الإمام.
وأما الحنابلة (1) فإنهم نظروا إلى تعلق المصلحة، فإن كانت المصلحة للمسلمين فلا ضمان، وإن كانت لمصلحة الفرد ضمن ولم ينظروا إلى إذن الإمام وجودا ولا عدما، بشرط أن لا يكون في الحفر ضرر.
قال ابن قدامة: وإن حفر في طريق واسع في موضع لا ضرر فيه، نظرنا، فإن حفرها لنفسه ضمن بالتلف فيه سواء حفرها بإذن الإمام أو بغير إذنه.
الترجيح:
والذي أراه راجحا من هذه المذاهب المختلفة، مبني على ما يلي:
أن رأي الحنفية جيد في اعتماد إذن الإمام؛ لأن الطريق مصلحة للمسلمين فلا بد من رأي من له الولاية عليهم وهو الإمام، وتقييد الشافعية بإذن الإمام بما إذا كان الطريق واسعا ليس بضيق تقييد جيد، فإذا أضفنا إلى ذلك تقييد المالكية بعدم الضرر أصبح الرأي الراجح واضحا، وهو أن الإنسان إن حفر بئرا في الطريق الواسع بإذن الإمام ولا ضرر فيه على أحد فلا يضمن، فإذا فقد شيء من ذلك ضمن، ولذا فيضمن الحافر في الطريق الواسع إذا كان الحفر لمصلحة نفسه ولم يأذن له الإمام، أو أحدث ضررا، أو أحدث ضيقا في الطريق، والله أعلم.
__________
(1) ابن قدامة 12 \ 90. وانظر فتاوى شيخ الإسلام 30 \ 399 - 400.(56/256)
إذن الإمام بعد الحفر:
(15) (فرع) بحث الشافعية (1) ما إذا حفر شخص بئرا في الطريق الواسع ولم يكن في حفره ضرر ولا فيه تضييق للطريق، ولكن حفره بدون إذن الإمام، ثم قال الشافعية: إذا أقر الإمام حفر هذه البئر بعد حفرها فتقريره هذا صحيح يرفع الضمان عن الحافر كتقرير المالك السابق، أي إذا حفر بئرا في ملك غيره ثم أقره المالك.
(قلت) وهذا صحيح - والله أعلم - لما عللوا به.
__________
(1) الرملي، نهاية المحتاج 7 \ 355.(56/257)
(16) حفر البئر في الطريق وقصد الضرر:
اهتم بذلك المالكية (1) وجعلوا حفر البئر في الطريق سببا من أسباب القتل بنوعيه العمد والخطأ حسب القصد.
قال الدسوقي: وقد علم من كلامه أن القصاص في صورة واحدة وهي ما إذا قصد الضرر بشخص معين وهلك ذلك المعين. وأن الدية في صورتين: أن يقصد ضرر معين فيهلك غيره، وأن يقصد ضرر غير معين كائنا من كان من آدمي محترم أو دابة.
وكان قد قال: والحاصل أن القود في المسائل الأربعة المذكورة - البئر والمزلق والدابة والكلب - مقيد بثلاثة قيود: أن يقصد الفاعل بفعله الضرر، وأن يكون من قصد ضرره معينا، وأن
__________
(1) الدردير، الشرح الكبير والدسوقي، الحاشية 4 \ 244، ابن فرحون، تبصرة الحكام 2 \ 346.(56/257)
يهلك المعين.(56/258)
(17) الطريق المشترك:
وإن حفر شخص بئرا في طريق مشترك بين جماعة وهو الطريق غير النافذ، فإن حفر بإذنهم فلا يضمن، وإن كان بدون إذنهم ضمن؟ لأنه سبب متعد، ولأن المشترك ليس ملكا خاصا به حتى يستقل بأمره.
صرح بذلك الحنفية (1) رحمهم الله في البئر، وعمم شيخ الإسلام ابن تيمية (2) رحمه الله فقال: ليس للجار أن يحدث في الطريق المشترك - الذي لا ينفذ - شيئا بغير إذن رفيقه ولا شركائه، ولا أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، وإذا فعل ذلك فللشريك إزالة ضرره. (قلت) هذا هو الصحيح لما عللوا به.
__________
(1) المرغيناني، الهداية 10 \ 314، ابن عابدين، رد المحتار 5 \ 381.
(2) فتاوى ابن تيمية 30 \ 8.(56/258)
(18) البئر في المسجد:
إذا حفر بئرا في المسجد لأجل الماء فعطب به إنسان نظرنا. فإن كان الحافر أو الباني من أهل المسجد، فلا ضمان عليه. وإن كان من غير أهل المسجد، فإن فعل ذلك بإذن أهل المسجد، فكذلك لا ضمان، وإن فعل بغير إذنهم يضمن بالإجماع؛ لأن تدبير مصالح المسجد إلى أهل المسجد، فما فعلوه لا يكون مضمونا عليهم، كالأب والوصي إذا فعل شيئا من ذلك في دار اليتيم.(56/258)
وأما غير أهل المسجد فليس له ولاية التصرف في المسجد بغير إذن أهل المسجد، فإن فعل بغير إذنهم كان متعديا فيضمن. قال ذلك الحنفية (1) .
ونقل عن أحمد كراهة الصلاة في المسجد إذا بني في الطريق، إلا بإذن الإمام، ونقل المروزي أنها تهدم، وسأله الكحال: يزيد في المسجد من الطريق؟ قال: لا يصلى فيه (2) . (قلت) إن كان المسجد تابعا لجهة عامة كالأوقاف، فلا بد من الإذن، وإلا فإذن أهل المسجد.
__________
(1) الكاساني، البدائع 7 \ 279.
(2) المرداوي، الإنصاف 6 \ 227.(56/259)
(19) حفر للمصلحة في المسجد:
قال الشافعية (1) : وكالمسجد الطريق فلو حفر به بئرا أو بناء في الشارع أو وضع سقاية على باب داره لم يضمن الهالك بها - وإن لم يأذن الإمام - إن لم يضر بالناس.
ويجب أن يكون فيما لو حفر لمصلحة المسجد أو لمصلحة المسلمين أو المصلين، كما اقتضاه كلام البغوي والمتولي وغيرهما.
(قلت) وهو الصحيح؟ للمصلحة ولعدم الضرر. فكله نفع.
__________
(1) الرملي، نهاية المحتاج 7 \ 355.(56/259)
(20) دخل الدار بإذن المالك فسقط في البئر ومات:
إن أذن له المالك بدخول الدار فدخل بإذنه وسقط في البئر فيجب الضمان ولا ينتفي إلا بشروط ذكرها الشافعية والحنابلة (1) .
قال الشافعية: ولو حفر بدهليزه (2) بئرا، ودعا رجلا إلى الدهليز أو إلى بيته، ولم يعلمه بها - وأن الغالب أنه يمر عليها - فأجابه فسقط فيها جاهلا لنحو ظلمة كتغطية أو كان أعمى فمات فالأظهر ضمانه؛ لأنه غره، ولم يقصد هو هلاك نفسه، فإحالة الموت على السبب الظاهر أولى.
والقول الثاني: لا يضمنه؛ لأنه غير ملجئ فهو المباشر لإهلاك نفسه باختياره.
