صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يمنحهم الاستقامة عليه، والتوبة إلى الله من جميع الذنوب، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا، وأن ينصر بهم الحق، وأن يخذل بهم الباطل، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، وأن يعيذهم وجميع المسلمين من مضلات الفتن، ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(51/380)
حديث شريف
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال «يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمر به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول قال فحدثت به ابن سيرين فقال غير متأثل مالا (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2737) ، صحيح مسلم الوصية (1633) ، سنن الترمذي الأحكام (1375) ، سنن النسائي الأحباس (3604) ، سنن أبو داود الوصايا (2878) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) .(51/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)
(سورة الأعراف، الآية 158)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158(52/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(52/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(52/3)
المحتويات
الافتتاحية
السنة ومكانتها في الإسلام وفي أصول التشريع لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
جباية الزكاة (القسم الأول) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 25
الفتاوى
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 127
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 149(52/4)
البحوث
الدلائل البينات فيما لم يثبت فيه نهي من الأوقاف للدكتور / عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 169
أحاديث ربا الفضل وأثرها في العلة والحكمة في تحريم الربا للشيخ محمد بن علي بن حسين الحريري 227
البيع بشرط البراءة من العيب للدكتور / عبد الله بن محمد الحجيلان 279
العلامة مرعي بن يوسف الحنبلي - آثاره العلمية للدكتور / عبد الله بن سليمان الغفيلي 337
من قرارات المجمع الفقهي 367
حكم الذبح لغير الله لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 375(52/5)
صفحة فارغة(52/6)
السنة ومكانتها
في الإسلام وفي أصول التشريع
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا بحث مهم يتعلق بالسنة، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام؛ يجب الأخذ بها والاعتماد عليها إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: من المعلوم عند جميع أهل العلم أن السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن مكانتها في الإسلام الصدارة بعد كتاب الله عز وجل، فهي الأصل المعتمد بعد كتاب الله عز وجل بإجماع أهل العلم قاطبة، وهي حجة قائمة مستقلة على جميع الأمة، من جحدها أو أنكرها أو زعم أنه يجوز الإعراض عنها والاكتفاء بالقرآن فقط فقد ضل ضلالا بعيدا وكفر كفرا أكبر وارتد عن الإسلام بهذا المقال، فإنه بهذا المقال وبهذا الاعتقاد يكون قد كذب الله ورسوله، وأنكر ما أمر الله به ورسوله، وجحد أصلا عظيما فرض الله الرجوع إليه والاعتماد عليه والأخذ به، وأنكر إجماع أهل العلم عليه، وكذب به، وجحده.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن الأصول المجمع عليها(52/7)
ثلاثة:
الأصل الأول: كتاب الله، والأصل الثاني: سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأصل الثالث: إجماع أهل العلم.
وتنازع أهل العلم في أصول أخرى، أهمها: القياس، والجمهور على أنه أصل رابع إذا استوفى شروطه المعتبرة.
أما السنة: فلا نزاع ولا خلاف في أنها أصل مستقل، وأنها هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن الواجب على جميع المسلمين، بل على جميع الأمة الأخذ بها، والاعتماد عليها، والاحتجاج بها إذا صح السند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرات من كتاب الله، وأحاديث صحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما دل على هذا المعنى إجماع أهل العلم قاطبة على وجوب الأخذ بها، والإنكار على من أعرض عنها أو خالفها.
وقد نبغت نابغة في صدر الإسلام أنكرت السنة بسبب تهمتها للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كالخوارج، فإن الخوارج كفروا كثيرا من الصحابة، وفسقوا كثيرا منهم، وصاروا لا يعتمدون بزعمهم إلا على كتاب الله؛ لسوء ظنهم بأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتابعتهم الرافضة، فقالوا: لا حجة إلا فيما جاء من طريق أهل البيت فقط، وما سوى ذلك لا حجة فيه.(52/8)
ونبغت نابغة بعد ذلك، ولا يزال هذا القول يذكر فيما بين وقت وآخر، وتسمى هذه النابغة الأخيرة القرآنية، ويزعمون أنهم أهل القرآن، وأنهم يحتجون بالقرآن فقط، وأن السنة لا يحتج بها؛ لأنها إنما كتبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ولأن الإنسان قد ينسى وقد يغلط، ولأن الكتب قد يقع فيها غلط، إلى غير هذا مما قالوا من الترهات، والخرافات، والآراء الفاسدة، وزعموا أنهم بذلك يحتاطون لدينهم؛ فلا يأخذون إلا بالقرآن فقط. وقد ضلوا عن سواء السبيل، وكذبوا، وكفروا بذلك كفرا أكبر بواحا.
فإن الله عز وجل أمر بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، واتباع ما جاء به وسمى كلامه وحيا في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) ، ولو كان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتبع ولا يطاع لم يكن لأوامره ونواهيه قيمة.
وقد أمر صلى الله عليه وسلم أن تبلغ سنته، فكان إذا خطب أمر أن تبلغ السنة؛ فدل ذلك على أن سنته صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وعلى أن طاعته واجبة على جميع الأمة، كما تجب طاعة الله تجب طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام. ومن تدبر القرآن العظيم وجد ذلك واضحا، قال تعالى في كتابه الكريم في سورة آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (5) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (6)
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة آل عمران الآية 131
(6) سورة آل عمران الآية 132(52/9)
فقرن طاعة الرسول بطاعته سبحانه، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) . فعلق الرحمة بطاعة الله ورسوله، وقال سبحانه أيضا في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3) ، وقال سبحانه في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (4) . فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله أمرا مستقلا، وكرر الفعل في ذلك: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (5) ثم قال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (6) ولم يكرر الفعل؛ لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وإنما تجب في المعروف حيث كان ما أمروا به من طاعة الله ورسوله ومما لا يخالف أمر الله ورسوله، ثم بين أن العمدة في طاعة الله ورسوله فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (7) ولم يقل سبحانه إلى أولي الأمر منكم، بل قال: {إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (8) ؛ فدل ذلك على أن الرد في مسائل النزاع والخلاف إنما يكون لله ولرسوله. قال العلماء معنى إلى الله: الرد إلى كتاب الله، ومعنى والرسول: الرد إلى الرسول في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 32
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة النساء الآية 59
(6) سورة النساء الآية 59
(7) سورة النساء الآية 59
(8) سورة النساء الآية 59(52/10)
حياته، وإلى سنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
فعلم بذلك أن سنته مستقلة، وأنها أصل متبع. وقال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) ، وقبلها قوله جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) ، فجعل الفلاح لمن اتبعه عليه الصلاة والسلام؛ لأن السياق فيه عليه الصلاة والسلام: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) فذكر أن الفلاح لهؤلاء المتبعين لنبي الله عليه الصلاة والسلام دون غيرهم؛ فدل ذلك على أن من أنكر سنته ولم يتبعه فإنه ليس بمفلح وليس من المفلحين، ثم قال بعدها: قل يا أيها الناس يعني قل يا محمد: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) فعلق الهداية باتباعه عليه الصلاة والسلام؛ فدل ذلك على وجوب طاعته، واتباع ما جاء به من الكتاب والسنة عليه الصلاة والسلام. وقال عز وجل في آيات أخرى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة النور الآية 54(52/11)
وقال جل وعلا أيضا في هذه السورة، سورة النور: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) فأفرد طاعته وحدها بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) قال في آخر السورة، سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) فذكر جل وعلا أن المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم على خطر عظيم من أن تصيبه فتنة بالزيغ والشرك والضلال أو عذاب أليم، نعوذ بالله من ذلك، وقال عز وجل في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) .
فهذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على وجوب اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، وأن الهداية والرحمة والسعادة والعاقبة الحميدة كلها في اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، فمن أنكر ذلك فقد أنكر كتاب الله، ومن قال إنه يتبع كتاب الله دون السنة فقد كذب وغلط وكفر؛ فإن القرآن أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعه فإنه لم يعمل بكتاب الله، ولم يؤمن بكتاب الله، ولم ينقد لكتاب الله، إذ كتاب الله أمر
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة الحشر الآية 7(52/12)
بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر باتباعه، وحذر من مخالفته عليه الصلاة والسلام، فمن زعم أنه يأخذ بالقرآن، ويتبع القرآن دون السنة فقد كذب؛ لأن السنة جزء من القرآن، فطاعة الرسول جزء من القرآن، وقد دل على الأخذ بها القرآن، وأمر بالأخذ بها القرآن، فلا يمكن أن ينفك هذا عن هذا، ولا يمكن أن يكون الإنسان متبعا للقرآن بدون اتباع السنة، ولا يكون متبعا للسنة بدون اتباع القرآن، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ومما جاء في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني (1) » . وفي صحيح البخاري رحمة الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل: يا رسول الله، ومن يأبى، قال: " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (2) » . وهذا واضح في أن من عصاه فقد عصى الله، ومن عصاه فقد أبى دخول الجنة والعياذ
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7386) ، والبخاري في (كتاب الأحكام) برقم (7137) ، ومسلم في (الإمارة) برقم (1835) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8511) ، والبخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) برقم (7280) .(52/13)
بالله. وفي المسند وأبي داود وصحيح الحاكم بإسناد جيد عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه (1) » والكتاب هو القرآن، ومثله معه يعني: السنة، وهي الوحي الثاني «ألا يوشك رجل شبعان يتكئ على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينهم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه (2) » ، وفي لفظ: «يوشك رجل شبعان على أريكته، يحدث بالأمر من أمري؛ مما أمرت به ونهيت عنه، يقول بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه اتبعناه. ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (3) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع الأمة أن تعظم سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن تعرف قدرها، وأن تأخذ بها، وتسير عليها، فهي الشارحة والمفسرة لكتاب الله عز وجل، والدالة على ما قد يخفى من كتاب الله، والمقيدة لما قد يطلق من كتاب الله، والمخصصة بما قد يعم من كتاب الله، ومن تدبر كتاب الله وتدبر السنة عرف ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) ، فهو المبين للناس
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن أبو داود السنة (4604) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، مسند أحمد بن حنبل (4/132) .
(2) رواه أبو داود في (السنة) برقم (4604) ، والترمذي في العلم برقم (2464) .
(3) رواه ابن ماجه في المقدمة برقم (12) .
(4) سورة النحل الآية 44(52/14)
ما نزل إليهم عليه الصلاة والسلام، فإذا كانت سنته غير معتبرة ولا يحتج بها فكيف يبين للناس دينهم وكتاب ربهم، هذا من أبطل الباطل؛ فعلم بذلك أنه المبين لما قاله الله، وأنه الشارح لما قد يخفى من كتاب الله، وقال في آية أخرى في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) ، فبين جل وعلا أنه أنزل الكتاب عليه ليبين للناس ما اختلفوا فيه. فإذا كانت سنته لا تبين للناس ولا تعتمد بطل هذا المعنى، فهو سبحانه وتعالى بين أنه صلى الله عليه وسلم الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يفصل النزاع بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ فدل ذلك على أن سنته لازمة الاتباع، وواجبة الاتباع.
وليس هذا خاصا بأهل زمانه وصحابته رضي الله عنهم، بل هو لهم ولمن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، فإن الشريعة شريعة لأهل زمانه ولمن يأتي بعد زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، فهو رسول الله إلى الناس عامة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) ، فهو رسول الله إلى جميع العالم: الجن والإنس، العرب والعجم، الأغنياء والفقراء، الحكام والمحكومين، الرجال والنساء، إلى يوم
__________
(1) سورة النحل الآية 64
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة سبأ الآية 28(52/15)
القيامة، ليس بعده نبي ولا رسول، بل هو خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.
فوجب أن تكون سنته موضحة لكتاب الله وشارحة لكتاب الله، ودالة على ما قد يخفى من كتاب الله، وسنته أيضا جاءت بأحكام لم يأت بها كتاب الله، جاءت بأحكام مستقلة شرعها الله عز وجل، لم تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، من ذلك: تفصيل الصلوات وعدد الركعات، وتفصيل أحكام الزكاة، وتفصيل أحكام الرضاع، فليس في كتاب الله إلا الأمهات والأخوات من الرضاع وجاءت السنة ببقية المحرمات بالرضاع، فقال صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » ، وجاءت السنة بحكم مستقل في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وجاءت بأحكام مستقلة لم تذكر في كتاب الله في أشياء كثيرة، في الجنايات، والديات، والنفقات، وأحكام الزكوات، وأحكام الصوم والحج، إلى غير ذلك.
ولما قال بعض الناس في مجلس عمران بن حصين رضي الله عنهما: " دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله " غضب عمران رضي الله عنه وأرضاه، واشتد إنكاره عليه، وقال: " لولا السنة كيف نعرف أن الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (2486) ، والبخاري في الشهادات برقم (2645) .(52/16)
والمغرب ثلاث. . . " إلى آخره.
فالسنة بينت لنا تفاصيل الصلاة، وتفاصيل الأحكام، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يرجعون إلى السنة ويتحاكمون إليها ويحتجون بها، ولما ارتد من العرب من ارتد وقام الصديق رضي الله عنه وأرضاه ودعا إلى جهادهم توقف عمر في ذلك، وقال: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1) » ، قال الصديق رضي الله عنه: " أليست الزكاة من حقها - من حق لا إله إلا الله - والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها "، قال عمر رضي الله عنه: " فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق "، ثم وافق المسلمون، ووافق الصحابة، واجتمع رأيهم على قتال المرتدين؛ فقاتلوهم بأمر الله ورسوله.
ولما «جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله عن إرثها، قال: ما أعلم لك شيئا في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سوف أسأل الناس، يعني
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (68) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (21) .(52/17)
عما جاء في السنة، فسأل الناس، فأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لها بالسدس، فقضى لها بالسدس (1) » رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا «عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه حكم إملاص المرأة: (وهو خروج الجنين ميتا بالجناية على أمه) ما حكمه؟ توقف حتى سأل الناس، فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة (2) » ، فقضى بذلك. ولما أشكل على عثمان حكم المعتدة من الوفاة، هل تكون في بيت زوجها أو تنتقل إلى أهلها؟ فشهدت عنده «فريعة بنت مالك الخدرية أخت أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت زوجها (3) » ، فقضى بذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه. ولما سمع علي رضي الله عنه عثمان في بعض حجاته ينهى عن المتعة ويأمر بإفراد الحج، أحرم علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعا وقال: لا أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس. ولما سمع ابن عباس بعض الناس ينكر عليه الفتوى بالمتعة ويحتج عليه بقول أبي بكر وعمر أنهما يريان إفراد الحج، قال: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ". ولما ذكر لأحمد رحمه الله جماعة يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان الثوري ويسألونه عما لديه وعما يقول، تعجب، وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته - يعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)
__________
(1) سنن الترمذي الفرائض (2101) ، سنن أبو داود الفرائض (2894) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2724) ، موطأ مالك الفرائض (1098) .
(2) صحيح البخاري الديات (6906) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1683) ، سنن النسائي القسامة (4822) ، سنن أبو داود الديات (4570) ، سنن ابن ماجه الديات (2640) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (642) .
(3) سنن الترمذي الطلاق (1204) ، سنن النسائي الطلاق (3532) ، سنن أبو داود الطلاق (2300) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2031) ، مسند أحمد بن حنبل (6/421) ، موطأ مالك الطلاق (1254) ، سنن الدارمي الطلاق (2287) .
(4) سورة النور الآية 63(52/18)
ولما ذكر عند أيوب السختياني رحمه الله رجل يدعو إلى القرآن ويثبط عن السنة، قال: دعوه فإنه ضال. والمقصود أن السلف الصالح قد عرفوا هذا الأمر، ونبغت عندهم نوابغ بسبب الخوارج في هذا الباب، فاشتد نكيرهم عليهم، وضللوهم، وحذروا منهم، مع أنه إنكار ليس مثل الإنكار الموجود الأخير؛ لأنه إنكار له شبهة بالنسبة إلى الخوارج وما اعتقدوه في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في بعضهم دون بعض، أما هؤلاء المتأخرون فجاءوا بداهية كبرى، ومنكر عظيم، وبلاء كبير، ومصيبة عظمى؛ حيث قالوا: إن السنة برمتها لا يحتج بها بالكلية، لا من هنا ولا من هنا، وطعنوا فيها، وفي رواتها، وفي كتبها، وساروا على هذا النهج الوخيم، وأعلنه كثيرا أحد الزعماء، فضل وأضل، وهكذا جماعة منتشرة في بعض الديار الإسلامية، قالوا هذه المقالة فضلوا وأضلوا وسموا أنفسهم بالقرآنيين، وقد كذبوا وجهلوا ما قام به علماء السنة؛ لأنهم لو عملوا بالقرآن لعظموا السنة وأخذوا بها، ولكنهم جهلوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا وأضلوا.
وقد احتاط أهل السنة كثيرا للسنة، حيث تلقوها أولا عن الصحابة حفظا، ودرسوها وحفظوها حفظا كاملا، وحفظا دقيقا حرفيا، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألف العلماء على رأس القرن(52/19)
الأول وفي أثناء القرن الثاني، ثم كثر ذلك في القرن الثالث، ألفوا الكتب، وجمعوا فيها الأحاديث؛ حرصا على بقائها وحفظها وصيانتها؛ فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقبوا عن الرجال، وعرفوا ثقاتهم من كذابيهم وضعفائهم، ومن هو سيئ الحفظ منهم، حتى حرروا ذلك أتم تحرير، وبينوا من يصلح للرواية، ومن لا يصلح للرواية، ومن يحتج به ومن لا يحتج به، وأوضحوا ما وقع من بعض الناس من أوهام وأغلاط، وسجلوها عليهم، وعرفوا الكذابين والوضاعين، وألفوا فيهم، وأوضحوا أسماءهم؛ فأيد الله بهم السنة، وأقام بهم الحجة، وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبسين، وانكشف ضلال الضالين، فبقيت السنة بحمد الله جلية واضحة لا شبهة فيها، ولا غبار عليها، وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيرا، وإذا رأوا من أحد أي تساهل بالسنة أو إعراض أنكروا عليه. حدث ذات يوم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (1) » ، فقال بعض أبنائه: والله لنمنعهن - عن اجتهاد منه - ومقصوده أنهن تغيرن، وأنهن قد يتساهلن في الخروج، وليس قصده إنكار السنة، فأقبل عليه عبد الله وسبه سبا سيئا، وقال: أقول: قال رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (4641) ، رواه البخاري في (الجمعة) برقم (900) ، ومسلم في (الصلاة) برقم (442) .(52/20)
«ورأى عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه بعض أقاربه يخذف، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: " إنه لا يصيد صيدا، ولا ينكأ عدوا ". ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول إن الرسول نهى عن هذا ثم تخذف، لا كلمتك أبدا (1) » .
فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يعظمون هذا الأمر جدا، ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها أو الإنكار لها برأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات. وقال أبو حنيفة في هذا المعنى رضي الله عنه ورحمه: إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى العين والرأس وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى العين والرأس. . إلى آخر كلامه. وقال مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر. يعني النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال أيضا: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو اتباع الكتاب والسنة. وقال الشافعي رحمه الله: إذا رويت عن الرسول حديثا صحيحا ثم رأيتموني خالفته فاعلموا أن عقلي قد ذهب. وفي لفظ آخر، قال: إذا جاء الحديث عن رسول الله
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (أول مسند البصريين) ، حديث عبد الله بن مغفل برقم (20028) ، والبخاري في (الأدب) باب النهي عن الخذف برقم (6220) ، ومسلم في (الصيد والذبائح) باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد برقم (1954) ، وأبو داود في (الأدب) باب الخذف برقم (5270) واللفظ له.(52/21)
صلى الله عليه وسلم وقولي يخالفه فاضربوا بقولي الحائط. وقال أحمد رحمه الله: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي، وخذوا من حيث أخذنا. وسبق قوله رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) . فالأمر في هذا واضح، وكلام أهل العلم في هذا جلي ومتداول عند أهل العلم. وقد تكلم المتأخرون في هذا المقام كلاما كثيرا، كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم، وأوضحوا أن من أنكر السنة فقد زاغ عن سواء السبيل، وأن من عظم آراء الرجال وآثرها على السنة فقد ضل وأخطأ، وأن الواجب عرض آراء الرجال مهما عظموا على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فما شهدا له أو أحدهما بالقبول قبل، وما لا فإنه يرد على قائله. ومن آخر من كتب في هذا الحافظ السيوطي رحمه الله، حيث كتب رسالة سماها: (مفتاح الجنة في الاحتفاء بالسنة) ، وذكر في أولها أن من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج بها فقد كفر إجماعا، ونقل كثيرا من كلام السلف في ذلك.
فهذه منزلة السنة من الإسلام، وهذه مكانتها من الشريعة، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها، يجب الأخذ بها والرجوع إليها، وأنه متى صح السند إلى
__________
(1) سورة النور الآية 63(52/22)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الأخذ به مطلقا، ولا يشترط في ذلك أن يكون متواترا أو مشهورا أو مستفيضا أو بعدد كذا من الطرق، بل يجب أن يؤخذ بالسنة ولو كانت من طريق واحدة، متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقا، بسند واحد أو بسندين أو بثلاثة، أو بأكثر، سواء سمي خبرا متوترا، أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري أو العلم النظري أو الظني إذا استقام الإسناد وسلم من العلة، فالعمل بها واجب، والأخذ بها متعين، متى صح الإسناد وسلم من العلة عند أهل العلم بهذا الشأن. أما كونه متواترا، أو كونه مشهورا، أو مستفيضا، أو آحادا غير مستفيض ولا مشهور، أو غريبا، أو غير ذلك، فهذه أشياء اصطلح عليها أهل الحديث في علم الحديث، وبينوها في أصول الفقه أيضا، وأحكامها عندهم معلومة، والعلم بها يختلف بحسب اختلاف الناس؛ فإنه قد يكون هذا الحديث متواترا عند زيد وعمرو، وليس متواترا عند خالد وبكر؛ لما بينهما من الفرق في العلم، واتساع المعرفة، فقد يروي زيد حديثا من عشرة طرق، أو من ثمانية، أو من سبعة، أو من ستة أو خمسة، ويقطع هو أنه بهذا متواتر؛ لما اتصف به رواته من العدالة، والحفظ، والإتقان، والجلالة. وقد يروي الآخر حديثا من عشرين سندا، ولا يحصل له ما حصل لذلك من العلم اليقيني القطعي بأنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأنه متواتر. فهذه أمور تختلف بحسب ما يحصل للناس من العلم بأحوال الرواة وعدالتهم،(52/23)
ومنزلتهم في الإسلام، وصدقهم، وحفظهم، وغير ذلك. هذا شيء يتفاوت فيه الرجال حسب ما أعطاهم الله من العلم بأحوال رواة الحديث، وصفاتهم، وطرق الحديث، إلى غير ذلك. لكن أهل العلم أجمعوا على أنه متى صح السند وسلم من العلة وجب الأخذ به، وبينوا أن الإسناد الصحيح هو ما ينقله العدل الضابط عن مثله، عن مثله، عن مثله إلى الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من دون شذوذ ولا علة، فمتى جاء الحديث بهذا المعنى متصلا لا شذوذ فيه ولا علة، وجب الأخذ به والاحتجاج به على المسائل التي يتنازع فيها الناس، سواء حكمنا عليه بأنه غريب أو عزيز أو مشهور أو متواتر، أو غير ذلك؛ إذ الاعتبار باستقامة السند وصلاحه وسلامته من الشذوذ والعلة، سواء تعددت أسانيده أم لم تتعدد.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والاستقامة على ما يرضيه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه جل وعلا جواد كريم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(52/24)
جباية الزكاة
(القسم الأول)
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة العاشرة لهيئة كبار العلماء، المنعقدة في الرياض، في آخر ربيع الأول، وأول ربيع الثاني، عام 1397 هـ، من إدراج موضوع جباية الزكاة، واللائحة التنفيذية للجباية، الوارد من المقام السامي برفق خطابه رقم 3 \ ش \ 293 وتاريخ 4 \ 1 \ 1397 هـ، وأن اللجنة تعد في ذلك بحثا يعرض على الهيئة في الدورة الحادية عشرة - كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بحثا مختصرا مشتملا على العناصر الآتية:
1 - حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة.
2 - النظر في زكاة عروض التجارة.
3 - زكاة الديون التي للإنسان على غيره.
4 - الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة؟(52/25)
5 - التعزيز بالمال.
وفيما يلي الكلام على هذه العناصر تباعا والله الموفق.(52/26)
أولا: حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة:
قد يكون الإمام عادلا، وقد يكون جائرا، وقد يكون جوره في توزيعها، وقد يكون في سائر عمله، وفي كل ذلك قد يطلبها، وقد يدفعها صاحبها إليه بدون طلب. وفيما يلي نقول مختصرة عن فقهاء الإسلام في ذلك مع ما ذكروه من الأدلة والمناقشة.(52/26)
1 - النقول من كتب الحنفية:
أ - قال الكاساني: وأما المال الباطن الذي يكون في المصر، فقد قال عامة مشايخنا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طالب بزكاته، وأبو بكر وعمر طالبا، وعثمان طالب زمانا، ولما كثرت أموال الناس، ورأى أن في تتبعها حرجا على الأمة، وفي تفتيشها ضررا بأرباب الأموال - فوض الأداء إلى أربابها. وذكر إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي رحمه الله وقال: لم يبلغنا أن النبي بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة، ولكن الناس يعطون ذلك، ومنهم من يحمل إلى الأئمة فيقبلون منه ذلك، ولا يسألون أحدا عن مبلغ ماله، ولا يطالبونه بذلك، إلا ما كان من توجيه عمر رضي الله عنه العشار إلى الأطراف، وكان ذلك منه عندنا - والله أعلم - عمن بعد داره، وشق عليه أن يحول صدقته إليه. وقد جعل في كل طرف من(52/26)
الأطراف عاشر التجار أهل الحرب والذمة، وأمر أن يأخذوا من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه. وكان ذلك من عمر تخفيفا على المسلمين. إلا أن على الإمام مطالبة أرباب الأموال العين وأموال التجارة، بأداء الزكاة إليهم سوى المواشي والأنعام، وأن مطالبة ذلك إلى الأئمة، إلا أن يأتي أحدهم إلى الإمام بشيء من ذلك فيقبله ولا يتعدى عما جرت به العادة والسنة إلى غيره (1) . انتهى المقصود.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 \ 35، 36، ويرجع أيضا إلى حاشية ابن عابدين 2 \ 5.(52/27)
ب - قال الزيلعي: وأما أخذ الصدقات فإلى الإمام، كذا كان في أيامه عليه الصلاة والسلام، وفي زمن أبي بكر وعمر، وفوض عثمان إلى أربابها في الأموال الباطنة، إذا لم يمر بها على العاشر، فبقي ما وراءه على الأصل. وروي أن عمر أراد أن يستعمل أنس بن مالك على هذا العمل، فقال له: أتستعملني على المكس من عملك؟ فقال: أفلا ترضى أن أقلدك ما قلدنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1 \ 282.(52/27)
2 - النقول من كتب المالكية:
أ - جاء في المدونة: وقال مالك: إذا كان الإمام يعدل لم يسع الرجل أن يفرق زكاة ماله الناض ولا غير ذلك، ولكن يدفع زكاة الناض إلى الإمام، ويدفعه الإمام. انتهى المقصود.(52/27)
ب - قال ابن المواق: وأما عدم إجزاء الزكاة إن طاع لدفعها لجائر، فقال ابن العربي: هل يجوز أن يحتجز من زكاته عن الوالي ما يعطي للمحتاج؟ قولان، وبالجواز أقول؛ لأنه قادر على استخراج حق مسلم من يد غاصب فوجب عليه شرعا. اللخمي: إذا كان الإمام غير عدل، ومكنه صاحبه منها مع القدرة على إخفائها عنه، لم تجزه ووجب إعادتها، انتهى. ونحو هذا عبارة التونسي. ابن رشد: الأصح قوله في المدونة، وأحد قوليه في سماع عيسى، وقول ابن وهب، وأصبغ: أن ما يأخذه الولاة من الصدقات تجزئ وإن لم يضعوها موضعها؛ لأن دفعها إليهم واجب، لما في منعها من الخروج عليهم، المؤدي إلى الهرج والفساد، فإذا وجب أن تدفع إليهم وجب أن تجزئ (1) . انتهى المقصود.
__________
(1) نفس المرجع السابق، وإلى حاشية الدسوقي 1 \ 502.(52/28)
ج - قال القرطبي: وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غيره. وقد قيل: إن زكاة الناض على أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام (1) . انتهى.
__________
(1) تفسير القرطبي 8 \ 177.(52/28)
د - قال القرطبي على قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (1) : اختلف في هذه الصدقة المأمور بها، فقيل: هي صدقة الفرض، قاله جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث، متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا، وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية ... كرام على الضراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 103(52/29)
ابن العربي: أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة، متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم ترد بابا واحدا ولكن اختلف موارده. فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (1) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (2) ونحوه. ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى، كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} (3) ، وقوله: {خَالِصَةً لَكَ} (4) . ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا، كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (5) . الآية، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (6) ، وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (7) . فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة. وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة. وكذلك من خاف يقيم الصلاة (بتلك الصفة) . ومن هذا القبيل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} (8) وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى:
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 183
(3) سورة الإسراء الآية 79
(4) سورة الأحزاب الآية 50
(5) سورة الإسراء الآية 78
(6) سورة النحل الآية 98
(7) سورة النساء الآية 102
(8) سورة التوبة الآية 103(52/30)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (1) و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (2) (3)
هـ - وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (4) : هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها، وأن الحق له عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت، وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (5) ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) ج 8 ص 244، 245.
(4) سورة التوبة الآية 104
(5) سورة التوبة الآية 103
(6) ج8 ص 251.(52/31)
3 - النقول من كتب الشافعية:
أ - جاء في الأم تحت عنوان: (باب جماع قسم المال من الوالي ورب المال) :
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وجميع ما أخذ من مسلم من صدقة فطر، وخمس ركاز، وزكاة معدن، وصدقة ماشية، وزكاة مال، وعشر زرع، وأي أصناف الصدقات، أخذ من مسلم فقسمه واحد على الآية التي في براءة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) . الآية، لا يختلف، وسواء قليله وكثيره على ما
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(52/31)
وصفت، فإذا قسمه الوالي ففيه سهم العاملين منه ساقط؛ لأنه لا عامل عليه يأخذه فيكون له أجره فيه، والعاملون فيه عدم، فإن قال رب المال: فأنا إلى أخذه من نفسي وجمعه وقسمه فآخذ أجر مثلي، قيل: إنه لا يقال لك عامل نفسك، ولا يجوز لك إذا كانت الزكاة فرضا عليك أن يعود إليك منها شيء، فإن أديت ما كان عليك أن تؤديه وإلا كنت عاصيا لو منعته، فإن قال: فإن وليتها غيري؟ قيل: إذا كنت لا تكون عاملا على غيرك لم يكن غيرك عاملا إذا استعملته أنت، ولا يكون وكيلك فيها إلا في معناك أو أقل؛ لأن عليك تفريقها فإذا تحقق منك فليس لك الانتقاص منها لما تحققت بقيامه بها. قال: ولا أحب لأحد من الناس يولي زكاة ماله غيره؛ لأن المحاسب بها المسئول عنها هو، فهو أولى بالاجتهاد في وضعها مواضعها من غيره، وأنه على يقين من فعل نفسه في أدائها وفي شك من فعل غيره لا يدري أداها عنه أو لم يؤدها، فإن قال: أخاف حبائي فهو يخاف من غيره مثل ما يخاف من نفسه ويستيقن فعل نفسه في الأداء ويشك في فعل غيره (1) . انتهى.
__________
(1) الأم 2 \ 66.(52/32)
ب - قال الشيرازي: ويجوز لرب المال أن يفرق زكاة الأموال الباطنة بنفسه، وهو الذهب والفضة وعروض التجارة والركاز؛ لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم: " هذا شهر زكاتكم فمن كان عنده دين فليقض دينه ثم ليزك بقية(52/32)
ماله ". ويجوز أن يوكل من يفرق؛ لأنه حق مال جاز أن يوكل في أدائه كدين الآدميين، ويجوز أن تدفع إلى الإمام؛ لأنه نائب عن الفقراء، فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. وفي الأفضل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الأفضل أن يفرق بنفسه وهو ظاهر النص؛ لأنه على بينة من أدائه وليس على ثقة من أداء غيره.
الثاني: أن الأفضل أن يدفع إلى الإمام عادلا كان أو جائرا؛ لما روي أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به، ومنها ما أدفع إلى السلطان. فقال: وفيم أنت من ذلك؟ فقال: إنهم يشترون بها الأرض، ويتزوجون بها النساء. فقال: ادفعها إليهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم. ولأنه أعرف بالفقراء وقدر حاجاتهم. ومن أصحابنا من قال: إن كان عادلا فالدفع إليه أفضل، وإن كان جائرا فتفرقته بنفسه أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن سئلها على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقه فلا يعطه (1) » ، ولأنه على ثقة من أدائه إلى العادل وليس على ثقة من أدائه إلى الجائر؛ لأنه ربما صرفها في شهواته (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1454) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1800) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) .
(2) المهذب وعليه المجموع 6 \ 161.(52/33)
ج - وقال النووي: الأثر المذكور عن عثمان صحيح، رواه البيهقي في سننه الكبير في كتاب الزكاة في باب الدين مع الصدقة بإسناد صحيح عن الزهري عن السائب بن يزيد الصحابي، أنه(52/33)
سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هذا شهر زكاتكم فمن كان منكم عليه دين فليقض دينه حتى تخلص أموالكم فتؤدوا منها الزكاة (1) » .
قال البيهقي: ورواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان عن شعيب، وينكر على البيهقي هذا القول؛ لأن البخاري لم يذكره في صحيحه هكذا، وإنما ذكر عن السائب بن يزيد أنه سمع عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على هذا، ذكره في كتاب الاعتصام في ذكر المنبر. وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن البخاري كما ذكرته. ومقصود البخاري به إثبات المنبر وكأن البيهقي أراد أن البخاري روى أصله لا كله والله أعلم.
وأما حديث المغيرة فرواه البيهقي في السنن الكبير بإسناد فيه ضعف يسير، وسمى في روايته مولى المغيرة فقال: هو هنيد - يعني بضم الهاء - وهو هنيد الثقفي مولى المغيرة، وأما الحديث الآخر: «فمن سئلها على حقها (2) » فهو صحيح في صحيح البخاري، لكن المصنف غيره هنا. وفي أول باب صدقة الإبل: وقد سبق بيانه هناك وقد جاءت أحاديث وآثار في هذا المعنى، منها عن جرير بن عبد الله قال: " جاء أناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أناسا من المصدقين يأتونا فيظلموننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضوا مصدقيكم (3) » رواه مسلم في صحيحه.
وعن أنس رضي الله عنه: «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) موطأ مالك الزكاة (591) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1448) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2447) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1800) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) .
(3) صحيح مسلم الزكاة (989) ، سنن الترمذي الزكاة (647) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2460) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1589) ، سنن الدارمي الزكاة (1670) .(52/34)
إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال: " نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، ولك أجرها وإثمها على من بدلها (1) » . رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده.
وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: " اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري أن أقسمها أو أدفعها إلى السلطان، فأمروني جميعا أن أدفعها إلى السلطان ما اختلف علي منهم أحد ". وفي رواية فقلت لهم: " هذا السلطان يفعل ما ترون فأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم فادفعها ". رواهما الإمام سعيد بن منصور في مسنده.
وعن جابر بن عتيك الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم (2) » . رواه أبو داود، والبيهقي وقال: إسناده مختلف.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها ". رواه البيهقي بإسناد صحيح أو حسن. وعن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: " ادفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر ". رواه البيهقي بإسناد صحيح أو حسن.
قال البيهقي: وروينا في هذا عن جابر بن عبد الله وابن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/136) .
(2) سنن أبو داود الزكاة (1588) .(52/35)
عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم. ومما. جاء في تفريقها بنفسه ما رواه البيهقي بإسناد عن أبي سعيد المقبري، واسمه كيسان، قال: " جئت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمائتي درهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه زكاة مالي، قال: وقد عتقت، قلت: نعم قال: اذهب بها أنت فأقسمها " والله أعلم.
وأما قول المصنف: لأنه حق مال، فاحتراز من الصلاة ونحوها. (وقوله) لأنه مال للإمام فيه حق المطالبة، احتراز من دين الآدمي (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل:
إحداها: قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى: للمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه. وهذا لا خلاف فيه، ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين. والأموال الباطنة هي: الذهب والفضة، والركاز، وعروض التجارة، وزكاة الفطر. وفي زكاة الفطر وجه أنها من الأموال الظاهرة، حكاه صاحب البيان وجماعة، ونقله صاحب الحاوي عن الأصحاب، ثم اختار لنفسه أنها باطنة. وهذا هو المذهب، وبه قطع جمهور الأصحاب، منهم: القاضي أبو الطيب، والمحاملي في كتابيه، وصاحب الشامل، والبغوي، وخلائق، وهو ظاهر نص الشافعي، وهو المشهور وبه قطع الجمهور. ذكر أكثرهم المسألة في باب زكاة الفطر، قال أصحابنا: وإنما كانت عروض التجارة من الأموال الباطنة، وإن كانت ظاهرة؛ لكونها لا تعرف أنها للتجارة أم لا، فإن العروض لا تصير للتجارة إلا بشروط سبقت في بابها. والله أعلم.(52/36)
الثانية: له أن يوكل في صرف الزكاة التي له تفريقها بنفسه، فإن شاء وكل في الدفع إلى الإمام والساعي، وإن شاء في التفرقة على الأصناف، وكلاهما جائز بلا خلاف، وإنما جاز التوكيل في ذلك مع أنها عبادة؛ لأنها تشبه قضاء الديون، ولأنه قد تدعو الحاجة إلى الوكالة لغيبة المال وغير ذلك.
الثالثة: له صرفها إلى الإمام والساعي، فإن كان الإمام عادلا أجزأه الدفع إليه بالإجماع، وإن كان جائرا أجزأه، على المذهب الصحيح المشهور، ونص عليه الشافعي، وقطع به الجمهور، وفيه الوجه السابق عن الحناطي والماوردي.
الرابعة: في بيان الأفضل، قال أصحابنا: تفريقه بنفسه أفضل من التوكيل بلا خلاف؛ لأنه على ثقة من تفريقه، بخلاف الوكيل، وعلى تقدير خيانة الوكيل لا يسقط الفرض عن المالك؛ لأن يده كيده، فما لم يصل المال إلى المستحقين لا تبرأ ذمة المالك، بخلاف دفعها إلى الإمام، فإنه بمجرد قبضه تسقط الزكاة عن المالك. قال الماوردي وغيره: وكذا الدفع إلى الإمام أفضل من التوكيل لما ذكرناه، وأما التفريق بنفسه والدفع إلى الإمام ففي الأفضل منهما تفصيل: قال أصحابنا: إن كانت الأموال باطنة، والإمام عادل، ففيها وجهان، أصحهما عند الجمهور: الدفع إلى الإمام أفضل؛ للأحاديث السابقة، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به،(52/37)
بخلاف تفريقه بنفسه، فقد يصادف غير مستحق، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين، وبالمصالح، وبقدر الحاجات، وبمن أخذ قبل هذه المرة من غيره، ولأنه يقصد لها، وهذا الوجه قول ابن سريج وأبي إسحاق. قال المحاملي في المجموع والتجريد: هو قول عامة أصحابنا وهذا المذهب وكذا قاله آخرون. قال الرافعي: هذا هو الأصح عند الجمهور من العراقيين وغيرهم، وبه قطع الصيدلاني وغيره. والثاني: تفريقها بنفسه أفضل، وبه قطع البغوي.
قال المصنف: وهو ظاهر النص، يعني قول الشافعي في المختصر: وأحب أن يتولى الرجل قسمتها بنفسه؛ ليكون على يقين من أدائها عنه. هذا نصه، وهو ظاهر فيما قاله المصنف، وتأوله الأكثرون القائلون بالأول، على أن المراد أنه أولى من الوكيل، لا من الدفع إلى الإمام، وتعليله يؤيد هذا التأويل؛ لأن أداءها عنه يحصل بيقين بمجرد الدفع إلى الإمام وإن جار فيها لا إلى الوكيل، أما إذا كان الإمام جائرا فوجهان حكاهما المصنف والأصحاب:
أحدهما: الدفع إليه أفضل لما سبق. وأصحهما: التفريق بنفسه أفضل، ليحصل مقصود الزكاة، هكذا صححه الرافعي والمحققون. . .
فرع: قال الرافعي حكاية عن الأصحاب: لو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف. . . وأما الأموال الباطنة فقال الماوردي: ليس للولاة نظر في زكاتها، بل(52/38)
أصحاب الأموال أحق بتفرقتها، فإن بذلوها طوعا قبلها الإمام منهم. فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها بنفسه، فهل له أن يقول: إما أن تفرقها بنفسك وإما أن تدفعها إلي لأفرقها. فيه وجهان يجريان في النذور والكفارات، قلت: أصحهما له المطالبة، بل الصواب أنه يلزمه المطالبة، كما يلزمه إزالة المنكرات (1) .
__________
(1) المهذب والمجموع 6 \ 161 وما بعدها.(52/39)
4 - النقول من كتب الحنابلة:
أ - قال الخرقي: ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام قهرا.
ب - وقال ابن قدامة: مقتضى كلام الخرقي أن الإنسان متى دفع زكاته طوعا لم تجزئه إلا بنية، سواء دفعها إلى الإمام أو غيره، وإن أخذها الإمام منه قهرا أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون. وقال القاضي: متى أخذها الإمام أجزأت من غير نية، سواء أخذها طوعا أو كرها. وهذا قول للشافعي؛ لأن أخذ الإمام بمنزلة القسم بين الشركاء فلم يحتج إلى نية، ولأن للإمام ولاية في أخذها، ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقا، ولو لم يجزئه لما أخذها، أو لأخذها ثانيا وثالثا حتى ينفد ماله؛ لأن أخذها إن كان لإجزائها فلا يحصل الإجزاء بدون النية، وإن كان لوجوبها فالوجوب باق بعد أخذها. واختار أبو الخطاب وابن عقيل أنها لا(52/39)
تجزئ فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنية رب المال؛ لأن الإمام إما وكيله، وإما وكيل الفقراء، أو وكيلهما معا، وأي ذلك كان فلا تجزئ نيته عن نية رب المال، ولأن الزكاة عبادة تجب لها النية، فلا تجزئ عمن وجبت عليه بغير نية إن كان من أهل النية كالصلاة، وإنما أخذت منه مع عدم الإجزاء حراسة للعلم الظاهر، كالصلاة يجبر عليها ليأتي بصورتها، ولو صلى بغير نية لم يجزئه عند الله تعالى. قال ابن عقيل: ومعنى قول الفقهاء: يجزئ عنه. أي في الظاهر، بمعنى أنه لا يطالب بأدائها ثانيا كما قلنا في الإسلام، فإن المرتد يطالب بالشهادة، فمتى أتى بها حكم بإسلامه ظاهرا، ومتى لم يكن معتقدا صحة ما يلفظ به لم يصح إسلامه باطنا. قال: وقول أصحابنا: لا تقبل توبة الزنديق. معناه: لا يسقط عنه القتل الذي توجه عليه؛ لعدم علمنا بحقيقة توبته؛ لأن أكثر ما فيه أنه أظهر إيمانه، وقد كان دهره يظهر إيمانه ويستر كفره، فأما عند الله عز وجل فإنها تصح إذا علم منه حقيقة الإنابة، وصدق التوبة، واعتقاد الحق. ومن نصر قول الخرقي قال: إن للإمام ولاية على الممتنع فقامت نيته مقام نيته، كولي اليتيم والمجنون، وفارق الصلاة، فإن النيابة فيها لا تصح، فلا بد من نية فاعلها. وقوله: لا يخلو من كونه وكيلا له، أو وكيلا للفقراء أو لهما. قلنا: بل هو وال على المالك، وأما إلحاق الزكاة بالقسمة فغير صحيح؛ فإن القسمة ليست عبادة، ولا يعتبر لها نية، بخلاف الزكاة.(52/40)
(فصل) يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه؛(52/40)
ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. قال الإمام أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. وقال الحسن ومكحول وسعيد بن جبير وميمون بن مهران: يضعها رب المال في مواضعها. وقال الثوري: احلف لهم، واكذبهم، ولا تعطهم شيئا، إذا لم يضعوها مواضعها. وقال: لا تعطهم. وقال عطاء: أعطهم إذا وضعوها مواضعها. فمفهومه أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك. وقال الشعبي وأبو جعفر: إذا رأيت الولاة لا يعدلون، فضعها في أهل الحاجة من أهلها. وقال إبراهيم: ضعوها في مواضعها، فإن أخذها السلطان أجزأك. وقال سعيد أنبأنا أبو عوانة، عن مهاجر أبي الحسن قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة، وهما على بيت المال فأخذاها، ثم جئت مرة أخرى، فرأيت أبا وائل وحده، فقال لي ردها فضعها مواضعها. وقد روي عن أحمد أنه قال: أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى السلطان، وأما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين. فظاهر هذا أنه استحب دفع العشر خاصة إلى الأئمة؛ وذلك لأن العشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض، فهو كالخراج يتولاه الأئمة، بخلاف سائر الزكاة. والذي رأيت في " الجامع " قال: أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها إلى السلطان، ثم قال أبو عبد الله: قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمور. قال: ادفعها إليهم. وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل.(52/41)
وهو قول أصحاب الشافعي. وممن قال يدفعها إلى الإمام: الشعبي، ومحمد بن علي، وأبو رزين، والأوزاعي؛ لأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهرا وباطنا، ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنا؛ لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف، وتزول عنه التهمة. وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير، أو نجدة الحروري. وقد روي عن سهيل ابن أبي صالح قال: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال، وأريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فما تأمرني؟ قال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك. فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك، وأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك. ويروى نحوه عن عائشة رضي الله عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وأبو عبيد: لا يفرق الأموال الظاهرة إلا الإمام؛ لقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها وقال: " لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها " ووافقه الصحابة على هذا، ولأن ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولى عليه، كولي اليتيم، وللشافعي قولان كالمذهبين.
ولنا على جواز دفعها بنفسه، أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه؛ فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأنه أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الآخر، والآية تدل على أن للإمام أخذها، ولا خلاف فيه، ومطالبة أبي
__________
(1) سورة التوبة الآية 103(52/42)
بكر لهم بها؛ لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها؛ لأن ذلك مختلف في إجزائه، فلا تجوز المقاتلة من أجله، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها، فإذا دفعها إليهم جاز؛ لأنهم أهل رشد، فجاز الدفع إليهم بخلاف اليتيم.
وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه، فلأنه إيصال الحق إلى مستحقه، مع توفير أجر العمالة، وصيانة حقهم عن خطر الخيانة، ومباشرة تفريج كربة مستحقها، وإغنائه بها مع إعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه، وذوي رحمه، وصلة رحمه بها، فكان أفضل، كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل. فإن قيل: فالكلام في الإمام العادل إذ الخيانة مأمونة في حقه. قلنا: الإمام لا يتولى ذلك بنفسه، وإنما يفوضه إلى سعاته، ولا تؤمن منهم الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شيء منها، وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته. وقولهم: إن أخذ الإمام يبرئه ظاهرا وباطنا. قلنا: يبطل هذا بدفعها إلى غير العادل؛ فإنه يبرئه أيضا، وقد سلموا أنه ليس بأفضل، ثم إن البراءة الظاهرة تكفي. وقولهم: إنه تزول به التهمة. قلنا: متى أظهرها زالت التهمة، سواء أخرجها بنفسه، أو دفعها للإمام، ولا يختلف المذهب إن دفعها إلى الإمام، سواء كان عادلا أو غير عادل، وسواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة، ويبرأ بدفعها، سواء تلفت في يد الإمام أو لم تتلف، أو صرفها في مصارفها أو لم يصرفها؛ لما ذكرنا عن الصحابة رضي(52/43)
الله عنهم، ولأن الإمام نائب عنهم شرعا فبرئ بدفعها إليه، كولي اليتيم إذا قبضها له، ولا يختلف المذهب أيضا في أن صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه.(52/44)
(فصل) إذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة، أجزأت عن صاحبها. وحكى ابن المنذر عن أحمد، والشافعي، وأبي ثور، في الخوارج أنه يجزئ، وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها، سواء عدل فيها أو جار، وسواء أخذها قهرا أو دفعها إليه اختيارا. قال أبو صالح: سألت سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وجابرا، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة، فقلت: هذا السلطان يصنع ما ترون، أفأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم. وقال إبراهيم: يجزئ عنك ما أخذ منك العشارون. وعن سلمة بن الأكوع أنه دفع صدقته إلى نجدة. وعن ابن عمر أنه سئل عن مصدق ابن الزبير، ومصدق نجدة، فقال: إلى أيهما دفعت أجزأ عنك. وبهذا قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه. وقالوا: إذا مر على الخوارج فعشروه لا يجزئ عن زكاته. وقال أبو عبيد في الخوارج: يأخذون الزكاة، وعلى من أخذوا منه الإعادة؛ لأنهم ليسوا بأئمة فأشبهوا قطاع الطريق.
ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه، فيكون إجماعا، ولأنه دفعها إلى أهل الولاية، فأشبه دفعها إلى أهل البغي (1) .
__________
(1) المغني ومعه الشرح الكبير 2 \ 506 وما بعدها.(52/44)
ج - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أما ما يأخذه ولاة المسلمين من العشر، وزكاة الماشية، والتجارة، وغير ذلك، فإنه يسقط ذلك عن صاحبه، إذا كان الإمام عادلا يصرفه في مصارفه الشرعية، باتفاق العلماء. فإن كان ظالما لا يصرفه في مصارفه الشرعية، فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه، بل يصرفها هو إلى مستحقيها، فإن أكره على دفعها إلى الظالم، بحيث لو لم يدفعها إليه لحصل له ضرر، فإنها تجزئه في هذه الصورة عند أكثر العلماء.
وهم في هذه الحال ظلموا مستحقيها، كولي اليتيم، وناظر الوقف، إذا قبضوا ماله وصرفوه في غير مصارفه (1) .
د - قال ابن قدامة: " ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه ".
هـ - وقال المرداوي على ذلك: سواء كانت زكاة مال أو فطرة نص عليه. قال بعض الأصحاب، منهم ابن حمدان: يشترط أمانته. قال في الفروع: وهو مراد غيره، أي: من حيث الجملة. انتهى.
وقال ابن قدامة: " وله دفعها إلى الساعي وإلى الإمام أيضا ".
ز - وقال المرداوي على ذلك: وهذا المذهب في ذلك كله مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب، وهو من المفردات، قال ناظمها:
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25 \ 81.(52/45)
زكاته يخرج في الأيام ... بنفسه أولى من الإمام
وقيل: يجب دفعها إلى الإمام إذا طلبها، وفاقا للأئمة الثلاثة.
وعنه يستحب أن يدفع إليه العشر ويتولى هو تفريق الباقي.
وقال أبو الخطاب: دفعها إلى الإمام العادل أفضل. واختاره ابن أبي موسى للخروج من الخلاف وزوال التهمة.
وعنه دفع الفطرة إليه أفضل. نقله المروذي كما تقدم في آخر باب الفطرة.
وقيل: يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام ولا يجزئ دونه.
فوائد:
الأولى: يجوز دفع زكاته إلى الإمام الفاسق على الصحيح من المذهب. وقال القاضي في الأحكام السلطانية: يحرم عليه دفعها إن وضعها في غير أهلها، ويجب كتمها إذن عنه. واختاره في الحاوي.
قلت: وهو الصواب.
ويأتي في. باب قتال أهل البغي أنه يجزئ دفع الزكاة إلى الخوارج والبغاة. نص عليه في الخوارج.
الثانية: يجوز للإمام طلب الزكاة من المال الظاهر(52/46)
والباطن، على الصحيح من المذهب إن وضعها في أهلها. وقال القاضي في الأحكام السلطانية: لا نظر له في زكاة المال الباطن إلا أن يبذل له. وقال ابن تميم: فيما تجب فيه الزكاة.
قال القاضي: إذا مر المضارب أو المؤذن له بالمال على عاشر المسلمين أخذ منه الزكاة. قال: وقيل: لا تؤخذ منه حتى يحضر المالك.
الثالثة: لو طلبها الإمام لم يجب دفعها إليه، وليس له أن يقاتله على ذلك، إذا لم يمنع إخراجها بالكلية، ونص عليه، وجزم به ابن شهاب وغيره، وقدمه في الفروع، ومختصر ابن تميم، وهو من المفردات.
وقيل: يجب عليه دفعها إذا طلبها إليه، ولا يقاتل لأجله؛ لأنه مختلف فيه، جزم به المجد في شرحه. قال في الفروع: وصححه غير واحد في الخلاف.
قلت: صححه في الرعايتين والحاويين.
وقيل: لا يجب دفع الباطنة بطلبه، قال ابن تميم: وجها واحدا.
وقال الشيخ تقي الدين: من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه هنا، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله لم يجوزه (1) .
__________
(1) الإنصاف، 3 \ 191.(52/47)
ح - قال ابن مفلح: يجوز لمن وجبت عليه الزكاة تفرقتها بنفسه (وش) لقوله الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} (1) . الآية، وكالدين، ولأن القابض رشيد قبض ما يستحقه، والإمام وكيله ونائبه، فجاز الدفع إليه، كالموكل. ويحمل ما خالف ذلك على الجواز، أو أن الإمام أخذها، أو على من لا يعرف مصارفها، أو على من تركها جحودا أو بخلا. وقيل يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام، ولا يجزئ دونه (وهـ م) وزاد: وزكاة المال الباطن. قال أبو حنيفة: وأموال التجار التي تسافر بها كالظاهرة؛ فيأخذ العاشر زكاتها إن بلغت نصابا؛ للحاجة إلى حمايتها من قطاع الطريق، إلا أن يكون مما يسرع إليه الفساد، كالفاكهة، فلا تعشر؛ لأن قطاع الطريق لا يقصدونه غالبا، إلا اليسير منه للأكل، وعند أبي يوسف ومحمد: يعشر أيضا.
وله دفع الزكاة إلى إمام فاسق (وهـ) قال أحمد رحمه الله تعالى: الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بدفعها، وقد علموا فيما ينفقونها. وفي الأحكام السلطانية يحرم إن وضعها في غير أهلها، ويجب كتمها عنه إذن (وم ش) وتجزئ مطلقا (م ش) لما رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه، عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك (2) » . ولأحمد عن أنس مرفوعا: «إذا أديتها إلى رسولي فقد برأت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها، وإثمها على من بدلها (3) » . وللإمام طلب الزكاة من
__________
(1) سورة البقرة الآية 271
(2) سنن الترمذي الزكاة (618) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1788) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/136) .(52/48)
المال الظاهر والباطن إن وضعها في أهلها (و) ولو من بلد غلب عليه الخوارج، فلم يؤد أهله الزكاة، ثم غلب عليهم الإمام (هـ) ؛ لأنهم وقت الوجوب ليسوا تحت حمايته. وفي الأحكام السلطانية: لا نظر له في زكاة الباطن إلا أن تبذل. وذكر ابن تميم فيما تجب فيه الزكاة: قال القاضي: إذا مر المضارب أو المأذون له بالمال على عاشر المسلمين أخذ منه الزكاة. قال: وقيل: لا تؤخذ منه حتى يحضر المالك، وإذا طلب الزكاة لم يجب دفعها إليه. وليس له أن يقاتل على ذلك إذا لم يمنع إخراجها بالكلية، نص عليه وجزم به ابن شهاب وغيره. قال في الخلاف: نص عليه في رواية أحمد بن سعيد في صدقة الماشية والعين: إذا أبى الناس أن يعطوها الإمام قاتلهم عليها، إلا أن يقولوا نحن نخرجها. وقيل: ويجب دفعها إليه إذا طلبها (و) ولا يقاتل لأجله؛ لأنه مختلف فيه. جزم به في منتهى الغاية، وجمع به بين الأدلة وصححه غير واحد. قال في الخلاف: لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، كالحكم بشفعة الجوار على من لا يراها. وقيل: لا يجب دفع الباطن بطلبه. وقال بعضهم: وجها واحدا. وذكر شيخنا أن من أداها لم تجز مقاتلته، للخلف في إجزائها، ثم ذكر نص أحمد في من قال: أنا أؤديها ولا أعطيها للإمام: لم يكن له قتاله، ثم قال: من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله لم يجوزه.
ويستحب تفرقة زكاته بنفسه، قال بعضهم: مع أمانته، وهو(52/49)
مراد غيره، أي من حيث الجملة، نص عليه. وقال أيضا: أحب إلي أن يقسمها هو. وقيل: دفعها إلى إمام عادل أفضل؛ للخروج من الخلاف، وزوال التهمة، واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب (وش) وقاله (هـ م) حيث جاز الدفع بنفسه، وعنه: دفع الظاهر أفضل، وعنه: يختص بالعشر، وعنه: بصدقة الفطر، ونقله المروذي، ويجوز الدفع إلى الخوارج والبغاة، نص عليه في الخوارج: إذا غلبوا على بلد وأخذوا منه العشر وقع موقعه. وقال القاضي في موضع: هذا محمول على أنهم خرجوا بتأويل. وقال في موضع آخر: إنما يجزئ أخذهم إذا نصبوا لهم إماما. وظاهر كلامه في موضع من الأحكام السلطانية: لا يجزئ الدفع إليهم اختيارا. وعنه: التوقف فيما أخذه الخوارج من الزكاة. وقال القاضي: وقد قيل: تجوز الصلاة خلف الأئمة الفساق، ولا يجوز دفع عشر وصدقة إليهم ولا إقامة حد. وعن أحمد نحوه. والظاهر أن المراد بجواز الدفع الإجزاء لأنه لا يجوز (1) الدفع إليهم في المنصوص، وإن أجزأ في المنصوص، وهل للإمام طلب النذر والكفارة؟ على وجهين (م 6) أحدهما له ذلك، نص عليه في كفارة الظهار. وقال الحنفية: إذا أخذ الخوارج زكاة السائمة فقيل: تجزئ؛ لأن الإمام لم يحمهم، والجباية بالحماية، وقيل: لا؛ لأن مصرفها للفقراء ولا يصرفونها إليهم. ولهم قول ثالث: إن نوى التصدق عليهم أجزأ، وكذلك
__________
(1) في الطبعة الأولى: إلا أنه لا يجوز.(52/50)
الدفع إلى كل جائر (1) ؛ لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء (2) .
وقد بسط القرضاوي الكلام على هذه المسألة في كتابه فقه الزكاة، فمن أراد المزيد من الكلام فعليه الرجوع إلى الكتاب المذكور.
__________
(1) كلمة (جائر) لا توجد في مخطوط الأزهر ولا مخطوط الدار.
(2) الفروع 2 \ 556.(52/51)
ثانيا: النظر في زكاة عروض التجارة:
جمهور أهل العلم يرى أنها واجبة؛ لثبوت الأدلة. والذين قالوا بوجوبها، منهم من أوجبها في كل حول، ومنهم من فرق بين المال الذي يدار والذي لا يدار، فأوجبها في كل حول في الأول، وأوجبها في حول واحد بعد البيع، وفيما يلي ما تيسر من نصوص فقهاء الإسلام وأدلتهم وما تيسر من مناقشة بعضهم لبعض. ومن أهل العلم من لا يرى وجوب الزكاة فيها أصلا لعدم الدليل.(52/51)
1 - النقل عن الحنفية:
أ - قال الكاساني: وأما أموال التجارة فتقدير النصاب فيها بقيمتها من الدنانير والدراهم، فلا شيء فيها ما لم تبلغ قيمتها مائتي درهم، أو عشرين مثقالا من ذهب، فتجب فيها الزكاة، وهذا قول عامة العلماء. وقال أصحاب الظواهر: لا زكاة فيها أصلا. وقال مالك: إذا نضت زكاها لحول واحد. وجه قول(52/51)
أصحاب الظواهر أن وجوب الزكاة إنما عرف بالنص، والنص ورد بوجوبها في الدراهم، والدنانير، والسوائم، فلو وجبت بالقياس عليها، والقياس ليس بحجة خصوصا في باب المقادير. (ولنا) ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإخراج الزكاة من الرقيق الذي كنا نعده للبيع» ، وروي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في البر صدقة» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «هاتوا ربع عشر أموالكم (1) » . فإن قيل: الحديث ورد في نصاب الدراهم لأنه قال في آخره: من كل أربعين درهما درهم.
فالجواب: أن أول الحديث عام وخصوص آخره لا يوجب سلب عموم أوله، أو نحمل قوله: «من كل أربعين درهم (2) » على القيمة، أي من كل أربعين درهما من قيمتها درهم. وقال صلى الله عليه وسلم: «وأدوا زكاة أموالكم (3) » . من غير فصل بين مال ومال، إلا ما خص بدليل، ولأن مال التجارة مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية، فيكون مال الزكاة كالسوائم، وقد خرج الجواب عن قولهم: إن وجوب الزكاة عرف بالنص؛ لأنا قد روينا بالنص في الباب على أن أصل الوجوب عرف بالعقل، وهو شكر لنعمة الله، وشكر نعمة القدرة في إعانة العاجز، إلا أن مقدار الواجب عرف بالسنة، وما ذكره مالك غير سديد؛ لأنه وجد سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول، فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه، كالسوائم والدراهم والدنانير، وسواء كان مال التجارة عروضا، أو عقارا، أو شيئا مما يكال أو يوزن؛ لأن الوجوب في أموال التجار تعلق بالمعنى، وهو المالية والقيمة، وهذه الأموال كلها في هذا المعنى
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن النسائي الزكاة (2477) ، سنن أبو داود الزكاة (1572) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/132) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) .
(2) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/92) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) .
(3) سنن الترمذي الجمعة (616) ، مسند أحمد بن حنبل (5/251) .(52/52)
جنس واحد، وكذا يضم بعضها أموال التجارة إلى البعض، في تكميل النصاب؛ لما قلنا. وإذا كان تقدير النصاب من أموال التجارة بقيمتها من الذهب والفضة، وهو أن تبلغ قيمتها مقدار نصاب من الذهب والفضة، فلا بد من التقويم حتى يعرف مقدار النصاب، ثم بماذا تقوم؟ ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي: أن يقوم بأوفى القيمتين من الدراهم والدنانير، حتى أنها إذا بلغت بالتقويم بالدراهم نصابا، ولم تبلغ بالدنانير قومت بما تبلغ به النصاب. وكذا روي عن أبي حنيفة في الأمالي أنه يقومها بأنفع النقدين للفقراء. وعن أبي يوسف أنه يقومها بما اشتراها به، فإن اشتراها بالدراهم قومها بالدراهم، وإن اشتراها بالدنانير قومها بالدنانير، وإن اشتراها بغيرهما من العروض أو لم يكن اشتراها بأن كان وهب له فقبله ينوي به التجارة قومها بالنقد الغالب في ذلك الموضع، وعند محمد يقومها بالنقد الغالب على كل حال. وذكر في كتاب الزكاة أنه يقومها يوم حال الحول إن شاء بالدراهم، وإن شاء بالدنانير. وجه قول محمد أن التقويم في حق الله تعالى يعتبر بالتقويم في حق العباد، ثم إذا وقعت الحاجة إلى تقويم شيء من حقوق العباد، كالمغصوب، والمستهلك، يقوم بالنقد الغالب في البلدة، كذا هذا. وجه قول أبي يوسف أن المشترى بدل، وحكم البدل يعتبر بأصله، فإذا كان مشترى بأحد النقدين، فتقويمه بما هو أصله أولى. وجه رواية كتاب الزكاة أن وجوب الزكاة في عروض التجارة باعتبار ماليتها دون أعيانها، والتقويم لمعرفة مقدار المالية، والنقدان في ذلك سيان فكان(52/53)
الخيار إلى صاحب المال يقومه بأيهما شاء. ألا ترى أن في السوائم عند الكثرة وهي ما إذا بلغت مائتين، الخيار إلى صاحب المال، إن شاء أدى أربع حقاق، وإن شاء خمس بنات لبون، فكذا هذا. وجه قول أبي حنيفة أن الدراهم والدنانير وإن كانا في الثمنية والتقويم بهما سواء لكنا رجحنا أحدهما بمرجح، وهو النظر للفقراء، والأخذ بالاحتياط أولى. ألا ترى أنه لو كان بالتقويم بأحدهما يتم النصاب والآخر لا، فإنه يقوم بما يتم به النصاب؛ نظرا للفقراء واحتياطا، كذا هذا. ومشايخنا حلوا رواية كتاب الزكاة على ما إذا كان لا يتفاوت النفع في حق الفقراء بالتقويم بأيهما كان، جمعا بين الروايتين، وكيفما كان ينبغي أن يقوم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم أو الدنانير، وهي التي يكون الغالب فيها الذهب والفضة. وعلى هذا إذا كان مع عروض التجارة ذهب وفضة، فإنه يضمهما إلى العروض، ويقومه جملة؛ لأن معنى التجارة يشمل الكل. لكن عند أبي حنيفة يضم باعتبار القيمة، إن شاء قوم العروض وضمها إلى الذهب والفضة، وإن شاء قوم الذهب والفضة وضم قيمتهما إلى قيمة أعيان التجارة.
وعندهما يضم باعتبار الإجزاء فتقوم العروض، فيضم قيمتها إلى ما عنده من الذهب والفضة، فإن بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة وإلا فلا، ولا يقوم الذهب والفضة عندهما أصلا في باب الزكاة على ما مر.
(فصل) وأما صفة هذا النصاب فهي أن يكون معدا للتجارة، وهو أن يمسكها للتجارة، وذلك بنية التجارة مقارنة(52/54)
لعمل التجارة؛ لما ذكرنا فيما تقدم، بخلاف الذهب والفضة فإنه لا يحتاج فيهما إلى نية التجارة؛ لأنها معدة للتجارة بأصل الخلقة، فلا حاجة إلى إعداد العبد، ويوجد الإعداد منه دلالة على ما مر (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 \ 20، 21.(52/55)
ب - قال الكاساني في الكلام على الشرائط التي ترجع إلى المال:
ومنها: كون المال ناميا؛ لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي، ولسنا نعني به حقيقة النماء لأن ذلك غير معتبر، وإنما نعني به كون المال معدا للاستنماء بالتجارة أو بالإسامة؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب مقام المسبب، وتعلق الحكم به، كالسفر مع المشقة، والنكاح مع الوطء، والنوم مع الحدث، ونحو ذلك. وإن شئت قلت: ومنها: كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية؛ لأن به يتحقق الغنا ومعنى النعمة وهو التنعم، وبه يحصل الأداء عن طيب النفس، إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيا عنه، ولا يكون نعمة، إذ التنعم لا يحصل بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية؛ لأنه من ضرورات حاجة البقاء وقوام البدن، فكان شكره شكر نعمة البدن، ولا يحصل الأداء عن طيب نفس، فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (616) ، مسند أحمد بن حنبل (5/251) .(52/55)
فلا تقع زكاة، إذ حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليه، فلا يعرف الفضل عن الحاجة؛ فيقام دليل الفضل عن الحاجة مقامه، وهو الإعداد للإسامة والتجارة، وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك: هذا ليس بشرط لوجوب الزكاة، وتجب الزكاة في كل مال، سواء كان ناميا فاضلا عن الحاجة الأصلية أو لا، كثياب البذلة والمهنة والعلوفة والحمولة والعمولة من المواشي وعبيد الخدمة والمسكن والمراكب وكسوة الأهل وطعامهم، وما يتجمل به من آنية أو لؤلؤ أو فرش ومتاع لم ينو به التجارة ونحو ذلك، واحتج بعمومات الزكاة من غير فصل بين مال ومال، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (1) ، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (2) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (3) ، وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (4) ، وغير ذلك، ولأنها وجبت شكرا لنعمة المال، ومعنى النعمة في هذه الأموال أتم وأقرب؛ لأنها متعلق البقاء فكانت أدعى إلى الشكر. ولنا: أن معنى النماء والفضل عن الحاجة الأصلية لا بد منه لوجوب الزكاة؛ لما ذكرنا من الدلائل، ولا يتحقق ذلك في هذه الأموال، وبه تبين أن المراد من العمومات الأموال النامية الفاضلة عن الحوائج الأصلية. وقد خرج الجواب عن قوله: إنها نعمة؛ لما ذكرنا أن معنى النعمة فيها يرجع إلى البدن؛ لأنها تدفع الحاجة الضرورية وهي حاجة دفع الهلاك عن البدن؛ فكانت
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) سورة المعارج الآية 24
(3) سورة المعارج الآية 25
(4) سورة البقرة الآية 43(52/56)
تابعة لنعمة البدن، فكان شكرها شكر نعمة البدن، وهي العبادات البدنية، من الصلاة والصوم وغير ذلك، وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) دليلنا؛ لأن الزكاة عبارة عن النماء، وذلك من المال النامي على التفسير الذي ذكرناه، وهو أن يكون معدا للاستنماء، وذلك بالإعداد للإسامة في المواشي والتجارة في أموال التجارة، إلا أن الإعداد للتجارة في الأثمان المطلقة من الذهب والفضة ثابت بأصل الخلقة؛ لأنها لا تصلح للانتفاع بأعيانها في دفع الحوائج الأصلية، فلا حاجة إلى الإعداد من العبد للتجارة بالنية؛ إذ النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة، فلا حاجة إلى التعيين بالنية، فتجب الزكاة فيها، نوى التجارة، أو لم ينو أصلا، أو نوى النفقة. وأما فيما سوى الأثمان من العروض فإنما يكون الإعداد فيها للتجارة بالنية؛ لأنها كما تصلح للتجارة تصلح للانتفاع بأعيانها، بل المقصود الأصلي منها ذلك، فلا بد من التعيين للتجارة وذلك بالنية، وكذا في المواشي لا بد فيها من نية الإسامة؛ لأنها كما تصلح للدر والنسل تصلح للحمل والركوب واللحم فلا بد من النية، ثم نية التجارة الإسامة لا تعتبر ما لم تتصل بفعل التجارة والإسامة؛ لأن مجرد النية لا عبرة به في الأحكام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يفعلوا (2) » . ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة. أما الصريح فهو أن ينوي عند عقد التجارة أن يكون المملوك به للتجارة، بأن اشترى سلعة ونوى أن تكون للتجارة عند الشراء فتصير للتجارة، سواء كان الثمن الذي
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2044) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .(52/57)
اشتراها به من الأثمان المطلقة، أو من عروض التجارة، أو مال البذلة والمهنة، أو أجر داره بعرض بنية التجارة فيصير ذلك مال التجارة؛ لوجود صريح نية التجارة مقارنا لعقد التجارة. أما الشراء فلا شك أنه تجارة وكذلك الإجارة؛ لأنها معاوضة المال بالمال وهو نفس التجارة؛ ولهذا ملك المأذون بالتجارة الإجارة، والنية المقارنة للفعل معتبرة. ولو اشترى عينا من الأعيان ونوى أن تكون للبذلة والمهنة دون التجارة لا تكون للتجارة، سواء كان الثمن من مال التجارة أو من غير مال التجارة؛ لأن الشراء بمال التجارة إن كان دلالة التجارة فقد وجد صريح نية الابتذال، ولا تعتبر الدلالة مع الصريح بخلافها. ولو ملك عروضا بغير عقد أصلا، بأن ورثها ونوى التجارة لم تكن للتجارة؛ لأن النية تجردت عن العمل أصلا فضلا عن عمل التجارة؛ لأن الموروث يدخل في ملكه من غير صنعه. ولو ملكها بعقد ليس مبادلة أصلا، كالهبة والوصية والصدقة، أو بعقد هو مبادلة مال بغير مال، كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العبد وبدل العتق، ونوى التجارة، يكون للتجارة عند أبي يوسف، وعند محمد لا يكون للتجارة، كذا ذكر الكرخي، وذكر القاضي الشهيد الاختلاف على القلب، فقال في قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يكون للتجارة، وفي قول محمد: يكون للتجارة. وجه قول من قال: إنه لا يكون للتجارة، أن النية لم تقارن عملا هو تجارة، وهي مبادلة المال بالمال، فكان الحاصل مجرد النية؛ فلا تعتبر. ووجه القول الآخر أن التجارة عقد اكتساب المال، وما لا يدخل(52/58)
في ملكه إلا بقبوله فهو حاصل بكسبه، فكانت نيته مقارنة لفعله؛ فأشبه قرانها بالشراء والإجارة. والقول الأول أصح؛ لأن التجارة كسب المال ببذل ما هو مال، والقبول اكتساب المال بغير بدل أصلا، فلم تكن من باب التجارة، فلم تكن النية مقارنة عمل التجارة. ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يصير للتجارة؛ لأن القرض ينقلب معاوضة المال بالمال في العاقبة، وإليه أشار في الجامع أن من كان له مائتا درهم لا مال له غيرها، فاستقرض قبل حولان الحول بيوم من رجل خمسة أقفزة لغير التجارة، ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول، لا زكاة عليه في المائتين، ويصرف الدين إلى مال الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة. فقوله: " استقرض لغير التجارة " دليل أنه لو استقرض للتجارة يصير للتجارة. وقال بعضهم: لا يصير للتجارة وإن نوى؛ لأن القرض إعارة، وهو تبرع لا تجارة، فلم توجد نية التجارة مقارنة للتجارة؛ فلا تعتبر. ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة، ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك، لا تصير للتجارة ما لم يبعها، فيكون بدلها للتجارة. فرق بين هذا وبين ما إذا كان له مال التجارة، فنوى أن يكون للبذلة، حيث يخرج من أن يكون للتجارة وإن لم يستعمله؛ لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل بالفعل، وهو ليس بفاعل فعل التجارة، فقد عزبت النية عن فعل التجارة، فلا تعتبر للحال، بخلاف ما إذا نوى الابتذال؛ لأنه نوى ترك التجارة، وهو تارك لها في الحال، فاقترنت النية بعمل هو ترك التجارة؛ فاعتبرت.(52/59)
ونظير الفصلين: السفر مع الإقامة، وهو أن المقيم إذا نوى السفر لا يصير مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر، والمسافر إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير مقيما للحال. ونظيرهما من غير هذا الجنس: الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما للحال، والمسلم إذا قصد أن يكفر بعد سنين - والعياذ بالله - فهو كافر للحال. ولو أنه اشترى بهذه العروض التي اشتراها للابتذال بعد ذلك عروضا أخر تصير بدلها للتجارة بتلك النية السابقة، وكذلك في الفصول التي ذكرنا أنه نوى للتجارة في الوصية والقرض ومبادلة مال بما ليس بمال إذا اشترى بتلك العروض عروضا أخر صارت للتجارة؛ لأن النية قد وجدت حقيقة إلا أنها لم تعمل للحال؛ لأنها لم تصادف عمل التجارة، فإذا وجدت التجارة بعد ذلك عملت النية السابقة عملها؛ فيصير المال للتجارة؛ لوجود نية التجارة مع التجارة؛ وأما الدلالة فهي أن يشتري عينا من الأعيان بعرض التجارة، أو يؤاجر داره التي للتجارة بعرض من العروض، فيصير للتجارة وإن لم ينو التجارة صريحا؛ لأنه لما اشترى بمال التجارة فالظاهر أنه نوى به التجارة. وأما الشراء بغير مال التجارة فلا يشكل. وأما إجارة الدار فلأن بدل منافع عين معدة للتجارة كبدل عين معدة للتجارة في أنه للتجارة، كذا ذكر في كتاب الزكاة من الأصل، وذكر في الجامع ما يدل على أنه لا يكون للتجارة إلا بالنية صريحا فإنه قال: وإن كانت الأجرة جارية تساوي ألف درهم، وكانت عند المستأجر للتجارة، فأجر المؤجر داره بها، وهو يريد التجارة(52/60)
شرط النية عند الإجارة لتصير الجارية للتجارة، ولم يذكر أن الدار للتجارة أو لغير التجارة، فهذا يدل على أن النية شرط ليصير بدل منافع الدار المستأجرة للتجارة. وإن كانت الدار معدة للتجارة فكان في المسألة روايتان، ومشايخ بلخ كانوا يصححون رواية الجامع، ويقولون: إن العين وإن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار للعمارة فلا تصير للتجارة مع التردد إلا بالنية. وأما إذا اشترى عروضا بالدراهم أو الدنانير أو بما يكال أو يوزن موصوفا في الذمة فإنها لا تكون للتجارة ما لم ينو التجارة عند الشراء، وإن كانت الدراهم والدنانير أثمانا، والموصوف في الذمة من المكيل والموزون أثمان عند الناس، ولأنها كما جعلت ثمنا لمال التجارة، جعلت ثمنا لشراء ما يحتاج إليه للابتذال والقوت، فلا يتعين الشراء به للتجارة مع الاحتمال. وعلى هذا لو اشترى المضارب بمال المضاربة عبيدا ثم اشترى لهم كسوة وطعاما للنفقة كان الكل للتجارة وتجب الزكاة في الكل؛ لأن نفقة عبيد المضاربة من مال المضاربة، فطلق تصرفه ينصرف إلى ما يملك دون ما لا يملك حتى لا يصير خائنا وعاصيا عملا بدينه وعقله، وإن نص على النفقة. وبمثله المالك إذا اشترى عبيدا للتجارة، ثم اشترى لهم ثيابا للكسوة وطعاما للنفقة فإنه لا يكون للتجارة؛ لأن المالك كما يملك الشراء للتجارة يملك الشراء للنفقة والبذلة، وله أن ينفق من مال التجارة وغير مال التجارة، فلا يتعين للتجارة إلا بدليل زائد. وأما الأجراء الذين يعملون للناس(52/61)
نحو الصباغين والقصارين والدباغين إذا اشتروا الصبغ والصابون والدهن ونحو ذلك مما يحتاج إليه في عملهم ونووا عند الشراء أن ذلك للاستعمال في عملهم، هل يصير ذلك مال التجارة؟ روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف الصباغ إذا اشترى العصفر والزعفران ليصبغ ثياب الناس فعليه فيه الزكاة. والحاصل أن هذا على وجهين: إن كان شيئا يبقى أثره في المعمول فيه، كالصبغ والزعفران والشحم الذي يدبغ به الجلد، فإنه يكون مال التجارة؛ لأن الأجر يكون مقابلة ذلك الأثر، وذلك الأثر مال قائم، فإنه من أجزاء الصبغ والشحم، لكنه لطيف فيكون هذا تجارة. وإن كان شيئا لا يبقى أثره في المعمول فيه مثل الصابون والأشنان والقلي والكبريت فلا يكون مال التجارة؛ لأن عينها تتلف ولم ينتقل أثرها إلى الثوب المغسول حتى يكون له حصة من العوض، بل البياض أصلي للثوب يظهر عند زوال الدرن، فما يأخذ من العوض يكون بدل عمله لا بدل هذه الآلات فلم يكن مال التجارة. وأما آلات الصناع وظروف أمتعة التجارة لا تكون مال التجارة؛ لأنها لا تباع مع الأمتعة عادة. وقالوا في نخاس الدواب إذا اشترى المقاود والجلال والبراذع: إنه إن كان يباع مع الدواب عادة يكون للتجارة؛ لأنها معدة لها، وإن كان لا يباع ولكن تمسك وتحفظ بها الدواب فهي من آلات الصناع فلا يكون مال التجارة إذا لم ينو التجارة عند شرائها. وقال أصحابنا في عبد التجارة قتله عبد خطأ فدفع به: إن الثاني للتجارة؛ لأنه عوض مال التجارة، وكذا إذا فدى بالدية من العروض والحيوان. وأما إذا قتله عمدا فصالح(52/62)
المولى من الدية على العبد القاتل أو على شيء من العروض لا يكون مال التجارة؛ لأنه عوض القصاص لا عوض العبد المقتول، والقصاص ليس بمال. والله أعلم (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 \ 11 وما بعدها.(52/63)
2 - النقل عن المالكية:
أ - جاء في المدونة تحت ترجمة: (في زكاة تجار المسلمين) :
(قلت) : أكان مالك يرى أن يؤخذ من تجار المسلمين إذا تجروا الزكاة؟ فقال: نعم. (قلت) : أفي بلادهم أم إذا خرجوا من بلادهم؟ (فقال) : في بلادهم عنده وغير بلادهم سواء، من كان عنده مال تجب فيه الزكاة زكاه. (قلت) : فيسألهم إذا أخذ منهم الزكاة هذا الذي يأخذ عما في بيوتهم من ناضهم فيأخذ زكاته مما في أيديهم؟ (فقال) : ما سمعت من مالك في هذا شيئا، وأرى إن كان الوالي عدلا أن يسألهم عن ذلك، وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق. (قلت) : أفيسأل عن زكاة أموالهم الناض إذا لم يتجروا؟ (فقال) : نعم، إذا كان عدلا، وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق، كان يقول للرجل إذا أعطاه عطاءه: هل عندك من مال قد وجبت عليك فيه الزكاة. فإن قال: نعم، أخذ من عطائه زكاة ذلك المال، وإن قال: لا، أسلم إليه عطاءه. ولا أرى أن يبعث في ذلك. أحدا، وإنما ذلك إلى أمانة الناس، إلا أن يعلم أحد أن لا يؤدي فتؤخذ منه. ألا ترى أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا(52/63)
شهر زكاتكم. (قلت) : ما قول مالك أين ينصب هؤلاء الذين يأخذون العشور من أهل الذمة والزكاة من تجار المسلمين؟ (فقال) : لم أسمع منه فيه شيئا، ولكني رأيته فيما يتكلم به أنه لا يعجبه أن ينصب لهذه المكوس أحد، (قال) ابن القاسم: وأخبرني يعقوب بن عبد الرحمن من بني القارة حليف لبني زهرة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل المدينة أن يضع المكس، فإنه ليس المكس ولكنه البخس، قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (1) ومن أتاك بصدقته فاقبلها منه، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه والسلام. (قلت) : أليس إنما تؤخذ من تجار المسلمين في قول مالك: الزكاة في كل سنة مرة، وإن تجروا من بلد إلى بلد وهم خلاف أهل الذمة في هذا. (فقال) : نعم. (قال) : ومن تجر ومن لم يتجر فإنما عليه الزكاة في كل سنة مرة. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا خرج من مصر بتجارة إلى المدينة أيقوم عليه ما في يديه فتؤخذ منه الزكاة. (فقال) : لا يقوم عليه، ولكن إذا باع أدى الزكاة. (قال) : ولا يقوم على أحد من المسلمين. (قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: نعم. (قلت) : وأهل الذمة لا يقوم عليهم أيضا، فإذا باعوا أخذ منهم العشر؟ فقال: نعم. (قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: نعم. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا من المسلمين قدم بتجارة، فقال: هذا الذي معي مضاربة أو بضاعة أو علي دين أو لم يحل على ما عندي الحول أيصدق ولا يحلف في قول مالك؟ قال: نعم، يصدق ولا يحلف (2) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 85
(2) المدونة 1 \ 239.(52/64)
ب - جاء في المدونة تحت عنوان: (زكاة السلع) :
(قال) : وقال مالك: إذا كان الرجل إنما يشتري النوع الواحد من التجارة أو الأنواع وليس ممن يدير ماله في التجارة، فاشترى سلعة أو سلعا كثيرة يريد بيعها فبارت عليه ومضى الحول فلا زكاة عليه فيها، وإن مضى لذلك أحوال حتى يبيع، فإذا باع زكى زكاة واحدة. وإنما مثل هذا مثل الرجل يشتري الحنطة في زمان الحصاد فيريد البيع في غير زمان الحصاد ليربح فتبور عليه فيحبسها فلا زكاة عليه فيها. (وقال) علي بن زياد: قال مالك: الأمر عندنا في الرجل يكون له عند الناس من الدين ما تجب فيه الزكاة فيغيب عنه سنين ثم يقبضه، أنه ليس عليه فيه إذا قبضه إلا زكاة واحدة. (قال) : والدليل على ذلك أنه ليس على الرجل في الدين يغيب عنه سنين ثم يقبضه أنه ليس عليه إلا زكاة واحدة، وفي العروض يبتاعها للتجارة فيمسكها سنين ثم يبيعها أنه ليس عليه إلا زكاة واحدة، أنه لو وجب على رب الدين أن يخرج زكاته قبل أن يقبضه لم يجب عليه أن يخرج في صدقة ذلك الدين إلا دينا يقطع به لمن يلي ذلك على الغرماء يتبعهم به، إن قبض كان له وإن تلف كان منه؛ من أجل أن السنة أن تخرج صدقة كل مال منه ولا على رب العرض أن يخرج في صدقته إلا عرضا؛ لأن السنة أن تخرج صدقة كل مال منه، (وإنما قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزكاة في العين والحرث والماشية فليس في العروض شيء حتى تصير عينا» (قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت عنده دابة للتجارة فاستهلكها رجل فضمن قيمتها فأخذ منه رب(52/65)
الدابة سلعة بقيمتها التي وجبت له، أيكون عليه في قيمة هذه السلعة التي للتجارة الزكاة؟ (فقال) : إن كان نوى بالسلعة التي أخذ التجارة زكى ثمنها ساعة بيعها إن كان الحول قد حال على أصل هذا المال من يوم زكى أصل هذا المال وهو ثمن الدابة المستهلكة، وإن كان حين أخذ السلعة بقيمة الدابة المستهلكة لم ينو بها التجارة ونوى بها القنية فلا شيء عليه فيها. (قال) : وإن باعها حتى يحول الحول على ثمنها من يوم باعها، وإن كان أخذ في قيمة الدابة المستهلكة دنانير أو دراهم وقد حال الحول على الأصل، زكى الدنانير والدراهم ساعة يقبضها، وإن لم يكن حال الحول ثم اشترى بتلك الدنانير والدراهم سلعة، فإن نوى بها التجارة فهي للتجارة، وإن نوى بها حين اشتراها القنية فهي على القنية لا زكاة عليه في ثمنها إذا باعها حتى يحول على ثمنها الحول. (قلت) : وهذا قول مالك؟ (فقال) : قول مالك في البيع مثل هذا، ورأيت أنا هذه المسألة في الاستهلاك مثل قول مالك في البيع. (قلت) : فلو أن رجلا كانت عنده سلعة للتجارة فباعها بعدما حال عليها الحول بمائة دينار؟ (فقال) : إذا قبض المائة زكاها مكانه. (قلت) : فإن أخذ بالمائة قبل قبضها ثوبا قيمته عشرة دنانير؟ (فقال) : لا شيء عليه في الثوب حتى يبيعه، (قلت) : فإن باع الثوب بعشرة دنانير؟ قال: لا شيء عليه فيها وقد سقطت الزكاة عنه، إلا أن يكون له مال قد جرت فيه الزكاة إذا أضافه كان فيهما الزكاة. (قلت) : فإن باعها بعشرين دينارا؟ فقال: يزكي، يخرج ربع عشرها نصف دينار. (قلت) : وهذا قول(52/66)
مالك؟ قال: نعم. (قلت) : أرأيت عبدا اشتراه رجل للتجارة فكاتبه فمكث عنده سنين يؤدي فاقتضى منه مالا ثم عجز فرجع رقيقا فباعه مكانه، أيؤدي من ثمنه زكاة التجارة أم هو لما رجع إليه رقيقا صار فائدة؟ (فقال) : إذا عجز ورجع رقيقا رجع على الأصل فكان للتجارة ولا تنقض الكتابة ما كان ابتاعه له؛ لأن ملكه لم يزل عليه، وإنما مثل ذلك عندي مثل ما لو أنه باع عبدا له من رجل فأفلس المشتري فأخذ عبده، أو أخذ عبدا من غريمه في دينه فإنه يرجع على الأصل ويكون للتجارة كما كان. (قال) : وكذلك لو أن رجلا اشترى دارا للتجارة فأجرها سنين ثم باعها بعد ذلك فإنها ترجع إلى الأصل ويزكيها على التجارة ساعة يبيع. (قلت) : أرأيت الرجل يتكارى الأرض للتجارة ويشتري الحنطة فيزرعها يريد بذلك التجارة؟ (قال) : قال مالك في هذا: إذا اكترى الرجل الأرض واشترى حنطة فزرعها يريد بذلك التجارة، فإذا حصد زرعه أخرج منه العشر إن كان مما يجب فيه العشر، أو نصف العشر إن كان مما يجب فيه نصف العشر. (فإن مكثت) الحنطة عنده بعدما حصده وأخرج منه زكاة حصاده حولا ثم باعه فعليه الزكاة يوم باعه، وإن كان باعه قبل الحول فلا زكاة عليه فيه حتى يحول الحول عليه من يوم أدى زكاة حصاده. (قال) : وإن كان تكارى الأرض وزرعها بطعامه فحصده وأدى زكاته حين حصده ورفع طعامه فأكل منه وفضلت منه فضلة فباعها كانت فائدة ويستقبل بها حولا من يوم نض الثمن في يديه. (قال) : وإن كانت الأرض له فزرعها للتجارة فإنه إذا رفع زرعه وحصده زكاه(52/67)
مكانه ولم يكن عليه إذا باع في ثمنه زكاة حتى يحول عليه الحول من يوم قبض ثمنه. (قلت) : أرأيت من اكترى أرضا للتجارة فاشترى حنطة وهو ممن يدير التجارة فزرع الأرض أيكون عليه عشر ما أخرجت الأرض؟ فقال: نعم. (قلت) : فإن هو أخرج عشر ما أخرجت الأرض فحال عليه الحول أيزكي زكاة التجارة وهو ممن لا يدير ماله في التجارة؟ (فقال) : لا، حتى يبيع الحنطة بعد الحول، فإذا باع زكى الثمن مكانه. (قلت) : فمن أين تحتسب السنة، أمن يوم اشترى الحنطة للتجارة واكترى الأرض، أو من يوم أدى زكاة الزرع؟ (فقال) : من يوم أدى زكاة الزرع. (قلت) : فإن هو باع الحنطة من قبل أن يحول عليها الحول من يوم أدى زكاة عشر ما أخرجت الأرض. (فقال) : ينتظر به حتى تأتي السنة من يوم أخرج العشر. (قلت) : فإن كان هذا يدير ماله في التجارة. (فقال) : إذا رفع زرعه زكى العشر ويستقبل من يوم زكى الزرع سنة كاملة، فإذا جاءت السنة فإن كان له مال سوى هذا الناض ناض في سنته هذه زكى هذه الحنطة وإن لم يبعها، وهذا مخالف للذي لا يدير ماله؛ لأن الذي يدير ماله هذه الحنطة في يده للتجارة وعنده مال ناض غير هذه الحنطة، فلما حال الحول على هذه الحنطة لم يكن له بد من أن يقوم هذه الحنطة. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا اشترى عروضا للتجارة فبدا له فجعل ذلك لجمال بيته واقتناه أتسقط عنه زكاة التجارة؟ فقال: نعم. (قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قال ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: إن بار عليه(52/68)
العرض ولم يخلص إليه ماله فليس عليه صدقة حتى يخلص إليه، وإنما فيه إذا خلص العرض والدين صار عينا ناضا صدقة واحدة. (وقال) عطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد مثل قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن (1) .