وقال ابن قدامة: وإن دخل بإذنه والبئر بينة مكشوفة، والداخل بصير يبصرها فلا ضمان؛ لأن الواقع هو الذي أوقع نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فقتل نفسه بها.
وإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها، فلم يعلم الداخل بها حتى وقع فيها فعليه ضمانه.
وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد ومالك، وهو
__________
(1) ابن حجر، تحفة المحتاج 9 \ 9، الشربيني، المغني 4 \ 83، ابن قدامة، المغني 1 \ 94.
(2) الدهليز: المدخل بين الباب والدار جمعه دهاليز. الوسيط 1 \ 300، مادة دهل.(56/260)
أحد الوجهين للشافعي. وفي الآخر لا يضمنه؛ لأنه هلك بفعل نفسه ولم يلجئه المالك.
وقال الحنابلة بالضمان؛ لأن الهالك دخل بإذن المالك، والمالك غره بعدم إعلامه بالبئر، فكان التلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاما مسموما فأكله.
الترجيح:
والراجح قول الحنابلة ومن وافقهم وقول الشافعية الأظهر، وهو أن المالك إذا أذن لشخص بدخول الدار، وكان في الدار أو في الدهليز بئر فلا بد من إعلام الداخل بها، خاصة إذا كان لا بد أن يمر عليها وكان الوقوع بها مهلكا، أو كان الظلام دامسا لا يرى الإنسان فيه ما أمامه، أو كان الداخل أعمى، أو كانت البئر مغطاة بغطاء لا يمنع المار عليه من السقوط، فإن لم يعلمه بها فهو ضامن لما يحدث من ضرر أو تلف بسبب السقوط في البئر.
نعم إن كان الداخل بصيرا والبئر بينة مكشوفة فلا ضمان على المالك. هذا إذا أذن أو دعا المالك رجلا بالغا عاقلا، فلو دعا صبيا غير مميز ضمنه قطعا.
حفر البئر في الملك والدخول بدون إذن المالك:
لا يخلو الملك إما أن يكون للحافر نفسه أو لغيره.
فإن حفر بئرا في ملك نفسه كالدار فسقط فيها إنسان فهلك: فإما أن يكون دخوله الدار بإذن المالك أو لا. فإن كان دخوله بإذن المالك فتقدم في المسألة السابقة.(56/261)
(21) وإن دخل الدار بغير إذن المالك وسقط في البئر ومات فقد اتفق الفقهاء على أن حافر البئر لا شيء عليه لعدم تعديه.
قال الكاساني في البدائع: وإن كان (أي الحفر) في ملك نفسه، لا ضمان عليه؛ لأن الحفر مباح مطلق له، فلم يكن متعديا في التسبب.
وقال مالك في المدونة: من حفر بئرا أو سربا للماء مما مثله يعمله الرجل في داره أو أرضه، فسقط فيه إنسان، قال: لا ضمان عليه. ا. هـ وقيده في تبصرة الحكام بأن لا يقصد بها ضرر أحد. ا. هـ.
وقال ابن حجر والشربيني: ولا يضمن بحفر بئر في ملكه وما استحق منفعته بوقف أو وصية. . . الخ.
وقال الشربيني أيضا: ولو تعدى الداخل بدخوله فوقع فيها لم يضمنه الحافر، كما رجحه البلقيني وغيره لتعديه.(56/262)
قال ابن قدامة: وإن حفر في ملكه بئرا، فهلك بها إنسان وكان الداخل دخل بغير إذنه، فلا ضمان على الحافر؛ لأنه لا عدوان منه.
الترجيح:
الراجح أنه لا ضمان على المالك إذا كان الحفر في ملكه ودخل الداخل بدون إذن منه؟ لأن الداخل متعد؛ لدخوله بدون إذن، والمالك غير متعد.(56/263)
(22) دفاع المالك عن الحافر تعديا:
إذا حفر إنسان بئرا متعديا - أي في غير ملكه أو بدون إذن - وسقط بها إنسان وهلك، فطلب ورثة الساقط تضمين الحافر؛ لأنه حفر البئر متعديا، فقال المالك - مدافعا عن الحافر -: أنا أمرته بالحفر، وأنكر أولياء الميت أنه أمره بالحفر، فما الحكم؟
هنا اختلف الحنفية والشافعية الذين ذكروا المسألة على قولين:
قال الحنفية (1) : في المسألة قياس واستحسان.
أما القياس فإنه لا يصدق صاحب الدار. وذلك لأن الحفر
__________
(1) الكاساني، البدائع 7 \ 277.(56/263)
وقع موجبا للضمان - ظاهرا - لأنه صادف ملك الغير وأنه محظور فكان متعديا في الحفر من حيث الظاهر، فصاحب الدار بالتصديق يريد إبراء الجاني عن الضمان فلا يصدق.
وأما الاستحسان، فإن قول صاحب الدار: أمرته بذلك إقرار منه بما يملك إنشاءه للحال، وهو الأمر بالحفر فيصدق.
وقال الشافعية: إذا قال الحافر: حفرت بإذن المالك، وصدقه المالك نظرنا:
فإن كان تصديق المالك للحافر قبل (1) سقوط الهالك فيها، فيسقط الضمان؛ لأنه إن كان كلامه صحيحا وأذن له قبل السقوط فظاهر، وإن لم يكن صادقا في قوله: أذنت له، عد هذا إذنا له، فإذا وقع التردي بعده كان بعد سقوط الضمان عن الحافر بتقدير أن حفره بلا إذن.
وأما إذا كان تصديق المالك للحافر بعد تردي الهالك، فلا يفيده التصديق المجرد بل لا بد من بينة، قالوا: ولعل وجهه، أن الحفر في ملك الغير الأصل فيه التعدي، وهو يقتضي ضمان الحافر، فقول المالك: كنت أذنت له يسقطه، وإسقاط الحق بإخبار واحد غير صحيح، ولا نظر إلى أن الأصل عدم الضمان وبراءة الذمة.
__________
(1) هذا بيان للتفصيل وإلا فإنه قبل السقوط ليس هناك منازعة ولا مخاصمة.(56/264)
والراجح: أن المالك لا يصدق بنفي الضمان عن الحافر إلا ببينة تبين أن المالك أذن له في الحفر قبل تردي الساقط فيها، وهو رأي الحنفية قياسا ورأي الشافعية. وسيأتي ما إذا أبرأه المالك من الضمان.(56/265)
(23) حفر في فناء الدار:
إذا حفر بئرا في فناء داره (وهو ما كان خارج داره قريبا منه) نظرنا: فإن كان الفناء ملكه فله الحفر فيه ولا ضمان عليه فيما يهلك به؛ لأن للإنسان أن يحفر في ملكه، وكذا لو بنى دكة أو وضع عمودا. ذكر ذلك الأئمة الثلاثة.
وإن لم يكن الفناء ملكا للحافر بأن كان طريقا أو ملكا للغير؟ قال المالكية والحنابلة: يضمن لتعديه. واختلف(56/265)
الأحناف في هذه المسألة:
قال المرغيناني في الهداية: (وكذا - لا يضمن - إذا حفره في فناء داره) لأن له ذلك، لمصلحة داره، والفناء في تصرفه، وقيل هذا إذا كان الفناء مملوكا له، أو كان له حق الحفر فيه؛ لأنه غير متعد.