__________
(1) المدونة 1 \ 214 وما بعدها.(52/69)
ج - وجاء في المدونة تحت عنوان: (في زكاة الذي يدير ماله) :
(قال) : وقال مالك: إن كان رجل يدير ماله في التجارة، فكلما باع اشترى، مثل الحناطين والبزازين والزياتين ومثل التجار الذين يجهزون الأمتعة وغيرها إلى البلدان. (قال) : فليجعلوا لزكاتهم من السنة شهرا، فإذا جاء ذلك الشهر قوموا ما عندهم مما هو للتجارة وما في أيديهم من الناض فزكوا ذلك كله. (قال) : فقلت لمالك: فإن كان له دين على الناس؟ (قال) : يزكيه مع ما يزكي من تجارته يوم يزكي تجارته إن كان دينا يرتجى اقتضاؤه. (قال) : فقلت له: فإن جاءه عام آخر ولم يقتضه؟ (فقال) : يزكي أيضا. ومعنى قوله في ذلك، أن العروض والدين سواء؛ لأن العروض لو بارت عليه وهو ممن يقوم يريد يدير التجارة زكى العرض السنة الثانية، فالدين والعرض في هذا سواء؛ فلو لم يكن على الدين شيء في السنة الثانية لم يكن على العرض في السنة الثانية شيء؛ لأنه لا زكاة في عرض على من لا يدير التجارة حتى يبيع، ولا في دين حتى يقبض، فلما كان الذي(52/69)
يدير التجارات الذي لا يشتري إلا باع يزكي عروضه التي عنده، فكذلك يزكي دينه الذي يرتجي قضاءه. (قال) : وقال مالك: إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة فجاء يومه الذي يقوم فيه وله دين من عروض أو غير ذلك على الناس لا يرجوه. (فقال) : إذا كان لا يرجوه لم يقومه وإنما يقوم ما يرتجيه من ذلك. (قال) : مالك: ويقوم الرجل الحائط إذا اشتراه للتجارة إذا كان ممن يدير ماله. (قال) : ابن القاسم: ولا يقوم الثمر لأن الثمر فيه زكاة فلا يقومه مع ما يقوم من ماله. (قال) سحنون: ولأنه غلة بمنزلة خراج الدار وكسب العبد وإن اشترى رقابها للتجارة، وبمنزلة غلة الغنم ما يكون من صوفها ولبنها وسمنها وإن كان رقابها للتجارة أو للقنية. (قلت) : أرأيت رجلا كان يدير ماله للتجارة ولا ينض له شيء فاشترى بجميع ما عنده حنطة، فلما جاء شهره الذي يقوم فيه كان جميع ماله الذي يتجر فيه حنطة، فقال: أنا أؤدي إلى المساكين ربع عشر هذه الحنطة كيلا ولا أقوم؟ (فقال) لي مالك: إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة ولا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض، فهذا لا يقوم ولا شيء عليه ولا زكاة ولا تقويم حتى ينض له بعض ماله. (قال) : وقال مالك: من باع بالعرض والعين فذلك الذي يقوم. (قال) سحنون: وكذلك روى ابن وهب عن مالك في الذي لا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض: (قلت) : أرأيت إن كان يدير ماله للتجارة فحالت عليه أحوال لا ينض له منه شيئا ثم إنه باع منها بدرهم واحد ناض؟ (فقال) : إذا نض مما في يديه من العروض بعد(52/70)
الحول وإن كان درهما واحدا، فقد وجبت فيه الزكاة ويقوم العرض مكانه حين نض هذا الدرهم فيزكيه كله، ويستقبل الزكاة من ذي قبل. (قلت) : فإن أتت السنة من ذي قبل وليس عنده من الناض شيء، وماله كله في العرض وقد كان في وسط السنة وفي أولها وفي آخرها قد كان ينض له، إلا أنه لما حال الحول ذلك اليوم لم يكن عنده من الناض شيء فكان جميع ما في يديه عرضا؟ (قال) : يقوم ويزكي؛ لأن هذا قد كان يبيع في سنته بالعين والعرض. (قلت) : فإن هو باع من ذي قبل بالعرض ولم ينض له شيء حتى أتى الحول وجميع ما عنده عرض أيقوم؟ فقال: لا يقوم؛ لأن هذا لم ينض له شيء في سنته هذه، وإنما كان رجل يبيع العرض بالعرض فلا تقويم عليه ولا زكاة حتى ينض له مما في يديه شيء من يوم زكى إلى أن يحول الحول من ذي قبل. (قلت) : فإن باع بعد الحول فنض له وإن درهم واحد زكاه؟ قال: نعم. (قلت) : ويكون هذا اليوم الذي زكى فيه وقته، ويستقبل حولا من ذي قبل ويلغي الوقت الأول؟ (فقال) : نعم؛ لأن مالكا قال لي: لا يقوم على من يبيع العرض بالعرض ولا ينض له شيء. (قال) ابن وهب عن الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه حماس أنه كان يبيع الجلود والقرون، فإذا فرغ منها اشترى مثلها، فلا يجتمع عنده أبدا ما تجب فيه الزكاة، فمر به عمر بن الخطاب وعليه جلود يحملها للبيع، فقال له: زك مالك يا حماس، فقال: ما عندي شيء تجب فيه الزكاة، فقال: قوم(52/71)
مالك. فقوم ما عنده ثم أدى زكاته. قال سحنون: قال عمرو بن الحارث وقال يحيى بن سعيد: إنما هذا الذي يدير ماله، فلو أنه كان لا يقوم ماله لم يزك أبدا، وأما الذي تكسد سلعته فلا زكاة عليه. قال سحنون: يعني حتى يبيع، وقال: قال ذلك مالك بن أنس رضي الله عنهما (1) .
__________
(1) المدونة 1 \ 217 وما بعدها.(52/72)
د - قال ابن رشد - الجد - تحت ترجمة: (في افتراق حكم الأموال في الزكاة) :
والأموال في الزكاة تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم الأغلب فيه إنما يراد لطلب الفضل والنماء فيه لا للاقتناء، وهو العين من الذهب والورق وأتبارهما والمواشي وآنية الذهب والفضة وكل ما لا يجوز اتخاذه منها، فهذا تجب فيه الزكاة، اشتراه أو ورثه أو تصدق به عليه، نوى به التجارة أو القنية أو ما نوى به. وقسم ثان الأغلب منه إنما يراد للاقتناء لا لطلب الفضل والنماء، وهي العروض كلها، الدور والأرضون والثياب والطعام والحيوان الذي تجب في رقابه الزكاة، فهذا يفرق فيه بين الشراء والفائدة، فما أفاده من ذلك بهبة أو ميراث، أو بما أشبه ذلك من وجوه الفوائد فلا زكاة عليه فيه، نوى به التجارة أو القنية حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه، وما اشترى من ذلك فهو على ما نوى فيه، إن أراد به القنية فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه ويستقبل به حولا من يوم باعه، وإن أراد به التجارة كان للتجارة وزكاه عن(52/72)
سنة التجارة. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا اشتراه للتجارة ثم نوى به القنية هل يرجع إلى حكمها بالنية أم لا؟ فقال ابن القاسم: يرجع إلى القنية ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وقبض ثمنه إن باعه، ورواه عن مالك. وقال أشهب: لا يرجع إلى القنية بالنية وهو على ما اشتراه عليه من نية التجارة، فإن باعه زكاه ساعة باعه وقبض ثمنه إن كان الحول قد حال على أصل الثمن، ورواه عن مالك. ولم يختلفا أنه إذا اشتراه للقنية أو أفاده بميراث أو غيره ثم نوى به التجارة، أنه لا ينتقل إليها بالنية واختلفا أيضا إذا اشتراه للوجهين جميعا، فغلب ابن القاسم القنية على أصله فيما اشتراه للتجارة أنه يرجع إلى القنية بالنية؛ لأنها الأصل، وغلب أشهب التجارة على أصله أن القنية والتجارة أصلان لا يرجع أحدهما إلى صاحبه بالنية، فلما اجتمعا كان الحكم للذي أوجب الزكاة احتياطا كالبينتين إذا أثبتت إحداهما الحكم ونفته الأخرى، وكقول مالك فيمن له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق أنه متمتع. وقسم ثالث يراد للوجهين جميعا، للاقتناء وطلب النماء، وهو حلي الذهب والفضة، فهذا لا يفرق فيه بين الفائدة والشراء، وهو في الوجهين معا على ما نوى، إن أراد به التجارة زكاه، وإن أراد به الاقتناء ليلبسه أهله وجواريه، أو هي إن كانت امرأة فلا زكاة عليها فيه. واختلف فيما يتخذ منه للكراء هل يخرج بذلك عن حكم الاقتناء وتجب فيه الزكاة أم لا، على قولين.(52/73)
هـ - وقال أيضا تحت ترجمة: (في افتراق حكم التجارة في الزكاة) :
والتاجر ينقسم إلى قسمين: مدير، وغير مدير. فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجى قبضها، فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض، وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا (1) .
__________
(1) المقدمات مع المدونة 1 \ 123 وما بعدها.(52/74)
و - قال ابن رشد - الحفيد -:
والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل، والنصاب فيها على مذهبهم هو النصاب في العين، إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورؤوس الأموال، وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض، فإن مالكا قال: إذا باع العروض زكاه لسنة واحدة كالحال في الدين، وذلك عنده في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه. وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه وهم الذين يخصون باسم المدير، فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم أن يقوم ما بيده من العروض ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العين، وما له من(52/74)
الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله، وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابا أدى زكاته، وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض، بلغ نصابا أو لم يبلغ نصابا، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء، فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده، ومنهم من شرطه، والذي شرطه منهم من اعتبر فيه النصاب، ومنهم من لم يعتبر ذلك. وقال المزني: زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها. وقال الجمهور - الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم -: المدير وغير المدير حكمه واحد، وأنه من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه. وقال قوم: بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته. وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئا؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه. وأما مالك فشبه النوع هاهنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا عن المدير، وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه. ومالك رحمه الله يعتبر المصالح وإن لم يستند إلى أصول منصوص عليها (1) .
__________
(1) بداية المجتهد 1 \ 245.(52/75)
ز - جاء في أقرب المسالك على مذهب الإمام مالك والشرح الصغير له:
(وإنما يزكي عرض تجارة) لا قنية، فلا زكاة فيه إلا إذا باعه بعين أو ماشية، فيستقبل بثمنه حولا من قبضه، كما تقدم في الفائدة.
وقوله: (عرض) أي: عوض، فيشمل قيمة عروض المدير وثمن عروض المحتكر حيث باعها بشروط خمسة:
أشار لأولها بقوله: (إن كان لا زكاة في عينه) كالثياب والرقيق، وأما ما في عينه زكاة كنصاب ماشية أو حلي أو حرث فلا يقوم على مدير، ولا يزكي ثمنه محتكر، بل يستقبل بثمنه من يوم قبضه، إلا إذا قرب الحول وباعه فرارا من الزكاة فيؤخذ بزكاة المبدل كما تقدم.
ولثانيها بقوله: (وملك) العرض (بشراء) لا إن ورثه، أو وهب له، أو أخذه في خلع أو أخذته صداقا ونحو ذلك من الفوائد. وقولنا (بشراء) أحسن من قوله (بمعاوضة) ؛ لأنه يشمل الصداق والخلع فيحتاج إلى تقييده بقولنا: مالية؛ لإخراجهما. وشمل هذا الشرط والذي قبله الحب المشترى للتجارة، فإنه لا زكاة في عينه. وعلم بذلك أن المراد بالعرض ما يشمل المثليات.
ولثالثها بقوله: (بنية تجر) أي: إن ملك بشراء مع نية تجر مجردة حال الشراء (أو مع نية غلته) بأن ينوي عند شرائه للتجارة أن يكريه إلى أن يجد ربحا، (أو مع) نية (قنية) بأن ينوي عند(52/76)
الشراء ركوبه أو سكناه أو حملا عليه إلى أن يجد فيه ربحا فيبيعه (لا) إن ملكه (بلا نية) أصلا (أو نية قنية) فقط، (أو) نية (غلة) فقط، (أو هما) ، أي: بنية القنية والغلة معا، فلا زكاة.
ولرابعها بقوله: (وكان ثمنه) الذي اشترى به ذلك العرض (عينا أو عرضا كذلك) أي: ملك بشراء، سواء كان عرض تجارة أو قنية، كمن عنده عرض مقتنى اشتراه بعين، ثم باعه بعرض نوى به التجارة، فيزكي ثمنه إذا باعه لحوله من وقت اشترائه، بخلاف ما لو كان عنده عرض ملك بلا عوض كهبة وميراث فيستقبل بالثمن.
ولخامسها بقوله: (وبيع منه) أي: من العرض وأولى بيعه كله (بعين) نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل. (ولو درهما في المدير) .
فإن توفرت هذه الشروط زكى (كالدين) أي: كزكاة الدين المتقدمة، أي: لسنة من أصله إن قبض ثمنه عينا نصابا فأكثر كمل بنفسه، ولو قبضه في مرات أو مع فائدة تم حولها، أو معدن.
وهذا (إن رصد) ربه (به) أي بالعرض المذكور (الأسواق) أي: ارتفاع الأثمان وهو المسمى بالمحتكر، فقوله (كالدين) خاص بالمحتكر، والشروط الخمسة المتقدمة عامة فيه وفي المدير فكأنه قال: إن توفرت الشروط زكاه كزكاة الدين إن كان محتكرا شأنه يرصد الأسواق.(52/77)
(وإلا) يرصد الأسواق بأن كان مديرا وهو الذي يبيع بالسعر الواقع كيف كان ويخلف ما باعه بغيره، كأرباب الحوانيت والطوافين بالسلع (زكى عينه) التي عنده (ودينه) أي: عدده (النقد) الذي أصله عرض (الحال) أي: الذي حل أجله أو كان حالا أصالة (المرجو) خلاصه ولو لم يقبضه بالفعل، وما تقدم في زكاة الدين - من أنه إنما يزكى بعد قبضه مع بقية الشروط - ففي غير المدير أو في المدير إذا كان أصله قرضا كما تقدمت الإشارة إليه. وكما سيأتي قريبا إن شاء الله.
(وإلا) يكن نقدا حالا - بأن كان عرضا أو مؤجلا - مرجوا فيهما، فالنفي راجع لقوله النقد الحال فقط بدليل ما بعده. ومرادنا بالعرض: ما يشمل طعام السلم (قومه) على نفسه قيمة عدل (كل عام) وزكى القيمة؛ لأن الموضوع أنه مرجو فهو في المدير في قوة المقبوض (كسلعه) أي: المدير، أي: كما يقوم كل عام سلعه التي للتجارة (ولو بارت) سنين إذ بوارها بضم الباء أي: كسادها لا ينقلها لاحتكار ولا قنية، وأما البوار بفتح الباء فمعناه: الهلاك (1) .
(لا إن لم يرجه) بأن كان على معدم أو ظالم لا تأخذه الأحكام فلا يقومه فإن قبضه زكاه لعام واحد كالعين الضائعة والمغصوبة (أو كان) أي: ولا إن كان دينه الذي على المدين (قرضا) أي: كان أصله سلفا - ولو مرجوا - فلا يقومه على
__________
(1) وقوله بوار بالضم كذا في الأصل وفي القاموس الفتح فقط.(52/78)
نفسه ليزكيه لعدم النماء فيه فهو خارج عن حكم التجارة (فإن قبضه زكاه لعام) واحد. وإن أقام عند المدين سنين إلا أن يؤخره فرارا من الزكاة فلكل عام مضى.
(وحوله) أي: والمدير الذي يقوم فيه سلعه لزكاتها مع عينه ودينه الحال المرجو (حول أصله) أي: المال الذي اشترى به السلع، فيكون ابتداء الحول من يوم ملك الأصل أو زكاه. ولو تأخرت الإدارة عنه، كما لو ملك نصابا أو زكاه في المحرم ثم أداره في رجب، أي: شرع في التجارة على وجه الإدارة في رجب فحوله إلى محرم، وقيل حوله وسط بين حول الأصل ووقت الإدارة كربيع الثاني.
(ولا تقوم الأواني) التي توضع فيها سلع التجارة كالزلع (والآلات) كالمنوال والمنشار والقدوم والمحراث (وبهيمة العمل) من حمل وحرث وغيرهما لبقاء عينها فأشبهت القنية.
(وإن اجتمع) لشخص (احتكار) في عرض (وإدارة) في آخر (وتساويا أو احتكر الأكثر) وأدار في الأقل (فكل) من العرضين (على حكمه) في الزكاة (وإلا) بأن أدار أكثر سلعه واحتكر الأقل (فالجميع للإدارة) وبطل حكم الاحتكار.(52/79)
3 - النقل عن الشافعية:
أ - جاء في الأم تحت ترجمة (باب زكاة التجارة) :
(أخبرنا) الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن عبد الله بن أبي سلمة عن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي آدمة أحملها فقال عمر: " ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ " فقلت: يا أمير المؤمنين ما لي غير هذه التي على ظهري وآهبة في القرظ، فقال: " ذاك مال فضع " فوضعتها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة.
(أخبرنا) الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان قال: حدثنا ابن عجلان عن أبي الزناد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه مثله، أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا الثقة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: " ليس في العرض زكاة إلا أن يراد به التجارة ". أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن رزيق (1) بن حكيم أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: " أن انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرين دينارا فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا ".
(قال الشافعي) : ويعد له حتى يحول عليه الحول فيأخذ، ولا يأخذ منهم
__________
(1) ويقال: زريق، ثقة من السادسة وأبوه بالتكبير والتصغير، كذا في التقريب.(52/80)
حتى يعلموا أن الحول قد حال على ما يأخذ منه. (قال الشافعي) ونوافقه في قوله: فإن نقصت ثلث دينار فدعها. ونخالفه في أنها إذا نقصت عن عشرين دينارا أقل من حبة لم نأخذ منها شيئا؛ لأن الصدقة إذا كانت محدودة بأن لا يؤخذ إلا من عشرين دينارا، فالعلم يحيط أنها لا يؤخذ من أقل من عشرين دينارا بشيء ما كان الشيء (قال الشافعي) : وبهذا كله نأخذ، وهو قول أكثر من حفظت عنه وذكر لي عنه من أهل العلم بالبلدان. (قال الشافعي) : والعروض التي لم تشتر للتجارة من الأموال ليس فيها زكاة بأنفسها، فمن كانت له دور أو حمامات لغلة أو غيرها أو ثياب كثرت أو قلت أو رقيق كثر أو قل فلا زكاة فيها، وكذلك لا زكاة في غلاتها حتى يحول عليها الحول في يدي مالكها، وكذلك كتابة المكاتب وغيره لا زكاة فيها إلا بالحول له، وكذلك كل مال ما كان ليس بماشية ولا حرث ولا ذهب ولا فضة يحتاج إليه، أو يستغني عنه، أو يستغل ما له غلة منه، أو يدخره ولا يريد بشيء منه التجارة فلا زكاة عليه في شيء منه بقيمة، ولا في غلته ولا في ثمنه لو باعه إلا أن يبيعه أو يستغله ذهبا أو ورقا، فإذا حال على ما نض بيده من ثمنه حول زكاه، وكذلك غلته إذا كانت مما يزكى من سائمة إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، فإن أكرى شيئا منه بحنطة أو زرع مما فيه زكاة فلا زكاة عليه فيه، حال عليه الحول أو لم يحل؛ لأنه لم يزرعه فتجب عليه فيه الزكاة، وإنما أمر الله عز وجل أن يؤتى حقه يوم حصاده، وهذا دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزرع.
(قال الربيع) : قال أبو يعقوب:(52/81)
وزكاة الزرع على بائعه؛ لأنه لا يجوز بيع الزرع في قول من يجيز بيع الزرع إلا بعد أن يبيض (قال أبو محمد الربيع) : وجواب الشافعي فيه على قول من يجيز بيعه، فأما هو فكان لا يرى بيعه في سنبله إلا أن يثبت فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتبع.
(قال الشافعي) : ولا اختلاف بين أحد علمته أن من أدى عشر أرضه ثم حبس طعامها أحوالا لم يكن عليه فيه زكاة.
(قال الشافعي) : ومن ملك شيئا من هذه العروض بميراث أو هبة أو وصية أو أي وجوه الملك ملكها به إلا الشراء، أو كان متربصا يريد به البيع، فحالت عليه أحوال فلا زكاة عليه فيه لأنه ليس بمشترى للتجارة.
(قال الشافعي) : ومن اشترى من العروض شيئا مما وصفت أو غيره مما لا تجب فيه الزكاة بعينه بذهب أو ورق أو عرض، أو بأي وجوه الشراء الصحيح كان أحصى يوم ملكه ملكا صحيحا، فإذا حال عليه الحول من يوم ملكه وهو عرض في يده للتجارة فعليه أن يقومه بالأغلب من نقد بلده، دنانير كانت أو دراهم، ثم يخرج زكاته من المال الذي قومه به. (قال الشافعي) : وهكذا إن باع عرضا منه بعرض اشتراه للتجارة قوم العرض الثاني بحوله يوم ملك العرض الأول للتجارة، ثم أخرج الزكاة من قيمته، وسواء غبن فيما اشتراه منه أو غبن عامة إلا أن يغبن بالمحاباة وجاهلا به؛ لأنه بعينه لا اختلاف فيما تجب عليه الزكاة منه. (قال الشافعي) : وإذا اشترى العرض بنقد تجب فيه الزكاة أو عرض تجب في قيمته الزكاة حسب ما أقام المال في يده ويوم اشترى العرض، كأن المال أو العرض الذي اشترى به العرض للتجارة(52/82)
أقام في يده ستة أشهر، ثم اشترى به عرضا للتجارة فأقام في يده ستة أشهر فقد حال الحول على المالين معا، الذي كان أحدهما مقام الآخر، وكانت الزكاة واجبة فيهما معا، فيقوم العرض الذي في يده فيخرج منه زكاته. (قال الشافعي) فإن كان في يده عرض لم يشتره، أو عرض اشتراه لغير تجارة ثم اشترى به عرضا للتجارة لم يحسب ما أقام العرض الذي اشترى به العرض الآخر، وحسب من يوم اشترى العرض الآخر، فإذا حال الحول من يوم اشتراه زكاه؛ لأن العرض الأول ليس مما تجب فيه الزكاة بحال. (قال الشافعي) ولو اشترى عرضا للتجارة بدنانير أو بدراهم أو شيء تجب فيه الصدقة من الماشية، وكان أفاد ما اشترى به ذلك العرض من يومه لم يقوم العرض حتى يحول الحول يوم أفاد ثمن العرض ثم يزكيه بعد الحول. (قال الشافعي) ولو أقام هذا العرض في يده ستة أشهر، ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يده ستة أشهر زكاه، وكانت كدنانير أو دراهم أقامت في يده ستة أشهر؛ لأنه لا يجب في العرض زكاة إلا بشرائه على نية التجارة؛ فكان حكمه حكم الذهب والورق التي حال عليها الحول في يده. (قال الشافعي) ولو كانت في يده مائتا درهم ستة أشهر، ثم اشترى بها عرضا فأقام في يده حتى يحول عليه حول من يوم ملك المائتي درهم التي حولها فيه لتجارة عرضا، أو باعه بعرض لتجارة فحال عليه الحول من يوم ملك المائتي درهم، أو من يوم زكى المائتي درهم قومه بدراهم ثم زكاه لا يقومه بدنانير إذا اشتراه بدراهم، وإن كانت الدنانير الأغلب من نقد البلد، وإنما(52/83)
يقومه بالأغلب إذا اشتراه بعرض للتجارة. (قال الشافعي) ولو اشتراه بدراهم ثم باعه بدنانير قبل أن يحول الحول عليه من يوم ملك الدراهم التي صرفها فيه، أو من يوم زكاه فعليه الزكاة من يوم ملك الدراهم التي اشتراه بها إذا كانت مما تجب فيه الزكاة، وذلك أن الزكاة تجوز في العرض بعينه فبأي شيء بيع العرض ففيه الزكاة، وقوم الدنانير التي باعه بها دراهم ثم أخذ زكاة الدراهم، ألا ترى أنه يباع بعرض فيقوم فتؤخذ منه الزكاة ويبقى عرضا فيقوم فتؤخذ منه الزكاة، فإذا بيع بدنانير زكيت الدنانير بقيمة الدراهم. (قال الربيع) وفيه قول آخر أن البائع إذا اشترى السلعة بدراهم فباعها بدنانير، فالبيع جائز ولا يقومها بدراهم ولا يخرج لها زكاة من قبل أن في الدنانير بأعيانها زكاة، فقد تحولت الدراهم دنانير فلا زكاة فيها. وأصل قول الشافعي أنه لو باع بدراهم قد حال عليها الحول إلا يوم بدنانير لم يكن عليه في الدنانير زكاة حتى يبتدئ لها حولا كاملا، كما لو باع بقرا أو غنما بإبل قد حال الحول على ما باع إلا يوم استقبل حولا بما اشترى إذا كانت سائمة. (قال الشافعي) ولو اشترى عرضا لا ينوي بشرائه التجارة فحال عليه الحول أو لم يحل ثم نوى به التجارة لم يكن عليه فيه زكاة بحال حتى يبيعه ويحول على ثمنه الحول؛ لأنه إذا اشتراه لا يريد به التجارة كان كما ملك بغير شراء لا زكاة فيه. (قال الشافعي) ولو اشترى عرضا يريد به التجارة فلم يحل عليه حول من يوم اشتراه حتى نوى به أن يقتنيه ولا يتخذه لتجارة، لم يكن عليه فيه زكاة كان أحب إلي لو زكاه، وإنما(52/84)
يبين أن عليه زكاته إذا اشتراه يريد به التجارة، ولم تنصرف نيته عن إرادة التجارة به، فأما إذا انصرفت نيته عن إرادة التجارة فلا أعلمه أن عليه فيه زكاة. وهذا مخالف لماشية سائمة أراد علفها فلا ينصرف عن السائمة حتى يعلفها. فأما نية القنية والتجارة فسواء، لا فرق بينهما إلا بنية المالك. (قال الشافعي) ولو كان لا يملك إلا أقل من مائتي درهم أو عشرين مثقالا، فاشترى بها عرضا للتجارة، فباع العرض بعدما حال عليه الحول أو عنده أو قبله بما تجب فيه الزكاة، زكى العرض من يوم ملك العرض لا يوم ملك الدراهم؛ لأنه لم يكن في الدراهم زكاة لو حال عليها الحول وهي بحالها. (قال الشافعي) ولو كانت الدنانير أو الدراهم التي لا يملك غيرها التي اشترى بها العرض أقامت في يده أشهرا لم يحسب مقامها في يده، لأنها كانت في يده لا تجب فيها الزكاة وحسب للعرض حول من يوم ملكه، وإنما صدقنا العرض من يوم ملكه أن الزكاة وجبت فيه بنفسه بنية شرائه للتجارة إذا حال الحول من يوم ملكه وهو مما تجب فيه الزكاة، لأني كما وصفت من أن الزكاة صارت فيه نفسه ولا أنظر فيه إلى قيمته في أول السنة ولا في وسطها؛ لأنه إنما تجب فيه الزكاة إذا كانت قيمته يوم تحل الزكاة مما تجب فيه الزكاة، وهو في هذا يخالف الذهب والفضة. ألا ترى أنه لو اشترى عرضا بعشرين دينارا وكانت قيمته يوم يحول الحول أقل من عشرين سقطت فيه الزكاة؛ لأن هذا بين أن الزكاة تحولت فيه وفي ثمنه إذا بيع لا فيما اشترى به. (قال الشافعي) وسواء فيما اشتراه لتجارة كل ما عدا الأعيان(52/85)
التي فيها الزكاة بأنفسها من رقيق وغيرهم؛ فلو اشترى رقيقا لتجارة فجاء عليهم الفطر وهم عنده، زكى عنهم زكاة الفطر إذا كانوا مسلمين وزكاة التجارة بحولهم، وإن كانوا مشركين زكى عنهم التجارة وليست عليه فيهم زكاة الفطر. (قال) وليس في شيء اشتري لتجارة زكاة الفطر غير الرقيق المسلمين، وزكاته غير زكاة التجارة. ألا ترى أن زكاة الفطر على عدد الأحرار الذين ليسوا بمال وإنما هي طهور لمن لزمه اسم الإيمان. (قال الشافعي) ولو اشترى دراهم بدنانير أو بعرض أو دنانير بدراهم أو بعرض يريد بها التجارة فلا زكاة فيما اشترى منها إلا بعدما يحول عليه الحول من يوم ملكه، كأنه ملك مائة دينار أحد عشر شهرا ثم اشترى بها مائة دينار أو ألف درهم. فلا زكاة في الدنانير الآخرة ولا الدراهم، حتى يحول عليها الحول من يوم ملكها؛ لأن الزكاة فيها بأنفسها. (قال الشافعي) وهكذا إذا اشترى سائمة من إبل أو بقر أو غنم بدنانير أو دراهم أو غنم أو إبل أو بقر، فلا زكاة فيما اشترى منها حتى يحول عليها الحول في يده من يوم ملكه، اشتراه بمثله أو غيره مما فيه الزكاة. ولا زكاة فيما أقام في يده ما اشتراه ما شاء أن يقيم؛ لأن الزكاة فيه بنفسه لا بنية للتجارة ولا غيرها. (قال الشافعي) وإذا اشترى السائمة لتجارة زكاها زكاة السائمة لا زكاة التجارة، وإذا ملك السائمة بميراث أو هبة أو غيره زكاها بحولها زكاة السائمة، وهذا خلاف التجارات. (قال الشافعي) وإذا اشترى نخلا وأرضا للتجارة زكاها زكاة النخل والزرع، وإذا اشترى أرضا فيها غراس غير نخل أو كرم أو زرع(52/86)
غير حنطة (قال أبو يعقوب والربيع) وغير ما فيها الركاز لتجارة زكاها زكاة التجارة؛ لأن هذا مما ليس فيه بنفسه زكاة وإنما يزكى زكاة التجارة. (قال الشافعي) ومن قال لا زكاة في الحلي ولا في الماشية غير السائمة، فإذا اشترى واحدا من هذين للتجارة ففيه الزكاة كما يكون في العروض التي تشترى للتجارة (1) .
__________
(1) الأم 2 \ 39 وما بعدها.(52/87)
ب - قال الشيرازي: تجب الزكاة في عروض التجارة لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته (1) » ولأن التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية.
ج - وقال النووي على ذلك: هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم، ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال: هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم. (قوله) «وفي البز صدقته» هو بفتح الباء وبالزاي، هكذا رواه جميع الرواة، وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي، ونصوص الشافعي رضي الله عنه القديمة والجديدة متظاهرة على وجوب زكاة التجارة.
قال أصحابنا: " قال الشافعي رضي الله عنه في القديم: اختلف الناس في زكاة التجارة، فقال بعضهم: لا زكاة فيها، وقال بعضهم: فيها الزكاة وهذا أحب إلينا ". هذا نصه. فقال القاضي أبو الطيب وآخرون: هذا ترديد قول، فمنهم من قال في
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/179) .(52/87)
القديم قولان في وجوبها، ومنهم من لم يثبت هذا القديم، واتفق القاضي أبو الطيب وكل من حكى هذا القديم على أنه الصحيح في القديم أنها تجب كما نص عليه في الجديد، والمشهور للأصحاب الاتفاق على أن مذهب الشافعي (رض) وجوبها، وليس في هذا المنقول عن القديم إثبات قول بعدم وجوبها، وإنما أخبر عن اختلاف الناس، وبين أن مذهبه الوجوب بقوله: وهذا أحب إلي، والصواب الجزم بالوجوب، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين.
قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، قال: رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار، والحسن البصري وطاوس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد.
وحكى أصحابنا عن داود وغيره من أهل الظاهر أنهم قالوا: لا تجب. وقال ربيعة ومالك: لا زكاة في عروض التجارة ما لم تنض وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت لزمه زكاة عام واحد، واحتجوا بالحديث الصحيح «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة (1) » وهو في الصحيحين، وقد سبق بيانه، وبما جاء عن ابن عباس أنه قال: لا زكاة في العروض.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2469) .(52/88)
واحتج أصحابنا بحديث أبي ذر المذكور، وهو صحيح كما سبق، وعن سمرة قال: «أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (1) » رواه أبو داود في أول كتاب الزكاة، وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم، ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده.
وعن حماس - بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم وآخره - سين مهملة - وكان يبيع الأدم قال: " قال لي عمر بن الخطاب: يا حماس أد زكاة مالك، فقلت: ما لي مال، إنما أبيع الأدم، قال: قومه ثم أد زكاته، ففعلت " رواه الشافعي وسعيد بن منصور الحافظ في مسنده والبيهقي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة " رواه البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل بإسناده الصحيح.
وأما الجواب عن حديث: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة (2) » فهو محمول على ما ليس للتجارة، ومعناه: لا زكاة في عينه بخلاف الأنعام، وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث، وأما قول ابن عباس فهو ضعيف الإسناد ضعفه الشافعي رضي الله عنه والبيهقي وغيرهما، قال البيهقي: ولو صح لكان محمولا على عرض ليس للتجارة ليجمع بينه وبين الأحاديث والآثار السالفة، ولما روى ابن المنذر عنه من وجوب زكاة التجارة كما سبق (3) .
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2469) .
(3) المهذب والمجموع 6 \ 43.(52/89)
د - قال الشيرازي: ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين:
(أحدهما) أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع والإجارة والنكاح والخلع. (والثاني) أن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة، وأما إذا ملكه بإرث أو وصية أو هبة من غير شرط الثواب فلا تصير للتجارة بالنية، وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة. وقال الكرابيسي من أصحابنا: إذا ملك عرضا ثم نوى أنه للتجارة صار للتجارة، كما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية والمذهب الأول؛ لأنه ما لم يكن للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى إسامتها، ويفارق إذا نوى القنية بمال التجارة لأن القنية هي الإمساك بنية القنية، وقد وجد الإمساك والنية، والتجارة هي التصرف بنية التجارة، وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف فلم يصر للتجارة.
هـ - قال النووي: /22 (الشرح) قوله: من أصله، احتراز من حلي الذهب والفضة إذا قلنا لا زكاة فيه، فنوى استعماله في حرام أو نوى كنزه واقتناه فأنه يجب فيه الزكاة كما سبق، لأن أصله الزكاة. قال أصحابنا: مال التجارة هو كل ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة. وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة يصير به المال للتجارة. فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره فجعله للتجارة لم يصر للتجارة، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور، وقال الكرابيسي: يصير للتجارة، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن راهوية وقد ذكر المصنف دليل الوجهين.(52/90)
أما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء، فإن المشترى يصير للتجارة ويدخل في الحول بنفس الشرى، سواء اشتراه بعرض أو نقد أو دين حال أو مؤجل، وإذا صار للتجارة استمر حكمها، ولا يحتاج في كل معاملة إلى نية أخرى بلا خلاف، بل النية مستصحبة كافية، وفي معنى الشرى ما لو صالح عن دين له في ذمة إنسان على عوض بنية التجارة فأنه يصير للتجارة بلا خلاف، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أو ضمان متلف، وهكذا الاتهاب بشرط الثواب إذا نوى به التجارة صار للتجارة. صرح به البغوي وغيره.
وأما الهبة بلا ثواب والاحتطاب والاحتشاش والاصطياد فليست من أسباب التجارة ولا أثر لاقتران النية بها، ولا يصير العرض للتجارة بلا خلاف؛ لفوات الشرط، وهو المعاوضة، وهكذا الرد بالعيب والاسترداد. فلو باع عرض قنية بعرض قنية ثم وجد بما أخذه عيبا فرده واسترد الأول على قصد التجارة، أو وجد صاحبه بما أخذ عيبا فرده فقصد المردود عليه بأخذه للتجارة لم يصر للتجارة. ولو كان عنده ثوب قنية فاشترى به عبدا للتجارة ثم رد عليه الثوب بالعيب انقطع حول التجارة ولا يكون الثوب للتجارة، بخلاف ما لو كان الثوب للتجارة أيضا فأنه يبقى حكم التجارة فيه، كما لو باع عرض التجارة واشترى بثمنه عرضا آخر وكذا لو تبايع التاجران ثم تعاملا يستمر حكم التجارة في المالين.
ولو كان عنده ثوب تجارة فباعه بعبد للقنية، فرد عليه الثوب بالعيب لم يعد إلى حكم التجارة؛ لأن قصد القنية حول(52/91)
التجارة، وليس الرد والاسترداد من التجارة، كما لو قصد القنية بمال التجارة الذي عنده فأنه يصير قنية بالاتفاق. فلو نوى بعد ذلك جعله للتجارة لا يؤثر حتى تقترن النية بتجارة جديدة. ولو خالع وقصد بعرض الخلع التجارة في حال المخالعة، أو زوج أمته أو تزوجت الحرة ونويا حال العقد التجارة في الصداق، فطريقان: (أصحهما) - وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين - يكون مال تجارة، وينعقد الحول من حينئذ؛ لأنها معاوضة ثبتت فيها الشفعة كالبيع.
(والثاني) وهو مشهور في طريقة الخراسانيين، وذكر بعض العراقيين فيه وجهان (أصحهما) هذا، (والثاني) لا يكون للتجارة؛ لأنهما ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة، وطرد الخراسانيون الوجهين في المال المصالح به عن الدم، والذي أجر به نفسه أو ماله إذا نوى بهما التجارة، وفيما إذا كان يصرفه في المنافع بأن كان يستأجر المستغلات ويؤجرها للتجارة، فالمذهب في الجميع مصيره للتجارة. هذا كله فيما يصير به العرض للتجارة، ثم إذا صار للتجارة ونوى به القنية صار للقنية وانقطع حكم التجارة بلا خلاف؛ لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى (1) .
__________
(1) المهذب والمجموع 6 \ 45 وما بعدها.(52/92)
4 - النقل عن الحنابلة:
أ - قال الخرقي: " والعروض إذا كانت لتجارة قومها إذا حال عليها الحول وزكاها ".
ب - وقال ابن قدامة في شرح ذلك: العروض: جمع عرض، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه، من النبات والحيوان والعقار وسائر المال. فمن ملك عرضا للتجارة فحال عليه حول، وهو نصاب قومه في آخر الحول، فما بلغ أخرج زكاته، وهو ربع عشر قيمته. ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول، وقد دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (1) » إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه في كل حول. وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يزكيه إلا لحول واحد، إلا أن يكون مدبرا لأن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه، فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عينا.
ولنا: أنه مال تجب الزكاة فيه في الحول الأول لم ينقص عن النصاب، ولم تتبدل صفته فوجبت زكاته في الحول الثاني كما لو نص في أوله. ولا نسلم أنه إذا لم يكن في أوله عينا لا تجب الزكاة فيه، وإذا اشترى عرضا للتجارة تعرض للقنية جرى في حول الزكاة من حين اشتراه.
(فصل) ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين، أحدهما:
__________
(1) سنن ابن ماجه الزكاة (1792) .(52/93)
أن يملكه بفعله كالبيع والنكاح والخلع وقبول الهبة والوصية والغنيمة واكتساب المباحات؛ لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض. ذكر ذلك أبو الخطاب وابن عقيل؛ لأنه ملكه بفعله أشبه الموروث. والثاني: أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة؛ فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة، وإن نواه بعد ذلك، وإن ملكه بإرث، وقصد أنه للتجارة لم يصر للتجارة؛ لأن الأصل القنية، والتجارة عارض، فلم يصر إليها بمجرد النية، كما لو نوى الحاضر السفر، لم يثبت له حكم بدون الفعل. وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية؛ لقول سمرة: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع (1) » فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله، ولا أن يكون في مقابلة عوض، بل متى نوى به التجارة صار للتجارة (2) .
ج - قال ابن قدامة: تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك وداود أنه لا زكاة فيها؛ لأن
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562) .
(2) المغني ومعه الشرح الكبير 2 \ 623.(52/94)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق (1) » .
ولنا: ما روى أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج مما نعده للبيع (2) » وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته (3) » قال بالزاي، ولا خلاف أنها لا تجب في عينه، وثبت أنها في قيمته. وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: " أمرني عمر فقال: أد زكاة مالك. فقلت: ما لي مال إلا جعاب وأدم، فقال قومها ثم أد زكاتها " رواه الإمام أحمد وأبو عبيد. وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر، فيكون إجماعا. وخبرهم المراد به: زكاة العين لا زكاة القيمة، بدليل ما ذكرنا، على أن خبرهم عام وخبرنا خاص فيجب تقديمه (4) .
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن النسائي الزكاة (2477) ، سنن أبو داود الزكاة (1574) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/132) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) .
(2) سنن أبو داود الزكاة (1562) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/179) .
(4) المغني ومعه الشرح الكبير 2 \ 622.(52/95)
د - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد. وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود عن سمرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع (1) » وروي عن
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562) .(52/95)
حماس قال: " مر بي عمر فقال: أد زكاة مالك، فقلت: ما لي إلا جعاب وأدم، فقال قومها ثم أد زكاتها " واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع.
وأما مالك، فمذهبه: أن التجار على قسمين: متربص ومدير. فالمتربص: وهو الذي يشتري السلع ينتظر بها الأسواق، فربما أقامت السلع عنده سنين، فهذا عنده لا زكاة عليه، إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد. وحجته أن الزكاة شرعت في الأموال النامية، فإذا زكى السلعة كل عام - وقد تكون كاسدة - نقصت عن شرائها فيتضرر. فإذا زكيت عند البيع، فإن كانت ربحت فالربح كان كامنا فيها. فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب، ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. وأما المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول، فلا يستقر بيده سلعة، فهذا يزكي في السنة الجميع، يجعل لنفسه شهرا معلوما يحسب ما بيده من السلع والعين، والدين الذي على المليء الثقة، ويزكي الجميع. هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة، ولو درهم، فإن لم يكن يبيع بعين أصلا، فلا زكاة عليه عنده (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 25 \ 15، 16.(52/96)
هـ - قال ابن مفلح: وهي واجبة، واحتج الأصحاب رحمهم الله بما روي عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني حبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه سليمان بن سمرة قال: «أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة(52/96)
من الذي نعده للبيع (1) » رواه أبو داود. وروي أيضا بهذا السند نحو ستة أخبار، منها: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله (2) » . ومنها: «من كتم غالا فأنه مثله (3) » وهذا الإسناد لا ينهض مثله لشغل الذمة؛ لعدم شهرة رجاله ومعرفة عدالتهم، وحبيب تفرد عنه جعفر ووثقه ابن حبان، وقال ابن حزم: جعفر وحبيب مجهولان. وقال الحافظ عبد الحق: حبيب ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه. وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله (4) وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم. وأفرد الحافظ عبد الغني المقدسي بقوله: إسناده مقارب عن أبي ذر مرفوعا «وفي البز صدقة» رواه أحمد، ورواه الحاكم عن طريقين وصحح إسنادهما وأنه على شرطهما، ورواه الدارقطني وعنده قاله بالزاي. وذكر بعضهم أن جميع الرواة رووه بالزاي، وفي صحة هذا الخبر نظر، ويدل على ضعفهما أن أحمد إنما احتج بقول عمر رضي الله عنه لحماس: أد زكاة مالك، فقال: ما لي إلا جعاب وأدم. قال: قومها ثم أد زكاتها. رواه أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الله بن أبي سلمة، عن أبي عمرو بن
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562) .
(2) سنن أبو داود الجهاد (2787) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2716) .
(4) في الطبعة الأولى: وقال ابن القطان: '' هو ممن لا يعرف حاله '' والتصويب من المخطوطين.(52/97)
حماس عن أبيه. ورواه (سعيد ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني أبو عمرو بن حماس أن أباه أخبره) . ورواه أبو عبيد وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهما وهو مشهور. وسأل الميموني أبا عبد الله عن قول ابن عباس في الذي يحول عنده المتاع للتجارة، قال: يزكيه بالثمن الذي اشتراه فقلت: ما أحسنه: فقال: أحسن منه حديث: " قومه " وروى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، ثنا عبيد الله عن نافع (1) عن ابن عمر قال: يعمل في العروض زكاة إلا عرضا (2) في تجارة. ورواه سعيد بمعناه في طريق آخر، وهذا صحيح عن ابن عمر، وأما (أبو عمرو) (3) عن أبيه فحماس لا تعرف عدالته، واحتج صاحب المحرر بأنه إجماع متقدم، واعتمد على قول ابن المنذر، وإنما قال: أجمع عامة أهل العلم على أن في العروض التي تراد للتجارة الزكاة، وذكر الشافعي في القديم أن الناس اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: لا زكاة، وقال بعضهم: تجب. قال: وهو أحب إلينا، ومن أصحابه (4) من أثبت له قولا في القديم: لا تجب. وحكى أحمد هذا عن مالك وهو قول داود، واحتج بظواهر العفو عن صدقة الخيل والرقيق والحمر؛ ولأن الأصل عدم الوجوب. ويتوجه هنا ما سبق في
__________
(1) في الطبعة الأولى: (عبيد الله عن عبد الله عن نافع) والتصويب من المخطوطين.
(2) في مخطوط الأزهر: إلا عرض.
(3) أبو عمرو: زيادة منا.
(4) في الطبعة الأولى: ومن أصحابنا.(52/98)
زكاة العسل، وقد يتوجه تخريج من نية الأضحية مع الشراء لا تصير أضحية فلم تؤثر النية مع الفعل في نقل حكم الأصل. وفرق القاضي من وجهين:
أحدهما: أنه يمكن أن ينوي بها أضحية بعد حصول الملك فهذا لم يصح مع الملك، وهنا لا تصح نية التجارة بعد حصول الملك؛ فلهذا صح أن ينوي مع الملك.
والثاني: أن الشراء يملك به، ونية الأضحية سبب يزيل الملك فلم يقع الملك، وسبب زواله بمعنى واحد، والزكاة لا تزيل الملك ولا هي سبب في إزالته والشراء يملك به؛ فلهذا صح أن ينوي بها الزكاة حين الشراء، كذا قال وفيهما نظر (1) .
وقال ابن مفلح: ومن طولب بالزكاة فادعى أداءها أو بقاء الحول أو نقص النصاب أو زوال ملكه أو تجدده قريبا أو أن ما بيده لغيره، أو أنه منفرد أو مختلط أو نحو ذلك قبل قوله (و) . بلا يمين، نص عليه، قاله بعضهم، وظاهر كلامه لا يشرع. نقل حنبل: لا يسأل المتصدق عن شيء ولا يبحث، إنما يأخذ ما أصابه مجتمعا. قال في عيون المسائل: ظاهر قوله: (لا يستحلف الناس على صدقاتهم) لا يجب ولا يستحب؛ لأنها عبادة مؤتمن عليها، كالصلاة والكفارة بخلاف الوصية للفقراء بمال، ويأتي ما يتعلق بهذا في آخر باب الدعاوى. وقال ابن حامد: يستحلف في الزكاة في ذلك كله ويتوجه احتمال إن اتهم
__________
(1) الفروع 2 \ 502.(52/99)
(وم) . وفي الأحكام السلطانية: إن رأى العامل أن يستحلفه فعل، وإن نكل لم يقض عليه بنكوله، وقيل: بلى، وكذلك الحكم في من مر بعاشر وادعى أنه عشره آخر. قال أحمد رحمه الله: إذا أخذ منه المصدق كتب له براءة، فإذا جاء آخر أخرج إليه براءته. قال القاضي: وإنما قال ذلك لنفي التهمة عنه. وهل يلزمه الكتابة؟ يأتي في من سأل الحاكم أن يكتب له ما ثبت عنده، وإن ادعى التلف بجائحة فسبق في زكاة الثمر، وإن أقر بقدر زكاته ولم يذكر قدر ماله صدق، والمراد وفي اليمين الخلاف (1) .
__________
(1) الفروع 2 \ 546 ويرجع إلى الإنصاف 3 \ 190.(52/100)
ثالثا: الديون التي للإنسان على غيره هل تجب فيها الزكاة؟
قد يكون الدين على مليء وقد يكون على معسر ومن في حكمه وقد يكون لازما أو غير لازم، وإذا كان لازما فقد يكون ماشية أو دراهم ودنانير وعروض تجارة إلى غير ذلك من التفاصيل التي يكشفها ما يأتي من النصوص عن فقهاء الإسلام مع ذكر مستندهم وما ذكروه من المناقشات.(52/100)
1 - النقل عن الحنفية:
قال الكاساني في الكلام على الشرائط التي ترجع إلى المال:
ومنها: الملك المطلق وهو أن يكون مملوكا له رقبة ويدا،(52/100)
وهذا قول أصحابنا الثلاثة، وقال زفر: اليد ليست بشرط، وهو قول الشافعي، فلا تجب الزكاة في المال الضمار عندنا خلافا لهما، وتفسير مال الضمار: هو كل مال غير مقدور الانتفاع به مع قيام الأصل الملك، كالعبد الآبق، والضال، والمال المفقود، والمال الساقط في البحر، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة، والدين المجحود إذا لم يكن للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة بأن أقر عند الناس، والمال المدفون في الصحراء إذا خفي على المالك مكانه، فإن كان مدفونا في البيت تجب فيه الزكاة بالإجماع، وفي المدفون في الكرم والدار الكبيرة اختلاف المشايخ احتجا بعمومات الزكاة من غير فصل ولأن وجوب الزكاة يعتمد الملك دون اليد بدليل ابن السبيل فأنه تجب الزكاة في ماله، وإن كانت يده فائتة لقيام ملكه، وتجب الزكاة في الدين مع عدم القبض، وتجب في المدفون في البيت، فثبت أن الزكاة وظيفة الملك، والملك موجود، فتجب الزكاة فيه، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال؛ لعجزه عن الأداء لبعد يده عنه، وهذا لا ينفي الوجوب كما في ابن السبيل. ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا زكاة في مال الضمار» ، وهو المال الذي لا ينتفع به مع قيام الملك - مأخوذ من البعير الضامر الذي لا ينتفع به لشدة هزاله مع كونه حيا - وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك لعدم وصول يده إليها؛ فكانت ضمارا ولأن المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا، ولا زكاة على(52/101)
غير الغني بالحديث الذي روينا، ومال ابن السبيل مقدور الانتفاع به في حقه بيد نائبه، وكذا المدفون في البيت؛ لأنه يمكنه الوصول إليه بالنبش، بخلاف المفازة؛ لأن نبش كل الصحراء غير مقدور له، وكذا الدين المقر به إذا كان المقر مليا فهو ممكن الوصول إليه، وأما الدين المجحود فإن لم يكن له بينة فهو على الاختلاف، وإن كان له بينة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تجب الزكاة فيه؛ لأنه يمكن الوصول إليه بالبينة، فإذا لم يقم البينة فقد ضيع القدرة فلم يعذر، وقال بعضهم: لا تجب؛ لأن الشاهد قد يفسق إلا إذا كان القاضي عالما بالدين، لأنه يقضي بعلمه فكان مقدور الانتفاع به، وإن كان المديون يقر في السر ويجحد في العلانية فلا زكاة فيه، كذا روي عن أبي يوسف؛ لأنه لا ينتفع بإقراره في السر، فكان بمنزلة الجاحد سرا وعلانية، وإن كان المديون مقرا بالدين لكنه مفلس، فإن لم يكن مقضيا عليه بالإفلاس تجب الزكاة فيه في قولهم جميعا، وقال الحسن بن زياد: لا زكاة فيه؛ لأن الدين على المعسر غير منتفع به فكان ضمارا. والصحيح قولهم؛ لأن المفلس قادر على الكسب والاستقراض مع أن الإفلاس محتمل الزوال ساعة فساعة إذ المال غاد ورائح وإن كان مقضيا عليه بالإفلاس فكذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا زكاة فيه. فمحمد مر على أصله؛ لأن التفليس عنده يتحقق وأنه يوجب زيادة عجز؛ لأنه يسد عليه باب التصرف؛ لأن الناس لا يعاملونه، بخلاف الذي لم يقض عليه بالإفلاس، وأبو حنيفة مر على أصله؛ لأن الإفلاس(52/102)
عنده لا يتحقق في حال الحياة والقضاء به باطل، وأبو يوسف وإن كان يرى التفليس، لكن المفلس قادر في الجملة بواسطة الاكتساب، فصار الدين مقدور الانتفاع في الجملة، فكان أثر التفليس في تأخير المطالبة إلى وقت اليسار، فكان كالدين المؤجل، فتجب الزكاة فيه. ولو دفع إلى إنسان وديعة ثم نسي المودع، فإن كان المدفوع إليه من معارفه فعليه الزكاة فيما مضى إذا تذكر؛ لأن نسيان المعروف نادر، فكان طريق الوصول قائما، وإن كان ممن لا يعرفه فلا زكاة عليه فيما مضى؛ لتعذر الوصول إليه. ولا زكاة في دين الكتابة والدية على العاقلة؛ لأن دين الكتابة ليس بدين حقيقة؛ لأنه لا يجب للمولى على عبده دين؛ فلهذا لم تصح الكفالة به، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، إذ هو ملك المولى من وجه، وملك المكاتب من وجه؛ لأن المكاتب في اكتسابه كالحر، فلم يكن بدل الكتابة ملك المولى مطلقا بل كان ناقصا، وكذا الدية على العاقلة، ملك ولي القتيل فيها متزلزل، بدليل أنه لو مات واحد من العاقلة سقط ما عليه؛ فلم يكن ملكا مطلقا، ووجوب الزكاة وظيفة الملك المطلق، وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة في الدين الذي وجب للإنسان لا بدلا عن شيء رأسا، كالميراث الدين، والوصية بالدين، أو وجب بدلا عما ليس بمال أصلا، كالمهر للمرأة على الزوج، وبدل الخلع للزوج على المرأة، والصلح، عن دم العمد: أنه لا تجب الزكاة فيه. وجملة الكلام في الديون أنها على ثلاث مراتب في قول أبي حنيفة: دين قوي ودين ضعيف ودين وسط، كذا قال(52/103)
عامة مشايخنا. أما القوي فهو الذي وجب بدلا عن مال التجارة، كثمن عرض التجارة من ثياب التجارة وعبيد التجارة أو غلة مال التجارة، ولا خلاف في وجوب الزكاة فيه، إلا أنه لا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما، فكلما قبض أربعين درهما، أدى درهما واحدا، وعند أبي يوسف ومحمد كلما قبض شيئا يؤدي زكاته قل المقبوض أو كثر. وأما الدين الضعيف فهو الذي وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث، أو بصنعه كالوصية، أو وجب بدلا عما ليس بمال كالمهر وبدل الخلع والصلح عن القصاص وبدل الكتابة، ولا زكاة فيه ما لم يقبض كله ويحول عليه الحول بعد القبض، وأما الدين الوسط فما وجب له بدلا عن مال ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة، وفيه روايتان عنه، ذكر في الأصل أنه تجب فيه الزكاة قبل القبض، لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض وهو أصح الروايتين عنه. وقال أبو يوسف ومحمد: الديون كلها سواء وكلها قوية تجب الزكاة فيها قبل القبض، إلا الدية على العاقلة ومال الكتابة فأنه لا تجب الزكاة فيها أصلا ما لم تقبض ويحول عليها الحول. وجه قولهما أن ما سوى بدل الكتابة والدية على العاقلة ملك صاحب الدين ملكا مطلقا رقبة ويدا لتمكنه من القبض بقبض بدله وهو العين؛ فتجب فيه الزكاة كسائر الأعيان(52/104)
المملوكة ملكا مطلقا، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال؛ لأنه ليس في يده حقيقة، فإذا حصل في يده يخاطب بأداء الزكاة قدر المقبوض، كما هو مذهبهما في العين فيما زاد على النصاب، بخلاف الدية وبدل الكتابة؛ لأن ذلك ليس بملك مطلق، بل هو ملك ناقص على ما بينا. والله أعلم. ولأبي حنيفة وجهان:
أحدهما: أن الدين ليس بمال، بل هو فعل واجب، وهو فعل تمليك المال وتسليمه إلى صاحب الدين، والزكاة إنما تجب في المال، فإذا لم يكن مالا لا تجب فيه الزكاة، ودليل كون الدين فعلا من وجوه ذكرناها في الكفالة بالدين عن ميت مفلس في الخلافيات كان ينبغي أن لا تجب الزكاة في دين ما لم يقبض ويحول عليه الحول، إلا أن ما وجب له بدلا عن مال التجارة أعطي له حكم المال؛ لأن بدل الشيء قائم مقامه كأنه هو، فصار كأن المبدل قائم في يده وأنه مال التجارة وقد حال عليه الحول في يده.
والثاني: إن كان الدين مالا مملوكا أيضا لكنه مال لا يحتمل القبض لأنه ليس بمال حقيقة بل هو مال حكمي في الذمة وما في الذمة لا يمكن قبضه فلم يكن مالا مملوكا رقبة ويدا، فلا تجب الزكاة فيه كمال الضمار، فقياس هذا أن لا تجب الزكاة في الديون كلها؛ لنقصان الملك بفوات اليد، إلا أن الدين الذي هو بدل مال التجارة التحق بالعين في احتمال القبض؛ لكونه بدل مال التجارة، قابل للقبض، والبدل يقام مقام المبدل، والمبدل عين قائمة قابلة للقبض، فكذا ما يقوم مقامه، وهذا المعنى لا يوجد فيما ليس ببدل رأسا، ولا فيما هو بدل عما ليس بمال، وكذا في(52/105)
بدل مال ليس للتجارة على الرواية الصحيحة أنه لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض قدر النصاب ويحول عليه الحول بعد القبض؛ لأن الثمن بدل مال ليس للتجارة فيقوم مقام المبدل، ولو كان المبدل قائما في يده حقيقة لا تجب الزكاة فيه، فكذا في بدله، بخلاف بدل مال التجارة. وأما الكلام في إخراج زكاة قدر المقبوض من الدين الذي تجب فيه الزكاة على نحو الكلام في المال العين إذا كان زائدا على قدر النصاب وحال عليه الحول فعند أبي حنيفة لا شيء في الزيادة هناك ما لم يكن أربعين درهما، فهاهنا أيضا لا يخرج شيئا من زكاة المقبوض ما لم يبلغ المقبوض أربعين درهما، فيخرج من كل أربعين درهما يقبضها درهما، وعندهما يخرج قدر ما قبض قل المقبوض أو كثر، كما في المال العين إذا كان زائدا على النصاب، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وذكر الكرخي أن هذا إذا لم يكن له مال سوى الدين، فأما إذا كان له مال سوى الدين فما قبض منه فهو بمنزلة المستفاد، فيضم إلى ما عنده، والله أعلم (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع (2 \ 9) .(52/106)
2 - النقل عن المالكية:
أ - جاء في المدونة تحت عنوان: (زكاة القرض وجميع الدين) :
(قلت) أرأيت لو أني أقرضت رجلا مائة دينار وقد وجبت علي زكاتها ولم أخرج زكاتها حتى أقرضتها فمكثت عند الذي(52/106)
أقرضتها إياه سنتين ثم ردها ماذا يجب علي من زكاتها. (فقال) . زكاة عامين وهي الزكاة التي كانت وجبت عليك وزكاة عام بعد ذلك أيضا، وهو قول مالك. (قلت) أرأيت دينا لي على رجل، أقرضته مائة دينار فأقام الدين عليه أعواما فاقتضيت منه دينارا واحدا أترى لي أن أزكي هذا الدينار. فقال: لا. (قلت) فإن اقتضيت منه عشرين دينارا. (فقال) تزكي نصف دينار. (قلت) فإن اقتضيت دينارا بعد العشرين دينارا. (فقال) تزكي من الدينار ربع عشره. (قلت) فإن كان قد أتلف العشرين كلها ثم اقتضى دينارا بعد ما أتلفها. (فقال) نعم يزكيه وإن كان أتلف العشرين؛ لأنه لما اقتضى العشرين صار مالا تجب فيه الزكاة فما اقتضى بعد هذا فهو مضاف إلى العشرين، وإن كانت العشرون قد تلفت. (قلت) ولم لا يزكي إذا اقتضى ما دون العشرين. (فقال) لأنا لا ندري لعله لا يقتضي غير هذا الدينار، والزكاة لا تكون في أقل من عشرين دينارا. (قلت) أليس يرجع هذا الدينار إليه على ملكه الأول وقد حال عليه الحول فلم لا يزكيه. (فقال) لأن الرجل لو كانت عنده مائة دينار فمضى لها حول لم يفرط في زكاتها حتى ضاعت كلها إلا تسعة عشر دينارا لم يكن عليه فيها زكاة لأنها قد رجعت إلى ما لا زكاة فيه، فكذلك هذا الدين حين اقتضى منه دينارا قلنا له: لا زكاة عليك حتى تقبض ما تجب فيه الزكاة لأنا لا ندري لعلك لا تقتضي غيره فتزكي عن مال لا تجب فيه الزكاة، وإن اقتضى ما تجب فيه الزكاة زكاه ثم يزكي ما اقتضى من الدين من قليل أو كثير. (قلت) أرأيت إن(52/107)
كانت عنده عشرون دينارا وله مائة دينار دين على الناس أيزكي العشرين إن كان الدين قد حال عليه الحول ولم يحل على العشرين الحول؟ فقال: لا. (قلت) فإن اقتضى من الدين أقل من عشرين دينارا أيزكيه مكانه؟ قال: لا. (قلت) لم؟ (قال) لأن العشرين التي عنده ليست من الدين وهي فائدة لم يحل عليها الحول. (قلت) فإن حال الحول على العشرين التي عنده وقد كان اقتضى من الدين أقل من عشرين دينارا. (فقال) يزكي العشرين الدينار الآن وما اقتضى من الدين جميعا. (قلت) فإن كان عنده العشرون ولم يقتض من الدين شيئا حتى حال الحول على العشرين ثم اقتضى من الدين دينارا واحدا أيزكي الدينار الذي اقتضى؟ فقال: نعم. (قلت) فإن تلفت العشرون بعد الحول فاقتضى بعدها دينارا أيزكيه؟ قال: نعم. (قلت) وما الفرق بين ما اقتضى من الدين وبين الفائدة، جعلت ما اقتضى من الدين تجب فيه الزكاة يزكي كل ما اقتضى بعد ذلك، وإن كان الذي اقتضى أولا قد تلف، وجعلته في الفائدة إن تلفت قبل أن يحول عليها الحول ثم اقتضى من الدين شيئا لم يزكه إلا أن يكون قد اقتضى من الدين ما تجب فيه الزكاة. (فقال) لأن الفائدة ليست من الدين إنما تحسب الفائدة عليه من يوم ملكها وما اقتضى من الدين يحسب عليه من يوم ملكه، وقد كان ملكه لهذا الدين قبل سنة فهذا فرق ما بينهما. (قلت) وهذا قول مالك. قال: نعم. (قال) ابن القاسم: ولو أن رجلا كانت له مائة دينار فأقامت في يديه ستة أشهر ثم أخذ منها خمسين دينارا فابتاع(52/108)
بها سلعة فباعها بثمن إلى أجل فإن بقيت الخمسون حتى يحول عليها الحول زكاها، ثم ما اقتضى بعد ذلك من ثمن تلك السلعة من قليل أو كثير زكاه، وإن كانت الخمسون قد تلفت قبل أن يحول عليها الحول وتجب فيها الزكاة فلا زكاة عليه فيما اقتضى حتى يبلغ ما اقتضى عشرين دينارا، فإن بقيت الخمسون في يديه حتى يزكيها ثم أنفقها بعد ذلك فأقام دهرا ثم اقتضى من الدين دينارا فصاعدا فأنه يزكيه؛ لأن هذا الدينار من أصل مال قد وجبت فيه الزكاة وهي الخمسون التي حال عليها فزكاها فالدين على أصل تلك الخمسين؛ لأنه حين وجبت الزكاة في الخمسين صار أصل الدين وأصل الخمسين واحدا في وجوب الزكاة، ويفترقان في أحواله ما فإنما مثل ذلك مثل الرجل يبيع السلعة بمائة دينار ولا مال له غيرها فتقيم سنة في يدي المشتري ثم يقتضي منها عشرين دينارا فيخرج منها نصف دينار ثم يستهلكها ثم يقتضي بعد ذلك من ذلك الدين شيئا فما اقتضى من قليل أو كثير فعليه فيه الزكاة، لأن أصله كان واحدا. (قال) وكل مال كان أصله واحدا أقرضت بعضه أو ابتعت ببعضه سلعة فبعتها بدين وتبقي بعض المال عندك وفيما أبقيت ما تجب فيه الزكاة فلم تتلفه حتى زكيته فهو والمال الذي أقرضت أو ابتعت به سلعة فبعت السلعة بدين فهو أصل واحد يعمل فيه كما يعمل فيه لو ابتيع به كله، فإذا اقتضى مما ابتيع به كله عشرين دينارا وجب فيه نصف دينار وما اقتضى بعد ذلك من قليل أو كثير ففيه الزكاة وإن كان قد استهلك العشرين التي اقتضى. قال: وهو قول مالك. (قال) ابن(52/109)
القاسم: وكل مال كان أصله واحدا فأسلفت بعضه أو ابتعت ببعضه سلعة وأبقيت منه في يديك ما لا تجب الزكاة فيه فحال عليه الحول وهو في يديك ثم أتلفته فأنه يضاف ما اقتضيت إلى ما كان في يديك مما لا زكاة فيه فإذا تم ما اقتضيت إلى ما كان في يديك مما أنفقت بعد الحول فأنه إذا تم عشرين دينارا فعليك فيه الزكاة ثم ما اقتضيت بعد ذلك من قليل أو كثير فعليك فيه الزكاة. (قال) وكل مال كان أصله واحدا فابتعت ببعضه أو أسلفت بعضه وأبقيت في يديك ما لا تجب فيه الزكاة ثم استهلكته قبل أن يحول عليه الحول فأنه لا يضاف شيء من مالك كان خارجا من دينك إلى شيء منه وما اقتضيت منه قبل أن يحول عليه الحول فاستهلكته قبل أن يحول عليه الحول فهو كذلك أيضا لا يضاف إلى ما بقي لك من دينك، ولكن ما حال عليه الحول في يديك مما تجب فيه الزكاة أو لا زكاة فيه فأنه يضاف إلى دينك، فإن كان الذي في يديك مما تجب فيه الزكاة فإنك تزكي ما اقتضيت من قليل أو كثير من دينك وإن كنت قد استهلكته، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة مما حال عليه الحول فاستهلكته بعد الحول فإنك لا تزكي ما اقتضيت حتى يتم ما اقتضيت وما استهلكت بعد الحول عشرين دينارا فتخرج زكاتها ثم ما اقتضيت بعد ذلك من قليل أو كثير فعليك فيه الزكاة. (قلت) ما قول مالك في الدين يقيم على الرجل أعواما لكم يزكيه صاحبه إذا قبضه؟ فقال: لعام واحد. (قلت) وإن كان الدين مما يقدر على أخذه فتركه، أو كان مفلسا لا يقدر على أخذه منه فأخذه بعد(52/110)
أعوام أهذا عند مالك سواء؟ (قال) نعم عليه زكاة عام واحد إذا أخذه وهذا كله عند مالك سواء. (قلت) أرأيت لو أن رجلا كانت له دنانير على الناس فحال عليها الحول فأراد أن يؤدي زكاتها من ماله قبل أن يقبضها؟ (قال) لا يقدم زكاتها قبل أن يقبضها. (قال) وقد قال لي مالك في رجل اشترى سلعة للتجارة فحال عليها الحول قبل أن يبيعها فأراد أن يقدم زكاتها. (قال) فقال مالك: لا يفعل ذلك. (فقال) فقلت له: إن أراد أن يتطوع بذلك. (قال) يتطوع في غير هذا ويدع زكاته حتى يبيع عرضه والدين عندي مثل هذا. (قال) ابن القاسم: وإن قدم زكاته لم تجزئه، قال: فرأيت الدين مثل هذا. (قال) أشهب عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن دينار حدثه عن عبد الله بن عمر أنه قال: ليس في الدين زكاة حتى يقبض، فإذا قبض فإنما فيه زكاة واحدة لما مضى من السنين. (قال) أشهب قال: وأخبرني ابن أبي الزناد وسليمان بن بلال والزنجي مسلم بن خالد أن عمرا مولى المطلب حدثهم أنه سأل سعيد بن المسيب عن زكاة الدين، فقال: ليس في الدين زكاة حتى يقبض فإذا قبض فإنما فيه زكاة واحدة لما مضى من السنين. (قال) ابن القاسم وابن وهب وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب عن مالك عن يزيد بن خصيفة أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟ فقال: لا. (قال) ابن وهب عن نافع وابن شهاب أنه بلغه عنهما مثل قول سليمان. (قال) ابن وهب عن يزيد بن عياض عن عبد الكريم بن أبي(52/111)
المخارق عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب مثله. (قال) ابن وهب عن عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح أنه كان يقول: ليس في الدين زكاة وإن كان في ملاء حتى يقبضه صاحبه. (قال) سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال: ليس في الدين إذا لم يأخذه صاحبه زمانا ثم أخذه أن يزكيه إلا مرة واحدة. (قال) ابن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن مثله. (قال) أشهب: قال مالك: والدليل على أن الدين يغيب أعواما ثم يقضيه صاحبه فلا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة، العروض تكون عند الرجل للتجارة فتقيم أعواما ثم يبيعها فليس عليه في أثمانها إلا زكاة واحدة، فكذلك الدين، وذلك أنه ليس عليه أن يخرج زكاة ذلك الدين أو العروض من مال سواء لا تخرج زكاة من شيء عن شيء غيره (1) .
__________
(1) المدونة 1 \ 219.(52/112)
ب - قال ابن رشد - الجد - تحت عنوان: (في زكاة الديون) :
الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة ودين من غصب ودين من قرض ودين من تجارة. فأما الدين من الفائدة فأنه ينقسم على أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما أشبه ذلك فهذا لا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبض ويحول الحول عليه من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه، وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه(52/112)
الزكاة.
والثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد فهذا لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير، وقال ابن الماجشون والمغيرة: إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه، فإن ترك قبضه فرارا من الزكاة تخرج ذلك على قولين: أحدهما: أنه يزكيه لما مضى من الأعوام. والثاني: أنه يبقى على حكمه فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول من بعد قبضه أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك.
والثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض، وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه، وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم.
والرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني، وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل مثل أن يؤجر نفسه ثلاثة أعوام بستين دينارا فيقبضها معجلة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يزكي إذا حال الحول ما يجب له من الإجارة وذلك عشرون دينارا؛ لأنه قد بقيت في يده منذ قبضها حولا كاملا، ثم يزكي كل ما مضى له من المدة شيء له بال ما يجب له من الكراء إلى أن يزكي جميع الستين لانقطاع الثلاثة الأعوام، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم،(52/113)
وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة هبة الدين هو عليه بعد حلول الحول عليه. والثاني: أنه يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار وهو نص ما قاله ابن المواز على قياس القول الأول. والثالث: أنه لا زكاة عليه في شيء من السنين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مر زكى عشرين؛ لأن ما ينوى بها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء فوجب استئناف حول آخر بها منذ سقوط الدين عنها. وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان: أحدهما: وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض. والثاني: أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم يقبضه كدين الفائدة، وقد قيل: أنه يزكيه للأعوام الماضية، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلما ثم عقب بعد ذلك بكتاب آخر أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة؛ لأنه كان ضمارا. وأما دين القرض فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين، واختلف هل يقومه المدير أم لا، فقيل: أنه يقومه وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: أنه لا يقومه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا فقد أخرجه بذلك عن الإدارة. وأما دين التجارة فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة، يقومه المدير ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام كما يقوم المدير عروض(52/114)
التجارة ولا يزكيها غير المدير حتى يبيع فيزكيها زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، وإذا قبض من الدين أقل من نصاب أو باع من العروض بعد أن حال عليه الحول بأقل من نصاب، فلا زكاة عليه حتى يقبض تمام النصاب، أو يبيع بتمامه، فإذا كمل عنده تمام النصاب زكى جميعه، كان ما قبض أولا قائما بيده، أو كان قد أنفقه، واختلف إن كان تلف من غير سببه، وقال محمد بن المواز: لا ضمان عليه فيه؛ لأنه بمنزلة مال تلف بعد حلول الحول عليه من غير تفريط، فعلى قياس قول مالك في هذه المسألة التي نظرها بها يسقط عنه زكاة باقي الدين إن لم يكن فيه نصاب، وعلى قول محمد بن الجهم فيها يزكي الباقي إذا قبضه، وإن كان أقل من نصاب، وهو الأظهر؛ لأن المساكين نزلوا معه بمنزلة الشركاء فكانت المصيبة فيما تلف منه ومنهم، وكان ما بقي بينه وبينهم قل أو كثر. وقال ابن القاسم وأشهب: يزكي الجميع، وهذا الاختلاف إنما يكون إذا تلف بعد أن مضى من المدة ما لو كان ما تجب فيه الزكاة لضمنه، وأما إن تلف بفور قبضه فلا اختلاف في أنه لا يضمن ما دون النصاب، كما لا يضمن النصاب، وقول ابن المواز أظهر؛ لأن ما دون النصاب لا زكاة عليه فيه فوجب أن لا يضمنه في البعد كما لا يضمنه في القرب، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أنه يضمن ما تلف بغير سببه في البعد مراعاة على قول من يوجب الزكاة في الدين، وإن لم يقبض فهو استحسان، فإذا تخلل الاقتضاء فوائد وكان كلما اقتضى من الدين شيئا أنفقه وكلما حال الحول على(52/115)
فائدة أفادها أنفقها. فذهب أشهب في ذلك أن يضيف كل ما اقتضى من الدين وكل ما حل من الفوائد إلى ما كان اقتضى قبله من الدين وأنفقه وإلى ما كان حل عليه الحول من الفوائد قبله فأنفقه، وأما ابن القاسم فمذهبه أن يضيف الدين إلى ما أنفقه من الدين وإلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها ولا يضيف الفائدة التي حال الحول عليها إلى ما أنفقه من الدين بعد اقتضائه ولا إلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها. مثال ذلك: أن يقتضى من دين وله خمسة دنانير فينفقها وله فائدة لم يحل عليها الحول وهي عشرة دنانير فينفقها بعد حلول الحول عليها ثم يقبض من دينه عشرة فأنه يزكيها مع العشرة الفوائد التي أنفقها ولا يزكي الخمسة الأولى التي اقتضى من الدين حتى يقتضي خمسة أجزاء، وبالله التوفيق (1) .
__________
(1) المقدمات بهامش المدونة 1 \ 245 وما بعدها.(52/116)
ج - وقال ابن رشد الحفيد:
وأما المال الذي هو في الذمة - أعني في ذمة الغير وليس هو بيد المالك - وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فقوم قالوا: لا زكاة فيه، وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي وبه قال الليث، أو هو قياس قوله، وقوم قالوا: إذا قبضه زكاه لما مضى من السنين، وقال مالك: يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض، وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث(52/116)
فأنه يستقبل به الحول. وفي المذهب تفصيل في ذلك (1) .
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 \ 247.(52/117)
د - جاء في أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك والشرح الصغير له:
(ويزكي الدين) بعد قبضه - كما يأتي - (لسنة) فقط وإن أقام عند المدين أعواما، وتعتبر السنة (من يوم ملك أصله) بهبة ونحوها، أو قبضه إن كان عما لا زكاة فيه (أو) من يوم (زكاه) إن استمر عنده عاما. ومحل تزكيته لسنة فقط إذا لم يؤخره فرارا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى عند ابن القاسم.
ولزكاته لسنة شروط أربعة:
أولها: أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها، أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل، وإليه أشار بقوله: (إن كان) الدين الذي هو على المدين (عينا) كائنة (من قرض أو) ثمن (عروض تجارة) لمحتكر، أي سببه أحد هذين الأمرين، لا إن كان الدين عرضا، فلا يزكي إلا على ما سيأتي في المدير.
الشرط الثاني: أن يقبض من المدين، وإليه أشار بقوله (وقبض) لا إن لم يقبض فلا يزكي، اللهم إلا أن يكون أصله ثمن عرض تجارة لمدير فلا يزكي بتمام شروطه الآتية في المدير.
الشرط الثالث: أن يقبض (عينا) ذهبا أو فضة لا إن قبضه(52/117)
عرضا، فلا زكاة حتى يبيعه على ما سيأتي من احتكار أو إدارة، إذا كان القابض له رب الدين، بل (ولو) كان القابض له (موهوبا له) من رب الدين (أو أحال) ربه به من له عليه دين على المدين، فإن ربه المحيل يزكيه من غيره بمجرد قبول الحوالة، ولا يتوقف على قبضه من المحال عليه؛ ولذا عبرنا بالفعل المعطوف على كان المحذوفة بعد لو، والمعنى وقبضه عينا، ولو أحال به فإن الحوالة تعد قبضا، بخلاف ما ولو وهبه فلا بد من زكاته على ربه الواهب من قبض الموهوب له بالفعل، خلافا لما يوهمه قول الشيخ: ولو بهبة أو إحالة، فقولنا: ولو أحال، في قوة ولو إحالة أي ولو كان القبض إحالة فيزكيه المحيل. وأما المحال فيزكيه أيضا منه لكن بعد قبضه. وأما المحال عليه فيزكيه أيضا من غيره بشرط أن يكون عنده ولو من العروض ما يفي بدينه.
الشرط الرابع: أن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات، كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب، وإليه أشار بقوله (وكمل) المقبوض (نصابا) بنفسه ولو على مرات بل (وإن) كمل (بفائدة) عنده (ثم حولها) كما لو قبض عشرة وعنده عشرة حال عليها الحول، فيزكي العشرين (أو كمل) المقبوض نصابا (بمعدن) ؛ لأن المعدن لا يشترط فيه الحول على ما سيأتي:
(و) ولو اقتضى من دينه دون نصاب، ثم اقتضى ما يتم به النصاب في مرة أو مرات كان (حول المتم) بفتح التاء اسم(52/118)
مفعول وهو: ما قبض أولا (من) وقت (التمام) فإذا قبض خمسة فخمسة فعشرة، فحول الجميع وقت قبض العشرة فيزكي العشرين حينئذ (ثم زكى المقبوض) بعد ذلك (ولو قل) كدرهم حال قبضه ويكون كل اقتضاء بعد التمام على حوله لا يضم لما قبله ولا بعده ولو نقص النصاب بعد تمامه لاستقرار حوله بالتمام (1) .
__________
(1) أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك وشرحه الشرح الصغير 1 \ 632 وما بعدها.(52/119)
3 - النقل عن الشافعية:
أ - جاء في الأم تحت ترجمة: (باب زكاة الدين) :
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى وإذا كان الدين لرجل غائبا عنه فهو كما تكون التجارة له غائبة عنه، والوديعة، وفي كل زكاة. (قال) وإذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحول لم يجز أن يجعل زكاة ماله إلا في حول؛ لأن المال لا يعدو أن يكون فيه زكاة، ولا يكون إلا كما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا يكون فيه زكاة، فيكون كالمال المستفاد. (قال الشافعي) وإذا كان لرجل على رجل دين فحال عليه حول، ورب المال يقدر على أخذه منه بحضور رب الدين وملائه وأنه لا يجحده ولا يضطره إلى عدوى فعليه أن يأخذه منه أو زكاته كما يكون ذلك عليه في الوديعة هكذا، وإن كان رب المال غائبا، أو حاضرا لا يقدر على أخذه منه إلا بخوف أو بفلس له إن استعدى عليه، وكان الذي عليه(52/119)
الدين غائبا؛ حسب ما احتبس عنده حتى يمكنه أن يقبضه، وإذا قبضه أدى زكاته لما مر عليه من السنين لا يسعه غير ذلك.
وهكذا الماشية تكون للرجل غائبة لا يقدر عليها بنفسه ولا يقدر له عليها، وهكذا الوديعة، والمال يدفنه فينسى موضعه لا يختلف في شيء. (قال الشافعي) وإن كان المال الغائب عنه في تجارة يقدر وكيل له على قبضه حيث هو، قوم حيث هو، وأديت زكاته ولا يسعه إلا ذلك، وهكذا المال المدفون والدين، وكلما قلت لا يسعه إلا تأدية زكاته بحوله وإمكانه له، فإن هلك قبل أن يصل إليه وبعد الحول وقد أمكنه فزكاته عليه دين، وهكذا كل مال له يعرف موضعه ولا يدفع عنه، فكلما قلت له يزكيه فلا يلزمه زكاته قبل قبضه حتى يقبضه فهلك المال قبل أن يمكنه قبضه فلا ضمان عليه فيما مضى من زكاته؛ لأن العين التي فيها الزكاة هلكت قبل أن يمكنه أن يؤديها. (قال الشافعي) فإن غصب مالا فأقام في يدي الغاصب زمانا لا يقدر عليه ثم أخذه أو غرق له مال فأقام في البحر زمانا ثم قدر عليه أو دفن مالا فضل موضعه فلم يدر أين هو ثم قدر عليه فلا يجوز فيه إلا واحد من قولين: أن لا يكون عليه فيه زكاة لما مضى ولا إذا قبضه حتى يحول عليه حول من يوم قبضه؛ لأنه كان مغلوبا عليه بلا طاعة منه كطاعته في السلف والتجارة والدين، أو يكون فيه الزكاة إن سلم؛ لأن ملكه لم يزل عنه لما مضى عليه من السنين. (قال الربيع) القول الآخر أصح القولين عندي؛ لأن من غصب ماله أو غرق لم يزل ملكه عنه، وهو قول الشافعي. (قال الشافعي) وهكذا لو كان له على رجل(52/120)
مال أصله مضمون أو أمانة فجحده إياه ولا بينة له عليه أو له بينة غائبة لم يقدر على أخذه منه بأي وجه ما كان الأخذ. (قال الربيع) إذا أخذه زكاه لما مضى عليه من السنين وهو معنى قول الشافعي. (قال الشافعي) فإن هلك منه مال فالتقطه منه رجل أو لم يدر التقط أو لم يلتقط فقد يجوز أن يكون مثل هذا، ويجوز أن لا يكون عليه فيه زكاة بحال؛ لأن الملتقط يملكه بعد سنة على أن يؤديه إليه إن جاءه، ويخالف الباب قبله بهذا المعنى. (قال الشافعي) وكل ما أقبض من الدين الذي قلت عليه فيه زكاة زكاه إذا كان في مثله زكاة لما مضى، ثم كلما قبض منه شيئا فكذلك. (قال الشافعي) وإذا عرف الرجل اللقطة سنة ثم ملكها فحال عليها أحوال ولم يزكها ثم جاء صاحبها فلا زكاة على الذي وجدها وليس هذا كصداق المرأة؛ لأن هذا لم يكن لها مالكا قط حتى جاء صاحبها، وإن أدى عنها زكاة منها ضمنها لصاحبها. (قال الشافعي) والقول في أن لا زكاة على صاحبها الذي اعترفها، أو أن عليه الزكاة في مقامها في يدي غيره كما وصفت أن تسقط الزكاة في مقامها في يدي الملتقط بعد السنة؛ لأنه أبيح له أكلها بلا رضا من الملتقط، أو يكون عليه فيها الزكاة؛ لأنها ماله، وكل ما قبض من الدين الذي قلت عليه فيه زكاة زكاه إذا كان في مثله زكاة لما مضى فكلما قبض منه شيئا فكذلك، وإن قبض منه ما لا زكاة في مثله فكان له مال أضافه إليه، وإلا حسبه فإذا قبض ما تجب فيه الزكاة معه أدى زكاته لما مضى عليه من(52/121)
السنين (1) .
__________
(1) الأم 2 \ 43.(52/122)
ب - قال الشيرازي:
" وإن كان له دين نظرت، فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته؛ لأن ملكه غير تام عليه، فإن العبد يقدر أن يسقطه، وإن كان لازما نظرت، فإن كان على مقر مليء لزمه زكاته؛ لأنه مقدور على قبضه فهو كالوديعة، وإن كان على مليء جاحد، أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب، وفيه قولان، وقد بيناه في زكاة الماشية، وإن كان له دين مؤجل، ففيه وجهان. قال أبو إسحاق: هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد، فيكون على قولين. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا تجب فيه الزكاة، فإذا قبضه استقبل به الحول؛ لأنه لا يستحقه، ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا، والأول أصح؛ لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه، وإن كان له مال غائب، فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه، وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب ".(52/122)
ج - وقال النووي في شرح ذلك:
قال أصحابنا: الدين ثلاثة أقسام: (أحدها) غير لازم كمال الكتابة، فلا زكاة فيه بلا خلاف؛ لما ذكره المصنف.
(الثاني) أن يكون لازما وهو ماشية بأن كان له في ذمة(52/122)
إنسان أربعون شاة سلما أو قرضا، فلا زكاة فيها أيضا بلا خلاف؛ لأن شرط زكاة الماشية السوم. ولا توصف التي في الذمة بأنها سائمة.
(الثالث) أن يكون دراهم أو دنانير أو عرض تجارة، وهو مستقر، ففيه قولان مشهوران: (القديم) لا تجب الزكاة في الدين بحال؛ لأنه غير معين. (والجديد) الصحيح باتفاق الأصحاب وجوب الزكاة في الدين على الجملة، وتفصيله أنه إن تعذر استيفاؤه لإعسار من عليه، أو جحوده ولا بينة، أو مطله، أو غيبته، فهو كالمغصوب، وفي وجوب الزكاة فيه طرق تقدمت في باب زكاة الماشية، والصحيح وجوبها، وقيل: تجب في الممطول والدين على مليء غائب بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما سواهما. وبهذا الطريق قطع صاحب الحاوي وغيره، وليس كذلك بل المذهب طرد الخلاف.
فإن قلنا بالصحيح وهو الوجوب لم يجب الإخراج قبل حصوله بلا خلاف ولكن (1) في يده أخرج عن المدة الماضية، هذا معنى الخلاف. وأما إذا لم يتعذر استيفاؤه بأن كان على مليء باذل أو جاحد عليه بينة أو كان القاضي يعلمه، وقلنا القاضي يقضي بعلمه، فإن كان حالا وجبت الزكاة بلا شك ووجب إخراجها في الحال وإن كان مؤجلا فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما " أصحهما " عند المصنف والأصحاب أنه على
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ولكن إذا حصل. . . إلخ.(52/123)
القولين في المغصوب " أصحهما " تجب الزكاة، " الثاني " لا تجب، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي.
والطريق الثاني: طريقة ابن أبي هريرة لا زكاة فيه قولا واحدا، كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره، فإن قلنا بوجوب الزكاة، فهل يجب إخراجها في الحال؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون (أصحهما) لا يجب، وبه قطع الجمهور كالمغصوب.
قال إمام الحرمين: ولأن الخمسة نقدا تساوي ستة مؤجلة، ويستحيل أن يسلم أربعة نقدا تساوي خمسة مؤجلة، فوجب تأخير الإخراج إلى القبض، قال: ولا شك أنه لو أراد أن يبرئ فقيرا عن دين له عليه، ليوقعه عن الزكاة لم يقع عنها؛ لأن شرط أداء الزكاة أن يتضمن تمليكا محققا. والله تعالى أعلم.
وأما المال الغائب فإن لم يكن مقدورا عليه لانقطاع خبره فهو كالمغصوب، هكذا قاله المصنف والجمهور، وقيل: تجب الزكاة قطعا؛ لأن تصرفه فيه نافذ، بخلاف المغصوب، ولا خلاف أنه لا يجب الإخراج عنه قبل عوده وقبضه، وإن كان مقدورا على قبضه وجبت الزكاة منه بلا خلاف، ووجب إخراجها في الحال بلا خلاف، ويخرجها في بلد المال، فإن أخرجها في غيره ففيه خلاف نقل الزكاة، هذا إذا كان المال مستقرا، فإن كان سائرا غير مستقر لم يجب إخراج زكاته قبل أن يصل إليه، فإذا وصل أخرج عن الماضي بلا خلاف، هذا هو الصواب في مسألة الغائب، وما(52/124)
وجدته خلافه في بعض الكتب فنزله عليه، ومما يظن مخالفا قول المصنف: " فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه "، هكذا قاله ابن الصباغ، وكلامهما محمول على ما ذكرنا إذا كان سائرا غير مستقر، هكذا صرح به أبو المكارم في العدة وغيره، وجزم الشيخ أبو حامد بأنه يخرجها في الحال، هو محمول على ما إذا كان المال مستقرا في بلد. والله تعالى أعلم.
قال أصحابنا: كل دين وجب إخراج زكاته قبل قبضه، وجب ضمه إلى ما معه من جنسه لإكمال النصاب، ويلزمه إخراج زكاتهما في الحال، وكل دين لا يجب إخراج زكاته قبل قبضه ويجب بعد قبضه، فإن كان معه من جنسه ما لا يبلغ وحده نصابا، ويبلغ بالدين نصابا، فوجهان مشهوران: (أحدهما) وبه قطع صاحب البيان: لا يلزمه زكاة ما معه في الحال، فإذا قبض الدين لزمه زكاتهما عن الماضي (وأصحهما) عند الرافعي وغيره: يجب إخراج قسط ما معه. قالوا: وهما مبنيان على أن التمكن شرط في الوجوب أو في الضمان، إن قلنا بالأول لا يلزمه لاحتمال أن لا يحصل الدين، وإن قلنا بالثاني لزمه. والله تعالى أعلم.
وكل دين لا زكاة فيه في الحال ولا بعد عوده عن الماضي، بل يستأنف له الحول إذا قبض، فهذا لا يتم به نصاب ما معه، وإذا قبضه لا يزكيهما عن الماضي بلا خلاف، بل يستأنف لهما الحول. والله تعالى أعلم.(52/125)
أما إذا كان له مائة درهم حاضرة ومائة غائبة فإن كانت الغائبة مقدورا عليها لزمه زكاة الحاضرة في الحال في موضعها والغائبة في موضعها، وإن لم يكن مقدورا عليه فإن قلنا لا زكاة فيه إذا عاد فلا زكاة في الحاضر؛ لنقصه عن النصاب، وإن قلنا تجب زكاته فهل يلزمه زكاة الحاضر في الحال؟ فيه الوجهان السابقان في الدين بناء على أن التمكن شرط في الوجوب أم الضمان، فإن لم نوجبها في الحال أوجبناها فيه، وفي الغائب إن عاد وإلا فلا (1) .
(انتهى القسم الأول) .
__________
(1) المهذب والمجموع 6 \ 19 وما بعدها.(52/126)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(52/127)
صفحة فارغة(52/128)
من الفتوى رقم 4476
السؤال الرابع: ما حكم من قلد مالكا في اجتهاده وترك القرآن والحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: مالك رحمه الله إمام من الأئمة في العلم وهو بشر يخطئ ويصيب ويؤخذ من قوله ويرد، فما وافق الحق من قوله قبل، وما لم يوافق الحق ترك، والشخص إذا كان يستطيع أخذ الأحكام من القرآن والسنة فلا يجوز له أن يقلد أحدا، وإذا كان لا يستطيع وأشكل عليه شيء من أمور دينه فأنه يسأل أوثق أهل العلم عنده ويعمل بإجابته ومالك وغيره في ذلك سواء.