أما إذا كان لجماعة المسلمين أو مشتركا - بأن كان في سكة غير نافذة - فإنه يضمنه، لأنه سبب متعد.
قال المرغيناني: وهو صحيح. وأكد كلام المرغيناني هذا الشيخ بابرتي في شرحه العناية على الهداية فقال:
قوله: وكذلك إذا حفره في فناء داره: يعني وإن لم يكن الفناء ملكه، وقيل: جاز له ذلك إذا كان الفناء مملوكا له، أو كان له حق الحفر بأن لا يضر لأحد، أو أذن له الإمام، أما إذا لم يكن كذلك فإنه يضمن. ا. هـ.
واقتصر الكاساني في البدائع على ذكر الضمان فقط، ولعل ذلك لأنه يرى أن الفناء لا يكون ملكا لصاحب الدار غالبا؛ وذلك لأنه ذكر الفناء بعد الملك فقال:
وإن كان في ملك نفسه لا ضمان عليه. . . وإن كان في(56/266)
فنائه يضمن، لأن الانتفاع به مباح بشرط السلامة كالسير في الطريق. ا. هـ.
وأما المالكية: فإنهم قصروا الأمر على قاعدة، وهي أن الإنسان إذا كان له أن يفعل ذلك الفعل فلا ضمان وإلا ضمن، ومعلوم أن القاعدة عندهم: أن من عمل أي عمل في ملك غيره بغير إذنه فهو ضامن لما يتلف به (1) .
وصرح الحنابلة بأن الفناء لا يكون مملوكا لصاحب الدار وإنما هو من مرافقهم، ذكر ذلك البهوتي في الكشاف. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل الفناء ملك لصاحب الدار أو حق من حقوقها؟ فيه وجهان في مذهب أحمد:
(أحدهما) أنه مملوك لصاحبها، وهو مذهب مالك والشافعي، حتى قال مالك في الأفنية التي في الطريق يكريها أهلها، فقال: إن كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها منعوا، ولم يمكنوا، وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم فلا أرى به بأسا.
ثم نقل الشيخ عن الطحاوي ما يؤيد أن مالكا والشافعي يريان أن الفناء ملك لصاحب الدار، وأن أبا حنيفة يرى أن الأفنية ملك لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق. وقال الشيخ: والذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما عن أصحاب
__________
(1) ابن القاسم، المدونة 4 \ 506 ذكر حفر البئر في ملك الغير بغير إذن وأنه يضمن.(56/267)
أحمد هو الوجه الثاني، وهو أن الأرض تملك دون الطريق، إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره، ولذلك فهو أحق بفناء الدار من غيره، ثم ذكر الشيخ أن أبا بكر اتخذ مسجدا بفناء داره، وجعل عمر البطحاء خارج المسجد لمن يتحدث ويفعل ما يصان عنه المسجد، فمثل هذه - أي الأفنية - يجوز البناء فيها بطريق الأولى. . . (1)
وذكر في الإنصاف (2) أن من حفر بئرا في فنائه لنفسه ضمن ما تلف بها وقال: هذا المذهب بلا ريب نص عليه، وعليه الأصحاب، وجوز بعضهم بإذن الإمام ذكره القاضي ونقله الشيخ تقي الدين رحمه الله من خطه، وفي الأحكام السلطانية. له التصرف في فنائه بما شاء من حفر وغيره إذا لم يضر. ا. هـ بتصرف.
الترجيح:
الذي أراه راجحا هو أن الفناء إذا كان ملكا له فله أن يحفر
__________
(1) ابن تيمية، الفتاوى 30 \ 407.
(2) المرداوي، الإنصاف 6 \ 225، 10 \ 32، 33.(56/268)
به بئرا؛ لأن للإنسان أن يتصرف بملك نفسه كما يشاء من دون ضمان عليه، وأما إذا لم يكن الفناء له وقد كان للعامة فهو كمن حفر بئرا لمصلحة المسلمين في طريق واسع لا يضر أحدا وأذن به الإمام فلا يضمن، وإلا ضمن، فإذا كان لمصلحة نفسه أو كان في ملك رجل بعينه بدون إذنه أو كان الطريق ضيقا فيضمن ولو أذن الإمام بذلك. والله أعلم.(56/269)
(24) استأجر حافرا ليحفر في فناء داره:
إذا استأجر أجيرا ليحفر له بئرا في الطريق، فحفر، فوقع فيها إنسان فمات، نظرنا:
إن كان البئر في فناء المستأجر وقد علم الحافر أن هذا فناء المستأجر وليس ملكه فالضمان على الحافر، وإن لم يعلم الحافر أن هذا ليس ملكا للآمر بل اعتقد أنه ملكه لأنه في فناء داره فلا ضمان على الأجير، والضمان على المالك الذي أمره بالحفر؛ لأن للمالك ولاية الانتفاع بفنائه إذا لم يتضمن الضرر بالمارة على أصلهما - أي الصاحبين أبي يوسف ومحمد - مطلقا وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله إذا لم يمنع منه مانع، فانصرف مطلق الأمر بالحفر إليه، فإذا حفر في فنائه انتقل فعل(56/269)
المأمور إليه، كأنه حفر بنفسه فوقع فيها إنسان. ا. هـ. بهذا قال الحنفية والحنابلة.(56/270)
(25) أعلم الحافر أنه ليس فناءه:
وإن لم يكن حفر البئر في فنائه، فإن أعلم المستأجر الأجير أن ذلك ليس من فنائه فالضمان على الأجير لا على الآمر؛ لأن الأجير لم يحفر بأمر، فبقي فعله مقصورا عليه، كأنه ابتدأ الحفر من نفسه من غير أمر.
وإن لم يعلمه فالضمان على الآمر، لأنه غر المستأجر بالأمر بالحفر في الطريق (ولأن الآمر) (1) إنما يأمر (بالحفر) بما يملكه مطلقا عادة، فيلزمه ضمان الغرور (2) . ا. هـ.
(قلت) هو الصحيح؛ لما عللوا به.
__________
(1) في البدائع خطأ مطبعي وما بين القوسين من زيادتي لينسجم الكلام.
(2) المراجع السابقة، وانظر داماد في مجمع الأنهر 2 \ 656.(56/270)
(26) أعلمه أن ليس له الحفر:
وإن قال المستأجر: هو فنائي، وليس لي فيه حق الحفر فالضمان على الأجير قياسا لعلمه بفساد الأمر فلم يوجد الغرور، وعلى المستأجر استحسانا، لأن كونه فناء له بمنزلة كونه مملوكا له لانطلاق يده في التصرف: من إلقاء الطين والحطب وربط(56/270)
الدابة والركوب وبناء الدكان، فكان أمرا بالحفر في ملكه ظاهرا، بالنظر إلى ما ذكرناه فكفى ذلك لنقل الفعل إليه.
قال شيخ الإسلام: إذا كان الطريق معروفا أنه للعامة، ضمن سواء قال له إنه لي أو لم يقل لعلمه بفساد أمره. ا. هـ.
ذكر ذلك الحنفية ومع أنهم يرجحون الاستحسان على القياس دائما إلا أنهم رجحوا القياس على الاستحسان في هذه المسألة.
(قلت) وهو الصحيح؛ لما عللوا به، وهو قوله: ليس لي الحفر.(56/271)
(27) الأجرة وعدمها:
ولا فرق بين أن يكون المأمور حفر بأجر أو بدون أجر (1) .
__________
(1) البهوتي، شرح المنتهى 2 \ 428. المرداوي، الإنصاف 6 \ 225.(56/271)
(28) نصف في الملك ونصف في الفناء:
إذا حفر نصف بئر في ملكه، ونصفها الآخر في فنائه ضمن ما تلف بها؛ لأنه تلف حصل بسبب تعديه، إذ الأفنية ليست(56/271)
بملك ملاك الدور وإنما هي من مرافقهم. بذلك قال الحنابلة (1) .
(قلت) وهو الصحيح، لأنه تعدى بالحفر أو البناء في غير ملكه، وكذا لو بنى دكة نصفها في ملكه ونصفها في الفناء.
__________
(1) البهوتي، الكشاف 4 \ 134.(56/272)
(29) ضمان موضع التعدي:
إذا حفر حفرة واسعة في ملكه قريبا من أرض جاره بحيث يؤدي إلى إضرار أرض جاره فإنه يكون متعديا ضامنا لمن وقع في موضع التعدي، كما قاله البلقيني (1) .
(قلت) هو الصحيح؛ لأن التعدي سبب للضمان.
__________
(1) الرملي، نهاية المحتاج 7 \ 353، الشربيني، المغني 4 \ 83.(56/272)
(30) حفر في ملك الغير:
فإن حفر في ملك الغير، فإن أذن له المالك فلا ضمان؛ للإذن ولعدم التعدي، وإن لم يأذن فقد اتفق الفقهاء على أن من حفر بئرا في ملك غيره بدون إذنه أنه ضامن لما يتلف به. ويسمى هذا الهلاك بالتسبب. قال ابن قدامة في المغني: ويجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة، ثم ذكر حفر البئر في غير ملك الحافر، وفي الطريق. . . إلخ.(56/272)
وقال السرخسي في المبسوط: فأما ما ليس بعمد ولا خطأ، ولا أجري مجرى الخطأ فهو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق فليس بمباشر للقتل؛ لأن مباشرة القتل بإيصال فعل من القاتل بالمقتول، ولم يوجد، وإنما اتصل فعله بالأرض، فعرفنا أنه ليس بقاتل عمد ولا شبهة عمد ولا خطأ، ولا ما أجري مجرى الخطأ بل هو بسبب متعد، فنوجب الدية على عاقلته للحاجة إلى صيانة النفس المتلفة عن الهدر. ا. هـ(56/273)
(31) حفر متعدية فدخل آخر متعديا:
إذا حفر إنسان بئرا في غير ملكه وبدون إذن المالك فدخل الدار التي فيها البئر رجل بدون إذن من صاحبها وهلك فعلى من الضمان؟
هنا عندنا معتديان: أحدهما الحافر الذي حفر بدون إذن، والمعتدي الثاني هو الداخل إلى الدار بدون إذن من صاحبها.
ذكر الشافعية في هذه المسألة وجهين: أحدهما الضمان على الداخل الذي دخل الدار بدون إذن لتعديه، والثاني:(56/273)
الضمان على الحافر الذي حفر البئر في ملك غيره بدون إذن المالك لتعديه.
وقد صحح البلقيني أن الضمان على الأول.
(قلت) هو الصحيح؛ لأن (الحكم يضاف إلى آخر أسبابه) (1) ، وآخرها هو دخول الداخل المعتدي بدخوله.
وأيضا فيعتبر الداخل مباشرا والحافر متسببا والفعل يضاف إلى المباشر لا إلى المتسبب.
__________
(1) الحصكفي، الدر المختار 5 \ 341.(56/274)
(32) ضمان الداعي للدخول والحافر عدوانا:
لو حفر شخص البئر عدوانا في ملك غيره فدعا المالك شخصا لدخول داره فدخلها وسقط فيها وهلك فعلى من الضمان؟ هل هو على المالك أو على الحافر؟
قال الشافعية (1) وجهان: صحح منهما البلقيني الأول - الضمان على المالك - لأنه المقصر بعدم إعلامه، ومن ثم لو نسي كان على الحافر.
(قلت) الذي أراه راجحا هو أن الضمان على المالك؛ لأنه
__________
(1) ابن حجر، التحفة، والعبادي، الحاشية 9 \ 9، وانظر العبادي 9 \ 7.(56/274)
هو الذي دعا ذلك الشخص للدخول، ونسيانه إذا كان يعفيه من الإثم فلا يعفيه من الضمان، نعم لو كان لا يعلم بحفر البئر فالضمان على الحافر. والله أعلم.(56/275)
(33) متى يبرأ من الضمان؟
إذا حفر شخص بئرا في ملك غيره - متعديا - بغير إذن المالك، فعليه الضمان لا يبرأ منه إلا إذا علم المالك ورضي ببقائها، أو علم بها فمنع الحافر من طمها، أو أن الحافر ملك البقعة التي حفر بها، وذلك لأن من شروط الضمان استمرار العدوان إلى أن يسقط بها إنسان، وقد زال العدوان، ذكر ذلك الشافعية (1) .
(قلت) وهو صحيح إن شاء الله تعالى؛ لما عللوا به.
__________
(1) الرملي، النهاية 7 \ 352، وقال الشربيني في مغني المحتاج 4 \ 83: زال الضمان في الأصح.(56/275)
(34) أبرأه المالك من الضمان:
فإن حفر إنسان بئرا في ملك الغير أو وضع ما يتعلق به الضمان فأبرأه المالك من ضمان ما يتلف به؟
قال الحنابلة (1) : فيها وجهان: أحدهما: يبرأ؛ لأن المالك لو أذن له فيه ابتداء لم يضمن ما تلف به، فإذا أبرأه من الضمان، وأذن فيه زال عنه الضمان كما لو اقترن الإذن بالحفر.
والآخر: لا ينتفي عنه الضمان، لأنه - التعدي - سبب
__________
(1) ابن قدامة، المغني 12 \ 92 - 93.(56/275)
موجب للضمان، فلا يزول حكمه بالإبراء كسائر الأسباب، ولأن حصول الضمان به لكونه تعدى بحفره، والإبراء لا يزيل ذلك؛ لأن ما مضى لا يمكن تغييره عن الصفة التي وقع عليها؛ ولأن وجوب الضمان ليس يحق للمالك الإبراء منه كما لو أبرأه غير المالك؛ ولأنه إبراء مما لم يجب، فلم يصح، كالإبراء من الشفعة قبل البيع. ا. هـ
والراجح: هو الأول؛ ذلك لأننا عرفنا أن المالك لو علم بالتعدي بالحفر ورضي ببقاء البئر أو منع الحافر المتعدي من طمها زال الضمان، ولأن هذا الإبراء حاصل قبل حصول السقوط في البئر فكأنه أذن له بالحفر أو أذن بالإبقاء فلا يضمن. والله أعلم. وقد علمت رأي الشافعية في المسألة آنفا.(56/276)
(35) حفر في ملك مشترك:
إذا حفر إنسان بئرا في ملك مشترك بينه وبين شريكه بدون إذن شريكه فهلك به إنسان ضمن الحافر فقط، لأنه متعد بالحفر في ملكه وفي غير ملكه من غير إذن المالك الآخر وهو الشريك. بهذا قال الحنابلة والشافعية، ونقل ابن قدامة عن أبي حنيفة أنه يضمن ما قابل حصة شريكه ولا يضمن ما قابل حصته، لأنه لم يتعد في الحفر بحصته.