السؤال الخامس: لماذا اقتسم علماء الدول شريعة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى أربعة مذاهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد مع أن دين الرسول صلى الله عليه وسلم واحد والقرآن واحد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل في التشريع القرآن، والسنة مبينة للقرآن،(52/129)
والأئمة الأربعة كل واحد منهم وفقه الله جل وعلا إلى الفقه في الدين بقدر ما يسر له، ولكل واحد منهم تلاميذ نقلوا عنه فقهه؛ وبهذا تأسست المذاهب الأربعة، وليس كل ما يقوله أي واحد منهم يكون حقا، بل هو مجتهد، فإن أصاب فله أجران: أجر لاجتهاده، وأجر لإصابته، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده وخطؤه معفو عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/130)
من الفتوى رقم 4172
السؤال الرابع: ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة: الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد،(52/130)
فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة، وهكذا بقية المذاهب.
ثانيا: هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك، والمجتهد؛ إما مصيب فله أجران: أجر اجتهاده، وأجر إصابته، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه.
ثالثا: القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله، ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد أن الحق بخلافه، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه.
رابعا: من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده وإذا حصل في نفسه عدم اطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان.
خامسا: يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان؛ لأنهم قد يخطئون، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/131)
من الفتوى رقم 11296
السؤال الثاني: ما حقيقة التقليد، وما أقسامه مع بيان الحكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: (أ) ذكر علماء الأصول تعريفات لبيان حقيقة التقليد، منها قول بعضهم: التقليد هو قبول قول القائل وهو لا يدري مستنده، وذهب بعضهم إلى أن التقليد: قبول قول القائل بلا حجة.
واختار أبو المعالي الجويني تعريف التقليد بأنه اتباع من لم يقم باتباعه حجة ولم يستند إلى علم.
وهذه التعاريف متقاربة، ولعلماء الأصول فيها مناقشات ترجع إلى الصناعة المنطقية، ولكن القصد هنا بيان حقيقة التقليد على وجه التقريب.
(ب) أما أقسامه مع بيان حكم كل قسم فكما يلي:
1 - تقليد من عنده أهلية الاجتهاد غيره من العلماء بعدما تبين له الحق بالأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز له تقليد من خالفه فيما وصل إليه بالاستدلال بإجماع.(52/132)
2 - تقليد من توافرت فيه أهلية الاجتهاد غيره من المجتهدين قبل أن يصل باجتهاده إلى الحكم الشرعي، فهذا لا يجوز له تقليد غيره فيما ذهب إليه الشافعي وأحمد وجماعة رحمهم الله، وهو الأرجح؛ لقدرته على الوصول إلى الحكم الشرعي بنفسه، فكان مكلفا بالاجتهاد ليعرف ما كلفه الشرع به؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، ولما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » .
3 - تقليد العاجز عن البحث في الأدلة واستنباط الأحكام منها عالما توافرت فيه أهلية الاجتهاد في أدلة الشرع فهذا جائز؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) ، ولقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) ونحوها من النصوص الدالة على رفع الحرج ولصيانة المكلف عن التخبط في الأحكام والقول على الله بغير علم.
4 - تقليد من يخالف الشرع الإسلامي من الآباء والسادة والحكام عصبية أو اتباعا للهوى، وهذا محرم بالإجماع، وقد ورد في ذمه كثير من نصوص الكتاب والسنة، قال الله
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) أخرجه البخاري في كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنة) برقم (7288) واللفظ له، ومسلم في (الحج) برقم (1337) .
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة الأنبياء الآية 7(52/133)
تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (1) ، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) ، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} (6) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (7) {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} (8) {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (9) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (10) .
السؤال الثالث: من يقول: إن التقليد كفر مطلقا وفسق وشرك، وينسبون إلى الأئمة الأربعة الكفر والضلال، فما حكمه وهم يقولون: هذا رأي علماء الحرمين والمملكة
__________
(1) سورة البقرة الآية 170
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة الأحزاب الآية 36
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة آل عمران الآية 31
(6) سورة الأحزاب الآية 64
(7) سورة الأحزاب الآية 65
(8) سورة الأحزاب الآية 66
(9) سورة الأحزاب الآية 67
(10) سورة الأحزاب الآية 68(52/134)
العربية السعودية والكويت؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: (أ) ليس كل تقليد كفرا بإطلاق، أو فسقا أو شركا، بل الصواب أن في حكمه تفصيلا يعرف من الجواب على السؤال الثاني فيما تقدم.
(ب) لم يدع أحد من الأئمة الأربعة إلى مذهبه، ولم يتعصب له، ولم يلزم الناس بالعمل به أو بمذهب معين، إنما كانوا يدعون إلى العمل بالكتاب والسنة - رحمهم الله - ويشرحون نصوص الدين، ويبينون قواعده، ويفرعون عليها، ويفتون فيما يسألون عنه مع الدليل من الكتاب والسنة، دون أن يلزموا تلاميذهم أو غيرهم برأي أحد معين من علماء الأمة، بل يعيبون ذلك، ويأمرون أن يضرب برأيهم عرض الحائط إذا خالف الحديث الصحيح، ويقول قائلهم: " إذا صح الحديث فهو مذهبي "، وعلى المسلم أن يجتهد في معرفة الحق بنفسه إن استطاع ذلك، ويستعين بالله ثم بالثروة العلمية التي خلفها السابقون من علماء المسلمين لمن بعدهم، والتي يسروا لهم بها طريق فهم النصوص وتطبيقها، ومن لم يستطع فهم الأحكام من أدلتها واستنباطها - لأمر ما عاقه عن ذلك - سأل أهل العلم الموثوق بهم عما يحتاجه من أحكام الشريعة؛ رجاء معرفة الحق بدليله قدر الاستطاعة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(52/135)
وعليه أن يتحرى في سؤاله من يثق به من المشهورين بالعلم والفضل والتقوى والصلاح.
وبهذا يعلم أن الأئمة الأربعة برآء مما اتهموا به، وأن ما نسب إليهم من الكفر والضلال زور وبهتان.
ليس من علماء الحرمين مكة والمدينة ولا من سائر علماء المملكة العربية السعودية من يذم أئمة الفقهاء مالكا وأبا حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ونحوهم من علماء الفقه الإسلامي ولا من يزدريهم، بل المعروف عنهم أنهم يوقرونهم، ويعرفون لهم فضلهم، وأن لهم قدم صدق في خدمة الإسلام وحفظه، وفهم نصوصه وقواعده، وبيان ذلك وإبلاغه، والجهاد في نصره والذود عنه، ودفع الشبهة عنه وإبطال ما انتحله المنتحلون وابتدعه المفترون، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
يدل على موقف علماء الحرمين وسائر علماء المملكة العربية السعودية من الأئمة الأربعة موقف تكريم وتقدير، عنايتهم بتدريس مذاهبهم ومؤلفاتهم في المسجد الحرام بمكة المشرفة والمدينة المنورة وسائر مساجد المملكة العربية السعودية، وفي جامعاتها، وعنايتهم بطبع الكثير من كتبهم وتوزيعها ونشرها بين المسلمين في جميع الدول التي بها مسلمون.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/136)
الفتوى رقم 5560
س: أنا طالب في معهد المعلمين بحائل، فقد شرح مدرس الدين أنه لا يمكن الجمع بين طريقة الأئمة الأربعة في الدين الإسلامي، مثلا: في طريقة الصلاة والوضوء والصيام. . . إلخ، وجميع المفروض علينا، أي: أن المدرس يقول: أنه لا يمكن الجمع بين طرق الأئمة الأربعة في التشريع الإسلامي. أرجو من سماحتكم أن تذكروا لنا هذا، هل الأستاذ أصاب أم أخطأ؟ وأرجو أن ترسلوا إن كان فيه كتاب عن هذه المشكلة.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن المسلم ليس مطالبا بالجمع بين المذاهب الأربعة في عمله، لكن إن كان قادرا على استنباط الأحكام بنفسه من أدلتها وجب عليه أن يأخذ بما ظهر له، وإن كان غير قادر على استنباط الأحكام قلد إماما من أئمة المسلمين المقتدى بهم؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، وقوله تعالى:
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(52/137)
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(52/138)
من الفتوى رقم 9783
السؤال الأول: هل يجوز للمرء أن يجمع بين المذاهب الأربعة المعروفة ويعمل بها، بدلا من أن يختار المذهب المتبع في منطقته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الواجب على المسلم اتباع الوحيين: الكتاب، والسنة، وما ضم إليهما مما يستند إليهما، وذلك إذا كان الشخص من أهل العلم، وإن لم يكن فأنه يقلد أوثق من يعرف من أهل العلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/138)
من الفتوى رقم 2573
السؤال الثالث: أحد الناس يقلد مذهب الإمام مالك ويحث الناس على تقليده وله عدة حجج منها:
أ - أن الواحد منا لم يصل إلى درجة النظر في الأدلة ليعرف الصحيح من الضعيف فعليه تقليد مذهب حتى يصل إلى هذه الدرجة.
ب - أن معظم الخلاف بين الأئمة السابقين كان أصوليا بمعنى: أنه يجب أن تعرف أصول كل إمام حتى تحكم بعد ذلك على صحة هذا القول من ذاك، ويقول لمن يخالف رأيه: أنه لم يتعمق في الفقه، ولو قرأ في الفقه كثيرا لوصل إلى ما وصل إليه من وجوب التقليد لأحد المذاهب الأربعة.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يختلف الناس في استعدادهم وتفكيرهم ومعلوماتهم؛ فمنهم الذكي والغبي، ومنهم العالم والأمي، فمن كان لديه قوة في الاستعداد، وسعة في التفكير، وأوتي من العلم ما يمكنه من استنباط الأحكام من أدلتها في جميع المسائل أو بعضها وجب عليه ذلك، ولا يجوز له أن يقلد غيره من العلماء فيما أدركه من الأدلة - حسب القواعد العلمية - واقتنع به، وما عجز عنه من(52/139)
المسائل سأل أهل العلم عن دليله أو عن معنى ما أشكل عليه فهمه من الدليل؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) فعم الله بذلك السؤال عن الدليل وعما أشكل فهمه منه، وأمر تعالى بالتعاون على البر والتقوى، فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ، ولا شك أن التعاون على الوصول إلى أدلة الشريعة وإلى فهم ما خفي معناه منها من أول ما يدخل في معنى هذه الآية وأمثالها، وقد كان هذا شأن الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان بعضهم يسأل بعضا عما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا ويسأل عما خفي عليه من معاني الأدلة أحيانا.
أما من كان أميا أو متعلما لكنه قاصر في استعداده الفكري أو محصوله العلمي فلا سبيل له إلا أن يسأل غيره من أهل الذكر، وهم أهل العلم بالشريعة؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) وهذا أمر يشهد له الواقع، وجرت به السنة الكونية في الناس، وإن ظنوا أنهم من المجتهدين، فليسلكوا طريقه، وليتعلموا، وليدربوا أنفسهم على البحث، وليسلكوا منهج من سبقهم من العلماء، ولينتفعوا بالثروة العلمية التي ورثوها حتى يؤتيهم الله من فضله علما نافعا وقوة على استخلاص الأحكام من أدلتها، فعند ذلك يمكنهم الاجتهاد ولو في بعض المسائل.
ومن أراد المزيد في مسألة الاجتهاد والتقليد فليرجع إلى ما
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة الأنبياء الآية 7(52/140)
كتبه العلامة ابن القيم في هذه المسألة في كتابه (إعلام الموقعين) . وإلى غيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/141)
من الفتوى رقم 5166
السؤال الثاني: ما سبب تمسكنا بالأقوال والمذاهب الأربعة، وما العلاقة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل يعرف الرسول بأنهم سيأتون من بعده، وهل إذا كان يوم القيامة يسأل الله الأمة عن المذاهب الأربعة أو على من اتبعوا من المذاهب الأربعة، وهل صحيح في الدين الإسلامي أن نختار واحدا منها ونتبعه، وما حكم اختيار ذلك وما المراد بالمذاهب الأربعة وهل إذا كان رجل مسلم لم يتمذهب بأي مذهب من المذاهب الأربعة هل عليه ذنب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: سبب التمسك بالأقوال والمذاهب الأربعة هو أنها تعتمد في الأصل على مصادر التشريع من الكتاب والسنة(52/141)
والإجماع والقياس وغير ذلك من الأدلة.
ثانيا: العلاقة بين الأئمة الأربعة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هي أن السنة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم مصدر من مصادر التشريع التي اعتمدوا عليها فهم متبعون لسنته صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف أنهم سيأتون من بعده؛ لأن هذا من علم الغيب وهو من اختصاص الله جل وعلا، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، ونحن لا نعلم دليلا يدل على أن الله أطلعه على ذلك كما قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) ، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (2) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (3) .
رابعا: يجب على المسلم أن يتعلم أمور دينه ويسأل أهل العلم عما أشكل عليه، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4)
والله جل وعلا لا يسأل الناس يوم القيامة عن المذاهب الأربعة ولا عما تبعوا من المذاهب الأربعة وإنما السؤال يقع عن اتباع شرع الله وإجابة رسله قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (5) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (7) .
__________
(1) سورة النمل الآية 65
(2) سورة الجن الآية 26
(3) سورة الجن الآية 27
(4) سورة الأنبياء الآية 7
(5) سورة الحجر الآية 92
(6) سورة الحجر الآية 93
(7) سورة القصص الآية 65(52/142)
خامسا: المذاهب الأربعة، هي: مذهب أبي حنيفة، ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وكل واحد منهم استنبط ما فتح الله عليه به من فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وقياس بعض الأمور على بعض إذا كانت متشابهة ومشتركة في العلة، وأنه لا يوجد فارق مؤثر بينها وهم مجتهدون، والمجتهد إن أصاب فله أجران: أجر اجتهاده، وأجر إصابته، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده وخطؤه معفو عنه، وما استنبطوه من الفقه يعرض على مصادر التشريع فما وجد له مستند شرعي أخذ به وما لم يوجد له مستند من الأدلة رد، فإن كلا يؤخذ من قوله ويرد إلا محمدا صلى الله عليه وسلم.
فمن استطاع أن يأخذ الأحكام بأدلتها وجب عليه ذلك، ومن لم يستطع وجب عليه أن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه، وبهذا يعلم أنه يتبع من المذاهب ما استند إلى دليل شرعي ما لم يخالفه ما هو أقوى منه، وأنه لا يجوز أن يعتمد شخص على مذهب ويعمل بجميع ما فيه بصرف النظر عن المستند الشرعي لما يأخذ به، وأنه لا يلزمه الأخذ بمذهب واحد منهم، بل عليه إن كان من أهل العلم أن يأخذ بالدليل، وإلا سأل أهل العلم عما(52/143)
أشكل عليه، كما سبق.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/144)
من الفتوى رقم 2961
السؤال الثاني: ما حكم الإسلام في رجل يتمسك بأحد المذاهب ولا يرضى سواه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن كان يقوى على معرفة الدليل واستنباط الحكم منه وجب عليه اتباع الدليل ولا يجوز له العمل بما خالفه من الآراء، ويعتبر التزامه مذهبا معينا تعصبا ممقوتا، وإن كان لا يعرف الدليل، أو لا يستطيع أن يستنبط الحكم منه قلد من يثق به من أئمة الفقه فيأخذ بما عرفه من أقواله دون أن يغمط غيره حقه أو ينتقصه، وإلا كان متعصبا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/144)
من الفتوى رقم 4522
السؤال الثالث: في مدينتنا مجموعتان من الناس: مجموعة يستدلون في كل أقوالهم بالحديث الشريف، والمجموعة الأخرى يتبعون المذهب المالكي في كل عباداتهم، مثلا: هناك أناس وشباب يرفعون أيديهم في الركوع، وعند الرفع من الركوع، ويستدلون على هذا بالحديث النبوي الشريف، أما الآخرون فلا يفعلون هذا ويقولون: بأن الإمام مالك رضي الله عنه لم يفعل هذا، وهل أنتم تعلمون مثل ما يعلم إمام دار الهجرة فما هو رأيك في هذه القضية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجب على المسلم أن يعرف الأحكام الشرعية من أدلتها المعتبرة شرعا؛ من الكتاب والسنة والإجماع، وما استند إليها كالقياس ونحوه إذا كان أهلا للبحث والاجتهاد، وإلا سأل من يثق به من أهل العلم وقلده دون تعصب لأحد من المجتهدين، وقد دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، والرفع(52/145)
منه، والقيام إلى الثالثة، فلا يجوز أن تعارض السنة بقول أحد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/146)
من الفتوى رقم 2872
السؤال الثالث: هناك أربعة مذاهب فقهية في الإسلام، فما هي المقاييس التي تجعلني أتبع أحدها، وهل يمكنني أن أخلط بينها بمعنى أن أعمل بعض الأشياء وفقا لأحد المذاهب وأشياء أخرى لمذهب آخر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل أن الواجب على المسلم أن يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويستعين بكلام أهل العلم، سواء انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة أم لم ينتسب، ولا يلزمه الانتساب إلى شيء منها، هذا إذا كان يستطيع استنباط الأحكام بنفسه أو الاستعانة ببعض أئمة الفقه الإسلامي لتوافر أسبابها لديه وانتفاء الموانع عنده فإنه يأخذ الحكم بنفسه، وإذا(52/146)
كان لا يستطيع فأنه يقلد أوثق من يتحصل عليه من أهل العلم، وأما المذاهب الأربعة فكل واحد منها منسوب إلى الإمام الذي سمي المذهب باسمه، وهذا الإمام اشتهر بالاجتهاد في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة فتبعه أناس من أهل العلم على مذهبه، ولا يجوز التعصب لشيء منها بغير حجة، بل الواجب هو الأخذ بما تقتضيه الأدلة الشرعية مع غض النظر عن كونه يوافق المذهب الفلاني أو غيره.
وقد صدر من اللجنة فتوى في المذاهب الأربعة.
ومما تقدم يتبين أنهم أتباع للرسول صلى الله عليه وسلم وليس الرسول تابعا لهم، بل ما جاء به عن الله من شريعة الإسلام(52/147)
هو الأصل الذي يرجع إليه هؤلاء الأئمة وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم. وكل مسلم يسمى حنيفيا لاتباعه الحنيفية السمحة التي هي ملة إبراهيم وملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة جميع المرسلين سواء كان حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا أو تابعا أو مقلدا لغيرهم من علماء الإسلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(52/148)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الاستماع إلى برنامج
نور على الدرب في المسجد
س: هل يصح أن نستمع إلى برنامج نور على الدرب في المسجد بدلا من الاستماع إلى أحاديث بعض المصلين الفارغة، ومنعا للأحاديث الدنيوية في المساجد؟
ج: في الاستماع إلى هذا البرنامج خير عظيم، وفيه مصالح جمة، وقد يسر الله للمسلمين هذا البرنامج، ليستفيدوا منه، فهو بمثابة حلقات علمية يستفيد منها الرجال والنساء، وهم في بيوتهم ومجالسهم، وعلى أسرتهم، فهو من نعم الله العظيمة، ومن حجة الله القائمة على الناس، يصل إليهم في بيوتهم، وفي سياراتهم، وفي طائراتهم، وفي كل مكان.
فينبغي للمسلمين أن يستفيدوا من هذا البرنامج، ويحمدوا الله ويشكروه على ما يسره لهم سبحانه وتعالى. وكان الناس يسعون للعلم من أماكن بعيدة إلى المساجد، وإلى العلماء في بيوتهم؛ ليطلبوا العلم، وربما سافر الرجل من بلاد بعيدة إلى العالم يطلب منه فائدة، فقد سافر جابر بن عبد الله رضي الله عنه(52/149)
إلى الشام، وسافر غيره إلى مصر واليمن في حديث واحد، وهم أصحاب رسول الله وخير سلف هذه الأمة.
فأنت يا عبد الله، ويا أمة الله يسر الله لكما هذا البرنامج بواسطة الأثير، وأنتم في بيوتكم. فأنا أوصي وأنصح كل مسلم وكل مسلمة أن يستفيد من هذا البرنامج، وأن يسأل عما أشكل عليه من طريق هذا البرنامج.
فنسأل الله أن يوفق القائمين على هذا البرنامج لإصابة الحق، وأن يعينهم على إبلاغ رسالة الله، وأمره ونهيه للأمة في كل مكان، وأن يوفق المسلمين في كل مكان إلى أن يستمعوا لهذا البرنامج ويستفيدوا منه، ومتى أشكل على أحد شيء من أمور دينه فما عليه إلا أن يسأل أهل العلم في أي مكان حتى يطمئن؛ لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
ولا بأس بفتح الراديو في المسجد لسماع هذا البرنامج، ولسماع العلم من غير هذا البرنامج في الأوقات المناسبة التي يتفق الجماعة عليها، فإذا جاءت أصوات الموسيقى أو شيء لا يرتضى وجب قفله.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(52/150)
الهم بالسيئة
س: من: أ. ع. ح. - من الرياض: تحدثني نفسي أحيانا بفعل منكر، أو قول سوء، ولكني في أحيان كثيرة لا أظهر القول(52/150)
أو الفعل. فهل علي إثم في ذلك؟ وما المقصود بقوله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (1) ؟
ج: هذه الآية الكريمة نسخها الله سبحانه وتعالى «بقوله: الآية، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: قد فعلت (3) » خرجه مسلم في صحيحه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (4) » متفق على صحته.
وبذلك يعلم أن ما يقع في النفس من الوساوس، والهم ببعض السيئات معفو عنه ما لم يتكلم به صاحبه، أو يعمل به، ومتى ترك ذلك خوفا من الله سبحانه كتب الله له بذلك حسنة؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 284
(2) صحيح مسلم الإيمان (126) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2992) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) .
(3) سورة البقرة الآية 286 (2) {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
(4) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .(52/151)
وجوب إعفاء اللحية
وتحريم حلقها أو قصها
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.(52/151)
أما بعد:
فقد نشرت صحيفة المدينة في عددها الصادر في 24 \ 1 \ 1415 هـ مقالا للشيخ محمد بن علي الصابوني عفا الله عنا وعنه، يتضمن ما نصه:
ومما يتعلق بالصورة والمظهر أن يهذب المسلم شعره، ويقص أظافره، ويتعاهد لحيته، فلا يتركها شعثة مبعثرة، دون تشذيب أو تهذيب، ولا يتركها تطول بحيث تخيف الأطفال، وتفزع الرجال، فكل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، فمن الشباب من يظن أن أخذ أي شيء من اللحية حرام، فنراه يطلق لها العنان حتى تكاد تصل إلى سرته، ويصبح في مظهره كأصحاب الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (1) . . . إلخ ما ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولما كان في هذا الكلام مخالفة للسنة الصحيحة، وإباحة لتشذيب اللحية وتقصيرها، رأيت أن من الواجب التنبيه على ما تضمنه كلامه - وفقه الله - من الخطأ العظيم والمخالفة الصريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، في الصحيحين وغيرهما أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى (2) » وفي لفظ: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين (3) » ، وفي رواية مسلم، عن أبي هريرة
__________
(1) سورة الكهف الآية 18
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3917) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، موطأ مالك الجامع (1781) .(52/152)
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (1) » .
ففي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر الصريح بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها، وقص الشوارب؛ مخالفة للمشركين والمجوس. والأصل في الأمر الوجوب، فلا تجوز مخالفته إلا بدليل يدل على عدم الوجوب، وليس هناك دليل على جواز قصها وتشذيبها وعدم إطالتها.
وقد قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ، وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3) ، وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ ! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (5) » رواه البخاري في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (6) » متفق عليه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النور الآية 54
(4) سورة النور الآية 56
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(6) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(52/153)
وقد احتج الشيخ محمد المذكور على ما ذكره بما رواه الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » . وهذا الحديث ضعيف الإسناد لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لكان حجة كافية في الموضوع، ولكنه غير صحيح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي، وهو متروك الحديث.
واحتج - أيضا - الشيخ على ما ذكره بفعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ من لحيته في الحج ما زاد على القبضة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، والحجة في روايته لا في اجتهاده. وقد صرح العلماء رحمهم الله أن رواية الراوي من الصحابة ومن بعدهم الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي الحجة، وهي مقدمة على رأيه إذا خالف السنة.
فأرجو من صاحب المقال الشيخ محمد أن يتقي الله سبحانه، وأن يتوب إليه مما كتب، وأن يصدح بذلك في الصحيفة التي نشر فيها الخطأ. ومعلوم عند أهل العلم أن الرجوع إلى الحق شرف لصاحبه، وواجب عليه، وخير له من التمادي في الخطأ.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياه وجميع المسلمين للفقه في الدين، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .(52/154)
تربية اللحى وما يوافق الشرع الإسلامي منها
س: ألاحظ الاختلاف في إرخاء اللحى وإطلاقها، فأي تربية اللحى توافق الشرع الإسلامي وما سار عليه السلف الصالح؟
ج: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (1) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه، والإمام مسلم في صحيحه، وخرجه الأئمة الآخرون رحمة الله عليهم، فهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله عند أهل العلم، ومعناه: أنه يجب على المؤمن قص شاربه، وإرخاء لحيته، وإعفاؤها، وعدم أخذها لا حلقا ولا قصا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين (2) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه رحمه الله. وقال أيضا فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. وهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على أن الواجب على المسلمين قص الشوارب وعدم إطالتها، وتدل أيضا على وجوب إرخاء اللحى وتوفيرها وإعفائها.
فالواجب على المسلمين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) ،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3917) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، موطأ مالك الجامع (1781) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(4) سورة النور الآية 54(52/155)
ويقول عز شأنه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (1) . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى "، قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: " من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (2) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه.
فالواجب العناية بطاعة الله ورسوله في كل شيء، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإعفاء اللحى، وقص الشوارب، وعدم إسبال الثياب، وفي كل شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، امتثالا للأوامر، وتركا للنواهي، وهذا هو طريق الجنة وطريق السعادة، يقول الله سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) ، ويقول سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) .
فالهداية والسلامة والنجاح في اتباعه صلى الله عليه وسلم، وطاعة أوامره وترك نواهيه، ويقول جل وعلا:
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(3) سورة النساء الآية 13
(4) سورة النساء الآية 14
(5) سورة الأعراف الآية 158(52/156)
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ، فمن كان يحب الله ويحب رسوله عليه الصلاة والسلام فعليه أن يتبع هذا الرسول العظيم، فاتباعه والتمسك بما جاء به هو السبيل الوحيد لمحبة الله عز وجل، كما أنه السبيل للمغفرة ودخول الجنة والنجاة من النار.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(52/157)
أخذ الأجرة على حلق اللحى حرام
س: بعض أصحاب صالونات الحلاقة يحلقون لحى بعض الناس، فما حكم المال الذي يأخذونه بسبب عملهم؟
ج: حلق اللحى وقصها محرم ومنكر ظاهر، لا يجوز للمسلم فعله ولا الإعانة عليه، وأخذ الأجرة على ذلك حرام وسحت، يجب على من فعل ذلك التوبة إلى الله منه وعدم العودة إليه، والصدقة بما دخل عليه من ذلك إذا كان يعلم حكم الله سبحانه في تحريم حلق اللحى، فإن كان جاهلا فلا حرج عليه فيما سلف، وعليه الحذر من ذلك مستقبلا؛ لقول الله عز وجل في أكلة الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
وفي الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (2) » وفي صحيح البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .(52/157)
ووفروا اللحى، خالفوا المشركين (1) » وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (2) » .
فالواجب على كل مسلم أن يمتثل أمر الله في إعفاء لحيته وتوفيرها، وقص الشارب وإحفائه، ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من خالف هذه السنة وبارز ربه بالمعصية.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يعينهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يمن على من خالف أمر الله ورسوله بالتوبة النصوح إلى ربه، والمبادرة إلى طاعته وامتثال أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه سميع قريب.
__________
(1) صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3917) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، موطأ مالك الجامع (1781) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(52/158)
حكم حلق اللحى كاملة
أو ناقصة والصباغ بالأسود
س: يوجد بعض الإخوان يحلقون لحاهم كاملة، وبعضهم يبقي قليلا في رأس الذقن، وفيه من يصبغ بالصباغ الأسود ثم يقولون جميعا: إنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة نهي ولا تحريم ولا خلافه لا في حلق اللحية ولا في صبغها بالسواد، ولم يرد ما يثبت ذلك، علما بأن منهم من يحلق ومنهم من يصبغ، ويعتبرون أنفسهم على حق حسب أقوالهم، نرجو من سماحتكم الجواب الكافي والشافي في هذه المسألة. أبناؤكم \ ب. ح. أ، م. ع. س، ع. س. م.(52/158)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (1) » ، وفي لفظ البخاري: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين (2) » ، وروى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (3) » ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «غيروا هذا الشيب واجتنبوا السواد (4) » ، وفي السنن بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (5) » رواه أبو داود والنسائي. وهذا وعيد شديد يقضي أن هذا العمل من الكبائر.
نسأل الله أن يعيذنا جميعا من أسباب غضبه، ومن طاعة الهوى والشيطان.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3917) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، موطأ مالك الجامع (1781) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(4) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/338) .
(5) سنن ابن ماجه الصيد (3217) .(52/159)
هل يجوز حلق اللحية لمن يخشى الفتنة
س: إذا كان الرجل في بلد لا يستطيع أن يرخي لحيته فتكون لحيته مصدر شبهة، هل له حلقها؟
ج: ليس له ذلك، بل عليه أن يتقي الله ويجتنب الأشياء التي تسبب أذاه، فإن الذين يحاربون اللحى لا يحاربونها من أجلها، يحاربونها من أجل بعض ما يقع من أهلها من غلو وإيذاء(52/159)
وعدوان، فإذا استقام على الطريق، ودعا إلى الله باللسان، ووجه الناس إلى الخير، أو أقبل على شأنه، وحافظ على الصلاة، ولم يتعرض للناس ما تعرضوا له، هذا الذي يقع في بعض البلاد إنما هو في حق أناس يتعرضون لبعض المسئولين من ضرب وقتل أو غير ذلك من الإيذاء، فلهذا يتعرض لهم المسئولون.
فالواجب على المؤمن ألا يعرض نفسه للبلاء، وأن يتقي الله ويرخي لحيته، ويحافظ على الصلاة، وينصح الإخوان، ولكن بالرفق، بالكلام الطيب، لا بالتعدي على الناس، ولا بضربهم ولا بشتمهم ولعنهم، ولكن بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، قال الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ، وقال الله لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » ، ولا سيما في هذا العصر، هذا العصر عصر الرفق والصبر والحكمة، وليس عصر الشدة.
الناس أكثرهم في جهل، في غفلة وإيثار للدنيا، فلا بد من الصبر، ولا بد من الرفق حتى تصل الدعوة، وحتى يبلغ الناس وحتى يعلموا. ونسأل الله للجميع الهداية.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(52/160)
حكم حلق اللحية مضطرا لمن يعمل في الجيش
س: أنا في الجيش وأحلق لحيتي دائما، وذلك غصب عني، هل هذا حرام أم لا؟
ج: لا يجوز حلق اللحية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها وإرخائها في أحاديث صحيحة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن في إعفائها وإرخائها مخالفة للمجوس والمشركين، وكان عليه الصلاة والسلام كث اللحية، وطاعة الرسول واجبة علينا، والتأسي به في أخلاقه وأفعاله من أفضل الأعمال؛ لأن الله سبحانه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) ، وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ، وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
والتشبه بالكفار من أعظم المنكرات، ومن أسباب الحشر معهم يوم القيامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (4) » ، فإذا كنت في عمل تلزم فيه بحلق لحيتك فلا تطعهم في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (5) » ، فإن ألزموك بحلقها فاترك هذا العمل الذي يجرك لفعل ما يغضب الله، وأسباب الرزق الأخرى كثيرة ميسرة ولله الحمد، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه. وفقك الله، ويسر أمرك، وثبتنا وإياك على دينه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النور الآية 63
(4) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(52/161)
حكم طاعة الوالد في حلق اللحية
والخروج للدعوة مع بعض الجماعات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم:
م. ج. ب. ع.
وفقه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك - وصلك الله بهداه - المتضمن طلب الجواب عن سؤالين:
أولهما: عن حكم طاعتك لوالدك في حلق اللحية.
والآخر: عن حكم الخروج للدعوة مع بعض الجماعات التي تدعو إلى دين الله.
فجوابا عن السؤال الأول: أفيدك بأنه لا يجوز لك طاعة والدك في حلق اللحية، بل يجب توفيرها وإعفاؤها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (2) » .
وإعفاء اللحية واجب وليس بسنة حسب الاصطلاح الفقهي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، والأصل في الأمر الوجوب، وليس هناك صارف عنه.
أما الجواب عن السؤال الثاني: فلا حرج في الخروج للدعوة سواء كان الوقت معينا بأيام، أو شهور حسب استطاعة
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5893) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2763) ، سنن النسائي الطهارة (15) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .(52/162)
الدعاة إذا كانوا أهل بصيرة وعلم في العقيدة الصحيحة، وأحكام الشريعة المطهرة؛ لأن تحديد الوقت يعينهم على التهيؤ لذلك بما يلزم من النفقة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الدعاة إلى الله.
وفقك الله لكل خير وأعانك عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(52/163)
حكم الغيبة إذا كان في الإنسان ما يقول
س: بعض الناس هداهم الله لا يرون الغيبة أمرا منكرا أو حراما، والبعض يقول: إذا كان في الإنسان ما نقول فغيبته ليست حراما، متجاهلين أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، أرجو من سماحة الشيخ توضيح ذلك، جزاكم الله خيرا.
ج: الغيبة محرمة، ومن الكبائر، سواء كان العيب موجودا في الشخص أم غير موجود؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لما سئل عن الغيبة، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته (1) » ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه رأى ليلة أسري به قوما لهم أظافر من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فسأل عنهم، فقيل له: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم (2) » ، وقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (3) .
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2589) ، سنن الترمذي البر والصلة (1934) ، سنن أبو داود الأدب (4874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/458) ، سنن الدارمي الرقاق (2714) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4878) .
(3) سورة الحجرات الآية 12(52/163)
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الغيبة، والتواصي بتركها؛ طاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحرصا من المسلم على ستر إخوانه وعدم إظهار عوراتهم، ولأن الغيبة من أسباب الشحناء والعداوة وتفريق المجتمع. والله ولي التوفيق.(52/164)
مجالس الغيبة والنميمة
س: أنا فتاة أكره الغيبة والنميمة، وأكون أحيانا في وسط جماعة يتحدثون عن أحوال الناس، ويدخلون في الغيبة والنميمة، وأنا في نفسي أكره هذا وأمقته، ولكوني شديدة الخجل فإنني لا أستطيع أن أنهاهم عن ذلك، وكذلك لا يوجد مكان حتى أبتعد عنهم، ويعلم الله أنني أتمنى أن يخوضوا في حديث غيره، فهل علي إثم في جلوسي معهم؟ وما الذي يتوجب فعله؟ وفقكم الله لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
ج: عليك إثم في ذلك، إلا أن تنكري المنكر، فإن قبلوا منك فالحمد لله، وإلا وجب عليك مفارقتهم، وعدم الجلوس معهم؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) ، وقوله عز وجل:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68(52/164)
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 140
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(52/165)
تلبس الجني بالإنسي واقع ومعلوم
س: يسأل الأخ: س. ح. - من مكة المكرمة: هل تلبس الجني بالإنسي ثابت؟ وما دليل ذلك؟ وما حكم من لم يؤمن بذلك؟ جزاكم الله خيرا.
ج: بسم الله، والحمد لله: تلبس الجني بالإنسي أمر معلوم وواقع، وأدلته كثيرة من الكتاب والسنة، منها قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) الآية، ومنها قوله جل وعلا: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} (2) . أوضح سبحانه في هذه الآية أن نبيه صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن ولا مجنون؛ فدل ذلك على أن الكهانة والجنون موجودان وأن الرسول صلى الله عليه وسلم منزه عنهما. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الطور الآية 29(52/165)
وهكذا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى كثيرة، ومنها: حديث «المرأة التي شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها تصرع وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فقال لها: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك، فقالت: يا رسول الله، إني أتكشف، فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها عليه الصلاة والسلام (1) » . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (2) » متفق على صحته.
وبهذا يعلم أنه لا يجوز إنكار تلبس الجني بالإنسي؛ لأن ذلك مكابرة للواقع ومخالفة للأدلة الشرعية، ولكن كثيرا من الناس قد يصاب بصرع من غير جن، لأمراض تصيبه في رأسه أو غيره، فيظن هو أو غيره أنه مجنون وليس بمجنون، وقد نبه على ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله وغيره، وقد شاهدنا ذلك من بعض الناس، وعولج بالكي في رأسه فزال عنه ما أصابه من الخلل في عقله، والواقع من ذلك كثير. نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) صحيح البخاري المرضى (5652) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2576) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(52/166)
علاج الوساوس التي تنتاب بعض الأشخاص
س: بعض الأشخاص تنتابه وساوس في أشياء عظيمة، كأن يشطح به تفكيره إلى كيفية الله وفي كيفية صفاته، حتى ليخيل إليه صور وأوهام وخيالات ويتشعب به التفكير، أفيدونا جزاكم الله خيرا عن علاج هذه الوساوس.
ج: بسم الله، والحمد لله: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لا يزال يوسوس للإنسان حتى يرد عليه من الوساوس(52/166)
الخبيثة حتى يقول: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ قال: «فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسله ولينته (1) » .
فإذا جاءت الوساوس من جهة الله فليقل: آمنت بالله ورسله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم ينتهي. فلا يستسلم لهذه الوساوس، بل يحاربها ثم لا يخوض في ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4721) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .(52/167)
عدم جواز التساهل في الوقاية
بهدف الموت في بلاد الحرمين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين الحجاج وغيرهم، وفق الله الجميع لما فيه رضاه وسلك بنا جميعا صراطه المستقيم. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد ذكر لي غير واحد من المسلمين أن كثيرا من الحجاج الوافدين إلى الحرمين الشريفين يعرض نفسه لأسباب الموت رغبة منه في أن يموت في بلاد الحرمين، وذلك بالتساهل في أسباب الوقاية، كتعمد البقاء في الشمس الحارة، والتعرض لأخطار السيارات، وغير ذلك من أنواع الخطر على الحياة؛ ولذلك فإني أنصح إخواني الحجاج وغيرهم بالحذر من هذا التساهل، والبعد عن أسباب الخطر حسب الطاقة؛ لقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) ، وقوله سبحانه:
__________
(1) سورة النساء الآية 29(52/167)
{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة (2) » . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وإنما المقصود التنبيه والتحذير. وفق الله الجميع لما يرضيه، ورزقنا وجميع المسلمين الفقه في دينه والثبات عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) صحيح البخاري الأدب (6047) ، صحيح مسلم الإيمان (110) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3770) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3257) .(52/168)
الدلائل البينات
فيما لم يثبت فيه نهي من الأوقات
د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(52/169)
أما بعد:
فإن الصلاة هي أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه جل وعلا، وقد ندب المسلم إلى الاستكثار منها؛ فقد ثبت عن معدان بن طلحة رحمه الله قال: «لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، قال معدان: فلقيت أبا الدرداء، فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان (1) » . رواه مسلم.
وثبت عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: «كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: " سلني "، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: " أو غير ذلك " قلت: هو ذاك. قال: " فأعني على نفسك بكثرة السجود (2) » رواه مسلم.
فينبغي للمسلم أن يستكثر من نوافل الصلاة فهي مكملات للفرائض، فقد ثبت عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الصلاة باب فضل السجود والحث عليه (صحيح مسلم مع شرحه للنووي 4 \ 205، 206)
(2) صحيح مسلم، كتاب الصلاة باب فضل السجود والحث عليه. والمراد بالسجود في هذين الحديثين الصلاة. ينظر شرح صحيح مسلم للنووي 4 \ 206، التلخيص الحبير كتاب الصلاة باب سجود التلاوة والشكر 2 \ 12(52/170)
أنه قال: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن كان أكملها كتبت له كاملة، وإن لم يكن أكملها قال للملائكة: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع، فأكملوا بها ما ضيع من فريضة، ثم الزكاة، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك (1) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده 4 \ 103، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه '' 1 \ 229، حديث (866) ، وابن ماجه في سننه في الصلاة باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد 1 \ 458، حديث (1426) ، والدارمي في سننه في الصلاة باب أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة 1 \ 361، حديث (1355) من طرق عن حماد بن سلمه، عن داود بن أبي هند، عن زرارة بن أوفى، عن تميم الداري. . . فذكره. وإسناده حسن، رجاله ثقات، لكن حماد بن سلمة تغير بآخره، وهو من رجال مسلم، وداود بن أبي هند كان يهم بآخره، وهو من رجال مسلم أيضا. وصححه الشيخ محمد ناصر الدين في صحيح سنن ابن ماجه 1 \ 241. ورواه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان ص 37، رقم (112، 113) عن يزيد بن هارون، وعن هشيم، كلاهما عن داود بن أبي هند به موقوفا على تميم الداري. وإسناده حسن كسابقه. وهذه الرواية لها حكم الرفع؛ لأن ما ذكر فيها لا يقال بالرأي، فهي تؤيد الرواية السابقة. ورواه الإمام أحمد في مسنده 2 \ 290، 450، والترمذي في سننه في الصلاة باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة 2 \ 269، 270، رقم (413) ، وأبو داود في الموضع السابق، رقم (864) وابن ماجه في الموضع السابق، رقم (1425) من طريقين يقوي أحدهما الآخر عن أنس بن حكيم الضبي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. وإسناده ضعيف، أنس بن حكيم '' مستور '' كما في التقريب، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين في صحيح سنن الترمذي 1 \ 130، رقم (337) . ورواه أبو يعلى في مسنده 7 \ 56، 57، رقم (3976) من طريق أشعث بن سوار، عن سلمة بن كهيل التنعي، عن عامر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا، وإسناده ضعيف، أشعث بن سوار '' ضعيف '' كما في التقريب. ورواه أيضا أبو يعلى في مسنده 7 \ 153، 154، (4124) من طريق يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا. وإسناده ضعيف، يزيد الرقاشي '' زاهد، ضعيف '' كما في التقريب. وينظر مجمع الزوائد باب فرض الصلاة 1 \ 288.(52/171)
ولا يجوز منع المسلم من التقرب إلى ربه تعالى بهذه النوافل في وقت من الأوقات سوى الأوقات التي وردت النصوص الشرعية بالنهي عن الصلاة فيها. وقد وردت نصوص شرعية كثيرة بالمنع من الصلاة في خمسة أوقات، هي:
1 - من الفجر إلى طلوع الشمس.
2 - من طلوع الشمس إلى ارتفاعها قيد رمح.
3 - وقت زوال الشمس.
4 - من صلاة العصر إلى شروع الشمس في الغروب.
5 - وقت الغروب.
وذكر بعض الفقهاء أن هناك أوقاتا أخرى ينهى عن الصلاة فيها غير الأوقات السابقة، وهذه الأوقات هي:(52/172)
1 - من غروب الشمس إلى صلاة المغرب.
2 - ما قبل صلاة العيد وما بعدها.
3 - ما بعد صلاة الجمعة.
وسأتكلم عن كل وقت من هذه الأوقات في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى، وسأذكر إن شاء الله في كل مبحث أقوال أهل العلم في كل وقت من هذه الأوقات، وأدلة كل قول، ثم أبين الراجح منها، ليعرف المسلم الأوقات التي يشرع له أن يتقرب إلى الله بالنوافل فيها، والأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(52/173)
المبحث الأول: ما بين غروب الشمس وصلاة المغرب:
اختلف أهل العلم في هذا الوقت، هل هو وقت نهي أم لا، على قولين:
القول الأول:
أن هذا الوقت ليس وقت نهي، وأنه يشرع في هذا الوقت صلاة ركعتين. وهذا مذهب أصحاب الحديث (1) ، وهو قول في مذهب المالكية (2) ، ووجه في مذهب الشافعية (3) ، وعزاه أبو محمد بن حزم للجمهور (4) .
وظاهر كلام الإمام أحمد أن الركعتين قبل المغرب جائزتان، وليستا سنة، قال الأثرم: " قلت لأبي عبد الله: الركعتان قبل المغرب؟ قال: ما فعلته قط إلا مرة، حين سمعت الحديث، وقال: فيهما أحاديث جياد، أو قال: صحاح، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، إلا أنه قال: [لمن شاء] (5) ، فمن شاء صلى، وقال: هذا شيء ينكره الناس، وضحك كالمتعجب، وقال: هذا عندهم عظيم " اهـ.
__________
(1) فتح الباري، كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة 2 \ 108.
(2) مواهب الجليل 1 \ 417.
(3) طرح التثريب 2 \ 189.
(4) المحلى كتاب الصلاة: أقسام التطوع، فصل في الركعتين قبل المغرب 2 \ 256، والمسألة (283) .
(5) سيأتي تخريجه قريبا من حديث عبد الله المزني(52/174)
وقال الإمام ابن القيم بعد ذكره لحديث عبد الله بن مغفل المزني: «صلوا قبل صلاة المغرب، صلوا قبل صلاة المغرب " قال في الثالثة: " لمن شاء (1) » كراهة أن يتخذها الناس سنة (2) ، قال رحمه الله: " وهذا هو الصواب في هاتين الركعتين، أنهما مستحبتان مندوب إليهما، وليستا بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب " (3) .
القول الثاني:
أن هذا الوقت وقت نهي. وبهذا قال الإمام الشافعي (4) ، وهو مذهب الحنفية (5) ، وهو المشهور في مذهب المالكية (6) ، ووجه في مذهب الشافعية (7) .
وروى الميموني عن الإمام أحمد أنه قال عن الركعتين قبل المغرب: " ما فعلته قط، إلا مرة فلم أر الناس عليه، فتركتها " (8) .
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب المالكي:
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1183) ، سنن أبو داود الصلاة (1281) ، مسند أحمد بن حنبل (5/55) .
(2) رواه البخاري في التهجد باب الصلاة قبل المغرب 3 \ 59، حديث (1183) .
(3) زاد المعاد، فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب 1 \ 312.
(4) فتح الباري 2 \ 108.
(5) الهداية مع شرحه البناية 2 \ 78، المختار مع شرحه الاختيار1 \ 41، العناية على فتح القدير 1 \ 237.
(6) مختصر خليل مع شرحه للزرقاني 1 \ 152، الخرشي على مختصر خليل 1 \ 224.
(7) طرح التثريب 2 \ 189.
(8) بدائع الفوائد: مسائل فقهية عن الإمام أحمد 4 \ 115.(52/175)
" قال ابن رشد في كتاب الجامع من البيان: لا خلاف بين أهل العلم في أن الصلاة قد حلت بغروب الشمس، إلا أن صلاة المغرب قد وجبت بغروب الشمس، فلا ينبغي لأحد أن يصلي نافلة قبل صلاة المغرب؛ لأن تعجيل صلاة المغرب في أول وقتها أفضل عند من رأى وقت الاختيار لها يتسع إلى مغيب الشفق، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، وقد قيل: إنه ليس لها إلا وقت واحد، فلا يجوز أن تؤخر عنه إلا لعذر. واختلف فيمن كان في المسجد منتظرا للصلاة هل له أن يتنفل فيما بين الأذان والإقامة، فقيل: له ذلك، على ما حكاه مالك في هذه الرواية عن بعض من أدرك، وقيل: ليس له ذلك، وهو مذهب مالك على ما رواه ابن القاسم عنه في هذه الرواية، وما ذهب إليه مالك من كراهة ذلك أظهر " (1) .
وقد احتج أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين كل أذانين صلاة لمن شاء إلا المغرب (2) » .
__________
(1) مواهب الجليل 1 \ 417، 418
(2) رواه البزار في مسنده (كما في كشف الأستار: أبواب صلاة التطوع، باب بين كل أذانين صلاة 1 \ 334، حديث 693) ، والطبراني في الأوسط (كما في مجمع الزوائد باب صلاة التطوع 2 \ 256، حديث 1032) ، والدارقطني في سننه في كتاب الصلاة باب الحث على الركوع بين الأذانين في كل صلاة 1 \ 264، 265، والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصلاة باب من جعل قبل صلاة المغرب ركعتين 2 \ 474، وابن حزم في المحلى في كتاب الصلاة، فصل في الركعتين قبل صلاة المغرب 2 \ 252، 253، المسألة (283) من طرق عن حيان بن عبيد الله، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . فذكره، وإسناده ضعيف، حيان بن عبيد الله- وهو أبو زهير البصري- ضعيف من قبل حفظه، وقيل: إنه اختلط، ينظر الضعفاء الكبير للعقيلي 1 \ 319، ميزان الاعتدال 1 \ 623، لسان الميزان2 \ 370. قال الدارقطني بعد روايته لهذا الحديث: '' حيان بن عبيد الله ليس بقوي ''. وروى البيهقي بإسناده بعد روايته لهذا الحديث عن الحافظ أبي بكر بن خزيمة أنه قال على إثر هذا الحديث: '' حيان بن عبيد الله هذا قد أخطأ في الإسناد، لأن كهمس بن الحسن، وسعيد بن إياس الجريري، وعبد المؤمن العتكي رووا الخبر عن ابن بريدة، عن عبد الله بن مغفل، لا عن أبيه، هذا علمي من الجنس الذي كان الشافعي رحمه الله يقول: (أخذ طريق المجرة) فهذا الشيخ لما رأى أخبار ابن بريدة عن أبيه توهم أن هذا الخبر هو أيضا عن أبيه، ولعله لما رأى العامة لا تصلي قبل المغرب توهم أنه لا يصلى قبل المغرب، فزاد هذه الكلمة في الخبر، وزاد علما بأن هذه الرواية خطأ أن ابن المبارك قال في حديثه عن كهمس: فكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين، فلو كان ابن بريدة قد سمع من أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاستثناء الذي زاد حيان بن عبيد الله في الخبر: (ما خلا صلاة المغرب) لم يكن يخالف خبر النبي صلى الله عليه وسلم '' اهـ. وقال البيهقي في المعرفة في باب صلاة التطوع: النوافل المرتبة على الصلوات الخمس 4 \ 9 بعد روايته لهذا الحديث عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل بدون هذه الزيادة، قال: '' ورواه حيان بن عبيد الله، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه: (ما خلا المغرب) وهذا فيه خطأ في الإسناد والمتن جميعا، وكيف يكون ذلك صحيحا، وفي رواية عبد الله بن المبارك عن كهمس في هذا الحديث، قال: فكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين ''. وقد جزم بضعف هذه الرواية الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير باب صلاة التطوع 2 \ 13، حديث (506) ، والشيخ محمد ناصر الدين في ضعيف الجامع الصغير 3 \ 16، وينظر الفتح 2 \ 108.(52/176)
صفحة فارغة(52/177)
الدليل الثاني: أن التنفل بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب يؤدي إلى تأخير صلاة المغرب، وهو مكروه، وما يؤدي إلى المكروه مكروه (1) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأنه لا يسلم أن تأخير صلاة المغرب مقدار صلاة ركعتين أو أربع ركعات مكروه، لأن هذا وقت يسير، وليس فيه تأخير للصلاة عن أول وقتها.
وأيضا فإن صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل المغرب وصلاة الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل المغرب يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر صلاة المغرب يسيرا، ويدل على ذلك أيضا أمره صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين قبل المغرب، وستأتي هذه الأحاديث ضمن أدلة القول الأول.
وعلى فرض أن تأخير صلاة المغرب هذا الوقت اليسير مكروه، فإن هذا لا يكون دليلا للقول بكراهية الصلاة في هذا الوقت في حق من ينتظر إقامة الصلاة ومن في حكمه.
هذا إن كان مرادهم بالكراهة كراهة التنزيه، أما إن كان مرادهم كراهة التحريم فلا يسلم لهم أن تأخير صلاة المغرب إلى ما قبل غياب الشفق محرم؛ لما روى مسلم في صحيحه عن
__________
(1) الهداية مع شرحها البناية 2 \ 78، الاختيار لتعليل المختار 1 \ 41.(52/178)
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات، فقال:. . . فذكر الحديث بطوله، وفيه: ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس، ما لم يسقط الشفق (1) » ، ولما روى مسلم أيضا من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئا. . . ثم ذكر الحديث بطوله، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن تقام صلاة المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس، وأنه صلى الله عليه وسلم أخر المغرب في اليوم التالي حتى كان عند سقوط الشفق، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم دعا السائل، فقال: " الوقت بين هذين (2) » ، ففي هذين الحديثين دلالة على أن تأخير المغرب إلى ما قبل غياب الشفق جائز، وليس بمحرم.
وقد أجاب الإمام النووي عن دليلهم هذا بقوله: " وأما قولهم: يؤدي إلى تأخير المغرب، فهذا خيال منابذ للسنة، فلا يلتفت إليه، ومع هذا فهو زمن يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها " (3) .
الدليل الثالث: ما رواه إبراهيم النخعي رحمه الله قال: " لم يصل أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان الركعتين قبل المغرب ".
__________
(1) صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس 5 \ 113.
(2) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس 5 \ 114، 116.
(3) شرح صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب 6 \ 124.(52/179)
وقد أجيب عن هذا الدليل بأن هذه الرواية ضعيفة لانقطاعها، وعلى فرض ثبوتها فليس فيها ما يدل على الكراهة، لأن ترك هاتين الركعتين كان مباحا (1) .
الدليل الرابع: ما رواه طاوس رحمه الله قال: «سئل ابن عمر عن الصلاة قبل المغرب، فقال: " ما رأيت أحدا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما " ورخص في الركعتين بعد العصر (2) » .
الدليل الخامس: ما روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: " ما رأيت فقيها يصلي قبل المغرب، إلا سعد بن أبي وقاص ".
وقد أجيب عن قول ابن عمر رضي الله عنهما، وعن قول سعيد بن المسيب إن ثبت عنه بأن ما جهلاه قد علمه غيرهما،
__________
(1) مختصر قيام الليل ص 111، فتح الباري 2 \ 108.
(2) رواه أبو داود في سننه في الصلاة باب الصلاة قبل المغرب 2 \ 26، رقم (1284) ومن طريقه البيهقي في سننه الكبرى 2 \ 476، 477 عن ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن طاوس. . . فذكره. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا أبي شعيب ـ ويقال: شعيب وهو بياع الطيالسة ـ فهو '' لا بأس به '' كما في التقريب.(52/180)
كما سيأتي ضمن أدلة القول الأول، والمثبت مقدم على النافي (1) .
وأيضا روي عن ابن المسيب خلاف هذه الرواية وأصح منها، كما سيأتي ضمن أدلة القول الأول.
وقد استدل أصحاب القول الأول- وهم القائلون بأن ما بعد غروب الشمس إلى صلاة المغرب ليس وقت نهي- بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا قبل المغرب- قال في الثالثة- لمن شاء (2) » كراهية أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري.
الدليل الثاني: ما رواه مختار بن فلفل رحمه الله قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن التطوع بعد العصر؟ فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر، «وكنا نصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب. فقلت له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما. فلم يأمرنا ولم ينهنا (3) » . رواه مسلم.
الدليل الثالث: ما رواه عمرو بن عامر الأنصاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي
__________
(1) سنن البيهقي 2 \ 477، فتح الباري 2 \ 108.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التهجد، باب الصلاة قبل المغرب 3 \ 59، حديث (1183) .
(3) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب 1 \ 573، حديث (836) .(52/181)
صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء (1) » . رواه البخاري.
الدليل الرابع: ما رواه عبد العزيز بن صهيب رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما. رواه مسلم (2) . قال أبو محمد بن حزم بعد ذكره لهذه الرواية: " فهذا عموم للصحابة رضي الله عنهم " (3) .
الدليل الخامس: ما رواه عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال: " صلوا قبل المغرب ركعتين "، ثم قال عند الثالثة: " لمن شاء (4) » خاف أن يحسبها الناس سنة.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة 2 \ 106 حديث (625) من طريق غندر عن شعبة عن عمرو بن عامر به. ثم قال البخاري: قال عثمان بن جبلة، وأبو داود عن شعبة: '' لم يكن بينهما إلا قليل ''.
(2) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب 1 \ 573، حديث (837) .
(3) المحلى 4 \ 256.
(4) رواه المروزي في قيام الليل (كما في مختصره للمقريزي باب الركعتين قبل المغرب ص 112، رقم 42) ، وابن حبان في صحيحه (كما في ترتيب ابن بلبان كتاب الصلاة، فصل في الأوقات المنهي عنها 4 \ 457، حديث (1588) عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا أبي، حدثنا أبي، حدثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، أن عبد الله المزني حدثه. . . فذكره. وإسناده حسن، رجاله ثقات، رجال الشيخين، عدا عبد الوارث بن عبد الصمد، وأبيه، فهما '' صدوقان '' كما في التقريب، وهما من رجال مسلم. وليس في مختصر المروزي قوله: '' حدثنا أبي '' الثانية، ولعلها سقطت عند الطبع. وقال المقريزي في مختصره والأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: '' صحيح على شرط مسلم ''.(52/182)
الدليل السادس: ما رواه مرثد بن عبد الله اليزني، قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني، فقلت: «ألا أعجبك من أبي تميم، يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل (1) » . رواه البخاري. وقد ادعى بعض الفقهاء أن هذه الأدلة منسوخة بالندب للتبكير لصلاة المغرب (2) .
وتعقب الإمام النووي هذه الدعوى بقوله: " وأما من زعم النسخ فهو مجازف؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الأحاديث وعلمنا التاريخ، وليس هنا شيء من ذلك " (3) .
الدليل السابع: ما رواه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين كل أذانين صلاة (4) - ثلاثا- لمن
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التهجد، باب الصلاة قبل المغرب 3 \ 59، حديث (1184) .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 6 \ 123، 124، فتح الباري 2 \ 108.
(3) شرح صحيح مسلم 6 \ 124، وينظر الفتح 2 \ 108.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة 2 \ 106. رقم (624) .(52/183)
شاء» . رواه البخاري.
الدليل الثامن: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب. رواه البخاري (1) .
وأخرج هذه الرواية عبد الرزاق بلفظ: لقد رأيت اللباب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نودي بالمغرب ابتدروا السواري، ليصلوا ركعتين قبل المغرب (2) .
الدليل التاسع: ما رواه الزهري، عن ابن المسيب رحمه الله قال: كان المهاجرون لا يركعون الركعتين قبل المغرب، وكانت الأنصار تركع بهما، قال الزهري: وكان أنس يركعهما.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى الأسطوانة 1 \ 577، رقم (503) .
(2) مصنف عبد الرزاق، باب الركعتين قبل المغرب 2 \ 435، رقم (3986) وإسناده صحيح، على شرط البخاري.(52/184)
الدليل العاشر: ما روي عن ابن أبي ليلى رحمه الله قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون عند كل تأذين.
الدليل الحادي عشر: ما رواه محمد بن نصر وغيره بأسانيد قوية عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون على صلاة ركعتين قبل المغرب.
وما رواه ابن نصر وغيره بأسانيد متعددة عن جماعة من التابعين أنهم صلوا هاتين الركعتين (1) .
__________
(1) تنظر المراجع المذكورة في التعليق السابق.(52/185)
قالوا: فهذا يدل على استمرار العمل بصلاة هاتين الركعتين في عصر الصحابة والتابعين (1) .
الترجيح: بالنظر في أدلة القولين السابقين تبين رجحان القول الأول، وهو القول بأن هذا الوقت ليس وقت نهي، وأنه يستحب صلاة ركعتين بعد غروب الشمس، وقبل صلاة المغرب لقوة أدلته ولضعف أدلة القول الثاني. والله أعلم.
__________
(1) ينظر فتح الباري 2 \ 108.(52/186)
المبحث الثاني: ما قبل صلاة العيد وما بعدها:
اختلف أهل العلم في هذا الوقت على أقوال كثيرة، أهمها:
القول الأول: أنه تجوز صلاة النافلة قبل صلاة العيد إذا كان قد خرج وقت النهي في سائر الأيام، وذلك بطلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، وكذلك تجوز الصلاة بعد العيد.
وهذا قول الإمام الشافعي، وأصحابه، قالوا: هذا في حق المأموم، ويكون من باب النوافل المطلقة، لا على أن ذلك تنفل لصلاة العيد، لأنه ليس للعيد سنة قبله ولا بعده، أما الإمام فيكره له التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في المصلى، لأنه لو صلى فيه لأوهم أنها سنة، وهي ليست كذلك (1) .
وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه وعن الحسن البصري
__________
(1) المجموع، باب صلاة العيدين 5 \ 12، حلية العلماء، باب صلاة العيدين 2 \ 302.(52/186)
وأخيه سعيد وأبي الشعثاء أنهم صلوا قبل صلاة العيد، وروي ذلك عن أبي هريرة، وأبي برزة، وابن عباس، وبريدة بن الحصيب، ورافع بن خديج، وبنيه رضي الله عنهم (1) .
وثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى بعد صلاة العيد (2) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: " ولا أرى بأسا أن يتنفل المأموم قبل صلاة العيد وبعدها، في بيته وفي المسجد وطريقه والمصلى وحيث أمكنه أن يتنفل، إذا حلت صلاة النافلة، بأن تبرز الشمس، وقد تنفل قوم قبل صلاة العيد وبعدها، وآخرون قبلها ولم يتنفلوا بعدها، وآخرون بعدها ولم يتنفلوا قبلها، وآخرون تركوا التنفل قبلها وبعدها، وهذا كما يكون في كل يوم يتنفلون ولا يتنفلون، ويتنفلون فيقلون ويكثرون، ويتنفلون قبل المكتوبات وبعدها، وقبلها ولا يتنفلون بعدها، ويدعون التنفل قبلها وبعدها، لأن كل هذا مباح، وكثرة الصلوات على كل حال أحب إلينا، وجميع النوافل في البيت أحب إلي منها ظاهرا إلا في يوم الجمعة " (3) .
ورجح هذا القول شيخنا، سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي المملكة في بعض دروسه العلمية.
__________
(1) سيأتي تخريج هذه الآثار ضمن أدلة هذا القول، وينظر الأوسط 4 \ 267.
(2) سيأتي تخريج هذا الأثر ضمن أدلة القول الثالث. وينظر الأوسط 4 \ 267.
(3) الأم، كتاب صلاة العيدين: الصلاة قبل العيد وبعده 1 \ 234.(52/187)
القول الثاني: أنه تكره الصلاة في المصلى قبل صلاة العيد وبعدها، ولا بأس بذلك في غير المصلى. هذا قول الإمام مالك، وهو قول أكثر الحنابلة، قال شمس الدين بن مفلح الحنبلي: " هذا المذهب "، وصرح بعض الحنابلة بتحريم الصلاة قبل العيد وبعده في المصلى (1) ، واستثنى بعضهم تحية المسجد (2) .
وقال إسحاق بن راهويه: " الفطر والأضحى ليس قبلهما صلاة، ويصلي بعدهما أربع ركعات يفصل بينهن، إذا رجع إلى بيته، ولا يصلي في الجبان أصلا " (3) .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها (4) » ورأيته (5)
__________
(1) الإنصاف 2 \ 431.
(2) الفروع 2 \ 143.
(3) الأوسط، كتاب العيدين 4 \ 270.
(4) صحيح البخاري الجمعة (964) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (884) .
(5) هذا من قول عبد الله بن أحمد، أي أنه رأى أباه.(52/188)
يصلي بعدها ركعات في البيت، وربما صلاها في الطريق، يدخل بعض المساجد (1) .
القول الثالث: أن ما قبل صلاة العيد وقت نهي، أما ما بعدها فلا نهي فيه. وهذا مذهب الحنفية.
وثبت عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما النهي عن الصلاة قبل العيد، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى ركعتين بعد صلاة العيد (2) .
القول الرابع: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها (3) .
وكان عبد الله بن عمر وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما لا يصليان قبل العيد ولا بعده، وروي ذلك عن جابر بن عبد الله وابن أبي أوفى رضي الله عنهم.
وثبت عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه قال في يوم عيد: " إنه لا صلاة في يومكم هذا حتى يخرج الإمام ".
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه
__________
(1) المغني 3 \ 282، 283.
(2) سيأتي تخريج ما روي عنهما في ذلك قريبا.
(3) الأوسط 4 \ 265.(52/189)
قال: " ليست قبله، ولا بعده صلاة " (1) .
القول الخامس: أنه لا يصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها حتى تزول الشمس. قال شمس الدين بن مفلح الحنبلي: " وفي النصيحة: لا ينبغي أن يصلي قبلها ولا بعدها حتى تزول الشمس، لا في بيته ولا في طريقه، اتباعا للسنة والجماعة من الصحابة، وهو قول أحمد. كذا قال " (2) اهـ.
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما يلي:
الدليل الأول: ما روي عن الشعبي رحمه الله أنه سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: " لا صلاة قبل الأضحى ولا بعدها، ولا قبل صلاة الفطر ولا بعدها حتى تزيغ الشمس ".
الدليل الثاني: ما رواه نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يصلي قبل الصلاة ولا بعدها حتى تزول الشمس.
__________
(1) الأوسط 4 \ 265، وسيأتي تخريج هذه الآثار كلها قريبا إن شاء الله تعالى.
(2) الفروع 2 \ 143، وينظر الإنصاف 2 \ 432.(52/190)
الدليل الثالث: ما رواه عبد الملك بن كعب بن عجرة رحمه الله قال: شهدت مع كعب أحد العيدين، قال: فلما انصرف الناس ذهب أكثرهم إلى المسجد، ورأيته يعمد إلى البيت، قلت: يا أبت ألا تعمد إلى المسجد، فإني أرى الناس يعمدون إليه؟ قال: إن كثيرا مما ترى جفاء وقلة علم، إن هاتين الركعتين سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك.
ويمكن أن يجاب عن هذه الأدلة بأن الدليلين الأول والثالث إسناداهما ضعيفان، فلا يحتج بهما، أما الرواية عن ابن عمر رضي الله عنهما فليس فيها إلا مجرد تركه للصلاة في هذا الوقت، وهذا ليس فيه نهي.
وقد استدل أصحاب القول الرابع- وهم القائلون بأن ما قبل صلاة العيد وما بعدها وقت نهي- بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها ولا(52/191)
بعدها (1) » . متفق عليه.
الدليل الثاني: ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة قبل الخطبة في العيدين. . . قال: ولم يصل قبل الصلاة ولا بعدها (2) » .
الدليل الثالث: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه خرج فصلى بهم العيد، لم يصل قبلها ولا بعدها (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد 2 \ 453، حديث (964) ، وصحيح مسلم مع شرحه للنووي، كتاب صلاة العيدين 6 \ 180، 181.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده 3 \ 314 قال حدثنا أبو معاوية، ثنا عبد الملك، عن عطاء عن جابر. . . فذكره. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا عبد الملك- وهو ابن أبي سليمان العرزمي- '' فهو صدوق، له أوهام '' كما في التقريب. وقال الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 3 \ 99، حديث (631) : '' صحيح على شرط مسلم ''.
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده 10 \ 165، حديث (6688) (تحقيق أحمد شاكر) ، ومن طريقه ابنه عبد الله في مسائله ص 127، وابن ماجه 1 \ 410، رقم (1292) ، وابن الجارود في المنتقى 1 \ 229، رقم (262) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، قال سمعت عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. . . فذكره. وإسناده فيه ضعف يسير، من أجل الطائفي، قال في التقريب: '' صدوق يخطئ ويهم ''، فيتقوى بالأحاديث قبله. وقد صححه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، والبخاري، ينظر التلخيص الحبير، كتاب صلاة العيدين 2 \ 84، الحديث (691) ، وينظر جنة المرتاب ص 301، 302.(52/192)
الدليل الرابع: ما رواه أبو بكر بن حفص عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه خرج يوم عيد، فلم يصل قبلها ولا بعدها، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
الدليل الخامس: ما رواه الوليد بن سريع، مولى عمرو بن حريث، قال: «خرجنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في يوم عيد فسأله قوم من أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تقول في الصلاة يوم العيد قبل الإمام وبعد؟ فلم يرد عليهم شيئا، ثم جاء قوم فسألوه كما سألوه الذين كانوا قبلهم، فما رد عليهم، فلما انتهينا إلى الصلاة فصلى بالناس فكبر سبعا وخمسا، ثم خطب الناس، ثم نزل فركب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قوم يصلون، قال: " فما عسيت أن أمنع، سألتموني عن السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها، فمن شاء فعل(52/193)
ومن شاء ترك، أترون أمنع قوما يصلون، فأكون بمنزلة من منع عبدا إن صلى (2) » .
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الذي يجب على الناس التأسي به إلا فيما دل الدليل على أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، فيجب الاقتداء به في ترك الصلاة في هذا الوقت.
وأيضا فإن في تركه صلى الله عليه وسلم للصلاة في هذا الوقت مع حرصه على الصلاة، وفي رواية جماعة من أصحابه لهذا الفعل عنه صلى الله عليه وسلم وعملهم به دلالة على أن هذا الوقت وقت نهي.
__________
(1) رواه البزار كما في كشف الأستار، أبواب صلاة العيدين، باب لا يصلي قبل العيد ولا بعدها 1 \ 313، حديث (654) قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد الجوهري، ثنا إبراهيم بن محمد بن النعمان الجعفي أبو إسحاق، قال: سمعت الربيع بن سعيد الجعفي، ثنا الوليد بن سريع. . . فذكره. وإسناده ضعيف، الربيع بن سعيد لم يوثقه سوى ابن حبان، وقال الذهبي في الميزان 2 \ 40: '' لا يكاد يعرف '' وينظر لسان الميزان 2 \ 445. وقال العراقي كما في نيل الأوطار 3 \ 371: '' في إسناده إبراهيم بن محمد بن النعمان الجعفي لم أقف على حاله، وباقي رجاله ثقات '' اهـ. وقال في المجمع في باب الصلاة قبل العيد وبعدها 2 \ 203: '' فيه من لم أعرفه ''.
(2) في المجمع 2 \ 203، ونيل الأوطار 3 \ 371: '' إذا ''. (1)(52/194)
قال الموفق ابن قدامة: " قال الأثرم: قلت لأحمد: قال سليمان بن حرب: إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التطوع لأنه كان إماما.
قال أحمد: فالذين رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوعوا. ثم قال: ابن عمر وابن عباس هما راوياه، وأخذا به. يشير- والله أعلم- إلى أن عمل راوي الحديث به تفسير له، وتفسيره يقدم على تفسير غيره، ولو كانت الكراهة للإمام كي لا يشتغل عن الصلاة لاختصت بما قبل الصلاة إن لم يبق بعدها ما يشتغل به " (1) .
وقد أجيب عن الاستدلال بهذه الأحاديث بجوابين:
الأول: أن ما استدل به مجرد فعل، والفعل لا يدل على النهي.
قال الحافظ أبو بكر بن المنذر: " وليس في ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي قبلها وبعدها دليل على كراهية الصلاة في ذلك الوقت " (2) .
الثاني: أن الإمام ليس كغيره، لأنه يخرج للصلاة والخطبة، فلا يجلس قبلهما، فلا يصح الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة على ما يتعلق بالمأمومين.
وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن الإمام لا يتنفل في المصلى (3) ، بخلاف المأموم فالخلاف فيه مشهور، فهذا يدل على
__________
(1) المغني 3 \ 282.
(2) الأوسط 4 \ 270.
(3) فتح الباري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد 2 \ 476.(52/195)
أن أحكام الإمام تختلف عن أحكام المأمومين.
قال الإمام الشافعي رحمه الله عند كلامه على وقت الغدو للعيدين: " والإمام في ذلك في غير حال الناس. أما الناس فأحب أن يتقدموا حين ينصرفون عن الصبح ليأخذوا مجالسهم ولينتظروا الصلاة؟ فيكونوا في أجرها إن شاء الله تعالى ما داموا ينتظرونها، وأما الإمام فإنه إذا غدا لم يجعل وجهه إلا إلى المصلى فيصلي " (1) .
وقال أيضا عند كلامه على الصلاة قبل العيد وبعده بعد روايته لعدم صلاته صلى الله عليه وسلم قبل العيد وبعده: " وهكذا أحب للإمام؛ لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أمرنا به أن يغدو من منزله قبل أن تحل صلاة النافلة، ونأمره إذا جاء المصلى أن يبدأ بصلاة العيد، ونأمره إذا خطب أن ينصرف، وأما المأموم فمخالف للإمام، لا نأمر المأموم بالنافلة قبل الجمعة وبعدها، ونأمر الإمام أن يبدأ الخطبة ثم الجمعة لا يتنفل، ونحب له أن ينصرف، حتى تكون نافلته في بيته، وأن المأموم خلاف الإمام " (2) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند كلامه على حديث ابن عباس السابق: " وأما الحديث فليس فيه ما يدل على المواظبة، فيحتمل اختصاصه بالإمام، دون المأموم، أو بالمصلى دون البيت " (3) .
__________
(1) الأم، كتاب العيدين: وقت الغدو للعيدين 1 \ 232.
(2) الأم، كتاب العيدين: الصلاة قبل العيد وبعده 1 \ 234.
(3) فتح الباري 2 \ 476.(52/196)
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: " وقد أجاب القائلون بعدم كراهة الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها عن أحاديث الباب- بأجوبة، منها: جواب الشافعي المتقدم، ومنها: ما قاله العراقي في شرح الترمذي من أنه ليس فيها نهي عن الصلاة في هذه الأوقات، ولكن لما كان صلى الله عليه وآله وسلم يتأخر مجيئه إلى الوقت الذي يصلي بهم فيه ويرجع عقب الخطبة، روى عنه من روى من أصحابه أنه كان لا يصلي قبلها ولا بعدها. ولا يلزم من تركه لذلك لاشتغاله بما هو مشروع في حقه من التأخر إلى وقت الصلاة، أن غيره لا يشرع ذلك له ولا يستحب، فقد روى عنه غير واحد من الصحابة أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يصلي الضحى وصح ذلك عنهم، وكذلك لم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى سنة الجمعة قبلها، لأنه إنما كان يؤذن للجمعة بين يديه وهو على المنبر ".
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين: " ولكن هذا لا يدل على الكراهة لغير الإمام، بل لا يدل على الكراهة للإمام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مصلى العيد ليصلي بالناس فصلى بهم، ثم انصرف، كما أنه يوم الجمعة يخرج إلى المسجد ويخطب، ويصلي، وينصرف ويصلي في بيته، فهل يقول أحد: إنه يكره أن يصلي الإنسان في يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة وبعدها؟(52/197)
ما سمعنا أحدا قال بهذا، فكذلك نقول في صلاة العيد، ولا فرق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إمام ينتظر، ولا ينتظر، فجاء فصلى بالناس، ثم انصرف. وكوننا نأخذ الكراهة من مجرد هذا الترك فيه نظر، ولو قالوا: إن السنة أن لا يصلي، لكان أهون من أن يقال: إنه يكره، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل نهي، إذ إن الكراهة لا تثبت إلا بنهي، إما نهي عام مثل: " كل بدعة ضلالة " وإما نهي خاص، ثم إن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة واضح السبب؛ لأنه إمام منتظر فجاء فصلى وانصرف، لكن نهي المأموم عن التنفل، والقول بكراهته لا يخلو من نظر " (1) .
الدليل السادس: ما رواه ثعلبة بن زهدم، «أن عليا رضي الله عنه استخلف أبا مسعود رضي الله عنه على الناس، فخرج في يوم عيد، فقال: " يا أيها الناس إنه ليس من السنة أن يصلى قبل الإمام (2) » .
__________
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين 5 \ 202، 203.
(2) رواه النسائي في سننه الصغرى (المجتبى) ، كتاب صلاة العيدين: الصلاة قبل الإمام يوم العيد 3 \ 181، 182، قال: أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أنبأنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم. . . فذكره. وإسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الصحيحين، عدا. ثعلبة بن زهدم، وقد اختلف في صحبته، وقد جزم بصحبته أكثر من ألف في الصحابة، وقال العجلي: '' تابعي ثقة ''. ينظر الإصابة 1 \ 200، تاريخ الثقات ص 90، تهذيب التهذيب 2 \ 22، 23. وقال الشيخ محمد بن ناصر الدين في صحيح سنن النسائي 1 \ 242 '' صحيح الإسناد ''، وقال الأرنؤوط في تعليقه على جامع الأصول 6 \ 152: '' إسناده صحيح ''. ورواه الطبراني في الكبير 17 \ 248، رقم (692) قالت: حدثنا عثمان بن عمر الضبي، ثنا عمرو بن مرزوق، نا شعبة، عن أشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، عن أبي مسعود، قال: '' ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد ''. وإسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير عمرو بن مرزوق، فهو من رجال البخاري وحده، وهو '' ثقة له أوهام '' كما في التقريب، وغير عثمان بن عمر الضبي، وقد وثقه الحاكم، فقال: '' ثقة مشهور ''، كما في تاريخ الإسلام للذهبي 21 \ 224، وذكره ابن حبان في الثقات 8 \ 455، وقال: '' روى عنه أصحابنا ''. وقال الهيثمي في المجمع 2 \ 202، والشوكاني في نيل الأوطار 3 \ 371: '' رجاله ثقات ''. وقد رواه ابن أبي شيبة 2 \ 178 من طريق وكيع، عن سفيان، وابن المنذر في الأوسط 4 \ 268، 269، رقم (2141) من طريق أبي الأحوص، كلاهما عن الأشعث عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم الحنظلي، قال: لما خرج علي إلى صفين استعمل أبا مسعود الأنصاري على الناس، فكان يوم عيد، فخرج أبو مسعود، فأتى الجبانة، والناس بين مصل وقاعد، فلما توسطهم، قال: '' أيها الناس إنه لا صلاة في يومكم هذا حتى يخرج الإمام '' وهذا لفظ ابن المنذر، ولفظ ابن أبي شيبة: '' أن أبا مسعود الأنصاري قام في يوم عيد فقال. . . '' فذكره بنحو رواية ابن المنذر. وإسناد ابن أبي شيبة صحيح.(52/198)
الدليل السابع: ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها (1) » .
__________
(1) رواه الفريابي في أحكام العيدين ص 228، 229، رقم (165) قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا مروان عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن شعيب. . . فذكره. وإسناده ضعيف، الطائفي فيه ضعف يسير، وشيخه مروان- وهو الفزاري- ذكره الحافظ ابن حجر في تعريف أهل التقديس ص 110 في الطبقة الثالثة من المدلسين الذين لا يقبل من رواياتهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع، وقد عنعن. وقد عزا الحافظ في التلخيص الحبير 2 \ 84 هذا الحديث للإمام أحمد، ولم أقف عليه في المسند، وذكر ابن قدامة في المغني 2 \ 272، وابن مفلح في الفروع 2 \ 141 أن ابن بطة أخرجه، وذكر في الفروع أنه لا تظهر صحته. ومما يزيد في ضعفه أنه قد روي عن الطائفي من طريق أصح من هذا الطريق موقوفا على عبد الله بن عمرو، كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.(52/199)
الدليل الثامن: ما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في العيدين قبل الإمام (1) » .
الدليل التاسع: ما رواه ابن سيرين وغيره، عن عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان أنهما كانا ينهيان الناس يوم العيد عن الصلاة قبل خروج الإمام.
__________
(1) رواه ابن وهب، كما في المدونة، كتاب الصلاة، الثاني: في صلاة العيدين 1 \ 156 قال: بلغني عن جرير بن عبد الله البجلي. . . فذكره. وإسناده ضعيف، لانقطاعه. وذكر ابن مفلح في الفروع 2 \ 141: أنه لا تظهر صحته.(52/200)
الدليل العاشر: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: " الصلاة قبل العيد: ليس قبله ولا بعده صلاة ".
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأنه يحتمل أن مراد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه ليس للعيد سنة خاصة به قبله ولا بعده.
الدليل الحادي عشر: ما رواه ثعلبة الحنظلي، أن أبا(52/201)
مسعود الأنصاري قام في يوم عيد، فقال: " إنه لا صلاة في هذا اليوم حتى يخرج الإمام " (1) .
الدليل الثاني عشر: ما ثبت عن ابن عمر، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهم أنهما لم يصليا قبل صلاة العيد ولا بعدها.
وروي ذلك عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وابن أبي أوفى رضي الله عنهم.
__________
(1) سبق تخريجه قريبا عند تخريج قول أبي مسعود رضي الله عنه: '' ليس من السنة أن يصلى قبل الإمام ''.(52/202)
الدليل الثالث عشر: ما رواه الزهري رحمه الله قال: لم يبلغني أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح يوم الفطر ولا يوم الأضحى قبل الصلاة ولا بعدها.
وما روي عنه أيضا أنه قال: " ما صلى قبل العيد بدري " (1) . .
وما رواه عامر الشعبي رحمه الله تعالى قال: صليت مع شريح العيد، فلم يصل قبلها ولا بعدها، وأتيت المدينة وهم متوافرون، فما رأيت أحدا من الفقهاء يصلي قبله ولا بعده.
__________
(1) ذكره ابن قدامة في المغني 3 \ 281.(52/203)
وما رواه أبو إسحاق السبيعي رحمه الله قال: سئل علقمة بن قيس عن الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد؟ فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلون قبلها.
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن ما ذكروه من الإجماع غير مسلم، فقد ثبت عن بعض الصحابة أنهم صلوا قبل العيد، وثبت عن بعضهم أنهم صلوا بعدها، وثبت ذلك أيضا عن بعض التابعين، كما سيأتي ضمن أدلة القول الأول والقول الثالث. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: " ويرد دعوى الإجماع ما حكاه الترمذي عن طائفة من أهل العلم من الصحابة وغيرهم أنهم رأوا جواز الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، وروى ذلك العراقي عن أنس بن مالك، وبريدة بن الحصيب، ورافع بن خديج، وسهل بن سعد، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي برزة، قال: وبه قال من التابعين: إبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، والأسود بن يزيد، وجابر، والحسن البصري، وأخوه سعيد بن أبي الحسن، وسعيد بن المسيب، وصفوان بن محرز،(52/204)
وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعروة بن الزبير، وعلقمة، والقاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين، ومكحول، وأبو بردة، ثم ذكر من روى ذلك عن الصحابة المذكورين من أئمة الحديث، قال: وأما أقوال التابعين فرواها ابن أبي شيبة، وبعضها في المعرفة للبيهقي. انتهى. ومما يدل على فساد دعوى ذلك الإجماع: ما رواه ابن المنذر عن أحمد أنه قال: الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا قبلها ولا بعدها ". اهـ (1) .
واستدل أصحاب القول الثالث- وهم القائلون بأن ما قبل صلاة العيد وقت نهي، أما ما بعدها فليس وقت نهي- على النهي عن الصلاة قبل العيد ببعض الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الرابع مما يدل على النهي عن الصلاة في هذا الوقت، واستدلوا على عدم النهي عن الصلاة بعد العيد بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين (2) » .
__________
(1) نيل الأوطار، كتاب العيدين، باب لا صلاة قبل العيد ولا بعدها 3 \ 372.
(2) رواه الإمام أحمد3 \ 28، 40، وابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها 1 \ 410، حديث (1293) ، والحاكم في مستدركه في كتاب العيدين 1 \ 297، والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب صلاة العيدين باب الإمام لا يصلي قبل العيد وبعده في المصلى 3 \ 302 من طرق عن عبيد الله بن عمرو الرقي، ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد. . . فذكره. وإسناده ليس بالقوي، من أجل عبد الله بن محمد بن عقيل، فهو ضعيف من قبل حفظه. ينظر تهذيب التهذيب 6 \ 16، 17، وقال الحافظ في التقريب: '' صدوق، في حديثه لين، ويقال: تغير بآخره ''. وقال الحاكم: '' هذه سنة عزيزة، بإسناد صحيح، ولم يخرجاه ''، ووافقه الذهبي في تلخيصه 1 \ 297 على تصحيحه. وحسن إسناده الحافظ في بلوغ المرام ص 98، وفي الفتح 2 \ 476، والبوصيري في مصباح الزجاجة 1 \ 153، والشيخ أحمد البنا في بلوغ الأماني 6 \ 158، والشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 3 \ 100.(52/205)
الدليل الثاني: ما رواه الأسود بن هلال رحمه الله قال: خرجت مع علي رضي الله عنه فلما صلى الإمام قام فصلى بعدها أربعا.
الدليل الثالث: ما رواه ابن سيرين وقتادة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يصلي بعد العيد أربع ركعات أو ثمان، وكان لا يصلي قبلها.(52/206)
الدليل الرابع: كما رواه إبراهيم النخعي رحمه الله قال: " كانوا يصلون بعد العيد أربعا " (1) .
واستدل أصحاب القول الثاني- وهم القائلون بأنه تكره الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى ولا تكره في غيره- بغالب الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الثالث. قالوا: فهذه الأدلة تدل على النهي عن الصلاة قبل العيد أو بعده في المصلى، أما فيما عداه فلم يثبت فيه نهي، بل ورد في حديث أبي سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد صلاة العيد في بيته (2) » .
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 2 \ 189. وإسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين.
(2) سبق تخريجه قريبا ضمن أدلة القول الثالث.(52/207)
قالوا: فالمصلي إنما ترك الصلاة في موضع الصلاة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولانشغاله بالصلاة وانتظارها، وهذا معدوم في غير موضع الصلاة (1) .
واستدل أصحاب القول الأول- وهم القائلون بأن ما قبل صلاة العيد وما بعدها ليس وقت نهي مطلقا- بأن الأصل استحباب الصلاة في جميع الأوقات، إلا ما ورد نهي عن الصلاة فيه، كأوقات النهي الخمسة، لعموم الأدلة التي فيها الحث على الاستكثار من صلاة التطوع، وبما أنه لم يرد نهي في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذا الوقت فيبقى على الأصل، فتشرع الصلاة فيه في المصلى وغيره.
قالوا: ومما يدل على أن ما بعد صلاة العيد ليس وقت نهي ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه صلى بعد العيد ركعتين في بيته» ، وما ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم صلوا بعد العيد،
__________
(1) المغني 3 \ 283.(52/208)
وبعضهم كان يصلي في المصلى كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما سبق في أدلة القول الثالث.
كما استدلوا على عدم النهي عن الصلاة قبل العيد بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه شعبة مولى ابن عباس رحمه الله قال: كنت أقود عبد الله بن عباس إلى المصلى ليسبح في المسجد ولا يرجع إليه.
الدليل الثاني: ما ثبت عن سليمان التيمي رحمه الله قال: رأيت أنس بن مالك، والحسن، وأخاه سعيدا، وجابر بن زيد أبا(52/209)
الشعثاء يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام.
الدليل الثالث: ما رواه قتادة رحمه الله قال: كان أنس، وأبو هريرة، والحسن، وأخوه سعيد، وجابر بن زيد يصلون قبل خروج الإمام وبعده.
الدليل الرابع: ما رواه عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أنه كان يصلي يوم العيد قبل الصلاة أربعا، وبعدها أربعا.
الدليل الخامس: ما رواه ابن أبي ذئب، عن عباس بن سهل أنه كان يرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر(52/210)
يصلون في المسجد ركعتين ركعتين (1) ، ولا يرجعون إليه.
الدليل السادس: ما رواه قتادة، عن أبي برزة أنه كان يصلي في العيد قبل خروج الإمام.
الدليل السابع: ما رواه عيسى بن سهل بن رافع بن خديج الأنصاري، أنه كان يرى جده رافعا وبنيه يجلسون في المسجد حتى تطلع الشمس فيصلون ركعتين ركعتين، ثم يغدون إلى المصلى.
__________
(1) أي يصلون قبل صلاة العيد في المسجد، ثم يذهبون إلى المصلى لصلاة العيد.(52/211)
الترجيح:
بعد النظر في أدلة الأقوال في هذه المسألة، وما أورد على بعضها من مناقشة، ظهر لي أن القول الصحيح في هذه المسألة هو القول بجواز الصلاة قبل العيد وبعدها، إذا كان قد خرج وقت النهي في سائر الأيام، وذلك بطلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، أما إذا كان لم يخرج وقت النهي فإنه تجوز تحية المسجد في المسجد دون المصلى، هذا هو مقتضى جميع الأدلة في هذه المسألة.
وعليه فيحمل ما ورد من نهي بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الصلاة قبل العيد وعدم صلاة بعضهم في هذا الوقت على أنهم كانوا يبكرون في الذهاب إلى المصلى، فيصلون إليه قبل طلوع الشمس، أو بعد طلوعها وقبل ارتفاعها قيد رمح، هذا هو ظاهر حال الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، ولذلك نهوا عن الصلاة حينئذ، لأن هذا الوقت(52/212)
وقت نهي في جميع الأيام، فينهى فيه عن النافلة التي ليس لها سبب، وكأنهم رأوا أن المصلى ليس كالمسجد في مشروعية صلاة ركعتي التحية فيه، كما هو قول لبعض أهل العلم، وعلى هذا(52/213)
يحمل قول أبي مسعود رضي الله عنه «ليس من السنة أن يصلى قبل الإمام (1) » فإنه قال هذا وهو في الجبانة (2) ، وكان ذلك في عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعلى فرض أن بعض الصحابة يرى أن ما قبل صلاة العيد، أو ما بعدها، أو هما معا وقت نهي، فإن قولهم معارض بقول من صلى من الصحابة قبل العيد أو بعدها، أو قبلها وبعدها، فإن صلاتهم في هذا الوقت تدل على أنهم يرون أنه ليس وقت نهي، فيرجح قول من ذهب إلى أن هذا الوقت ليس وقت نهي على قول من خالفهم؛ لأن قولهم يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة ركعتين بعد العيد في بيته، ويؤيده عموم الأحاديث التي فيها الندب إلى الصلاة في جميع الأوقات عدا أوقات النهي الخمسة، ولأن من أصحاب هذا القول أحد الخلفاء الراشدين وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذين أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نتمسك بسنتهم، في قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين
__________
(1) سنن النسائي صلاة العيدين (1561) .