والراجح: إذا أردنا أن نرجح رأيا في هذه المسألة نقول:(56/276)
الداخل في الدار إما أن يكون دخل بإذن أو بلا إذن، فإن دخل بلا إذن فلا ضمان على أحد؛ لأنه هو المتعدي بالدخول في ملك غيره بغير إذنه، وإن دخل الساقط في البئر بإذن الشريك فإما أن يكون أعلمه بالبئر أو لا، فإن لم يعلمه وكانت مكشوفة بينه وهو مبصر فكذلك لا ضمان على أحد لعدم التعدي، وإن كانت ظلمة أو الداخل أعمى ولم يعلمه فقد غره بإذنه له بالدخول دون أن يبين له حالة البئر فهو ضامن بالغرور، ولا شيء على شريكه، والله أعلم.
قال ابن نجيم (1) : لو حفر بئرا في الطريق غير النافذ لا يضمن ما نقص بالحفر، ويضمن ما نقص من ذلك في الدار المشتركة؛ لأن لشريكه ملكا حقيقة في الدار، حتى إنه يستطيع أن يبيع نصيبه ويقسمه. ا. هـ بهذا قال الحنفية.
__________
(1) البحر الرائق 8 \ 350.(56/277)
(36) مات بسبب السقوط في البئر أو جوعا وغما:
إذا حفر بئرا في الطريق - وكان متعديا - ومات فيه إنسان بسبب السقوط فيه فقد اتفق الفقهاء على أن الحافر ضامن ما هلك بسبب حفره، فإن لم يمت الواقع بسبب السقوط، وإنما مات(56/277)
بسبب الجوع أو الغم، فقد اتفق المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية، على أن الحافر ضامن لذلك.
وقال أبو حنيفة والشافعية: إن مات بسبب السقوط فالحافر ضامن لكل ذلك وإن مات بسبب الجوع والغم فلا ضمان على الحافر، زاد الشافعية ما لو نهشته حية أو وقع عليه حجر.
وقال أبو يوسف: إن مات بسبب السقوط أو الغم فالضمان على الحافر، وإن مات بسبب الجوع فلا ضمان على الحافر.
الأدلة:
استدل الجمهور على قولهم بأن الضمان واجب على الحافر - إذا مات الواقع في البئر بسبب السقوط أو بسبب الجوع أو بسبب الغم - بأن الضمان عند الموت بسبب السقوط، إنما وجب لكون الحفر تسببا إلى الهلاك، ومعنى التسبب موجود ههنا؛ لأن الوقوع سبب الغم والجوع؛ لأن البئر يأخذ نفسه، وإذا طال مكثه(56/278)
يلحقه الجوع، والوقوع بسبب الحفر فكان مضافا إليه كما إذا احتبسه في موضع حتى مات.
واستدل أبو حنيفة لرأيه القائل بأن الحافر لا يضمن الساقط إذا مات بسبب الجوع أو الغم بما يلي:
إن الحافر للبئر لا صنع له من الغم ولا في الجوع حقيقة؛ لأنهما يحدثان بخلق الله تعالى لا صنع للعبد فيهما أصلا، لا مباشرة ولا تسببا، أما المباشرة فلا شك في انتفائها، وأما التسبب فلأن الحفر ليس بسبب للجوع لا شك فيه؛ لأنه لا ينشأ منه بل هو بسبب آخر، والغم ليس من لوازم البئر، فإنها قد تغم وقد لا تغم فلا يضاف ذلك إلى الحفر.
واستدل أبو يوسف على قوله بأن الساقط في البئر إذا مات بسبب السقوط أو الغم فالضمان على الحافر، وإن مات بسبب الجوع فلا ضمان على الحافر، فقال: إن الغم من آثار الوقوع فكان مضافا إلى الحفر فأما الجوع فليس من آثار الوقوع فلا يضاف إلى الحفر.
المناقشة:
نستطيع أن نناقش قول أبي حنيفة والشافعية وأبي يوسف القائلين بأن الجوع ليس من آثار الوقوع فنقول: كما قال محمد بن الحسن: صحيح أن الجوع ليس من آثار الوقوع لكن الجوع(56/279)
عن طول المكث في البئر المتسبب عن الحفر الوقوع في البئر، وحينئذ فكما أن الموت جوعا بسبب الحبس موجب للضمان مع أن الجوع ليس من لوازم الحبس فكذا هنا، ثم لولا البئر فإن الطعام قريب منه.
وأما قوله: (1) إن الغم ليس من لوازم البئر فإنها قد تغم وقد لا تغم. نقول: هذا صحيح ولكنها إذا غمت أصبحت سببا في الضمان وإلا فلا. فإن ضربة السيف قد تقتل وقد لا تقتل، فإذا قتلت كانت سببا للضمان، فكذا هنا.
وأما قوله: إن الجوع والغم يحدثان بخلق الله تعالى. فهذا صحيح، وكل شيء بخلق الله تعالى، والله تعالى خالق لأفعال العباد كلها ومع ذلك يؤاخذون عليها.
الترجيح:
بعد أن عرفنا الأقوال جميعها وعرفنا الأدلة والمناقشة رأينا أن القول الأول قول مستقيم ليس فيه مطعن ولا رد عليه أحد وأن رأي أبي حنيفة والشافعية وأبي يوسف وردت عليها ردود ردتها؛ لذا أرى أن الرأي الراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وعلى ذلك. فإذا حفر إنسان بئرا وكان متعديا في حفرها وسقط فيها إنسان ومات بأي سبب من أسباب الموت فإن الحافر ضامن لذلك.
__________
(1) أي قول أبي حنيفة.(56/280)
(37) إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر (1) :
شرح القاعدة:
المباشر: هو الذي حصل الضرر بفعله بلا واسطة، أي دون تدخل فعل شخص آخر مختار.
والمتسبب: هو الذي يحدث أمرا يؤدي إلى تلف شيء آخر حسب العادة، إلا أن التلف لا يقع فعلا منه، وإنما بواسطة أخرى هو فعل فاعل مختار.
معنى القاعدة: أنه إذا ترتب على فعل مؤذ ضرر بآخر، وكان قد اشترك في إحداث الضرر سبب بعيد - لا يؤثر بنفسه - وسبب مباشر في إيجاد الضرر، فإن المباشر هو المسئول عن الضمان، حتى ولو كان السبب البعيد متعديا (2) .