(2) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 1 \ 236: '' الجبان، والجبانة: الصحراء ''.(52/214)
المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (1) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده 4 \ 126، 127، وأبو داود في سننه في كتاب السنة باب في لزوم السنة 4 \ 200، 201، حديث (4607) ، وابن أبي عاصم في السنة باب ما ذكر من زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن محدثات الأمور 1 \ 19، حديث (32) ، وابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن ص 56، رقم 102) ، والحاكم في المستدرك في العلم 1 \ 97، والبيهقي في المدخل ص 115، حديث (50) ، وأبو نعيم في الحلية 10 \ 114، 115، والبغوي في شرح السنة في كتاب الإيمان باب الاعتصام بالكتاب والسنة 1 \ 205، حديث (102) ، وقال: '' حديث حسن ''، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله باب الحض على لزوم السنة 2 \ 183 من طرق عن الوليد بن مسلم ثنا ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية. . . فذكره. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا عبد الرحمن السلمي وهو مقبول، كما في التقريب، وعدا حجر بن حجر، وهو أيضا مقبول، كما في التقريب، فتعضد رواية أحدهما رواية صاحبه، وقد صحح هذا الإسناد الشيخ محمد ناصر الدين في ظلال الجنة 1 \ 19. ورواه الترمذي في العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5 \ 44، 45، حديث (2676) ، وابن أبي عاصم في الموضع السابق 1 \ 17، 19، حديث (27، 30، 31، 33) والدارمي في مقدمة سننه باب اتباع السنة 1 \ 57، رقم (95) ، والخطيب في الفقيه والمتفقه باب ما جاء في قول الواحد من الصحابة 1 \ 176، وأبو نعيم في الحلية 5 \ 220، 221، والحاكم في الموضع السابق، وابن عبد البر في الموضع السابق 2 \ 181، 182 من طرق عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض. . . فذكره، وقال الترمذي: '' حديث صحيح ''. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. ورواه ابن ماجه في مقدمة سننه باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين 1 \ 15، 16، حديث (42) ، والحاكم في الموضع السابق، وابن أبي عاصم في الموضح السابق 1 \ 17، حديث (26) من طريق الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن العلاء (يعني ابن زبر) حدثني يحيى بن أبي المطاع، قال: سمعت العرباض بن سارية-. . . فذكره. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا يحيى بن أبي المطاع، وهو صدوق كما في التقريب. ورواه ابن أبي عاصم في الموضع السابق 1 \ 18، حديث (28، 29) من طريق المهاصر بن حبيب عن العرباض بن سارية. وصحح إسناده الشيخ محمد ناصر الدين في ظلال الجنة 1 \ 17. وقد صحح هذا الحديث غير من سبق ذكرهم الضياء المقدسي في رسالة اتباع السنن واجتناب البدع ص 32، والأرنؤوط في تعليقه على شرح السنة.(52/215)
أما من صلى من الصحابة قبل صلاة العيد، كأنس بن مالك وغيره، فالظاهر أنهم إنما صلوا بعد طلوع الشمس وارتفاعها، لأن بعض الأئمة في عصرهم كانوا يؤخرون صلاة العيد عن أول وقتها.(52/216)
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن المنذر: " الصلاة مباح في كل يوم وفي كل وقت إلا في الأوقات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وهي وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ووقت الزوال، وقد كان تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامة الأوقات في بيته، ولم يزل الناس يتطوعون في مساجدهم، فالصلاة جائزة قبل صلاة العيد وبعده، ليس لأحد أن يحظر منه شيئا، وليس في ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي قبلها وبعدها دليل على كراهية الصلاة في ذلك الوقت، لأن ما هو مباح لا يجوز حظره إلا بنهي يأتي عنه، ولا نعلم خبرا يدل على النهي عن الصلاة قبل صلاة العيد وبعده، وصلاة التطوع في يوم العيد وفي سائر الأيام في البيوت أحب إلينا للأخبار الدالة على ذلك " (1) .
وقال الحافظ ابن حجر: " والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها، خلافا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام والله أعلم " (2) .
__________
(1) الأوسط 4 \ 270.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها 2 \ 476.(52/217)
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين: " وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن الصلاة غير مكروهة في مصلى العيد قبل الصلاة ولا بعدها، وقال: بيننا وبينكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأين الدليل على الكراهة؛ وهذا خير وتطوع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليك بكثرة السجود (1) » ، وقال: «أعني على نفسك بكثرة السجود (2) » ، فكيف تقولون بالكراهة؟ وهذا مذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة، وهو الصواب. وقال بعض العلماء: تكره الصلاة بعدها لا قبلها. وقال بعض العلماء: تكره قبلها لا بعدها. وبعض العلماء قال: يكره للإمام دون المأموم، وهذا قول للشافعي أعني التفريق بين الإمام وغيره، والصحيح: أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها، فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنة أن تصلى، فقد يقال: إن بقاء الإنسان يكبر الله قبل الصلاة أفضل؛ إظهارا للتكبير والشعيرة. أما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقا " (3) .
__________
(1) رواه مسلم 1 \ 353، رقم (488) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم 1 \ 353، رقم (489) من حديث ربيعة الأسلمي رضي الله عنه.
(3) الشرح الممتع على زاد المستقنع، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين 5 \ 203-206.(52/218)
المبحث الثالث: ما بعد صلاة الجمعة:
اختلف أهل العلم في هذا الوقت هل هو وقت نهي أم لا، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن هذا الوقت ليس وقت نهي. وهذا قول جمهور أهل العلم.
القول الثاني: أن ما بعد صلاة الجمعة وقت كراهة حتى ينصرف أكثر المصلين، أو إلى أن يحين وقت انصرافهم، وإن لم ينصرفوا. وهذا قول لبعض المالكية. ولم أقف على دليل لهذا القول.
وقال الحافظ العراقي بعد ذكره لهذا القول: " وهم مطالبون بالدليل على هذه الصورة " (1) .
__________
(1) طرح التثريب 2 \ 189.(52/219)
القول الثالث: أن ما بعد صلاة الجمعة وقت كراهة حتى ينصرف المصلي إلى بيته، وهو للإمام أشد كراهة. وهذا قول لبعض المالكية (1) .
وقال الإمام مالك رحمه الله: " ينبغي للإمام إذا سلم من الجمعة أن يدخل منزله، ولا يركع في المسجد. . . ومن خلف الإمام أيضا، إذا سلموا فأحب إلي أن ينصرفوا، ولا يركعوا في المسجد، فإن ركعوا فإن ذلك واسع ".
وقد استدل أصحاب هذا القول بما رواه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما أن ابن عمر «رأى رجلا يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه وقال: " أتصلي الجمعة أربعا؟ "، قال: وكان عبد الله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته، ويقول: " هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » .
__________
(1) شرح الزرقاني لمختصر خليل 2 \ 64.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد الجمعة 1 \ 294، رقم (1127) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار، باب التطوع بعد الجمعة كيف هو 1 \ 336، 337، وابن المنذر في الأوسط في كتاب الجمعة، جماع أبواب الصلاة بعد صلاة الجمعة 4 \ 122، والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب الجمعة، باب المأموم يركع في المسجد فيتحول عن مقامه 3 \ 240 من طرق عن حماد بن زيد، ثنا أيوب عن نافع. . . فذكره. وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين. وروى شطره الأخير مسلم في كتاب الجمعة (صحيح مسلم مع شرحه للنووي 6 \ 69) .(52/220)
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن مجرد الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا لا يدل على النهي، وإنما يدل على الأفضلية، كما هو مقرر في أصول الفقه.
أما نهي ابن عمر رضي الله عنهما للرجل ودفعه له، فالظاهر أنه إنما صنع ذلك من أجل أن الرجل صلى النافلة في مكانه الذي صلى فيه الجمعة، دون أن يتكلم أو يغير مكانه.
ويدل لهذا ما رواه ابن جريج، أخبرني عطاء، أنه رأى ابن عمر رضي الله عنهما يصلي بعد الجمعة فينحاز عن مصلاه الذي صلى فيه الجمعة قليلا غير كثير، قال: فيركع ركعتين. قال: ثم يمشي أنفس من ذلك، فيركع أربع ركعات. قلت لعطاء: كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال مرارا.(52/221)
ويدل له أيضا ما رواه عطاء رحمه الله أن عمرو بن شعيب صلى الجمعة ثم ركع على إثرها ركعتين في المسجد، فنهاه ابن عمر عن ذلك، وقال: " أما الإمام فلا، إذا صليت فانقلب فصل في بيتك ما بدا لك، إلا أن تطوف، وأما الناس فإنهم يصلون في المسجد ".
واستدل أصحاب القول الأول- وهم القائلون بأن هذا الوقت ليس وقت نهي مطلقا- بأدلة أهمها:
الدليل الأول: أن الأصل مشروعية الصلاة واستحبابها في جميع الأوقات التي لم يرد فيها نهي بما في ذلك هذا الوقت، حيث إنه لم يرد حديث صحيح يدل على النهي عن الصلاة فيه، بل ورد حديث صحيح في الأمر بصلاة أربع ركعات بعد الجمعة.
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة 2 \ 600، حديث (881) من طريق خالد بن عبد الله، عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. وتابع خالد بن عبد الله سفيان عند الحميدي في مسنده 2 \ 431، رقم (976) ، وابن المنذر في الأوسط 4 \ 124، رقم (1878) . وتابعه أيضا علي بن عاصم عند الإمام أحمد كما في الفتح الرباني 6 \ 115. ورواه مسلم في الموضع السابق من طريق عبد الله بن إدريس، ومن طريق سفيان، ومن طريق جرير، كلهم عن سهيل به، بلفظ: '' إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا '' هذا لفظ ابن إدريس، ولفظ سليمان وجرير نحوه.(52/222)
الدليل الثاني: ما رواه عمرو بن عطاء رحمه الله أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر، يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: " أن لا توصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج (1) » رواه مسلم.
قالوا: فهذا الحديث يدل على جواز الصلاة بعد صلاة الجمعة في المسجد وقبل أن يخرج المصلون، إذا تكلم المصلي أو خرج.
الدليل الثالث: ما رواه حميد بن هلال، عن عمران بن
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (883) ، سنن أبو داود الصلاة (1129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/99) .(52/223)
حصين رضي الله عنه أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، فقيل له: يا أبا نجيد، ما يقول الناس؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إنك تصلي ركعتين إلى الجمعة، فتكون أربعا، قال: فقال عمران: لأن تختلف النيازك بين أضلاعي أحب إلي من أن أفعل ذلك. فلما كانت الجمعة المقبلة صلى الجمعة، ثم احتبى، فلم يصل شيئا حتى أقيمت صلاة العصر.
الدليل الرابع: ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما من أنه صلى بعد الجمعة في المسجد (1) .
الدليل الخامس: ما رواه علقمة بن قيس رحمه الله أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى يوم الجمعة بعد ما سلم الإمام أربع ركعات.
__________
(1) سبق تخريجه ضمن أدلة القول الثالث.(52/224)
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو القول بجواز الصلاة بعد صلاة الجمعة مطلقا في المسجد وغيره، لقوة أدلته، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى.(52/225)
الخاتمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فمن خلال هذا البحث المتواضع ظهر لي أمور، أهمها:
الأول: أن ما بين غروب الشمس وصلاة المغرب ليس وقت نهي، وأنه يستحب للمسلم في هذا الوقت صلاة ركعتين، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
الثاني: أن الراجح من أقوال أهل العلم فيما قبل صلاة العيد وما بعدها أنه ليس وقت نهي.
الثالث: أن ما بعد صلاة الجمعة ليس وقت نهي، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة.(52/225)
وبهذا تبين أنه ليس هناك وقت ينهى المسلم عن الصلاة فيه سوى الأوقات الخمسة المشهورة وهي:
1 - من الفجر إلى طلوع الشمس.
2 - من طلوع الشمس إلى ارتفاعها قيد رمح.
3 - وقت الزوال.
4 - من صلاة العصر إلى شروع الشمس في الغروب.
5 - وقت غروب الشمس.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(52/226)
أحاديث ربا الفضل وأثرها في العلة والحكمة في تحريم الربا
للشيخ: محمد بن علي بن حسين الحريري
خلاصة البحث:
يهدف البحث إلى حصر أحاديث ربا الفضل-ربا البيوع- التي استشهد بها الفقهاء وتخريج هذه الأحاديث بعزوها إلى مصادرها، وأهم الآراء الفقهية التي تناولت هذه الأحاديث لإيضاح العلة الربوية وحكمة التحريم، وتصنيف هذه الأحاديث بالنسبة إلى رواية كل صحابي، وتقييم مرويات الصحابي إلى الموضوعات التي تناولها الحديث، ثم أفردت أحاديث المزابنة وبيع الحيوان بمبحث مستقل لمعظم رواة الأحاديث في هذين الموضوعين وتلخيص المذاهب الفقهية فيها، ثم سردت أهم النتائج المستفادة من مجموع الأحاديث.
ويحتاج الباحثون والفقهاء عند معالجتهم مسائل الربا والصرف إلى الاستدلال بأحاديث نبوية متعددة، وبروايات تضم زيادة كلمة أو جملة تؤثر في الحكم الفقهي، وقد لمست من خلال معاناتي لهذه الجوانب شدة الحاجة إلى حصر الأحاديث النبوية في هذا الباب أو معظمها على الأقل؛ ليكون لدى المسلم(52/227)
فكرة شاملة حول الربا في السنة النبوية وعلاقة ذلك الربا بما ذكرته الآيات القرآنية.
ودراسة الأحاديث النبوية المبينة لأحكام الربا والصرف تحتاج إلى دراسة متأنية تستهدف الجوانب التالية:
1 - محاولة ترتيب الأحاديث النبوية ترتيبا تاريخيا يمكن معه فهم السياسة النبوية في تطبيق حكم الربا، ومحاربته، واستئصاله من حياة المسلمين الاقتصادية.
2 - دراسة هذه الأحاديث بحسب أهميتها في الاستدلال الفقهي عند أئمة المذاهب الأربعة وسائر المجتهدين في بقية العصور.
3 - بيان وجه التكامل والتلاقي والمواءمة بين الربا المحرم في القرآن الكريم والربا المحرم في السنة النبوية.
وقد أفلح المحدثون رحمهم الله في استقراء أحاديث الربا، ونجد ذلك واضحا عند البغوي في (شرح السنة) حيث حكم لعشرة أحاديث بالصحة، وسائر الأحاديث يتراوح بين الحسن وهو أكثرها، وربما حصل الضعف والرد لبعض تلك الأحاديث.
واستقصى ابن الأثير في جامع الأصول أحاديث الربا ومصادر تخريجها بإيجاز يتيح للباحث التوسع والاستقصاء.
كما استقصى الحافظ بدر الدين العيني في عمدة القارئ تخريج أحاديث الربا في أبواب البخاري المتعددة، مع الإشارة إلى من ذكره من المحدثين.(52/228)
وقد ذكر السبكي في تكملة المجموع أحاديث ربا الفضل عن عشرين من الصحابة، وعزا مروياتهم إلى أصولها الحديثية مع الإشارة إلى ضعف اثنين منها فقط (1) .
كما ذكر المولوي السنبهلي رواية حديث الأعيان الستة عن ستة عشر صحابيا، مع ذكر من أخرجها من المحدثين (2) .
وقد جعل الشافعي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عمدة باب في الربا، وقدمه على حديث أبي سعيد الخدري؛ لأن عبادة أكبر سنا وأقدم صحبة.
أما الحنفية فقد جعلوا حديث أبي سعيد الخدري عمدة الباب عندهم فهو أتم الأحاديث بعد حديث عبادة (3) ، والحديثان متفق على صحتهما بإجماع الأمة.
ويمكننا تصنيف أحاديث الربا في أربعة أصناف (4) :
الأول: الأحاديث التي تنفر من الربا وتنذر عليه بالوعيد الشديد؛ لأنه من الكبائر.
الثاني: أحاديث تتعلق بالمعنى العام والموسع للربا؛
__________
(1) المجموع شرح المهذب (10 \ 60) ط. المنيرية.
(2) شرح معاني الآثار للطحاوي- ج 4- حاشية ص 65- دار الكتب العلمية - بيروت ط. 2 عام 1407 هـ.
(3) شرح مسلم للنووي (11 \ 13) ، والمجموع (9 \ 394) .
(4) الجامع في أصول الربا - د. رفيق المصري- ص 61، دار القلم 1412 هـ.(52/229)
كالنهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، و"غبن المسترسل ربا "، و " الناجش آكل ربا ".
الثالث: النهي عن ربا الجاهلية - الديون - وهي الأحاديث المؤكدة للنصوص القرآنية.
الرابع: أحاديث النهي عن ربا البيوع - ربا الفضل -.
وسأحاول تناول القسم الأخير من الأحاديث تسهيلا للعزو إليها من المباحث القادمة، وحاولت جمع أحاديث كل صحابي على حدة؛ كي لا يتشتت الموضوع وتتفرع السبل.(52/230)
(1) أحاديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، استصغر يوم أحد، واستشهد أبوه مالك بن سنان في تلك الغزوة، وقد شهد أبو سعيد غزوات ما بعد أحد، كان من أفقه أحداث الصحابة رضي الله عنهم، وانتقل إلى رحمة الله تعالى عام 63 هـ أو 65 هـ، فهو من سن عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج رضي الله عنهم، والفارق بينهم سنة واحدة تقريبا (1) .
ويمكن تقسيم مرويات أبي سعيد في الربا والصرف إلى ثلاثة أقسام:
1 - حديث الأعيان الستة.
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة (2 \ 32) .(52/230)
2 - أحاديث الصرف والرد على ابن عباس رضي الله عنهما في إباحة الفضل في الصرف.
3 - أحاديث مبادلة التمر بالتمر - الرديء بالجيد.(52/231)
أولا: حديث الأعيان الستة:
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء (1) » .
__________
(1) مسلم بشرح النووي (11 \ 14) .(52/231)
ثانيا: أحاديث الصرف:
أخرج البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1) »
__________
(1) أخرجه الموطأ بزيادة '' ولا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء '' الموطأ - كتاب البيوع - باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا (2 \ 632) رقم الحديث (30) بترقيم عبد الباقي.(52/231)
كما أخرج البخاري بسنده، عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه عبد الله بن عمر فقال: يا أبا سعيد، ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو سعيد في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الذهب بالذهب، مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل (1) » .
وأخرج البخاري، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: " الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم " فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله. قال أبو سعيد: سألته، فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله؟ وقال: كل ذلك لا أقوله وأنتم أعلم برسول الله مني ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة (2) » .
وفي رواية الترمذي، قال نافع: (انطلقت أنا وابن عمر إلى
__________
(1) البخاري- كتاب البيوع- باب بيع الفضة بالفضة- فتح الباري (4 \ 379) - رقم الحديثين (2176، 2177) .
(2) البخاري- كتاب البيوع- باب بيع الدينار بالدينار نساء رقم الحديث (2178، 2179) ، ومسلم- في رواية مسلم قال ابن عباس: '' كل ذلك لا أقول، أما رسول الله فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه ''- أي: لا أعلم هذا الحكم فيه- شرح النووي (11 \ 26) .(52/232)
أبي سعيد، فحدثنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، سمعته أذناي هاتان يقول: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، لا تشفوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا منه غائبا بناجز (1) » .
ولمسلم، عن أبي نضرة قال: " سألت ابن عمر، وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، «جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنى لك هذا؟ " قال: انطلقت بصاعين، فاشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا، وسعر هذا كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويلك، أربيت، إذا أردت ذلك، فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت (2) » ، قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد، فنهاني، ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء: أنه سأل ابن عباس عنه
__________
(1) البخاري- كتاب البيوع- باب بيع الفضة بالفضة- صحيح البخاري (3 \ 97) رقم الحديث (1097) ، ومسلم- كتاب المساقاة- باب الربا (3 \ 1208، 1209) - شرح النووي (11 \ 10) ، والترمذي- المجموع- باب ما جاء في الصرف رقم (1241) مجلد (3 \ 543) ، والنسائي- البيوع- باب بيع الذهب بالذهب- (7 \ 278، 279) ، والموطأ- البيوع- باب بيع الفضة بالذهب تبرا وعينا، والإمام أحمد- المسند (3 \ 4، 9) .
(2) مسلم بشرح النووي (11 \ 24) .(52/233)
بمكة فكرهه ".
ولمسلم من رواية أخرى، عن أبي نضرة قال: " سألت ابن عباس عن الصرف فقال: يدا بيد؟ فقلت: نعم، قال: لا بأس، فأخبرت أبا سعيد، فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال: يدا بيد؟ قلت: نعم قال: فلا بأس به، قال: أوقال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه، قال: «فوالله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأنكره، قال: كأن هذا ليس من تمر أرضنا، قال: كان في تمر أرضنا، أو في تمرنا، العام بعض الشيء، فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة، قال: " أضعفت، أربيت، لا تقربن هذا، إذا رابك من تمرك شيء فبعه، ثم اشتر الذي تريد من التمر (1) » . .
__________
(1) مسلم بشرح النووي (11 \ 24) ، ومسند الحميد (25 \ 328)(52/234)
ثالثا: أحاديث بيع التمر الرديء بالجيد:
وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاث، فقال: " لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (1) » ، وقال في الميزان مثل ذلك متفق عليه، أخرجه
__________
(1) الموطأ- كتاب البيوع- باب ما يكره من بيع التمر (2 \ 623) ، وأخرجه مرسلا عن عطاء بن يسار وموصولا، البخاري- كتاب البيوع- باب إذا أراد بيع التمر بتمر خير منه- فتح الباري (4 \ 399) ، رقم (2201) وكتاب الوكالة- باب الوكالة في الصرف والميزان- فتح الباري (4 \ 480) رقم الحديث (2302) ، وكتاب المغازي- باب استعمال النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر (4 \ 496) - رقم (4244) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة- باب إذا اجتهد العامل (13 \ 317) .(52/234)
البخاري من رواية عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد وأبي هريرة، قال ابن عبد البر: لم يذكر أبو هريرة إلا في رواية عبد المجيد، وقد رواه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري وحده، وقد أخرج النسائي، وابن حبان رواية قتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه، لكن سياقه مغاير لقصة عبد المجيد.
وقد جاء في إحدى الروايات بدل [استعمل رجلا على خيبر] [بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر] وقد صرح باسمه أبو عوانة والدارقطني من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، بأن الرجل الذي استعمل على خيبر هو سواد بن غزية - بوزن عطية- ولعله الذي قبل جلد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر عندما كان سواد بارزا في الصف. والمراد بالجنيب: الطيب، الصلب الذي أخرج منه حشفه ورديئه، بعكس الجمع، أي: المختلط، والحكم الواضح في الحديث: أن التمر لا يباع إلا مثلا بمثل في الكيل، وهذا معنى- وكذلك الميزان- فما يباع موزونا يراعى فيه التماثل عند(52/235)
اتحاد الجنس، ولا عبرة للجودة والرداءة، فالتمر باختلاف أنواعه جنس واحد. وقد أمر صلى الله عليه وسلم بفسخ العقد، كما سيأتي في رواية مسلم: «هذا الربا فردوه» من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد.
عن أبي سعيد قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من أين هذا؟ " قال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال: " أوه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به " متفق عليه.
وروى البخاري، عن أبي سعيد رضي الله. عنه قال: «كنا نرزق تمر الجمع، وهو: الخلط من التمر، وكنا نبيع صاعين بصاع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا صاعين بصاع، ولا درهمين بدرهم (1) » .
وفي رواية النسائي: «لا صاعي تمر بصاع، ولا درهمين
__________
(1) البخاري كتاب البيوع- باب بيع الخلط من التمر فتح الباري (4 \ 311) .(52/236)
بدرهم (1) » .
وقد أخرج الموطأ الحديث الأول- موصول أبي سعيد الخدري - مرسلا، عن عطاء بن يسار (2) ، كما أخرج النسائي مثله، عن أبي صالح الزيات: «أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، إنا لا نجد الصيحاني ولا العذق بجمع التمر حتى نزيدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعه بالورق، ثم اشتر بذلك (3) » .
وقد أخرج الدارمي حديث بلال المتقدم، قال بلال رضي الله عنه: «كان عندي مد تمر للنبي صلى الله عليه وسلم فوجدت أطيب منه صاعا بصاعين، فاشتريت منه، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " من أين هذا لك يا بلال؟ " قلت: اشتريته صاعا بصاعين، قال: " رده، ورد علينا تمرنا (4) » .
وأخرج الطحاوي حديث بريدة بسند فيه الفضل بن حبيب السراج: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهى تمرا، فأرسل بعض أزواجه - ولا أراها إلا أم سلمة - بصاعين من تمر، فأتوا بصاع من عجوة، فلما رآه صلى الله عليه وسلم أنكره فقال: " من أين لكم هذا؟ " قالوا: بعثنا بصاعين، فأتينا بصاع، فقال: " ردوه فلا حاجة لي
__________
(1) النسائي- كتاب البيوع- باب بيع التمر بالتمر متفاضلا (7 \ 274) .
(2) الموطأ- البيوع- باب ما يكره من بيع التمر (2 \ 623) رقم الحديث (200) .
(3) النسائي (7 \ 271) - البيوع- باب بيع السنبل حتى يبيض.
(4) سنن الدارمي البيوع (2576) .(52/237)
فيه (1) »
__________
(1) المجموع (10 \ 67) ، وشرح معاني الآثار (4 \ 66) .(52/238)
(2) أحاديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:
هو صحابي كبير، توفي بالرملة عام 35 هـ (1) ، وحديثه في الأعيان الستة هو العمدة عند الشافعية، وجميع مرويات الحديث تدور حول موضوع الأعيان الستة إلا ما روي من سرده الحديث خلال قصة بيع معاوية آنية الفضة بأكثر من وزنها.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد (2) »
__________
(1) الإصابة (2 \ 261) - ط- دار الكتاب العربي.
(2) صحيح مسلم- كتاب المساقاة- باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (3 \ 1210، 1211) ، وشرح مسلم للنووي (11 \ 13) ، وأبو داود- كتاب البيوع- باب في الصرف (2 \ 222، 223) ، وعون المعبود (3 \ 254) ، وسنن النسائي- البيوع - باب بيع الشعير بالشعير- المجتبى (7 \ 276، 277) ، وسنن ابن ماجه- كتاب التجارات- باب الصرف وما لا يجوز متفاضلا يدا بيد (2 \ 757، 258) ، والدارمي- كتاب البيوع- باب في النهي عن الصرف (2 \ 259) ، والبيهقي (5 \ 276) - كتاب البيوع- باب الأجناس التي ورد فيها الربا.(52/238)
وفي رواية أبي قلابة [عبد الله بن زيد بن عمر الجرمي البصري أحد الأعلام] قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث [شراحيل بن آدة الصنعاني يروي عن شداد بن أوس وثوبان وأوس بن أوس الثقفي وعبادة بن الصامت وغيرهم وثقه ابن حبان] فقالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، فقال: نعم، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام، فقال: " إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1) » فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت - فأعاد القصة- وقال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء (2) .
وقد أخرج مسلم الحديث برواية: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) المرجع السابق.(52/239)
اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » .
وروى أبو داود، عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «" الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد، وأما نسيئة فلا (2) » .
وأخرج النسائي أنه جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية، فحدثهم عبادة قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا مثلا بمثل، يدا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا (3) » وروي بصيغة نهى.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) أبو داود- المصدر السابق في تخريج الرواية الأولى، وانظر مختصر السنن والمعالم- كتاب البيوع- باب الصرف- رقم الحديث (3210) (5 \ 20) .
(3) النسائي في- البيوع- باب بيع الشعير بالشعير (7 \ 275، 276) بلفظ: (نهى) ، وباب بيع البر بالبر (7 \ 274) بلفظ: (نهانا) .(52/240)
(3) حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه(52/240)
وسلم قال: «إنما الربا في النسيئة (1) » ، وفي رواية أخرى قال: «لا ربا فيما كان يدا بيد (2) » . وهو حديث صحيح متفق عليه والمقصود به: " لا ربا. . أي الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر.
وقال الطبري: معنى حديث أسامة «لا ربا إلا في النسيئة (3) » إذا اختلفت الأنواع حيث يجوز التفاضل ويبقى الربا في التأجيل فقط، وقد وقع في نسخة الصنعاني قال البخاري سمعت سليمان بن حرب يقول: " لا ربا إلا في النسيئة " هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة" وأخرج البيهقي بسنده، أنه سمع أبا الجوزاء يقول: «كنت
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(52/241)
أخدم ابن عباس تسع سنين، إذ جاءه رجل فسأله عن درهم بدرهمين؟ فصاح ابن عباس وقال: إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا، فقال ناس حوله: إن كنا لنعمل هذا بفتياك، فقال ابن عباس: قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وأنا أنهاكم عنه» .
وأخرج البيهقي قال: سئل لاحق بن حميد أبو مجلز وأنا شاهد عن الصرف، فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره، حتى لقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس، ألا تتقي الله، حتى متى تؤكل الناس الربا، أما بلغك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم- وهو عند زوجته أم سلمة -: " إني أشتهي تمر عجوة " وإنها بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل رجل من الأنصار، فأتيت بدلهما بصاع من عجوة، فقدمته إلى رسول الله، فأعجبه فتناول تمرة ثم أمسك، فقال: " من أين لكم هذا؟ " قالت: بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل فلان، فأتينا بدلها من هذا الصاع الواحد، فألقى التمرة من يده، وقال: " ردوه ردوه، لا حاجة لي فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، مثلا بمثل، ليس فيه زيادة ولا نقصان، فمن زاد أو نقص فقد أربى، وكل ما يكال أو يوزن» فقال ابن عباس: ذكرتني يا أبا سعيد أمرا أنسيته، أستغفر الله وأتوب إليه، وكان ينهى بعد ذلك أشد النهي (1)
__________
(1) البيهقي- كتاب البيوع- ما يستدل على رجوع ابن عباس رضي الله عنه (5 \ 282- 286) .(52/242)
(4) أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا (1) » ، وفي رواية قال: «" الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما (2) » ، وفي رواية الموطأ: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما (3) » ، وفي رواية أخرى قال: «التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه (4) » .
وواضح من مجموع روايات حديث أبي هريرة تقسيم الأعيان الربوية إلى مجموعتين: الأطعمة الأربعة، والأثمان، وهو إجماع الفقهاء، فلا عبرة لمن يقول: إن العلة في الأعيان الستة يجب أن تكون علة واحدة.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4567) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/485) ، موطأ مالك البيوع (1323) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4567) ، مسند أحمد بن حنبل (2/379) ، موطأ مالك البيوع (1323) .
(4) صحيح مسلم- كتاب المساقاة- باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا حديث (85) ، والموطأ (2 \ 632) - كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا رقم (29) ، والنسائي- البيوع- باب بيع الدينار بالدينار (7 \ 273، 278) ، والبيهقي (5 \ 278- 292) - البيوع- باب تحريم التفاضل في الجنس الواحد مما يجري فيه الربا مع تحريم النساء.(52/243)
(5) حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه- ت 51 هـ:
أبو بكرة - رضي الله عنه- حديثه في البخاري بسنده، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: قال أبو بكرة رضي الله(52/243)
عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم (1) » . وأخرجه البخاري من طريق آخر عن يحيى بن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا (2) » والحديث أيضا أخرجه مسلم، وفي آخره: «فسأله رجل، فقال: يدا بيد؟ قال: هكذا سمعت (3) » ، وذكره أبو عوانة في مستخرجه، وفي آخره: «والفضة بالذهب كيف شئتم، يدا بيد (4) » .
وأصرح من ذلك حديث عبادة بن الصامت عند مسلم «فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) أخرج البخاري الرواية الأولى في- كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالذهب - الحديث رقم (2175) ، فتح الباري (4 \ 378) وأخرج الرواية الثانية في- باب بيع الذهب بالورق يدا بيد- رقم (2182) .
(3) صحيح مسلم- بشرح النووي (11 \ 16) - كتاب البيوع - باب الربا، والنسائي- البيوع - باب بيع الفضة بالذهب والذهب بالفضة (7 \ 281) ، والبيهقي- كتاب البيوع- باب جواز التفاضل في الجنس (5 \ 282) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(52/244)
(6) أحاديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
روى البخاري، والموطأ: " قال مالك بن أوس بن الحدثان النضري: أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن(52/244)
عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها بيده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1) » .
وأخرج مالك في الموطأ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء: هو الربا " (2) .
__________
(1) البخاري- كتاب البيوع- باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة- فتح الباري (4 \ 347) رقم (2134) وأوله الذهب بالورق وفي باب بيع الشعير بالشعير فتح الباري (4 \ 377) رقم (2174) وباب بيع التمر بالتمر رقم (2170) مختصرا بدون قصة مالك بن أوس بن الحدثان، ومسلم- كتاب المساقاة- باب الربا- حديث (79) - مسلم بشرح النووي (11 \ 10) ، والموطأ- كتاب البيوع باب ما جاء في الصرف رقم (38) (2 \ 636) ، وأبو داود- مختصر السنن والمعالم- كتاب البيوع- باب في الصرفب (3209) (5 \ 20) ، والنسائي- كتاب البيوع- باب بيع التمر بالتمر متفاضلا (7 \ 273) ، وابن ماجه- كتاب التجارات- باب صرف الذهب بالورق (2 \ 759، 760) .
(2) الموطأ- كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا- رقم (34- 35- 36) (2 \ 634، 635) .(52/245)
هكذا أخرجه مالك موقوفا، عن نافع، عن ابن عمر، وعن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن أبيه، وهو نفس حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وجاء به هنا بزيادة: «وإن استنظرك إلى أن يلج (1) » . . " إلخ الحديث.
وأخرج البيهقي بسنده، عن أبي جمرة ميمون القصاب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى (2) » وأبو جمرة ضعيف، وقد اضطرب السند بسببه. "
__________
(1) موطأ مالك كتاب البيوع (1328) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(52/246)
(7) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أصل حديثه عند ابن ماجه بسنده، عن عمر بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصطرفها بورق، والصرف هاء هاء (1) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه- تحقيق وفهرسة د. محمد مصطفى الأعظمي (2 \ 28) - الحديث رقم (2280) أبواب التجارات- باب صرف الذهب بالورق- رقم الباب (50) ، وأخرجه الدارقطني، والحاكم وصححه، وقال البوصيري في الزوائد إسناده ضعيف.(52/246)
(8) حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه:
أخرج مالك في الموطأ، أنه بلغه عن جده مالك بن أبي(52/246)
عامر: أن عثمان بن عفان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين (1) » ، وقد وصله مسلم من طريق ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن سليمان بن يسار.
__________
(1) مسلم كتاب المساقاة- باب الربا- حديث (78) ، (3 \ 1209) ، والموطأ (2 \ 632) - كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا- رقم (32) ، والبيهقي (5 \ 278) - كتاب البيوع- باب تحريم التفاضل في الجنس الواحد مما يجري فيه الربا مع تحريم النساء.(52/247)
(9) حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه:
عن معمر بن عبد الله بن نافع رضي الله عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده، ولا تأخذن إلا مثلا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل" قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير، قيل له: فإنه ليس بمثله، قال: " إني أخاف أن يضارع (1) » .
وأخرج مالك في الموطأ، عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل
__________
(1) مسلم- كتاب المساقاة- باب بيع الطعام مثلا بمثل- (3 \ 1214) ، رقم الحديث (1592) ، ومسند أحمد (6 \ 400) - البيهقي- كتاب البيوع- باب جواز التفاضل (5 \ 283) .(52/247)
أو يشرب (1) » ، والصحيح: أنه من قول سعيد، ومن رفعه فقد توهم.
__________
(1) الموطأ- كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا- (2 \ 635) ، وسنن الدارقطني في كتاب البيوع (3 \ 14) ، والبيهقي- البيوع- باب جريان الربا في المطعوم (5 \ 286) .(52/248)
(10) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عدة أحاديث في أبواب الربا، ولعل أشهر أحاديثه هي:
1 - حديث اقتضاء الذهب من الورق، وبالعكس عندما كان يبيع الإبل بالبقيع.
2 - حديث الإحسان في أداء القرض.
3 - منع ربا الفضل في الصرف ولا عبرة للصياغة في النقدين.(52/248)
1 - اقتضاء الذهب من الورق:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته خارجا من بيت حفصة، فسألته عن ذلك؛ فقال: " لا بأس به بالقيمة (1) » .
وهذه رواية الترمذي، وقال الترمذي: وقد روي موقوفا على ابن عمر
__________
(1) الترمذي - الجامع الصحيح- ترقيم عبد الباقي (3 \ 544) رقم الحديث (1242) .(52/248)
وفي رواية أبي داود قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » .
وفي أخرى له بمعناه، والأول أتم، ولم يذكر " بسعر يومها".
وأخرج النسائي نحوا من هذه الروايات.
وله في أخرى: " أنه كان لا يرى بأسا في قبض الدراهم من الدنانير، والدنانير من الدراهم " (2) .
واقتضاء الذهب من الفضة أو العكس عن أثمان السلعة هو في الحقيقة بيع ما لم يقبض، فدل جوازه على أن المقصود بيع ما لم يقبض ما يراد ببيعه الربح؛ لما روي من النهي عن ربح ما لم
__________
(1) أبو داود- مختصر ومعالم السنن باب اقتضاء الذهب من الورق- (5 \ 25) - رقم الحديث (3216) - تحقيق محمد حامد الفقي- مطبعة السنة المحمدية، والبيهقي- البيوع- باب اقتضاء الذهب من الورق (5 \ 284) .
(2) النسائي- باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة (7 \ 281) .(52/249)
يضمن، واقتضاء الذهب من الفضة خارج عن هذا المعنى؛ لأن المراد به: التقابض حيث لا يشق ولا يتعذر لا التصارف والترابح. واشتراط كونها بسعر يومها فلا تطلب ربح ما لم تضمن واشتراط أن لا يتفرقا وبينهما شيء؛ لأنه في الحقيقة صرف، ولا يصح إلا بالتقابض. وأكثر أهل العلم على جواز اقتضاء الدراهم من الدنانير وبالعكس، ومنعه ابن شبرمة وأبو سلمة بن عبد الرحمن (1) .
وقد تفرد برفع الحديث سماك بن حرب. قال شعبة: وأنا أفرقه، وسبب ضعفه أنه كان يقبل التلقين، ولكنه إلى التوثيق أقرب إن شاء الله، فحديثه حسن كما هو مقتضى كلام ابن عدي (2) .
__________
(1) معالم السنن للخطابي، وتهذيب ابن القيم (5 \ 25) تحقيق محمد حامد الفقي- مطبعة السنة المحمدية.
(2) المجموع (10 \ 110، 111) ، والبيهقي (5 \ 284) .(52/250)
2 - الإحسان في أداء القرض:
أخرج مالك رضي الله عنه قال: " بلغني أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: إني أسلفت رجلا سلفا، واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر: فذلك الربا، قال:
فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ قال عبد الله بن عمر: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف(52/250)
تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب، فذلك الربا، قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أرى أن تشق الصحيفة، فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته، وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرت، وإن أعطاك أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه، فذلك شكر شكره لك ولك أجر ما أنظرته " (1) .
وعن مجاهد بن جبر رحمه الله أنه قال: " استسلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم، ثم قضاه دراهم خيرا منها، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت، ولكن نفسي بذلك طيبة " (2) .
__________
(1) الموطأ- كتاب البيوع- باب ما لا يجوز من السلف (2 \ 681) رقم الحديث في الكتاب (92) .
(2) الموطأ- كتاب البيوع- باب ما يجوز من السلف (2 \ 681) رقم الحديث في الكتاب (90) .(52/251)
3 - منع ربا الفضل في الصرف، ولا عبرة لصياغة الحلي من النقدين:
أخرج مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد بن جبر أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر، فجاءه صائغ، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل(52/251)
بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم (1) » .
وأخرج النسائي (2) المسند منه فقط، وجعله من مسند عمر رضي الله عنه، تبعا لمالك رحمه الله، وتبعهما ابن الأثير في (جامع الأصول) ، إلا أنه أسنده لعمر رضي الله عنه، ولعله سقطت كلمة- ابن- من النسخة التي وقعت لابن الأثير (3) .
وروى الشافعي هذا الأثر، عن سفيان بن عيينة، عن وردان الرومي - الصائغ - عن ابن عمر، فقال في آخره: " هذا عهد صاحبنا إلينا، وعهدنا إليكم " (4) ، قال الشافعي: يعني بصاحبنا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورجح البيهقي ذلك؛ لأن الأخبار ترجح أن ابن عمر لم يسمع في ذلك من النبي شيئا. ثم قال الشافعي: ولعله أراد عهد النبي إلى أصحابه بعدما ثبت له ذلك من حديث أبي سعيد وغيره. وتكلم ابن عبد البر في ذلك، ورجح رواية مالك، ونسب الخطأ للشافعي، ورأى أن رواية سفيان الثوري مجملة ورواية مالك مبينة [صاحبنا- نبينا] ولكن الصواب مع الشافعي؛ لما روى مسلم، عن نافع قال: " كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه
__________
(1) الموطأ- كتاب البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا (2 \ 633) رقم الحديث (31) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
(2) النسائي (7 \ 278) باب الدرهم بالدرهم.
(3) جامع الأصول (1 \ 468) .
(4) تكملة المجموع شرح المهذب- تقي الدين السبكي (10 \ 64، 65) ، والبيهقي (5 \ 279- 292) .(52/252)
شيئا، ولكن لرواية ابن عمر أصل في تحريم ربا الفضل؛ لأنه روى حادثة بلال عندما جاء بتمر جنيب ولعله- ابن عمر - أرسل ذلك؛ لما ثبت له من حديث أبي سعيد وغيره " (1) .
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء " - وهو: الربا- فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل فقال: " لا بأس، إذا كان يدا بيد (2) » .
__________
(1) التمهيد- ابن عبد البر- ط. المغرب (2 \ 248) .
(2) مسند أحمد (2 \ 109) ، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى الطبراني- مجمع الزوائد (4 \ 105) .(52/253)
(11) حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم:
أخرج البخاري بسنده قال: سمعت أبا المنهال [عبد الرحمن بن مطعم البناني المكي يروي عن ابن عباس والبراء بن عازب وزيد بن أرقم ت عام 106 هـ] قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم عن الصرف، فكل واحد منهم يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (1) » .
وقد أخرج البخاري هذا الحديث برواية أخر
ى عن أبي المنهال قال: كنت أتجر في الصرف، فسألت زيد بن أرقم رضي لله عنه [تحويل السند] سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2181) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/289) .(52/253)
الصرف فقالا: «كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: " إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نسيئا فلا يصلح (1) » .
وأخرجه البخاري ثالثة قال: «سألت أبا المنهال عن الصرف يدا بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد نسيئة فجاءنا البراء بن عازب، فسألناه، فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: " ما كان يدا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فردوه (2) » .
ولكن أوضح روايات البخاري لهذا الحديث تلك الرواية التي جاء بها في أول كتاب مناقب الأنصار.
عن سفيان عن عمر وسمع أبا المنهال - عبد الرحمن بن مطعم - قال: «باع شريك لي دراهم بدراهم في السوق نسيئة، فقلت: سبحان الله، أيصلح هذا؟ فقال: سبحان الله، والله لقد بعتها في السوق فما عابه أحد، فسألت البراء بن عازب، فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتبايع هذا البيع، فقال: " ما كان يدا بيد فليس به بأس وما كان نسيئة فلا يصلح " والق زيد بن أرقم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2498) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/374) .(52/254)
فاسأله، فإنه كان أعظمنا تجارة، فسألت زيد بن أرقم، فقال مثله (1) » .
والبراء بن عازب استصغر يوم بدر مع عبد الله بن عمر، ثم شهد أحدا وبقية المشاهد، وقد فتح الري عام 24 هـ، وشهد فتح [تستر] مع أبي موسى الأشعري، توفي في إمارة مصعب بن الزبير عام 72 هـ (2) .
أما زيد بن أرقم رضي الله عنه فقد استصغر يوم أحد، وكانت أول مشاهده غزوة الخندق، توفي رضي الله عنه عام 66 هـ، وقيل 68 هـ، وقد صرح البراء وزيد في حديثهما أنهما كانا شركاء في التجارة، وواضح من الحديث أنه يحكي ما كان أول الهجرة حيث اعتاد النساء وعدم التقابض، وهو ما كان شائعا في الجاهلية؛ ولهذا صرح الحميدي في مسنده بأن الحديث منسوخ (3) .
__________
(1) البخاري- كتاب مناقب الأنصار- باب حدثني حامد بن عمر- رقم (3939) ، (7 \ 272) ، ومسلم- البيوع- باب الربا- شرح النووي (11 \ 16) ، ومسند الحميدي (2 \ 317، 318) - رقم الحديث (727) ، وقد جزم الحميدي بنسخ الحديث كما قال بالنسخ الماوردي من الشافعية، والنسائي- البيوع- باب بيع الفضة بالذهب نسيئة (7 \ 280) ، والبيهقي- البيوع- باب من قال الربا في النسيئة (5 \ 280، 281) .
(2) الإصابة في تمييز الصحابة (1 \ 146) ترجمة (68) .
(3) مسند الحميدي (2 \ 317، 318) .(52/255)
ولزيد بن أرقم ذكر في حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع بن شرحبيل أنها قالت: " دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، قالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فقرأت عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) والحديث ضعيف؛ لأن فيه داود بن الزبرقان الذي قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء، وضعفه جدا علي بن المديني، واتهمه آخرون بعدم الحفظ؛ ولهذا قال عنه أحمد: صدوق فيما وافق الثقات ولا يحتج به إذا انفرد.
قال الشافعي: لو ثبت هذا الحديث فإن عائشة رضي الله عنها عابت على زيد بن أرقم بيعا إلى العطاء؛ لأنه أجل غير معلوم، وهذا ما لا يجيزه الشافعي، وإن أجاز العينة في شكلها الظاهري، ومن أصوله رحمه الله: إن اختلف الصحابة في مسألة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(52/256)
أن يأخذ بقول من وافقه القياس، ثم يقول: ونحن لا نثبت الحديث عن عائشة، كما أن زيدا لا يبيع إلا ما يراه حلالا، ولا يبتاع إلا مثله (1) .
__________
(1) المجموع (10 \ 151- 160) .(52/257)
(12) فضالة بن عبيد رضي الله عنه:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (1) » .
عن فضالة بن عبيد قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة، فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة، فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب وزنا بوزن (2) » ، وفي رواية قال: «اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا تباع حتى تفصل (3) » .
وفي أخرى قال حنش الصنعاني: (كنا مع فضالة في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة، فيها ذهب وورق وجوهر،
__________
(1) مسلم (3 \ 1214) ، رقم الحديث (1591) ، وأبو داود مختصر السنن والمعالم. (3215) ، (5 \ 25) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(3) مسلم بشرح النووي (11 \ 14 و 17) ، وأبو داود- عون المعبود (3 \ 254) ، والمختصر ومعالم السنن (5 \ 23) رقم الحديث (3212) ، والنسائي بحاشية السندي (4 \ 79) ، والترمذي- كتاب البيع (3 \ 546) .(52/257)
فأردت آن أشتريها، فسألت فضالة بن عبيد، فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل (1) » .
وأخرج الترمذي الرواية الثانية، وأبو داود الثانية والثالثة، ولأبي داود أيضا قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، حتى تميز بينه وبينه " فقال: إنما أردت الحجارة، وفي رواية التجارة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، حتى تميز بينهما "، قال فرده: حتى ميز بينهما (2) » .
وفي أخرى قال: «أصبت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز فأردت أن أبيعها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " افصل بعضها من بعض ثم بعها (3) » .
وفي أخرى قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (4) »
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) .
(2) أبو داود- المختصر والمعالم (5 \ 20) - كتاب البيوع- باب الصرف- رقم (3212- 3214) ، والبيهقي- البيوع- باب لا يباع ذهب بذهب مع أحد الذهبين شيء غير الذهب (5 \ 292، 293) ، والترمذي: 3 \ 546.
(3) أبو داود المصدر السابق- رقم (3215)
(4) في شرح مسلم للنووي ومراده- يتبايعون الأوقية من ذهب وخرز وغيره بدينارين أو ثلاثة وإلا فالأوقية أربعين درهما ولا أحد يبيع هذا القدر بدينارين أو ثلاثة، وظن الصحابة جوازه لاختلاط الذهب بغيره- مسلم، النووي (11 \ 19) .(52/258)
وحديث فضالة، قال في التلخيص: له عند الطبراني طرق كثيرة جدا فيها قلادة من خرز وذهب- ذهب وجوهر- خرز معلقة بذهب، وروي بيعها بسبعة دنانير، وباثني عشر دينارا، وبتسعة دنانير، وقد أجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها بيوع متعددة شهدها فضالة، قال ابن حجر: وهذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به ما يوجب الحكم بالاضطراب، سيما وأن معظم الرواة ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم وتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة.
وخلاصة الحديث: أن الذهب المختلط بغيره لا يجوز بيعه بذهب حتى يفصل ويميز؛ ليعرف مقدار الذهب بدقة ويتحقق التماثل بيقين، ومثل ذلك الفضة وسائر الأعيان الربوية (1) .
والموضوع الذي تطرحه أحاديث فضالة بن عبيد قد رأينا مثله في أحاديث عبادة بن الصامت، وروي مثلها عن أبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنه، وهي ما أخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، «أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل (2) » ، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا
__________
(1) نيل الأوطار (5 \ 305) .
(2) سنن النسائي البيوع (4572) ، مسند أحمد بن حنبل (6/448) ، موطأ مالك البيوع (1327) .(52/259)
أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن ".
وأخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين يوم خيبر أن يبيعا آنية من المغنم من ذهب أو فضة، فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا أو كل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما: " أربيتما فردا (1) » .
وروى سعيد بن منصور أن عمر رضي الله عنه أرسل رجلا ليبيع آنية مموهة بالذهب، فباعها من يهودي بأكثر من وزنها، فأمره عمر بالفسخ، وأمره أن يبيعها وزنا بوزن (2) .
__________
(1) الموطأ- البيوع- باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا رقم الحديث (28) ، (2 \ 632) .
(2) سنن سعيد بن منصور.(52/260)
(13) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
عن أبي عياش رضي الله عنه- واسمه زيد - أنه سأل(52/260)
سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت، فقال له سعد: أيتهما أفضل؟ قال: البيضاء، فنهاه عن ذلك، وقال سعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس؟ " قال: نعم، فنهاه عن ذلك (1) » .
وفي رواية أخرى لأبي داود عن أبي عياش أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة (2) » .
__________
(1) الموطأ- كتاب البيوع- باب ما يكره من بيع التمر (2 \ 624) رقم (22) ، وأبو داود- كتاب البيوع- باب بيع التمر بالتمر- مختصر السنن والمعالم (5 \ 32) - رقم (3220) ، والترمذي- كتاب البيوع- باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (3 \ 528) رقم الحديث (1225) ، والنسائي- البيوع- باب اشتراء التمر بالرطب (2 \ 219) رقم الحديث (4549) ، وابن ماجه- كتاب التجارات- باب بيع الرطب بالتمر (2 \ 29) رقم (2284) .
(2) أبو داود- المصدر السابق رقم الحديث (3221) .(52/261)
(14) جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
روى أبو محمد عبد الله بن وهب في مسنده قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: «كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعطي الصاع من حنطة في ستة آصع من تمر، فأما سوى ذلك من الطعام فيكره ذلك إلا مثلا بمثل» ، فالتماثل في بيع النقد - الحال- شرط لا بد منه (1)
__________
(1) المجموع (10 \ 66) .(52/261)
(15) رويفع بن ثابت رضي الله عنه:
أخرجه الطحاوي بسنده عن حنش الصنعاني يحدث عن رويفع بن ثابت يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال في غزوة خيبر: " بلغني أنكم تبتاعون المثقال بالنصف والثلثين، وأنه لا يصلح إلا المثقال بالمثقال والوزن بالوزن» ، ورويفع بن ثابت صحابي أنصاري، قال البخاري عنه في التاريخ الكبير: يعد في المصريين، وله حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) المجموع (10 \ 67) .(52/262)
(16) أنس بن مالك رضي الله عنه:
عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا (1) » .
__________
(1) سنن الدارقطني (3 \ 18) ، وفيه الربيع بن أبي صبيح، وثقه أبو زرعة وضعفه جماعة.(52/262)
(17) أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
أخرج ابن أبي شيبة وعبيد بن حميد، عن محمد بن السائب الكلبي، عن سلمة بن السائب، عن أبي رافع، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، والزائد والمستزيد في النار (1) » والكلبي ضعيف.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (7 \ 107) ، ومسند البزار.(52/262)
وحكم السبكي في (تكملة المجموع) : أن الحديث لم يصح (1) .
__________
(1) المجموع (10 \ 59) .(52/263)
(18) رافع بن خديج رضي الله عنه:
أخرج أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار بسنده قال حدثني نافع قال: مشى عبد الله بن عمر إلى رافع بن خديج في حديث بلغه عنه في بيان الصرف، فأتاه فدخل عليه فسأله عنه، فقال رافع: سمعته أذناي، وأبصرته عيناي، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشفوا الدينار على الدينار، والدرهم على الدرهم، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز، وإن استنظرك حتى يدخل عتبة بابه (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، سنن أبو داود كتاب الطهارة (169) ، كتاب النكاح (2061، 2114، 2174) ، كتاب الطلاق (2227) ، الطلاق (2306) ، كتاب الخراج والإمارة والفيء (3021) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2261) ، الأحكام (2430) ، كتاب الحدود (2559) ، كتاب الأشربة (3376) ، كتاب الطب (3468) ، الفتن (4077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، كتاب باقي مسند المكثرين (3/61) ، موطأ مالك كتاب البيوع (1329) ، سنن الدارمي النكاح (2177) ، كتاب النكاح (2257) ، كتاب المقدمة (649) .(52/263)
المزابنة ومسألة العرايا:
مما يلحق بأحاديث تحريم ربا الفضل بعض الأحاديث التي تناولت البيوع المنهي عنها لعدم تحقق التماثل في الجنس الربوي الواحد كما مر معنا ذكرها في بيوع الجاهلية.
والمزابنة لغة: الدفع بشدة، وسمي البيع كذلك؛ لأن كلا من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه بما يزداد فيه.
والمراد بها: بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر (1) .
__________
(1) جامع الأصول- ابن الأثير (1 \ 395) .(52/263)
والثمر: هو الرطب على النخلة، فإذا قطع فهو الرطب، وإذا خزن فهو التمر، ثم أطلق الثمر على كل محاصيل الأشجار.
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث أبي سعيد الخدري «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة (1) » ، ومثله عن أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وجاء في بعض الأحاديث (المزابنة) : بيع الثمر بالثمر كيلا، وبيع الكرم بالزبيب كيلا، وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله (2) » .
وذلك لأن مبادلة التمر بالتمر والقمح بالقمح والعنب بالزبيب لا بد فيها من التساوي، وإلا وقعا في ربا الفضل حيث لا يصلح الخرص والتخمين لتحقيق المساواة المطلوبة [الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة] .
بل جاء النهي عن بيع التمر بالرطب من حديث سعد بن أبي وقاص «أينقص الرطب إذا يبس؟ "، قال: نعم، فنهى عن ذلك (3) » .
أما حديث يحيى بن أبي كثير بسنده: عن سعد بن أبي وقاص: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة (4) » .
فالراجح: أن كلمة نسيئة ليست من النص، وقد ضبط الحديث أربعة حفاظ أحفظ من يحيى على النهي عن بيع الرطب
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2186) ، صحيح مسلم البيوع (1546) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3885) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2455) ، مسند أحمد بن حنبل (3/8) ، موطأ مالك البيوع (1318) ، سنن الدارمي البيوع (2557) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2173) ، صحيح مسلم البيوع (1542) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن أبو داود البيوع (3361) ، سنن ابن ماجه التجارات (2265) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك كتاب البيوع (1317) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1225) ، سنن أبو داود البيوع (3359) ، سنن ابن ماجه التجارات (2264) ، مسند أحمد بن حنبل (1/179) ، موطأ مالك البيوع (1316) .
(4) سنن الترمذي البيوع (1225) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4545) ، سنن أبو داود كتاب البيوع (3360) ، سنن ابن ماجه التجارات (2264) .(52/264)
بالتمر فقط (1) .
وأحاديث المزابنة تضمنت الرطب والزبيب، فيجب إضافتهما للأعيان الستة.
وتطبيقا لقاعدة [اليسر ورفع الحرج] رخص صلى الله عليه وسلم في العرايا، وهو: أن يبتاع الفقراء بتمرهم المخزون شيئا من الرطب على رؤوس النخل بالشروط المعروفة عند الفقهاء والتي تضمنها حديث محمود بن لبيد (2) .
- حاجة الفقراء للرطب. - عدم النقود في أيديهم. - في خمسة أوسق فما دون. - الالتزام بخرصها التقريبي. - عدم النساء فيها خلافا للمالكية (3) .
__________
(1) مختصر سنن أبي داود للمنذري ومعالم السنن (5 \ 36) - تحقيق محمد حامد الفقي.
(2) نيل الأوطار (5 \ 227) .
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير- دار الفكر (3 \ 180) .(52/265)
الربا في الحيوان:
لا يدخل الحيوان في الأموال الربوية؛ لأنه قيمي، ولكن مبادلة الحيوان بالحيوان أو القرض فيه يجعل التبادل داخلا في مبادلة المتجانسين، وقد كان اقتراض الحيوان أمرا تعرفه العرب - كما مر في ربا الجاهلية ويضاعفون السن في كل عام- وقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض سنا فأعطى سنا خيرا من سنه، وقال: " خياركم أحاسنكم(52/265)
قضاء (1) » رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه (2) .
وأخرى الجماعة إلا البخاري حديث أبي رافع أنه قال: «استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكرا ورد خيارا رباعيا (3) » .
وقد اتفق الفقهاء على جواز قرض الحيوان، وجواز السلم فيه، ومنعه الحنفية (4) ، وقالوا: إن المال القيمي يصير مثليا إذا أمكن وصفه في الذمة.
ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز مبادلة الحيوان بالحيوان مع التفاضل دون نساء، أما مع النساء فهو قرض ربوي، واستدلوا بعدة أحاديث:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (5) » . أخرجه أبو داود.
وعن حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " باع جملا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل " أخرجه الموطأ.
__________
(1) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2392) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .
(2) نيل الأوطار- الشوكاني (5 \ 259) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1600) ، سنن الترمذي البيوع (1318) ، سنن النسائي البيوع (4617) ، سنن أبو داود البيوع (3346) ، سنن ابن ماجه التجارات (2285) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) ، موطأ مالك البيوع (1384) ، سنن الدارمي البيوع (2565) .
(4) معاني الآثار- الطحاوي- (4 \ 60) .
(5) سنن أبي داود- البيوع- باب الرخصة في الحيوان بالحيوان نسيئة (2 \ 225) ، والبيهقي- السنن الكبرى- البيوع- باب بيع الحيوان وغيره مما لا ربا فيه (5 \ 287، 288) ، والدارقطني- البيوع- (3 \ 69) .(52/266)
وعن نافع: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة ".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال.
«لا يصلح الحيوان اثنان بواحد نسيئة، ولا بأس به يدا بيد (1) » .
واحتج الحنفية لمذهبهم بحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (2) » أخرجه الترمذي والنسائي، وفيه انقطاع بين الحسن وسمرة، حيث لم يسمع منه إلا حديث العقيقة.
ويرى الحنفية: أن هذا الحديث يعتبر نسخا للأحاديث السابقة التي تجيز الاستقراض والتفاضل، وقالوا: إن الأحاديث المبيحة إنما هي في السلم الذي يجعل القيمي بوصفه في الذمة كالمثليات (3) .
ولكن مذهب الجمهور تعضده الأدلة الثابتة؛ ولهذا فلا بأس
__________
(1) أخرجه الترمذي- من أبواب البيوع باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، عارضة الأحوذي (5 \ 247) ، والجامع الصحيح (3 \ 539) - رقم (1238) ، وابن ماجه في التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة (2 \ 763) .
(2) سنن الترمذي كتاب البيوع (1237) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4620) ، سنن أبو داود البيوع (3356) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270) ، مسند أحمد بن حنبل (5/19) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564) .
(3) رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار- أبو إسحاق الجعبري- تحقيق د. حسن الأهدل ص (418) .(52/267)
في مبادلة الحيوان بالحيوان مع الفضل والنساء.(52/268)
النتائج المستفادة من سرد الأحاديث:
يتضح من سرد هذه الأحاديث الأمور التالية:
1 - أن الأموال الربوية كلها من المثليات القابلة للقرض، وليست أموالا قيمية- كالدور، والثياب- تقبل الإجارة والإعارة، مما يؤكد أن الأصل في التحريم هو القروض، لا سيما وأن هذه الأموال كان العرب والأمم السابقة يتقارضونها فيما بينهم.
2 - أن الفضل بمعنى: الزيادة يتحقق في الكمية والمقدار، كما يتحقق في فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين، ولهذا شرطت الأحاديث: " مثلا بمثل، يدا بيد، سواء بسواء ".
3 - أن اختلاف المتبادلين فئة [ذهب بقمح] يبيح الفضل والنساء، واختلافهما صنفا [ذهب بفضة- قمح بشعير] يبيح الفضل وحده ولا يبيح النساء، أما اختلافهما جودة ورداءة فلا عبرة له. فكل ما لا يجوز فيه التفاضل لا يجوز فيه النساء، فإذا جاز التفاضل قد يجوز النساء وقد لا يجوز.
4 - الأعيان الربوية مجموعتان:
أجمع الفقهاء على انقسام الأعيان الربوية إلى مجموعتين: النقود، والأطعمة. وتنفرد كل مجموعة بعلتها، وهذا الإجماع تخصيص لعموم حديث الأعيان الستة أو تقييد لمطلقه، كما نقله السبكي عن محمد بن يحيى(52/268)
والشيرازي صاحب المهذب (1) .
ويستفاد هذا الإجماع من اتفاق المذاهب على جواز إسلام الموزونات كلها بالذهب والفضة، وهو ما انتقضت به علة الحنفية في الوزن.
فجواز عقد السلم بتقديم الذهب والفضة على أن يستلم قمحا وشعيرا في المستقبل دليل على تميز الذهب والفضة عن المطعومات الأربعة.
على أنه بوسعنا الاستدلال على تقسيم الأعيان الربوية من أحاديث الربا نفسها، فأحاديث الصرف التي رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه تناولت الذهب والفضة وحدهما بأحاديث مستقلة عن الأعيان الستة.
ومثل ذلك: حديث أبي بكرة، وحديث عمر رضي الله عنه في المصارفة بين طلحة ومالك بن أوس، وحديث ابن عمر، وحديث علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وفضالة بن عبيد، وأبي الدرداء، ورويفع بن ثابت، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وأصرح من هذا كله حديث أبي هريرة الذي روى حديث الدينار والدرهم مستقلا عن الأطعمة الأربعة في رواية أخرى؛ ولهذا فإنه من العبث النظر إلى الأعيان الستة على أنها مجموعة واحدة، ويجب أن يشملها علة ربوية واحدة.
__________
(1) تكملة المجموع شرح المهذب- السبكي- (10 \ 91) .(52/269)
يمتاز ربا الفضل بالخصائص التالية:
1 - لا يكون ربا الفضل إلا في صور خاصة من عقدي الصرف والمقايضة عند اتحاد جنس البدلين، كالذهب بالذهب والتمر بالتمر. ولا يكون ربا الفضل أبدا في البيع المطلق عند توسيط النقود.
2 - لا يكون ربا الفضل إلا في البيوع الحاضرة فحيث حظر التفاضل بين البدلين يحرم تأجيل شيء منهما؛ ولهذا سمي ربا الفضل بربا النقد الذي يقابل ربا الدين الذي لا يقع إلا في التأجيل والنسيئة.
3 - التفاضل المحظور هو زيادة كمية في مقدار أحد البدلين، كما في حديث التمر " كيل جيد بكيلين من الرديء " وعند وجود فرق يعتد به في قيمة البدلين دل الشرع على عدم مقايضتهما مباشرة لأنها توقع في ربا الفضل بل يباع البدلان بالنقود ويشتري الطرفان الصنف الذي يريد. وفي حال إهدار التفاوت في قيم البدلين المتماثلين جنسا إذا تم تبادلهما بالصرف والمقايضة لا يجوز إهدار ذلك في مال اليتيم والمريض ومال الوقف حيث يتم التقويم بقيمته من غير جنسه مراعاة لحق العبد ولحق الشرع (1) .
4 - لا ينتفي ربا الفضل إلا بتحقق المساواة بين البدلين كيلا أو وزنا ولا عبرة لإبراء الطرف الخاسر فيهما لأن من زاد أو
__________
(1) حاشية ابن عابدين (4 \ 202، 203) .(52/270)
استزاد أو ازداد فقد أربى والحظر لمحض حق الله تعالى، ويقع العقد الربوي باطلا في الصرف والمقايضة، أما في القرض فيفسد العقد بشرط الربا ويرجع صحيحا بإلغاء الشرط المفسد.
5 - ربا الفضل يوصد بعض أبواب المقايضة، ويفتح أبواب البيع بالنقود إذ هي أضبط وأدق تقديرا لقيم السلع وفي استخدام النقود تنشيط للتجارة وازدهار للأسواق.(52/271)
ربا النساء أو ربا اليد:
تعارف الفقهاء إطلاق ربا النسيئة على ربا الديون المذكورة في القرآن الكريم، بينما ربا (النساء) هو الشطر الثاني المفهوم من حديث الأعيان الستة مما يسميه الفقهاء ربا النساء، أو ربا اليد عند الشافعية - إنما هو في البيوع ولا علاقة له بالديون، وقد حظرت به السنة التأجيل في بعض البيوع الخاصة أو التأخير في تنفيذها، فيجب لصحة العقد حضور البدلين وتسليمهما ناجزا، ولا يدخل فيه السلف في أي من المتعاقدين ويمتاز بالخصائص التالية:
1 - يسري ربا النساء حيث يطبق ربا الفضل دائما، كبيع الذهب بالذهب، فكما يحرم التفاضل يحرم غياب أحد البدلين عن مجلس العقد في الصرف والمقايضة، فلا يصح العقد بشرط تأجيل أحد البدلين.
2 - يتسع ربا النساء في الصرف والمقايضة حتى عند اختلاف(52/271)
الجنس، فيجب تسليم البدلين عند التعاقد في مجموعتي النقود والأطعمة، بينما يتوقف عمل ربا النسيئة باستخدام النقد مع السلع الأخرى.
3 - أباحت الشريعة التجارة المؤجلة البيع الآجل، والقروض، كما نظمته آية الدين حيث يتأجل دين القرض؛ رفقا بالمدين، ويباح للتاجر استثمار ماله في البيع المؤجل، والسلم بتأخير الثمن أو المبيع فيهما.
فكان ربا نسيئة استثناء من هذه الإباحة، وهذا هو مصدر اعتراض القائلين: " إنما البيع مثل الربا "؛ لأنهم قاسوا القرض بفائدة معينة على البيع المؤجل بربح مقابل للتأجيل، وهو البيع الذي يسميه الحنفية: المرابحة، ويشبه البيع بالتقسيط مع زيادة الثمن مقابل التأجيل.
وللشوكاني رسالة في هذا الموضوع سماها: [شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل] (1) .
وما دامت الزيادة في الأثمان المؤجلة أصلها الإباحة، فليس القصد من تحريم التأجيل في الصرف والمقايضة هو سد الذريعة إلى ربا الديون الذي يحظر الاعتياض عن التأجيل - كما قال الأستاذ زكي الدين بدوي - تبعا لابن القيم، وصار هذا عرفا عند أكثر الفقهاء.
4 - حرمت السنة بيع الكالئ بالكالئ فلا يصح بيع مؤجل
__________
(1) نيل الأوطار- الشوكاني (5 \ 129، 130) .(52/272)
بمؤجل مثله ولو كان الدينان متماثلين نوعا ومقدارا وأجلا، وفي ذلك تأكيد لربط ماهية ربا النسيئة بالديون وإبراز ربا النساء كقسم مستقل عن الديون وليبقى قسيما لربا البيوع فلا يختلط بربا الديون، فهناك فرق بين ربا النساء- الذي يحظر التأجيل في بعض البيوع وبين ربا الدين الذي لا يعرض بنوع من التحريم لتأجيل الديون، وإنما يقتصر التحريم فيه على أخذ عوض عن الأجل زيادة عن رأس مال الدين.
ولعل ربا البيوع لم يكن واضح المعالم حتى بالنسبة لبعض الصحابة حيث كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يبيع نفاية بيت المال في الكوفة حتى بلغه النهي عنه، فقال للصيارفة: يا معشر الصيارفة، إن الذي كنت أبايعكم لا يحل، لا تحل الفضة إلا وزنا بوزن (1) .
واستشهد بمذهب ابن عباس قبل رجوعه، فكان رضي الله عنه لا يرى بأسا في بيع درهم بدرهمين حتى بلغه حديث أبي سعيد الخدري فتراجع عن قوله.
ولهذا كان المخالفون فيه صغار الصحابة " ابن عباس - ابن مسعود - معاوية - البراء - أسامة - ابن عمر - ابن الزبير " رضي الله عنهم.
إن اختلاف العلماء ليس في أصل تحريم ربا الفضل، بل في نطاق هذا التحريم وشموله لأنواع متعددة في المعاملات
__________
(1) السبكي تكملة المجموع (10 \ 39) .(52/273)
بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته، فالأعيان الستة ليست محل اختلاف، بل الاختلاف في تعديتها بالعلة.
إن الشريعة عندما تحرم أمرا فإنها تضيق المسالك والطرق المؤدية إليه لتقتلع جذوره، ففي الخمر لم يحرم الإسلام شرب القدر المسكر فقط، بل حرم شرب القليل والكثير " ما أسكر كثيره فقليله حرام "؛ وما ذلك إلا لأن المرء إذا اعتاد القليل خلص إلى الكثير، ولهذا حرم الإسلام قليل الخمر وكثيره، بل حرم تصنيعها وترويجها والمساعدة فيها، ومثل هذا في الربا، حيث حرم ربا الفضل كي لا يتوصل به لربا النسيئة- الربا الكامل الجلي- تضييقا لمسالك الربا، وقطعا لدابره في المجتمع، فتحريم ربا الفضل إنما هو سد للذرائع، فنهى عن بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ونهى عن بيع الجنس بغير جنسه إلا بشرط الحلول والتقابض في المجلس.
قال ابن القيم: " فمنعهم من ربا الفضل؛ لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ولا يكون هذا إلا للتفاوت في الجودة والسكة والثقل والخفة تدرجوا بالربح المعجل إلى الربح المؤخر، وهو ربا النسيئة، وهي ذريعة قريبة، فمن الحكمة منعهم من ذلك لسد باب المفسدة " (1) .
وكما حرم ربا الفضل حرم العمل عند المرابي وإعانته على الربا، فالآخذ والمعطي سواء، وكذلك كاتبه وشاهداه كلهم في
__________
(1) إعلام الموقعين (2 \ 130) .(52/274)
الإثم سواء، ويدخل في اللغة من يؤجر عماراته للمرابين، ومن يودع الأموال عندهم وإن لم يتقاضوا منهم الربا.
وتضييقا لمسالك الربا نهى صلى الله عليه وسلم عن منافع القروض كهدايا المقترضين للدائنين وغيرها من الخدمات المقدمة بسبب القرض ما لم تكن لعادة سابقة على القرض، وقد تواتر ذلك عن الصحابة بأحاديث كثيرة.
ومن هذا الباب حرم الإسلام بيوع الجاهلية المؤدية إلى ربا الفضل فنهى عن المخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة: بيع التمر على الأرض بالتمر في النخل، والمحاقلة: وهي بيع الحب في سنبله. قال ابن كثير: " وإنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها؛ حسما لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة " (1) ، " أينقص الرطب إذا يبس؟ ".
وقد حرم الإسلام كل صور التحايل على الربا المحرم؛ كبيع العينة، وتوسيط شخص ثالث بينهما، وغير ذلك من الحيل التي ابتدعها أكلة الربا.
أكدت السنة تحريم ربا النسيئة المذكورة في القرآن الكريم وأضافت أحاديث الأعيان الستة النهي عن معاملات لا يظهر فيها الإنساء والتأجيل، وإنما فيها فضل- زيادة أحد البدلين على الآخر- وهو ما عرف بربا الفضل.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم- ابن كثير (1 \ 581) .(52/275)
وقد يتوهم بعض الباحثين أن العلاقة بين ربا القرآن الكريم - الديون- وربا السنة- البيوع- هي علاقة التباين، فالتمسوا لربا الفضل حكما تختلف عن حكمة تحريم ربا الديون، وكانت هذه الحكم تتنافى مع يسر الشريعة وإباحتها للمسلم التمتع في مباهج الحياة والحلال الطيب من المتاع مما يشي بتسرب شيء من تعاليم الكنيسة في الحجر والتضييق.
ولو صدقت هذه الحكم لما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا توسعة لمن اشتهى الرطب، مما يدل على أن المقصود حظر طريقة معينة في التعامل، وليس حظر الحصول على الجيد من الطعام، وقد أصاب ابن القيم عندما أشار إلى أن تحريم الفضل إنما هو لسد الذريعة إلى ربا النسيئة، وهو ما يؤكده الشاطبي في حديثه عن حكمة التحريم.
والحقيقة أن حكمة التحريم واحدة في ربا القرآن وربا السنة، هي: منع الظلم الذي دلت عليه آيات الربا نصا في أكثر من موضع، وأن اختصاص الأصناف الستة بالذكر ليس لذواتها أو لصفات معينة فيها، بل مراعاة للواقع حيث كانت تمثل ما يجري به التعامل الفعلي (فيما يكال ويوزن، أو في السن كالحيوان) ويؤكد ذلك نصوص العهد القديم والجديد في الديانات السابقة.
ولقد جاءت الأوامر بالزكاة في القرآن الكريم دون تحديد أصناف الأموال التي تخرج منها، وفصلت السنة ذلك، ولم يقل أحد بالتفريق بين الزكاة في القرآن الكريم والزكاة في السنة النبوية، فيجب أن ينسحب ذلك على الربا، فليس في المحرمات(52/276)
ما له حكمة تحريم قرآنية تختلف عن حكمة واردة في السنة النبوية وحكمة التحريم في كل واحدة. وكذب المستشرقون في ادعاءاتهم أن ربا الفضل أخذه المسلمون عن اليهود، فالفقه اليهودي لا يعرف ربا البيوع نهائيا.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(52/277)
صفحة فارغة(52/278)
البيع بشرط البراءة من العيب
د. عبد العزيز بن محمد الحجيلان (1)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، هدانا للإسلام، وأكمل لنا الدين، وبين لنا الحلال والحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإنه لا بد للناس من التعامل فيما بينهم بالبيع والشراء وغيرهما، فيحتاجون لمعرفة أحكام ذلك، ليكون تعاملهم وفق ما جاء به الشرع.
وقد كنت ألاحظ منذ زمن طويل مخالفات من بعض الناس في " البيع بشرط البراءة من العيب " وخاصة في بيوع المزاد، ولهم في ذلك أساليب متنوعة، منها تعداد العيوب الممكن حصولها في المبيع ولو لم تكن فيه في الحال، ومنها اشتراط المبيع على حال لا يصلح معها للانتفاع، بل هو في حكم التالف كقولهم في السيارة مثلا: كومة حديد، وفي البيت: كوم تراب،
__________
(1) الأستاذ المشارك بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم(52/279)
ونحو ذلك، وكنت كلما رأيت شيئا من ذلك راودتني فكرة بحث هذه المسألة لمعرفة الصواب فيها وبيانه لينتفع الناس به، ولكن المعوقات والشواغل لم تسمح لي بذلك.
ثم لما وجدت في وقتي شيئا من الفسحة عقدت العزم واستعنت بالله- عز وجل- وشرعت في بحثها.
وقد قسمت الكلام فيها: إلى تمهيد وخمس مسائل، وذلك كما يلي:(52/280)
التمهيد: في تعريف البراءة، والعيب، وذكر بعض الأمثلة للعيوب.
المسألة الأولى: حكم اشتراط البراءة من العيب.
المسألة الثانية: ما تشمله البراءة من العيب عند القائلين بصحة الشرط.
المسألة الثالثة: حكم البيع إذا اشترط البراءة عند القائلين بعدم صحة الشرط.
المسألة الرابعة: شرط المبيع على صفة تالف، وتعداد جميع أو أغلب العيوب الممكنة في المبيع هل هو شرط للبراءة من العيب؟
المسألة الخامسة: كتابة عبارة " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل " على الفاتورة هل هي شرط للبراءة من العيب؟
وقد بذلت جهدي في هذا البحث متبعا في ذلك المنهج(52/280)
العلمي المتعارف عليه ممثلا للمسائل، وموثقا للأقوال، ومخرجا للأحاديث والآثار، ومناقشا للأدلة، ومترجما لما سوى الخلفاء الأربعة والأئمة الأربعة من الأعلام بتراجم موجزة ومفسرا للغريب، ومرجحا في كل مسألة حسب ما ظهر لي. وقد حاولت في كل ذلك الاستقصاء والتمحيص معتمدا على المصادر والمراجع المعتمدة.
أرجو أن أكون قد وفقت في بحث هذه المسألة وأشبعتها بحثا، والنقص والخطأ مما جبل عليه البشر، فالكمال لله- عز وجل- والعصمة لرسله- صلوات الله وسلامه عليهم.
أسأل الله- سبحانه وتعالى- أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يوفقني لما يحب ويرضاه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
تمهيد: في تعريف البراءة، والعيب، وذكر بعض الأمثلة للعيوب.
تعريف البراءة والعيب في اللغة:
البراءة في اللغة: قال في لسان العرب مصدر (برئ) إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر.
قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلص من عهدة الرد به.(52/281)
والعيب في اللغة: قال في لسان العرب: مصدر (عاب يعيب) ، ويقال: العاب والعيب، والعيبة، وهو الوصمة، وما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة مما يعد ناقصا.
تعريف العيب في الاصطلاح:
عرفه بعض الفقهاء بأنه: ما ينقص به عين المبيع أو قيمته نقصا يفوت به غرضا صحيحا إذا غلب في جنس المبيع عدمه.
وقال صاحب المغني في بيانه للعيوب: " وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار، لأن المبيع إنما صار محلا للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصا فيها يكون عيبا، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن، وهم التجار " (1) .
وللفقهاء في ذلك تفصيلات وزيادات ليس هذا مكان بسطها.
بعض الأمثلة للعيوب:
ومن أمثلة هذه العيوب في الرقيق: الجنون، والبرص، والعرج، والعور، والطرش، والحول، والأصبع الزائدة والناقصة (2)
__________
(1) ينظر المغني 6 \ 235.
(2) الهداية لأبي الخطاب 1 \ 143، والمغني 6 \ 235، 236، والمبدع 4 \ 86.(52/282)
ومن أمثلتها في الحيوان: الجرب، والعمى، والعض، والرفس (1) ، ومن أمثلتها في الدور: انكسار خشب السقف إذا كان من خشب، تصدع الجدران، وعدم الطريق (2) ، ومن أمثلتها في السيارات إذا اشتراها جديدة: الاستعمال ولو يسيرا، أو تغيير بعض أجهزتها، أو بعض أجزائها، كعجلاتها، أو أبوابها، أو غير ذلك (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 \ 61، وخيار المجلس والعيب للدكتور الطيار ص 149، 150.
(2) خيار المجلس والعيب للدكتور الطيار ص 151.
(3) خيار المجلس والعيب للدكتور الطيار ص 153، 154.(52/283)
المسألة الأولى: حكم اشتراط البراءة من العيب:
صورة المسألة والتمثيل لها: أن يبيع شخص عينا من الأعيان كدار، أو آلة، أو حيوان، ويشترط على المشتري البراءة من كل عيب فيها، أو من عيب معين لغرض من الأغراض (1) .
وقال الدكتور عبد الله الطيار في صورتها: أن يشترط البائع على المشتري التزام كل عيب يجده في المبيع على العموم (2) .
ومثالها: اشترى زيد من عمرو سيارة، وقال عمرو لزيد عند العقد: بعت هذه السيارة على أن أكون بريئا من دعوى العيب، فاشتراها زيد على هذا الشرط.
__________
(1) ينظر في ذلك في الجملة: القوانين الفقهية ص 207، وبداية المجتهد 2 \ 184.
(2) ينظر خيار المجلس والعيب في الفقه الإسلامي ص 155.(52/283)
تحرير محل النزاع:
يجب على البائع أن يبين للمشتري كل عيب يعلمه في المبيع ولا يجوز له كتمه، قال صاحب المغني في كلامه على مسائل الخيار: ". . . أحدها أن من علم بسلعته عيبا لم يجز بيعها حتى يبينه للمشتري، فإن لم يبينه فهو آثم عاص. . " ثم ساق الأدلة على ذلك (1) . فإذا فعل ذلك، أي بين للمشتري العيب، وأوقفه عليه فقد برئ منه، ولزم المشتري، ولا رد له بذلك العيب، وهذا بالإجماع.
جاء في مراتب الإجماع: " واتفقوا أنه إذا بين له البائع بعيب فيه، وحد مقداره ووقفه عليه إن كان في جسم المبيع فرضي بذلك أنه قد لزمه، ولا رد له بذلك العيب ".
__________
(1) ينظر: المغني 6 \ 224، 225، كما ينظر الهداية لأبي الخطاب 1 \ 142 وغيرهما.(52/284)
الخلاف في المسألة:
فإن شرط البراءة من العيب مع علمه به ولم يبينه، أو مع عدم علمه فقد اختلف أهل العلم في براءته بهذا الشرط على سبعة أقوال:(52/284)
القول الأول: أن هذا الشرط صحيح، ويبرأ به البائع مطلقا. روي ذلك عن زيد بن ثابت (1) وابن عمر (2) ، وبه قال الحنفية، وهو قول للشافعية.
وهو رواية عن الإمام أحمد، خرجها بعضهم من قوله
__________
(1) سيأتي تخريج قوله في الأدلة إن شاء الله.
(2) سيأتي بيان قوله في قصته مع عثمان- رضي الله عنهم- في الأدلة إن شاء الله.(52/285)
بجواز البراءة من المجهول.
القول الثاني: أن هذا الشرط باطل، ولا يبرأ به البائع إلا فيما علمه من العيب فسماه للمشتري، فأبرأه منه كما تقدم في أول المسألة.
وبهذا قال إبراهيم النخعي، والحكم (1) .، وحماد (2) ،
__________
(1) ذكر ذلك عنه ابن قدامة في المغني 6 \ 265
(2) ذكر ذلك عنه ابن قدامة في المغني 6 \ 265.(52/286)
والحسن. والشعبي. وهو قول للشافعية.
وهو المشهور من الروايات عن الإمام أحمد، وهو المذهب عند أصحابه، وعليه جمهورهم.
قال المرداوي عن قول ابن قدامة: " وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ " (1) . " وهذا المذهب في ذلك بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب. . . " (2)
__________
(1) ينظر: المقنع ص 102.
(2) ينظر: الإنصاف 4 \ 359.(52/287)
وبه قال ابن حزم (1) .
القول الثالث: لا يصح الشرط، ولا يبرأ به البائع إلا فيما أراه ووضع يده عليه وبهذا قال عطاء، وشريح،
__________
(1) ينظر: المحلى 9 \ 41، 44.(52/288)
وطاووس (1) .
وذكره السبكي في تكملة المجموع رواية عن الإمام أحمد (2) ، ولم أعثر عليها في كتب أصحابه (3) .
القول الرابع: لا يصح هذا الشرط، ولا يبرأ به البائع إلا إذا عينه البائع وسماه إلا في الرقيق خاصة فإنه يصح إذا لم يعلم، ولا يصح إذا علم.
وهذا هو المشهور من الروايات عن الإمام مالك.
القول الخامس: لا يصح هذا الشرط، ولا يبرأ به البائع إلا
__________
(1) ذكر ذلك عنه السبكي في تكملة المجموع 12 \ 356.
(2) ينظر: تكملة المجموع 12 \ 357.
(3) وحتى الكتب التي تعتني بجميع الروايات كالإنصاف، والفروع، وغيرهما.(52/289)
من العيب الباطن الذي لم يعلمه في الحيوان والرقيق، أما الظاهر والباطن الذي علمه فلا يبرأ. وهذا هو الأظهر من الأقوال عند الشافعية.
القول السادس: لا يصح هذا الشرط ولا يبرأ به البائع إلا في الحيوان والرقيق. وهذا رواية عن الإمام مالك (1) .
وهذا القول قريب من سابقه إلا أنه يعمم الحكم في الحيوان والرقيق.
القول السابع: أن البائع يبرأ بالشرط مما لم يعلمه من العيب عند البيع، ولا يبرأ مما علمه عنده. وهو رواية عن الإمام أحمد. واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (2) ، وتلميذه ابن
__________
(1) تنظر في: الكافي لابن عبد البر 1 \ 713، وبداية المجتهد 2 \ 184.
(2) ينظر: الاختيارات ص 124. كما ذكر أن هذا اختيار المرداوي في الإنصاف 4 \ 359.(52/290)
القيم - عليهما رحمة الله-.(52/291)
الأدلة في المسألة:
أدلة أصحاب القول الأول:
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة، وآثار الصحابة - رضي الله عنهم- والمعقول:
أولا: من السنة:
1 - ما روته أم سلمة - رضي الله عنها- قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان خصمان في مواريث لهما لم تكن لها بينة إلا دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من(52/291)
حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من نار ". فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحالا (1) » .
2 - حديث «علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصالح بني جذيمة، فواداهم حتى ميلغة الكلب، وبقي في يديه مال، فقال: هذا لكم ما لا تعلمونه ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر (2) » .
وجه الاستدلال:
أن الحديثين يدلان على أن البراءة من الحقوق المجهولة جائزة، والبراءة من العيب براءة من حق مجهول، فتجوز (3) .
وقال في المبسوط عن حديث علي " فهذا دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة " (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأقضية- باب في قضاء القاضي إذا أخطأ 3 \ 301، الحديث رقم 3584، وسكت عنه. والإمام أحمد في مسنده 6 \ 325. وأصله في الصحيحين.
(2) ذكر ذلك ابن هشام في سيرته على شكل غزوة طويلة 4 \ 70 وأصله بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة في صحيح البخاري في كتاب المغازي- باب بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة 5 \ 107.
(3) ينظر: المغني 6 \ 265.
(4) ينظر: المبسوط 13 \ 92.(52/292)
3 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون على شروطهم (1) » (2) .
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث عام في جواز الاشتراط، فيدخل في عمومه شرط البراءة من العيب فيصح.
مناقشة هذا الحديث: نوقش من وجهين:
الأول: أنه حديث باطل، لا يصح (3) .
الإجابة عن هذا الوجه: يجاب بعدم التسليم ببطلانه، بل هو صحيح، فقد صححه صاحب إرواء الغليل وقال بعد أن ذكر طرقه: " وجملة القول أن
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأقضية- باب في الصلح 3 \ 304، الحديث رقم 3594 واللفظ له، وسكت عنه. والدارقطني في سننه في كتاب البيوع 3 \ 27، الحديث رقم 96. والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب الشركة- باب الشروط في الشركة وغيرها 6 \ 78، وفي كتاب الوقف باب الصدقة على ما شرط الواقف من الأثرة والتقدمة والتسوية 6 \ 166. والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع 2 \ 49، وسكت عنه، وقال الذهبي في تلخيصه: '' ضعفه النسائي، ومشاه غيره ''. وقد رواه بالإضافة إلى أبي هريرة عائشة، وأنس بن مالك، وعمر بن عوف، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وله ألفاظ متعددة، وفيه زيادات.
(2) استدل بذلك ابن حزم في المحلى 9 \ 44، والسبكي في تكملة المجموع 12 \ 362.
(3) ينظر: المحلى 9 \ 44، وتكملة المجموع للسبكي 12 \ 363.(52/293)
الحديث بمجموع هذه الطرق يرتقي إلى درجة الصحيح لغيره " (1) .
الثاني: أنه لو صح لم يكن لهم فيه حجة، لأن شروط المسلمين ليست إلا الشروط التي نص الله تعالى على إباحتها ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا الشروط التي لم يبحها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (2) » (3)
__________
(1) ينظر: إرواء الغليل 5 \ 146، الحديث رقم 1303.
(2) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها- في قصة بريرة- رضي الله عنها- المشهورة، البخاري في صحيحه في كتاب المكاتب- باب المكاتب ونجومه. . . . 3 \ 126، وباب ما يجوز من شروط المكاتب. . . . 3 \ 126 - 127، وباب استعانة المكاتب وسؤاله الناس 3 \ 127، وفي كتاب الشروط- باب الشروط في الولاء 3 \ 177، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه في كتاب العتق- باب إنما الولاء لمن أعتق 2 \ 1141، 3 \ 1143، الأحاديث 6- 9. وأبو داود في سننه في كتاب العتق- باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة 4 \ 21، الحديث رقم 3929 والترمذي في سننه أبواب الوصايا- باب رقم 7 (بدون عنوان) 3 \ 295، الحديث رقم 2207. والنسائي في سننه في كتاب البيوع- باب المكاتب يباع قبل أن يقضي من كتابته شيء 7 \ 305، 306، الحديث رقم 4656. وابن ماجه في سننه في كتاب العتق- باب المكاتب 2 \ 842، 843، الحديث رقم 2521 باللفظ المذكور. ومالك في الموطأ في كتاب الولاء والعتق- باب مصير الولاء لمن أعتق 2 \ 780، 781- الحديث رقم 17. والإمام أحمد في مسنده 6 \ 206، 213، 271- 272. وغيرهم
(3) ينظر: المحلى 9 \ 44، تكملة المجموع للسبكي 12 \ 363.(52/294)
الإجابة عن هذا الوجه:
يجاب عنه بأن الأصل جواز الاشتراط لهذا الحديث، ولا يلزم لصحة اشتراط الشرط أن يكون منصوصا عليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بل الذي يلزم ألا يكون مخالفا لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض روايات الحديث «إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا (1) » .
وأما «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (2) » فمعناه كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل، قال ابن عمر، أو عمر: " كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل " (3) .
جاء في فتح الباري: " وهنا أراد تفسير قوله: (ليس في كتاب الله) وأن المراد به ما خالف كتاب الله " (4) .
ولم يرد عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم جواز شرط البراءة من العيب إلا إذا كان البائع قد علم به فكتمه لما فيه من الغش والتدليس.
ثانيا: الآثار عن الصحابة- رضي الله عنهم-:
1 - ما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- أنه باع غلاما له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشروط- باب المكاتب وما يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله 3 \ 184.
(4) ينظر: فتح الباري 5 \ 188، 353، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية كما جاء في مجموع فتاواه 29 \ 347.(52/295)
لعبد الله بن عمر: بالعبد داء لم تسمه لي، فاختصما إلى عثمان بن عفان، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي، قال عبد الله بن عمر: بعته بالبراءة، فقضى عثمان بن عفان على عبد الله بن عمر أن يحلف له لقد باعه العبد وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله بن عمر أن يحلف، وارتجع العبد، فباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم.
وجه الاستدلال:
وجه الاستدلال بهذا الأثر أنهم اتفقوا على جواز البيع بشرط البراءة من العيب، وإنما اختلفوا في صحة الشرط، فيستدل باتفاقهم على جواز البيع، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (1) » على صحة الشرط (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل.
(2) ينظر المبسوط 13 \ 92.(52/296)
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه لا ملازمة بين صحة البيع وصحة الشرط، فقد يصح أصل العقد ويبطل الشرط، وفي حديث عائشة - رضي الله عنها- المتقدم أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط ولم يبطل العقد، وأما الحديث فقد جاء في آخره في بعض رواياته: ". . . «إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (1) » وشرط البراءة إذا كان مع علم البائع بالعيب وكتمه له فقد أدى إلى تحليل الحرام وهو الغش والتدليس، جاء في تكملة المجموع: " قال الإمام: الضابط فيما يحرم من ذلك أن من علم شيئا يثبت الخيار فأخفاه فقد فعل محرما" (2) .