كمن حفر حفرة - متعديا - ثم جاء آخر فدفع ثالثا في الحفرة أو ألقى حيوانا فيها، ضمن الدافع أو الملقي " لأنه مباشر للتلف بالذات، أما الحافر فهو متسبب فقط (3) .
وكذا لو أن إنسانا حفر حفرة أو وضع خشبة في الطريق أو
__________
(1) فهمي الحسيني، شرح المجلة 1 \ 80 المادة 90.
(2) انظر: ابن رجب، القواعد ص 27، القاعدة 89، القرافي، الفروق 4 \ 27، الضمان ص 188.
(3) الكاساني، البدائع 7 \ 275، قال لأن الدافع قاتل مباشرة، الزحيلي، نظرية الضمان ص 189.(56/281)
وضع قنطرة على نهر - غير متعد - فتعمد شخص الوقوع في الحفرة، بأن رام قفزها أو تعمد السير على الخشبة، أو سار على القنطرة فهلك فلا ضمان على واضع هذه الأشياء.
قال في تبيين الحقائق (1) - بعد أن ذكر وضع الخشبة في الطريق أو القنطرة بلا إذن الإمام - قال: ووضع الخشبة والقنطرة بلا إذن الإمام، وإن وجد التعدي منه فيهما، لكن تعمده بالمرور عليهما يقطع النسبة إلى الواضع؛ لأن الواضع بسبب والمار مباشر فصار هو صاحب علة فلا يعتبر السبب معه. ا. هـ
__________
(1) الزيلعي، تبيين الحقائق 6 \ 145، وانظر الفتاوى البزازية 6 \ 409، 410.(56/282)
(38) المباشر ضامن وإن لم يتعد أو لم يتعمد (1) :
أي أن من باشر الضرر ضمن، سواء كان متعديا أم لا. فمن حفر حفرة في ملكه - غير متعد - وفيها إنسان أو حاجة ما، فسقط إنسان في هذه الحفرة فقتل الساقط الذي بداخل الحفرة أو كسر الحاجة فعليه الضمان؛ لأنه مباشر للإتلاف فهو ضامن له سواء تعمد ذلك أم لا؛ لأن دخوله في ملك غيره تعد منه.
وكذا لو أن سيارة لم يستطع صاحبها إيقافها لخلل أصابها وقتل إنسانا ضمن. ولو تدحرج رجل من جبل فسقط على آخر فقتله ضمن المتدحرج الدية؛ لأنه مباشر للقتل، وإن لم يتعد أو
__________
(1) فهمي الحسيني، شرح المجلة 1 \ 82 المادة 92، د. الزحيلي، نظرية الضمان ص 196.(56/282)
لم يتعمد القتل (1) .
__________
(1) البغدادي، أبو محمد بن غانم، مجمع الضمانات ص 179 - 180، قاضي خان، الفتاوى 2 \ 402، 403.(56/283)
(39) المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي:
فلو كانت مسألة الحفرة بحالها وكان حافر الحفرة قد حفرها متعديا، وسقط رجل فيها على إنسان بداخلها فقتله أو على حاجة فأتلفها فالضمان على الحافر؛ لأنه هو المتعدي بحفرها فعليه ضمان الساقط والمسقوط عليه، لأنه بمنزلة الدافع لمن سقط، والساقط بمنزلة المدفوع فيكون تلف الكل مضافا إلى الحافر (1) .
ومن فروع القاعدتين السابقتين:
إذا كانت المسألة بحالها ومات الساقط الثاني بوقوعه على الذي بداخل الحفرة. هنا ننظر:
فإن كان الساقط الثاني متعمدا بإلقاء نفسه في الحفرة فلا ضمان على أحد؛ لأنه مباشر لقتل نفسه.
وإن وقع خطأ، فإن كان حفر الحفرة عدوانا فالدية كاملة على عاقلة الحافر؛ لأنه متسبب متعد، والمتسبب يضمن بالتعدي، وإن لم تحفر عدوانا فلا ضمان على المتسبب؛ لأن المتسبب يضمن بالتعدي وهنا لم يتعد.
قال ذلك الشافعية، وقال الحنابلة: دم الساقط الثاني هدر؛
__________
(1) البغدادي، مجمع الضمانات ص 179، 180.(56/283)
لأنه مات بفعل نفسه (1) .
(قلت) لعل الحنابلة بإطلاقهم أرادوا أنه تعمد الوقوع.
ولو اتخذ رجل بئرا في ملكه أو بالوعة، فوهن منها حائط جاره، وطلب منه جاره تحويله أو ردمه لم يجب عليه، فإن سقط الحائط من ذلك لا يضمن؛ لأن المتسبب في هذه الحالة غير متعد حيث عمل ما عمل في ملكه (2) .
ومن المباشرة والتسبب القاعدة التي نقلها شارح مجلة الأحكام العدلية وهي:
__________
(1) الشربيني، مغني المحتاج 4 \ 84، ابن قدامة، المغني 12 \ 84.
(2) الزحيلي، نظرية الضمان ص 199.(56/284)
(40) " كل حكم يثبت بعلة ذات وصفين، يضاف الحكم إلى الوصف الذي وجد منهما أخيرا " (1) :
فمن وضع حجرا في ملكه - غير متعد - فوضع آخر شيئا جارحا أو حفر حفرة - متعديا - فعثر بالحجر رجل فوقع على الجارح أو في الحفرة، فالضمان على واضع الجارح وحافر الحفرة لتعديهما، ولا يتعلق الضمان بواضع الحجر لعدم تعديه؛ لأنه سبب غير متعد. ذكر ذلك الحنابلة (2) .
ومثل ذلك لو حفر إنسان حفرة في الطريق - متعديا - فوضع
__________
(1) فهمي الحسيني، شرح المجلة 1 \ 80 المادة 90، انظر الشرح.
(2) ابن قدامة 12 \ 88، المرداوي، الإنصاف 10 \ 34، وهذا المذهب المشهور؛ وعنه الضمان عليهما.(56/284)
رجل آخر حجرا - متعديا - فتعثر بالحجر رجل فوقع في الحفرة، فالضمان على الأخير - واضع الحجر - لأن الوقوع بسبب التعثر، والتعثر بسبب وضع الحجر. (ولأنه الأخير والحكم يضاف إلى الوصف الأخير) .
وإن لم يضع الحجر أحد بل نقله السيل، فالضمان على حافر الحفرة؛ لأنه لا يمكن أن يضاف التعدي إلى السيل (1) ، فيضاف إلى الحافر لكونه متعديا بحفره.
ذكر ذلك الحنفية (2) ، ومثله عن الحنابلة (3) .
(قلت) وكذلك كل تعد لا يمكن إضافته إلى الفاعل - المتسبب - الثاني، يضاف إلى الفاعل الأول.
فلو حفر إنسان حفرة - متعديا - وصب إنسان عندها ماء فزلق به رجل ووقع في الحفرة ومات، فالضمان على صاب الماء؛ لأنه الفاعل الأخير أما لو نزل مطر فزلق به إنسان فوقع في الحفرة ومات، فالضمان على حافر الحفرة؛ لأنه لا يمكن إضافة التعدي إلى المطر (4) .