2 - ما روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه- أنه كان يرى البراءة من كل عيب جائزا
__________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل.
(2) ينظر تكملة المجموع للسبكي 12 \ 118.(52/297)
مناقشة هذا الدليل:
الأول: أنه غير ثابت، قال يحيى بن معين: حديث شريك عن عاصم بن عبد الله عن زيد بن ثابت: البراءة من كل عيب براءة، ليس يثبت، تفرد به شريك وكان في كتابه عن أشعث بن سوار، وسئل ابن المبارك عن هذا الحديث فقال: أجاب شريك عن غير ما كان في كتابه، ولم نجد لهذا الحديث أصلا (1) .
الثاني: أنه رأي لزيد، وقد خالفه فيه غيره من الصحابة.
ثالثا: المعقول:
1 - أن هذا الشرط إسقاط حق، والإسقاط لا يفضي إلى المنازعة، فيجوز مع الجهالة (2) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بعدم التسليم بأن ذلك لا يفضي إلى المنازعة مطلقا، بل قد يفضي إليها إذا كان العيب فاحشا يتعذر معه الانتفاع بالمبيع، أو تعددت العيوب.
كما أن المانع من ذلك لا يقتصر على الإفضاء إلى المنازعة، بل هناك جانب آخر وهو حصول الغبن عند وجود العيب، حيث إن العين لا تساوي الثمن الذي حصل به البيع، والله أعلم.
__________
(1) ذكر ذلك البيهقي في سننه الكبرى بعد ذكر الأثر 5 \ 328.
(2) ينظر في: الهداية للمرغيناني 3 \ 41، وتبيين الحقائق 4 \ 43، والاختيار 2 \ 21.(52/298)
2 - أنه عيب رضي به المشتري، فبرئ منه البائع، كما لو أوقفه عليه (1) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بعدم التسليم بمماثلة ذلك لإيقاف المشتري على العيب، لأن الوقوف تزول به الجهالة، وينتفي به الغبن، والغرر بخلاف ذلك.
كما أن هذا الدليل يرد له: كان هناك إعلام من البائع بالعيب، مع أن الخبر ليس كالمعاينة كما هو معلوم.
3 - أن البراءة من العيب إسقاط حق لا تسليم فيه، فصح من المجهول، قياسا على العتاق، والطلاق.
مناقشة هذا الدليل:
يناقش من ثلاثة وجوه:
الأول: أن اشتراط البائع البراءة من عيب يعلمه وقد كتمه تدليس وغش، لأن البراءة المطلقة لا تعني وجود العيب، وليس فيها العلم بمقداره، ولذا فإن اشتراط ذلك يفضي إلى المنازعة.
الثاني: أن القياس على العتاق والطلاق قياس مع الفارق، لأن البيع عقد معاوضة، وكل صفة في المبيع لها مقابل من الثمن
__________
(1) ينظر في: المهذب 1 \ 395.(52/299)
بخلاف العتاق والطلاق (1) .
الثالث: أن الطلاق والعتاق يصح تعليقهما، فصحا في المجهول، بخلاف الرد بالعيب (2) .
4 - أن القيام بالعيب حق من حقوق المشتري قبل البائع، فإذا أسقطه سقط، أصله سائر الحقوق الواجبة (3) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن الإبراء يختلف عن سائر الحقوق، لأن سائر الحقوق ملك للشخص، فيصح إبراؤه منها، ولا يضر جهالة قدرها ونوعها، بخلاف الإبراء من العيب فإن إسقاط الحق لم يملكه.
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة، والمعقول:
أولا: السنة:
1 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن
__________
(1) ينظر: بيع المزاد للدكتور عبد الله المطلق ص 76، 77.
(2) ينظر: تكملة المجموع للسبكي 12 \ 363.
(3) ينظر: بداية المجتهد 2 \ 184.(52/300)
بيع الغرر (1) » .
2 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا (2) » .
وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع - باب من قال: يجوز بيع العين الغائبة 3 \ 1153، الحديث رقم 4. وأبو داود في سننه في كتاب البيوع - باب بيع الغرر 3 \ 254، الحديث رقم 3376. والترمذي في سننه في أبواب البيوع - باب ما جاء في كراهية بيع الغرر - 2 \ 349، الحديث رقم 1248. والنسائي في سننه في كتاب البيوع - باب بيع الحصاة 7 \ 262، الحديث رقم 4518. وابن ماجه في سننه في كتاب التجارات - باب النهي عن بيع الحصاة 2 \ 739، الحديث رقم 2194. والدارمي في سننه في كتاب البيوع - باب النهي عن بيع الغرر 2 \ 251. والإمام أحمد في مسنده 2 \ 250، 376، 436، 439، 496.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' من غشنا فليس منا '' 1 \ 99، الحديث رقم 164 بهذا اللفظ.
(3) أخرجه بهذه القصة مسلم أيضا في صحيحه في الكتاب والباب السابقين 1 \ 99، واللفظ له. وأبو داود في سننه كتاب البيوع - باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع 2 \ 389، الحديث رقم 1329. وابن ماجه في سننه في كتاب التجارات - باب النهي عن الغش 2 \ 749، الحديث رقم 2224. والإمام أحمد في مسنده 2 \ 242، 417.(52/301)
وجه الاستدلال بهذين الحديثين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر والغش في البيع، والبيع بشرط البراءة لا يخلو من الغرر والغش.
قال في بداية المجتهد: " وحجة من لم يجزه [يعني البيع بشرط البراءة] على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما علمه " (1) .
مناقشة هذا الاستدلال:
أن القول بأن البراءة من العيوب التي لا يعلمها من باب الغرر غير صحيح، لأن السلعة قائمة، ووسائل معرفتها متوفرة، وإذا كان البائع لا يعرف شيئا بسلعته فإن بإمكانه أن يشترط على المشتري إسقاط حقه من خيار العيب بالبراءة (2) .
وأما القول بالغبن والغش فيما علمه فلا يرد هذا على القول بعدم الصحة عند العلم بالعيب حين الاشتراط عند العقد.
3 - ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ينظر: بداية المجتهد 2 \ 184.
(2) ينظر: بيع المزاد للدكتور عبد الله المطلق ص 78.(52/302)
«نهى عن بيع وشرط (1) » (2) .
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع مع الاشتراط فيه، وشرط البراءة من العيب اشتراط في البيع، فيدخل في عموم هذا النهي، فلا يصح.
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأنه ضعيف كما في تخريجه، فلا يصح الاحتجاج به.
قال في المغني: " ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وإنما الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع " (3) .
4 - ما رواه عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه ابن حزم في المحلى 8 \ 415 في قصة حصلت بين ابن أبي ليلى وابن شبرمة مع أبي حنيفة. وقد ذكره الخطابي في معالم السنن 3 \ 146، وابن حجر في تلخيص الحبير 3 \ 12، والزيلعي في نصب الراية 4 \ 17، 18. وقال ابن حجر في التلخيص: '' بيض له الرافعي في التذنيب، واستغربه النووي، وقد رواه ابن حزم في المحلى والخطابي في المعالم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في علوم الحديث ''. وقال الزيلعي في نصب الراية: '' قال ابن القطان: وعلته ضعف أبي حنيفة في الحديث ''.
(2) ذكر استدلالهم به السبكي في تكملة المجموع 12 \ 363.
(3) ينظر: المغني 6 \ 165، 166.(52/303)
قال: «لا يحل لامرئ مسلم يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبر به (1) » .
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يدل على أنه لا بد من تحديد العيب وإعلام المشتري به، فلا يبرأ البائع باشتراط البراءة.
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأنه يدل صراحة على وجوب الإعلام بالعيب عند العلم به من قبل البائع، وهذا لا ينافي صحة اشتراط البراءة من العيب عند عدم العلم به.
ثانيا: المعقول:
1 - أن شرط البراءة من العيب شرط يرتفق به أحد المتبايعين، فلم يصح مع الجهالة كالأجل المجهول.
2 - أنه شرط يرتفق به أحد المتبايعين، فلم يصح مع الجهالة،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا في كتاب البيوع - باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا 3 \ 10. ووصله ابن ماجه في سننه في كتاب التجارات - باب من باع عيبا فليبينه 2 \ 755، الحديث رقم 2246. وقال الإمام ابن حجر في فتح الباري 4 \ 311: '' إسناده حسن ''.(52/304)
كالرهن المجهول (1) .
مناقشة هذين الدليلين:
عند التأمل في هذين الدليلين يتضح أن مقتضاهما عدم صحة الشرط للجهالة، وقد ناقش ذلك صاحب المبسوط من وجهين:
الأول: أن نفس الجهالة لا تمنع صحة الالتزام، ولكن جهالته تفضي إلى تمكن المنازعة، ألا ترى أن التمليك يصح في هذا وهذا أضيق من الإسقاطات.
الثاني: أن الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة التمليك، كجهالة القفيز من الصبرة، فلأنه لا يمنع صحة الإسقاط أولى، فالسقوط يكون متلاشيا لا يحتاج فيه إلى التسليم، والجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة أولى (2) .
3 - أن شرط البراءة إسقاط لخيار العيب، وخيار العيب إنما يثبت بعد البيع، فلا يسقط بإسقاطه، كالشفعة فإنها لا تسقط إذا أسقطها قبل البيع (3) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بعدم التسليم، بأن الشفعة لا تسقط بالإسقاط قبل
__________
(1) ينظر في: المهذب 1 \ 295، وتكملة المجموع للسبكي 12 \ 363.
(2) ينظر في المبسوط 13 \ 92، 93.
(3) ينظر في: الفروع 4 \ 61، والاختيارات الفقهية ص 124، وكشاف القناع 3 \ 196، 197.(52/305)
البيع، بل تسقط، بدليل حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة (2) ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به» فمفهوم هذا الحديث أن الشريك إذا آذن شريكه بالبيع لا حق له بالشفعة (3) (4) .
4 - أن خيار العيب ثابت بالشرع، فلا ينفى بالشرط، كسائر
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة - باب الشفعة 3 \ 1229. والنسائي في سننه في كتاب البيوع - باب الشركة في الرباع 7 \ 320، الحديث رقم 4701. وأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشفعة - باب الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة 3 \ 47 وغيره بلفظ: '' قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ''.
(2) (1) أو حائط قال ابن الأثير: الحائط البستان. (ينظر: النهاية في غريب الحديث 1 \ 462.
(3) ينظر: المبدع 5 \ 212.
(4) ذكر هذه المناقشة الدكتور عبد الله المطلق في كتابه '' بيع المزاد '' ص 77.(52/306)
مقتضيات العقد (1) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن الشرع أثبت الخيار للمشتري بجعله حقا من حقوقه، والحقوق تسقط بإسقاط مستحقيها، ولذلك إذا لم يشترط البائع البراءة ووجد عيبا ورضي به المشتري سقط حقه في الخيار.
5 - أن من باع بالبراءة من العيوب فلا يخلو من أن يكون أراد بذلك أن لا يقام عليه بعيب إن وجد، وأنه بريء منه فقد ذكرنا أن البيع هكذا باطل، أو يكون أراد فيه كل عيب فهذا باطل بيقين، لأن الحمى عيب وهي من حر، والفالج عيب وهو من برد، وهما متضادان، وكل بيع انعقد على الكذب والباطل فهو باطل، لأنه انعقد على أنه لا صحة له إلا بصحة ما لا صحة له، فلا صحة له (2) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بعدم التسليم بأن البيع بشرط عدم البراءة باطل، بل هو صحيح كما سيأتي في المسألة الثالثة إن شاء الله، ويبرأ به
__________
(1) ينظر في: فتح العزيز مع المجموع 8 \ 339، وتكملة المجموع للسبكي 12 \ 363.
(2) ينظر في: المحلى 9 \ 44.(52/307)
البائع إن لم يكن عالما بالعيب فكتمه، ولا يكون البيع منعقدا على الكذب والباطل إلا إذا كان فيه علم بالعيب وكتم له من قبل البائع. أدلة أصحاب القول الثالث:
الظاهر أنهم يستدلون على عدم صحة البراءة بما استدل به أصحاب القول الثاني واستدلوا أيضا على قولهم بما يلي:
ما رواه أبو عثمان النهدي قال: " ما رأيتهم يجيزون من الداء إلا ما بينت ووضعت يدك عليه " (1) فالظاهر أنه يقصد بذلك الصحابة، قال في تكملة المجموع: " وأبو عثمان النهدي كبير أدرك جميع الصحابة وفاتته الصحبة بشيء يسير، والإسناد إليه في هذا جيد " (2) .
مناقشة هذا الدليل:
قال صاحب المحلى في مناقشته له: " وأما نحن فلا نقطع بالظنون، ولا ندري لوضع اليد معنى، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غيره " (3) .
__________
(1) أخرجه ابن حزم في المحلى 9 \ 42.
(2) ينظر: تكملة المجموع للسبكي 12 \ 356.
(3) ينظر: المحلى 9 \ 42(52/308)
كما يمكن مناقشته بأنه قد ورد عن بعض الصحابة - إن كان القائل يقصدهم - ما يخالف ذلك كما تقدم عن ابن عمر وعثمان، وزيد بن ثابت، ولا حجة في قول الصحابي إذا خالفه فيه صاحبي آخر.
أدلة أصحاب القول الرابع:
أولا: أدلتهم على عدم جواز شرط البراءة في غير الرقيق:
الظاهر أنهم يستدلون على ذلك بما استدل به أصحاب القول الثاني.
ثانيا: دليلهم على القول بجواز الاشتراط في الرقيق إذا عين العيب وسماه:
استدلوا على ذلك بآثار الصحابة، والمعقول:
فمن آثار الصحابة:
قصة ابن عمر - رضي الله عنهما - التي تقدمت في أدلة أصحاب القول الأول، وقضاء عثمان - رضي الله عنه - فيها (1) .، (2) . .
وجه الاستدلال بها: أن عثمان - رضي الله عنه - طلب اليمين من ابن عمر - رضي الله عنهما -، وحكم عليه لما امتنع منها، وهذا يدل على أنه يبرأ إذا لم يعلم ولا يبرأ إذا علم، إذ لو
__________
(1) تقدم تخريجها في أدلة أصحاب القول الأول
(2) وممن ذكر الدليل لهم: الباجي في المنتقى شرح الموطأ 4 \ 179، وابن رشد في بداية المجتهد 2 \ 184(52/309)
كان لا يبرأ مطلقا لما كان لطلب اليمين فائدة، ولو كان يبرأ مطلقا لما قضى عثمان - رضي الله عنه - عليه.
مناقشة هذا الدليل: نوقش من وجوه:
الأول: أن هذا رأي لعثمان - رضي الله عنه - وقد خالفه فيه غيره من الصحابة.
الثاني: أنه ليس في هذه القصة ما يدل على قصر الحكم على الرقيق، لعدم وجود دليل على أن الحكم سيتغير لو كان الذي به عيب غير رقيق، والأصل العموم في الأحكام، وعثمان - رضي الله عنه - لم يقل: إن هذا الحكم خاص بالرقيق (1) . .
الثالث: أنه قد ورد في بعض روايات القصة ما يفيد التعميم، فقد جاء عن سالم. عن أبيه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه باع سلعة كانت له بالبراءة. . .، فساق القصة إلى أن قال: وقضى عثمان عليه باليمين أنه ما باعه وبه داء يعلمه، فكره ابن عمر اليمين وارتجع السلعة (2) . .
قال في المحلى: " فهذا عموم لكل بيع، وإسناده متصل،
__________
(1) ينظر: الشروط في البيع للدكتور صالح السلطان ص 339
(2) أخرجه ابن حزم في المحلى 9 \ 42، 43 مناقشا به(52/310)
سالم عن أبيه " (1) .
ومن المعقول:
أن الرد بالعيب مبني على علم البائع بالعيب وتدليسه، وما استوى فيه علم البائع والمبتاع فلا سبيل إلى الرد به، والرقيق يكتم عيوبه ولا يظهرها، سترا على نفسه، ورغبة في بقائه في محله، فيستوي علم البائع والمشتري، فلا يثبت الرد (2) . .
مناقشة هذا الدليل: نوقش بعدم التسليم بأن الرد مبني على علم البائع بالعيب وتدليسه، بل للمشتري أن يرد المعيب ولو لم يعلم البائع بالعيب إذا تحقق أن العيب حادث عنده (3) . .
أدلة أصحاب القول الخامس:
أولا: أدلتهم على عدم صحة البراءة في غير الرقيق والحيوان، وفيما علمه فيهما: - الظاهر أنهم يستدلون على عدم صحة الشرط وعدم البراءة به في غير الرقيق والحيوان، وفي الظاهر والباطن الذي علمه في الرقيق والحيوان بما استدل به أصحاب القول الثاني على عدم صحة الشرط وعدم البراءة به مما لم يعلمه البائع، أو علم ولم يسقه ويوقف المشتري عليه.
ثانيا: أدلتهم على صحة الشرط والبراءة به من العيب
__________
(1) ينظر المرجع السابق 9 \ 43.
(2) ينظر: المنتقى شرح موطأ الإمام مالك 4 \ 180، وبداية المجتهد 2 \ 184 باختصار
(3) ينظر: المبدع 4 \ 87(52/311)
الباطن الذي لم يعلمه في الحيوان والرقيق.
استدلوا على ذلك بآثار الصحابة، والمعقول:
فمن آثار الصحابة:
قصة ابن عمر - رضي الله عنهما - وقضاء عثمان - رضي الله عنه (1) .،. - فيها.
وجه الاستدلال:
أن عثمان - رضي الله عنه - فرق في العيب بين المعلوم وغيره، لأنه طلب اليمين على عدم العلم، ولو لم يكن هناك فرق بينهما لما طلبه، إذ ليس لطلبه إذن فائدة (2) . .
والحيوان يأخذ حكم الرقيق عندهم، قال في مغني المحتاج بعد ذكر القضية المذكورة: " دل قضاء عثمان - رضي الله عنه - على البراءة في صورة الحيوان المذكورة " (3) . .
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجوه:
الأول: أنها قضية عين، فلا يقصر الحكم عليها.
الثاني: لو قلنا بالتسليم بأن الحكم في قضايا الأعيان يقصر
__________
(1) سبق تخريجها في أدلة أصحاب القول الأول
(2) ينظر: فتح العزيز مع المجموع 8 \ 339
(3) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 53(52/312)
فيها الحكم عليها لكان الحكم هنا مقصورا على الرقيق دون غيره من الحيوان (1) . .
الثالث: أن هذا رأي لعثمان - رضي الله عنه - وقد خالفه فيه غيره من الصحابة، قال في المحلى: " وهذا عجيب جدا إذ قلد عثمان ولم يقلد ابن عمر " (2) . .
ومن المعقول:
أن الحيوان يتغذى بالصحة والسقم، وتتحول طبائعه، وقل ما يبرأ من عيب يظهر أو يخفى، فيحتاج البائع إلى هذا الشرط؛ ليثق بلزوم البيع فيما لا يعلمه من العيوب الخفية. .
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجهين:
الأول: أنه لا يرد بالعيب إلا إذا ثبت حدوثه عند البائع.
الثاني: أن مراعاة جانب البائع ليس أولى من مراعاة جانب المشتري (3) . .
ثالثا: دليلهم على عدم صحة الشرط وعدم البراءة به من غير العيب الباطن في الرقيق والحيوان:
أن ما يعلمه البائع مطلقا في الحيوان وغيره فيه تلبيس على
__________
(1) ينظر: الشروط في البيع للدكتور صالح السلطان ص 238
(2) ينظر: المحلى 9 \ 42
(3) ينظر: الشروط في البيع للدكتور صالح السلطان ص 238(52/313)
المشتري، فلا يبرأ منه البائع وما لا يعلمه من الظاهر منهما يندر خفاؤه عليه، فلا يبرأ منه (1) . .
أدلة أصحاب القول السادس:
الظاهر أنهم يستدلون على عدم صحة الشرط وعدم البراءة به في غير الرقيق والحيوان بما استدل به أصحاب القول الثاني على عدم صحة الشرط وعدم البراءة به مما لم يعلم البائع أو علمه ولم يسقه ويوقف المشتري عليه.
ويستدلون على صحته والبراءة به في الرقيق والحيوان بما سبق في أدلة أصحاب القول الأول من فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - في قصته مع عثمان - رضي الله عنه - في بيع الرقيق.
ووجه استدلالهم به:
أن ابن عمر رضي الله عنهما احتج عند الخصومة باشتراط البراءة من العيب عند البيع، واعتبر ذلك حجة في عدم استحقاق المشتري للرد، وكان ذلك في الرقيق، وغيره من الحيوان يأخذ حكمه.
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن هذا رأي لابن عمر - رضي الله عنهما - وقد خالفه فيه غيره من الصحابة. كما يمكن مناقشته بما سبق من مناقشة أصحاب القولين الثالث والرابع له.
__________
(1) ينظر: فتح العزيز مع المجموع 8 \ 340، ومغني المحتاج 2 \ 53(52/314)
أدلة أصحاب القول السابع: استدل أصحاب هذا القول بما سبق أن استدل به أصحاب القول الأول من قصة عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مع عثمان - رضي الله عنه - في بيع الرقيق (1) . .
ووجه استدلالهم به:
أن ابن عمر قد اشترط البراءة عند بيعه، فطلب منه عثمان الحلف أنه لم يعلم بالعيب عند البيع، فامتنع ابن عمر، فحكم عليه عثمان بالرد، فدل ذلك على أن البائع إذا اشترط البراءة ولم يعلم بالعيب صح الشرط وبرئ، وإن علم فكتمه لم يصح الشرط ولم يبرأ.
وهذا الحكم لا يقتصر على الرقيق والحيوان بل يشمل غيرهما، قال في المغني بعد ذكر الواقعة السابعة: " ولا فرق بين الحيوان وغيره، فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر " (2) . .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن هذا رأي لعثمان - رضي الله عنه - وقد خالفه فيه غيره من الصحابة.
كما يمكن الاستدلال لهم على صحة الشرط والبراءة به فيما لم يعلمه البائع بما استدل به أصحاب القول الثالث والله أعلم.
__________
(1) ذكر هذا الدليل لهم ابن قدامة في المغني 6 \ 265، والكافي 2 \ 63، وابن مفلح في المبدع 4 \ 61
(2) ينظر المغني 6 \ 265(52/315)
الترجيح:
بعد التأمل في هذه المسألة، والأقوال فيها، والأدلة، والمناقشات الواردة عليها ظهر لي أن الراجح من الأقوال - والله أعلم بالصواب - هو القول السابع القائل بصحة اشتراط البراءة من العيب عند البيع والبراءة به إذا لم يكن البائع علم بالعيب ولا يبرأ مما علمه فكتمه، وذلك لما يلي:
1 - موافقته لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا (1) » . .
وشرط البراءة إذا لم يكن مع علم البائع بالعيب وكتمه فإنه لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا.
2 - موافقته لقضاء عثمان بن عفان - رضي الله عنه.
3 - أن فيه جمعا بين الأدلة الواردة في النهي عن كتمان العيب والغش والغرر، وبين الأدلة التي تجيز البراء من المجهول، ومتى أمكن الجمع بين الأدلة فهو أولى.
وهذا القول هو ما رجحه كثير من المحققين من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كما تقدم، وقد جاء في الاختيارات قول شيخ الإسلام:
" والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب، والذي قضى به الصحابة، وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا
__________
(1) تقدم تخريجه في أدلة أصحاب القول الأول(52/316)
لم يكن على علم بذلك العيب فلا رد للمشتري " (1) . .
كما رجحه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله - حيث استطرد وقال حينما سئل عن ذكر بعض بائعي السيارات في الحراج لجميع العيوب الحقيقية وغيرها: " ولا يجوز للإنسان أيضا أن يقول للمشتري: أبرئني من العيوب التي تجدها فيها، وهو يعلم أن فيها عيبا معينا لم يذكره، أما إذا كان لا يدري عنها مثل أن يكون قد اشتراها وباعها قبل أن يعلم ما فيها من العيوب فلا حرج عليه حينئذ أن يقول: أبرئني من كل عيب تجده فيها، فإذا أبرأه فلا بأس، ولا حق للمشتري حينئذ في الرجوع لو وجد عيبا ". .
__________
(1) ينظر: الاختيارات ص 124(52/317)
المسألة الثانية: ما تشمله البراءة من العيب عند القائلين بصحة الشرط:
ما تقدم في المسألة السابقة من خلاف إنما هو في العيوب الموجودة حين العقد، وأما الحادثة بعد العقد وقبل القبض فلا يخلو الأمر بالنسبة لها عند القائلين بصحة شروط البراءة - وهم الحنفية، والشافعية في قول لهم، والإمام أحمد في الرواية المخرجة عنه - وعند الأقوال الأخرى في الحالات التي قالوا فيها بصحة البراءة من العيب أربع حالات:(52/317)
الحالة الأولى: أن تكون البراءة من العيب مقيدة بالعيب القائم حال العقد.
وفي هذه الحالة اتفقوا على عدم تناول البراءة للعيب الحادث بعد العقد وقبل القبض. حيث قال بذلك الحنفية (1) .، وهو مقتضى قول الشافعية، والحنابلة حيث قالوا: بعدم البراءة من الحادث عند الإطلاق كما سيأتي، فمن باب أولى عند التقييد بما قبل القبض.
الدليل:
أن لفظ البراءة هنا مقيد بوصف، والمقيد بوصف لا يتناول غير الموصوف بتلك الصفة (2) . .
الحالة الثانية: أن تضاف البراءة من العيب إلى العيب الحادث بعد البيع وقبل القبض، فيقول: على أني بريء من كل عيب يحدث بعد البيع.
وفي هذه الحالة اتفقوا على عدم صحة البراءة، حيث قال بذلك الحنفية (3) .، والشافعية (4) .، وهو مقتضى قول الحنابلة حيث قالوا بعدم البراءة من الحادث عند الإطلاق كما سيأتي، فمن باب
__________
(1) ينظر: المبسوط 13 \ 94، وبدائع الصنائع 5 \ 277
(2) ينظر: بدائع الصنائع 5 \ 277
(3) ينظر: المبسوط 13 \ 94، وبدائع الصنائع 5 \ 277
(4) ينظر: تكملة المجموع للسبكي 12 \ 372، وروضة الطالبين 3 \ 471، ومغني المحتاج 2 \ 53(52/318)
أولى عند الإضافة إلى الحادث بعد العقد.
الدليل:
أن الإبراء من العيب في هذه الحالة إسقاط لشيء قبل ثبوته، فلم يسقط، كما لو أبرأه من ثمن ما يبيعه له (1) . .
الحالة الثالثة: أن تضاف البراءة من العيب إلى العيب القائم حال العقد والحادث بعده وقبل القبض، فيقول: على أني بريء من كل عيب قائم، وما يحدث بعد البيع.
واختلفوا في هذه الحالة على قولين:
القول الأول: لا تصح البراءة في هذه الحالة، وهذا هو الظاهر من قول الحنفية باستثناء أبي يوسف. أخذا من قولهم وتعليلهم في الحالة السابقة وحالة الإطلاق الآتية. وهو الوجه الصحيح عند الشافعية (2) . . وهو مقتضى قول الحنابلة حيث قالوا بعدم البراءة من الحادث كما سيأتي، فمن باب أولى عند الإضافة إلى الحادث بعد العقد.
__________
(1) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 53
(2) ينظر: تكملة المجموع للسبكي 12 \ 372، وروضة الطالبين 3 \ 471، ومغني المحتاج 2 \ 53(52/319)
القول الثاني: تصح البراءة في هذه الحالة. وهو الظاهر من قول أبي يوسف من الحنفية حيث قال بصحة البراءة عند الإطلاق كما سيأتي، فمن باب أولى عند التصريح. وهو وجه عند الشافعية (1) . .
الأدلة:
دليل أصحاب القول الأول: استدلوا بالدليل المتقدم في الحالة السابقة من أن البراءة إسقاط لشيء قبل ثبوته، فلم يسقط، كما لو أبرأه عن ثمن ما يبيعه له (2) . .
مناقشة هذا الدليل:
يمكن مناقشته بأن هذه الحالة تختلف عن التي قبلها، فهذه الحالة شملت البراءة فيها ما قبل العقد وما بعده، فيدخل ما بعده تبعا، والقاعدة أنه يصح تبعا ما لا يصح استقلالا.
دليل أصحاب القول الثاني:
أن العيوب الحادثة قبل القبض تدخل في البراءة عند الإطلاق لما سيأتي من الأدلة في الحالة الآتية مع عدم التصريح بالبراءة منها، فمن باب أولى عند التصريح.
الترجيح:
الظاهر من الخلاف في هذه الحالة أن الراجح هو القول
__________
(1) المراجع السابقة
(2) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 53(52/320)
الثاني، لقوة أدلته كما سيأتي في الحالة الرابعة، والله أعلم.
الحالة الرابعة: أن تكون البراءة من العيب مطلقة، فيقول:
على أني بريء من كل عيب.
واختلفوا في دخول الحادث في هذه الحالة على قولين:
القول الأول: لا يدخل في شرط البراءة العيب الحادث بعد العقد وقبل القبض. وبهذا قال محمد بن الحسن.، وزفر. من الحنفية. . وبه قال الشافعية (1) .، والحنابلة (2) . .
القول الثاني: يدخل في شرط البراءة العيب الحادث بعد العقد وقبل القبض. وبه قال الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف من أصحابه.
__________
(1) ينظر: روضة الطالبين 3 \ 471، وتكملة المجموع للسبكي 12 \ 371، ومغني المحتاج 2 \ 53
(2) ينظر: كشاف القناع 3 \ 196(52/321)
الأدلة:
دليل أصحاب القول الأول:
أن الإبراء عن العيب يقتضي وجود العيب، لأن الإبراء عن المعدوم لا يتصور، والحادث لم يكن موجودا عند البيع، فلا يدخل تحت الإبراء، فلو دخل إنما يدخل بالإضافة إلى حالة الحدوث، والإبراء لا يحتمل الإضافة، لأن فيه معنى التمليك حتى يرتد بالرد، ولهذا لم يدخل الحادث عند الإضافة إليه نصا، فعند الإطلاق أولى (1) . .
مناقشة هذا الدليل:
ناقش صاحب بدائع الصنائع قوله: " إن هذا إبراء عما ليس بثابت " أي معدوم، من وجهين:
الوجه الأول: أن يقال: هذا ممنوع، بل هو إبراء عن الثابت لكن تقديرا، وبيانه من وجهين:
الأول: أن العيب الحادث قبل القبض: كالموجود عند العقد، ولهذا يثبت حق الرد به كما يثبت بالموجود عند العقد، ولما ذكرنا أن القبض حكم العقد، فكان هذا إبراء ثابت تقديرا.
والثاني: أن سبب حق الرد موجود، وهو البيع، لأن البيع يقتضي تسليم المعقود عليه سليما عن العيب، فإذا عجز عن تسليمه
__________
(1) ينظر: بدائع الصنائع 5 \ 277، وفتح القدير، 5 \ 182، وحاشية رد المختار 4 \ 100(52/322)
بصفة السلامة يثبت له حق الرد بهذه الوسائط حكم البيع السابق، والبيع سبب فكان هذا إبراء عن حق الرد بعد وجود سببه، وسبب الشيء إذا وجد يجعله ثبوتا تقديرا، لاستحالة خلو الحكم عن السبب، فكان إبراء عن الثابت تقديرا، ولهذا صح الإبراء عن الجراحة، لكون الجرح سبب السراية، فكان إبراء عما يحدث من الجرح تقديرا، وكذا الإبراء عن الأجرة قبل استيفاء المنفعة يصح وإن كانت الأجرة لا تملك عندنا بنفس العقد لما قلنا، كذا هذا.
والوجه الثاني: أن هذا إبراء عن حق ليس بثابت لكن بعد وجود سببه، وهو البيع، وأنه صحيح كالإبراء عن الجراح، والإبراء عن الأجرة على ما بينا بخلاف الإبراء عن كل حق له أنه لا يتناول الحادث، لأن الحادث معدوم للحال بنفسه وبسببه، فلو انصرف إليه الإبراء لكان ذلك إبراء عما ليس بثابت أصلا، لا حقيقة، ولا تقديرا، لانعدام سبب الحق، فلم ينصرف إليه.
وقوله: " لو تناول الحادث لكان هذا تعليق البراءة بشرط أو الإضافة إلى وقت " ممنوع، بل هذا إبراء عن حق ثابت وقت الإبراء تقديرا، لما بينا من الوجهين، فلم يكن هذا تعليقا ولا إضافة، فيصح (1) . .
أدلة صاحبي القول الثاني:
1 - أن لفظ الإبراء يتناول الحادث نصا ودلالة، أما النص فإنه عم البراءة عن العيوب كلها، أو خصها بجنس من العيوب
__________
(1) ينظر ذلك كله في: بدائع الصنائع 5 \ 277(52/323)
على الإطلاق نصا، فتخصيصه أو تقييده بالموجود عند العقد لا يجوز إلا بدليل. وأما الدلالة فهي أن غرض البائع من هذا الشرط هو انسداد طريق الرد، ولا ينسد إلا بدخول الحادث، فكان داخلا فيه دلالة (1) . .
2 - أن العيب الحادث قبل القبض لما جعل كالموجود عند العقد في ثبوت حق الرد فكذلك يجعل كالموجود عند العقد في دخوله في شرط البراءة من كل عيب، وهذا لأن مقصود البائع إثبات صفة اللزوم للعقد، والامتناع من التزام ما لا يقدر على تسليمه، وفي هذا لا فرق بين العيب الموجود والحادث قبل القبض.
3 - ظاهر اللفظ عند إطلاق شرط البراءة يتناول العيوب الموجودة، ثم يدخل فيه ما يحدث قبل القبض، لأن ذلك يرجع إلى تقدير مقصودها، وقد يدخل في التصرف تبعا ما لا يجوز أن يكون مقصودا بذلك التصرف: كالشرب في بيع الأرض، والمنقولات في وقف القرب (2) . .
الترجيح:
الظاهر من الخلاف في هذه الحالة أن الراجح هو القول الثاني القائل بدخول العيب الحادث بعد العقد وقبل القبض في شرط البراءة من العيب عند الإطلاق، لقوة أدلته، ولأن المبيع في
__________
(1) ينظر في: بدائع الصنائع 5 \ 277
(2) ينظر في: المبسوط 13 \ 94(52/324)
هذه الحالة لا يزال في عهدة البائع، فهو لا يزال في يده، فيأخذ حكم ما قبل البيع، والله أعلم بالصواب.(52/325)
المسألة الثالثة: حكم البيع إذا شرط البراءة عند القائلين بعدم صحة الشرط:
اختلف القائلون بعدم صحة شرط البراءة من العيب في البيع وهم المالكية في غير الرقيق والحيوان، والشافعية في بعض أقوالهم، والحنابلة في المذهب عندهم - في حكم البيع عند حصول الشرط، وذلك على قولين:
القول الأول: أن البيع فاسد كما أن الشرط فاسد، وهذا وجه عند الشافعية (1) .، وهو رواية عند الإمام أحمد خرجها بعض أصحابه من قوله بفساد العقد بالشروط الفاسدة (2) .، وبه قال ابن حزم (3) . .
القول الثاني: أن البيع صحيح، والفساد للشرط فقط.
وبهذا قال المالكية (4) .، وهو الوجه الأظهر عند الشافعية (5) .، وهو المذهب عند الحنابلة. .
__________
(1) ينظر في: حلية العلماء 4 \ 285، والمهذب 1 \ 295
(2) ينظر في: المغني 6 \ 266، والكافي لابن قدامة 2 \ 94، والإنصاف 4 \ 360
(3) ينظر في: المحلى 9 \ 41
(4) ينظر في: تحرير الكلام في مسائل الالتزام للخطاب ص 382
(5) ينظر في: حلية العلماء 4 \ 285، والمهذب 1 \ 295(52/325)
قال صاحب الإنصاف: " تنبيهان، أحدهما: ظاهر قول المصنف (لم يبرأ) أن هذا الشرط لا تأثير له في البيع، وأنه صحيح، وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب " (1) . .
الأدلة في المسألة:
أدلة أصحاب القول الأول:
1 - أن هذا الشرط يقتضي جزءا من الثمن تركه البائع لأجل الشرط، فإذا سقط وجب أن يرد الجزء الذي تركه بسبب الشرط، وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولا، ففسد العقد (2) . .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن لا يلزم بهذا الشرط اقتضاء جزء من الثمن، لأن المشتري يشتري بناء على الأصل وهو السلامة، والبائع يبيع على هذا الأساس، وإنما الشرط خوفا من وجود عيب لم يعلم به.
كما أنه لا يسلم بالجهالة فيما ذكروا، لأنه يعرف بتقويم المبيع سليما، وبتقويمه معيبا، والفرق بينهما هو الجزء المتروك بسبب الشرط، والله أعلم.
__________
(1) ينظر في: الإنصاف 4 \ 359
(2) ينظر في المرجع السابق، وتكملة المجموع للسبكي 12 \ 371(52/326)
2 - أن البائع إنما رضي بهذا الثمن عوضا عنه بهذا الشرط، فإذا فسد الشرط فات الرضى به، فيفسد البيع، لعدم التراضي به (1) .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش من وجهين:
الأول: عدم التسليم بفساد الشرط، بل الشرط صحيح إلا إذا كان البائع عالما بالعيب فكتمه.
الثاني: أنه عند فساد الشرط لوجوب العيب يثبت للمشتري الخيار، ولا يلزم منه فساد أصل العقد.
3 - أن شرط البراءة من العيب شرط فاسد، فيبطل العقد، كسائر الشروط الفاسدة (2) . .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش من وجهين:
الأول: عدم التسليم بفساد شرط البراءة مطلقا، بل لا يفسد إلا مع علم البائع بالعيب وكتمه.
الثاني: أنه لا يلزم من فساد الشرط بطلان أصل العقد، فقد يبطل الشرط ويصح العقد، والأصل في ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها- في قصة عتق بريرة. - رضي الله عنها - حيث
__________
(1) ينظر في المغني 6 \ 266
(2) ينظر: تكملة المجموع للسبكي 12 \ 371(52/327)
أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرط ولم يبطل العقد (1) . .
4 - أن شرط البراءة من العيب يخالف ما يقتضيه العقد من الرد بالعيب، فيفسد العقد (2) . .
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأنه لا مخالفة، لأن الرد حق من حقوق المشتري، وقد أسقطه برضاه دون غش وتدليس من البائع، فيسقط، كسائر الحقوق.
أدلة أصحاب القول الثاني:
ما سبق في المسألة الأولى من قضية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (3) . . حيث شرط ابن عمر البراءة وأمضى عثمان البيع.
قال صاحب المهذب: " لحديث عثمان - رضي الله عنه - فإنه أمضى البيع " (4) . وقال صاحب المغني: " لأن ابن عمر باع بشرط البراءة، فأجمعوا على صحته، ولم ينكره منكر " (5) .
__________
(1) تقدم تخريجه في مناقشة أدلة أصحاب القول الأول من المسألة الأولى
(2) ينظر: تكملة المجموع للسبكي 12 \ 371
(3) تقدم ذكرها وتخريجها في أدلة أصحاب القول الأول
(4) ينظر: المهذب 1 \ 295
(5) ينظر: المغني 1 \ 265، ومثله قال في الكافي 2 \ 94(52/328)
الترجيح:
بعد التأمل في القولين في المسألة، وأدلتهما، ظهر لي أن الراجح هو القول الأول، لقوة دليله، ولأن العقد لم يختل شرط من شروط صحته وإنما الخلل حصل في أمر خارج، ولأن الأصل في العقد الصحة، والله أعلم.(52/329)
المسألة الرابعة:
شرط المبيع على صفة تالف، وتعداد جميع أو أغلب العيوب الممكنة في المبيع، هل هو شرط للبراءة من العيب؟ لهذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: شرط البيع على صفة تالف.
يلجأ بعض الباعة، وخاصة في بيوع المزاد إلى طريقة غير صحيحة للخلاص من تبعة العيوب الموجودة أو المحتملة في المبيع وذلك بشرط المبيع على صفة تالف كأن يقول عن الدار:
كوم تراب، أو يقول عن الدابة: مكسرة محطمة، أو كوم لحم، أو يقول عن السيارة: كومة حديد، أو سكر في ماء، أو يقول عن الثوب ونحوه: حراق على الزناد، ونحو ذلك، ويريدون بذلك أنه مشتمل على العيوب.
الصورة الثانية: تعداد جميع أو أغلب العيوب الممكنة في المبيع:
ومثال ذلك: أن يقول في الدار مثلا: جدرانها متصدعة، وخشب سقفها مكسر، وأبوابها مكسرة. . . ويقول في السيارة:(52/329)
الماكينة غير صالحة، وأجزائها متحللة، والسيارة سبق أن انقلبت، وسبق أن صدمت.
وأكثر من يلجأ إلى هاتين الطريقتين في وقتنا الحاضر أصحاب معارض بيع السيارات. وقد صرح بحكم الصورة الأولى ابن عابدين. في حاشية رد المحتار على الدر المختار حيث قال: " وصح البيع بشرط البراءة من كل عيب بأن قال: بعتك هذا العبد على أني بريء من كل عيب. . . ومنه ما تعورف في زمننا إذا باع دارا فيقول مثلا: بعتك هذه الدار على أنها كوم تراب، وفي بيع الدابة يقول: مكسرة محطمة، وفي نحو الثوب يقوله: حراق على الزناد، ويريدون ذلك أنه مشتمل على جميع العيوب، فإن رضيه المشتري لا خيار له، لأنه قبله بكل عيب يظهر فيه " (1) . .
كما صرح به صاحب درر الحكام شرح مجلة الأحكام فقال مثل ما قال ابن عابدين (2) . . وصرح بحكم الصورة الثانية السبكي في تكملة المجموع حيث قال: " شغف بعض الوراقين في هذا الزمان بأن يجعل بدل شرط البراءة إعلام البائع المشتري أن
__________
(1) ينظر: حاشية رد المحتار 5 \ 42
(2) ينظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 \ 296(52/330)
بالمبيع العيوب ورضي به، وظنوا أن ذلك يجوز منهم عن بطلان البيع والشرط، وهذا لا يجوز ولا يفيد " (1) . ثم استدل لذلك فقال: " أما أنه لا يجوز فعله فلأنه كذب، لأنه لا يمكن اجتماع جميع العيوب في محل ومنها ما هو متضاد، وأما أنه لا يفيد فلما تقدم أن الصحيح عندنا أنه لا يكتفي بالتسمية فيما يمكن معاينته ولا يجوز للحاكم إلزام المشتري بمقتضى هذا الإقرار للعلم بكذبه وبطلانه " (2) . .
ثم قال مبينا الحكم إذا وقع: " وإذا وقع ذلك يكون حكمه حكم ما لو شرط البراءة " (3) . .
بهذا يتبين أن فعل ذلك في الصورتين محرم، لاعتماده على الكذب الصريح؛ لعدم وجود ما ذكر البائع أو جميعه.
وأما الحكم إذا حصل فصريح هذا الكلام في الصورتين، وظاهر كلام أصحاب المذاهب الأخرى أن الحكم فيهما حكم شرط البراءة من العيب فيجري فيهما الخلاف السابق في المسألة الأولى؛ لأن مقتضى الكلام فيهما أن البائع يريد التخلص من تبعة ما هو موجود أو محتمل الوجود من العيوب، وهو ما يقصده من يفعل ذلك في الغالب، فيكون الراجح فيها ما ترجح هناك، وهو
__________
(1) ينظر: تكملة المجموع 12 \ 374، ونقل ذلك وما بعده عنه الشربيني في مغني المحتاج 2 \ 45
(2) ينظر: تكملة المجموع 12 \ 374
(3) ينظر المرجع السابق(52/331)
أن البائع يبرأ بالشرط مما لم يعلم به، ولا يبرأ مما علمه فكتمه. وقد وردت بعض الآثار عن التابعين تؤيد ذلك وتفيد بعدم البراءة بذلك حتى يعين عيبا موجودا ويسميه.
ومن ذلك:
1 - ما روي عن الحسن أنه قيل له: أبيع السلعة وأتبرأ من القروح، والجروح، والباطن، والظاهر؟ فقال: لا تبرأ حتى تقول: في هذه العين كذا وكذا، وإلا رد عليك. .
2 - ما روي عن ابن طاوس عن أبيه قال: لا يجوز إلا ما سميت، فأما أن تسمي داء تخلط معه غيره فلا. .
3 - ما روي عن إبراهيم في الرجل يبيع السلعة ويبرأ من الداء، قال: هو بريء مما سمى، قيل لإبراهيم: الرجل يقول: أبيعك لحما على وضم، وبرئت مما أقلت الأرض منه، قال: لا، حتى يسمي، فإن سمى فقد برئ مما سمى (1) . .
4 - وروي عن محمد بن سيرين. في الرجل يبيع الدابة
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في الكتاب والباب السابقين 8 \ 162، الأثر رقم 14719(52/332)
فيقول: أبرأ من كذا أبرأ من كذا، أبرأ من الجرد، قال: لا يبرأ إلا من شيء يسميه، ويقر به. .
وبهذا - أي القول بالبراءة مما لم يعلمه البائع وعدم البراءة مما علمه فكتمه - أفتى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله - في الصورة الثانية حيث سئل: " يلاحظ في الحراج على السيارات أن الدلال (1) . يذكر عيوبا كثيرة في السيارة وهي ليست بصحيحة، ويهدف من وراء ذلك إلى إخفاء العيوب الحقيقية في السيارة تحت هذه العيوب الوهمية المعلن عنها، وليس للمشتري في عرفهم حق الرجوع ولو مع وجود البائع. . أفتونا عن هذه الطريقة التي تتبع في كل مزاد سيارات؟ جزاكم الله خيرا".
فأجاب فضيلته - حفظه الله - بقوله: " البائع إذا كان يعلم أن في السيارة عيبا بينا ولكنه يخفيه بذكر عيوب كثيرة وهمية فإن هذه الطريقة محرمة، لأنها غش ظاهر. . . وخلاصة الجواب أن من علم عيبا في سيارته أو غيرها مما يبيعه فإن الواجب تبيينه للمشتري، ولا يحل له أن يخفيه بأي أسلوب كان، وإذا تم البيع والبائع قد أخفى العيب فإن للمشتري حق الرجوع ولو أنه قد التزم
__________
(1) ويعرف أيضا بالسمسار(52/333)
بعدم الرجوع ما دام البائع كتم العيب وهو عالم به، أما إذا كان جاهلا بالعيب وشرط على المشتري أن يبرئه من كل عيب يجده فهذا جائز، ولا حق للمشتري في الرجوع حينئذ " (1) . .
__________
(1) ينظر كتابه '' أسئلة من بعض بائعي السيارات '' أجاب عليها - حفظه الله - ص 19 - 21، السؤال رقم (12)(52/334)
المسألة الخامسة: كتابة عبارة " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل " على الفاتورة، هل هي شرط للبراءة من العيب؟ دأبت بعض المؤسسات والمحلات التجارية على كتابة عبارة " البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل " أو ما في معناها وذلك على هامش الفاتورة التي يسلم أصلها للمشتري، فهل هذه العبارة تأخذ حكم شرط البراءة من العيب فيجري فيها الخلاف السابق، أو لا؟ عند التأمل في هذه العبارة يتضح أنها تقطع على المشتري حق الرد والاستبدال، أو الفسخ واسترداد الثمن الذي دفع، ولكن ليس فيها ما يفيد بعدم استحقاقه لأرش النقص الحاصل بسبب العيب، ولكون هذه العبارة يراد بها قطع حق المشتري في الاستبدال أو الفسخ واسترداد الثمن عند القائلين بعدم صحة شرط البراءة وعدم اعتباره، وذلك حق من حقوق المشتري أثبته له الشارع بموجب خيار العيب، وأجمع عليه أهل العلم. قال صاحب الإقناع في الفقه الشافعي: " وقد أجمع أهل(52/334)
العلم على أن من اشترى سلعة ووجد بها عيبا كان عند البائع لم يعلم به المشتري أن له الرد " (1) . .
وقال صاحب المغني: " الفصل الثاني: أنه متى علم بالمبيع عيبا لم يكن عالما به فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا " (2) . فالذي يظهر - والله أعلم بالصواب - أنها تأخذ حكم شرط البراءة من العيب فيجري فيها الخلاف السابق.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن ذلك فأجابت بقولها: " إن بيع السلعة بشرط ألا ترد ولا تستبدل لا يجوز، لأنه شرط غير صحيح؛ لما فيه من الضرر والتعمية، ولأن مقصود البائع بهذا الشرط إلزام المشتري بالبضاعة ولو كانت معيبة، واشتراطه هذا لا يبرئه من العيوب الموجودة في السلعة، لأنها إذا كانت معيبة فله استبدالها ببضاعة غير معيبة، أو أخذ المشتري أرش العيب. ولأن كامل الثمن مقابل السلعة الصحيحة وأخذ البائع الثمن مع وجود عيب أخذ بغير حق.
ولأن الشرع أقام الشرط العرفي كاللفظي، وذلك للسلامة من العيب حتى يسوغ له في الرد بوجود العيب تنزيلا لاشتراط
__________
(1) ينظر: الإقناع في الفقه الشافعي لابن المنذر 1 \ 262، 263
(2) ينظر: المغني 6 \ 225(52/335)
سلامة المبيع عرفا منزلة اشتراطها لفظا، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ". .(52/336)
العلامة مرعي بن يوسف الحنبلي آثاره العلمية
للدكتور: عبد الله بن سليمان الغفيلي
ترجمة العلامة مرعي الحنبلي رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. . وبعد:
فهذه ترجمة للعلامة مرعي الحنبلي وآثاره العلمية، عسى الله أن ينفع بها إنه جواد كريم.(52/337)
1 - اسمه ونسبه ولقبه وكنيته:
هو الإمام العلامة مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي المقدسي المصري الأزهري الحنبلي.(52/337)
فالكرمي: بسكون الراء نسبة إلى قرية طور كرم وقد نسب المؤلف إليها؛ لأنها مكان ولادته ونشأته.
المقدسي: بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال والسين، نسبة إلى بيت المقدس، ونسب المؤلف إليه " لأن أول طلبه للعلم كان فيه، وقد تتلمذ على بعض علمائه (1) .
المصري: بكسر الميم وسكون الصاد في آخرها راء هذه
__________
(1) اللباب (3 \ 246) ، والأعلام (7 \ 203) ، ومختصر طبقات الحنابلة (108) .(52/338)
النسبة إلى مصر، ونسب المؤلف إليها؟ لأنها كانت مستقره حتى الوفاة (1) .
الأزهري: بفتح الألف وسكون الزاي وفتح الهاء نسبة إلى الجامع الأزهر بمصر الذي درس وتعلم فيه المؤلف (2) .
الحنبلي: بفتح الحاء وسكون النون وفتح الباء، هذه نسبة إلى الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - ونسب المؤلف إليه؛ لأنه المذهب الذي ينتسب إليه، وقد أشار إلى تمسكه به بقوله:
لئن قلد الناس الأئمة إنني ... لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب
أقلد فتواه وأعشق قوله ... وللناس فيما يعشقون مذاهب (3)
لقبه: زين الدين (4) .
كنيته: لم تذكر كتب التراجم التي اطلعت عليها كنية له.
__________
(1) اللباب (3 \ 219) ، وبقية المصادر السابقة.
(2) المصادر السابقة.
(3) اللباب (1 \ 395) ، والسحب الوابلة (467) ، وعنوان المجد (1 \ 33) .
(4) انظر خلاصة الأثر (4 \ 358) .(52/339)
2 - ولادته:
ولد المصنف رحمه الله تعالى في بلدة طور كرم في فلسطين، ولم تشر كتب التراجم التي ترجمت له إلى تاريخ ولادته ولم تحدد عدد سني عمره عند وفاته حتى يتسنى معرفة تاريخ ولادته.(52/340)
3 - نشأته وطلبه للعلم وثقافته:
نشأ المؤلف رحمه الله تعالى في بلدته طور كرم، وتعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة، وتلقى مبادئ العلوم، وحفظ القرآن الكريم، ساعده على ذلك حافظته الجيدة وموهبته الفذة التي جعلته يسارع إلى تحصيل العلوم بجد واجتهاد حيث رحل إلى بيت المقدس ونهل من معين العلم فيها وجالس العلماء واستفاد من العلوم التي لديهم، ثم رحل بعد ذلك إلى القاهرة التي كانت مركزا للعلم والعلماء يفد إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، فأخذ العلم عن كثير من علمائها ومشايخها في الفقه والحديث والتفسير حتى أصبح يشار إليه بالبنان في مكانته العلمية فتصدر للتدريس والإفتاء، وقد طاب له المقام في القاهرة فآثر البقاء فيها وقد بقي يفيد ويستفيد ويستقي من علوم علمائها ويعلم الناس فيها حتى توفي رحمه الله.
قال المحبي: " دخل مصر واستوطنها وأخذ بها عن الشيخ محمد حجازي الواعظ والمحقق أحمد الغنيمي وكثير من مشايخ المصريين وأجازه شيوخه وتصدر للإقراء والتدريس بجامع الأزهر(52/340)
ثم تولى المشيخة بجامع السلطان حسن ثم أخذها عنه عصريه إبراهيم الميموني ووقع بينهما من المفاوضات ما يقع بين الأقران، وألف كل منهما في الآخر رسائل، وكان منهمكا على تحصيل العلوم انهماكا كليا فقطع زمانه بالإفتاء والتدريس والتحقيق والتصنيف فسارت بتآليفه الركبان.(52/341)
4 - أدبه وشعره:
وصف العلامة مرعي الكرمي بأنه أديب وشاعر، حيث كان له نظم وديوان شعر.
قال المحبي: " له أشعار جلا أفقها وجلا طرفها وطرقها وأطلع من تحت غصون الأقلام كالرياض ورقها " (1) .
وقال ابن حميد: " وله ديوان شعر ظريف فمن شعره عفا الله عنه:
يا ساحر الطرف يا من مهجتي سحرا ... كم ذا تنام وكم أسهرتني سحرا
__________
(1) نفحة الريحانة (2 \ 244) .(52/341)
لو كنت تعلم ما ألقاه منك لما ... أتعبت يا منيتي قلبا إليك سرا
هذا المحب لقد شاعت صبابته ... بالروح والنفس يوما بالوصال مبشرا (1)
وقال أيضا:
إنما الناس بلاء ومحن ... وهموم وغموم وفتن
وعناء وضناء قربهم ... وهلاك ليس فيه مؤتمن
حسنوا ظاهرهم كي يخدعوا ... ليس في باطنهم شيء حسن
فاحذرن عشرتهم واتركنها ... واجتنبهم سيما هذا الزمن (2)
__________
(1) السحب الوابلة (466) .
(2) مختصر طبقات الحنابلة (111) .(52/342)
5 - شيوخه:
أخذ المؤلف رحمه الله تعالى العلم عن علماء عصره في البلاد التي رحل إليها وهي: فلسطين، ومصر، وقد ذكر المحبي أنه أخذ العلم عن كثير من المشايخ المصريين (1) .
ولكن مصادر الترجمة لم تذكر إلا أربعة من مشايخه ولعل
__________
(1) انظر خلاصة الأثر (4 \ 358) .(52/342)
هؤلاء هم أبرز العلماء الذين أخذ عنهم، والذين كان لهم أثر كبير في التعليم والتدريس وهم:
1 - الشيخ الإمام محمد بن أحمد المرداوي نزيل القاهرة، شيخ الحنابلة في عصره ومرجعهم، كان جبلا من جبال العلم وبحرا من بحور الإتقان، أخذ العلم عن التقي محمد الفتوحي، والشيخ عبد الله الشنشوري الفرضي، وأخذ عنه جماعة من العلماء منهم الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب الترجمة، والشيخ منصور البهوتي، والشيخ عثمان الفتوحي وغيرهم. توفي بالقاهرة سنة 1026 هـ (1) .
__________
(1) خلاصة الأثر (3 \ 356) ، ومختصر طبقات الحنابلة (106) ، والنعت الأكمل (216) .(52/343)
2 - الشيخ الإمام محمد حجازي بن محمد بن عبد الله الواعظ الأكراوي الشافعي، ولد سنة 957 هـ ونشأ بمصر وتعلم بها وحفظ القرآن الكريم وحفظ المتون في علوم مختلفة وأخذ العلم عن عدد كبير من العلماء حتى قيل: إنهم بلغوا ثلاثمائة عالم، وكانت وفاته بالقاهرة سنة 1035 هـ (1) .
3 - الشيخ الإمام أحمد بن محمد بن علي شهاب الدين الغنيمي الأنصاري الحنفي الخزرجي، كان شافعي المذهب ولكن بعد تعلمه للمذهب الحنفي انتقل إليه وأصبح بحرا من بحور العلم وقد استفاد منه عدد من طلاب العلم، وله مصنفات منها: (إرشاد الطلاب إلى لفظ لباب الإعراب) ، (ابتهاج الصدور) توفي بالقاهرة سنة 1044 هـ (2) .
4 - الإمام الفرضي يحيى بن موسى بن أحمد بن موسى بن سالم الحجاوي المقدسي الدمشقي الصالحي القاهري الحنبلي، ولد في دمشق ونشأ بها وأخذ العلم عن والده شرف الدين موسى الحجاوي، ثم رحل إلى القاهرة بعد وفاة والده وأخذ عن كبار علمائها كالتقي الفتوحي وغيره، ثم درس وعلم
__________
(1) خلاصة الأثر (4 \ 174) ، والأعلام (6 \ 79) ، ومعجم المؤلفين (9 \ 177) .
(2) خلاصة الأثر (1 \ 312) ، والأعلام (1 \ 237) ، ومعجم المؤلفين (2 \ 132) ، وهدية العارفين (1 \ 158) .(52/344)
وقد أخذ العلم عنه المصنف ومنصور البهوتي وغيرهم، توفي بالقاهرة (1) .
__________
(1) خلاصة الأثر (6 \ 257) ، ومختصر طبقات الحنابلة (105) ، والنعت الأكمل (183) .(52/345)
6 - ثناء العلماء عليه:
أثنى على الإمام مرعي الكرمي كل من ترجم له حيث اجتمعت فيه الصفات الحميدة والخصال الحسنة إلى جانب منزلته العلمية وسعة اطلاعه وإلمامه بشتى أنواع العلوم والفنون مما جعل له ذكرا حميدا.
قال المحبي: " أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر، وكان محدثا فقيها ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفة تامة بالعلوم المتداولة " (1) .
وقال الغزي: " شيخ مشايخ الإسلام، أوحد العلماء المحققين الأعلام واحد عصره وأوانه، ووحيد دهره وزمانه، صاحب التآليف العديدة، والفوائد الفريدة، والتحريرات المفيدة، خاتمة أعيان العلماء المتأخرين، من سمت بعلومه سماء المفاخر، فهو العلامة على التحقيق، والفهامة عند أهل التحقيق. . . إلى أن قال: وقد قلت مادحا لهذا الهمام بشيء من النظام:
__________
(1) خلاصة الأثر (4 \ 358) .(52/345)
حوى السبق في كل المعارف يا له ... إمام همام حاز كل العوارف
وقد صار ممنوحا بكل فضيلة ... بظل ظليل بالعوارف وارف
وحاز بجد واجتهاد ومنح ... لما عنه حقا كل كل العظارف
سقى الله تربا ضمه وابل الحيا ... بجنات عدن آمنا من مخاوف
ولا زال رضوان الإله مباكرا ... ثرى ضمه ما حن بيت لطائف (1) .
قال ابن حميد: " العالم العلامة، البحر الفهامة، المدقق المحقق، المفسر المحدث، الفقيه، الأصولي، النحوي، أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر " (2) .
وقال ابن بشر: " الشيخ العالم العلامة، كانت له اليد الطولى في معرفة الفقه وغيره، صنف مصنفات عديدة في فنون العلم " (3) .
وقال ابن بدران: " العلامة، بقية المجتهدين، أحد أكابر علماء هذا المذهب بمصر " (4) .
وقال المؤرخ محمد جميل الشطي: " شيخ الإسلام، أوحد
__________
(1) النعت الأكمل (190) .
(2) السحب الوابلة (463) .
(3) عنوان المجد (1 \ 38) .
(4) المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل (442) .(52/346)
العلماء الأعلام فريد عصره وزمانه، ووحيد دهره وأوانه، صاحب التآليف العديدة، والتحريرات المفيدة، العلامة بالتحقيق والفهامة بالتدقيق " (1) .
وقال الزركلي: " مؤرخ أديب، من كبار الفقهاء " (2) .
وقال عمر كحالة: " محدث، فقيه، مؤرخ، أديب " (3) .
__________
(1) مختصر طبقات الحنابلة (108) .
(2) الأعلام (7 \ 203) .
(3) معجم المؤلفين (12 \ 218) .(52/347)
7 - عقيدته ومذهبه:
أ- عقيدته:
المؤلف رحمه الله تعالى يحب السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ويعلن التزامه بمنهجهم وعقيدتهم، ويحث على ذلك، ويكثر النقل من كتبهم وخصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد استفاد منه كثيرا، خاصة فيما يتعلق بآيات الصفات وأخبارها، وقد ألف في ذلك كتابه (أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات) ، وقال فيه: " ومن السلامة للمرء في دينه اقتضاء طريقة السلف الذين أمر أن يقتدي بهم من جاء بعدهم من الخلف، فمذهب السلف أسلم، ودع ما قيل من أن مذهب الخلف أعلم، فإنه من زخرف الأقاويل وتحسين الأباطيل، فإن أولئك قد شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والتنزيل وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل، ومع ذلك فلم يكونوا(52/347)
يخوضون في حقيقة الذات ولا في معاني الأسماء والصفات، ويؤمنون بمتشابه القرآن وينكرون على من يبحث عن ذلك من فلانة وفلان، وإنكار الإمام مالك على من سأله عن معنى الاستواء أمر مشهور وهو في عدة من الكتب منقول ومسطور " (1) .
وقال في آخر الكتاب مصرحا بأنه على مذهب السلف الصالح: " وبمذهب السلف أقول وأدين الله تعالى به، وأسأله سبحانه الموت عليه مع حسن الخاتمة في خير وعافية " (2) .
ومع هذا فالمؤلف عفا الله عنه قد اضطرب في هذا الباب ولم يسلم من مخالفة مذهب السلف؛ لأنه لم يكن خبيرا بمأخذ السلف على غيرهم مع حرصه الشديد على أن يقتفي سبيلهم ويسير على - طريقهم، فهو أحيانا ينقل كلام السلف ويؤيده وينصره، وأحيانا ينقل عن المتكلمين ويصفه بأنه مذهب السلف وقولهم، وهذا يحدث منه في الأمور التفصيلية، فهو مثلا ينسب القول بالتفويض إلى السلف وأنهم فوضوا المعاني والكيفية.
__________
(1) أقاويل الثقات (45- 46) .
(2) أقاويل الثقات (200) .(52/348)
ويجعل القول بأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابهات قولا للسلف.
يقوله في كتابه (أقاويل الثقات) بعد أن تكلم عن المتشابه ما هو؟ ، يقول: " إذا تقرر هذا فاعلم أن من المتشابهات آيات الصفات التي التأويل فيها بعيد فلا تؤول ولا تفسر، وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها " (1) .
ويقول أيضا: " ومن المتشابه: صفة الرحمة والغضب والرضا والحياء والاستهزاء والمكر والعجب. . " (2) وقال أيضا: " إن هذه الأحاديث ونحوها تروى كما جاءت ويفوض معناها إلى الله أو تؤول بما يليق بجلاله سبحانه، ولا ترد بمجرد العناد والمكابرة " (3) .
وهذا كله خلاف مذهب السلف؟ لأن السلف رحمهم الله تعالى يعتبرون آيات الصفات وأحاديثها ليست من المتشابه؛ لأن معانيها معلومة معروفة من لغة العرب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الرد على من يقول: إن آيات الصفات من المتشابه، يقول: " وأما إدخال
__________
(1) أقاويل الثقات (ص 60) .
(2) المصدر السابق (ص 70) .
(3) المصدر السابق (ص 117- 118) .(52/349)
أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين:
الأول: من قال: إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، فنقول: أما الدليل على [بطلان] ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية - وردوها وأبطلوها - التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه " (1) .
أما التفويض فهو قسمان: تفويض المعنى، وتفويض الكيفية، والسلف يفرقون بينهما ويفوضون الكيفية دون المعاني؛ لأنهم يؤمنون بجميع صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تعطيل.
والتفويض في المعاني مذهب مبتدع مخالف لما عليه
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (13 \ 294، 295) .(52/350)
السلف الصالح.
وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره من أئمة الإسلام على أهل التفويض وبدعوهم؛ لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه وتعالى خاطب عباده المؤمنين بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك.
والواجب هو التفويض في كيفية الصفات، فكما أننا لا نعلم كيفية ذاته سبحانه وتعالى كذلك صفاته لا نعلم كيف هي، فنحن نؤمن بها وإن لم نعلم كيفيتها.
هذه أمثلة على اضطراب المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب، ولم أتتبع ذلك في جميع مصنفاته عفا الله عنه وغفر له.
ب- مذهبه:
درس المؤلف المذهب الحنبلي وتفقه فيه، ولذا فهو يعد من علماء الحنابلة الكبار، وقد قام بتدريس الفقه الحنبلي بجامع ابن طولون بالقاهرة فترة من الزمن (1) ، وألف فيه الكتب والرسائل، مثل: كتاب " دليل الطالب، وكتاب غاية المنتهى في جمع الإقناع والمنتهى " (2) .
وقد سبق ذكر بيتين من الشعر للمؤلف يبجل فيها الإمام أحمد رحمه الله ويذكر فيه حبه له والسير على مذهبه وتقليده له.
__________
(1) السحب الوابلة (463) .
(2) عنوان المجد (1 \ 31، 32) ، مختصر طبقات الحنابلة (109) .(52/351)
8 - تلاميذه:
بلغ المصنف رحمه الله تعالى منزلة عالية في العلم فدرس وأفتى وبرع في شتى العلوم والفنون، وألف المصنفات الكثيرة ومع ذلك لم تذكر المصادر التي ترجمت له أحدا من تلاميذه الذين درسوا عليه وتلقوا العلم عنه، ولكن بعد الاستقراء والتتبع لكتب التراجم وجدت ثلاثة من تلاميذه وهم:
1 - الشيخ الفقيه ابن أخيه أحمد بن يحيى بن يوسف بن أبي بكر الحنبلي أبو العباس المقدسي، كان أحد العباد الزاهدين والعلماء العاملين، ولد في بيت المقدس سنة 1000 هـ، وتعلم بها وحفظ القرآن الكريم ثم رحل إلى القاهرة وأخذ العلم عن عمه المصنف مرعي الكرمي، والعلامة منصور البهوتي، وغيرهم، وكان حسن السيرة قليل الكلام، توفي بالقاهرة سنة 1091 هـ (1) .
2 - الشيخ الإمام محمد بن موسى بن محمد الجمازي الحسيني المالكي نسبة إلى مذهب مالك، كان فقيها أديبا شاعرا، تولى القضاء بمصر، وأخذ العلم عن المصنف وغيره من مشايخ عصره، من مصنفاته (التحفة الوفية) و (الحجة) توفي بمصر سنة 1065 هـ (2) .
__________
(1) خلاصة الأثر (1 \ 367) ، والنعت الأكمل (249) ، والسحب الوابلة (117) ، ومختصر طبقات الحنابلة (125) .
(2) خلاصة الأثر (4 \ 234) ، والأعلام (7 \ 119) ، وهدية العارفين (2 \ 286) ، ومعجم المؤلفين (12 \ 63) .(52/352)
3 - العلامة المفتي عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر بن إبراهيم بن عمر البعلي الحنبلي الأزهري الدمشقي، مفتي الحنابلة في دمشق، تعلم في الأزهر، وكان يعرف ب (ابن فقيه فصه) له مصنفات منها: (رياض أهل الجنة في آثار أهل السنة) ، (العين والأثر في عقائد أهل الأثر) ، توفي بدمشق سنة 1071 هـ (1) .
__________
(1) النعت الأكمل (223) ، ومختصر طبقات الحنابلة (120) ، والأعلام (3 \ 272) ، وهدية العارفين (1 \ 497) .(52/353)
9 - مؤلفاته:
ترك المؤلف رحمه الله تعالى مؤلفات كثيرة متنوعة في شتى ميادين العلوم والفنون، تدل على سعة اطلاعه وعلمه رحمه الله، وهذه قائمة بأسماء مؤلفاته، مع بيان المطبوع منها والمخطوط، وقد قسمتها إلى قسمين ورتبتها على حروف المعجم:
القسم الأول: المؤلفات المطبوعة:
1 - إرشاد ذوي الأفهام لنزول عيسى عليه السلام، حققه د. عطية الزهراني.
2 - إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان. نشر دار عمار. الأردن، 1408 هـ تحقيق: مشهور حسن محمود سلمان.
3 - أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات. مؤسسة(52/353)
الرسالة - الطبعة الأولى - بيروت سنة 1406 هـ تحقيق شعيب الأرناؤوط.
4 - بديع الإنشاء والصفات في المكاتبات والمراسلات، ويعرف بإنشاء مرعي. طبع طبعات كثيرة، ومنها طبعة الشيخ عبد الرزاق بمصر سنة 1299 هـ.
5 - بهجة الناظرين وآيات المستدلين، مطبوع بالآلة الكاتبة، رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلامية - قسم العقيدة - تقدم به الباحث / خليل إبراهيم أحمد.
6 - تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان. مطبعة المدني - الطبعة الأولى - 1409 هـ. تحقيق الدكتور سليمان الخزي.
7 - تحقيق البرهان في شأن الدخان. نشر دار عمار - الطبعة الأولى - تحقيق مشهور حسن.
8 - تحقيق الخلاف في أصحاب الأعراف. نشر دار الصحابة - الطبعة الأولى - تحقيق مشهور حسن.
9 - تحقيق الرجحان في صوم يوم الشك من رمضان. طبع بتحقيق الدكتور / عبد الكريم العمري - مطابع ابن تيمية القاهرة - الطبعة الأولى.
10 - دليل الطالب لنيل المطالب، وهو متن لطيف في الفقه الحنبلي، اختصره من كتاب (منتهى الإرادات) لتقي الدين الحنبلي، وقد طبع مع تعليق الشيخ محمد بن مانع(52/354)
في دمشق - المكتب الإسلامي - سنة 1961 م. وقد طبع طبعات أخرى.
11 - دفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، طبع بتحقيقي.
12 - الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية. نشر مؤسسة الرسالة، بيروت 1404 هـ الطبعة الأولى. تحقيق الدكتور / نجم عبد الرحمن خلف.
13 - غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى - في الفقه الحنبلي ويقع في ثلاثة أجزاء. نشر دار السلامة - دمشق - الطبعة الأولى 1959 م.
14 - الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة. نشر المكتب الإسلامي سنة 1397 هـ بيروت - الطبعة الثانية- تحقيق الدكتور / محمد الصباغ.
15 - قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن. نشر دار القرآن الكريم. - الكويت - سنة 1400 هـ. الطبعة الأولى تحقيق سامي عطا حسن.
16 - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية. مطبعة دار الغرب الإسلامي - بيروت 1406 هـ - الطبعة الأولى تحقيق الدكتور / نجم عبد الرحمن خلف.
17 - اللفظ الموطأ في بيان الصلاة الوسطى. نشر وتوزيع دار البخاري - بريدة - المدينة، الطبعة الأولى 1412 هـ.(52/355)
تحقيق الدكتور / عبد العزيز بن مبروك الأحمدي.
18 - مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب. نشر دار عمار - الأردن - الطبعة الأولى 1408 هـ.
تحقيق / علي حسن علي عبد الحميد.
القسم الثاني: مؤلفاته المخطوطة:
1 - الآيات المحكمات والمتشابهات (1) .
2 - إتحاف ذوي الألباب (2) في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (3) .
3 - إحكام الأساس (4) في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (5) .
4 - إخلاص الوداد في صدق الميعاد.
5 - الأدلة الوفية بتصويب قول الفقهاء والصوفية (6) .
__________
(1) خلاصة الأثر (4 \ 358) ، وإيضاح المكنون (1 \ 7) ، والسحب الوابلة (464) .
(2) يوجد له نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة بالموصل برقم (3 \ 125) .
(3) سورة الرعد الآية 39
(4) توجد له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (3 \ 270) .
(5) سورة آل عمران الآية 96
(6) السحب الوابلة (465) ، وإيضاح المكنون (1 \ 52) ، ومختصر طبقات الحنابلة (109) .(52/356)
6 - إرشاد من كان قصده لا إله إلا الله (1) .
7 - أرواح الأشباح في الكلام على الأرواح (2) .
8 - أزهار الفلاة في آية قصر الصلاة (3) .
9 - الأسئلة في مسائل مشكلة (4) .
10 - إيقاظ العارفين على حكم أوقاف السلاطين.
11 - البرهان في تفسير القرآن، لم يتمه (5) .
12 - بشرى ذوي الإحسان لمن يقضي حوائج الإخوان (6) .
__________
(1) السحب الوابلة (464) ، وإيضاح المكنون (2 \ 426) ، ومختصر طبقات الحنابلة (109) .
(2) إيضاح المكنون (1 \ 64) ، والأعلام (7 \ 203) ، وهدية العارفين (2 \ 426) .
(3) خلاصة الأثر (4 \ 359) ، وإيضاح المكنون (1 \ 66) ، وهدية العارفين (2 \ 426) .
(4) إيضاح المكنون (1 \ 159) ، وقد ذكره المؤلف في أقاويل الثقات - (75) ، بهذا الاسم.
(5) خلاصة الأثر (4 \ 359) ، والسحب الوابلة (464) ، ومختصر طبقات الحنابلة (109) .
(6) النعت الأكمل (193) ، وإيضاح المكنون (1 \ 184) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) .(52/357)
13 - بشرى من استبصر وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر (1) .
14 - تحسين الطرق والوجوه في قوله عليه السلام: «اطلبوا الخير عند حسان الوجوه (2) » .
15 - تحقيق الظنون بأخبار الطاعون (3) .
16 - تحقيق المقالة هل الأفضل في حق النبي عليه الصلاة والسلام - الولاية أو النبوة أو الرسالة؟ (4) .
17 - تسكين الأشواق بأخبار العشاق (5) .
18 - تشويق الأنام إلى حج بيت الله الحرام (6) .
19 - تلخيص أوصاف المصطفى وذكر من بعده من الخلفا (7) .
__________
(1) مختصر طبقات الحنابلة (110) ، وهدية العارفين (2 \ 426) ، والسحب الوابلة (466) .
(2) صحيح البخاري الحيض (313) ، كتاب المناقب (3531، 3674) ، كتاب المغازي (4141، 4145) ، تفسير القرآن (4747) ، كتاب الأدب (6150) ، كتاب الدعوات (6362) ، كتاب الفتن (7091) ، صحيح مسلم الصيام (1159) ، المساقاة (1594) ، الأيمان (1668) ، كتاب الإمارة (1847، 1879) ، كتاب فضائل الصحابة (2403) ، كتاب التوبة (2770) ، كتاب الحيض (315) ، كتاب الصلاة (404) ، سنن الترمذي النكاح (1127) ، البيوع (1256) ، كتاب الفتن (2227) ، تفسير القرآن (3179) ، كتاب تفسير القرآن (3180) ، كتاب المناقب (3778) ، كتاب الصلاة (394) ، كتاب الصوم (720) ، كتاب الحج (842، 906) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2782، 2791) ، كتاب النكاح (3349) ، كتاب الخيل (3561) ، سنن أبو داود الطلاق (2254) ، كتاب الصوم (2413) ، البيوع (3418) ، كتاب الملاحم (4306) ، كتاب الصلاة (972) ، سنن ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (1270) ، الطلاق (2067، 2087) ، كتاب الفتن (4082) ، مسند أحمد بن حنبل (1/372) ، كتاب باقي مسند المكثرين (2/234، 2/282، 2/411، 2/475، 3/187، 3/244) ، كتاب أول مسند الكوفيين (4/288، 4/312، 4/382، 4/409) ، أول مسند البصريين (5/85) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/198) ، باقي مسند الأنصار (6/211) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/25) ، كتاب من مسند القبائل (6/398) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/61) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (1013، 1016، 1024) ، كتاب النذور والأيمان (1030) ، كتاب الفرائض (1102) ، كتاب الطلاق (1179، 1182، 1198، 1201، 1206، 1210، 1214، 1233) ، الطلاق (1234) ، كتاب الطلاق (1266) ، كتاب الرضاع (1288، 1289) ، كتاب الأقضية (1436، 1437) ، كتاب النداء للصلاة (180، 223) ، النداء للصلاة (267) ، كتاب النداء للصلاة (270) ، النداء للصلاة (386) ، كتاب النداء للصلاة (490) ، النداء للصلاة (513) ، كتاب الجنائز (555) ، كتاب الطهارة (64) ، كتاب الصيام (643، 648، 690) ، كتاب الحج (730) ، الحج (740) ، كتاب الحج (790، 825، 833، 839، 899، 911، 929، 930) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1358) .
(3) يوجد له نسخة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (1650) .
(4) إيضاح المكنون (1 \ 267) ، وهدية العارفين (2 \ 426) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) .
(5) إيضاح المكنون (1 \ 267) ، والنعت الأكمل (193) .
(6) يوجد له نسخة خطية في خدا بخش (1 \ 290) ، وعنه صورة بمخطوطات الجامعة الإسلامية برقم (1536 \ ف) .
(7) يوجد له نسخة في مكتبة شهيد علي باشا برقم (1861) .(52/358)
20 - تنبيه الماهر على غير ما هو المتبادر من الأحاديث الواردة في الصفات (1) .
21 - تنوير بصائر المقلدين في مناقب الأئمة المجتهدين.
22 - تهذيب الكلام في حكم أرض مصر والشام (2) .
23 - توضيح البرهان في الفرق بين الإسلام والإيمان (3) .
24 - توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين.
25 - جامع الدعاء وورد الأولياء ومناجاة الأصفياء (4) .
26 - الحجج البينة في إبطال اليمين مع البينة.
__________
(1) هدية العارفين (2 \ 427) ، وإيضاح المكنون (1 \ 327) ، والنعت الأكمل (192) .
(2) إيضاح المكنون (1 \ 342) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) ، والسحب الوابلة (465) .
(3) يوجد له نسخة خطية في المكتبة التيمورية بالقاهرة برقم (397) ، ومكتبة سليم آغا - بتركيا - برقم 657.
(4) يوجد له نسخة خطية، في دار الكتب المصرية برقم (6 \ 190) .(52/359)
27 - الحكم الملكية والكلم الأزهرية (1) .
28 - دفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر طبع، تحقيق د. عبد الله بن سليمان الغفيلي.
29 - دليل الحكام في الوصول إلى دار السلام (2) .
30 - دليل الطالبين لكلام النحويين (3) .
31 - ديوان الكرمي (4) وهو ديوان شعر للمؤلف.
32 - رسالة في السماع (5) .
33 - رسالة فيما وقع في كلام الصوفيين من ألفاظ موهمة للتكفير (6) .
34 - رفع التلبيس عمن توقف فيما كفر به إبليس (7) .
35 - روض العارفين وتسليك المريدين (8) .
__________
(1) تاريخ الأدب لبروكلمان (2 \ 485) .
(2) إيضاح المكنون (1 \ 478) ، والنعت الأكمل (193) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) .
(3) يوجد له نسخة خطية بجامعة السليمانية بالعراق برقم (186) .
(4) إيضاح المكنون (1 \ 526) ، وهدية العارفين (2 \ 427) ، والسحب الوابلة (466) .
(5) يوجد له صورة بمخطوطات الجامعة الإسلامية بالمدينة ضمن مجموع تحت رقم (1551 \ ف) .
(6) يوجد له نسخة خطية بالقاهرة - فهرس الكتبخانة - (7 \ 546) .
(7) يوجد له نسخة بدار الكتب المصرية برقم (216) مجاميع.
(8) إيضاح المكنون (1 \ 589) ، وخلاصة الأثر (4 \ 359) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) .(52/360)
36 - الروض النضر في الكلام على الخضر.
37 - رياض الأزهار في حكم السماع والأوتار والغناء والأشعار.
38 - السراج المنير في استعمال الذهب والحرير.
39 - سلوان المصاب بفرقة الأحباب (1) .
40 - سلوك الطريقة في الجمع بين كلام أهل الشريعة والحقيقة (2) .
41 - شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور.
42 - غذاء الأرواح في المحادثة والمزاح (3) .
43 - فتح المنان بتفسير آية الامتنان (4) .
__________
(1) إيضاح المكنون (2 \ 25) ، والسحب الوابلة (466) .
(2) إيضاح المكنون (2 \ 25) ، والنعت الأكمل (192) .
(3) تاريخ الأدب لبروكلمان (2 \ 485) .
(4) إيضاح المكنون (1 \ 174) ، والنعت الأكمل (192) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) .(52/361)
44 - فرائد فوائد الفكر في الإمام المهدي المنتظر (1) .
45 - فم الوكاء في كلام السفيان من ألفاظ المهملات في التكفير (2) .
46 - قرة عين الودود بمعرفة المقصور والممدود (3) .
47 - قلائد العقيان في فضائل آل عثمان.
48 - قلائد العقيان في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (4) .
49 - القول البديع في علم البديع.
50 - القول المعروف في فضائل المعروف (5) .
51 - الكلمات البينات (6) في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (7) .
__________
(1) يوجد له نسخة في دار الكتب المصرية فهرس الكتبخانة (6 \ 161) .
(2) تاريخ الأدب لبروكلمان (2 \ 484) .
(3) إيضاح المكنون (2 \ 225) ، خلاصة الأثر (4 \ 358) .
(4) سورة النحل الآية 90
(5) يوجد له نسخة خطية في المكتبة التيمورية ضمن مجموع رقم (272) .
(6) يوجد له صورة بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (1158 \ ف) .
(7) سورة البقرة الآية 25(52/362)
52 - لطائف المعارف (1) .
53 - ما يفعله الأطباء والداعون لدفع شر الطاعون (2) .
54 - محرك سواكن الغرام إلى حج بيت الله الحرام (3) .
55 - المختصر في علم الصرف (4) .
56 - مرآة الفكر في المهدي المنتظر (5) .
57 - المسائل اللطيفة في فسخ الحج والعمرة الشريفة (6) .
58 - المسرة والبشارة في فضل السلطنة والوزارة (7) .
59 - مقدمة الخائض في علم الفرائض (8) .
__________
(1) إيضاح المكنون (2 \ 405) ، والنعت الأكمل (193) .
(2) إيضاح المكنون (2 \ 421) ، والسحب الوابلة (465) .
(3) يوجد له نسخة خطية في مكتبة المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت رقم (2572) .
(4) يوجد له نسخة خطية في مكتبة طوب كابي سراي باستانبول برقم (180) .
(5) إيضاح المكنون (2 \ 461) ، وخلاصة الأثر (4 \ 359) .
(6) خلاصة الأثر (4 \ 360) ، والنعت الأكمل (193) ، وإيضاح المكنون (2 \ 427) .
(7) يوجد له نسخة في مكتبة الكونجرس بواشنطن رقم (65) ، فهرس المخطوطات العربية بالكونجرس (49) .
(8) إيضاح المكنون (2 \ 543) ، والسحب الوابلة (464) .(52/363)
60 - منية المحبين وبغية العاشقين (1) .
61 - نزهة المتفكر (2) .
62 - نزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين.
63 - نزهة الناظرين في فضائل الغزاة والمجاهدين (3) .
64 - نزهة نفوس الأخبار ومطلع مشارق الأنوار (4) .
65 - النادرة الغريبة والواقعة العجيبة (5) .
66 - نصيحة (6) .
__________
(1) يوجد له نسخة في مكتبة الإسكندرية تحت رقم (4564) .
(2) إيضاح المكنون (2 \ 641) ، وخلاصة الأثر (4 \ 360) .
(3) إيضاح المكنون (2 \ 642) ، وهدية العارفين (2 \ 427) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) .
(4) يوجد له نسخة في مكتبة الأزهر برقم (2419) .
(5) إيضاح المكنون (2 \ 614) ، ومختصر طبقات الحنابلة (110) ، والسحب الوابلة (466) .
(6) يوجد نسخة منه في برلين برقم (5415) .(52/364)
10 - وفاته:
توفي الإمام العلامة بعد حياة حافلة بالعلم والتعليم والتدريس والإفتاء في القاهرة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث(52/364)
وثلاثين وألف من الهجرة (1) .
وهذا التاريخ ذكره جميع من ترجم له إلا ابن حميد انفرد عنهم وحدد تاريخ وفاته بضحى يوم الأربعاء في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وألف من الهجرة حيث قال: " رأيت في ظهر الغاية بخط شيخ مشايخنا العمدة الضابط الشيخ محمد بن سلوم نقلا أن وفاته ضحوة يوم الأربعاء لخمس بقيت من ذي القعدة سنة 1032 هـ (2) . ولا شك أن ما اتفق عليه المترجمون في تاريخ وفاته هو الصحيح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) انظر مصادر الترجمة.
(2) السحب الوابلة (467) .(52/365)
صفحة فارغة(52/366)
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي
القرار الأول
حول سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) ، وما يعقد فيها من عقود بيعا وشراء على العملات الورقية وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجل، وما كان منها على مؤجل.
كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها.
(أ) فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فهي:
أولا: أنها تقيم سوقا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة على الأسهم والسندات والبضائع.
ثانيا: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية(52/367)
والتجارية والحكومية عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع.
ثالثا: أنها تسهل بيع الأسهم وسندات القروض للغير، والانتفاع بقيمتها، لأن الشركات المصدرة لها لا تصفي قيمتها لأصحابها.
رابعا: أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم وسندات القروض والبضائع، وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب.
(ب) وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي:
أولا: أن العقود الآجلة التي تجرى في هذه السوق ليست في معظمها بيعا حقيقيا، ولا شراء حقيقيا، لأنها لا يجرى فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العرضين أو في أحدهما شرعا.
ثانيا: أن البائع فيها غالبا يبيع ما لا يملك من عملات وأسهم أو سندات قروض أو بضائع على أمل شرائه من السوق وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في السلم.
ثالثا: أن المشتري فيها غالبا يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضا لآخر قبل قبضه. وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه، إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول(52/368)
الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين غير الأول والأخير على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تماما.
رابعا: ما يقوم به المتمولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه، وإيقاعهم في الحرج.
خامسا: أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة؛ لأن الأسعار فيها لا تعتمد كليا على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة، بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق، أو من المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها، كإشاعة كاذبة أو نحوها. وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعا؛ لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرا سيئا. وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها لكثرة العرض، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجددا بزيادة عرضهم، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق(52/369)
بسعر أقل بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغار حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة. ويجري مثل ذلك أيضا في سوق البضائع.
ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلا كبيرا بين الاقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت في فترات معينة من تاريخ العالم الاقتصادي ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد، حتى إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، وبوقت سريع، كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية.
ولذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) ، وما يجرى فيها من عقود عاجلة وآجلة على الأسهم وسندات القروض والبضائع والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي:
أولا: أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعا وشراء، وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع ومن هو محتاج إلى الشراء.(52/370)
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعا، والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجرى فيها، كل واحدة منها على حدة.
ثانيا: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجرى فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعا هي عقود جائزة، ما لم تكن عقودا على محرم شرعا. أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.
ثالثا: أن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعا، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعا كشركات البنوك الربوية وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعا وشراء.
رابعا: أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعا؛ لأنها معاملات تجرى بالربا المحرم.
خامسا: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجرى على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة(52/371)
شرعا؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتمادا على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبع ما ليس عندك (1) » ، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » .
سادسا: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
(أ) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما أن الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
(ب) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول، وقبل أن يحوزها المشتري الأول، عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسئولين في البلاد الإسلامية أن لا يتركوا أسواق البورصة
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(52/372)
في بلادهم حرة تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة أو محرمة، وأن لا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاءون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعا؛ ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين؛ لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء. قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)
والله سبحانه هو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(توقيع) ... (توقيع)
نائب الرئيس ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
د. عبد الله عمر نصيف ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الأعضاء
(توقيع) ... (توقيع) ... (توقيع)
عبد الله العبد الرحمن البسام ... صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... محمد بن عبد الله بن سبيل
(توقيع) ... (توقيع) ... (توقيع)
مصطفى أحمد الزرقاء ... محمد محمود الصواف ... صالح بن عثيمين
(لم يحضر) ... (توقيع) ... (توقيع)
محمد سالم عدود ... محمد رشيد قباني ... محمد الشاذلي النيفر
(توقيع) ... (توقيع) ... (توقيع)
أبو بكر جومي ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد رشيدي
(لم يحضر) ... (لم يحضر) ... (لم يحضر)
محمود شيت خطاب ... أبو الحسن علي الحسني الندوي ... حسنين محمد مخلوف
(لم يحضر) ... (توقيع) ... -
مبروك العوادي ... محمد أحمد قمر ... -
مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ... - ... -
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(52/373)
حكم الذبح لغير الله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة الرياض في عددها الصادر يوم الأربعاء 18 \ 4 \ 1416 هـ عما فعله بعض الناس حينما خرج أحد الأعيان من المستشفى من عقر بعض الأنعام فرحا بسلامته. وفق الله الجميع لما يرضيه.
ولما كان هذا الأمر قد يخفى حكمه على بعض الناس، وقد كان أهل الجاهلية يعقرون لعظمائهم، فأنكر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم ذلك وقال: «لا عقر في الإسلام (1) » ، رأيت أن أبين للقراء حكم هذا الأمر؛ نصيحة لله ولعباده، وأداء لواجب الدعوة إلى الله ونشر أحكامه سبحانه بين الناس.
فأقول: إن الذبح لله سبحانه قربة عظيمة، وعبادة تقرب إليه سبحانه فلا يجوز صرفها لغيره. فعقر الذبائح للملوك والسلاطين والعظماء والتقرب إليهم بذلك يعتبر من الذبح لغير
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3 \ 197) ، وأبو داود باب الجنائز (3 \ 550) .(52/375)
الله، ويعتبر من الشرك بالله، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك هو الذبح، وقال عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (6) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فلا يجوز لأحد أن يتقرب إلى السلاطين والملوك والعظماء بالذبح لهم عند مقابلتهم أو عند خروجهم من المستشفى أو عند قدومهم من أي بلد، كما لا يجوز التقرب بالذبح للجن أو الملائكة أو الكواكب أو الأصنام أو أصحاب القبور أو غيرهم من المخلوقين؛ للأدلة المذكورة.
أما إن كان الذبح يقصد به التقرب إلى الله سبحانه والشكر له، ولا يقصد به تعظيم الملوك والسلاطين، فهو في هذه الحال يعتبر منكرا وتشبها بأهل الجاهلية في عقرهم الذبائح لعظمائهم وعلى قبورهم ووسيلة من وسائل الذبح لغير الله. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عقر في الإسلام (7) » ،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة البينة الآية 5
(6) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، (13 \ 141 - شرح النووي) .
(7) سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .(52/376)
وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » .
أما إذا ذبح الإنسان للضيف أو لأهله فهذا شيء لا بأس به، بل هو مشروع إذا دعت الحاجة إليه، وليس من الذبح لغير الله، بل هو مما أباحه الله سبحانه لعباده. وقد جاءت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على إباحة مثل هذا الأمر.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح جميع ولاة أمر المسلمين، وأن يوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بمقتضاها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 \ 50) ، وأبو داود في كتاب اللباس (4 \ 314) .(52/377)
صفحة فارغة(52/378)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (1) » .
رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة برقم (7288)
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(52/379)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (1)
(سورة الحديد، الآية 16)
__________
(1) سورة الحديد الآية 16(53/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(53/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(53/3)
المحتويات
الافتتاحية
التواصي بالحق لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
جباية الزكاة (القسم الثاني) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 27
الفتاوى
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 87
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 107(53/4)
البحوث
تربية الأطفال وتعليم الجهال للدكتور / عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين 125
شروط الطواف للدكتور / عبد الله بن إبراهيم الزاحم 177
تأملات في قوله تعالى {وأزواجه أمهاتهم} للدكتور / عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر 265
الحكم الشرعي لاستقطاع الأعضاء وزرعها للدكتور / أمين محمد سلام البطوش 317
العقيدة هي الأساس والعبادة هي البناء القائم على أصل العقيدة أ. د محمد بن أحمد الصالح 349
كلمة توجيهية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 373(53/5)
صفحة فارغة(53/6)
التواصي بالحق.
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله، في بيت من بيوت الله، في رحاب بيت الله العتيق، للتواصي بالحق والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، والتذكير بالله وبحقه، نسأل الله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يمنحنا الفقه فيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن مضلات الفتن، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم(53/7)
الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، كما أسأله أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعيذهم من بطانة السوء، وأن ينصر بهم الحق ويجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين.
أيها الإخوة في الله: إن الله جل وعلا خلق الثقلين ليعبدوه، وأرسل الرسل لهذا الأمر العظيم، وأنزل الكتب لهذا الأمر، قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) . لهذا الأمر خلق الله الناس، جنهم وإنسهم، رجالهم ونساءهم، عربهم وعجمهم، أغنياءهم وفقراءهم، كلهم خلقوا ليعبدوا الله، لم يخلقوا عبثا ولا سدى، قال جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (2) إنكارا على من ظن ذلك، وقال جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (3) . يعني: مهملا لا يؤمر ولا ينهى، وقال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} (4) . فالله خلق الخلق ليعبدوه، ما خلقهم باطلا ولا عبثا ولا سدى، خلقهم لأمر عظيم، وهو أن يعبدوه بطاعة أمره، وترك نواهيه، والإخلاص له في جميع العبادات، والوقوف عند حدوده، هذه هي العبادة التي خلقوا لها، كما قال سبحانه في سورة الذاريات
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة المؤمنون الآية 115
(3) سورة القيامة الآية 36
(4) سورة ص الآية 27(53/8)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) . وهذه العبادة هي: توحيده وطاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وهي الإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) ، وهي الإيمان والهدى، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (5) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (6) . فهذه العبادة هي الإيمان، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (7) » .
فالإيمان هو: عبادة الله، وهو الإسلام، وهو الهدى، وهو البر والتقوى، وهو طاعة الله ورسوله، وهو توحيد الله، والإخلاص له، والقيام بأوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذه هي العبادة، وهذا هو الإسلام والإيمان، وهذه هي التقوى، وهذا هو البر والهدى، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (8) وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (9) . وقال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (10)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة النجم الآية 23
(6) سورة النساء الآية 136
(7) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان عدد شعب الإيمان برقم (35) واللفظ له، والنسائي في (الإيمان وشرائعه) برقم (5005) .
(8) سورة النجم الآية 23
(9) سورة البقرة الآية 189
(10) سورة الانفطار الآية 13(53/9)
وهذا هو معنى العبادة التي أمر الله بها الناس جميعا وخلقهم لها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) أمرهم بهذه العبادة التي خلقوا لها وأرسل بها الرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) ومعنى قوله سبحانه: اعبدوا الله يعني: وحدوا الله وأطيعوا أوامره.
{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) يعني: اجتنبوا الشرك والمعاصي.
فالله أرسل الرسل جميعا، من أولهم نوح إلى آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، كلهم أرسلوا ليدعوا الناس لعبادة الله، وأن يوحدوا الله، ويخصوه بالعبادة، وأن يطيعوا أوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند حدوده، ويرجوا ثوابه، ويخشوا عقابه سبحانه وتعالى، بهذا الأمر بعث الله الرسل وبه أرسلوا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان آدم أبونا عليه الصلاة والسلام وذريته على الإسلام عشرة قرون، حتى وقع الشرك في قوم نوح فأرسل الله إليهم نوحا عليه السلام، ودعاهم إلى الله ووجههم إلى الخير، وقص الله لنا قصتهم في مواضع كثيرة يأمرهم بتوحيد الله وطاعته، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) . فلما استكبروا وأصروا على الباطل أخذهم الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة المؤمنون الآية 23(53/10)
بالغرق، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (1) {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، فلما استكبروا وعتوا أخذهم الله بالطوفان، بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض، حتى غرقوا عن آخرهم إلا من كان مع نوح في السفينة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (3) {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) وهكذا غيرهم، من لم يستجب للرسل فهو الهالك في الدنيا والآخرة.
وآخرهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو آخرهم وأفضلهم، كما قال الله جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (5) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنه لا نبي بعدي (6) » ، وقال: «بعثت للناس عامة (7) » . قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (8) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (9)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 14
(2) سورة العنكبوت الآية 15
(3) سورة العنكبوت الآية 14
(4) سورة العنكبوت الآية 15
(5) سورة الأحزاب الآية 40
(6) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء برقم (3455) ، ورواه مسلم في (الإمارة) برقم (1842) .
(7) رواه البخاري في (التيمم) برقم (335) ، ورواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (13852)
(8) سورة الأعراف الآية 158
(9) سورة سبأ الآية 28(53/11)
عليه من ربه الصلاة والسلام.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس اتباعه وطاعته، والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) والمعنى: قل يا محمد للناس جنهم وإنسهم: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} (2) يعني: صادقين، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) فمن كان يحب الله فليتبع محمدا عليه الصلاة والسلام بطاعة أوامره، واجتناب نواهيه، وذلك بتوحيد الله والإخلاص له، وأداء حقه وترك معصيته، ومن ذلك المحافظة على الصلاة، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وبر الوالدين وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك جميع المعاصي، وترك الشرك بالله الذي هو أعظم الذنوب، وترك جميع المعاصي من الزنا، والسرقة، واللواط، والربا، وشرب المسكرات، والغيبة، والنميمة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، إلى غير ذلك.
يجب على كل مكلف من الرجال والنساء أن يعبد الله، وأن يطيع أوامره، وأن ينتهي عن نواهيه، وأن يقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه سبحانه وتعالى، يقول جل وعلا: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة النور الآية 54(53/12)
ويقول جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ، ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس من الرجال والنساء أن يعبدوا الله وأن يتقوه وأن يعظموا أمره ونهيه، ولا بد من التواصي في ذلك والتناصح والتعاون على البر والتقوى من الرجال والنساء والعرب والعجم وجميع الناس، لا بد من التواصي والتناصح، قال جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) ، وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) يقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر، والعصر: هو الزمان الليل والنهار.
والله سبحانه يقسم بما يشاء من خلقه، كما أقسم بالطور، والذاريات، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (7) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (8) {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (9) {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (10) إلى غير ذلك.
وهذه مخلوقات يقسم بها سبحانه؛ لأنها دالة على عظمة الله، ودالة على أنه رب العالمين، وأنه سبحانه هو المستحق لأن يعبد، فهو سبحانه يقسم بما يشاء، أما
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3
(7) سورة النجم الآية 1
(8) سورة الليل الآية 1
(9) سورة الشمس الآية 1
(10) سورة التين الآية 1(53/13)
المخلوق فليس له أن يحلف إلا بالله، ولا يجوز له أن يحلف بالنبي، ولا بالأمانة، ولا بأبيه، ولا بغير ذلك من المخلوقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (2) » أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد صحيح.
فلا يجوز لأحد أن يحلف بأبيه أو بأمه أو بنبي أو بفلان، إنما الحلف بالله وحده: والله وبالله وتالله، وغيرها.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (3) » .
ويبين جل وعلا في هذه السورة العظيمة أن الإنسان في خسران، الرجال والنساء والجن والإنس كلهم في خسارة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) هؤلاء هم الرابحون السعداء، الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله ربهم ومعبودهم الحق، وأنه فوق السماوات وفوق العرش وفوق جميع الخلق سبحانه وتعالى، آمنوا بعلو الله وأنه سبحانه فوق العرش بائن من خلقه، كما قال جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) .
__________
(1) رواه البخاري في (الشهادات) برقم (2679) ، ومسلم في (الأيمان) برقم (1646) واللفظ متفق عليه
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (331) .
(3) رواه النسائي في (الأيمان والنذور) برقم (3769) ، وأبو داود في (الأيمان والنذور) برقم (3248) .
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة طه الآية 5(53/14)
وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) هذا هو ربنا سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، وهو فوق العرش وعلمه في كل مكان، ترفع الأيدي إليه بالدعاء سبحانه وتعالى، وهو العلي العظيم، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) . وقال سبحانه: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (3) . وهو جل وعلا فوق العرش استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) . ولا يعلم كيف صفاته سبحانه أحد سواه.
فربنا سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى فوق الخلق، وهو الرحمن الرحيم، وهو العزيز الحكيم، وهو الرؤوف الرحيم، والقادر على كل شيء، وهو المستحق لأن يعبد، فالواجب علينا جميعا رجالا ونساء أن نعبده، بماذا؟ بطاعة أوامره، وبترك نواهيه والإخلاص له في العبادة وحده، فندعوه وحده، ونرجوه، ونستعين به، وننذر له، ونصلي له، ونسجد له، ونصوم له، ونصرف جميع العبادة له وحده سبحانه، يقول الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة فاطر الآية 10
(3) سورة المعارج الآية 4
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) سورة الإسراء الآية 23(53/15)
ويقول سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ، ويقول جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (5) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (6) » متفق على صحته.
فعلى جميع المكلفين أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعلموا أنه لا معبود بحق سواه سبحانه وتعالى، وأن يؤمنوا بأنه سبحانه وتعالى فوق العرش، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا، لا شريك له ولا كفء له ولا ند له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) وعليهم أن يؤمنوا بأنه
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) رواه البخاري في (الجهاد والسير) برقم (2856) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (30) واللفظ متفق عليه.
(6) رواه البخاري في (الإيمان) برقم (25) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (22) ، واللفظ متفق عليه.
(7) سورة الشورى الآية 11(53/16)
سبحانه هو الخلاق الرزاق، كما أنه المستحق للعبادة، فهو الخلاق الرزاق لا خالق غيره ولا رب سواه، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، كما قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) فهو سبحانه له الأسماء الحسنى يدعى بها، مثل: الحكيم والعليم والرحمن والرحيم والعزيز والرؤوف والعليم والقادر على كل شيء والسميع والبصير، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى الواردة في كتابه العظيم وفي سنة نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(53/17)
والواجب على جميع المكلفين التناصح في ذلك والتواصي بهذا، قال جل وعلا: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) فالناس في خسران وهلاك، إلا الذين آمنوا بالله، يعني: آمنوا بأن الله هو معبودهم الحق، وهو ربهم وهو الرزاق، آمنوا بذلك وصدقوا بذلك، فهم يؤمنون أن الله سبحانه هو خالقهم وهو رازقهم، وهو فوق العرش وفوق جميع المخلوقات، ويؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من أمر الآخرة والجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك، ويصدقون بما أخبر الله به في كتابه العظيم القرآن، وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، يصدقون بكل ذلك، ويؤمنون بالله ويصدقون ما قاله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويصدقون بما جاء به، فهم يؤمنون بالله وبرسوله،
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(53/17)
ويصدقون بكل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وعما سيكون، ويؤمنون بأنه سوف يعيدنا يوم القيامة، وسوف يبعثنا، وسوف يجازينا بأعمالنا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (1) ، وقال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (2) يعني: يوم القيامة، فإنهم مجموعون ليوم القيامة ومجزيون بأعمالهم، فعلى العبد أن يؤمن بذلك، وأن يصدق بكل ذلك، وأن يعد العدة لذلك اليوم، وهو يوم القيامة، بتوحيد الله وطاعته وترك معصيته والقيام بحقه؛ فلهذا قال سبحانه وتعالى: إلا الذين آمنوا يعني: الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا الله ورسوله ثم عملوا الصالحات، أي: أدوا الصلوات الخمس وحافظوا عليها كما أمر الله وأدوها بالطمأنينة والخشوع، وأدوا الزكاة، وصاموا رمضان، وحجوا البيت، وبروا الوالدين، ووصلوا الأرحام، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا في سبيل الله، إلى غير ذلك مما أوجب الله ورسوله، وتركوا الإشراك بالله، وخصوه سبحانه وحده بالعبادة لا يشركون به شيئا، ولا يأتون شيئا مما نهاهم عنه، من جميع المعاصي التي نهاهم عنها، ويجب على المؤمن أن يحذر مما حرم الله عليه، وهكذا المؤمنة تحذر من سائر المعاصي، فعبادة الله والإيمان بالله معناه: الإخلاص لله في العمل وطاعة الأوامر، وترك النواهي على المنهج الذي جاء به
__________
(1) سورة المجادلة الآية 6
(2) سورة التغابن الآية 9(53/18)
النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن يصلي كما أمر الله، ويصوم كما أمر الله، ويزكي كما أمر الله، ويحج كما أمر الله، ويجاهد كما أمر الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، وينصح ويوصي إخوانه بالخير، هكذا بالله وباليوم الآخر، ثم قال بعدها: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (1) يعني: مع العمل تواصوا فيما بينهم أن يعملوا ويؤدوا فرائض الله، وينتهوا عن محارم الله، ويرجوا ثوابه، ويخافوا عقابه عن صدق وعن إخلاص، ثم يتواصوا بالصبر، فكل واحد ينصح أخاه إذا رأى منه تقصيرا، ينصحه يوضح له الخير ويدعوه إلى الله، ويقول: يا أخي اتق الله، يا أخي فعلت كذا، يا أخي تركت كذا، يوصيه بالخير، إذا رآه يتكاسل عن الصلاة نصحه، قال له: يا أخي اتق الله، الصلاة عمود الإسلام، الواجب عليك المحافظة عليها في الفجر وفي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي جميع الأوقات يجب أن تنهض إليها، إذا أذن المؤذن بادر إليها في جميع الأوقات، الرجل يؤديها في الجماعة، والمرأة تؤديها في البيت بإخلاص وصدق وخشوع وطمأنينة وإحضار قلب، وهكذا يزكي كما أمر الله، ويصوم كما أمر الله، ويحج كما أمر الله، ويبيع كما أمر الله، ويشتري كما أمر الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلى غير ذلك، وفي جميع أحواله يراقب الله: في المزرعة، وفي العمل، وفي صلاته، وفي صومه، وفي أهله، وفي كل مكان
__________
(1) سورة العصر الآية 3(53/19)
يراقب الله ويتقيه ويطيع أوامره وينتهي عن نواهيه، يرجو ثوابه ويخشى عقابه، وهذا هو معنى قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) ثم هو مع هذا يوصي إخوانه وأهل بيته، وينصح زوجته وينصح أولاده، ويوصيهم بطاعة الله، يوصي جيرانه، ويوصي جلساءه وزملاءه وينصح لهم ويحذرهم من معاصي الله، ويصبر أيضا، ويوصي بالصبر إذ لا بد من الصبر؛ لأن هذه الأعمال تحتاج إلى صبر، فالإيمان يحتاج إلى صبر، والعمل يحتاج إلى صبر، والتواصي بالحق والصبر عليه يحتاج إلى صبر، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى صبر.
وقد سمعتم ما قرأ إمامنا عن وصية لقمان لابنه، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) ثم ذكر الله الوصية بالوالدين وأوصى الولد بوالديه وإن كانا كافرين بأن يحسن إليهما ويصحبهما بالمعروف لعل الله أن يهديهما بأسبابه، ثم يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (4) يعني: إياك والتكبر والتعاظم في نفسك والعجب، وعليك بالتواضع وعدم التكبر، فالمؤمن يتقي الله ويراقب الله في جميع أموره، فيؤدي ما أوجب الله، ويترك ما حرم الله، وينصح
__________
(1) سورة العصر الآية 3
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) سورة لقمان الآية 17
(4) سورة لقمان الآية 18(53/20)
لإخوانه، ويوصيهم بطاعة الله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر ولا يفعله، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) وهذه الصفات الأربع، هي صفات الرابحين الناجين السعداء: الإيمان الصادق بالله ورسوله وبما أخبر الله به ورسوله عما كان وعما سيكون، ثم العمل بأداء فرائض الله وترك محارم الله، ولا يكفي القول فقط فلا بد من عمل القلب والجوارح، فالقلب يعمل ويخاف الله ويرجوه ويحبه ويخشاه سبحانه وتعالى، ومع ذلك يعمل بالجوارح فيؤدي فرائض الله، وينتهي عن محارم الله، ويقف عند حدود الله، ويتناصح مع إخوانه، يوصي إخوانه وينصح لهم أينما كان، في أي مكان، في البحر، في البر، في السيارة، في الباخرة، في مجلس خاص، في مجلس عام، إذا رأى المنكر أنكره، وإذا رأى تقصيرا وعظ وذكر، ويوصي بالخير وينصح بالخير، ويحذر من الشر، هكذا المؤمن مع إخوانه، وهكذا المؤمنة مع أخواتها في الله، ومع زوجها، ومع أولادها، ومع قراباتها، ومع جيرانها تنصح لهم، فالرجل ينصح، والمرأة تنصح، يقول الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » ، ويقول جرير بن عبد الله البجلي
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة التغابن الآية 16
(5) رواه أحمد في (مسند الشاميين) برقم (16499) ، والترمذي في (البر والصلة) برقم (1926) .(53/21)
رضي الله عنه الصحابي الجليل: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (1) » فالمؤمن ينصح لإخوانه إذا رأى تقصيرا لا يغفل مع الجيران ومع غيرهم، يقول الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) هذه صفات المؤمنين، وهذه أخلاقهم في هذه الآية العظيمة: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ضد أعداء الله، فالمؤمنون أولياء يتحابون في الله ويتناصحون في الله، لا يغش المؤمن أخاه ولا يخونه ولا يكذب عليه، فالمؤمن أخو المؤمن، لا غش ولا خداع، أولياء فيما بينهم، فالذي يغش أخاه أو يكذب عليه أو يظلمه قد خان الأخوة الإيمانية، وقد خرقها وقصر فيها، وعصى ربه في ذلك، فلا بد من المحافظة على هذا الإيمان بأداء الفرائض وترك المحارم مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تحقيقا لقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) هكذا المؤمنون يتراحمون ويتناصحون ويتعاطفون، ويأمرون
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) برقم (1401) واللفظ له، ومسلم في (الإيمان) برقم (56) .
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71(53/22)
بالمعروف وينهون عن المنكر، ويرشدون إلى الخير مع أهل بيتهم ومع إخوانهم ومع جيرانهم ومع غيرهم، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ، وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، وقال جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .
فالعلماء أهل البصائر يدعون إلى الله وإلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أهل البصائر وأهل العلم يدعون إلى الله ويرشدون الناس إلى الخير على بصيرة وعلى علم، يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، فالواجب على كل مؤمن وكل مؤمنة الدعوة إلى الله حسب العلم وحسب الطاقة، فلا يجوز لأحد أن يقول على الله بغير علم، بل يدعو إلى الله حسب علمه وحسب البصيرة التي عنده، فإذا رأى المؤمن أو المؤمنة من يقصر في الصلاة أو يتساهل أو يتكاسل فلينصحه وليأمره بالمعروف وليحذره من التساهل بالصلاة والتكاسل عنها، وهكذا إذا رأى منه عقوقا للوالدين أو قطيعة للرحم، أو رآه يكذب ويغش في معاملته فعليه أن ينصحه ويقول له: اتق الله، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ومتى رأى منه خللا نصحه ووجهه إلى الخير في جميع الأحوال.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة يوسف الآية 108(53/23)
للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.(53/24)
ومن النصح والتواصي بالحق في الاختبارات أداء الأمانة وعدم الغش في الاختبارات، ولا شك أن هذا من النصح لله ولعباده، تنصح زميلك وترشده إلى ما تعلم وتعينه على مهمته في الحق والمذاكرة بينكما، والحذر من الخيانة والغش.
وهكذا في المعاملات من النصيحة عدم الغش في المعاملة، تبيع وتشتري ولكن بأمانة.
وهكذا الذين يجلبون الحاجات من المزارع عليهم أن ينصحوا ولا يغشوا وأن يجعلوا المبيع ظاهره كباطنه.
وهكذا كل مسلم ينصح في وظيفته التي عنده ويؤدي حقها حسب الطاقة، مع ملاحظة الأمانة وعدم تقديم من لا يستحق على من يستحق، وعدم أخذ الرشوة، بل يجب أن يؤدي عمله بالأمانة كما أمر الله على الوجه الذي يجب عليه، فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يحابي هذا دون هذا، ويعطل هذا ويقدم هذا؟ لهدية أو لصداقة، بل يجب أن ينصح لله ويؤدي الأمانة كما أمر الله، وهكذا الزوج مع زوجته يجب أن ينصحها وأن يعلمها ويرشدها وأن يكون طيبا رقيقا حسن العشرة طليق الوجه طيب الابتسامة، ولا يجوز أن يكون معبسا عند أهله مكفهر الوجه، بل يكون طيب العشرة طيب الكلام حسن المحادثة مع زوجته ومع أهل بيته ومع والديه ومع أولاده، ومع ذلك يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسن خلق وطيب كلام، وهكذا الزوجة مع زوجها تكون طيبة الأخلاق وتكون ناصحة له وتكون حسنة المحادثة صبورة، والرجل كذلك،(53/24)
وهكذا الأب مع أولاده يتقي الله فيهم وينصح لهم، والأم مع أولادها تتقي الله فيهم وتنصح لهم وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وهكذا مع الجيران ينصح لهم ويحب لهم الخير ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإذا رآهم يتخلفون عن صلاة الفجر أو غيرها نصحهم وأنكر عليهم، ويقول لهم: هذه فريضة الله والصلاة عمود الإسلام من تركها كفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » وبذلك يعلم أن الصلاة شأنها عظيم، فيجب الحذر من التساهل فيها، وهكذا في جميع الأمور يجب التناصح والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى وعلى ترك الباطل.
وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يثبتنا جميعا على دينه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (14561) ، ورواه مسلم في كتاب (الإيمان) برقم (82) .
(2) رواه الترمذي في كتاب (الإيمان) برقم (2616) .
(3) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (22428) ، ورواه الترمذي في (كتاب الإيمان) برقم (2621) ، والنسائي في كتاب (الصلاة) برقم (463) ، وابن ماجه في كتاب (إقامة الصلاة والسنة فيها) برقم (1079) .(53/25)
ومن مضلات الفتن، وأن يمنحنا الفقه في الدين، وأن يحسن لنا جميعا الختام، ونسأله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(53/26)
جباية الزكاة
(القسم الثاني)
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
4 - النقل عن الحنابلة:
أ- قال الخرقي:
" وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه ويؤدي لما مضى ".
ب- وقال ابن قدامة:
وجملة ذلك أن الدين على ضربين:
أحدهما: دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى، روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبهذا قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال عثمان وابن عمر وجابر -رضي الله عنهم- وطاوس، والنخعي، وجابر بن زيد، والحسن، وميمون بن مهران، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي، وإسحاق،(53/27)
وأبو عبيد: عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه إخراج زكاته كالوديعة.
وقال عكرمة: ليس في الدين زكاة، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم؛ لأنه غير نام فلم تجب زكاته كعروض القنية.
وروي عن سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وأبي الزناد: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.
ولنا: أنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، كما لو كان على معسر، ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به.
وأما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده، وإنما يزكيه لما مضى؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به فلزمته زكاته كسائر أمواله.
الضرب الثاني: أن يكون على معسر أو جاحد أو مماطل به، فهذا هل تجب فيه الزكاة؟ على روايتين: إحداهما: لا تجب، وهو قول قتادة، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل العراق؛ لأنه غير مقدور على الانتفاع به أشبه مال المكاتب.
والرواية الثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى، وهو قول الثوري، وأبي عبيد؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون، قال: إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى.
وروي نحوه عن ابن عباس، رواهما أبو عبيد.
ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء.
وللشافعي قولان كالروايتين، وعن عمر بن عبد العزيز والحسن والليث والأوزاعي ومالك:(53/28)
يزكيه إذا قبضه لعام واحد.
ولنا: أن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها، كسائر الأموال، ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما.
(فصل) وظاهر كلام أحمد: أنه لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل، ولولا أنه مملوك لم تصح البراءة منه، لكن يكون في حكم الدين على المعسر؛ لأنه لا يمكن قبضه في الحال (1) .
__________
(1) المغني 3 \ 42.(53/29)
ج- قال الخرقي:
" وإذا غصب مالا زكاه إذا قبضه لما مضى في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله، والرواية الأخرى قال: ليس هو كالدين الذي متى قبضه زكاه، وأحب إلي أن يزكيه ".
د- وقال ابن قدامة في شرح ذلك:
قوله: "إذا غصب مالا " أي إذا غصب الرجل مالا، فالمفعول الأول المرفوع مستتر في الفعل، والمال هو المفعول الثاني، فكذلك نصيبه، وفي بعض النسخ: " وإذا غصب ماله " وكلاهما صحيح.
والحكم في المغصوب والمسروق والمجحود والضال واحد، وفي جميعه روايتان: إحداهما: لا زكاة فيه،(53/29)
نقلها الأثرم والميموني.
ومتى عاد صار كالمستفاد يستقبل به حولا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في قديم قوليه؛ لأنه مال خرج عن يده وتصرفه، وصار ممنوعا منه؛ فلم يلزمه زكاته، كمال المكاتب. والثانية: عليه زكاته؛ لأن ملكه عليه تام فلزمته زكاته، كما لو نسي عند من أودعه، أو كما لو أسر، أو حبس، وحيل بينه وبين ماله.
وعلى كلتا الروايتين لا يلزمه إخراج زكاته قبل قبضه.
وقال مالك: إذا قبضه زكاه لحول واحد؛ لأنه كان في ابتداء الحول في يده، ثم حصل بعد ذلك في يده؛ فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد.
وليس هذا بصحيح، لأن المانع من وجوب الزكاة إذا وجد في بعض الحول يمنع كنقص النصاب.(53/30)
هـ- قال الخرقي:
" واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها، فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها ".
ووقال ابن قدامة في شرح ذلك:
ظاهر المذهب: أن اللقطة تملك بمضي حول التعريف، واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها حتى يختار.
وهو مذهب الشافعي - ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى- ومتى ملكها استأنف حولا، فإذا مضى وجبت عليه زكاتها.
وحكى القاضي في موضع أنه إذا ملكها وجب عليه مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن لم تكن مثلية، وهذا مذهب الشافعي، ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومقتضى هذا أن لا تجب عليه(53/30)
زكاتها؛ لأنه دين فمنع الزكاة كسائر الديون.
وقال ابن عقيل: يحتمل أن لا تجب الزكاة فيها لمعنى آخر، وهو أن ملكه غير مستقر عليها، ولصاحبها أخذها منه متى وجدها، والمذهب ما ذكره الخرقي.
وما ذكره القاضي يفضي إلى ثبوت معاوضة في حق من لا ولاية عليه بغير فعله ولا اختياره، ويقتضي ذلك أن يمنع الدين الذي عليه الميراث والوصية كسائر الديون، والأمر بخلافه.
وما ذكره ابن عقيل يبطل بما وهبه الأب لولده وبنصف الصداق فإن لهما استرجاعه، ولا يمنع وجوب الزكاة.
فأما ربها إذا جاء فأخذها فذكر الخرقي أنه يزكيها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها، وهو حول التعريف، وقد ذكرنا في الضال روايتين وهذا من جملته.
وعلى مقتضى قول الخرقي أن الملتقط لو لم يملكها مثل من لم يعرفها، فإنه لا زكاة على ملتقطها، وإذا جاء ربها زكاها للزمان كله، وإنما تجب عليه زكاتها إذا كانت ماشية بشرط كونها سائمة عند الملتقط، فإن علفها فلا زكاة عليه على ما ذكرنا في المغصوب.(53/31)
ز- قال الخرقي:
" والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى ".
ح- وقال ابن قدامة في شرح ذلك:
وجملة ذلك أن الصداق في الذمة دين للمرأة، حكمه حكم الديون على ما مضى، إن كان على مليء به فالزكاة واجبة فيه، إذا قبضته أدت لما مضى، وإن كان على معسر أو جاحد فعلى الروايتين، واختار الخرقي وجوب الزكاة فيه، ولا فرق بين ما قبل(53/31)
الدخول أو بعده؛ لأنه دين في الذمة، فهو كثمن مبيعها، فإن سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول، وأخذت النصف فعليها زكاة ما قبضته دون ما لم تقبضه؛ لأنه دين لم تتعوض عنه، ولم تقبضه، فأشبه ما تعذر قبضه لفلس أو جحد، وكذلك لو سقط كل الصداق قبل قبضه لانفساخ النكاح بأمر من جهتها، فليس عليها زكاته لما ذكرنا، وكذلك القول في كل دين يسقط قبل قبضه من غير إسقاط صاحبه، أو يئس صاحبه من استيفائه.
والمال الضال إذا يئس منه فلا زكاة على صاحبه، فإن الزكاة مواساة فلا تلزم المواساة إلا مما حصل له.
وإن كان الصداق نصابا فحال عليه الحول ثم سقط نصفه وقبضت النصف فعليها زكاة النصف المقبوض؛ لأن الزكاة وجبت فيه ثم سقطت من نصفه لمعنى اختص به؛ فاختص السقوط به.
وإن مضى عليه حول قبل قبضه ثم قبضته كله زكته لذلك الحول.
وإن مضت عليه أحوال قبل قبضه ثم قبضته زكته لما مضى كله ما لم ينقص عن النصاب.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليها الزكاة ما لم تقبضه؛ لأنه بدل عما ليس بمال فلا تجب الزكاة فيه قبل قبضه كدين الكتابة.
ولنا: أنه دين يستحق قبضه، ويجبر المدين على أدائه؛ فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع، ويفارق دين الكتابة، فإنه لا يستحق قبضه، وللمكاتب الامتناع من أدائه ولا يصح قياسهم عليه فإنه عوض عن مال.(53/32)
(فصل) فإن قبضت صداقها قبل الدخول ومضى عليه حول فزكته، ثم طلقها الزوج قبل الدخول رجع فيها بنصفه وكانت(53/32)
الزكاة من النصف الباقي لها.
وقال الشافعي في أحد أقواله: يرجع الزوج بنصف الموجود ونصف قيمة المخرج؛ لأنه لو تلف الكل رجع عليها بنصف قيمته، فكذلك إذا تلف البعض.
ولنا: قول الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (1) ، ولأنه يمكنه الرجوع في العين فلم يكن له الرجوع إلى القيمة كما لو لم يتلف منه شيء، ويخرج على هذا ما لو تلف كله فإنه ما أمكنه الرجوع في العين، وإن طلقها بعد الحول قبل الإخراج لم يكن له الإخراج من النصاب؛ لأن حق الزوج تعلق به على وجه الشركة، والزكاة لم تتعلق به على وجه الشركة، لكن تخرج الزكاة من غيره أو بقسمانه، ثم تخرج الزكاة عن حصتها، فإن طلقها قبل الحول ملك النصف مشاعا، وكان حكم ذلك كما لو باع نصفه قبل الحول مشاعا، وقد بينا حكمه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 237(53/33)
(فصل) فإن كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول ففيه روايتان:
إحداهما: عليها الزكاة؛ لأنها تصرفت فيه، فأشبه ما لو قبضته.
والرواية الثانية: زكاته على الزوج؛ لأنه ملك ما ملك عليه، فكأنه لم يزل ملكه عنه، والأول أصح، وما ذكرنا لهذه الرواية لا يصح؛ لأن الزوج لم يملك شيئا وإنما سقط الدين عنه.
ثم لو ملك في الحال لم يقتض هذا وجوب زكاة ما مضى.
ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما لما ذكرنا في الزوج، والمرأة لم تقبض الدين؛ فلم تلزمها زكاته، كما(53/33)
لو سقط بغير إسقاطها، وهذا إذا كان الدين مما تجب فيه الزكاة إذا قبضه، فأما إن كان مما لا زكاة فيه فلا زكاة عليها بحال.
وكل دين على إنسان أبرأه صاحبه منه بعد مضي الحول عليه فحكمه حكم الصداق فيما ذكرنا.
قال أحمد: إذا وهبت المرأة مهرها لزوجها وقد مضى له عشر سنين، فإن زكاته على المرأة؛ لأن المال كان لها.
وإذا وهب رجل لرجل مالا فحال الحول ثم ارتجعه الواهب فليس له أن يرتجعه، فإن ارتجعه فالزكاة على الذي كان عنده.
وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره فلم يعطه شيئا، فلما كان بعد سنة قال: ليس عندي دراهم فأقلني فأقاله.
قال: عليه أن يزكي لأنه قد ملكه حولا (1) .
__________
(1) المغني 3 \ 44 وما بعدها.(53/34)
ط- قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ولا بد في الزكاة من الملك.
واختلفوا في اليد، فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تجب في كل دين وكل عين، وإن لم تكن تحت يد صاحبها، كالمغصوب والضال، والدين المجحود، وعلى معسر أو مماطل، وأنه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه، كالدين على الموسر.
وهذا أحد قولي الشافعي، وهو أقواهما (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 25 \ 45.(53/34)
ي- وسئل رحمه الله:
عن صداق المرأة على زوجها تمر عليه السنون المتوالية لا(53/34)
يمكنها مطالبته به لئلا يقع بينهما فرقة، ثم إنها تتعوض عن صداقها بعقار، أو يدفع إليها الصداق بعد مدة من السنين، فهل تجب زكاة السنين الماضية؟ أم إلى أن يحول الحول من حين قبضت الصداق؟
فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها للعلماء أقوال:
قيل: يجب تزكية السنين الماضية، سواء كان الزوج موسرا أو معسرا، كأحد القولين في مذهب الشافعي، وأحمد، وقد نصره طائفة من أصحابهما.
وقيل: يجب مع يساره وتمكنها من قبضها، دون ما إذا لم يمكن تمكينه من القبض، كالقول الآخر في مذهبهما.
وقيل: تجب لسنة واحدة، كقول مالك، وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا تجب بحال، كقول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد.
وأضعف الأقوال: من يوجبها للسنين الماضية، حتى مع العجز عن قبضه، فإن هذا القول باطل، فأما أن يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء، فهذا ممتنع في الشريعة، ثم إذا طال الزمان كانت الزكاة أكثر من المال، ثم إذا نقص النصاب وقيل: إن الزكاة تجب في عين النصاب، لم يعلم الواجب إلا بحساب طويل يمتنع إتيان الشريعة به.
وأقرب الأقوال قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى(53/35)
يحول عليه الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض، فهذا القول له وجه، وهذا وجه، وهذا قول أبي حنيفة، وهذا قول مالك، وكلاهما قيل به في مذهب أحمد، والله أعلم (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى25 \ 47.(53/36)
ك- قال ابن مفلح:
ويعتبر تمام ملك النصاب في الجملة (و) فلا زكاة في دين الكتابة (و) لعدم استقرارها، ولهذا لا يصح ضمانها، وفيه رواية، فدل على الخلاف هنا، ولا في دين مؤجل، أو على معسر، أو مماطل، أو جاحد قبضه، ومغصوب، ومسروق، ومعرف، وضال رجع، وما دفنه ونسيه، وموروث، أو غيره وجهله، أو جهل عند من هو، وفي رواية صححها صاحب التلخيص وغيره، ورجحها بعضهم، واختارها ابن شهاب وشيخنا (وهـ) وفي رواية: تجب، اختاره الأكثر، وذكر صاحب الهداية والمحرر: ظاهر المذهب (وم ش) وجزم به جماعة في المؤجل (م 5) (وهـ) (1) لصحة الحوالة به والإبراء، فيزكي ذلك إذا قبضه لما مضى من السنين، خلافا لرواية عن مالك، وقال أبو الفرج: إذا قلنا تجب في الدين وقبضه، فهل يزكيه لما مضى؟ على روايتين، ويتوجه ذلك في بقية الصور، وقيد في المستوعب المجحود ظاهرا وباطنا.
وقال أبو المعالي: ظاهرا.
وقال غيرهما: ظاهرا أو باطنا أو فيهما، وإن كان به بينة فوجهان
__________
(1) في مخطوط الدار: (و) .(53/36)
(م 6) ، وقيل: تجب في مدفون بداره، ودين على معسر ومماطل، والروايتان في وديعة جحدها المودع، وجزم في الكافي بوجوبها في وديعة جهل عند من هي (م 7) ولا يخرج المودع إلا بإذن (1) ربها، نص عليه، وقيد الحنفية المدفون بمغارة (2) وعكسه المدفون في البيت، وفي المدفون في كرم أو أرض اختلاف المشايخ.
وتجب عندهم في دين على معسر، أو جاحد عليه بينة، أو علم به القاضي، وعلى مقر مفلس عند أبي حنيفة، لأن التفليس لا يصح عنده، وعند محمد: لا تجب لتحقق الإفلاس بالتفليس عنده، وقاله أبو يوسف، وقال في حكم الزكاة كقول أبي حنيفة، رعاية للفقراء.
ولو وجبت في نصاب، بعضه دين على معسر أو غصب أو ضال، ففي وجوب إخراج زكاة ما بيده قبل قبض الدين والغصب والضال وجهان (م 8 و 9) فإن قلنا لا، وكان الدين على مليء، فوجهان.
ومتى قبض شيئا من الدين أخرج زكاته ولو لم يبلغ نصابا، نص عليه (وش) خلافا للقاضي وابن عقيل ومالك، وخلافا لأبي حنيفة إن كان الدين بدلا عن مال غير زكوي ولم يقبض منه أربعين درهما أو أربعة دنانير، ويرجع المغصوب منه على الغاصب بالزكاة، لنقصه بيده كتلفه، وإن غصب رب المال بأسر أو حبس ومنع من التصرف في ماله لم تسقط زكاته في الأصح؛ لنفوذ تصرفه ولو حمل إلى دار الحرب، لأن عصمته بالإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) في مخطوط الدار: بلا إذن.
(2) في مخطوط الدار: بمفازة.(53/37)
«فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم (1) » ، وعند أبي حنيفة تسقط؛ لأن العاصم دار الإسلام فلا يضمن بإتلاف، ويملك باستيلاء، ومن دينه حال على مليء باذل زكاه على الأصح، وفاقا، إذا قبضه، وعنه: أو قبله (2) (وم ش) ويزكيه لما مضى، قصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة (و) أم لا (م) وعنه: لسنة واحدة، بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء، ولم يوجد فيما مضى، ويجزئه إخراج الزكاة قبل قبضه (م) لزكاة (3) سنين، ولو منع التعجيل لأكثر من سنة لقيام الوجوب، وإنما لم تجب رخصة.
ولو ملك مائة نقدا ومائة مؤجلة زكى النقد لتمام حوله والمؤجل إذا قبضه.
وإذا ملك الملتقط اللقطة (4) استقبل بها (حولا) وزكى، نص عليه؛ لأنه لا شيء في ذمته.
وقيل: لا يلزمه لأنه مدين بها، فإن ملك ما يقابل قدر عوضها زكى في الطبعة الأولى: فإن مالك ما يقابل قدره عوضها زكى. وقيل: لا (وم) لعدم استقرار ملكه، وإذا ملكها الملتقط وزكى فلا زكاة إذا على ربها على الأصح، وهل يزكيها ربها حول التعريف كبعده (5) إذا لم يملكها الملتقط؟ فيه الروايتان في المال الضال، فإن لم يملك اللقطة وقلنا يتصدق بها، لم يضمن حتى يختار ربها الضمان، فيثبت حينئذ في ذمته كدين مجدد، وإن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) في الطبعة الأولى: أو قيل.
(3) في مخطوط الدار: كزكاة.
(4) في الطبعة الأولى: وإذا ملك اللقطتان لقطة.
(5) في الطبعة الأولى: '' لعبده '' وفي تصحيحاتها: بعيدة.(53/38)
أخرج الملتقط زكاتها عليه منها ثم أخذها ربها رجع عليه بما أخرج، وقيل: لا، إن قلنا لا تلزم ربها زكاتها، قال بعضهم: لوجوبها على الملتقط إذا، ويستقبل (1) بالصداق وعوض الخلع والأجرة بالعقد حولا، عينا كان ذلك أو دينا، مستقرا أو لا، نص عليه (وش) وكذلك مالك في غير نقد، للعموم، ولأنه ظاهر إجماع الصحابة، وعنه: حتى يقبض ذلك (وهـ) وعنه: لا زكاة في صداق قبل الدخول حتى يقبض فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الدخول، قال صاحب المحرر بالإجماع، مع احتمال الانفساخ، وعنه: تملك قبل الدخول نصف الصداق، وكذا في الخلاف: في اعتبار القبض في كل دين لا في مقابلة مال أو مال غير زكوي عند الكل كموصى به وموروث وثمن مسكن، وعنه: لا حول لأجرة، اختاره شيخنا (خ) وقيدها بعضهم بأجرة العقار (خ) نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة، وعنه: ومستفاد، وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة، فعلى الأول لا يلزمه الإخراج قبل القبض، وإن كان دينا من بهيمة الأنعام فلا زكاة (و) لاشتراط السوم فيها، بخلاف سائر الديون، فإن عينت زكيت كغيرها، وكذا الدية الواجبة لا تزكى (و) لأنها لم تتعين مالا زكويا؛ لأن الإبل في الدية فيها أصل أو أحدها، وتجب في قرض ودين وعروض تجارة (و) وكذا في مبيع قبل القبض، خلافا لرواية عن أبي حنيفة، جزم به صاحب المحرر وغيره، فيزكيه المشتري، ولو أزال ملكه عنه أو زال أو انفسخ
__________
(1) في الطبعة الأولى: وليستقل بالصداق.(53/39)
العقد بتلف مطعوم قبل قبضه.
ويزكي المبيع بشرط الخيار أو في خيار المجلس من حكم له بملكه ولو فسخ العقد، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا، وثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما ولو انفسخ العقد (1) جزم بذلك كله جماعة؛ لأن الطارئ لا يضعف ملكا تاما كمال الابن معرض لرجوع أبيه وتملكه، وفي الرعاية: إنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض، وعنه: أو مميز لم يقبض، قال: وفيما [صح] تصرف ربه [فيه] قبل قبضه أو ضمنه بتلفه، وفي ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا والمبيع في مدة الخيار قبل القبض، روايتان
__________
(1) في مخطوط الدار: ولو انفسخ البعض.(53/40)
وللبائع إخراج زكاة مبيع فيه خيار منه، فيبطل البيع في قدره، وفي بقيته روايتا تفريق الصفقة، وفي أيهما يقبل قوله في قيمة المخرج؟ وجهان.
وقال ابن حامد: إذا دلس البائع العيب فرد عليه فزكاته عليه، فأما مبيع غير متعين ولا متميز فيزكيه البائع، وكل دين سقط قبل قبضه لم يتعوض عنه سقطت زكاته (و)(53/40)
وقيل: هل يزكيه من سقط عنه؟ يخرج على روايتين، وإن أسقطه زكاه (1) نص عليه (م) لأنه أتلف ما فيه الزكاة، فقيرا كان المدين أو غنيا، وعنه: يزكيه المدين المبرأ؛ لأنه [ملك] ما عليه، وحملها صاحب المحرر على أن بيد المدين نصابا منع الدين زكاته (وم) وإلا فلا شيء عليه.
وقيل: لا زكاة عليها (خ) (2) وإن أخذ ربه [به] عوضا أو أحال أو احتال -زاد بعضهم: وقلنا الحوالة وفاء- زكاه كعين وهبها، وعنه: زكاة التعويض على المدين، وقيل في ذلك وفي الإبراء: يزكيه ربه إن قدر وإلا المدين، والصداق كالدين (و) وقيل: سقوطه كله لانفساخ النكاح من جهتها، كإسقاطها وإن زكت صداقها كله ثم تنصف بطلاقها (3) رجع فيما بقي بكل حقه، وقيل: إن كان مثريا (4) (5) وإلا فبقيمة حقه، وقيل: يرجع ونصف ما بقي ونصف بدل ما أخرجت، وقيل: يخير بين ذلك ونصف قيمة ما أصدقها يوم العقد أو مثله، ولا تجزئها زكاتها منه بعد طلاقه، لأنه مشترك، وقيل: بلى، عن حقها وتغرم له نصف (6) ما أخرجت، ومتى لم تزكه رجع بنصفه كاملا وتزكيه هي، فإن تعذر فيتوجه: لا يلزم الزوج، وفيها- في الرعاية- بلى، ويرجع عليها
__________
(1) في الطبعة الأولى: وإن أسقط ربه زكاة.
(2) في الطبعة الأولى: (هـ) .
(3) في الطبعة الأولى: كله لم ينصف بطلاقها.
(4) في مخطوط الدار: مليئا.
(5) الصواب: إن كان مثليا كما يدل عليه السياق والمعنى.
(6) في الطبعة الأولى: وقيل بلى في حقها وتعدم نصف.(53/41)
إن تعلقت بالعين، وقيل: أو بالذمة، ويزكي المرهون على الأصح (و) ويخرجها الراهن منه بلا إذن إن عدم، كجناية رهن على دينه، وقيل: منه مطلقا، وقيل: إن تعلقت بالعين، وقيل: يزكي راهن موسر.
وإن أيسر معسر جعل بدله رهنا، وقيل: لا، وفي مال مفلس محجور عليه روايتا مدين، عند أبي المعالي والأزجي، وعند القاضي والشيخ كمغصوب.
وقيل: يزكي سائمة، لنمائها بلا تصرف، قال أبو المعالي: إن عين حاكم لكل غريم شيئا فلا زكاة، لضعف ملكه إذا، وإن حجر عليه بعد وجوبها لم تسقط، وقيل: بلى إن كان قبل تمكنه من الإخراج، وهل له إخراجها منه؟ فيه وجهان، ولا يقبل إقراره بها، جزم به بعضهم، وعنه: يقبل، كما لو صدقه الغريم، فأما قبل الحجر فإن الدين وإن لم يكن من جنس المال يمنع وجوب الزكاة في قدره في الأموال الباطنة (وم) قال أبو الفرج: وهي الذهب والفضة، وقال غيره: وقيمة عروض التجارة، وفي المعدن وجهان، وعنه: لا يمنع الدين الزكاة (وش) وعنه: يمنعها الدين الحال خاصة، جزم به في الإرشاد وغيره، ويمنعها في الأموال الظاهرة، كماشية وحب وثمرة أيضا، نص عليه، واختاره أبو بكر والقاضي وأصحابه، والحلواني وابن الجوزي وغيرهم، قال ابن أبي موسى: هذا الصحيح من مذهب أحمد، وعنه: لا يمنع (وم ش) وعنه: يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك أو كان من ثمنه، وعنه: خلا الماشية، وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب ابن عباس، لتأثير ثقل المؤنة في المعشرات وعند (هـ) كل دين(53/42)
مطالب به يمنع إلا في المعشرات؛ لأن الواجب فيها ليس بزكاة عنده، ومتى أبرأ المدين أو قضى من مال مستحدث ابتدأ حولا؛ لأن ما منع وجوب الزكاة منع انعقاد الحول (1) ، وقطعه، وعنه: يزكيه (وم) فيبني إن كان في أثناء الحول. وبعده يزكيه في الحال.
__________
(1) في الطبعة الأولى: مع انعقاد الحول.(53/43)
ولا يمنع الدين خمس الركاز (1) ، ويمنع أرش جناية عند التجارة زكاة قيمته؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة، بخلاف الزكاة، وجعله بعضهم كالدين، ومن له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بدينه.
فعنه: يجعل في مقابلة ما معه ويزكي (2) ما معه من المال الزكوي (وم) جمعا بين الحقين، وهو أحظ، وعنه: يجعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه (وهـ) لئلا تحتمل المواساة ولأن عرض القنية كملبوسه في أنه لا زكاة فيهما، فكذا فيما يمنعها، وكذا الخلاف فيمن بيده ألف دينا -والمراد على مليء، وجزم به بعضهم- وعليه مثلها، يزكي ما معه على الأولى (وم) لا الثانية، فإن كان العرض للتجارة فنص في رواية أبي الحارث والمروذي: يزكي ما معه بخلاف ما لو كان للقنية، وحمله القاضي على أن الذي عنده للقنية فوق حاجته (3) ، وقيل: إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الدين جعل في مقابلته، وحكى رواية: وإلا اعتبر الأحظ (وقيل: يعتبر) الأحظ للفقراء مطلقا، فمن له مائتا
__________
(1) في الطبعة الأولى: خمس الزكاة.
(2) في الطبعة الأولى: ما عليه معه ويزكي.
(3) في الطبعة الأولى: وفق حاجته.(53/43)
درهم وعشرة دنانير قيمتها مائتا درهم، جعل الدنانير قبالة دينه وزكى ما معه، ومن له أربعون شاة وعشرة أبعرة، ودينه قيمة أحدهما جعل قبالة الغنم وزكى بشاتين.
ونقد البلد أحظ للفقراء، وفوق نفعه زيادة المالية، ودين المضمون عنه يمنع الزكاة بقدره في ماله، دون الضامن، خلافا لما ذكره أبو المعالي، كنصاب غصب من غاصبه وأتلف فإن المنع يختص بالثاني، مع أن للمالك طلب كل منهما (و) ولو استأجر لرعي غنمه بشاة موصوفة صح، وهي كالدين في منعها للزكاة، وحيث منع دين الآدمي، فعنه: دين الله من كفارة ونذر مطلق ودين الحج ونحوه كذلك، صححه صاحب المحرر والرعاية (وم) وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج، وقال: نص عليه وهو الذي احتج له القاضي في الكفارة.
وعنه: لا يمنع، وفي المحرر: الخراج من دين الله، وقدم أحمد الخراج على الزكاة، ويأتي في اجتماع العشر والخراج في أرض العنوة، وعند (هـ) لا يمنع إلا دين زكاة وخراج؛ لأن لهما مطالبا بهما، وأجاب القاضي بأن الكفارة عندنا على الفور، فإن منعها (1) وعلم الإمام بذلك طالبه بإخراجها كالزكاة، نص عليه في رواية إبراهيم بن هانئ: يجبر المظاهر (2) على الكفارة.
على أن هذا لا يؤثر في الحج، كذا الكفارة، ولأن الإمام لا يطالب بزكاة مال باطن، والدين يمنع منه، ويأتي في من
__________
(1) في مخطوط الدار: فإن علمها.
(2) في الطبعة الأولى: لخبر المظاهر.(53/44)
منع الزكاة.
وإن نذر الصدقة بمعين (1) قال: لله على أن أتصدق بهذا، أو هو صدقة، فحال الحول، فلا زكاة لزوال ملكه أو نقصه، وعند ابن حامد: تجب، فقال في قوله إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة فشفي ثم حال الحول قبل الصدقة وجبت الزكاة، وفي الرعاية: إن نذر التضحية بنصاب معين- وقيل: أو قال جعلته ضحايا- فلا زكاة، ويحتمل وجوبها إذا تم حوله قبلها، وإن قال: لله علي الصدقة بهذا النصاب إذا حال الحول، فقيل: لا زكاة، وقيل: بلى، فتجزئه الزكاة منه في الأصح، ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا، لكون الزكاة صدقة، وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب، هل يخرجها أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما؟ وذكر ابن تميم إذا نذر الصدقة بنصاب إذا حال الحول، فقيل: لا زكاة، وقيل: بلى، فيجزئ إخراجها منه، ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر، ويحتمل أن لا يجزئ إخراجها منه، وإن نذر الصدقة ببعض النصاب وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا، وقيل: يدخل النذر في الزكاة وينويهما معا.
ولا زكاة في الفيء والخمس وكذا الغنيمة المملوكة إذا كانت أجناسا؛ لأن للإمام أن يقسم بينهم قسمة تحكيم، فيعطي كل واحد منهم من أي الأصناف شاء، فما تم ملكه على معين بخلاف الميراث، وإن كانت صنفا فكذلك عند أبي بكر والقاضي، والأشهر ينعقد الحول عليها إن بلغت حصة كل واحد نصابا، وإلا ابتنى على الخلطة، ولا يخرج قبل
__________
(1) في الطبعة الأولى: لمعين.(53/45)
القبض، كالدين، ولا زكاة في وقف على غير معين أو على المساجد والمدارس والربط ونحوها (هـ م) (1) قال أحمد في أرض موقوفة على المساكين: لا عشر لأنها كلها تصير إليهم، وسبق في الفصل الثاني خلاف الحنفية في العشر، ولم يصرحوا في الوقف على فقهاء مدرسة أو نحوها، ويتوجه الخلاف، وإن وقف سائمة أو أسامها الموقوف عليه على معينين كأقاربه ففيها الزكاة، نص عليه، وقيل: لا؛ لنقص ملكه، وكما لو قلنا: الملك لله، ولا يخرج منها لمنع نقل الملك في الوقف، وإن وقف أرضا أو شجرا عليه وجبت في الغلة، نص عليه، لجواز بيعها.
وقيل: تجب مع غنى الموقوف عليه، جزم به أبو الفرج والحلواني وابنه صاحب التبصرة، ولعله ظاهر ما نقله ابن سعيد وغيره، ومن وصى بدراهم في وجوه البر، أو ليشترى بها ما يوقف، فاتجر بها الوصي، فربحه مع المال فيما وصى، ولا زكاة فيهما، ويضمن إن خسر، نقل ذلك الجماعة، وقيل: ربحه إرث، ويأتي كلام صاحب الموجز وشيخنا في آخر الشركة، والمال الموصى به يزكيه من حال الحول على ملكه، وإن وصى بنفع نصاب سائمة زكاها مالك الأصل، ويحتمل: لا زكاة إن وصى به أبدا، ولا زكاة في حصة المضارب، ولا ينعقد الحول قبل استقراره، نص عليه، واختاره أبو بكر والقاضي والشيخ وغيره، وذكره في الوسيلة ظاهر المذهب، لعدم الملك أو لضعفه، لأنه وقاية رأس المال، واختار أبو الخطاب وغيره،
__________
(1) في مخطوط الدار: ونحوها (و)(53/46)
وقدمه في المستوعب وغيره: تجب الزكاة، وينعقد حوله بملكه بظهور الربح (وهـ ش) أو بغيره، على خلاف يأتي، كمغصوب ودين على مفلس، وأولى ليده وتنميته، فعلى هذا يعتبر بلوغ حصته نصابا، ودونه ينبني على الخلطة، ومذهب (م) يزكيها، وإن قلت بحول المالك، ولا يلزمه عندنا إخراجها قبل القبض، كالدين، ولا يجوز له إخراجها من مال المضاربة بلا إذن، نص عليه، لأنه وقاية، وقيل: يجوز؛ لدخولهما على حكم الإسلام، صححه صاحب المستوعب والمحرر، وقيل: يزكيها رب المال (هـ) (1) . بحول أصله، لأنه نماؤه، والعامل لا يملكه على هذا، وأوجب أبو حنيفة فيمن اشترى بألف المضاربة عبدين فصار يساوي كل منهما ألفا زكاة قيمتهما على المالك، لشغل رأس ماله كلا منهما، كشغل الدين ذمة الضامن والمضمون، فلم يفضل ما يملكه المضارب، ولهذا لو أعتق المالك أحدهما عتق كله، واستوفى رأس ماله، وعندنا أن ذلك ممنوع، والحكم كعبد واحد مطلقا (وش) ويزكي رب المال حصته- نص عليه (و) كالأصل لأنه يملكه بظهوره، زاد بعضهم: في أظهر الروايتين، وهو سهو- قبل قبضها، وفيه احتمال، ويحتمل سقوطها قبله لتزلزله، وإذا أداها من غيره فرأس المال باق، وإن أدى منه حسب من المال والربح، ذكره القاضي وتبعه صاحب المستوعب والمحرر وغيرهما، وفي المغني: تحتسب من الربح ورأس المال
__________
(1) في مخطوط الدار: رب المال (خ)(53/47)
باق، لأنه وقاية ولا يقال مؤنة (1) كسائر المؤن، لأنه يلزم أن يحسب عليهما، وفي الكافي: هي من رأس المال، ونص عليه أحمد، لأنه واجب عليه كدينه، وليس لعامل إخراج زكاة تلزم رب المال إلا بإذنه، نص عليه، ومن شرط منهما زكاة حصته على الآخر جاز؛ لأنه شرط لنفسه نصف الربح وثمن عشره، ولا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح؛ لأنه قد يحيط بالربح، فهو كشرط فضل دراهم، سأله المروذي: يشترط المضارب على رب المال أن الزكاة من الربح، قال: لا، الزكاة على رب المال، وصححه شيخنا، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر (2) ، وركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا، كذا قال.
قال الشيخ في فتاويه: ويصح شرطها في المساقاة على العامل؛ لأنه جزء من النماء المشترك، فمعناه القدر المسمى [لك] مما يفضل عنها، ويحتمل أن لا يصح لأنا لا نعلم هل يوجد من الثمرة ما فيه العشر أو لا؟ فيصير نصيبه مجهولا، ولأنه يفضي (3) إلى أن يصح له القليل إذا كثرت الثمرة، والكثير إذا قلت، ولا نظير له (4) .
__________
(1) في الطبعة الأولى: ولا مال مؤنة.
(2) في الطبعة الأولى: إذا لم يثمر عن ربح الشجر.
(3) في الطبعة الأولى: ولأنه يفضل.
(4) الفروع 2 \ 323 وما بعدها.(53/48)
ل- جاء في الإنصاف:
قوله: " ومن كان له دين على مليء -من صداق أو غيره-(53/48)
زكاه إذا قبضه ".
هذا المذهب، وعليه الأصحاب.
وعنه: لا تجب فيه الزكاة، فلا يزكيه إذا قبضه.
وعنه: يزكيه إذا قبضه أو قبل قبضه، قال في الفائق: وعنه يلزمه في الحال، وهو المختار.
تنبيه: قوله: " على مليء " من شرطه أن يكون باذلا.
فائدة: الحوالة به والإبراء منه كالقبض، على الصحيح من المذهب.
وقيل: إن جعلا وفاء فكالقبض، وإلا فلا.
قوله: " زكاه إذا قبضه لما مضى "، يعني من الأحوال، وهذا المذهب، سواء قصد ببقائه الفرار من الزكاة أو لا.
وجزم به في المغني، والشرح، والوجيز وغيرهم، وقدمه في الفروع وغيره، وعليه الأصحاب، وعنه يزكيه لسنة واحدة، بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء، ولم يوجد فيما مضى.
فوائد:
إحداها: يجزئه إخراج زكاته قبل قبضه لزكاة سنين، ولو منع التعجيل لأكثر من سنة؛ لقيام الوجوب وإنما لم يجب الأداء رخصة.
الثانية: لو ملك مائة نقدا ومائة مؤجلة، زكى النقد لتمام حوله، وزكى المؤجل إذا قبضه.
الثالثة: حول الصداق من حين العقد، على الصحيح من المذهب، عينا كان أو دينا، مستقرا كان أو لا، نص عليه، وكذا(53/49)
عوض الخلع والأجرة، وعنه: ابتداء حوله من حين القبض لا قبله.
وعنه: لا زكاة في الصداق قبل الدخول حتى يقبض.
فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الحول.
قال المجد: بالإجماع مع احتمال الانفساخ.
وعنه: تملك قبل الدخول نصف الصداق.
وكذا الحكم خلافا ومذهبا في اعتبار القبض في كل دين، إذا كان في غير مقابلة مال، أو مال زكوي عند الكل، كموصى به وموروث وثمن مسكن.
وعنه: لا حول لأجرة، فيزكيه في الحال كالمعدن، اختاره الشيخ تقي الدين، وهو من المفردات، وقيدها بعض الأصحاب بأجرة العقار، وهو من المفردات أيضا، نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة له.
وعنه أيضا: لا حول لمستفاد، وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة، فعلى الأول لا يلزمه الإخراج قبل القبض.
الرابعة: لو كان عليه دين من بهيمة الأنعام فلا زكاة لاشتراط السوم فيها، فإن عينت زكيت لغيرها.
وكذا الدية الواجبة، لا تجب فيها الزكاة لأنها لم تتعين مالا زكويا، لأن الإبل في الذمة فيها أصل أو أحدها.
تنبيه: شمل قول المصنف: " من صداق أو غيره " القرض ودين عروض التجارة، وكذا المبيع قبل القبض، جزم به المجد(53/50)
وغيره، فيزكيه المشتري، ولو زال ملكه عنه، أو زال، أو انفسخ العقد بتلف مطعوم قبل قبضه.
ويزكي المبيع بشرط الخيار، أو في خيار المجلس من حكم له بملكه.
ولو فسخ العقد.
ويزكي أيضا دين السلم إن كان للتجارة، ولم يكن أثمانا.
ويزكي أيضا ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهم، ولو انفسخ العقد.
قال في الفروع: جزم بذلك جماعة.
وقال في الرعاية: وإنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض.
وعنه: أو مميز لم يقبض.
ثم قال: قلت: وفيما صح تصرف ربه فيه قبل قبضه، أو ضمنه بتلفه.
وفي ثمن المبيع، ورأس مال المسلم قبل قبض عوضهما، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا، وفي المبيع في مدة الخيار قبل القبض، روايتان.
وللبائع إخراج زكاة مبيع فيه خيار منه، فيبطل البيع في قدره، وفي قيمته روايتا تفريق الصفقة، وفي أيهما تقبل.
قوله: " وفي قيمة المخرج وجهان ".
وأطلقهما في الفروع، وابن تميم.
قلت: الصواب قول المخرج.
فأما مبيع غير متعين ولا متميز فيزكيه البائع.
الخامسة: كل دين سقط قبل قبضه، ولم يتعوض عنه، تسقط زكاته، على الصحيح من المذهب.
وقيل: هل يزكيه من سقط عنه؟ يخرج على روايتين، وإن أسقطه ربه زكاه، نص(53/51)
عليه، وهو الصحيح من المذهب، كالإبراء من الصداق ونحوه.
وقيل: يزكيه المبرأ من الدين؛ لأنه ملك عليه، وقيل: لا زكاة عليهما، وهو احتمال في الكافي وهو من المفردات.
وإن أخذ ربه عوضا، أو أحال أو احتال- زاد بعضهم وقلنا: الحوالة وفاء- زكاه على الصحيح من المذهب، كعين وهبها.
وعنه: زكاة التعويض على الدين.
وقيل في ذلك وفي الإبراء: يزكيه ربه إن قدر وإلا المدين.
السادسة: الصداق في هذه الأحكام كالدين فيما تقدم، على الصحيح من المذهب.
وقيل: سقوطه كله لانفساخ النكاح من جهتها كإسقاطها.
وإن زكت صداقها، قال الزركشي: وقيل: لا ينعقد الحول؛ لأن الملك فيه غير تام.
وقيل: محل الخلاف فيما قبل الدخول.
هذا إذا كان في الذمة.
أما إن كان معينا فإن الحول ينعقد من حين الملك، نص عليه، انتهى.
وإن زكت صداقها كله، ثم تنصف بطلاق، رجع فيما بقي بكل حقه، على الصحيح من المذهب.
وقيل: إن كان مثليا وإلا فقيمة حقه.
وقيل: يرجع بنصف ما بقي، ونصف بدل ما أخرجت.
وقيل: يخير بين ذلك ونصف قيمة ما أصدقها يوم العقد أو مثله.
ولا تجزيها زكاتها منه بعد طلاقه؛ لأنه مشترك.
وقيل: بلى عن حقها، وتغرم له نصف ما أخرجت، ومتى لم تزكه رجع بنصفه كاملا، وتزكيه هي، فإن تعذر، فقال في(53/52)
الفروع: يتوجه، لا يلزم الزوج.
وقال في الرعاية: يلزمه، ويرجع عليها إن تعلقت بالعين.
وقيل: أو بالذمة.(53/53)
فائدة: لو وهبت المرأة صداقها لزوجها، لم تسقط عنها الزكاة، على الصحيح من المذهب، قاله القاضي وغيره.
وعنه تجب على الزوج.
وفي الكافي احتمال بعدم الوجوب عليها.
قوله: " وفي الدين على غير المليء، والمؤجل، والمجحود، والمغصوب، والضائع، روايتان ".
وكذا لو كان على مماطل، أو كان المال مسروقا، أو موروثا، أو غيره، جهله، أو جهل عند من هو.
وأطلقهما في الفروع، والشرح، والرعايتين، والحاويين، والمستوعب، والمذهب الأحمد، والمحرر.
إحداهما: كالدين على المليء، فتجب الزكاة في ذلك كله إذا قبضه.
وهو الصحيح من المذهب.
قال في الفروع: اختاره الأكثر.
وذكره أبو الخطاب، والمجد ظاهر المذهب، وصححه ابن عقيل، وأبو الخطاب، وابن الجوزي، والمجد في شرحه، وصاحب الخلاصة، وتصحيح المحرر، ونصرها أبو المعالي، وقال: اختارها الخرقي وأبو بكر، وجزم به في الإيضاح والوجيز.
وجزم به جماعة في المؤجل؛ وفاقا للأئمة الثلاثة لصحة الحوالة به والإبراء، وشمله كلام الخرقي، وقطع به في التلخيص، والمغني، والشرح.(53/53)
والرواية الثانية: لا زكاة فيه بحال، صححها في التلخيص وغيره، وجزم به في العمدة في غير المؤجل، [ورجحها بعضهم] واختارها ابن شهاب، والشيخ تقي الدين، وقدمه ابن تميم والفائق.
وقيل: تجب في المدفون في داره، وفي الدين على المعسر والمماطل.
وجزم في الكافي بوجوبها في وديعة، جهل عند من هي.
وعليه: ما لا يؤمل رجوعه، كالمسروق والمغصوب والمجحود لا زكاة فيه، وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس أو الغائب المنقطع خبره فيه الزكاة.
قال الشيخ تقي الدين: هذه أقرب.
وعنه: إن كان الذي عليه الدين يؤدي زكاته، فلا زكاة على ربه، وإلا فعليه الزكاة، نص عليه في المجحود، ذكرهما الزركشي وغيره.
فعلى المذهب يزكي ذلك كله إذا قبضه لما مضى من السنين، على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، وجزموا به.
وقال أبو الفرج في المبهج: إذا قلنا تجب في الدين وقبضه، فهل يزكيه لما مضى أم لا؟ على روايتين.
قال في الفروع: ويتوجه ذلك في بقية الصور.
تنبيه: قوله: " المجحود " يعني سواء كان مجحودا باطنا(53/54)
أو ظاهرا أو ظاهرا وباطنا، هذا المذهب، وعليه الأكثر، وقيده في المستوعب بالمجحود ظاهرا وباطنا، وقال أبو المعالي: ظاهرا.
فوائد:
منها: لو كان بالمجحود بينة، وقلنا: لا تجب في المجحود، ففيه هنا وجهان، وأطلقهما في الفروع [وابن تميم، وقال: ذكرهما القاضي] .
أحدهما: تجب، وهو الصحيح، جزم به المجد في شرحه، وقدمه في الفائق [والرعايتين والحاويين] .
الثاني: لا تجب.
ومنها: لو وجبت في نصاب بعضه دين على معسر، أو غصب أو ضال ونحوه، ففي وجوب إخراج زكاة ما بيده قبل قبض الدين والغصب والضال وجهان.
وأطلقهما في الفروع وابن تميم.
أحدهما: يجب إخراج زكاة ما بيده، وهو المذهب، قدمه في الرعايتين، والحاويين، وهو ظاهر ما قدمه المجد في شرحه.
فلو كانت إبلا خمسا وعشرين، منها خمس مغصوبة أو ضالة، أخرج أربعة أخماس بنت مخاض.
والثاني: لا يجب حتى يقبض ذلك.
فعلى هذا الوجه لو كان الدين على مليء، فوجهان.
وأطلقهما في الفروع وابن تميم والرعايتين والحاويين.(53/55)
قلت: الصواب وجوب الإخراج.
ومنها: لو قبض شيئا من الدين، أخرج زكاته ولو لم يبلغ نصابا، على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية صالح وأبي طالب وابن منصور، وقال: يخرج زكاته بالحساب ولو أنه درهم، وعليه أكثر الأصحاب، وقدمه في الفروع والمجد في شرحه، والفائق وغيرهم.
وقال القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول: لا يلزمه ما لم يكن المقبوض نصابا، أو يصير ما بيده ما يتمم به نصابا.
ومنها: يرجع المغصوب منه على الغاصب بالزكاة لنقصه بيده كتلفه.
ومنها: لو غصب رب المال بأسر أو حبس، ومنع من التصرف في ماله، لم تسقط زكاته، على الصحيح من المذهب؛ لنفوذ تصرفه فيه، وقيل: تسقط.
قوله: " وقال الخرقي: واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها ".
اللقطة قبل أن يعلم بها ربها حكمها حكم المال الضائع، على ما تقدم خلافا ومذهبا، وعند الخرقي: أن الزكاة تجب فيها إذا وجدها ربها لحول التعريف، وذكر المصنف الخرقي تأكيدا لوجوب الزكاة فيما ذكره.(53/56)
فوائد:
إذا ملك الملتقط اللقطة بعد الحول، استقبل بها حولا(53/56)
وزكاها، على الصحيح من المذهب.
نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب، وجزم به الخرقي وغيره.
وقدمه في الفروع وغيره.
وقيل: لا يلزمه؛ لأنه مدين بها.
وحكي عن القاضي لا زكاة فيها؛ نظرا إلى أنه ملكها مضمونة عليه بمثلها، أو قيمتها، فهي دين عليه في الحقيقة، انتهى.
ولذلك قال ابن عقيل: لكن نظر إلى عدم استقرار الملك فيها، انتهى.
فعلى القول الثاني: لو ملك قدر ما يقابل قدر عوضها، زكى، على الصحيح.
وقيل: لا؛ لعدم استقرار ملكه لها، وتقدم كلام ابن عقيل.
وإذا ملكها الملتقط وزكاها فلا زكاة إذن على ربها، على الصحيح من المذهب، وعنه: بلى.
وهل يزكيها ربها حول التعريف أو بعده، إذا لم يملكها الملتقط؟ فيه الروايتان في المال الضال.
وإن لم يملك اللقطة -وقلنا: له أن يتصدق بها- لم يضمن حتى يختار ربها الضمان، فتثبت حينئذ في ذمته، كدين تجدد.
فإن أخرج الملتقط زكاتها عليه منها، ثم أخذها ربها، رجع عليه بما أخرج على الصحيح من المذهب.
وقال القاضي: لا يرجع عليه، إن قلنا: لا يلزم ربها زكاتها.
قال في الرعاية: لوجوبها على الملتقط إذن (1)
__________
(1) الإنصاف، (3 \ 18) وما بعدها.(53/57)
رابعا: الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة؟
الديون التي على الإنسان قد تكون لآدمي، وقد تكون لله تعالى، وقد يكون الدين حالا أو مؤجلا.
وفيما يلي نصوص فقهاء الإسلام تبين أقوالهم وأدلتهم مع المناقشة:
1 - النقل عن الحنفية:
أ- قال الكاساني:
ومنها: أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد عندنا، فإن كان فإنه يمنع وجوب الزكاة بقدره، حالا كان أو مؤجلا.
وعند الشافعي هذا ليس بشرط، والدين لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان، احتج الشافعي بعمومات الزكاة من غير فصل، ولأن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب، وشرطه أن يكون معدا للتجارة أو للإسامة وقد وجد.
أما الملك فظاهر؛ لأن المديون مالك لماله؛ لأن دين الحر الصحيح يجب في ذمته ولا يتعلق بماله، ولهذا يملك التصرف فيه كيف شاء.
وأما الإعداد للتجارة أو الإسامة؛ فلأن الدين لا ينافي ذلك، والدليل عليه أنه لا يمنع وجوب العشر.
(ولنا) ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه خطب في شهر رمضان، وقال في خطبته: ألا إن شهر زكاتكم قد حضر، فمن كان له مال وعليه دين فليحسب ماله بما عليه، ثم ليزك بقية ماله.
وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان ذلك إجماعا منهم على أنه لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين.
وبه تبين أن مال المديون خارج عن عمومات الزكاة، ولأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية؛ لأن قضاء(53/58)
الدين من الحوائج الأصلية، والمال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة؛ لأنه لا يتحقق به الغنى، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد خرج الجواب عن قوله: إنه وجد سبب الوجوب وشرطه؛ لأن صفة الغنى مع ذلك شرط ولا يتحقق مع الدين مع ما (1) أن ملكه في النصاب ناقص، بدليل أن لصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أن يأخذه من غير قضاء ولا رضاء.
وعند الشافعي له ذلك في الجنس وخلاف الجنس وذا آية عدم الملك، كما في الوديعة والمغصوب، فلأن يكون دليل نقصان الملك أولى.
وأما العشر فقد روى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الدين يمنع وجوب العشر فيمنع على هذه الرواية، وأما على ظاهر الرواية، فلأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فلا يعتبر فيه غنى المالك، ولهذا لا يعتبر فيه أصل الملك عندنا حتى يجب في الأراضي الموقوفة وأرض المكاتب، بخلاف الزكاة، فإنه لا بد فيها من غنى المالك، والغنى لا يجامع الدين، وعلى هذا يخرج مهر المرأة، فإنه يمنع وجوب الزكاة عندنا معجلا كان أو مؤجلا؛ لأنها إذا طالبته يؤاخذ به.
وقال بعض مشايخنا: إن المؤجل لا يمنع؛ لأنه غير مطالب به عادة، فأما المعجل فيطالب به عادة فيمنع.
وقال بعضهم: إن كان الزوج على عزم من قضائه يمنع، وإن لم يكن على عزم القضاء لا يمنع؛ لأنه لا يعده دينا، وإنما يؤاخذ المرء بما عنده في الأحكام.
وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري في الإجارة الطويلة التي
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل (ما) زائدة، أو تكون بعد أن. إدارة المجلة.(53/59)
تعارفها أهل بخارى أن الزكاة في الأجرة المعجلة تجب على الآجر؛ لأنه ملكه قبل الفسخ وإن كان يلحقه دين بعد الحول بالفسخ.
وقال بعض مشايخنا: إنه يجب على المستأجر أيضا؛ لأنه يعد ذلك مالا موضوعا عند الآجر.
وقالوا في البيع الذي اعتاده أهل سمرقند وهو بيع الوفاء: إن الزكاة على البائع في ثمنه إن بقي حولا؛ لأنه ملكه.
وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن يلزم المشتري أيضا؛ لأنه يعده مالا موضوعا عند البائع فيؤاخذ بما عنده.
وقالوا فيمن ضمن الدرك فاستحق المبيع: إنه إن كان في الحول يمنع؛ لأن المانع قارن الموجب فيمنع الوجوب، فأما إذا استحق بعد الحول لا يسقط الزكاة؛ لأنه دين حادث؛ لأن الوجوب مقتصر على حالة الاستحقاق وإن كان الضمان سببا حتى اعتبر من جميع المال، وإذا اقتصر وجوب الدين لم يمنع وجوب الزكاة قبله.
وأما نفقة الزوجات فما لم يصر دينا إما بفرض القاضي أو بالتراضي لا يمنع؛ لأنها تجب شيئا فشيئا؛ فتسقط إذا لم يوجد قضاء القاضي أو التراضي، وتمنع إذا فرضت بقضاء القاضي أو بالتراضي لصيرورته دينا.
وكذا نفقة المحارم تمنع إذا فرضها القاضي في مدة قصيرة نحو ما دون الشهر فتصير دينا، فأما إذا كانت المدة طويلة فلا تصير دينا، بل تسقط؛ لأنها صلة محضة، بخلاف نفقة الزوجات، إلا أن القاضي يضطر إلى الفرض في الجملة في نفقة المحارم أيضا، لكن الضرورة ترتفع بأدنى المدة.
وقال بعض مشايخنا: إن نفقة المحارم تصير دينا أيضا بالتراضي في المدة اليسيرة، وقالوا: دين الخراج يمنع(53/60)
وجوب الزكاة؛ لأنه مطالب به، وكذا إذا صار العشر دينا في ذمته بأن أتلف الطعام العشري صاحبه.
فأما وجوب العشر فلا يمنع؛ لأنه متعلق بالطعام، يبقى ببقائه ويهلك بهلاكه، والطعام ليس مال التجارة حتى يصير مستحقا بالدين.
وأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين الزكاة بأن أتلف مال الزكاة حتى انتقل من العين إلى الذمة فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد، سواء كان في الأموال الظاهرة أو الباطنة.
وقال زفر: لا يمنع كلاهما.
وقال أبو يوسف: وجوب الزكاة في النصاب يمنع، فأما دين الزكاة فلا يمنع.
هكذا ذكر الكرخي قول زفر ولم يفصل بين الأموال الظاهرة والباطنة.
وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن هذا مذهبه في الأموال الباطنة من الذهب والفضة، وأموال التجارة.
ووجه هذا القول ظاهر؛ لأن الأموال الباطنة لا يطالب الإمام بزكاتها، فلم يكن لزكاتها مطالب من جهة العباد، سواء كانت في العين أو في الذمة، فلا يمنع وجوب الزكاة، كديون الله تعالى من الكفارات والنذور وغيرها، بخلاف الأموال الظاهرة؛ لأن الإمام يطالب بزكاتها.
وأما وجه قوله الآخر فهو أن الزكاة قربة، فلا يمنع وجوب الزكاة، كدين النذور والكفارات.
ولأبي يوسف: الفرق بين وجوب الزكاة وبين دينها هو أن دين الزكاة في الذمة لا يتعلق بالنصاب، فلا يمنع الوجوب كدين الكفارات والنذور.
وأما وجوب الزكاة فمتعلق بالنصاب؛ إذ الواجب جزء من النصاب، واستحقاق جزء من النصاب يوجب النصاب؛ إذ المستحق كالمصروف، وحكي أنه قيل لأبي(53/61)
يوسف: ما حجتك على زفر؟ فقال: ما حجتي على من يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم؟! والأمر على ما قاله أبو يوسف؛ لأنه إذا كان له مائتا درهم فلم يؤد زكاتها سنين كثيرة، يؤدي إلى إيجاب الزكاة في المال أكثر منه بأضعافه وأنه قبيح.
ولأبي حنيفة ومحمد أن كل ذلك دين مطالب به من جهة العباد.
أما زكاة السوائم فلأنها يطالب بها من جهة السلطان عينا كان أو دينا، ولهذا يستحلف إذا أنكر الحول، أو أنكر كونه للتجارة أو ما أشبه ذلك، فصار بمنزلة ديون العباد.
وأما زكاة التجارة فمطالب بها أيضا تقديرا؛ لأن حق الأخذ للسلطان.
وكان يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى زمن عثمان رضي الله عنه.
فلما كثرت الأموال في زمانه وعلم أن في تتبعها زيادة ضرر بأربابها رأى المصلحة في أن يفوض الأداء إلى أربابها بإجماع الصحابة، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام.
ألا ترى أنه قال: من كان عليه دين فليؤده وليترك ما بقي من ماله.
فهذا توكيل لأرباب الأموال بإخراج الزكاة، فلا يبطل حق الإمام عن الأخذ؛ ولهذا قال أصحابنا: إن الإمام إذا علم من أهل بلدة أنهم يتركون أداء الزكاة من الأموال الباطنة فإنه يطالبهم بها، لكن إذا أراد الإمام أن يأخذها بنفسه من غير تهمة الترك من أربابها ليس له ذلك؛ لما فيه من مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وبيان ذلك أنه إذا كان لرجل مائتا درهم أو عشرون مثقال ذهب فلم يؤد زكاته سنتين يزكي السنة الأولى وليس عليه للسنة الثانية شيء عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يؤدي زكاة سنتين، وكذا هذا في مال(53/62)
التجارة، وكذا في السوائم إذا كان له خمس من الإبل السائمة مضى عليها سنتان ولم يؤد زكاتها أنه يؤدي زكاة السنة الأولى وذلك شاة، ولا شيء عليه للسنة الثانية.
ولو كانت عشرا وحال عليها حولان يجب للسنة الأولى شاتان، وللثانية شاة.
ولو كانت الإبل خمسا وعشرين يجب للسنة الأولى بنت مخاض، وللسنة الثانية أربع شياه.
ولو كان له ثلاثون من البقر السوائم يجب للسنة الأولى تبيع أو تبيعة، ولا شيء للسنة الثانية.
وإن كانت أربعين يجب للسنة الأولى مسنة، وللثانية تبيع أو تبيعة.
وإن كان له أربعون من الغنم عليه للسنة الأولى شاة، ولا شيء للسنة الثانية.
وإن كانت مائة وإحدى وعشرين عليه للسنة الأولى شاتان، وللسنة الثانية شاة.
ولو لحقه دين مطالب به من جهة العباد في خلال الحول، هل ينقطع حكم الحول؟ قال أبو يوسف: لا ينقطع، حتى إذا سقط بالقضاء أو بالإبراء قبل تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول.
وقال زفر: ينقطع الحول بلحوق الدين.
والمسألة مبنية على نقصان النصاب في خلال الحول؛ لأن بالدين ينعدم كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية؛ فتنعدم صفة الغنى في المالك، فكان نظير نقصان النصاب في أثناء الحول.
وعندنا نقصان النصاب في خلال الحول لا يقطع الحول، وعند زفر يقطع على ما نذكر، فهذا مثله.
وأما الديون التي لا مطالب لها من جهة العبادات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر ووجوب الحج ونحوها لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن أثرها في حق أحكام الآخرة وهو الثواب بالأداء(53/62)
والإثم بالترك، فأما لا أثر له في أحكام الدنيا، ألا ترى أنه لا يجبر ولا يحبس فلا يظهر في حق حكم من أحكام الدنيا، فكانت ملحقة بالعدم في حق أحكام الدنيا.
ثم إذا كان على الرجل دين وله مال الزكاة وغيره من عبيد الخدمة وثياب البذلة ودور السكنى فإن الدين يصرف إلى مال الزكاة عندنا سواء كان من جنس الدين أو لا، ولا يصرف إلى غير مال الزكاة وإن كان من جنس الدين.
وقال زفر: يصرف الدين إلى الجنس وإن لم يكن مال الزكاة، حتى إنه لو تزوج امرأة على خادم بغير عينه وله مائتا درهم وخادم فدين المهر يصرف إلى المائتين دون الخادم عندنا، وعنده يصرف إلى الخادم.
وجه قول زفر: أن قضاء الدين من الجنس أيسر؛ فكان الصرف إليه أولى.
ولنا: أن عين مال الزكاة مستحق كسائر الحوائج، ومال الزكاة فاضل عنها، فكان الصرف إليه أيسر وأنظر بأرباب الأموال؛ لهذا لا يصرف إلى ثياب بدنه وقوته وقوت عياله، وإن كان من جنس الدين لما قلنا.
وذكر محمد في الأصل: أرأيت لو تصدق عليه لم يكن موضعا للصدقة.
ومعنى هذا الكلام: أن مال الزكاة مشغول بحاجة الدين؛ فكان ملحقا بالعدم، وملك الدار والخادم لا يحرم عليه أخذ الصدقة، فكان فقيرا، ولا زكاة على الفقير.
ولو كان في يده من أموال الزكاة أنواع مختلفة من الدراهم والدنانير وأموال التجارة والسوائم فإنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير وأموال التجارة دون السوائم؛ لأن زكاة هذه الجملة يؤديها أرباب الأموال، وزكاة السوائم يأخذها الإمام، وربما يقصرون في الصرف إلى الفقراء ضنا بما(53/64)
لهم، فكان صرف الدين إلى الأموال الباطنة ليأخذ السلطان زكاة السوائم نظرا للفقراء، وهذا أيضا عندنا.
وعلى قول زفر يصرف الدين إلى الجنس، وإن كان من السوائم، حتى إن من تزوج امرأة على خمس من الإبل السائمة بغير أعيانها وله أموال التجارة وإبل سائمة فإن عنده يصرف المهر إلى الإبل، وعندنا يصرف إلى مال التجارة لما مر.
وذكر الشيخ الإمام السرخسي أن هذا إذا حضر المصدق، فإن لم يحضر فالخيار لصاحب المال، إن شاء صرف الدين إلى السائمة وأدى الزكاة من الدراهم، وإن شاء صرف الدين إلى الدراهم وأدى الزكاة من السائمة؛ لأن في حق صاحب المال هما سواء لا يختلف، وإنما الاختلاف في حق المصدق، فإن له ولاية أخذ الزكاة من السائمة دون الدراهم؛ فلهذا إذا حضر صرف الدين إلى الدراهم وأخذ الزكاة من السائمة.
فأما إذا لم يكن له مال الزكاة سوى السوائم فإن الدين يصرف إليها ولا يصرف إلى أموال البذلة لما ذكرنا.
ثم ينظر إن كان له أنواع مختلفة من السوائم، فإن الدين يصرف إلى أقلها زكاة حتى يجب الأكثر نظرا للفقراء، بأن كان له خمس من الإبل وثلاثون من البقر وأربعون شاة، فإن الدين يصرف إلى الإبل أو الغنم دون البقر حتى يجب التبيع؛ لأنه أكثر قيمة من الشاة.
وهذا إذا صرف الدين إلى الإبل والغنم بحيث لا يفضل شيء منه، فأما إذا استغرق أحدهما وفضل منه شيء، وإن صرف إلى البقر لا يفضل منه شيء فإنه يصرف إلى البقر؛ لأنه إذا فضل شيء منه يصرف إلى الغنم فانتقص النصاب بسبب الدين فامتنع وجوب شاتين.(53/65)
ولو صرف إلى البقر وامتنع وجوب التبيع تجب الشاتان؛ لأنه لو صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل السائمة كاملا، والتبيع أقل قيمة من شاتين، ولو لم يكن له إلا الإبل والغنم.
ذكر في الجامع أن لصاحب المال أن يصرف الدين إلى أيهما شاء؛ لاستوائهما في قدر الواجب، وهو الشاة.
وذكر في نوادر الزكاة أن للمصدق أن يأخذ الزكاة من الإبل دون الغنم؛ لأن الشاة الواجبة في الإبل ليست من نفس النصاب؛ فلا ينتقص النصاب بأخذها.
ولو صرف الدين إلى الإبل يأخذ الشاة من الأربعين فينتقص النصاب فكان هذا أنفع للفقراء.
ولو كان له خمس وعشرون من الإبل وثلاثون بقرا وأربعون شاة، فإن كان الدين لا يفضل عن الغنم يصرف إلى الشاة؛ لأنه أقل زكاة، فإن فضل منه ينظر إن كان بنت مخاض وسط أقل قيمة من الشاة وتبيع وسط يصرف إلى الإبل، وإن كان أكثر قيمة منها يصرف إلى الغنم والبقر؛ لأن هذا أنفع للفقراء، فالمدار على هذا الحرف.
فأما إذا لم يكن له مال للزكاة فإنه يصرف الدين إلى عروض البذلة والمهنة أولا ثم إلى العقار؛ لأن الملك مما يستحدث في العروض ساعة فساعة، فأما العقار فمما لا يستحدث فيه الملك غالبا؛ فكان فيه مراعاة النظر لهما جميعا، والله أعلم (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع، (2 \ 6) وما بعدها.(53/66)
ب- قال الزيلعي:
وأما كونه فارغا عن الدين وعن حاجته الأصلية، كدور(53/66)
السكنى وثياب البذلة وأثاث المنازل وآلات المحترفين وكتب الفسقة لأهلها، فلأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم، ولهذا يجوز التيمم مع الماء المستحق بالعطش.
وقال الشافعي في الجديد: الدين لا يمنع وجوب الزكاة للعمومات، والحجة عليه ما رويناه، وهو قول عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر، وكفى بهم قدوة، وكان عثمان رضي الله عنه يقول: " هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تخلص أمواله فيؤدي منها الزكاة " بمحضر من الصحابة من غير نكير، فكان إجماعا، ولأن الزكاة تجب على الغني لإغناء الفقير، ولا يتحقق الغنى بالمال المستقرض ما لم يقضه، ولأن ملكه ناقص حيث كان للغريم أن يأخذه إذا ظفر بجنس حقه، فصار كمال المكاتب، ولا يلزم على هذا الموهوب له حيث تجب عليه الزكاة وإن كان للواهب أن يرجع فيه؛ لأنه ليس له أن يأخذه إلا بقضاء القاضي أو برضا الموهوب له، فلا يصح رجوعه بدونهما، وفيما قال الشافعي: يلزم تزكية مال واحد في سنة واحدة مرارا بأن كان لرجل عبد يساوي ألفا فباعه من آخر بدين ثم باعه الآخر كذلك حتى تداولته عشرة أنفاس مثلا فحال عليه الحول، يجب على كل واحد منهم زكاة ألف، والمال في الحقيقة واحد حتى لو فسخت البياعات بعيب رجع إلى الأول فلم يبق لهم شيء.
ولا فرق في الدين بين المؤجل والحال.
والمراد بالدين: دين له مطالب من جهة العباد حتى لا يمنع دين النذر والكفارة، ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب؛ لأنه ينتقص به النصاب، وكذا بعد الاستهلاك، خلافا(53/67)
لزفر رحمه الله فيهما، ولأبي يوسف في الثاني؛ لأنه مطالب به من جهة الإمام في الأموال الظاهرة، ومن جهة نوابه في الباطنة؛ لأن الملاك نوابه، فإن الإمام كان يأخذها إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وهو فوضها إلى أربابها في الأموال الباطنة، قطعا لطمع الظلمة فيها، فكان ذلك توكيلا منه لأربابها.
وقيل لأبي يوسف: ما حجتك على زفر؟ فقال: ما حجتي على رجل يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم؟! ومراده إذا كان لرجل مائتا درهم وحال عليها ثمانون حولا.
ولو طرأ الدين في خلال الحول يمنع وجوب الزكاة عند محمد، كهلاك النصاب كله، وعند أبي يوسف لا يمنع، كنقصان النصاب في أثناء الحول، ثم لا فرق بين أن يكون الدين بطريق الكفالة والأصالة حتى لا تجب عليهما الزكاة، بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب، حيث تجب على الغاصب في ماله دون غاصب الغاصب، والفرق أن الأصيل والكفيل كل واحد منهما مطالب به؛ أما الغاصبان فكل واحد منهما غير مطالب به، بل أحدهما.