ومن فروع هذه القاعدة ما لو وضع إنسان حجرا أو حقيبة أو صندوقا فنحاه آخر عن موضعه فتعثر به أعمى فهلك، أو دابة
__________
(1) في النسخة، إلى الحجر، وهو خطأ.
(2) الكاساني، البدائع 7 \ 276.
(3) ابن قدامة، المغني 12 \ 88، البهوتي، الكشاف 6 \ 4.
(4) ابن نجيم، البحر الرائق 8 \ 349، عليش، فتح العلي المالك 2 \ 339.(56/285)
فتضرر ما عليها، فالضمان على الثاني الذي نحاه عن موضعه؛ لأن حكم فعل الأول قد انتسخ لفراغ ما شغله، وإنما اشتغل بالفعل الثاني موضع آخر (1) .
وكذا لو حفر إنسان حفرة - متعديا - فوضع فيها رجل أشياء حادة أو صلبة فوقع في الحفرة إنسان فمات بسبب الأشياء الحادة أو الصلبة فلا ضمان على الحافر الأول، بل الضمان على واضع المواد الحادة أو الصلبة.
ومن فروع هذه القاعدة إذا حفر إنسان حفرة عدوانا فوقع فيها رجل فسلم وطلب الخروج منها، فساعده رجل على الخروج وحمله ليخرج به حتى إذا توسط الحفرة سقط المحمول ومات فلا ضمان على أحد؛ لأن الحافر انتهى تسببه بسقوط الرجل سالما، ولا ضمان على الحامل، لأنه متسبب ولكنه غير متعد والمتسبب لا يضمن إلا بالتعدي (2) .
ومن ذلك ما لو حفر إنسان حفرة ثم ردمها، فجاء آخر فأعاد حفرها، فوقع فيها إنسان ومات قال الحنفية (3) ننظر:
إن ردمها بالتراب ونحوه، فالضمان على الثاني الذي أعاد حفرها؛ لأن ردمها بالتراب ألحقها بالعدم، فكان إخراج التراب مرة أخرى بمنزلة حفر حفرة أخرى.
__________
(1) المرغيناني، الهداية 10 \ 312.
(2) ابن نجيم، البحر الرائق 8 \ 349.
(3) الكاساني، البدائع 7 \ 276.(56/286)
وإن ردم الحفرة بمتاعه الذي يريد ادخاره كحنطة وشعير أو ملابس أو ما شاكل ذلك فلا يعد هذا ردما بل هو شغل لها، ولذا فإذا حفرها آخر وسقط بها إنسان فالضمان على الأول وذلك لبقاء الحفر بعد ردمها بالمتاع.
(قلت) الراجح أنه إن حفرها - غير متعد - بل حفرها ووضع فيها حنطة أو شعيرا ثم حفرها الآخر متعديا فالضمان على الثاني لتعديه.
وإن حفرها الأول - متعديا - فكذلك؛ لأن الفعل هنا يضاف إلى الوصف الذي وجد منهما أخيرا فلأن كل واحد منهما متعديا.
وإن حفرها ثم سد رأسها، وجاء آخر فنقضه، فوقع فيها إنسان ومات، فالضمان على الأول؛ لأن أثر الحفر لم ينعدم بالسد، لكن السد صار مانعا من الوقوع، والفاتح بالفتح أزال المانع وزوال المانع شرط للوقوع، والحفر سبب للوقوع، والحكم يضاف إلى السبب لا إلى الشرط. ذكر ذلك الحنفية (1) .
(قلت) والذي أرجحه فيه تفصيل كما يلي:
أن الرجل الذي سد الحفرة إن كان سدها محكما بحيث يصعب رفع الغطاء وبالغ في ذلك فلا ضمان على الحافر على قاعدة (لا ضمان على المبالغ في الحفظ) (2) إنما الضمان على
__________
(1) الكاساني، البدائع 7 \ 276.
(2) الكاساني، البدائع 7 \ 275 - 276.(56/287)
الذي نقض السد؛ لأن نقضه الآن سبب للوقوع، والحكم يضاف إلى آخر أسبابه.
وهذا ينطبق على فتحات المجاري التي في الطرقات، فلو أن العمال أغلقوا هذه الفتحات إغلاقا جيدا ثم جاء آخر ففتحها ووقع فيها إنسان أو دابة فالضمان على من فتحها. وكذا لو كانت كبيرة فسقطت فيها سيارة.(56/288)
(41) الاشتراك في الضمان:
القاعدة: إن اشترك جماعة في عدوان تلف به شيء فالضمان عليهم (1) .
إذا حفر إنسان حفرة - متعديا - فوسع آخر رأسها قليلا وهلك بها إنسان، فالضمان عليهما نصفان؛ لأن السقوط كان بسبب حفرهما.
فإن وسعها كثيرا بحيث يسقط الساقط في التوسعة فالضمان على الثاني، لأنه سبب متعد حيث كان السقوط بسبب توسعته، ذكر ذلك الحنفية (2) .
وكذا لو حفر شخص حفرة - متعديا - فعمقها آخر فسقط فيها إنسان ومات كان الضمان عليهما؟ لأن التلف حصل بسببهما، لاشتراكهما في الحفر.
__________
(1) ابن قدامة، المغني 12 \ 89.
(2) الكاساني، البدائع 7 \ 275 - 276، الفتاوى الهندية 6 \ 45.(56/288)
وبهذا قال الشافعية وبه قال الحنفية استحسانا، وهو قول الحنابلة. وقال الحنفية قياسا وهو قول محمد: إن الضمان على الأول.
(قلت) هذا فيه تفصيل فإن كان الحفر الأول قليلا لا يميت فعمقه الثاني فأصبح مهلكا فالضمان عليهما لاشتراكهما في الحفر.
وإن كانت الحفرة عميقة أساسا تقتل من يقع فيها، والثاني زاد من تعميقهما فالضمان على الأول، لأن الثاني لم يفعل شيئا يسبب قتلا.
وكذا - عند المالكية - لو حفر إنسان حفرة ليقع فيها شخص معين، فردى رجل ذلك المعين فيها قتلا معا.
وكذا إن وضع اثنان حاجة في الطريق ووضع رجل حاجته معهما فعثر بهما رجل فهلك بسببهما فالدية على عواقلهم أثلاثا؛ لأن السبب حصل من الثلاثة فوجب الضمان عليهم، وإن اختلفت(56/289)
أفعالهم كما لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان جرحين فمات.
وهو قياس المذهب الحنبلي، وهو قول أبي يوسف كما ذكر ابن قدامة. وذكر ابن قدامة أيضا أن زفر (1) يقول: على الاثنين. النصف، وعلى واضع الحجر وحده النصف، لأن فعله مساو لفعلهما (2) . ا. هـ.
(قلت) فزفر رحمه الله اعتبر الفعل فقط، وغيره اعتبر الفاعل فقط.
والراجح والله أعلم قول الحنابلة وأبي يوسف؛ لأن القاعدة: أن المعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات (3) .
ومثل ذلك ما لو حفر رجل حفرة ووضع آخر بداخلها شيئا حادا أو صلبا فوقع فيها إنسان فهلك بالحاد أو الصلب، نص الإمام أحمد على أن الضمان عليهما، قال أبو بكر: لأنهما في معنى الممسك والقاتل (4) .