وإن كان ماله أكثر من الدين زكى الفاضل إذا بلغ نصابا بالفراغة عن الدين، وإن كان له نصب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء، مثاله: إذا كان له دراهم ودنانير وعروض التجارة وسوائم من الإبل ومن البقر والغنم وعليه دين، فإن كان يستغرق الجميع فلا زكاة عليه، وإن لم يستغرق صرف إلى الدراهم والدنانير أولا، إذ القضاء منهما أيسر؛ لأنه لا يحتاج إلى بيعهما، ولأنه لا تتعلق المصلحة بعينهما، ولأنهما لقضاء الحوائج وقضاء الدين منها، ولأن للقاضي أن يقضي الدين منهما(53/68)
جبرا، وكذا للغريم أن يأخذ منهما إذا ظفر بهما وهما من جنس حقه، فإن فضل عنهما الدين أو لم يكن له منهما شيء، صرف إلى العروض؛ لأنهما عرضة للبيع، بخلاف السوائم؛ لأنها للنسل والدر والقنية، فإن لم يكن له عروض أو فضل الدين عنها صرف إلى السوائم، فإن كانت السوائم أجناسا صرف إلى أقلها زكاة نظرا للفقراء، وإن كان له أربعون شاة وخمس من الإبل يخير لاستوائهما في الواجب، وقيل: يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الإبل في العام القابل (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1 \ 253 وما بعدها.(53/69)
2 - النقل عن المالكية:
أ - جاء في المدونة تحت عنوان (زكاة المديان) :
(قلت) أرأيت الرجل تكون له الدنانير فيحول عليها الحول وهي عشرون دينارا، وعليه دين وله عروض، أين يجعل دينه؟ (فقال) في عروضه، فإن كانت وفاء دينه زكى هذه العشرين الناضة التي حال عليها الحول عنده (قلت) أرأيت إن كانت عروضه ثياب جسده وثوبي جمعته وسلاحه وخاتمه وسرجه وخادما تخدمه ودارا يسكنها (فقال) أما خادمه وداره وسلاحه وسرجه وخاتمه فهي عروض يكون الدين فيها، فإن كان فيها وفاء الدين زكى العشرين التي عنده، قال: وهو قول مالك، وأصل هذا لما جعلنا من قول مالك أنه ما كان للسلطان أن يبيعه في دينه فإنه يجعل دينه في ذلك، ثم يزكي ما كان عنده بعد ذلك من ناض،(53/69)
وإذا كان على الرجل الدين، فإن السلطان يبيع داره وعروضه كلها، ما كان من خادم أو سلاح أو غير ذلك، إلا ما كان من ثياب جسده مما لا بد له منه، ويترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام.
(قلت) أرأيت ثوبي جمعته أيبيع عليه السلطان ذلك في دينه.
(فقال) إن كانا ليس لهما تلك القيمة فلا يبيعهما، وإن كان لهما قيمة باعهما.
(قلت) أتحفظ هذا عن مالك؟ فقال: لا، ولكن هذا رأي.
(قلت) أرأيت من له مال ناض وعليه من الدين مثل هذا المال الناض الذي عنده وله مدبرون قيمتهم أو قيمة خدمتهم مثل الدين الذي عليه.
(فقال) يجعل الدين الذي عليه في قيمة المدبرين.
(قلت) قيمة رقابهم أم قيمة خدمتهم.
(فقال) قيمة رقابهم ويزكي الدنانير الناضة التي عنده.
(قلت) وهذا قول مالك؟ قال: هذا رأيي.
(قلت) فإن كانت له دنانير ناضة وعليه من الدين مثل الدنانير وله مكاتبون، فقال: ينظر إلى قيمة الكتابة.
(قلت) وكيف ينظر إلى قيمة الكتابة؟
(فقال) يقال: ما قيمة ما على هذا المكاتب من هذه النجوم على محلها بالعاجل من العروض، ثم يقال: ما قيمة هذه العروض بالنقد؛ لأن ما على المكاتب لا يصلح أن يباع إلا بالعرض، إذا كان دنانير أو دراهم فينظر إلى قيمة المكاتب الآن بعد التقويم، فيجعل دينه فيه؛ لأنه مال له لو شاء أن يتعجله تعجله، وذلك أنه لو شاء أن يبيع ما على المكاتب بما وصفت لك فعل، فإذا جعل دينه في قيمة ما على المكاتب زكى ما في يديه من الناض إن كانت قيمة ما على المكاتب مثل الدين الذي عليه.
(قال) وكانت الدنانير(53/70)
التي في يديه هذه الناضة تجب فيها الزكاة، فإن كانت قيمة ما على المكاتب أقل مما عليه من الدين جعل فضل دينه فيما في يديه من الناض، ثم ينظر إلى ما بقي بعد ذلك، فإن كان ذلك مما تجب فيه الزكاة زكاه، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة لم يكن عليه فيها شيء.
(قلت) وهذا قول مالك في هذه المسألة في المكاتب.
(فقال) لم أسمع منه هذا كله، ولكن قال مالك: لو أن رجلا كانت له مائة دينار في يديه، وعليه دين مائة دينار، وله مائة دينار دينا، رأيت أن يزكي المائة الناضة التي في يديه، ورأيت ما عليه من الدين في الدين الذي له إن كان دينا يرتجيه وهو على مليء.
(قلت) فإن لم يكن يرتجيه، (قال) لا يزكيه فمسألة المكاتب عندي على مثل هذا؛ لأن كتابة المكاتب في قول مالك لو أراد أن يبيع ذلك بعرض مخالف لما عليه كان ذلك له وهو مال للسيد كأنه عرض في يديه لو شاء أن يبيعه باعه.
(قلت) أرأيت إن كان عليه دين وله عبيد قد أبقوا وفي يديه مال ناض، أيقوم العبيد الأباق فيجعل الدين فيهم؟ قال: لا.
(قلت) لم؟ قال: لأن الأباق لا يصلح بيعهم ولا يكون دينه فيهم.
(قلت) أتحفظ هذا عن مالك؟ قال: لا، ولكن هذا رأي.
(قلت) فما فرق ما بين الماشية والثمار والحبوب والدنانير في الزكاة.
(فقال) لأن السنة إنما جاءت في الضمار، وهو المال المحبوس في العين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز كانوا يبعثون الخراص في وقت الثمار فيخرصون على الناس لإحصاء الزكاة، ولما للناس في ذلك من(53/71)
تعجيل منافعهم بثمارهم الأكل والبيع وغير ذلك، ولا يؤمرون فيه بقضاء ما عليهم من دين ليحصل أموالهم، وكذلك السعاة يبعثونهم فيأخذون من الناس مما وجدوا في أيديهم ولا يسألونهم عن شيء من الدين، وقد قال أبو الزناد: كان من أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهى إلى قولهم، منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل، وربما اختلفوا في الشيء، فأخذ يقول أكثرهم إنهم كانوا يقولون: لا يصدق المصدق إلا ما أتى عليه، لا ينظر إلى غير ذلك، (وقال) أبو الزناد: وهي السنة.
قال أبو الزناد: وإن عمر بن عبد العزيز ومن قبله من الفقهاء يقولون ذلك.
(قال) ابن وهب: وقد كان عثمان بن عفان يصيح في الناس: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة.
فكان الرجل يحصي دينه ثم يؤدي مما بقي في يديه إن كان ما بقي تجب فيه الزكاة.
(قال) ابن مهدي: عن أبي عبد الرحمن عن طلحة بن النضر قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: كانوا لا يرصدون الثمار في الدين وينبغي للعين أن ترصد في الدين.
(قال) ابن مهدي: عن حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: كان المصدق يجيء فأينما رأى زرعا قائما أو إبلا قائمة أو غنما قائمة أخذ منها الصدقة.
(قلت) أرأيت لو أن رجلا كانت في يديه مائة دينار ناضة فحال عليها الحول وعليه مائة دينار مهر(53/72)
لامرأته أيكون عليه فيما في يديه الزكاة؟ فقال: لا.
(قلت) وهو قول مالك.
(فقال) قال لي مالك: إذا أفلس زوجها حاصت الغرماء، فإن مات زوجها حاصت الغرماء فهو دين، وهذا مثله.
(قلت) أرأيت لو أن رجلا كانت عنده مائة دينار فحال عليها الحول وعليه زكاة قد كان فرط فيها لم يؤدها من زكاة المال والماشية وما أنبتت الأرض، أيكون عليه فيما في يديه الزكاة؟ (فقال) لا يكون عليه فيما في يديه الزكاة إلا أن يبقى في يديه بعد أن يؤدي ما كان فرط فيه من الزكاة ما تجب فيه الزكاة عشرون دينارا فصاعدا، فإن بقي في يديه عشرون دينارا فصاعدا زكاه.
(قلت) وهذا قول مالك.
(فقال) هذا رأيي؛ وذلك لأن مالكا قال لي في الزكاة: إذا فرط فيها الرجل ضمنها، وإن أحاطت بماله فهذا عندي مثله.
(قلت) أرأيت رجلا له عشرون دينارا قد حال عليها الحول وعليه عشرة دراهم لامرأته نفقة شهر قد كان فرضها عليه القاضي قبل أن يحول الحول بشهر.
(فقال) يجعل نفقة المرأة في هذه العشرين الدينار، فإذا انحطت فلا زكاة عليه فيها.
(قلت) أرأيت إن لم يكن فرض لها القاضي ولكنها أنفقت على نفسها شهرا قبل الحول ثم تبعته بنفقة الشهر وعند الزوج هذه العشرون الدينار.
فقالت: تأخذ نفقتها ولا يكون على الزوج فيها زكاة.
(قلت) ويلزم الزوج ما أنفقت من مالها وإن لم يفرض لها القاضي.
(فقال) نعم إذا كان الزوج موسرا، فإن كان غير موسر فلا يضمن لها ما أنفقت، فمسألتك أنها أنفقت وعند الزوج عشرون دينارا، فالزوج يتبع بما أنفقت يقضى لها(53/73)
عليه بما أنفقت من مالها، فإذا قضى لها بذلك عليه حطت العشرون الدينار إلى ما لا زكاة فيها فلا يكون عليه زكاة.
(قلت) وهذا قول مالك.
(قال) قال مالك: أيما امرأة أنفقت على نفسها وزوجها في حضر أو في سفر وهو موسر، فما أنفقت فهو في مال الزوج إن اتبعته على ما أحب أو كره الزوج مضمونا عليه.
فلما اتبعته به كان ذلك دينا عليه، فجعلته في هذه العشرين فبطلت الزكاة عنه.
(قلت) أرأيت إن كانت هذه النفقة التي على هذا الزوج الذي وصفت لك إنما هي نفقة والدين أو ولد.
فقال: لا تكون نفقة الوالدين والولد دينا أبطل به الزكاة عن الرجل؛ لأن الوالدين والولد إنما تلزم النفقة لهم إذا ابتغوا ذلك، وإن أنفقوا ثم طلبوه بما أنفقوا لم يلزمه ما أنفقوا وإن كان موسرا، والمرأة تلزمه ما أنفقت قبل أن تطلبه بالنفقة إن كان موسرا.
(قلت) فإن كان القاضي قد فرض للأبوين نفقة معلومة فلم يعطهما ذلك شهرا وحال الحول عليها عند هذا الرجل بعد هذا الشهر، أتجعل نفقة الأبوين هاهنا دينا فيما في يديه إذا قضى به القاضي.
قال: لا.
(قال) أشهب: أحط عنه به الزكاة وألزمه ذلك إذا قضى به القاضي عليه في الأبوين؛ لأن النفقة لهما إنما تكون إذا طلبا ذلك، ولا يشبهان الولد، ويرجع على الأب بما تداين به الولد، أو أنفق عليه إذا كان موسرا، ويحط بذلك عنه الزكاة، كانت بفريضة من القاضي أو لم تكن؛ لأن الولد لم تسقط نفقتهم عن الوالد إذا كان له مال من أول ما كانوا حتى يبلغوا، والوالدين قد كانت نفقتهما ساقطة فإنما ترجع نفقتهما بالقضية، والحكم من السلطان، والله أعلم.(53/74)
(قلت) لابن القاسم: أرأيت رجلا كانت عنده دنانير قد حال عليها الحول تجب فيها الزكاة وعليه إجارة أجراء قد عملوا عنده قبل أن يحول على ما عنده الحول، أو كراء إبل أو دواب، أيجعل ذلك الكراء والإجارة فيما في يديه من الناض ثم يزكي ما بقي (فقال) نعم إذا لم يكن له عروض.
(قلت) وهذا قول مالك؟ قال: نعم، (قال) وسألت مالكا عن العامل إذا عمل بالمال قراضا سنة، فربح ربحا وعلى العامل المقارض دين فاقتسماه بعد الحول، وأخذ العامل ربحه، هل ترى على العامل في حظه زكاة وعليه دين؟ (فقال) لا إلا أن تكون له عروض فيها وفاء بدينه، فيكون دينه في العروض ويكون في ربحه هذا الزكاة.
قال: فإن لم تكن له عروض فلا زكاة عليه في ربحه إذا كان الدين يحيط بربحه كله، وقال غيره فيه الزكاة.
(قال) ابن وهب وسفيان بن عيينة: إن ابن شهاب حدثهما عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة.
(قال) أشهب: عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر وهو يقول: هذا شهر زكاتكم الذي تؤدون فيه زكاتكم فمن كان عليه دين فليقض دينه، فإن فضل عنده ما تجب فيه الزكاة فليؤد زكاته، ثم ليس عليه شيء حتى يحول عليه الحول.
(قال) ابن القاسم وابن وهب وأشهب: عن مالك أن يزيد بن خصيفة حدثه أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟(53/75)
قال: لا.
(قال) ابن وهب: وأخبرني غير واحد عن ابن شهاب ونافع مثل قول سليمان بن يسار.
(قال) ابن مهدي: عن أبي الحسن عن عمرو بن حزم قال: سئل جابر بن يزيد عن الرجل يصيب الدراهم وعليه دين أكثر منها.
فقال: لا زكاة عليه حتى يقضي دينه (1) .
__________
(1) المدونة ومعها المقدمات 1 \ 234.(53/76)
ب- قال ابن رشد -الجد - تحت ترجمة (في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة) :
والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام: قسم منها يسقط الزكاة، وهو دين الزكاة، كانت له عروض تفي به أو لم تكن، مرت به سنة من يوم استدانه: مثل أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه: مثل أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحول حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة الأولى.
وقسم منها يسقط الزكاة، مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر، إلا أن تكون له عروض تفي به يجعل الدين فيها، وهو ما استدانه في غير ما بيده من مال الزكاة.(53/76)
وقسم يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من يوم استدانه، كانت له عروض أو لم تكن، ويسقطها إن مرت به سنة من يوم استدانه، إلا أن تكون له عروض يجعله فيها، وهو ما استدانه فيما بيده من مال الزكاة، كان الدين من سلف أو مبايعة.
فكونه من سلف: هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا، فهذا يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف، فإن بقيت العشرة التي بيده عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها، وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول الحول عليه من يوم تسلفها.
وكونه من مبايعة: هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة، فتجر بالعشرين حولا فإنه يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم، ولو بقيت العشرة التي له بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم.
وأشهب يساوي بين دين الزكاة وغير الزكاة، فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين.
وقد قيل: إن الدين يسقط الزكاة العين(53/77)
على كل مال وفي كل دين، وإن كانت له عروض لم يجعله فيها على ظاهر حديث عثمان بن عفان المذكور، إذ لم يفرق فيه بين دين الزكاة من غيره، ولا شرط عدمه للعروض، وبالله التوفيق (1) .
__________
(1) المقدمات ومعها المدونة 1 \ 219 وما بعدها.(53/78)
ج - وقال أيضا تحت عنوان: (زكاة الديون) :
الدين لا يسقط زكاة ما عدا العين من الأموال التي تجب فيها الزكاة، والدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال، والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم من ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: يا أيها الناس هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى يحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة.
وبقي ما سوى ذلك على العموم، فلا يسقط الدين زكاة الحرث ولا الماشية، وكذلك زكاة الفطر عن العبد على الصحيح من الأقوال، وهو قول ابن وهب عن مالك خلاف ظاهر ما في المدونة ونص ما في كتاب ابن المواز.
وقد فرق أيضا بين العين وغيرها في وجوب إسقاط الدين بتفاريق من جهة المعنى لا تخلص من الاعتراض، وقد يحتمل أن يكون حذر عنها الإجماع،
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 141(53/78)
وبالله التوفيق (1) .
د- قال ابن رشد الحفيد:
وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: لا زكاة في مال حبا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكي وإلا فلا.
وبه قال الثوري وأبو ثور وابن المبارك وجماعة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها.
وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع، وقال قوم بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا والسبب في اختلافهم اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي بيده.
ومن قال: هي عبادة، قال: تجب على من بيده مال؛ لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف، سواء كان عليه دين أو لم يكن، وأيضا فإنه قد تعارض هنالك حقان حق لله وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى، والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «فيها صدقة
__________
(1) المقدمات ومعها المدونة 1 \ 306- 310.(53/79)
تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » والمدين ليس بغني، وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة، وقد كان أبو عبيد يقول: إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه.
وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة، وإنما هو خلاف لمن يقول يصدق في الدين كما يصدق في المال (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 \ 236.(53/80)
هـ- جاء في أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك وشرحه الصغير:
(ولا يسقط الدين) ولو عينا (زكاة حرث وماشية ومعدن) لتعلق الزكاة بعينها (بخلاف العين) الذهب والفضة (فيسقطها) الدين (ولو) كان الدين (مؤجلا أو) كان (مهرا) عليه لامرأته أو مؤخرا (أو) مقدما أو كان (نفقة كزوجة) أو أب أو ابن (تجمدت) عليه (أو) كان (دين زكاة) وانكسرت عليه، (لا) دين (كفارة) ليمين أو غيره كظهار، وصوم، (و) لا دين (هدي) وجب عليه في حج أو عمرة فلا يسقطان زكاة العين (إلا أن يكون له) أي لرب العين المدين (من العروض ما) أي شيء (يفي به) أي بدينه، فإنه يجعله في نظير الدين الذي عليه ويزكي ما عنده من العين.
ولا تسقط عنه الزكاة بشرطين: أشار لأولهما بقوله: (إن حال حوله) أي العرض (عنده) ، وللثاني بقوله: (وبيع) ذلك(53/80)
العرض: أي وكان مما يباع (على المفلس) كثياب ونحاس وماشية، ولو دابة ركوب أو ثياب جمعة أو كتب فقه، لا ثوب جسده أو دار سكناه، إلا أن يكون فيها فضل عن ضرورته.
فإن كان عنده من العرض ما يفي ببعض ما عليه نظر للباقي، فإن كان فيه الزكاة زكاه، كما لو كان عنده أربعون دينارا وعليه مثلها وعنده عرض يفي بعشرين زكى العشرين.
(والقيمة) لذلك العرض تعتبر (وقت الوجوب) أي وجوب الزكاة آخر الحول (أو) يكون (له دين مرجو ولو مؤجلا) فإنه يجعله فيما عليه ويزكي ما عنده من العين (لا غير مرجو) كما لو كان على معسر أو ظالم لا تناله الأحكام، (ولا) إن كان له (آبق) فلا يجعل في نظير الدين الذي عليه (ولو رجي) تحصيله لعدم جواز بيعه بحال.
(فلو وهب الدين له) أي لمن هو عليه- بأن أبرأه ربه منه ولم يحل حوله من يوم الهبة- فلا زكاة في العين التي عنده؛ لأن الهبة إنشاء لملك النصاب الذي بيده، فلا تجب الزكاة فيه، إلا إذا استقبل حولا من يوم الهبة (أو) وهب له (ما) أي شيء من العرض أو غيره، أي وهب له إنسان ما: أي شيئا (يجعل فيه) أي في نظير الدين، (ولو لم يحل حوله) أي: حول الشيء الموهوب عند رب العين (فلا زكاة) في العين التي عنده حتى يحول الحول؛ لما تقدم في الذي قبله، وهذا التصريح بمفهوم قوله: " إن حال حوله " (1)
__________
(1) أقرب المسالك وشرحه الشرح الصغير 1 \ 647.(53/81)
3 - النقل عن الشافعية:
أ - جاء في الأم تحت ترجمة (باب الدين مع الصدقة) :
أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة.
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وحديث عثمان يشبه -والله تعالى أعلم- أن يكون إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال في قوله: هذا شهر زكاتكم، يجوز أن يقول: هذا الشهر الذي إذا مضى حلت زكاتكم، كما يقال شهر ذي الحجة، وإنما الحجة بعد مضي أيام منه.
(قال الشافعي) فإذا كانت لرجل مائتا درهم وعليه دينا مائتا درهم فقضى من المائتين شيئا قبل حلول المائتين، أو استعدى عليه السلطان قبل محل حول المائتين فقضاها فلا زكاة عليه؛ لأن الحول حال وليست مائتين.
(قال) وإن لم يقض عليه بالمائتين إلا بعد حولها فعليه أن يخرج منها خمسة دراهم، ثم يقضي عليه السلطان بما بقي منها.
(قال الشافعي) وهكذا لو استعدى عليه السلطان قبل الحول فوقف ماله ولم يقض عليه بالدين حتى يحول عليه الحول، كان عليه أن يخرج زكاتها، ثم يدفع إلى غرمائه ما بقي.
(قال الشافعي) ولو قضى عليه السلطان بالدين قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء لم يكن عليه فيه زكاة، لأن المال صار للغرماء دونه قبل الحول.
وفيه قول ثان: أن عليه فيه الزكاة من قبل أنه لو تلف كان منه، ومن قبل أنه لو طرأ له مال(53/82)
غير هذا كان له أن يحبس هذا المال وأن يقضي الغرماء من غيره.
(قال الشافعي) وإذا أوجب الله -عز وجل- عليه الزكاة في ماله فقد أخرج الزكاة من ماله إلى من جعلها له فلا يجوز عندي -والله أعلم- إلا أن يكون كمال كان في يده فاستحق بعضه فيعطي الذي استحقه ويقضي دينه من شيء إن بقي له.
(قال الشافعي) وهكذا هذا في الذهب والورق والزرع والثمرة والماشية كلها لا يجوز أن يخالف بينها بحال؛ لأن كلا مما قد جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن في كله إذا بلغ ما وصف -صلى الله عليه وسلم- الصدقة.
(قال الشافعي) وهكذا هذا في صدقة الإبل التي صدقتها منها، والتي فيها الغنم وغيرها، كالمرتهن بالشيء، فيكون لصاحب الرهن ما فيه، ولغرماء صاحب المال ما فضل عنه، وفي أكثر من حال المرتهن وما وجب في مال فيه الصدقة من إجارة أجير وغيرها أعطى قبل الحول.
(قال الشافعي) ولو استأجر الرجل على أن يرعى غنمه بشاة منها بعينها فهي ملك للمستأجر، فإن قبضها قبل الحول فهي له، ولا زكاة على الرجل في ماشيته، إلا أن يكون ما تجب فيه الصدقة بعد شاة الأجير، وإن لم يقبض الأجير الشاة حتى حال الحول ففي غنمه الصدقة على الشاة حصتها من الصدقة؛ لأنه خليط بالشاة (قال الشافعي) وهكذا هذا في الرجل يستأجر بتمر نخلة بعينها أو نخلات لا يختلف إذا لم يقبض الإجارة.
(قال الشافعي) فإن استؤجر بشيء من الزرع قائم بعينه لم تجز الإجارة به؛ لأنه مجهول، كما لا يجوز بيعه، إلا أن يكون(53/83)
مضى خبر لازم بجواز بيعه؟ فتجوز الإجارة عليه، ويكون كالشاة بعينها وتمر النخلة والنخلات بأعيانهن.
(قال الشافعي) وإن كان استأجره بشاة بصفة، أو تمر بصفة، أو باع غنما، فعليه الصدقة في غنمه وتمره وزرعه، ويؤخذ بأن يؤدى إلى الأجير والمشتري منه الصفة التي وجبت له من ماله الذي أخذت منه الزكاة أو غيره.
(قال الشافعي) وسواء كانت له عروض كثيرة تحمل دينه أو لم يكن له شيء غير المال الذي وجبت فيه الزكاة.
(قال الشافعي) ولو كانت لرجل مائتا درهم فقام عليه غرماؤه فقال: قد حال عليها الحول، وقال الغرماء: لم يحل عليها الحول، فالقول قوله، ويخرج منها الزكاة ويدفع ما بقي منها إلى غرمائه إذا كان لهم عليه مثل ما بقي منها أو أكثر.
(قال الشافعي) ولو كانت له أكثر من مائتي درهم فقال: قد حالت عليها أحوال ولم أخرج منها الزكاة، وكذبه غرماؤه، كان القول قوله ويخرج منها زكاة الأحوال، ثم يأخذ غرماؤه ما بقي منها بعد؛ الزكاة أبدا أولى بها من مال الغرماء؛ لأنها أولى بها من ملك مالكها.
(قال الشافعي) ولو رهن رجل رجلا ألف درهم بألف درهم أو ألفي درهم بمائة دينار فسواء، وإذا حال الحول على الدراهم المرهونة قبل أن يحل دين المرتهن أو بعده فسواء، ويخرج منها الزكاة قبل دين المرتهن.
(قال الشافعي) وهكذا أكل مال رهن وجبت فيه الزكاة (1) .
__________
(1) الأم 2 \ 42 وما بعدها.(53/84)
ب- وجاء في الأم أيضا تحت هذه الترجمة (باب الدين في الماشية) :
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت لرجل ماشية فاستأجر عليها أجيرا في مصلحتها بسن موصوفة أو ببعير منها لم يسمه فحال عليها حول ولم يدفع منها في إجارتها شيء ففيها الصدقة، وكذلك إن كان عليه دين أخذت الصدقة وقضي دينه منها ومما بقي من ماله. ولو استأجر رجل رجلا ببعير منها أو أبعرة منها بأعيانها فالأبعرة للمستأجر، فإن أخرجها منه فكانت فيها زكاة زكاها، وإن لم يخرجها منه فهي إبله وهو خليط بها يصدق مع رب المال الذي فيها وفي الحرث والورق والذهب سواء، وكذلك الصدقة فيها كلها سواء (1) .
ج- قال الشيرازي:
فإن كان ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ففيه قولان، (قال في القديم) لا تجب الزكاة فيه؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء.
(وقال في الجديد) تجب الزكاة فيه؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة؛ فلا يمنع أحدهما الآخر، كالدين وأرش الجناية. وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق:
(أحدها) إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة؛ لأنه قد
__________
(1) الأم 2 \ 22.(53/85)
حصل له نماؤه، وإن كان غيرها فقيل قولين كالمغصوب.
(والثاني) تجب الزكاة فيه قولا واحدا؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفيه والمجنون.
(والثالث) وهو الصحيح أنه على قولين كالمغصوب؛ لأنه حيل بينه وبينه فهو كالمغصوب.
وأما قول الأول أنه حصل له النماء من الماشية فلا يصح؛ لأنه وإن حصل النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ويحول دونه. وقول الثاني لا يصح؛ لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف؛ لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف، وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا.
(انتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث وهو الأخير في العدد القادم)(53/86)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(53/87)
صفحة فارغة(53/88)
من الفتوى رقم 4400
السؤال الثالث: هل ورد أن من لم يحفظ ستة آلاف حديث فلا يحل له أن يقول لأحد هذا حلال وهذا حرام فليتوضأ وليصل صلاته فقط؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: كل من تعلم مسألة من مسائل الشريعة الإسلامية بدليلها ووثق من نفسه فيها فعليه إبلاغها وبيانها عند الحاجة ولو لم يكن حافظا للعدد المذكور في السؤال من الأحاديث؛ لما ثبت من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع (1) » رواه أحمد والترمذي وابن حبان عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وفي رواية: «نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه (2) » رواه الترمذي والضياء عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ولقوله -صلى
__________
(1) أخرجه. الإمام أحمد في مسنده (1 \ 437) ، والترمذي في كتاب (العلم) برقم (2657) ، وابن حبان (2 \ 66، 69) .
(2) أخرجه الترمذي برقم (2656) ، وابن حبان (2 \ 67) في كتاب (العلم) .(53/89)
الله عليه وسلم-: «بلغوا عني ولو آية (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (6256) وقال: إسناده صحيح على شرط البخاري، وأخرجه الإمام أحمد (2 \ 159) ، كلاهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما.(53/90)
من الفتوى رقم 4798
السؤال الأول: أنا مدرسة دين، متخرجة من الكلية المتوسطة قسم دراسات إسلامية، وقد اطلعت على مجموعة من الكتب الفقهية، فما هو الحكم حين أسأل من قبل الطالبات فأجاوبهن على حسب معرفتي، أي عن طريق القياس والاجتهاد دون التدخل في أحكام الحرام والحلال؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: عليك مراجعة الكتب والاجتهاد، ثم الإجابة بما غلب على ظنك أنه الصواب ولا حرج عليك في ذلك، أما إذا شككت(53/90)
في الجواب ولم يتبين لك الصواب فقولي لا أدري وعديهن بالبحث ثم أجيبيهن بعد المراجعة أو سؤال أهل العلم للاهتداء إلى الصواب حسب الأدلة الشرعية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(53/91)
من الفتوى رقم 9184
السؤال الأول: هل مستدرك الحاكم النيسابوري على الصحيحين أعلى درجة من ناحية صحة السند أم أن السنن الأربع لأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه أصح من المستدرك؟ وهل مسند الإمام أحمد أصح سندا أم المستدرك؟ وهل موطأ الإمام مالك أصح سندا من السنن الأربع والمستدرك أم هما متساويان؟ وهل يجوز لنا نحن المسلمين أن نأخذ الحديث إذا صح في أي كتاب من الكتب المصنفة المعتمدة أم نعرض الحديث على العلماء أولا وكيف يتم ذلك؟(53/91)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: ارجع إلى أول كتاب مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، أو إلى أول فتح المغيث شرح ألفية العراقي في علوم الحديث، أو إلى أول كتاب التقريب للسيوطي في شرح كتاب التدريب للنووي؛ لتعرف منها مراتب ما ذكرت من دواوين، ومنزلة بعضها من بعض، فهذا أجدى وأنفع لك.
ثانيا: من كان أهلا للاجتهاد، ولديه ملكة علمية، وقوة على استنباط الأحكام الدينية من الأدلة الشرعية جاز له أن يرجع إلى نصوص الكتاب والسنة الصحيحة في فهم الأحكام منها، مع الرجوع إلى كلام الأئمة في الموضوع؛ ليكون ذلك عونا بعد الله على دقة الفهم والوصول إلى الصواب، ولئلا يخالف الجماعة، وإلا فليرد الأمر إلى أهله؛ ليسترشد بالعلماء في معرفة ما يحتاجه من أحكام الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(53/92)
من الفتوى رقم 8097
السؤال الخامس: توجه لي أحيانا أسئلة دينية، وعند عدم التأكد من الجواب أقول أعتقد أن الجواب كذا، فهل تجوز الإجابة بمثل ما ذكرت؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز للمسلم أن يفتي بغير علم لقوله تعالى:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) وبناء على ذلك فالواجب عليك إذا سئلت أسئلة ولم تتأكد من صحة الإجابة عنها فقل: الله أعلم أو لا أدري، وفي ذلك سلامة لدينك وعرضك وعمل بالأدب الشرعي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة الأعراف الآية 33(53/93)
من الفتوى رقم 4269
السؤال السابع: أباح أحد العلماء الربا وقال: " إن الربا مثل أي شيء محرم يباح عند الضرورة" فما حكم هذا الشيخ؟ وإذا تاب ورجع فهل يؤخذ من أقواله بعد ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: من المعلوم أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
وهذا الشخص إذا كان قد رجع عن قوله كما ذكر في السؤال، وتاب إلى الله تعالى فإن باب التوبة مفتوح، ومن تاب تاب الله عليه، ولا مانع من الأخذ بقوله في المسائل التي وافق فيها الحق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(53/94)
من الفتوى رقم 6440
السؤال الخامس: عندما يسأل العالم عن حكم الله في المسألة المعينة هل يجب على السائل طلب الدليل على إجابة العالم؟ ثم هل يسأل عن مدى صحة الدليل أم يتبع فقط وإذا اتبع أفلا يكون من المقلدين والتقليد حرام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان السائل من طلبة العلم، ولديه قوة على المشاركة في فهم الأدلة، يسأل العالم عن الدليل ويناقشه فيه ليطمئن قلبه ويكون على بينة وبصيرة من الحكم ودليله، وإلا اكتفى بجواب العالم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(53/95)
الفتوى رقم 1212
س: طلب بيان عن المذاهب الأربعة: الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي، وعن موقع كل منها، وعن مذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذه المذاهب، حيث حصل نزاع بين السائل وجماعة من الشيبان أخبروه بأنهم حنابلة وأخبرهم بأنه حنفي لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: المذهب الحنفي منسوب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، والمذهب المالكي منسوب لمالك بن أنس الأصبحي المدني، والمذهب الشافعي منسوب لمحمد بن إدريس الشافعي القرشي، والمذهب الحنبلي منسوب إلى أحمد بن محمد بن حنبل، وكل هؤلاء كانوا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا من أفضل أهل زمانهم -رضي الله عنهم- وقد اجتهدوا في أخذ الأحكام من القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وما أجمعت عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- وبينوا للناس الحق
__________
(1) سورة الأنعام الآية 161(53/96)
ونقلت إلينا أقوالهم، وانتشرت بين المسلمين في جميع بلادهم، وتبعهم كثير ممن جاء بعدهم من العلماء؟ لثقتهم بهم وائتمانهم إياهم على دينهم وموافقتهم لهم في الأصول التي اعتمدوها، ونشروا أقوالهم بين الناس، ومن قلدهم من الأميين وعمل بما عرفه من أقوالهم، نسب لمن قلده، وعليه مع ذلك أن يسأل من يثق به من علماء عصره ويتعاون معه على فهم الحق من دليله.
ومما تقدم يتبين أنهم أتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم- وليس الرسول تابعا لهم، بل ما جاء به عن الله من شريعة الإسلام هو الأصل الذي يرجع إليه هؤلاء الأئمة وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم، وكل مسلم يسمى حنيفيا لاتباعه الحنيفية السمحة التي هي ملة إبراهيم وملة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(53/97)
الفتوى رقم 7595
س: الأشخاص الذين يدور السؤال حولهم هم: الشافعي وأبو حنيفة ومالك وابن حنبل.
أولا: أين يقع هؤلاء الأشخاص وبأي منزلة نضعهم، هل(53/97)
هم علماء أم أئمة؟
ثانيا: أي دور قاموا به في خدمة تعاليم الإسلام؟
ثالثا: هل هم جديرون بالاحترام باعتبار أنهم على معرفة بقدر وافر عن العقيدة الإسلامية؟
رابعا: إذا ما اتبعت أحدا منهم قولا أو عملا هل تعتبر شخصا منحرفا عن الطريق المستقيم؟
خامسا: أحيانا تجدهم يختلفون في الرأي، علام ينطوي هذا الموقف؟
سادسا: ماذا تضع شخصا يسبهم أو تعاليمهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت التيمي مولى بني تيم الله بن ثعلبة، ولد عام 80 هـ ومات عام 150 هـ.
ومالك هو ابن أنس بن مالك بن أبي عامر الحميري الأصبحي، ولد عام 93 هـ ومات عام 179 هـ.
والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي ولد عام 150 هـ ومات عام 204 هـ.
وابن حنبل هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي، ولد عام 164 هـ ومات عام 241 هـ. رحمهم الله تعالى.
هؤلاء الأجلاء نشئوا في الإسلام، وعاشوا في خير القرون،(53/98)
القرون الثلاثة التي شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها خير القرون، واشتغلوا بالعلم منذ حداثة أسنانهم، فدرسوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم وتاريخ من سبقهم ومن عاصرهم من خيار الأمة الإسلامية، وأخذوا عنهم العلوم الإسلامية، واجتهدوا فيها طاقتهم حتى نبغوا وصاروا من أعلام العلماء وورثة الأنبياء علما وبلاغا ومن أئمة الهدى نصحا للأمة وإرشادا وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.
ثانيا: مما تقدم يتبين أنهم قاموا بدور مهم في خدمة الإسلام، دراسة لعلومه، وفهم أحكامه -أصوله وفروعه- واستنباطها من مصدرها الصحيح، ومنبعها الصافي، كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما قاموا بنشر علومه بين المسلمين، فاستنارت بهم الأمة في شئون دينها ودنياها، ونهضت في ثقافتها علما وخلقا، وازدهرت بهم الحياة، فكانت خير أمة أخرجت للناس، إيمانا وإخلاصا، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالا بالتي هي أحسن. رحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ثالثا: بما آتاهم الله من العلم والهدى، وما حباهم به من حسن القيادة في سياسة الأمة راعيها ورعيتها -نصحا وإرشادا- كانوا جديرين بالتوقير والاحترام، وإنزالهم منازلهم التي بوأهم الله تعالى إياها، إنصافا لهم، وجزاء على الإحسان بالإحسان، فإن من لم يشكر من أسدى إليه معروفا من الناس لم يشكر الله،(53/99)
ونرجو أن يكون ما ادخره الله تعالى لهم عنده أعلى منزلة، وأعظم أجرا، ونضرع إلى الله أن يجزيهم عنا خير الجزاء بما بينوه لنا من عقائد سليمة، وأحكام صحيحة، وما خلفوه لنا من تراث باهر، وعلم نافع.
رابعا: إن هؤلاء العلماء وأمثالهم من أئمة الهدى والرسوخ في العلم، مع ما أوتوا من قوة في الفهم، وسعة في الاطلاع، وبعد نظر، وخبرة بمقاصد الشريعة، ووقوف على أسرارها، ليسوا بمعصومين، بل كل منهم يخطئ ويصيب، وقد اعترفوا بذلك، وأقروا به على أنفسهم، ولم يستنكفوا أن يعلنوا ذلك للناس، ويبينوا لهم أن كلا منهم ومن أمثالهم يؤخذ من قوله ويرد عليه، وأن الحجة إنما هي في كتاب الله، وما صح من سنة المعصوم محمد -صلى الله عليه وسلم- إحقاقا للحق، ووضعا للأمر في نصابه.
وعلى هذا من كان ممن سواهم -قديما وحديثا- ثاقب الفكر، عالما بنصوص الشريعة، خبيرا بمقاصدها، قادرا على الاستنباط من أدلتها، وجب عليه أن يجتهد في مصادر الأحكام وأدلتها، ولزمه العمل بما ظهر له من الأحكام، ولم يجز له أن يقلد مجتهدا آخر، لكن له أن يستعين بما خلفه أولئك الأخيار من ثروة علمية، رجاء أن ييسر الله بذلك سبيل الحق وإدراك الصواب.
أما من عجز عن ذلك فليقلد مجتهدا من هؤلاء الأئمة وأمثالهم، دون عصبية لواحد منهم. وقد صدر منا فتوى في الموضوع، هذا نصها:(53/100)
" من كان أهلا لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة ويقوى على ذلك ولو بمعونة الثروة الفقهية التي ورثناها عن السابقين من علماء الإسلام كان له ذلك ليعمل به في نفسه، وليفصل به في الخصومات وليفتي به من يستفتيه، ومن لم يكن أهلا لذلك فعليه أن يسأل الأمناء من أهل العلم في زمنه، أو يقرأ كتب العلماء الأمناء الموثوق بهم ليتعرف الحكم من كتبهم ويعمل به من غير أن يتقيد في سؤاله أو قراءته بعالم من علماء المذاهب الأربعة، وإنما رجع الناس للأربعة لشهرتهم وضبط كتبهم وانتشارها وتيسرها لهم.
ومن قال بوجوب التقليد على المتعلمين مطلقا فهو مخطئ جامد سيئ الظن بالمتعلمين عموما وقد ضيق واسعا، ومن قال بحصر التقليد في المذاهب الأربعة المشهورة فهو مخطئ أيضا قد ضيق واسعا بغير دليل، ولا فرق بالنسبة للأمي بين فقيه من الأئمة الأربعة وغيرهم، كالليث بن سعد والأوزاعي ونحوهما من الفقهاء".
خامسا: إن عقول البشر ومداركهم محدودة، وغرائزهم وميولهم مختلفة، واستعدادهم وقواهم العلمية متفاوتة؛ ولذلك بعث الله تعالى الرسل عليهم الصلاة والسلام هداة مرشدين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ومع ذلك وقع الاختلاف بين العلماء، إما لأن بعضهم بلغه الدليل من الكتاب والسنة، والآخر لم يبلغه، وإما لاختلافهم في فهم ما بلغه من نص الدليل، وإما لتعارض الأدلة في نظرهم، واختلافهم(53/101)
في تقديم بعضها على بعض، وإما لغير ذلك من الأسباب، وقد أوسع العلماء ذلك بحثا في كتب أسباب الخلاف، ومن أولئك الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) فمن أراد مزيد البيان في ذلك فليرجع إلى هذا الكتاب، وإلى ما ألف من الكتب في أسباب اختلاف العلماء قديما وحديثا.
سادسا: بعد أن ثبت ما لهؤلاء العلماء من فضل وعلو منزلة، وقدم صدق في الإسلام، وخدمة جليلة للأمة، فإن كبير القوم مستهدف، والأنبياء والمرسلون مع صدقهم وعلو قدرهم واعتدالهم ورحمتهم بالناس لم يسلموا من أذى قومهم. ولا عجب فالسيل -كما قال الأول- حرب للمكان العالي. فمن سب هؤلاء الأخيار فقد أساء إلى نفسه، وعليها جنى، وسوف يلقى جزاءه عاجلا أو آجلا، فالله للمعتدين بالمرصاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(53/102)
الفتوى ورقم 12548
س: قرأت في كتاب ألف في لغتنا حيث يقول مؤلفه: إن موقف الأئمة أصحاب المذاهب في الإسلام (أبو حنيفة، وأحمد، ومالك، والشافعي) وغيرهم كموقف بولس في دين المسيح، إذ يصرفون الناس من الحقيقة إلى أهوائهم مع وجود الأدلة الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءوا بآرائهم بعد هذه الأدلة، فما هو الرد عليه؟ ويقول: إن مقلدهم وتابعهم كافر حيث يتبعون الناس ويتركون ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: إن أئمة المذاهب الأربعة وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل من فضلاء أهل العلم، ومن أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أهل الاجتهاد والاستنباط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وما قاله المؤلف المذكور من أنهم يصرفون الناس عن الحقيقة، ويتبعون أهواءهم، كذب وبهتان عليهم، وليس مقلدهم بكافر. فإن الإنسان إذا لم يكن من أهل المعرفة بالأحكام واتبع أحد المذاهب الأربعة فإنه لا حرج عليه في ذلك، وقد صدر منا فتوى في المذاهب الأربعة هذا نصها:(53/103)
" المجتهدون من الفقهاء كثير، وخاصة في القرون الثلاثة التي شهد لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخير، وقد اشتهر من بينهم على مر السنين أربعة: أبو حنيفة النعمان بن ثابت في العراق، وأبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي في المدينة المنورة، وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي عالم قريش وفخرها، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إمام أهل الحديث وقدوتهم وفقيه أهل العراق في زمانه.
وأسباب شهرتهم كثيرة، منها: انتشار مذهبهم في البلد الذي نشئوا فيه أو ارتحلوا إليه على مقتضى السنة الكونية، كأبي حنيفة وأحمد رحمهما الله في العراق، ومالك في المدينة، والشافعي في مكة ومصر.
ومنها: نشاط تلاميذهم ومن أخذ بمذهبهم وبنى على أصولهم واجتهادهم في الدعوة إلى مذهبهم في بلادهم، أو البلاد التي رحلوا إليها، كمحمد بن الحسن وأبي يوسف مثلا في العراق، وابن القاسم وأشهب في مصر، وسحنون في المغرب، والربيع بن سليمان في مصر، وتلاميذ الإمام أحمد في الشام والعراق.
ومنها: تبني الحكومات للمذهب ولعلمائه، وتوليتهم إياهم المناصب، كالقضاء، وفتحهم المدارس لهم، وإغداق الخير عليهم من أوقاف وغيرها. ولم يدع أحد منهم إلى مذهبه، ولم يتعصب له، ولم يلزم غيره العمل به أو بمذهب معين، إنما كانوا يدعون إلى العمل بالكتاب والسنة، ويشرحون نصوص الدين، ويبينون قواعده، ويفرعون عليها، ويفتون فيما يسألون عنه، دون أن يلزموا أحدا من تلاميذهم أو غيرهم برأي(53/104)
بعض، بل يعيبون على من فعل ذلك، ويأمرون أن يضرب برأيهم عرض الحائط إذا خالف الحديث الصحيح، ويقول قائلهم: " إذا صح الحديث فهو مذهبي ".
ولا يجب على أحد اتباع مذهب بعينه من هذه المذاهب، بل عليه أن يجتهد في معرفة الحق إن أمكنه، ويستعين في ذلك بالله ثم الثروة العلمية التي خلفها السابقون من علماء المسلمين لمن بعدهم، ويسروا لهم بها طريق فهم النصوص وتطبيقها، ومن لم يمكنه استنباط الأحكام من النصوص ونحوها لأمر ما عاقه عن ذلك، سأل أهل العلم الموثوق بهم عما يحتاجه من أحكام الشريعة، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وعليه أن يتحرى في سؤاله من يثق به من المشهورين بالعلم والفضل والتقوى والصلاح ".
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(53/105)
الفتوى رقم 4849
السؤال الأول: ما هو القول الراجح في مسألة المياه؟
الرجاء الإفادة بالتوضيح.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل في الماء الطهارة، فإذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة فهو نجس، سواء كان قليلا أو كثيرا، وإذا لم تغيره النجاسة فهو طهور، لكن إذا كان قليلا جدا فينبغي عدم التطهر به احتياطا وخروجا من الخلاف، وعملا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه (1) » الحديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه الإمام مسلم، (1 \ 161) ط. المكتب الإسلامي، والنسائي (1 \ 144) ط الحلبي.(53/106)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الأدعية التي تقال للتخلص من وسوسة الشيطان
س: ما هي الأدعية التي تقال لغرض التخلص من وسوسة الشيطان؟
ج: يدعو الإنسان بما يسر الله له من الدعوات، مثل أن يقول: " اللهم أعذني من الشيطان، اللهم أجرني من الشيطان، اللهم احفظني من الشيطان، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم احفظني من مكايد الشيطان "، ويكثر من ذكر الله، وقراءة القرآن، ويتعوذ بالله من وسوسة الشيطان الرجيم ولو في الصلاة.
وإذا غلب عليه الوسواس في الصلاة شرع له أن ينفث عن يساره (ثلاث مرات) ، ويتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا؛ لأنه قد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أنه شكا إليه عثمان بن أبي العاص الثقفي -رضي الله عنه- ما يجده من الوساوس في الصلاة فأمره أن ينفث عن يساره (ثلاث مرات) ، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وهو في الصلاة، ففعل ذلك فذهب عنه ما يجده (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/216) .(53/107)
والحاصل أن المؤمن والمؤمنة إذا ابتليا بهذا الشيء فعليهما أن يجتهدا في سؤال الله العافية من ذلك، وأن يتعوذا بالله من الشيطان كثيرا ويحرصا على مكافحته في الصلاة وفي غيرها.
وإذا توضأ المؤمن فليجزم أنه توضأ ولا يعيد الوضوء، وإذا صلى يجزم أنه صلى ولا يعيد الصلاة، وكذلك إذا كبر لا يعيد التكبير؛ مخالفة لعدو الله، وإرغاما له، ولا ينبغي أن يخضع لوساوسه، بل يجتهد في التعوذ بالله منها، وأن يكون قويا في حرب عدو الله حتى لا يغلب عليه.(53/108)
الأدعية المستجابة
والأوقات
التي يتحرى فيها المسلم الدعاء
س: ما هو الدعاء الذي أدعو به ليستجاب لي؟ وهل الدعاء كطلب الزواج وغيره جائز في السجود في الفريضة؟ وما هي الأوقات التي يتحرى فيها المسلم الدعاء؟
ج: الله شرع لعباده الدعاء، فقال سبحانه وتعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) . وقال -عز وجل-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) .
والسجود محل للدعاء في الفرض والنفل. وأحرى الأوقات لإجابة
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186(53/108)
الدعاء: آخر الليل، وجوف الليل، وهكذا السجود في الصلاة فرضا أو نفلا يستجاب فيه الدعاء، وهكذا آخر الصلاة قبل السلام بعد التشهد والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهكذا الدعاء يوم الجمعة حين يجلس الخطيب على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس يوم الجمعة.
فينبغي لمن أراد أن يدعو أن يتحرى هذه الأوقات، وهكذا ما بين الأذان والإقامة الدعاء فيه لا يرد، ومن أهمها آخر الليل؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ (1) » ، وفي لفظ آخر فيقول: «هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ هل من مستغفر فيغفر له حتى يطلع الفجر (2) » .
وهذا وقت عظيم ينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يكون لهما فيه حظ من التهجد والدعاء والاستغفار. وهذا النزول الإلهي نزول يليق بالله -عز وجل- لا يشابهه نزول خلقه، فهو ينزل سبحانه نزولا يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يشابه الخلق في شيء من صفاته، كالاستواء، والرحمة، والغضب،
__________
(1) أخرجه أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7567) ، والبخاري في (الجمعة) برقم (1145) ، ومسلم في (كتاب صلاة المسافرين وقصرها) بر قم (758) .
(2) أخرجه أحمد في (مسند المدنيين) برقم (15845) .(53/109)
والرضا وغير ذلك، لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) . ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) .
فالاستواء يليق بجلاله سبحانه، ومعناه: العلو والارتفاع فوق العرش، لكنه استواء يليق بالله، لا يشابه فيه خلقه، ولا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3)
وكما قالت أم سلمة رضي الله عنها: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، وإنكاره كفر ".
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن -شيخ الإمام مالك أحد التابعين رضي الله عنه- لما سئل عن ذلك قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول التبليغ، وعلينا التصديق ". ولما سئل الإمام مالك رحمه الله -إمام دار الهجرة في زمانه في القرن الثاني- عن الاستواء قال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة "، ثم قال للسائل: " ما أراك إلا رجل سوء "، ثم أمر بإخراجه.
وهذا الذي قاله الإمام مالك، وأم سلمة، وربيعة -رضي الله عنهم- هو قول أهل السنة والجماعة كافة، يقولون في أسماء الله
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الشورى الآية 11(53/110)
وصفاته: إنها يجب إثباتها لله -عز وجل- على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى. فالإيمان والإقرار بها واجب، والتكييف منفي، لا يعلم كيفيتها إلا الله -عز وجل-، ولهذا يقول سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1) . ويقول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ويقول سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) وهو سبحانه يغضب على أهل معصيته والكفر به، ويرضى عن أهل طاعته، ويحب أولياءه، ويبغض أعداءه. وهذا الحب والبغض والرضا والغضب وغيرها من صفاته سبحانه، كلها ثابتة له سبحانه على الوجه الذي يليق بجلاله -عز وجل-، وهو قول أهل السنة والجماعة. فالواجب التزام هذا القول، والثبات عليه، والرد على من خالفه.
ومن أدلة الدعاء في السجود قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (4) » ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء (5) » أخرجهما مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 4
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة النحل الآية 74
(4) أخرجه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (1903) ، ومسلم في (كتاب الصلاة) برقم (479) .
(5) أخرجه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9165) ، ومسلم في (كتاب الصلاة) برقم (482) .(53/111)
فإذا سألت المرأة زوجا صالحا في السجود أو في آخر الليل، أو مالا حلالا، وكذلك الرجل إذا سأل ربه أن يعطيه زوجة صالحة، أو مالا حلالا، فكل ذلك طيب.
والنكاح عبادة، وفيه مصالح كثيرة للرجل والمرأة، وهكذا بقية الحاجات الخاصة، كأن يقول: اللهم اغنني بفضلك عمن سواك، اللهم اغنني عن سؤال خلقك، اللهم ارزقني ذرية صالحة، ونحو ذلك.(53/112)
شهادة الجوارح على الإنسان يوم القيامة
سؤال من ع. ومن الخرج يقول: قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (1) {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
السؤال: يفهم من الآية أن الجوارح المذكورة تتكلم وتخبر بما فعلت، فهل يقال -قياسا على الجوارح المذكورة-: إن الفرج يتكلم ويخبر بالزنى أو اللواط ونحوهما؛ لأن هناك من الوعاظ من يقول ذلك، فهل هذا صحيح؟ وما نصيحتكم للوعاظ فيما يتعلق بتفسير القرآن؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: بسم الله، والحمد لله: هذه الأمور وأشباهها توقيفية ليس للعقل فيها مجال، وليس لأحد أن يثبت منها إلا ما
__________
(1) سورة فصلت الآية 19
(2) سورة فصلت الآية 20(53/112)
جاء به النص من الكتاب والسنة الصحيحة، وليس في النصوص فيما نعلم ما يدل على شهادة الفرج بما فعل، وإنما أخبر الله سبحانه في كتابه العظيم بشهادة السمع والأبصار والجلود والألسنة والأيدي والأرجل، فلا يجوز إثبات شيء آخر إلا بالدليل؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) . فجعل سبحانه القول عليه بغير علم في أعلى مراتب التحريم، وقال -عز وجل- في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
فأوضح سبحانه أن القول عليه بغير علم مما يأمر به الشيطان، وما ذاك إلا لما فيه من الفساد العظيم، والعواقب الوخيمة، نسأل الله العافية والسلامة.
أما نصيحتي للوعاظ فهي تقوى الله، وأن يحذروا القول عليه بغير علم في كتابه أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أو في غير ذلك، بل يجب عليهم أن يتحروا في وعظهم وتعليمهم ما دل عليه الكتاب العظيم والسنة الصحيحة المطهرة، وأن يتثبتوا في كل ذلك؛ لقول الله -عز وجل-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (4) . وفق الله الجميع لما يرضيه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة البقرة الآية 169
(4) سورة يوسف الآية 108(53/113)
حكم الوفاء بنذر الطاعة
الأخ: ج. ر- من المنطقة الشرقية بعث إلينا سؤالا يقول فيه: زوجتي نذرت على نفسها أن تصوم ستة أيام من كل شهر إذا حصل ابنها على الشهادة الابتدائية، وقد حصل على تلك الشهادة منذ سنة تقريبا، وبدأت الصيام من ذلك التاريخ، ولكنها أحست بالندم على ذلك وشعرت بالإرهاق؛ نظرا لانشغالها بتربية أبنائها وشئون بيتها وخصوصا أيام الصيف.
فما رأي فضيلتكم في هذا النذر؟ وهل تستمر في الصوم، أو تستغفر الله وتتوب إليه، علما أنها نذرت أن تصوم ستة أيام شهريا مدى الحياة؟
ج: عليها أن توفي بنذرها؟ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه (1) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه، وقد مدح الله الموفين بالنذر في قوله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (2) . ولا حرج عليها أن تصومها متفرقة إذا كانت لم تنو التتابع، فإن كانت قد نوت التتابع فعليها أن تصومها متتابعة.
ونسأل الله أن يعينها على ذلك، ويعظم أجرها، ونوصيها
__________
(1) أخرجه البخاري في (كتاب الأيمان والنذور) برقم (6696، 6700) .
(2) سورة الإنسان الآية 7(53/114)
وغيرها من المسلمين بألا تعود إلى النذر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل (1) » متفق على صحته. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (9647) ، ومسلم في (كتاب النذر) برقم (1640) .(53/115)
حكم النذر في حالة الغضب
سؤال من أم عايض - الرياض تقول: نذرت في حالة غضب أن أضرب ابني حتى يسيل دمه، ولكني لم أفعل. فماذا علي جزاكم الله خيرا؟
ج: بسم الله، والحمد لله: عليك كفارة يمين؛ لأن هذا الضرب ليس قربة إلى الله، بل هو محل اجتهاد ونظر، فإذا لم تفعلي فعليك كفارة يمين، ولأن ضربه حتى يسيل دمه لا يجوز؛ فيكون والحال ما ذكر من نذر المعصية، ونذر المعصية لا يجوز الوفاء به، وكفارته كفارة يمين وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة مؤمنة، فمن عجز عن الأمور الثلاثة صام ثلاثة أيام، والإطعام يكون نصف صاع من قوت أهل البلد من تمر أو بر أو أرز أو غيرها، ومقداره كيلو جرام ونصف على سبيل التقريب. والله ولي التوفيق.(53/115)
حلف الرجل وهو في حالة قد لا يملك شعوره
س: إذا حلف الرجل ليتم أمرا وهو في حالة قد لا يملك شعوره، هل يلزمه التكفير، وما هو؟
ج: إذا حلف الإنسان على شيء يفعله فلم يفعله لزمته كفارة اليمين، مثل أن يقول: (والله لأكلمن فلانا) أو (والله لأزورنه) أو (والله لأصلين كذا وكذا) ، وما أشبه ذلك، فلم يفعل ما حلف عليه، فإنه يلزمه كفارة اليمين إذا كان عاقلا يعلم ما يقول، أما إذا كان قد اشتد به الغضب وليس في وعيه فاليمين لا تنعقد؛ لأن الوعي لما يقول لا بد منه، فإذا اشتد به الغضب حتى جعله لا يعقل ما يقول ولا يضبط ما يقول فمثل هذا لا كفارة عليه؛ كالمجنون، والمعتوه، والنائم.
وله أن يترك ما حلف عليه إذا رأى المصلحة في ذلك، ويكفر عن يمينه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (1) » متفق على صحته. فلو حلف ألا يزور فلانا ثم رأى أن الأصلح زيارته فإنه يزوره ويكفر عن يمينه، وهكذا ما أشبه ذلك، ولا حرج في تقديم الكفارة أو تأخيرها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في (كتاب الأيمان والنذور) برقم (6622) ، ومسلم في (الأيمان) برقم (1652) ، وأحمد في (مسند البصريين) برقم (20105) .(53/116)
الشرك الأصغر لا يخرج من الملة
س: هل يخرج الشرك الأصغر صاحبه من الملة؟
ج: الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، بل ينقص الإيمان وينافي كمال التوحيد الواجب.
فإذا قرأ الإنسان يرائي، أو تصدق يرائي، أو نحو ذلك، نقص إيمانه وضعف، وأثم على هذا العمل، لكن لا يكفر كفرا أكبر.(53/117)
حكم لعن الأبناء والزوجة
وهل يعد لعنها طلاقا
س: ما حكم من يلعن زوجته أو بعض أبنائه؟ وهل يعد لعن المرأة طلاقا أم لا؟
ج: لعن المرأة لا يجوز، وليس بطلاق لها، بل هي باقية في عصمته، وعليه التوبة إلى الله من ذلك، واستسماحه لها من سبه إياها.
وهكذا لا يجوز لعنه لأبنائه ولا غيرهم من المسلمين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (1) » متفق على صحته، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن
__________
(1) أخرجه البخاري في (الإيمان) برقم (48) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (64) .(53/117)
المؤمن كقتله (1) » خرجه البخاري في صحيحه. وهذان الحديثان الصحيحان يدلان على أن لعن المسلم لأخيه من كبائر الذنوب.
فالواجب الحذر من ذلك وحفظ اللسان من هذه الجريمة الشنيعة. ولا تطلق المرأة بلعنها، بل هي باقية في عصمة زوجها كما تقدم.
__________
(1) أخرجه البخاري في (الأدب) برقم (6047) ، و (الأيمان والنذور) برقم (6653) .(53/118)
حول طريقة ذكر الله عند الصوفية
س: لماذا يهتم الصوفيون بذكر الله فقط دون ذكر صفات الله؟ ولماذا لا يقوم المسلمون بذكر الله فقط ويقومون بذكر الله من خلال كلمة التوحيد وصفات الله؟ والصوفيون يقولون: إن اسم الله يحمل قيمة أكبر، ولكن المسلمين يقولون: بل لا إله إلا الله تحمل القيمة الكبرى.
ج: قد دلت الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الكلام كلمة التوحيد وهي:
لا إله إلا الله، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله (1) » وقال عليه
__________
(1) أخرجه البخاري في (كتاب الإيمان) برقم (9) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (35) واللفظ له.(53/118)
الصلاة والسلام: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر (1) » .
وقد ذكر الله في كتابه العظيم هذه الكلمة في مواضع كثيرة، منها: قوله سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) . وقوله -عز وجل-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (3) .
والمشروع للمسلمين جميعا أن يذكروا الله بهذا اللفظ: لا إله إلا الله، ويضاف إلى ذلك: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كل هذا من الكلام الطيب المشروع.
أما قول الصوفية: الله الله، أو هو هو، فهذا من البدع، ولا يجوز التقيد بذلك؛ لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- فصار بدعة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5) » متفق عليه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في (مسند البصريين) برقم (19601، 19732) ، ومسلم في (كتاب الآداب) برقم (2137) .
(2) سورة آل عمران الآية 18
(3) سورة محمد الآية 19
(4) أخرجه أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (24944) ، ومسلم في (الأقضية) برقم (1718) .
(5) أخرجه البخاري في (كتاب الصلح) برقم (2697) ، ومسلم في (كتاب الأقضية) برقم (1718) .(53/119)
ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فهو رد " أي فهو مردود، ولا يجوز العمل به ولا يقبل، فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتعبدوا بشيء لم يشرعه الله؛ للأحاديث المذكورة، وما جاء في معناها؛ لقول الله سبحانه منكرا على المشركين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) . وفق الله الجميع لما يرضيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21(53/120)
واقع الدعوة والمحاور التي
يجب التركيز عليها من الدعاة
سؤال من: أ. م- من أمريكا يقول: واقع الدعوة الآن كيف تقيمونه؟ وما هي المحاور التي يجب التركيز عليها في ظل المستجدات الحالية في هذا العالم والتحديات المعاصرة؟
ج: في وقتنا الحاضر يسر الله -عز وجل- أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر، وذلك بواسطة طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة، مثلا: عن طريق الإذاعة، وعن طريق التلفزة، وعن طريق الصحافة، وهناك طرق شتى.(53/120)
فالواجب " على أهل العلم والإيمان وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالة الله إلى عباد الله، ولا يخشوا في الله لومة لائم، ولا يحابوا في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله، كما أنزل الله وكما شرع الله.
وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يكون فرض عين، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك، فإنه يكون حينئذ في حقك سنة إذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات، وسابقا إلى الطاعات.
ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1) .
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم تدعو إلى الله وتنشر دينه وتبلغ أمره سبحانه وتعالى.
ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته، وقام الصحابة كذلك -رضي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(53/121)
الله عنهم وأرضاهم- بذلك حسب طاقتهم، ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا -رضي الله عنهم وأرضاهم- كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه.
فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل -كحالنا اليوم- تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها من تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة؟ لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على من سواه.
ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقاتهم، وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم، أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة.
وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام؛ لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل(53/122)
دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم ولم تتيسر في السابق.
كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله -عز وجل-، وأن ينشروا دين الله حسب طاقاتهم، وحسب علمهم. ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة؛ نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله -عز وجل- اليوم أصبحت فرضا عاما وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوها، وألا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلوا على زيد أو عمرو، فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك؛ لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله -عز وجل.
فوجب على أهل الإسلام -الأمراء والعلماء وغيرهم- أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على(53/123)
شتى المستويات، وبجميع الوسائل، وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله. والله ولي التوفيق.(53/124)
حول تربية الأطفال وتعليم الجهال
للشيخ الدكتور: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه ومن سار على نهجه.
أما بعد:
فقد كثر السؤال عن استقدام الخادمات والمربيات والمعلمات، وعملهن داخل البيوت، وفي دور التربية والحضانة وروضات الأطفال، كما كثر تناقل ما تفعله الجمعيات من اليهود والنصارى والمشركين في بلادهم، كما في أمريكا، وبريطانيا، وأستراليا، وكندا، وروسيا، وهولندا، والولايات الأخرى التي تحاول عمل ما يصرف المسلمين عن أصل دينهم، حيث تحتضن الأطفال الذين فقدوا آباءهم أو من يعولهم، وقد جعلت لها مراكز في البلدان النامية، مثل: مصر، والسودان، والسلفادور، وهندوراس، وكينيا، وأوغندا، والفلبين وغيرها. وهكذا الدعاة المنصرون الذين يغزون البلاد الفقيرة، وينتهزون حاجة أهلها وعجزهم، فيفتحون بها مدارس ومعاهد ومستشفيات، ويحرصون على تنشئة الأطفال على أيديهم، ويتصرفون في المناهج العلمية، ويربون أولاد المسلمين كما شاءوا، ويلقنونهم عقائدهم الكفرية، وأديانهم المنحرفة، ولقد(53/125)
نجحوا في كثير من مخططاتهم، وأضلوا أعدادا وأفرادا وجماعات كثيرة من ناشئة المسلمين ذكورا وإناثا. وهكذا ما يفعله الكثير من المسلمين المعجبين- وللأسف- بالكفار وعلومهم، حيث يبعثون أولادهم وفلذات أكبادهم من ذكور وإناث إلى تلك الدول المتقدمة -كما يعبرون- قاصدين منهم التربية والتدريب، وتعلم لغاتهم الراقية في زعمهم؛ فلا تسأل عن آثار ذلك ومفاسده، وأقرب ذلك وأشهره ما تؤثره تربية المستقدمين إلى بلاد المسلمين كالنساء اللاتي يتولين تربية الأطفال وحضانتهم، وكالمدربين والمعلمين في المدارس والمنازل، من أولئك الأعداء الألداء الذين يضمرون العداء للإسلام وأهله، ويحملون مذاهب هدامة، أو كفرا بواحا، أو بدعا منكرة مكفرة أو مفسقة، قد أشربتها قلوبهم.
ولا شك أن كل أولئك على يقين من صحة ما يدينون به وأحقيته، رغم بعد ذلك عن الصواب، ولكنهم تربوا على تلك الأديان منذ الطفولة، وتلقوا عقائدهم الزائفة عمن يثقون بنصحه، ولقنهم آباؤهم ومعلموهم ما يؤكد لهم صحتها وسلامتها، وبطلان ما سواها، فتمسكوا بتلك المذاهب والنحل وعضوا عليها بالنواجذ، وزين لهم الشيطان أن الصواب في جانبهم، وأنهم على عقيدة صحيحة الأصول، قويمة الأدلة، تلقوها عمن يثقون بعلمه ونصحه، فلهذا يندر أن يتخلوا عن معتقداتهم ودياناتهم، وكيف يتحولون عن مذاهب ومعتقدات تقلدوها عن أسلافهم ومشايخهم الذين هم محل ثقة عندهم وإجلال وإكبار، فلا يتصورون أو يخطر ببال أحد منهم أن يصدر خطأ أو ضلال أو انحراف من أفراد علمائهم فضلا عن جماعتهم.(53/126)
ولا شك أن أولئك الوافدين مع رسوخ تلك العقائد في نفوسهم، ومع تمكنهم من إظهارها والدعوة إليها، متى أمنوا الضرر فلا بد أن يحرصوا بكل ما أوتوه من جهد على نشر دياناتهم، وترسيخها في نفوس من يتولون تعليمه محتسبين في ذلك الأجر والثواب، كما قال الله عنهم: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1) .
لكن الدعاة إلى دين الإسلام الصحيح، وعقيدة السلف الصالح، يرجون من الله ما لا يرجو هؤلاء من التعليم أو التربية أو الحضانة.
فلا تسأل عما يقومون به من بث سمومهم، ونفث شرورهم في أذهان من يحتكون بهم، أو يتولون تنشئتهم وتعليمهم، فيتلقن أولئك الأطفال والجهال ما يلقيه عليهم أولئك المربون والمدرسون من عقائد منحرفة، وبدع منكرة، مسلمين بصحتها، محسنين الظن بأساتذتهم ومشايخهم الذين اختارهم أولياء الأمور لهم ليتربوا على أيديهم، فيصعب بعد ذلك تخلي أحدهم عن هذه التوجيهات والتعاليم التي نشأ على استحسانها في صغره، ويخيل إليه أن من خالفها فقد خالف الصواب، ولو كان من آبائه وإخوانه أو المواطنين معه إلا من شاء الله تعالى.
فلا جرم أحببت أن أكتب كلمات حول هذا الموضوع تحت هذه العناوين:
__________
(1) سورة الكهف الآية 104(53/127)
شفقة الآباء ورحمتهم بأولادهم:
لا شك أن الإنسان العاقل يهمه صلاح أولاده واستقامتهم، ويتمنى سلامة فطرهم، ويسره تمسكهم بالحق وسيرهم على الصراط(53/127)
السوي، وتخلقهم بمعالي الأخلاق وفضائل الأعمال، وعملهم بتعاليم الدين الصحيح، ويستاء ويشق عليه متى رآهم منحرفين ضالين قد خالفوا سنة الله تعالى وشرعه، وتنكبوا الطريق السوي، وارتكبوا المآثم وفعلوا الجرائم.
ولقد جبل الله الوالدين على محبة الأولاد والشفقة عليهم والرحمة بهم، وإيثارهم بالمصالح والملذات في هذه الحياة الدنيا، والخوف عليهم من أسباب العطب والهلاك، فقد حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام نداءه لابنه الذي عصى عليه، فقال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} (1) . وبعد أن خرج الابن عن طاعة أبيه وتمرد عليه، لم يغفل عنه بل دعا ربه أن ينجيه بقوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} (2) . فهو يتذكر أن ربه تعالى وعده بنجاة أهله بقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} (3) . فظن أن ابنه من أهله الذين وعد الله بنجاتهم، ولكن الله تعالى عاتبه بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (4) . أي: الذين وعدناك بنجاتهم. فعرف من هذا شفقة الوالد على ولده ولو كان عاصيا له وخارجا عن طواعيته. وهكذا ما حكى الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام- مما يدل على شفقته وخوفه على ولده، ففي مقام الطلب والرجاء لما قال الله تعالى له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (5) .
__________
(1) سورة هود الآية 42
(2) سورة هود الآية 45
(3) سورة هود الآية 40
(4) سورة هود الآية 46
(5) سورة البقرة الآية 124(53/128)
فلم يغفل عن ذريته لما منحه الله هذه الإمامة التي هي جعله قدوة وأسوة لمن بعده من الناس الذين هداهم الله للإسلام، فلما وعده ربه بهذه الإمامة لم يغفل عن ذريته؛ لحرصه على صلاحهم، وأهليتهم لأن يكونوا قدوة للناس في أمر الدين الصحيح. وهكذا حكى الله تعالى عنه دعاءه لربه بقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (1) . فما غفل عن ذريته بل أشركهم مع نفسه في هذه الدعوة الصالحة، بأن يجعله مقيما للصلاة، محافظا عليها، وكذا ذريته؛ لما لها من أثر بليغ في صلاح الذرية واستقامتهم. وكل هذا دليل كمال الشفقة والرقة والرحمة للولد، ورجاء أن يستقيموا على الخير، ويسلكوا الصراط السوي المتمثل في إقامة الصلاة، وما تؤثره من ثمرات وأعمال صالحة.
وهكذا في مقام الخوف، فقد حكى الله تعالى عنه عليه السلام قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (2) . فلم يقتصر في طلب النجاة من الشرك على نفسه، بل أشرك بنيه، فطلب نجاتهم من عبادة الأصنام؛ لما رأى من ضلال الكثير- كأبيه وقومه- بعبادة تلك الأخشاب والأحجار التي ينحتونها، ثم يظلون لها عاكفين، تقليدا لآبائهم وأسلافهم. وهكذا مدح الله تعالى إسماعيل -عليه السلام- بقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} (3) . والأمر منه يستدعي
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 40
(2) سورة إبراهيم الآية 35
(3) سورة مريم الآية 55(53/129)
الطلب والحرص على التطبيق منهم للصلاة التي هي عماد الدين، والتي ذكر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة وهي حق المال.
وقال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (1) إلى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} (2) . فهذا كله من تمام الحرص والشفقة على القريب الأدنى قبل البعيد من أنبياء الله تعالى ورسله، وهم القدوة والأسوة لمن بعدهم، فالأمر لهم يعم كل من دان بدينهم من أتباعهم. وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (3) . عن ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يوقظ أهله لصلاة التهجد بالليل، ويتلو هذه الآية الكريمة. فإن ظاهرها يعم صلاة الفرض والنفل.
ويدخل في الأهل: الأولاد والخدم والزوجات ومن تحت كفالة الإنسان، كما ذكروا ذلك في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (4) . يعني: أنقذوهم وخلصوهم من الكفر والبدع وكبائر الذنوب وصغائرها، مما يسبب العقوبة الأخروية بدخول النار التي وقودها الناس والحجارة. فوقايتهم تستدعي الحرص على تربيتهم، وتهذيب أخلاقهم، وتلقينهم في الصغر ما يعرفون به ربهم ودينهم ونبيهم وما يلزمهم أن يدينوا به في هذه الحياة، وبيان الحسنة
__________
(1) سورة البقرة الآية 132
(2) سورة البقرة الآية 133
(3) سورة طه الآية 132
(4) سورة التحريم الآية 6(53/130)
والسيئة، وأسباب كل منهما. فالوالد والولي الناصح يبذل جهده في تقويم موليه، وفي نصحه وإرشاده، وتحريضه على الخير، وتحذيره من العاقبة السيئة؛ ليكون سببا في نجاته وفلاحه، كما أن الله تعالى قذف في قلبه الرحمة التي تستجلب الرقة والشفقة في الدنيا، فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الحسن، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إنه من لا يرحم لا يرحم (1) » ، «وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قدم ناس من الأعراب فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ لكنا والله ما نقبل. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أو أملك أن كان الله نزع منكم الرحمة " وفي لفظ: " أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة (2) » ، وفي «حديث أسامة بن زيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رفع إليه ابن بنته، ونفسه تقعقع، ففاضت عيناه -صلى الله عليه وسلم- وقال: " هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (3) » فهذه الرحمة التي جعلها الله تعالى في قلوب الآباء يكون من آثارها الشفقة عليهم، والحرص على إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، سيما وقت الطفولية والحاجة، وتستمر حتى الموت غالبا. فمتى كان يحب لهم الصحة والسلامة والبعد عن العطب والضرر فإن عليه أن يحرص على تقويم أولاده وتهذيب أخلاقهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في الدار الآخرة ويوصلهم إلى رضوان ربهم سبحانه وتعالى.
__________
(1) رواه البخاري في الأدب برقم 5997 ومسلم في الفضائل برقم 2318.
(2) رواه البخاري في الأدب برقم 5998 ومسلم في الفضائل برقم 2317.
(3) رواه البخاري في الجنائز برقم 1284 ومسلم في الجنائز برقم 923.(53/131)
ما ورد في الأولاد وتأثيرهم على الآباء:
يشاهد أن الرجل متى رزق أولادا من ذكور أو إناث فإنه ينشغل بشأنهم، ويهتم بتحصيل الرزق، ويسعى في جمع المال، ويكدح ويشقى في الطلب والتكسب، وينشغل بذلك عن التعلم والتفقه، ويؤثر البقاء والمقام معهم أو بقربهم، ولو فاتته الفضائل والأعمال الصالحة، فقد روى الترمذي عن عمر بن عبد العزيز قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم قالت: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول: «إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله (1) » قال الترمذي: " لا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا من خولة " أي: فهو منقطع، لكن عمر جزم به، وقد لقي في المدينة من روى عن خولة يقينا، ومعناه أن محبة الولد تحمل أباه على البخل بالمال، والحرص على جمعه؛ ليخلفه لولده، أو لينفقه عليه في حياته، وكذا على الجبن الذي هو ضد الشجاعة، فلا يخرج للجهاد خوفا من القتل وضياع أولاده، فإن خرج لم يكن معه الجرأة على الإقدام، وكذا على الجهل لإكبابه على التكسب، والانشغال بالتجارات أو الحرف، أو الأعمال التي يتحصل منها على المال، فيبقى على جهله، ويفوته التعلم والتفقه في الدين. وقوله: «وإنكم لمن ريحان الله (2) » أي: كالريحان الذي هو طيب الريح؛ لأنهم يشمون ويقبلون، فكأنهم من جملة الرياحين، فقد روى الترمذي «عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو الحسن والحسين
__________
(1) هو في سننه كما في تحفة الأحوذي 6 \ 37 باب ما جاء في حب الوالد لولده.
(2) سنن الترمذي كتاب البر والصلة (1910) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) .(53/132)
فيشمهما ويضمهما إليه (1) » ، وروى الطبراني في الأوسط عن أبي أيوب قال: «دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسن والحسين يلعبان بين يديه، فقلت: أتحبهما يا رسول الله؟ قال: وكيف لا وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما (2) » ، وروى البزار عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الولد ثمرة القلب، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة (3) » ، وروى أيضا عن الأسود بن خلف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ حسنا فقبله فقال: «إن الولد مبخلة مجهلة مجبنة (4) » ، وروى الإمام أحمد «عن الأشعث بن قيس قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " هل لك من ولد؟ " قلت: غلام ولد لي في مخرجي إليك، ولوددت أن مكانه شبع القوم. قال: " لا تقولن ذلك، فإن فيهم قرة عين، وأجرا إذا قبضوا، ثم إنهم لمجبنة محزنة، إنهم لمجبنة محزنة (5) » ، «وعن يعلى بن مرة الثقفي قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فضمهما إليه، وقال: " إن الولد مبخلة مجبنة (6) » فهذه
__________
(1) كما في التحفة 10 \ 276 في مناقب الحسن والحسين.
(2) ذكره الهيثمي في الفضائل من مجمع الزوائد 9 \ 181 وفيه ضعف.
(3) كما في كشف الأستار برقم 1892 وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.
(4) هو في كشف الأستار برقم 1891 قال في مجمع الزوائد 8 \ 155: ''ورجاله ثقات ''.
(5) هو في المسند 5 \ 211 وفي سنده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، ويشهد له ما قبله من الأحاديث.
(6) رواه ابن ماجه برقم 3666 وفي إسناده سعيد بن أبي راشد وثقه ابن حبان قال البوصيري في الزوائد 4 \ 99: '' هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ''. وكذا صححه الحاكم 3 \ 164 وأقره الذهبي.(53/133)
الأحاديث وما في معناها تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نبه الأمة على ما هو أمر طبيعي واقعي من أن الآباء في الغالب يتصفون بالجبن والبخل؛ لتأثير محبة الولد، والشفقة عليه، فإذا كانت محبة الولد ركيزة في القلب، وظهر أثرها في العمل، بشدة الطلب والجمع والتكسب، ثم الإمساك والتقتير على النفس وعلى الأهل والضيف، والتوقف عن الإنفاق في وجوه الخير، فإن من الواجب والمؤكد أن يعنى الوالد بولده في التهذيب والسعي في الإصلاح، والتعهد في الصغر وبعد الكبر؛ ليكون قرة عين لأبويه، وتثمر التربية الصالحة بالاستقامة والبعد عن الانحراف والزيغ.(53/134)
أسباب كثرة الانحراف في الشباب:
المشاهد في هذه الأزمنة وقوع انحراف الكثير من الشباب عن الاستقامة، وانهماكهم في الفساد، وانغماسهم في الشهوات التي أردت بالكثير منهم، وجلبت لهم الشرور والأضرار، فعاثوا في الأرض فسادا، وأضاعوا الصلوات، وتعاطوا المسكرات والمخدرات، ولذلك أسباب ومغريات (منها) الإهمال من الآباء والأولياء، فإن أغلب الآباء- هداهم الله- منشغلون عن أولادهم، فأحدهم يذهب إلى وظيفته أو مقر عمله كل صباح، ويرجع آخر النهار، وقد لا يرجع إلى منزله حتى يؤويه المبيت، فيتقلص النهار وهو في تقليب تجارته أو حرفته وصناعته، أو في زياراته واتصالاته بأصدقائه ورفقائه، فلا يبقى لأهله إلا أقل الوقت وآخره، فهو لا يتفرغ لأهله، ولا يتفقد أعمال ولده، ولا يحدث نفسه بما يحصل لهم من بعده، فإما أن يكل تربيتهم إلى الخدم والمعلمين، وإما أن(53/134)
يهملهم ويترك لهم الحبل على الغارب، بحيث يتمكنون من الذهاب والتقلب كيف شاءوا، والاختلاط بأهل الفساد والمعاصي ممن يزين لهم الوقوع في المسكرات، وتعاطي المخدرات، وشرب الدخان، وسماع الأغاني، والعكوف على النظر إلى الصور الخليعة، والإكباب على الأفلام الهابطة، والتمثيلات الماجنة، فتفسد أخلاقهم، وتنحرف طباعهم، فتثقل عليهم الصلوات، ويستصعبون حضور الجماعات، ويهون عليهم أمر جميع العبادات، ويعتادون غشيان المحرمات، وينهمكون في الفساد، وينغمسون في اقتراف الفواحش والمنكرات، فلا ينتبه ولي أحدهم إلا بعد أن تتمكن من ولده تلك العادات السيئة، وتصبح ركيزة في نفسه، يندر أن يقلع عنها مهما بذل والده من النصح والتوجيه، والتحذير والتخويف والتهديد، ومهما فعل من الضرب والحبس والتعزير، فيندم الأب ولات حين مندم، ويعض كفه على ما فرط منه من الغفلة والإهمال.
مع أن الكثير من الآباء وأولياء الأمور قد يغفلون عن أولادهم، وينشغلون بحرفهم وأعمالهم، فيصلح أولادهم، وتتولاهم عناية الله، ويحفظهم ربهم عن الأخطار والأضرار: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) .
كما أن من أسباب هذا الانحراف في الشباب سوء التربية، فإن الكثير من الآباء قد يتنزل على رغبة أهله وولده عندما يتضجرون أمامه، ويشتكون الفراغ والتحجر والتضييق، ويطلبون منه ما يسليهم ويفرج عنهم الهموم والأحزان، ويشغلهم عن التفكير والتعقيد والانزواء، فيرغبون إليه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 178(53/135)
في جلب ما يرفهون به عن أنفسهم بزعمهم، ويجلب لهم الفرح والانبساط، ويضربون له الأمثال بفلان وآل فلان، فينخدع بتعليلاتهم، ويحزنه بكاؤهم وشكاياتهم، فيلبي طلباتهم، ويبذل لهم ماله رخيصا، فيجلب لهم ما يفسد أخلاقهم، وما يصدهم به عن سواء السبيل، من آلات اللهو واللعب وأجهزة الأغاني وأشرطة الفيديو والكاسيت، ومن الصحف والمجلات الفاسدة.
ولا تسأل عما في طياتها من خلاعة ومجون ودعارة وفساد، وما تزرعه في نفوس الأولاد والأهل ذكورا وإناثا من ميل إلى الدعة والخمول، والانقطاع عن الأعمال، ومن اندفاع إلى اقتراف الفواحش، وارتكاب المحرمات التي تمثلها لهم تلك الأفلام والأشرطة والصور الفاتنة، حيثما يشاهدون فيها الصورة الفاتنة، والمرأة المتبرجة شبه العارية، وصور الشباب أمام النساء، وما بها من حلق اللحى، وشرب الدخان.
ولا تسأل عن تأثير هذه المرئيات والمسموعات في قلوب الشباب، على غفلة من الأب أو الولي، زاعما أن هذا من باب التسلية والترفيه، وتنشيط النفوس، وإزالة السآمة والملل، ونحو ذلك من الأعذار الباردة، ولم يشعر أن الذين نشروا هذه الملاهي، وصوروا هذه الأفلام في هذه الآلات والأجهزة، لهم أهداف سيئة زائدة على هدف الاستغلال، واكتساح الأموال، فإنهم قد عرفوا أن المسلمين من العرب وغيرهم ذكورا وإناثا عندهم من الفهم والإدراك، وقوة الذاكرة ما يمكنهم من معرفة الصناعات، والقدرة على الاختراع، والإنتاج الفكري والعملي، بحيث يستغني المسلمون عما يستوردونه من إنتاج أولئك الكفرة من الصناعات والأجهزة(53/136)
والأدوات. . . إلخ، فتكسد سلعهم، أو يقل من يحتاج إليها، مما يضعف اقتصادهم، ويقلل من الاحتياج إلى إنتاجهم، فلعل هذا من أشهر مقاصدهم، فانشغل به شباب المسلمين والعرب، وصيروه شغلهم الشاغل، فضاعت أعمارهم فيما لا أهمية له، أو فيما فيه هلاكهم المعنوي وهم لا يشعرون.
كما أن من أسباب الانحراف كثرة المفسدين ودعاة الضلال الذين وقعوا في شباك الردى، وتمكن منهم الفساد، فأحبوا أن يغروا جلساءهم وزملاءهم، ويوقعوهم فيما وقعوا فيه ولم يستطيعوا التخلص منه، وهدفهم أن يكثر أشباههم، ويتمكنوا من الظهور، ويقل الإنكار عليهم، ويحتجوا على من أنكر عليهم بفعل الآخرين، فكثيرا ما ننصح بعض الشباب عن شرب الدخان، وحلق اللحية، وسماع الغناء، فيقول: الناس مثلي كثير؛ أما رأيت غيري، هذا شيء موجود في العالم، ألا ينكره غيرك؟! ونحو ذلك.
مع أنهم عند التحقيق يعرفون خطأهم، وفساد ما اقترفوه، ولكن لما تمكن ذلك منهم، وسيطرت تلك العادات عليهم، واستولى عليهم خلطاؤهم وزملاؤهم، وتحكمت فيهم تلك الأفعال السيئة، لم يجدوا بدا من أن يبرروا موقفهم بأن لهم قدوة، وأن الناس سواهم كثير.
ونحن ننصح أولياء الأمور عن الإهمال والإضاعة لأولادهم وفلذات أكبادهم، ونقول: إن الواجب على الأب وولي الأمر أن يتفقد جلساء ولده، ويتحقق من صلاحهم واستقامتهم، ومتى كانوا أفاضل وعبادا أتقياء، من خيرة الشباب وأهل الالتزام والعمل الصالح، أوصاه بملازمتهم، وحضه على مجالستهم، وعلى الاقتداء(53/137)
بهم، ومنافستهم ومسابقتهم إلى الخيرات وإلى حلقات العلم والمذاكرة والقراءة، والحرص على الاستفادة، وإن كان جلساؤه من أهل السفه واللهو، وإضاعة الوقت، وأهل الضحك والمزاح، فإن عليه أن ينصحه بالبعد عنهم، ويحذره من الجلوس معهم، حرصا على الاستفادة من الزمان، وعلى حفظ الأعمار فيما يعود على الإنسان بالمصلحة في دينه ودنياه.
أما إن كانوا من أهل الفساد والخنا، وعمل الفواحش وفعل المنكرات، والانهماك في المحرمات، فإن صحبتهم تردي بمن صحبهم.
وقد نهى الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن مجالسة مثل هؤلاء بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) . والأمر لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكل فرد من أفراد أمته.
والخوض في آيات الله تعالى يعم من يستهزئ بها، أو يكذب بها، أو يطعن في صحتها، أو يعيب أهلها، ويدخل في الآيات كلام الله تعالى وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحكام الشرع، والحلال والحرام، فكل من خاضوا في ذلك بالباطل حرم الجلوس معهم، ولو كانوا من المتسمين بالإسلام، فمن جلس معهم غافلا عن الحكم ثم تذكر، أو بدءوا بكلام مباح ثم انتقلوا إلى الخوض المنهي عنه، فإن عليه المبادرة بالقيام عنهم إن لم يتأثروا بالنصح، ولم يقبلوا المعروف، وقد نبه الله تعالى المؤمنين على هذا الحكم، وأكده مرة أخرى بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة النساء الآية 140(53/138)
وهذا وعيد شديد، وتهديد أكيد، لمن جلس مع الخائضين في آيات الله، والمستهزئين بها، حيث اعتبر من جلس معهم مثلهم، أي لإقراره وسكوته مع تمكنه من الإنكار، أو من مبارحة المكان، والبعد عن أولئك المستهزئين.
ولقد مدح الله تعالى عباده المؤمنين به حقا، الذين وعدهم بمضاعفة الأجر بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (1) . وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) .
ويدخل في اللغو الخوض في آيات الله بالباطل والسخرية بالأحكام، والتكذيب بالآيات، والطعن في القرآن ونحو ذلك، فكله من اللغو المنهي عنه، فمتى اشتملت المجالس على مثل ذلك، فإن العاقل الذي يريد نجاة نفسه يتركها، ويربأ بنفسه عن مجالسة أهلها، حتى لا يعلق به شيء من وضرهم ودنسهم، فيصعب التخلص منه.
وقد أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة أهل الصلاح والإصلاح، والتمسك بالدين الصحيح، والمؤمنين بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وذلك في مثل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (3) . وهؤلاء هم الذين أسلموا قديما، وفارقوا الكفار، وقاطعوهم، فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يصبر نفسه معهم، ولا ينظر إلى غيرهم نظرة إكبار
__________
(1) سورة القصص الآية 55
(2) سورة الفرقان الآية 72
(3) سورة الكهف الآية 28(53/139)
وإجلال.
وقد روي أن المشركين طلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين وفقراءهم، من المماليك والموالي والحلفاء الذين أسلموا معه، وذكروا أنهم يأنفون عن مجالستهم، فهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بطردهم طمعا في إسلام أولئك الأكابر من المشركين ليسلم غيرهم، ولكن الله تعالى نهاه عن طرد أولئك المؤمنين بقوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (1) إلى قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) وفي هذا ترغيب في مجالسة الصالحين، والقرب منهم، والاستفادة من علومهم وأعمالهم، وفي ضمن ذلك التحذير من مجالسة الأشرار والمفسدين، وأهل الغي والضلال.
ولقد وردت السنة النبوية في التحذير من جلساء السوء، والترغيب في صحبة الأخيار والصالحين، والقرب منهم، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (3) » متفق عليه عن أبي موسى. وروى أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ومثل جليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه (4) » قال
__________
(1) سورة الأنعام الآية 52
(2) سورة الأنعام الآية 52
(3) هو في صحيح البخاري برقم 2101، 5534 ومسلم برقم 2628 ورواه بقية الجماعة.
(4) هو في سنن أبي داود برقم 4829 وإسناده صحيح.(53/140)
النووي في شرح مسلم: " وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجوره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة " (1) اهـ.
والتمثيل واقعي فالجليس الصالح إما أن يفيدك بفوائد علمية، أو يدلك على خير، وإما أن يحذرك من الشرور، أو على الأقل يكون قدوة حسنة في قوله وفعله. أما الجليس السوء فهو إما أن يغويك ويوقعك في الردى، وإما أن يكسلك عن الطاعات، وإما أن يكون قدوة سيئة في أفعاله وكلماته.
وقد روى أبو سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي (2) » قال في تحفة الأحوذي: " المراد منه النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مضرة في الدين. " ولا يأكل طعامك إلا تقي " أي: متورع يصرف قوة الطعام إلى عبادة الله " (3) اهـ.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل (4) » والخليل هو الصديق المصاحب، يعني أن الغالب على الإنسان الاقتداء بأصدقائه وجلسائه، فهو يقتدي
__________
(1) انظر شرح النووي على مسلم 16 \ 178.
(2) رواه أبو داود في الأدب برقم 4832، والترمذي برقم 2397 وإسناده حسن. ورواه أحمد 3 \ 38، والحاكم 4 \ 128 وصححه ووافقه الذهبي.
(3) انظر تحفة الأحوذي على الترمذي 6 \ 76 للمباركفوري.