__________
(1) ابن قدامة 12 \ 89.
(2) نفسه.
(3) السرخسي، المسبوط 27 \ 18.
(4) ابن قدامة، المغني 12 \ 89.(56/290)
(42) الجذب في البئر:
إذا حفر إنسان بئرا في الطريق - وكان متعديا بحفره - فوقع فيه رجل فتعلق بآخر وتعلق الآخر بآخر فوقعوا جميعا فماتوا، فما(56/290)
الحكم(56/291)
صفحة فارغة(56/292)
سنذكر حكم هذه المسألة من كتاب ابن قدامة في المغني؛ لأنه ذكرها مختصرة من جهة، ولم يكثر من التفصيل، وذكرها فيما إذا كان حفر البئر بدون تعد من الحافر، وكذلك ذكرها الماوردي في الحاوي (1) . وسأحاول بيان ما يوافق المغني من
__________
(1) الماوردي، الحاوي 16 \ 197 - 199، ابن قدامة، المغني 12 \ 85 - 87 بتصرف.(56/293)
الحاوي إن رأيت فائدة.
فأقول: إذا حفر إنسان بئرا - وكان غير متعد بحفره هذا - وسقط فيه رجل فجذب آخر فوقعا معا فدم الأول هدر؛ لأنه مات من فعل نفسه.
وإن مات الثاني: فديته كلها على عاقلة الأول؛ لأنه قتله بجذبته، وهذا متفق عليه بين المذهبين.
وإن تعلق الثاني بثالث فمات الثلاثة بدون جذب ولا دفع فدية الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، فاشتركا في ديته لاشتراكهما في تلفه، ودية الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ودية الثالث هدر؛ لأنه تلف من وقوعه، ذكر ذلك الماوردي وحده.
(قلت) وهو حسب التعليل صحيح.
وإن جذب الثلاثة بعضهم بعضا فماتوا جميعا، فلا شيء على الثالث؛ لأنه مجذوب وليس بجاذب، وفي ديته وجهان:
أحدهما: يضمنها الثاني؛ لأنه هو الذي باشر جذبه، والمباشرة تقطع حكم السبب، والثاني: أن ديته على عاقلة الأول والثاني نصفين؛ لأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث، فصار الأول مشاركا للثاني في إتلافه.
أما دية الأول والثاني، فقال الماوردي: على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه ويهدر النصف الثاني؛ لأنهما مشتركان في قتل أنفسهما؛ لأن موت الأول كان بجذبه للثاني،(56/294)
وبجذب الثاني للثالث، وموت الثاني كان بجذب الأول وبجذب الثاني للثالث، فصار الأول والثاني مشتركين في قتل أنفسهما.
وعند الحنابلة وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: أن دية الثاني على عاقلة الأول؛ لأنه هلك بجذبته، وإن هلك بسقوط الثالث عليه، فقد هلك بجذبة الأول وجذب نفسه للثالث، فسقط فعل نفسه كالمصطدمين، فتجب دية كاملة على الأول، ذكره القاضي. ويتخرج وجه ثالث: وهو وجوب نصف ديته على عاقلته لورثته. وأما الأول إذا مات بوقوعهما عليه، ففيه الأوجه الثلاثة؛ لأنه مات من جذبته للثاني، وجذبة الثاني للثالث، فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني ويلغى فعل نفسه على الوجه الأول.
وعلى الثاني: يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه، ويجب نصفها على الثاني. وعلى الثالث، يجب نصفها على عاقلته لورثته. ذكر ذلك ابن قدامة.
(قلت) ما دام أن الحنابلة جعلوا نصف دية الثاني هدرا، والنصف الآخر على الأول كقول الشافعية؛ لأنه اشترك معه في قتل أنفسهما، فكذلك تكون دية الأول، نصفها هدر والنصف الآخر على عاقلة الثاني لنفس العلة، والله أعلم.
وإن جذب الثالث رابعا، فمات جميعهم بوقوع بعضهم على بعض، فلا شيء على الرابع؛ لأنه لم يفعل شيئا في نفسه ولا غيره، وفي ديته وجهان (وبالوجهين قال الماوردي الشافعي) : أحدهما: أنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه، والثاني:(56/295)
(أنها) على عاقلة الأول والثاني والثالث؛ لأنه مات من جذب الثلاثة، فكانت ديته على عواقلهم، وأما الأول فقد مات بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث ففيه - أي في ديته - ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على عاقلة الثاني والثالث نصفين. الثاني: يجب على عاقلتيهما - أي الثاني والثالث - على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه (وهذا هو الموافق لقول الماوردي الشافعي) . الثالث: يجب ثلثها على عاقلته لورثته.
وأما الجاذب الثاني فقد مات بالأفعال الثلاثة، وفيه هذه الأوجه المذكورة في الأول سواء.
وأما الثالث ففيه مثل الأوجه الثلاثة ووجهان آخران: أحدهما: أن ديته بكمالها على الثاني؛ لأنه المباشر لجذبه، فسقط فعل غيره بفعله. والثاني: أن على عاقلته نصفها، ويسقط النصف الثاني في مقابلة فعله في نفسه. ا. هـ (وهذا موافق للماوردي الشافعي) وهناك بعض الأوجه ذكرها الماوردي.
وإن وقع بعضهم على بعض فماتوا، نظرت: فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض، مثل أن يكون البئر عميقا يموت الواقع فيه بنفس الوقوع، أو كان فيه ماء يغرق الواقع فيه فيقتله، أو أسد يأكلهم فليس على بعضهم ضمان بعض، لعدم تأثير فعل بعضهم في هلاك بعض.
وإن شككنا في ذلك لم يضمن بعضهم بعضا؛ لأن الأصل براءة الذمة، فلا نشغلها بالشك، وإن كان موتهم بوقوع بعضهم(56/296)
على بعض فدم الرابع هدر؛ لأن غيره لم يفعل فيه شيئا، وإنما هلك بفعله، وعليه دية الثالث، لأنه قتله بوقوعه عليه، ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين، ودية الأول على الثلاثة أثلاثا.
وإن هلكوا بأمر في البئر مثل أسد كان فيه، وكان الأول جذب الثاني، والثاني جذب الثالث، والثالث جذب الرابع فقتلهم الأسد، فلا شيء على الرابع وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين، وفي الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثا ودم الأول هدر، وعلى عاقلته دية الثاني، وأما دية الثالث فعلى الثاني في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول والثاني نصفين وهذه المسألة تسمى (مسألة الزبية) . ا. هـ
واستدل ابن قدامة لقوله فقال: وقد روى حنش الصنعاني «أن قوما من أهل اليمن، حفروا زبية (1) للأسد، فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد فجذب ثانيا، فجذب الثاني ثالثا ثم جذب الثالث رابعا، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه - فقال: للأول ربع الدية؛ لأنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية؛ لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث نصف الدية؛ لأنه هلك فوقه واحد، وللرابع كمال الدية، وقال: فإني أجعل الدية على من حضر رأس البئر فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/128) .(56/297)