(4) رواه أبو داود برقم 4833، والترمذي برقم 2379، والحاكم 4 \ 171 وإسناده حسن، وصححه الحاكم والذهبي.(53/141)
بهم ويحتذي حذوهم، فإن كانوا صالحين سعد بهم في الدنيا والآخرة، وجمعه الله بهم في دار كرامته، وإن كانوا أشقياء أثروا فيه، وأردوه وأوقعوه في الشقاء، فيندم في الآخرة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} (1) {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلا} (2) . هكذا حكى الله عن هذا الظالم أسفه على خلة فلان الذي أضله عن الذكر، وصده عنه، وزين له الكفر والفسوق والمعاصي، وقد قال تعالى عنهم وهم في العذاب: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (3) {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (4) . أي لا يخفف عنهم اجتماعهم في العذاب، بل تنقلب تلك الصداقة والمحبة عداوة وبغضا، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (5) .
والأخلاء هم الأصدقاء في الدنيا. وقال ابن عبد القوي:
وصاحب إذا صاحبت كل موفق ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
__________
(1) سورة الفرقان الآية 27
(2) سورة الفرقان الآية 28
(3) سورة الزخرف الآية 38
(4) سورة الزخرف الآية 39
(5) سورة الزخرف الآية 67(53/142)
وهذا أمر مشاهد، فيعرف كل إنسان بجلسائه، ومما يروى عن علي:
فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ماشاه
وللشيء على الشيء ... مقاييس وأشباه
وفي القصيدة المعروفة بالزينبية قوله:
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
وكلام العلماء في اختيار الصحبة كثير، وفيما ذكرنا كفاية.(53/143)
أهمية الوقت والحرص على استغلاله فيما يفيد:
لما كان كثير من الآباء يشغل أولاده بما يذهب عليهم الزمان؛ لطول الفراغ، والاحتياج إلى الانشغال فيه بما يخففه -في زعمه- أحببنا أن نشير هنا إلى أهمية الوقت، وأفضل ما ينشغل المرء فيه. فإن الوقت الذي هو الليل والنهار هو كرأس مال الإنسان في التجارة، يحافظ عليه العاقل، ويتحفظ في تصرفه أن يذهب إن أساء العمل، أو(53/143)
ينقص فيخسر ويندم. فهكذا عمره في هذه الحياة هو الذي يربح إذا استغله في الخير والعلم والعمل الصالح، ويخسر في ضد ذلك، فيجب على العاقل أن يهتم بشغل فراغه فيما يعود عليه بالفائدة العائدة عليه بالخير في دنياه وأخراه، متذكرا أنه مسئول ومحاسب عن زمانه، كما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع- أو عن خمس- عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به (1) » .
فقد ذكر من هذه الخصال العمر كله، وخص الشباب مع أنه من جملة العمر، وذلك أن عادة الشباب ميلهم إلى اللهو واللعب والبطالة وإضاعة الوقت، ومن لم يكن منهم كذلك فهو محل غرابة وعجب، حيث مال عن ما يقتضيه الصبا والجهل، ولهذا ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رفعه: «عجب ربك من الشاب ليست له صبوة (2) » فمتى ترك الشاب هواه وما يتمناه فإن نفسه تميل عادة إلى اللهو واللعب والمرح والبطالة، فمتى مكنه وليه من مراده فإنه ينهمك في ذلك، ويغفل عن مصالحه العاجلة والآجلة، وينغمس في دحض الباطل والفساد حتى يتمكن ذلك من نفسه، ولا يشعر بالخسران المبين حتى يعقل ويتفكر ويحتاج إلى نفسه، فحينئذ يبلغ منه الأسف
__________
(1) رواه الترمذي في أول أبواب القيامة عن أبي برزة الأسلمي برقم 2419، وعن ابن مسعود برقم 2418 وصحح حديث أبي برزة. وحديث ابن مسعود حسن، وشاهده ما قبله.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 4 \ 151، وابن عدي في الكامل 4 \ 465 وفيه ضعف.(53/144)
والندم مبلغه، وقد فات الأوان.
ولا شك أن العاقل يجب عليه أن يستحضر نهايته، ويفكر في مستقبله، ويتذكر عاقبة أمره، فيستغل زمانه في كل شيء يعود عليه بالمصلحة في دينه ودنياه، ولا يفرط في لحظة من لحظات عمره بإضاعتها فيما لا فائدة فيه، متذكرا قول الله تعالى مخاطبا لأهل النار: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (1) . فقد ذكرهم ربهم تعالى بأنه عمرهم أي: مد لهم في الأعمار، بحيث يتمكنون من التذكر والتفكر في عاقبة أمرهم ونهايتهم، فيعملون ما فيه نجاتهم من العذاب والنكال، ويشغلون أوقاتهم بما يعود عليهم بالفائدة والخير في دنياهم وأخراهم.
ولا شك أن كل يوم يمر بالإنسان فإنه يقربه إلى الآخرة، ويدنيه من أجله، وأن كل ليل أو نهار يطوى على ما فيه من خير أو شر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (2) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (3) .
ولقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالعمل في وقت فراغه بقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} (4) . أي: فاعمل في ساعة تتفرغ فيها ما تستفيد منه لآخرتك، وبهذا يعرف أن ليس هناك وقت يسمى فراغا، بل كل ساعة أو جزء منها لا يكون عند الإنسان فيه عمل فسوف يجد ما يعمله فيه، ولو بالذكر والتلاوة والعلم والعمل.
فالعاقل يبخل بعمره أن يضيع منه شيء سبهللا، دون أن يستفيد من كل ساعة تمر به، حتى لا يخسر جزءا من حياته، مستحضرا قول
__________
(1) سورة فاطر الآية 37
(2) سورة الزلزلة الآية 7
(3) سورة الزلزلة الآية 8
(4) سورة الشرح الآية 7(53/145)
الشاعر (1) :
أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وبهذا يعرف خسران الكثير من أكابر وأصاغر يظهرون الملل من طول الوقت، ويقبلون على اللعب بما يسمى البلوت، ونحوه من الملاهي، أو على ما يعرضونه من أفلام خليعة تحوي صورا ماجنة، وقصصا خيالية، تشغل الأفكار، وتضيع الأعمار، وكان الأولى أن يضنوا بتلك الساعات الثمينة، ويشغلوها في تلاوة القرآن، أو مذاكرة في حديث أو فقه، أو أدب أو تاريخ فيه عبرة، أو تعلم وتعليم، أو أذكار وعبادات، ونصائح وإرشادات، أو عرض لمواضيع تهم المجتمع، وسعي في نفع المسلمين، فإن الكثير من أولئك الذين يظهرون الملل والسآمة من طول الوقت وكثرة الفراغ، ويعملون أعمالا وألعابا يستفرغون بها زمانهم، لو تعلموا فيه أحكام دينهم، أو تدبروا وقرءوا كتاب ربهم، أو تفقهوا في دينهم، لاستفادوا من فراغهم فائدة كبرى، فإن الغالب عليهم الجهل المركب، فلو سألتهم عن معنى آية أو حديث فقهي، أو تفسير غريب، أو محتوى كتاب مشهور لما أجابوا بقليل ولا بكثير.
فما أخسر صفقة من أضاع وقته الثمين وعمره الطويل في غير فائدة دينية أو دنيوية.
وأخسر منه من شغل عمره المديد في ضد الطاعة، من عكوف على الملاهي، وسماع للأغاني، وإنصات لقصص وأضحوكات، وتماثيل خيالية،
__________
(1) ارجع إلى ما ذكره ابن رجب -رحمه الله- في أول كتابه (لطائف المعارف) حيث توسع في هذا المعنى.(53/146)
نسجتها أيدي الأعداء الألداء، لهدف إضاعة الأوقات، واستفراغ الأعمار باسم التسلية والترفية عن النفس، ترفيها بريئا كما يعبرون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 227(53/147)
مسئولية الآباء وأولياء الأمور:
لقد ثبت في الصحيح قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته (1) » الحديث. فرعاية الرجل لأهل بيته هي سياسته لأمرهم، وإيصالهم حقوقهم الواجبة، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح هذا الحديث (2) : وجاء من حديث أنس «فأعدوا للمسألة جوابا» وسنده حسن، ولابن عدي بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ ذلك أم ضيعه (3) » وقد روى الترمذي (4) حديث ابن عمر، وأشار إلى ما في الباب من حديث أبي موسى وأنس، ثم ذكر أسانيدها، ورجح فيها الإرسال.
وبالجملة فالحديث صحيح عن ابن عمر وغيره، ومعلوم أن الرعاية تستلزم الأمانة، والاجتهاد في حفظ الرعية، والنظر في المصالح، والإبعاد عن أسباب الضرر والهلاك، فإذا شعر
__________
(1) رواه البخاري في مواضع أولها رقم 893 عن ابن عمر، وأخرجه بقية الجماعة.
(2) انظر الفتح 13 \ 113 حيث شرح الحديث هناك.
(3) كما في الكامل 1 \ 307.
(4) كما في تحفة الأحوذي 5 \ 361 في الجهاد، باب ما جاء في الإمام.(53/147)
العبد بأنه مسترعى على أهل بيته، فإنه يحرص على من استرعاه الله إياهم، ويبذل جهده في إصلاحهم، وجلب الخير لهم، وحراستهم عن الشرور والأضرار وأسباب الهلاك والتردي، فلا بد أن يعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.
كما أن العاقل يعلم أن مصلحته في حماية الرعية التي تحت يده، حيث إن صلاحهم واستقامتهم يجلب له السعادة، والحياة الطيبة، وقرة العين عندما يرى ثمرة عنايته قد أينعت وأسفرت عن ذرية صالحة، تبر بالوالد، وتحنو على الولد، وتطيع الله تعالى، وتعمل الأسباب في النجاة من عذابه. فإن أصل الرعاية في رعي بهيمة الأنعام أي: إسامتها، كما قال تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (1) . وقال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} (2) .
فرعاة الدواب المأمونون الناصحون يلاحظونها، ويقصدون بها الأماكن المعشبة، ويراقبونها بنظرهم، ويحفظونها عن السباع واللصوص والضياع، فمتى فرط الراعي في الحفظ والانتباه فإنه مسئول عما ند منها وملزم بالضمان، وقد قال الشاعر (3) :
ومن رعى غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
وهكذا يكون أولياء الأمور متى فرط أحدهم، وأهمل أولاده، وغفل عن مصلحة رعيته، فإنه يعتبر ملوما وسوف يحاسب على
__________
(1) سورة النحل الآية 10
(2) سورة طه الآية 54
(3) هو أبو مسلم الخراساني، كما في ترجمته في سير أعلام النبلاء 6 / 53، وتاريخ بغداد 10 \ 208.(53/148)
تفريطه، ويندم على إهماله، وبطريق الأولى من أفسد رعيته، ورباهم على سماع الفحشاء والمنكر، وجلب لهم الأجهزة التي تفسد أخلاقهم، وتقضي على معنوياتهم، فإنه مسئول عن إفسادهم وسيندم حين لا ينفع الندم.(53/149)
القدوة الحسنة والقدوة السيئة:
المعتاد والغالب أن الأبناء والذرية يقتدون بالآباء والمربين والمعلمين، كما حكى الله ذلك عن أهل الجاهلية في مثل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} (1) {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (2) . وقال تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (3) . وقال تعالى عن قوم إبراهيم: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (4) . وقال تعالى عن قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (5) . وغير ذلك من الآيات.
فالآباء قدوة حسنة أو سيئة لأولادهم، والاقتداء هو التقليد والاتباع، والتمسك بما عليه الأسلاف من عقيدة أو عمل. فالمعتاد أن الأبناء يحسنون الظن بآبائهم، ويتمسكون بما كانوا عليه، ويعتقدونه سفينة النجاة، ففي قصة موت أبي طالب لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قل: لا إله إلا الله. كلمة أحاج لك بها عند الله (6) » قال له الحاضرون من المشركين: أترغب عن
__________
(1) سورة الصافات الآية 69
(2) سورة الصافات الآية 70
(3) سورة الزخرف الآية 23
(4) سورة الشعراء الآية 74
(5) سورة الأعراف الآية 70
(6) أخرجه البخاري في الجنائز برقم 1360 وفي تفسير التوبة، ورواه مسلم في الإيمان برقم 39.(53/149)
ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
وقد قال عن قوم نوح: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (1) . وذلك دليل شدة تمسك الخلف بسنة من سبقهم، وتصلبهم في ما تلقوه عنهم، كما قال عن المشركين: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} (2) .
ثم إن هناك أخص من التقليد في العقائد ألا وهو تأسي الذرية والأطفال بما عليه المربون وأولياء الأمور، واتباعهم في أفعالهم وأقوالهم، دون تفكير في الحسن والقبيح، والضار والنافع، والخير والشر، فمتى كان المربي أو الولي مستقيما متبعا للحق، فإن من تحت يده غالبا يقتدون به، فتراهم يحافظون على الصلوات في الجماعة، ويتقربون بالنوافل، ويسابقون إلى المساجد، ويواظبون على الأذكار والأدعية عقب الصلوات المكتوبة، ويكثرون من ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وتدبره، ويحبون الخير وأهله، مقتدين في ذلك بمن يربيهم ويعلمهم، ويرون أن ذلك هو سبيل النجاة، وإن لم يكن الولي أو المربي يعلمهم ويلقنهم هذه الفضائل والفوائد، فأما إن أضاف إلى أفعاله الحسنة النصح والإرشاد، وتوجيه من تحت يده، وترغيبهم في فعل الخيرات، وحثهم على الإكثار من القربات، فحدث ولا حرج عن تأثرهم وتقبلهم وتلقيهم لنصائحه وإرشاداته، واطمئنانهم إلى صحة ما
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 24
(2) سورة سبأ الآية 43(53/150)
يهديهم إلى فعله، وتطبيقهم لكل صغيرة وكبيرة يدعوهم إليها غالبا.
وبضد ذلك نرى أن الآباء وأولياء الأمور والمربين والمعلمين متى كانوا منحرفين زائغين، ظهر الفساد غالبا فيمن تحت أيديهم من الأطفال والذراري، فينشئون على استعمال السباب والشتم واللعن والقذف والعيب والثلب وسيئ المقال أو على الوقاحة والرذالة والرعونة والجفاء وخشونة الطباع، أو على الانحراف في الأخلاق والطبائع، أو على الحسد والظلم والكذب والخيانة والسرقة والاختلاس والفجور وقول الزور، أو على المعاصي الظاهرة ولو كانت منكرة في العقل والفطرة، فتراهم يقلدون أكابرهم ومشايخهم في شرب الدخان، وحلق اللحى، وتعاطي المسكرات والمخدرات، والعكوف على سماع الأغاني والملاهي، والنظر في الصور الفاتنة، والصحف الماجنة، والأفلام الهابطة، ونحو ذلك.
ولا شك أن إظهار أمثال هذه المعاصي أمام النشء الصغير غير المميز، مما يدفعه إلى التلوث بها، أو ببعضها، سواء تهاون والده به بادئ ذي بدء أو حذر منها، فإذا أعلن فعلها أمام الأطفال والجهال، حتى نشبوا في تلك الحبائل، ثم حاول تخليصهم وإنقاذهم منها تعب في ذلك ولم يستطع، فيندم حين لا ينفع الندم. فلا تسأل عما يحدث من جراء التخلق بمثل هذه الأخلاق الرذيلة، حيث يتحلى الولد بالعقوق والعصيان، والمخالفة الظاهرة لولي أمره، ويصبح كلا على أبويه، يذيقهما مرارة الحياة، ويجرعهما غصص الأذى، حيثما لم يترب على معرفة حق الله تعالى، وما أمر به في حق الأبوين، وإنما يسعى في نيل شهوته البهيمية، واتباع غريزته الدنية، ونيل ما يهواه، دون مبالاة(53/151)
بحل أو حرمة أو حق لله أو للوالدين، حيث لا يعرف من العلم والدين ما يردعه أو يمنعه عن العبث بحق ربه وأهله، كما يعبث الطفل بلعبته.
ولقد كثر هذا الضرب في شباب المسلمين، فتراهم يتسكعون في الأسواق والطرق، يعاكسون، ويمارسون المنكر، وتجدهم طوال الليل على الأرصفة وأطراف الطرق المتطرفة، وفي الصحاري وخارج المدن، يلعبون ويمرحون، ونرى أحدهم في جلسائه وقد أشعل سيجارته، وتفيهق في مشيته، وتحلى كما تتحلى الإناث بالتختم بالذهب أو الضيق من اللباس، مما يسبب التأنث والانحراف عن شيم الرجال وشهامتهم، فنهاية أحد أولئك الكسل والبطالة، فتراه عاطلا خاملا، فلا نجاح في الدراسة، ولا لزوم لعمل مفيد، ولا حرفة ولا صناعة، حتى إن الكثير من آبائهم يتمنون لهم الموت سريعا.
وكم حاول بعض الأولياء القضاء على هؤلاء- ولو كانوا أبناءهم- وإعدامهم من الوجود؟ لما يلاقونه من الأذى وسوء المقال، وتكبد الخسارة، وإنفاق الأموال الطائلة عليهم، وهذا هو نتيجة الإهمال في زمن الإمهال، أو هو أثر التربية السيئة، والتنشئة على اللهو والباطل، حتى تمكن فيهم الفساد، فحاول الولي إقامتهم ولات حين مناص.(53/152)
حكم تربية الكفار لأولاد المسلمين:
لقد قرأت سابقا ما نشر في جريدة الرياض عدد (5277) وتاريخ 2 \ 2 \ 1403 هـ تحت عنوان (هل تصح كفالة المسيحي للمسلم) بقلم عبد الله السباك، الذي ذكر أنه اتفق صدفة بخواجة أسترالي، وعلم بواسطته أن هناك جمعيات في بلاد النصارى،(53/152)
كبريطانيا وأستراليا وهولندا وكندا والولايات المتحدة، وأن تلك الجمعيات تعمل ما يكون صرفا لأولاد المسلمين عن دين الإسلام، وذلك بكفالة الأطفال الذين فقدوا آباءهم ومن يعولهم، وأنها جعلت لها مراكز في البلدان النامية. . . إلخ.
وأنا أجيب على عنوان المقالة الذي جاء بالاستفهام عن حكم كفالة المسيحي للمسلم، فأقول: لا يجوز شرعا تمكين الكفار من الولاية على المسلمين، فإن ديننا الحنيف قد جاء بالتفريق بين الأقارب لأجل الإسلام، نهى عن موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان من الآباء أو الأبناء أو العشيرة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . وقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} (3) .
وأمر الله تعالى بالهجرة من بلاد الكفر، ومفارقة الأهل والقبيلة، رغم ما ركب في الفطر من حب الأوطان والتعصب للقبائل؛ فتجب الهجرة والفرار من البلاد التي يعلن فيها الكفر، ويستذل فيها المسلمون، ويلقون الأذى، ويسمعون السخرية والاستهزاء بدينهم وبحرمات الإسلام؛ فيجب عليهم الخروج منها حفاظا على الدين، وحرصا على التمسك بالعقيدة، وإعلان العمل بشعائر الإسلام، وإنما عذر الله من الهجرة المستضعفين بقوله
__________
(1) سورة التوبة الآية 23
(2) سورة النساء الآية 144
(3) سورة آل عمران الآية 28(53/153)
تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (1) .
وذلك أن بقاء المسلم بين ظهراني قوم كفار يكون سببا في تعذيبه وأذاه، وإلحاق الضرر به، أو سببا في افتتانه ورجوعه عن دينه، وإذا كان هذا يتصور في الرجل الكبير العاقل، فكيف بالطفل الصغير الذي لا يميز بين الأديان، فيجب إبعاد أولاد المسلمين عن ولاية الكفار والمشركين وأهل البدع والمعاصي؛ وذلك لأن كل فرد غالبا يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه، ويألف العادات والأعمال والأخلاق المنتشرة الشائعة في الوطن الذي يعيش فيه، وبين المواطنين الذين ينشأ بين ظهرانيهم، وتظهر وتنطبع آثارها في ديانته ومعتقده ومعاملاته.
فإن عاش الطفل وتربى في بلاد تحكم بالشرع الشريف، وتطبقه في العادات والقربات، فتؤدي الواجبات الدينية، وتتجنب المحرمات، وتتنزه عن الجرائم ومساوئ الأخلاق، فإن هذه الأعمال -ولا بد- سوف تتحكم في ميوله، ويهواها بقلبه، ويألفها وينصبغ قلبه بمحبتها، ويبغض أضدادها وينفر منها، ويكره أهلها ويمقتهم.
أما إن تربى في مجتمع يظهر الفساد، ويعتدي على العباد، ويبطش بغير حق، ويخالف مقتضى العقل والنقل، ويستحسن خلاف الشرع، وينتهك الحرمات، ويخل بالواجبات، ويدين بالبدع، ويستحسنها ويعمل بموجبها، فإن ذلك الناشئ عادة يكون منهم، ويعمل كعملهم، ويعتقد ما يعتقدونه من كفر أو إلحاد أو نفاق، أو بدع مضللة أو مفسقة، ويجزم بأن ذلك هو عين الصواب، وأن ما عداه خطأ وضلال. فتأثير البيئة والمجتمعات في تغيير الفطر
__________
(1) سورة النساء الآية 98(53/154)
وصرف القلوب أمر محسوس جلي لا شك فيه، وقد دل على ذلك الحديث المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء (1) » ثم يقول أبو هريرة: " اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (2) فقد أخبر أن الطفل يولد على الفطرة، وهي الحنيفية السمحة، فلو ترك وفطرته لعرف أن له ربا خالقا مالكا متصرفا، وعرف أن الذي خلقه ورزقه وسخر له الأبوين، وكمل خلقه، أن له عليه حقوقا وعبادات، كما على العبد لمالكه. ثم أخبر أنه ينصرف وينحرف عن تلك الفطرة بما ألفى عليه أبويه، حيث نشأ معهما وتلقى عنهما ما يدينان به من يهودية أو نصرانية أو مجوسية، أو وثنية أو بوذية أو هندوسية، أو غيرها من الملل الكفرية، وهكذا إن كان أبواه يعتقدان عقيدة منحرفة، كبدعة الرافضة والفلاسفة، والدروز والباطنية، والبعثية والنصيرية، والمعطلة والمشبهة، والبهائية والقاديانية، ونحوها، فإن الأبوين يلقنان أولادهما ما يدينان به؛ فيتربى الطفل على تلك العقائد الضالة جازما بصحتها، عازفا عما سواها، لا يحدث نفسه بالنظر في غيرها، فيعزب عن باله ما تتكون منه، وما تحويه من الكفر والضلال، والانحراف عن الهدي المستقيم، ولا يتصور ما يرد عليها من الأدلة النيرة التي توضح فسادها، وقد قال تعالى في اليهود: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} (3)
__________
(1) الحديث رواه البخاري برقم 1385 وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، والآية رقم 30 من سورة الروم.
(2) سورة الروم الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 145(53/155)
مع أن هذا في شأن القبلة، وهي فرد من جزئيات الديانة، فكيف بأصل العقيدة، فقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) . فمتى تربى شخص منذ حداثته على أخلاق أو عقائد، ونشأ عليها وألفها، فإن تحويله عنها من الصعوبة بمكان، مهما بذلت له المحاولات، وأقيمت عليه البراهين، وأوضحت له الحجج التي تنير الحق، وتبين سفاهة من دان بتلك الأديان الباطلة، أو انتحل تلك النحل الزائغة، أو صدق بتلك العقائد المنحرفة: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) . فرجوع مثل هذا إلى الصواب مع رسوخ الباطل في ذهنه، شبه المستحيل إلا ما شاء الله. ولما كانت التربية في سن الطفولية لها هذا التأثير في تقويم الإنسان أو انحرافه، رأينا النصارى والرافضة ونحوهم من أعداء الإسلام والسنة يبذلون كل وسيلة، ويعملون كل حيلة في الحصول على ولاية وحضانة وتربية أطفال المسلمين، سيما الذين يفقدون آباءهم بموت أو قتل أو غيبة أو سجن مؤبد أو تشريد، كما هو حاصل في كثير من البلاد تاركين خلفهم أعدادا كثيرة من الأطفال والذراري، ممن لا يزالون في سن الطفولية، فبعد أن يغيب أو يموت الآباء، ويبقى أولئك الأطفال منقطعين، لا يجدون من يعولهم أو يرعى شئونهم من قريب أو نسيب، أو ذي رحم، أو مسلم يشفق على
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) سورة الحج الآية 46(53/156)
ذرية إخوته المسلمين، فعند ذلك ينتهز الفرصة أعداء الدين، من نصارى وشيوعيين، ويهود وفلاسفة، ورافضة وقبوريين، والضلال من المتصوفة وغيرهم، فيتتبعون أولئك الأطفال في أكواخهم ومساكنهم المتواضعة، ويغرونهم بالمال، وبالمنازل الرفيعة، وينقلونهم من فقر وفاقة وشدة مؤنة إلى رغد عيش ورفاهية وبيوت مكيفة مكملة بكل ما يتمنون، فيربونهم كما أرادوا، ويعلمونهم الأديان التي ينتحلونها، ويتولون تنشئتهم كما يريدون، ويغسلون أدمغتهم من روح الإسلام، ومن دينهم الذي ولدوا عليه، والذي صبر عليه آباؤهم وأجدادهم، وتمسكوا به وعضوا عليه بالنواجذ حتى فارقوا الدنيا. وبلا شك أن هؤلاء الأطفال متى نشأوا وتربوا على أيدي أولئك الكفار والمبتدعين، بعيدين عن أهليهم وأوطانهم، ومقر أديانهم وأديان أسلافهم، فإنهم يدينون بديانة أولئك المربين والمدربين، لا يعرفون غيرها، ولا يخطر ببالهم أن هناك دينا أصلح مما تعلموه؛ فيصبح أولاد المسلمين كفارا ومشركين، أو نصارى ويهودا، أو روافض ومبتدعين، أو نحو ذلك من الديانات الباطلة، ويصبحون وبالا على الدين الصحيح، وأعداء للإسلام الذي هو دين آبائهم وأسلافهم، والواقع يشهد بذلك. وقد ذكر بعض الدعاة الذين سافروا إلى البلاد النازحة أن أعدادا كبيرة من مسلمي الهند ومسلمي أفغانستان نزحوا إلى قارة أستراليا التي يحكمها النصارى، فنشأ أولادهم على. دين النصارى، وتعلموا لغتهم، ودانوا بما هم عليه، حيث لم يكن هناك من يعلمهم دين الإسلام، فتولى النصارى تربيتهم ولقنوهم دين النصرانية.(53/157)
فتح المدارس والمستشفيات في بلاد الإسلام:
لقد فكر أعداء الله تعالى فيما يتوصلون به إلى إضلال المسلمين، ويكسبون به قلوبهم وأبدانهم، ويغيرون به أديانهم، فبذلوا كل جهد في التهويد والتنصير، والإخراج من المعتقد السليم، والدين القويم، بعد أن رأوا قوة المسلمين وانتصارهم، وفتحهم البلاد بعد فتحهم القلوب، ورأوا أن الدين الصحيح والعقيدة السلفية لا يقوم أمامها قائم، ولا يستطيع مقاومتها ذو قوة وبأس ومنعة، فلم يجدوا سوى الغزو الفكري، والسعي في الصد عن الصراط السوي، فبذلوا كل ما يستطيعونه من قوة، وأعملوا كل حيلة ووسيلة، وكان من بين ما فكروا فيه، ونجحوا في تفكيرهم، هو فتح المدارس التبشيرية كما يعبرون، فأسسوا الكثير من تلك المدارس في بلاد يدين أهلها بالإسلام، سيما بين الدول الفقيرة التي تعوزها النفقة، ويهم أحدهم تحصيل القوت الضروري، فانتهز أولئك المنصرون الفرص في حينها، وعرضوا عليهم أن يبنوا لهم مدارس ومستشفيات، ودور تعليم، وخدعوهم بأن ذلك للرفق بهم والرحمة والإنسانية، وقاسموهم أنهم لهم ناصحون، ليعلموا أولادهم، ويعالجوا مرضاهم، فصدقهم أولئك الأهالي، فبادروا وانتهزوا الفرصة، ولم يهمهم ما بذلوا من الأموال الطائلة في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات، وما أولوهم من العناية والتربية والتعليم والعلاج، هذه حيلة النصارى، ومثلهم الرافضة الذين يدعون الإسلام وهم بعيدون منه، فقد اشتهر عنهم غزوهم لأغلب البلاد الإسلامية التي يدين أهلها بالسنة؛ ليصرفوهم إلى عقيدة الرفض والتشيع، فيؤسسون(53/158)
عندهم ما يحتاجونه من المدارس والمرافق، ويبذلون لهم المنح الدراسية، ويحرصون على استقدام أفواج الطلاب من مختلف البلاد الإسلامية التي تدين بعقيدة أهل السنة؛ ليتولوا تعليمهم كما يشاءون فيزينون لهم معتقد التشيع الزائغ، ويوهمونهم صحة ما هم عليه، وهكذا يفعل كل من كان على نحلة أو اعتقاد- ولو اتضح خطؤه- في الدعوة إلى أديانهم، وعدم المبالاة بما يصرفونه على تأسيس تلك المدارس ودور التعليم، ولا يهمهم ما أنفقوه على التلاميذ، وما أعطوه لهم من قليل المال وكثيره؛ ليكون ذلك حافزا لأولئك الجهلة على الانضواء تحت رعايتهم، والتهافت إلى مدارسهم ودور تعليمهم، والتلقي عن أساتذتهم؛ لكون التعليم مجانا، باسم التعليم والتثقيف، وإزالة الجهل، مع ما يبذلون للطلاب ويغرونهم به من المرتبات والجوائز، والأطعمة المجانية، والكسوة وإنفاق كل ما يحتاجونه من الكتب والأقلام والدفاتر، والأدوات المدرسية، فلا جرم تمكنوا من نيل مقاصدهم، فوصلوا إلى تبديع وتنصير الفئات والجماعات من شباب المسلمين وكهولهم وشيوخهم، بهذه الحيل الفاتنة، وحيث إن تربية الأطفال ينتج عنها التدين بما يلقيه المربي، واعتقاده أصلا ومنهجا، يصعب الانفكاك عنه والتخلي عن العمل به، ولو كان في أصله دينا باطلا، أو كفرا أو ضلالا، فإن هذه الحضانة والتربية بأيدي الكفار والمضلين لا تجوز شرعا، فلا يجوز أن يمكن الكافر من تولي الطفل المسلم حال طفوليته، ولو كان ذلك الكافر أو المبتدع أباه أو أخاه، أو قريبه أو نسيبه، كما أن القريب المسلم إذا كان فاسقا أو عاصيا لا يجوز أن يتولى حضانة الصبي(53/159)
المسلم مهما كانت قرابته؛ لأنه غير موثوق به في أداء الواجب من الحضانة، ولا حظ للطفل في حضانته؛ لأنه ينشأ على طريقته، ويقع فيما وقع فيه. وهذا أمر محسوس، فإن المطلوب من الحضانة أمر زائد على الغذاء والحفظ البدني، والتطهير والتنظيف الظاهر، ذلك الأمر هو التغذية الروحية، وتنمية الفطرة الدينية، وتطبيقها عمليا، فمتى كان المربي أو المعلم منحرفا زائغا في المعتقد، أو متلبسا بذنب مكفر أو مفسق، فإنه يظهر حال تلبسه به أمام أولئك الأطفال، ويوهمهم أن ذلك الذنب حسن أو لا محذور فيه، فلذلك يشاهد أن المبتدعة كالمعتزلة والرافضة ونحوهم ينشأ أولادهم على معتقدهم الزائغ، كما أن تارك الصلاة وشارب الخمر والمدخن والزاني وآكل الربا والسارق والقاذف واللعان والطعان ونحوهم يألف أولادهم تلك المعاصي، ويفعلونها محاكاة لآبائهم، ويصعب تحويلهم عنها، حيث نشأوا عليها منذ نعومة أظفارهم، فلا يعرفون سواها، ولم يجدوا موجها صالحا في صغرهم ينبههم على خطرها وضررها. فإذا كان هذا في العصاة والمذنبين فكيف بالكفار والمشركين من النصارى والوثنيين والملحدين. وإليك بعض ما قال علماء الإسلام في حضانة الكافر للمسلم وحكمها. قال أبو محمد ابن قدامة في المغني 7 \ 612: " ولا تثبت- يعني الحضانة- لكافر على مسلم، وبهذا قال مالك والشافعي وسوار والعنبري. وقال ابن القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأي: تثبت له؛ لما روي عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه عن جده «رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه. وقال رافع: ابنتي.(53/160)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقعد ناحية " وقال لها: " اقعدي ناحية "، وقال: " ادعواها " فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها (1) » . رواه أبو داود. ولنا: أنها ولاية، فلا تثبت لكافر على مسلم، كولاية النكاح والمال، ولأنها إذا لم تثبت للفاسق فالكافر أولى، فإن ضرره أكثر، فإنه يفتنه عن دينه ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتزيينه له، وتربيته عليه، وهذا أعظم الضرر. والحضانة إنما تثبت لحظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه. فأما الحديث فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. قال ابن المنذر (2) : ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته، فكان ذلك خاصا في حقه " اهـ.
وهذا الخلاف المذكور وقع فيما إذا كان الكافر قريبا للطفل، كالأم التي هي أولى بالحضانة، وأعرف بشئون التنظيف والعناية بالطفل، وأصبر على حمله وفصاله، وأعرف بتغذيته ورعاية مصالحه. وقال ابن حزم في المحلى 11 \ 742: " الأم أحق
__________
(1) هو في سنن أبي داود في كتاب الطلاق برقم 2244، ورواه أيضا النسائي في سننه (المجتبى) 6 \ 185، وابن ماجه في الأحكام برقم 2352 من طرق عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه به. وعند ابن ماجه: عن عبد الحميد بن سلمة. وجعل النسائي المولود ذكرا، وكذا عند ابن ماجه. وذكر المزي أن رافع بن سنان هو جد جد عبد الحميد؛ فيكون الحديث مرسلا أو منقطعا. وذكره البوصيري في الزوائد وقال: عبد الحميد وأبوه وجده مجهولون.
(2) وفي طبعة التركي: قاله ابن المنذر. وقد يرجحه النقل عن ابن القيم كما يأتي.(53/161)
بحضانة الولد الصغير والابنة الصغيرة حتى يبلغا المحيض أو الاحتلام أو الإنبات مع التمييز وصحة الجسم، فإن لم تكن الأم مأمونة في دينها ودنياها نظر لهما بالأحوط في دينهما ثم دنياهما، فحيثما كانت الحياطة لهما في كلا الوجهين وجبت هنالك، عند الأب أو الأخ أو الأخت أو العمة أو الخالة، أو العم أو الخال. وذو الرحم أولى من غيرهم بكل حال، والدين مغلب على الدنيا. . . والأم الكافرة أحق بالصغيرين مدة الرضاع، فإذا بلغا من السن والاستغناء ومبلغ الفهم فلا حضانة لكافرة ولا فاسقة. . وأما تقديم الدين فلقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (2) وقوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (3) فمن ترك الصغير والصغيرة حيث يدربان على سماع الكفر، ويتمرنان على جحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ترك الصلاة، والأكل في رمضان، وشرب الخمر، والأنس إليها حتى يسهل عليهما شرائع الكفر، أو على صحبة من لا خير فيه، والانهماك على البلاء فقد عاون على الإثم والعدوان، ولم يعاون على البر والتقوى، ولم يقم بالقسط، ولا ترك ظاهر الإثم وباطنه، وهذا حرام ومعصية، ومن أزالهما عن المكان الذي فيه ما ذكرنا إلى حيث يدربان على الصلاة والصوم، وتعلم القرآن، وشرائع الإسلام، والمعرفة بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنفير عن
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النساء الآية 135
(3) سورة الأنعام الآية 120(53/162)
الخمر والفواحش، فقد عاون على البر والتقوى، ولم يعاون على الإثم والعدوان، وترك ظاهر الإثم وباطنه، وأدى الفرض في ذلك.
وأما مدة الرضاع فلا نبالي عن ذلك؛ لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) ، ولأن الصغيرين في هذه السن ومن زاد عليها بعام أو عامين لا فهم لهما، ولا معرفة بما يشاهدان، فلا ضرر عليهما في ذلك، فإن كانت الأم مأمونة في دينها والأب كذلك فهي أحق من الأب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا، ثم الجدة كالأم، فإن لم تكن مأمونة لا الأم ولا الجدة في دينها، أو تزوجت غير مأمون في دينه، وكان الأب مأمونا فالأب أولى ثم الجد، فإن لم يكن أحد ممن ذكرنا مأمونا في دينه، وكان للصغير أو الصغيرة أخ مأمون في دينه، أو أخت مأمونة في دينها فالمأمون أولى، وهكذا في الأقارب بعد الإخوة، فإن كان أحدهما أحوط في دينه، والآخر أحوط في دنياه، فالحضانة لذي الدين- إلى أن قال- وأيضا فنحن لا ننكر تخييره إذا كان أحد الأبوين أرفق به، ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخير بين خير وشر، ولا شك في أنه عليه الصلاة والسلام لا يخير إلا بين خيرين، وكذلك نحن على يقين من أنه عليه الصلاة والسلام لا يترك أحدا على اختياره ما هو فساد له في دينه أو في حالته، فقد يسوء اختيار الصغير لنفسه، ويميل إلى الراحة والإهمال. . . " إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
فمتى سقطت حضانة القريب الذي يهمل الأولاد، أو يربيهم على الكفر والفسوق والمعاصي، أو في مجتمع وبيئة بعيدة عن العلم
__________
(1) سورة البقرة الآية 233(53/163)
والدين وتفاصيل الشريعة، فبطريق الأولى إذا كان المربي بعيد الصلة والنسب من أولئك الأطفال، ولا قصد له ولا أرب في إصلاح أديانهم، بل جل همه صرفهم عن عقيدتهم، وتلقينهم ملة غير ملة آبائهم وأسلافهم، وهذا بلا شك هدف تلك الدول الكافرة من حرصهم على احتضان ذراري المسلمين الذين فقدوا آباءهم وأهليهم، أو الذين ابتلوا بالفقر والفاقة، واشتدت حاجتهم إلى المادة البدنية والروحية، وقد اتفق جمهور العلماء على أن العاصي والفاسق لا ولاية له على الصبي المحكوم بإسلامه، وأحب أن أنقل هنا كلام بعض العلماء، لتوضيح ذلك، وذكر المفاسد التي تنشأ عن تولي الفسقة وتربيتهم، فمن ذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال في مجموع الفتاوى 34 \ 131: " فلو قدرنا أن الأب ديوث لا يصونه والأم تصونه لم نلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما؛ لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفع من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر قد يرده ويصلحه. ومتى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه لا يمكن من يفسد معه حاله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر لا يأمره، كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في
__________
(1) رواه أبو داود كما في سننه برقم 495 عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(53/164)
تربيته، والآخر عاص لله ورسوله، فلا نقدم من يعصي الله فيه على من يطيع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام، قدم من يفعل الواجب، ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له عليه، بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم بالواجب معه، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين لا تحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر تحصل قدم الأول قطعا " اهـ.
فهذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الأبوين، مع ما جبلا عليه من الشفقة والرحمة حيث ذكر أن الولد لا يقر على اختياره إذا مال مع الذي لا يصلحه ولا يربيه التربية الإسلامية، فكيف إذا كان المربي أجنبيا من الطفل، بعيدا عن قصد إصلاحه في دينه وعقيدته، بل لا يألو جهدا في إبعاده عن دين الإسلام، وتلقينه ملة الكفر التي يدين بها ذلك المربي، ويعتقد النجاة في اعتناقها. وقد صرح ابن القيم رحمه الله تعالى باشتراط اتفاق الدين بين الحاضن والمحضون، فقال رحمه الله في (زاد المعاد) 4 \ 132: وقد اشترط في الحاضن ستة شروط (اتفاق الدين) فلا حضانة لكافر على مسلم؛ لوجهين:
أحدهما: أن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه، وأن ينشأ عليه ويتربى عليه، فيصعب بعد كبره وعقله انتقاله عنه، وقد يغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده، فلا يراجعها أبدا، كما قال(53/165)
النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (1) » فلا يؤمن تهويد الحاضن وتنصيره للطفل المسلم.
وإن قيل: الحديث إنما جاء في الأبوين خاصة. قيل: الحديث خرج مخرج الغالب، إذ الغالب المعتاد نشوء الطفل بين أبويه، فإن فقد الأبوان أو أحدهما قام ولي الطفل من أقاربه مقامهما.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه قطع الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعل المسلمين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض. والحضانة من أقوى أسباب الموالاة التي قطعها الله تعالى بين الفريقين. وقال أهل الرأي وابن القاسم وأبو ثور: تثبت الحضانة لها مع كفرها وإسلام الوالد، واحتجوا بما روى النسائي في سننه، من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده «رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقعد ناحية " وقال لها: " اقعدي ناحية " وقال لهما: " ادعواها " فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها (2) » . قالوا: ولأن الحضانة لأمرين: الرضاع، وخدمة الطفل، وكلاهما يجوز من الكافرة. قال الآخرون: هذا الحديث من رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، وقد ضعفه إمام العلل يحيى بن سعيد القطان،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم 1385 وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدم.
(2) رواه أبو داود برقم 2244 والنسائي وقد تقدم.(53/166)
وكان سفيان الثوري يحمل عليه، وضعف ابن المنذر الحديث، وضعفه غيره، وقد اضطرب في القصة، فروى أن المخير كان بنتا، وروى أنه كان ابنا. وقال الشيخ في (المغني) : وأما الحديث فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. قاله ابن المنذر. ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإسلام، فإن الصبية لما مالت إلى أمها دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية فمالت إلى أبيها، وهذا يدل على أن كونها مع الكافر خلاف هدى الله الذي أراده من عباده، ولو استقر جعلها مع أمها، لكان فيه حجة، بل أبطله الله سبحانه بدعوة رسوله. ومن العجب أنهم يقولون: لا حضانة للفاسق. فأي فسق أكبر من الكفر، وأين الضرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقع من الكافر. اهـ. هذا كلام ابن القيم رحمه الله فارجع إليه في معرفة بقية الشروط، وكل هذا فيما إذا كان الحاضن أحد الأبوين، أو الأقارب الذين تربطهم بالطفل أواصر الأخوة والشفقة والرحمة، لأجل القرابة، وحمية الرحم، وتدفعهم تلك الغريزة إلى النصح لهم، وبذل الخير والدلالة عليه، وأخذ الحيطة والحماية عن أسباب الردى.(53/167)
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (روضة الطالبين) 9 \ 98: " فالحضانة للأم إن رغبت فيها، لكن لاستحقاقها شروط:
أحدها: كونها مسلمة إن كان الطفل مسلما بإسلام أبيه، فلا حضانة لكافرة على مسلم، وقال الإصطخري: لها الحضانة.
وقيل: الأم الذمية أحق بالحضانة من الأب المسلم إلى أن يبلغ الولد سبع سنين، ثم الأب بعد ذلك. قال الأصحاب: والصحيح الأول،(53/167)
فعلى هذا حضانته لأقاربه المسلمين على ما يقتضيه الترتيب، فإن لم يوجد أحد منهم فحضانته على المسلمين. . . ولو وصف صبي من أهل الذمة الإسلام نزع من أهل الذمة سواء صححنا إسلامه أم لا، ولا يمكنون من كفالته، والطفل الكافر والمجنون تثبت لقريبه المسلم حضانته وكفالته على الصحيح؛ لأن فيه مصلحة له " اهـ.
وقال صاحب (المهذب) في فقه الشافعية كما في الشرح 18 \ 320: " ولا تثبت- الحضانة- لكافر على مسلم، وقال أبو سعيد الإصطخري: تثبت للكافر على المسلم؛ لما «روى عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أنه قال: أسلم أبي، وأبت أمي أن تسلم، وأنا غلام، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا غلام اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت إلى أبيك، وإن شئت إلى أمك " فتوجهت إلى أمي، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: " اللهم اهده " فملت إلى أبي فقعدت في حجره (1) » . والمذهب الأول؛ لأن الحضانة جعلت لحظ الولد، ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر؛ لأنه يفتنه عن دينه، وذلك من أعظم الضرر، والحديث منسوخ، ولأن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر " اهـ. ثم قال الشارح المطيعي في تكملة شرح المهذب 18 \ 322 بعد أن تكلم على الحديث: " وفي إسناده اختلاف كثير، وألفاظه مختلفة مضطربة " ونقل عن (التقريب) لابن حجر في ترجمة عبد الحميد بن جعفر قال: " صدوق رمي بالقدر، وربما وهم ".
__________
(1) الصواب عبد الحميد بن جعفر، وقد تقدم الحديث مرارا، وهذا من الاختلاف فيه.(53/168)
وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وكان سفيان يضعفه، ووثقه ابن معين (1) . ثم قال الشارح المطيعي في تكملة المجموع 18 \ 324: " ولا تثبت الحضانة لفاسق؛ لأنه لا يؤمن أن ينشأ الطفل على منزعه، وإن كان أحد الأبوين مسلما، فالولد مسلم، ولا تثبت عليه الحضانة للكافر، وقال أبو سعيد الإصطخري: تثبت؛ لحديث عبد الحميد.
ونقول: إن هذا الحديث استدل به القائلون بثبوت الحضانة للأم الكافرة، كأبي حنيفة وأصحابه، وابن القاسم المالكي وأبي ثور، وذهب الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم، وأجابوا عن الحديث بما فيه من المقال والاضطراب، وقال المصنف: إنه منسوخ، ولعله يحتج بأدلة عامة كقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (2) وبنحو «الإسلام يعلو ولا يعلى (3) » وقد استدل ابن القيم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (4) على أن المراعى أولا في التخيير أو الاستهام بالقرعة ما هو أصلح للصغير، وأن أيا ما كان الأمر من التخيير أو التعيين أو الاقتراع فإن أولئك مقيد بقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (5) وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال:
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الذهبي في (ميزان الاعتدال) في ترجمة عبد الحميد بن جعفر.
(2) سورة النساء الآية 141
(3) رواه الدارقطني في سننه 3 \ 252 عن عائذ بن عمر المزني، وعلقه البخاري كما في الفتح 3 \ 220.
(4) سورة التحريم الآية 6
(5) سورة التحريم الآية 6(53/169)
تنازع أبوان صبيا عند الحاكم، فخير الولد بينهما فاختار أباه، فقالت أمه: سله لأي شيء يختاره. فسأله فقال: أمي تبعثني كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان؛ فقضى به للأم. ورجح هذا ابن تيمية. فإذا كانت روح الشرع تقضي بمراعاة صالح الصغير، فإن مما لا شك فيه أن إلقاءه في أحضان الكفر قضاء على صلاحه دنيا وأخرى، ومن ثم يتعين خطأ أبي سعيد الإصطخري، وأبي حنيفة وأصحابه، وابن القاسم وأبي ثور. وقال العمراني: إن الحضانة لحظ الولد، ولا حظ له في حضانة الكافر؛ لأنه لا يؤمن أن يفتن عن دينه. ثم قال: أما الحديث فغير معروف عند أهل النقل (1) وإن صح فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه يختار أباه، فلهذا خيره، فيكون ذلك خاصا لذلك الولد دون غيره " اهـ.
ومن هذه النقول يتضح أن الجمهور على منع ولاية الكافر، وحضانته للطفل المسلم، وأن من أجاز ذلك كأصحاب الرأي وهم الحنفية ومن وافقهم فقد خصوه بأحد الأبوين، تمسكا بحديث عبد الحميد المذكور، وقد عرفت ضعف الحديث وما فيه من الاختلاف، ومع ذلك فلا مانع من حضانة الأم الكافرة في الصغر؛ لمكان الشفقة والرحمة، فإن زمن الرضاعة وبعده بسنة أو سنتين لا تأثير معه لدينها وأعمالها الكفرية، لكن متى بلغ الطفل سنا يميز به، ويعرف ما يتدين به، ويتأثر بالتلقين، ويخاف أن يألف أعمال الكفار ويميل إليها، وجب نزعه من أحضان أقاربه غير المسلمين، وتسليمه إلى من يسعى في إصلاحه، ويربيه التربية الإسلامية، وهذا واجب على المسلمين
__________
(1) يعني حديث عبد الحميد بن جعفر المتقدم مرارا.(53/170)
عموما في كل دولة وبلد بالنسبة إلى أولاد إخوتهم، من يتيم فقد أباه ومن يحصنه ويتولاه، أو ينفق عليه من قريب أو أخ شفيق، ومن فقير يعجز وليه عن النفقة وتوابعها، فعلى المسلمين المؤمنين أن تحملهم الشفقة الدينية، والأخوة الإسلامية على احتضان أولاد إخوتهم في الدين وعلى توليهم ورعايتهم وإصلاح أحوالهم، وقد ورد الترغيب في كفالة اليتيم، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا (1) » وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك، والكافل هو القائم بأمر اليتيم المربي له.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قبض يتيما من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة، إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر (2) » يعني مثل الشرك الذي لا يغفر إلا بالتوبة منه، أو مثل حقوق الآدميين التي لا بد فيها من القصاص. وعن مرة الفهري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين (3) » في الوسطى والتي تلي الإبهام. وذكر الحسن البصري رحمه الله أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا بطعام ذات يوم،
__________
(1) رواه البخاري كما في الفتح 10 \ 436 برقم 6005، والترمذي كما في تحفة الأحوذي 6 \ 45، وأبو داود برقم 4150، وأورد له الحافظ شواهد كثيرة وأشار الترمذي إلى عدة أحاديث.
(2) رواه الترمذي في البر والصلة كما في التحفة 6 \ 44 وفي إسناده ضعف.
(3) رواه البخاري في الأدب المفرد برقم 133 وغيره.(53/171)
فطلب يتيمه فلم يجده، فجاء بعدما فرغ. . . فجاءه بسويق وعسل فقال: دونك هذا فوالله ما غبنت. قال الحسن: وابن عمر والله ما غبن (1) . والمعنى أن اليتيم لما فاته الطعام المعتاد عوضه عنه سويقا وعسلا، وهو من خير الطعام، فأخبره بأنهم ما غبنوه بأكلهم الطعام، فقد حصل على خير منه، وابن عمر ما غبن؛ لحصوله على أجر إطعام اليتامى، وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يأكل طعاما إلا وعلى خوانه يتيم (2) . وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه. أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين (3) » يشير بأصبعيه. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين (4) » بأصبعيه السبابة والوسطى. وروى عبد الرحمن بن أبزى قال: قال داود عليه السلام: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد (5) . وقد حث الله تعالى على إعطاء اليتامى من الصدقات
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد برقم 134 وإسناده صحيح إلى الحسن وهو البصري.
(2) كما عند البخاري في الأدب المفرد برقم 136 وله في الصحيح نحوه في كتاب الأطعمة الباب 12.
(3) رواه ابن ماجه برقم 3679، والبخاري في الأدب المفرد برقم 137، وإسناده ضعيف.
(4) رواه مسلم كما في الزهد من صحيحه برقم 2983 مسندا، ورواه مالك 2 \ 948 مرسلا.
(5) رواه البخاري في الأدب المفرد برقم 138 مطولا.(53/172)
العامة والخاصة كقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (1) وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (2) وجعل لهم حقا في الفيء وخمس الغنيمة بقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (3) وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (4) والآيات في ذكر اليتامى كثيرة معلومة، ففي هذه النصوص الحث على كفالة اليتامى، والإنفاق عليهم، واحتضانهم، والحرص على إنقاذهم من الفقر والجوع والضرر والهوان، وحمايتهم من ولاية الشيوعيين والمشركين، واليهود والنصارى، والروافض، وسائر المبتدعين الذين لا هدف لهم سوى الإضلال والإخراج من الدين القويم، فمتى تساهل المسلمون وانشغلوا عن هؤلاء اليتامى والمعوزين انتهز هؤلاء الأعداء الفرص وتقبلوا رعايتهم، فبذلك يخسرهم المسلمون، بل يصبحون حربا على آبائهم وإخوانهم، وأقاربهم وأسلافهم الذين هم من رجال الدين وأعوانه. والواقع يشهد بذلك، فإن النصارى يبثون دعاتهم في الأقطار الإسلامية، ويمدونهم بالأموال الطائلة، فيقومون بتأسيس المدارس لجميع المراحل، وتلقين أولاد المسلمين مبادئ النصرانية وعلومها مجانا؛ كما يقومون ببناء المستشفيات والعلاج
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة الإنسان الآية 8
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة الأنفال الآية 41(53/173)
فيها مجانا، ليكسبوا بذلك قلوبهم، ولينشئوا الأطفال في بيئة بعيدة عن الإسلام وعلومه، ومن ثم يميل هؤلاء الفقراء واليتامى إلى النصارى، لما رأوا من جهود أهل النصرانية، وهكذا يفعل دعاة الروافض في استجلاب العامة إلى معتقدهم الزائغ بهذه الحيل والأسباب، ولقد قرأت سابقا في مجلة المجتمع العدد (616) وتاريخ 28 \ 6 \ 1403 هـ ما نصه: " ففي الوقت الذي تعمل فيه الدوائر التنصيرية على تنصير المسلمين في مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة لأفغانستان، وإغرائهم بالابتعاد عن ساحات الجهاد، تقوم الشيوعية الملحدة وبمختلف الوسائل لتحويل أبناء المسلمين اليتامى إلى الشيوعية، فقد أفادت الأنباء مؤخرا بأن قوات الاحتلال السوفييتي أرسلت ومنذ ثلاث سنوات أكثر من سبعة وعشرين ألف طفل مسلم أفغاني عنوة إلى موسكو، بهدف تغيير معتقداتهم " اهـ. أفلا يكون المسلمون وأهل السنة أولى بالاهتمام وبذل الجهود في تنشئة وتربية الأطفال، حتى أولاد الكفار والمشركين الصغار الذين لم يزالوا على فطرة الله التي فطر الناس عليها، فإن هناك دولا كثيرة تعاني من الفقر والفاقة، والشدة والحاجة الشيء الكثير، مع بقائهم على الملل الكفرية، وكثيرا ما تجري بينهم الحروب والمنازعات التي لا يكون الهدف منها سوى الأغراض المادية البحتة، ففي تلك الحال يسهل اقتناص شبابهم وأطفالهم، وتنشئتهم على " الإسلام الذي هو دينهم بأصل الفطرة، وذلك يحتاج إلى تكريس جهود مخلصة، وإلى أموال طائلة تبذل في سبيل الله، وفي بناء المساجد، وفتح مدارس خيرية، وطبع المصاحف وتوزيعها(53/174)
بين المسلمين، وترجمة كتب العقيدة والتوحيد بشتى اللغات، وتفريقها هناك، والحرص على إبعاد أولئك الأطفال والشباب عن المجتمعات والبيئات الكفرية، وتعليمهم اللغة العربية، فمن ثم يتم التأثر، ويقوى الإسلام وأهله، ويكثر معتنقوه، ويدخل الناس في دين الله أفواجا، بدل ما هم يخرجون منه أفواجا، وبقوة الإسلام والمسلمين يتم الأمن والاستقرار، ويحيا المسلمون الحياة الطيبة، ويردون غزو الأعداء وفتكهم وحيلهم التي قد نجحوا في الكثير باكتساح كثير من بلدان المسلمين، وكثير من القبائل والأسر التي أصبحت معهم، وتدين بمعتقداتهم السيئة. فمتى يفيق المسلمون من هذا السبات والغفلة؟! فالله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.(53/175)
صفحة فارغة(53/176)
شروط الطواف
للدكتور \ عبد الله بن إبراهيم الزاحم (1)
المقدمة:
الحمد لله الكريم المنان، سابغ الفضل والإحسان، أنعم علينا بنعمه الوافرة، ومن علينا بمننه المترادفة، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار، وبعد:
فقد سبق أن كتبت بحثا بعنوان " أنواع الطواف وأحكامه " وأشرت في مقدمته إلى ما كتبه الدكتور \ شرف بن علي الشريف، بعنوان " من أحكام الطواف، السنن "، وأن هذا الصنيع منه جعلني أستحسن تقسيم البحث في أحكام الطواف إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أنواع الطواف، وأحكامه.
القسم الثاني: شروط الطواف، وواجباته.
القسم الثالث: سنن الطواف، وآدابه.
وقد تناول الدكتور شرف القسم الثالث، وتناولت في ذلك
__________
(1) عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(53/177)
البحث القسم الأول، ويبقى من هذه الأقسام أوسطها وهو: (شروط الطواف، وواجباته) وبعد أن جمعت المادة العلمية لهذا القسم رأيت فيه طولا وانقساما، فاستحسنت قسمه إلى بحثين: أحدهما: في شروط الطواف. والثاني: في واجباته.
وتناولت في هذا البحث الأول منهما وهو: (شروط الطواف) ولا شك أن هذا القسم هو عقد هذه الأقسام وأهمها، إذ عليه يتوقف صحة الطواف مهما كان نوعه، وبالإخلال به قد يفوت الحاج إدراك مراده مع ما تجشم من مشاق، وما تكلف من صعاب، فكم من الحجاج من لا يتيسر له تكرار هذه العبادة، ولا يستطيع العودة إلى هذه الديار مرة أخرى.
فأحببت أن أتناول بهذه الدراسة ما عده أصحاب المذاهب من شروط الطواف، وما استدل به كل فريق، وأوازن بين ذلك، جاعلا نصب عيني الميل مع الدليل حيث مال دون تعصب لمذهب، أو انتصار لقائل، سائلا الله أن يوفقني للحق والسداد، وأن يلهمني الصواب والرشاد، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. وقد قسمت هذا البحث إلى: مقدمة، وتمهيد، وثمانية مطالب، وخاتمة.
أما المقدمة: فقد ضمنتها: الافتتاحية، وأهمية الموضوع، وخطة البحث.
وأما التمهيد: فتناولت فيه تعريف الشرط، والواجب، والفرق بينهما.(53/178)
وأما المطالب فهي:
الأول: كون الطواف سبعة أشواط.
الثاني: الإسلام.
الثالث: العقل.
الرابع: النية.
الخامس: كونه داخل المسجد.
السادس: كونه بالبيت.
السابع: الابتداء بالحجر الأسود.
الثامن: دخول الوقت.(53/179)
وأما الخاتمة: فقد أشرت فيها إلى ما توصلت إليه من نتائج خلال هذا البحث.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعله لي ذخرا يوم الدين، وأن ينفع به من كتبه، أو اطلع عليه.
وما كان فيه من صواب فهو محض توفيق الله، وما كان فيه من خطأ، أو تقصير فمني، سائلا الله أن يغفره لي، ويتجاوزه عني.
ولكل من أرشدني إلى تصحيح خطأ، أو بيان تقصير، دعوة مني خالصة بأن يلهمه الله رشده، وأن يسدد خطاه.(53/180)
التمهيد: في تعريف الشرط والواجب، والفرق بينهما:
قبل الحديث عن شروط الطواف يحسن التعرف على كل من الشرط والواجب، وهل هما بمعنى واحد، أم يفترقان؟
أولا: تعريف الشرط:
في اللغة: الشرط بالإسكان: إلزام الشيء، والتزامه في(53/180)
البيع ونحوه، كالشريطة، والجمع شروط، وشرائط. ويطلق الشرط أيضا على بزغ الحجام المشرط. ويقال: شرط يشرط شرطا، إذا بزغ، والمشرط والمشراط المبضع.
وبالتحريك (الشرط) العلامة، وجمعه أشراط، ومنه قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (1) أي: علاماتها.
والشرط أيضا، كل مسيل صغير يجيء من قدر عشر أذرع، وأول الشيء، ورذال المال، وصغارها. والأشراط أيضا الأشراف فهو من الأضداد. وأشرط إبله، أعلم أنها للبيع، والرسول أعجله ونفسه لكذا، أعلمها وأعدها. والشرطة بالضم، ما اشترطت، يقال: خذ شرطتك. وواحد الشرط كصرد، وهم أول كتيبة تشهد الحرب، وتتهيأ للموت، وطائفة من أعوان الولاة، وهو شرطي، سموا بذلك؛ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها.
قال ابن فارس: " الشين والراء والطاء، أصل يدل على
__________
(1) سورة محمد الآية 18(53/181)
علم وعلامة، وما قارب ذلك من علم. من ذلك الشرط العلامة، أشراط الساعة: علاماتها. . . ومن الباب شرط الحاجم، وهو معلوم؛ لأن ذلك علامة وأثر " (1) .
أما في الاصطلاح:
فقد عرفه العلماء بتعريفات متقاربة في الألفاظ، متحدة في المعنى، فقالوا في تعريفه: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
إيضاح التعريف وشرحه:
قوله: " ما يلزم من عدمه العدم " أي: يلزم من عدم
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 3 \ 260.(53/182)
الشرط عدم المشروط، كالطهارة، يلزم من عدمها عدم الصلاة، وهو احتراز من المانع؛ لأنه لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم.
وقوله: " ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته " أي: لا يلزم من وجود الشرط، وجود المشروط، ولا عدمه. فالطهارة والوقت، لا يلزم من وجودهما فعل الصلاة أو صحتها، ولا عدم ذلك، وهو احتراز من السبب، ومن المانع أيضا.
أما من السبب، فلأنه يلزم من وجوده الوجود لذاته. وأما المانع، فلأنه يلزم من وجوده العدم.
وقوله: " لذاته " أي: ذات الشرط، وهو احتراز من مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود، أو مقارنة الشرط قيام المانع، فيلزم العدم، لكن لا لذاته، وهو كونه شرطا، بل لأمر خارج، وهو مقارنة السبب، أو قيام المانع.(53/183)
ثانيا: تعريف الواجب:
في اللغة: الواجب في اللغة الساقط اللازم، كسقوط الشخص ميتا، فإنه يسقط لازما محله، لانقطاع حركته بالموت، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (1) أي: سقطت على الأرض بعد نحرها.
ويطلق الواجب على معان أخرى. قال ابن فارس: " الواو والجيم والباء: أصل واحد، يدل على سقوط الشيء ووقوعه،
__________
(1) سورة الحج الآية 36(53/183)
ثم يتفرع " (1) .
فيقال: وجب البيع والحق يجب، وجوبا، وجبة، لزم وثبت، والجيبة: أن توجب البيع، واستوجبه استحقه، ووجبت الشمس وجوبا غربت، ووجب الحائط ونحوه وجبة سقط، ووجب القلب وجبا ووجبانا خفق واضطرب، والوجب: الجبان.
وأما في الاصطلاح: فقد اختلفت عبارات العلماء، في حد الواجب اصطلاحا، ولعل أولاها ما اختاره ابن النجار الفتوحي وهو: ما ذم شرعا تاركه قصدا مطلقا.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 6 \ 89.(53/184)
ثالثا: الفرق بين الشرط والواجب:
إن من المقرر عند العلماء، أن الأحكام الشرعية (1) تنقسم
__________
(1) الحكم الشرعي هو: مدلول خطاب الشرع، المتعلق بفعل المكلف على جهة الاقتضاء أو التخيير أو الوضع.(53/184)
إلى قسمين: تكليفية، ووضعية. وأن الأحكام التكليفية هي: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. وأن الأحكام الوضعية هي: السبب، والشرط، والمانع.
وقد يجتمع خطاب التكليف وخطاب الوضع في شيء واحد، كالزنا، فإنه حرام وسبب للحد. وقد ينفرد خطاب الوضع، كأوقات العبادات، وكون الحيض مانعا من الصلاة والصوم ونحوهما، وكون البلوغ شرطا للتكليف، وحولان الحول شرطا لوجوب الزكاة.
وأما انفراد خطاب التكليف فقيل: لا يتصور، وذهب القرافي إلى إمكان انفراده، كأداء الواجبات، واجتناب المحرمات، كإيقاع الصلوات، وترك المنكرات. فقال: " فهذه من خطاب التكليف، ولم يجعلها صاحب الشرع سببا لفعل آخر نؤمر به، أو ننهى عنه، بل وقف الحال عند أدائها وترتبها على أسبابها، وإن(53/185)
كان صاحب الشرع قد جعلها سببا لبراءة الذمة، وترتيب الثواب، ودرء العقاب، غير أن هذه ليست أفعالا للمكلف. ونحن لا نعني بكون الشيء سببا إلا كونه وضع سببا لفعل من قبل المكلف ".
ويتعلق بمسألتنا أيضا مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال ابن بدران: إن لهذه المسألة ملحظين:
أولهما: ما يتوقف على وجوب الواجب، وهذا لا يجب إجماعا سواء كان سببا، أو شرطا، أو انتفاء مانع، فالسبب كالنصاب، يتوقف عليه وجوب الزكاة، فلا يجب تحصيله على المكلف، لتجب عليه الزكاة، والشرط كالإقامة في البلد، إذ هي شرط لوجوب أداء الصوم، فلا يجب تحصيلها إذا عرض مقتضى السفر ليجب عليه فعل الصوم، والمانع كالدين، فلا يجب نفيه لتجب الزكاة.
وثانيهما: ما يتوقف عليه إيقاع الواجب، أي: الذي لا يتم الواجب إلا به، وهو نوعان:
(أحدهما) ما ليس في قدرة المكلف ووسعه وطاقة تحصيله، ولا هو إليه، كحضور الإمام، والعدد المشترط في الجمعة للجمعة، فإنهما شرط لها، وليس إلى آحاد المكلفين بالجمعة(53/186)
إحضار الخطيب ليصلي الجمعة، ولا إحضار آحاد الناس، ليتم بهم العدد، فهذا النوع غير واجب.
(وثانيهما) ما هو مقدور للمكلف. وهو إما أن يكون شرطا لوقوع الفعل، أو غير شرط، فإن كان شرطا كالطهارة وسائر الشروط للصلاة، فإنه يكون واجبا، إلا إذا جاء التصريح بعدم وجوبه (1) .
ويتضح مما سبق: أن الشروط التي نعنيها في بحثنا وهي: " شروط صحة الطواف " من الأمور المقدورة للمكلف، ولا يتم الواجب- وهو الطواف- إلا بها، فهي واجبة أيضا، وإنما الفرق بينها وبين الواجبات الأخرى، أنه بانتفائها، وعدم وجودها، ينتفي الطواف حكما، فلا يصح الطواف إلا بها.
فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل شرط واجب، وليس كل واجب شرطا.
__________
(1) المدخل لابن بدران ص 61 بتصرف، وانظر: أصول الفقه الإسلامي ص 254.(53/187)
شروط الطواف:
تبين لنا مما سبق أن هناك فرقا بين الشروط والواجبات، فالشرط لا يتم الواجب إلا به، وبالإخلال به أو عدم وجوده ينتفي حكم المشروط.
فشروط الطواف هي التي لا يصح الطواف إلا بها. فالإخلال بها، إخلال بصحة الطواف.
أما الواجبات فهي التي يأثم تاركها قصدا من غير عذر، ويمكن أن يجبر الإخلال بها بجابر يتناسب مع نوع الطواف وحكمه.
وسأتناول في هذا البحث الشروط التي يتوقف عليها صحة الطواف.
وقد اعتمدت في اعتبار هذه الشروط تقسيم الأحناف، إذ إنهم فرقوا بين الشروط والواجبات، أما غيرهم من أصحاب المذاهب فلم يفرقوا بينهما، وقد جعلت كل شرط في مطلب (1) .
وحيث إن هذه الدراسة تناولت الشروط في طواف الإفاضة من حيث الجملة، فإن مما ينبغي أن يعلم أن الطواف يختلف في أنواعه اختلافا كبيرا:
- فمنه ما يكون ركنا في العبادة: كطواف الإفاضة فإنه ركن في الحج لا يتم الحج إلا به، وكطواف العمرة فإنه ركن من
__________
(1) لم أشر إلى هذه الشروط لقرب الإشارة إليها في خطة البحث.(53/188)
أركانها، فلا تتم إلا به.
ومنه ما يكون واجبا يجب بتركه دم: كطواف الوداع في الحج.
وقد يكون واجبا بالنذر فلا يأخذ حكم الواجب في الحج.
- ومنه ما يكون تطوعا: كطواف النافلة ونحوه (1) .
فما يترتب على الإخلال بشيء من الشروط ليس على وتيرة واحدة، بل يتفاوت تفاوتا بينا بناء على التفاوت في نوعه. بل قد يحصل التسامح في بعض الشروط، أو الواجبات كالمشي مع القدرة عليه في طواف النافلة، وكالتسامح في عدم اشتراط القيام أو استقبال القبلة في صلاة النافلة على الدابة.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في (أنواع الطواف وأحكامه) للباحث والمنشور في العدد (50) من أعداد المجلة.(53/189)
المطلب الأول: كون الطواف سبعة أشواط:
لا خلاف بين العلماء أن من اقتصر في الطواف بالبيت على مرة واحدة احتجاجا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) وأن الله جل وعلا أطلق الأمر بالطواف، ولم يشترط عددا محددا، وأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار- أن طوافه غير صحيح، ولا يجزئه، ولا يعتد بهذا الطواف.
__________
(1) سورة الحج الآية 29(53/189)
ولا خلاف بينهم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم (1) » . وإنما اختلفوا في اشتراط أن يكون الطواف بالبيت سبعة أشواط، وهل من ترك شيئا منها يجزئه طوافه أم لا؟ على قولين:
القول الأول: إنه لا يصح الطواف إلا بإكمال سبعة أشواط، فمن ترك شيئا منها، لم يصح طوافه، ولا يعتد به. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة 9 \ 44. ولفظه: ''. . رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: '' لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه '' وسيتكرر هذا الحديث مرارا مما يدفعني إلى عدم الإحالة إليه وهو بهذا اللفظ في كتب الفقه بزيادة '' عني '' وهي معلومة من السياق، فالأخذ والاقتداء إنما يكون عنه صلى الله عليه وسلم.(53/190)
القول الثاني: إن إكمال الأشواط السبعة ليس بشرط لصحة الطواف، فلو طاف أكثر الأشواط ولم يتمكن من إتمامه، أو إعادته لرجوعه إلى بلده، صح طوافه، وأجزأه، وجبر المتروك منه. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة (1) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2)
__________
(1) انظر: المراجع في الإحالتين السابقتين.
(2) سورة الحج الآية 29(53/191)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف ببيته العتيق، ولم يبين العدد المجزئ في ذلك، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف سبعة أشواط، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم (1) » فدل ذلك على أن المراد بالطواف بالبيت، الطواف به سبعة أشواط، فلا يجوز النقص منه كالصلاة.
الثاني: وبحديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ". . . «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا (2) » . . . الحديث. رواه مسلم.
الثالث: وبحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم خرج إلى الصفا (3) » متفق عليه.
الرابع: وبحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذوا عني مناسككم (4) » رواه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبي داود المناسك (1970) ، مسند أحمد باقي مسند المكثرين (14208) .
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 175.
(3) أخرجه البخاري في الصلاة: باب قوله تعالى: '' واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى '' (30) 1 \ 103، وفي الحج، باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين (69) 2 \ 165، وباب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام (72) 2 \ 166، وباب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة (80) 2 \ 170، ومسلم في الحج، باب جواز التحلل بالإحصار 8 \ 213.
(4) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبي داود المناسك (1970) ، مسند أحمد باقي مسند المكثرين (14208) .(53/192)
وجه الاستدلال منها:
نصت الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت سبعا، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في أفعال المناسك، فدل ذلك على اشتراط أن يكون الطواف بالبيت سبعة أشواط، ولا يصح الطواف بدونها.
الخامس: وبحديث: «الطواف بالبيت صلاة (1) » . . . " (2) .
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطواف بالبيت صلاة، فيشترط في الطواف ما يشترط في الصلاة- إلا ما دل الدليل على تخصيصه واستثنائه- والصلاة لا يقوم أكثر عدد ركعاتها مقام الكمال، فكذلك أشواط الطواف لا تقوم مقام الكمال.
السادس: وقالوا: إن هذه عبادة لا يجبر أكثرها بالدم، فلم يجبر أقلها، كالصوم والصلاة (3) .
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف، ولم يذكر عددا، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، إلا أن الزيادة على المرة الواحدة إلى أكثر
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(2) سيأتي تخريجه في المطلب الرابع.
(3) انظر: المنتقى للباجي 2 \ 289.
(4) سورة الحج الآية 29(53/193)
الأشواط تثبت بدليل آخر، وهو الإجماع، ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط.
الثاني: وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع، فقد تم حجه (1) » .
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج عرفة، وأن من جاءها قبل صلاة الفجر ليلة النحر فقد تم حجه، مع العلم ببقاء ركن آخر عليه، دليل على أن الشارع اعتبر في هذه العبادة إقامة الأكثر مقام الكل، بخلاف الصلاة والصيام (2) .
__________
(1) جزء من حديث أخرجه أحمد 4 \ 309، 310، 355، وأبو داود في المناسك، باب من لم يدرك عرفة 2 \ 196 (1949) ، وابن ماجه في المناسك، باب من أتى عرفه قبل الفجر 0000 (57) 2 \ 1003 (3015) ، والترمذي في التفسير، باب تفسير سورة البقرة 4 \ 282 (4058) ، وقال: حسن صحيح. والنسائي في المناسك، باب فرض الوقوف بعرفة (203) 5 \ 256 (3016) ، والدارمي في المناسك، باب بما يتم الحج 2 \ 59. والحاكم 1 \ 464، 2 \ 278، وابن حبان كما في الموارد ص 249 (1009) وغيرهم. ووافقهم الألباني على صحته في الإرواء 4 \ 256 (1064) .
(2) انظر: شرح فتح القدير 3 \ 55.(53/194)
الثالث: وقالوا: " الطواف من أسباب التحلل، وفي أسباب التحلل يقام البعض مقام الكل كما في الحلق، إلا أنه في الطواف يعتبر الأكثر، ليترجح جانب الوجود، فإن الطواف عبادة مقصودة، والحلق ليس بعبادة مقصودة، فيقام الربع مقام الكل (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن من شرط صحة الطواف إكمال سبعة أشواط، فمن نقص من ذلك شوطا، لم يعتد بطوافه. وذلك لما يلي:
1 - الإجماع على أن الشوط الواحد لا يجزئ ولا يعتد به في الطواف، فالأمر بالطواف في الآية مجمل، فجاء البيان والتحديد بفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف سبعة أشواط، فلا يعتد بما دونها.
2 - أن تقدير الطواف بسبعة أشواط ثابت بالنصوص المتواترة، فهي كالقرآن في إفادة الفرضية.
فالقول بأنه لا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط، مناقض للإجماع بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعة أشواط، وأن الشوط الواحد لا يجزئ، إذ إن تقدير العبادات لا يعرف بالرأي والاجتهاد، وإنما يعرف بالتوقيف.
3 - أن القول بأن الطواف من أسباب التحلل فيقام البعض مقام الكل لا يسلم؛ إذ إن الطواف ركن من أركان الحج والعمرة،
__________
(1) انظر: المبسوط 4 \ 43.(53/195)
فقياسه على الصلاة أولى. ولا يقال: إن أكثر الصلاة يقوم مقام الكل.
4 - أن القول بأن الشارع اعتبر في هذه العبادة إقامة الأكثر مقام الكل لا يسلم أيضا، فإن الشارع إنما اعتبر ذلك في عدم فساد الحج، ولذا فإن من ترك الطواف، لم يقل أحد بأنه قد تم حجه. (والله أعلم) .(53/196)
المطلب الثاني: الإسلام:
هذا الشرط محل اتفاق بين العلماء؛ لأن الطواف عبادة من العبادات التي تعبد الله عباده به، وأمرهم بالتقرب إليه فقال سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) والعبادة لا تصح من الكافر، ولا تقبل منه، سواء قيل بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومطالبون بها أم لا.
وهذا الشرط قد نص على اشتراطه في الطواف بعض أصحاب المذاهب، ممن أفرد المناسك بكتاب مستقل. فقد نص على اشتراطه الأحناف فقال ملا علي قاري في منسكه: " فصل في شرائط صحة الطواف: أي مطلقه- الإسلام- لأن الكافر ليس أهلا للعبادة ".
__________
(1) سورة الحج الآية 29(53/196)
وكذا الحنابلة فقال مرعي في دليله: " وشروط صحة الطواف أحد عشر:. . . والإسلام ".
ولا يعني إغفال المالكية والشافعية لهذا الشرط وعدم إشارة خليل له في منسكه، وكذا النووي في إيضاحه عند ذكر شروط الطواف وواجباته، أنهم لا يشترطونه، بل قد نصوا على اشتراطه في أول كتاب الحج عند الحديث على وجوب الحج وشروط صحته.
فقال الدردير في الشرح الصغير: " وصحتهما- أي الحج والعمرة- بإسلام، فلا يصح واحد منهما من كافر " (1) .
وقال الحطاب بعد أن أشار إلى الخلاف في اشتراط الإسلام هل هو شرط وجوب أم شرط صحة قال: " وإذا قلنا: إنه شرط في الوجوب فيكون شرطا في الصحة أيضا، إذ لم يقل أحد إن
__________
(1) الشرح الصغير 2 \ 298.(53/197)
العبادة تصح من الكفار " (1) .
وقال النووي في الإيضاح: " الناس أربعة أقسام- أي في الحج- قسم يصح له الحج، وقسم يصح منه المباشرة، وقسم يقع له عن حجة الإسلام، وقسم يجب عليه. فأما القسم الأول: وهو الصحة المطلقة، فشرطها الإسلام فقط، فلا يصح حج كافر. . ".
وحكى ابن رشد اتفاق العلماء على هذا الشرط فقال:
" الشروط قسمان: شروط صحة، وشروط وجوب. فأما شروط الصحة فلا خلاف بينهم أن من شروطه: الإسلام، إذ لا يصح حج من ليس بمسلم " (2) . وحكاه ابن مفلح إجماعا (3) .
وبهذا يتبين أن هذا الشرط محل اتفاق بين العلماء، فلا يصح الطواف من الكافر ولا يقبل منه، سواء قيل: بأنه شرط وجوب؛ لأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، أم لا. (والله أعلم) .
__________
(1) مواهب الجليل 2 \ 474.
(2) بداية المجتهد 1 \ 319.
(3) الفروع 3 \ 206، وانظر: موسوعة الإجماع 1 \ 291.(53/198)
المطلب الثالث: العقل:
المراد بهذا الشرط معرفة هل من شرط صحة الطواف أن يكون الطائف عاقلا، فلا يصح من المجنون، ولا الصبي غير(53/198)
المميز. أم ليس من شرطه ذلك فيصح منهما، وينوي عنهما وليهما؟
هذا الشرط مما اختلف فيه العلماء، وفرقوا بين المجنون والصبي، ولذا فسأتناول كل واحد منهما في فرع مستقل.
الفرع الأول: طواف المجنون:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في طواف المجنون هل يصح منه أم لا؟ على قولين:
القول الأول: لا يصح طواف المجنون.
وإلى هذا ذهب الأحناف في المشهور، والحنابلة، والمالكية في رواية، والشافعية في وجه.(53/199)
القول الثاني: يصح طواف المجنون.
وإلى هذا ذهب المالكية في المشهور، والشافعية في الأصح،(53/200)
والحنابلة في قول.(53/201)
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
" الأول: بقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل (1) » أخرجه أحمد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر برفع القلم عن هؤلاء، والمراد برفع القلم عدم تكليفهم، وتسطير السيئات عليهم، فدل ذلك على أن المجنون ليس من أهل التكليف، وعلى عدم صحة العبادة منه.
الثاني: الإجماع على أن المجنون لو أحرم بنفسه لم ينعقد إحرامه؛ لأنه ليس من أهل العبادة.
__________
(1) المسند 1 \ 140، وحديث علي أخرجه أحمد في عدة مواضع، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، وابن خزيمة، والبخاري تعليقا مجزوما به موقوفا على علي. وفي الباب من حديث عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي قتادة. وقد خرجته في تحقيقي على شرح المنتهى ص 587، انظر: نصب الراية 4 \ 161، المجموع 7 \ 20، مجمع الزوائد 6 \ 251، الجامع الصغير 4 \ 35، صحيح الجامع الصغير 1 \ 659، الإرواء 2 \ 4.(53/202)
الثالث: أن العقل مناط التكليف، وبه تحصل أهلية العبادة، والمجنون ليس أهلا لذلك، فلا معنى ولا فائدة في طوافه وسائر عباداته، أشبه العجماوات.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
بالقياس على الصبي غير المميز، فيصح طواف المجنون وحجه إذا باشر ذلك وليه كالصبي غير المميز.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو: أن العقل شرط لصحة الطواف، فلا يصح طواف المجنون. وذلك لما يلي:
1 - أن العقل هو مناط التكليف، فالمجنون ليس أهلا للعبادة.
فلا يصح منه الطواف وسائر العبادات.(53/203)
2 - أن تحرك المجنون أشبه بتحرك الآلة، أو الحيوان الذي لا يعقل، فلا معنى لدورانه، ولذا اتفق العلماء على أنه لو باشر الطواف بنفسه، لم يصح منه.
3 - أن قياس المجنون على الصبي غير المميز، غير صحيح؛ لأن الأصل غير مسلم أيضا، فإن ممن يشترط العقل يشترط التمييز أيضا، فلا يرى صحة حج الطفل في مهده (1) .
4 - أن الحج يتضمن عبادات بدنية، فلا تصح من غير المميز كالصلاة. (والله أعلم) .
__________
(1) خلافا للفريق الآخر الذي يرى صحة حج الطفل ولو كان ابن يوم واحد. انظر المجموع 7 \ 22.(53/204)
الفرع الثاني: طواف الصبي غير المميز:
لا خلاف بين العلماء في صحة طواف الصبي المميز إذا استكمل بقية الشروط الأخرى. وإنما اختلفوا في طواف الصبي غير المميز. على قولين:
القول الأول: لا يصح الطواف منه.
وإلى هذا ذهب الأحناف، والمالكية في رواية.(53/204)
القول الثاني: يصح الطواف منه.
وإلى هذا ذهب المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة.(53/205)
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: أن الإحرام سبب يلزم به حكم، فلم يصح من الصبي كالنذر (1) .
الثاني: أن العبادة لا تصح ممن لا يعقل، فلا تصح من الصبي غير المميز.
الثالث: أن العبادة لا تصح إلا بالنية، وغير المميز لا نية له. فلا يصح طوافه.
واستدل أصحاب القول الثاني، بما يلي:
الأول: بحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «لقي ركبا بالروحاء. . . فرفعت امرأة صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: " نعم، ولك أجر (2) » وفي رواية لأبي داود: «فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها (3) » وفي رواية لأحمد: ". . . «رفعت صبيا لها (4) » .
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 50.
(2) صحيح مسلم الحج (1336) ، سنن النسائي مناسك الحج (2648) ، سنن أبو داود المناسك (1736) ، مسند أحمد بن حنبل (1/244) ، موطأ مالك الحج (961) .
(3) صحيح مسلم الحج (1336) ، سنن النسائي مناسك الحج (2648) ، سنن أبو داود المناسك (1736) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، موطأ مالك الحج (961) .
(4) أخرجه مسلم في الحج، باب صحة حج الصبي، وأجر من حج به 9 \ 99. وأبو داود في المناسك، باب في الصبي يحج 2 \ 142 (1736) ، وأحمد 1 \ 344، والمحفة بالكسر: مركب للنساء كالهودج، إلا أنها لا تقبب، وانظر: القاموس المحيط ص 1034، المصباح المنير 1 \ 142.(53/206)
وجه الاستدلال منه:
أن الصبي الذي يحمل بعضده، ويخرج من المحفة لا تمييز له.
الثاني: وبحديث «السائب بن يزيد رضي الله عنه قال حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين (1) » . . رواه البخاري.
__________
(1) رواه البخاري في جزاء الصيد، باب حج الصبيان (25) 2 \ 219.(53/207)
الثالث: وبحديث جابر رضي الله عنه قال: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم (1) » .
وجه الاستدلال منها:
في الحديثين بيان لما كان عليه حال الصحابة رضي الله عنهم، إذ كانوا يحجون بصبيانهم قبل بلوغهم الحلم، سواء كانوا مميزين أم كانوا دون سن التمييز، فدل ذلك على صحة طواف الصبي غير المميز.
ويدل له أيضا الآثار التالية:
الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه كان يحج صبيانه وهم صغار، فمن استطاع منهم أن يرمي رمى، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه " رواه الأثرم (2) .
الخامس: وعن أبي إسحاق: " أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة " رواه الأثرم.
السادس: وقال عطاء: يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير
__________
(1) أخرجه أحمد 3 \ 314، وابن ماجه في المناسك، باب الرمي عن الصبيان (68) 2 \ 1010 (3038) واللفظ له. والحديث ضعيف. ففي سنده أشعث بن سوار وهو ضعيف كما صرح به الحافظ في التقريب، وفيه أيضا أبو الزبير المكي وهو مدلس، ورواه عن جابر بالعنعنة، قاله المباركفوري في تحفة الإحوذي 3 \ 674.
(2) انظر: المغني 5 \ 52. 53.(53/208)
ويشهد به المناسك كلها، إلا أنه لا يصلى عنه.
الرأي المختار:
مع كثرة القائلين بجواز طواف غير المميز، بناء على القول بانعقاد إحرامه بإحرام الولي عنه، وقيامه بما يستطيعه من المناسك كالطواف والسعي والوقوف والمبيت. . إلخ، فإني أميل إلى القول الآخر، وأن الطواف لا يصح من الطفل غير المميز. وذلك لما يلي:
1 - أن الطواف عبادة من العبادات البدنية، فلا تصح ممن لا يعقل أو يميز كالصلاة.
2 - أن الطواف مفتقر إلى نية، وغير المميز لا نية له فلا يصح طوافه.
3 - أن حديث ابن عباس أقوى أدلة القائلين بالجواز، وهو وإن كان صريحا في جواز حج الصبي ومن ثم صحة طوافه، إلا أنه ليس صريحا في كونه غير مميز.
4 - أن النصوص الأخرى تقرر أن أمر الصبي بالعبادات إنما يكون إذا بلغ سن التمييز، لما يحصل له من فوائد من مباشرتها وذلك كأمره بالصلاة وهو ابن سبع سنين.
5 - أن الآثار الأخرى التي استدل بها أصحاب القول الثاني ليست صريحة في الحج بالصبيان وهم دون سن التمييز، بل ظاهرها أنهم قد بلغوا سن التمييز، ولذلك أسند إليهم الأفعال. وقد نص على ذلك حديث السائب ابن يزيد، ويؤيده طواف أبي(53/209)
بكر رضي الله عنه بابن الزبير في خرقة، فإنه قد جاوز سن السابعة إذ كانت ولادته عام الهجرة (1) .
6 - أن الصبي غير المميز أشبه بالمجنون الذي لا يعقل، وقد سبق القول بعدم صحة الطواف منه.
7 - أن تحرك الصبي غير المميز أشبه بتحرك الآلة، أو الحيوان الذي لا يعقل، فلا معنى لطوافه وسائر تحركاته، ولهذا اتفق العلماء على أن إحرامه لا ينعقد إلا بوليه. إذ لا نية له ولا قصد. (والله أعلم) .
__________
(1) انظر: الإصابة 4 \ 69.(53/210)
المطلب الرابع: النية:
لا خلاف بين العلماء أن الطواف عبادة من العبادات التي أمر الله بها (1) ، وأنه من المقاصد، ولذلك اتفقوا على اشتراط النية لصحته. قال السرخسي: " الطواف عبادة مقصودة، ولهذا يتنفل به، فلا بد من اشتراط النية فيه " (2) وقال الحافظ ابن حجر: " وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها " (3) .
فالنية شرط في صحة الطواف المطلق اتفاقا، فالطواف
__________
(1) انظر: بحث أنواع الطواف وأحكامه. للباحث.
(2) المبسوط للسرخسي 4 \ 37.
(3) فتح الباري 1 \ 14.(53/211)
بغير نية ليس بصحيح، وليس عبادة يثاب عليها.(53/212)
وإنما اختلف العلماء في الطواف في النسك من حج أو عمرة، هل يشترط لصحته نية الطواف؟ وهل يكفي أصل النية أم لا بد من تعيينها، بأن يكون الطواف للقدوم أو للإفاضة أو للوداع؟
اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: يشترط أصل نية الطواف، ولا يشترط تعيينه.
فلو طاف يوم النحر نفلا أو وداعا وقع عن الزيارة، ولو طاف بعد الزيارة فهو للوداع سواء نواه أم أطلقه أم نواه تطوعا.
وإلى هذا ذهب الحنفية.(53/212)
القول الثاني: يشترط التعيين في بعض أنواعه.
فلو طاف للقدوم بنية النفل لم يجزه، أما لو طاف بعد دخول وقت الزيارة بنية الوداع أو النفل وعاد إلى بلده أجزأه.
وبهذا قال المالكية.(53/213)
القول الثالث: يشترط تعيين نية " الطواف.
فلو طاف بعد دخول وقت طواف الزيارة بنية الوداع أو النفل لم يقع عنه.
وبهذا قال الحنابلة، والشافعية في وجه، وإسحاق، وأبو ثور، وابن القاسم من المالكية، وابن المنذر.(53/214)
القول الرابع: لا تشترط نية الطواف أصلا، إذا كان الطواف في نسك من حج أو عمرة.
فلو طاف ناسيا أو ساهيا أجزأ عن الطواف المشروع في وقته، لكن يشترط أن لا يصرفه لغرض آخر كطلب غريم.
وإلى هذا ذهب الشافعية في الأصح من الأوجه عندهم(53/215)
وبعض الحنفية.(53/216)
الأدلة:
(1) استدل من اشترط أصل النية بما يلي:
قالوا: إن نية الطواف في وقته يقع بها عن المشروع في ذلك الوقت دون الحاجة إلى تعيين النية، كما لو صام رمضان بمطلق نية الصوم، أو صام رمضان بنية التطوع فإنه يقع عن رمضان.(53/216)
قال ابن الهمام: " إن خصوص ذلك الوقت إنما يستحق خصوص ذلك الطواف بسبب أنه في إحرام عبادة اقتضت وقوعه في ذلك الوقت فلا يشرع غيره، كمن سجد في إحرام الصلاة ينوي سجدة شكر أو نفل أو تلاوة عليه من قبل، تقع عن سجدة الصلاة لذلك الاستحقاق، فكان مقتضى هذا ألا يحتاج إلى نية أصلا كسجدة الصلاة، لكن لما كان هذا الركن لا يقع في محض إحرام العبادة الذي اقترن به بل بعد انحلال أكثره وجب له أصل النية دون التعيين؛ لأنه لم يخرج عنه بالكلية، بخلاف الوقوف بعرفة " (1) .
(2) واستدل من اشترط تعيين النية بما يلي:
الأول: بحديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » . . . الحديث.
__________
(1) شرح فتح القدير 2 \ 495.
(2) متفق عليه. أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (1) 1 \ 2، ومواضع أخرى من صحيحه. ومسلم في الإمارة، باب إنما الأعمال بالنية 13 \ 53. قال الحافظ في التلخيص 1 \ 54: '' لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في الموطأ ''.(53/217)
وجه الاستدلال منه:
أن الحديث دليل على اشتراط النية لصحة الأعمال. فلا بد منها، ولا بد من تعيينها للتفريق بين أنواعها.
الثاني: وبحديث: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه المنطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير (1) » .
__________
(1) الحديث أخرجه أحمد 3 \ 414، 4 \ 64، 5 \ 377، والنسائي في المناسك، باب إباحة الكلام في الطواف (136) 5 \ 222 (2922) . من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أيضا: الدارمي 2 \ 44 واللفظ له، والحاكم 1 \ 459، وابن خزيمة 4 \ 222 (2739) ، وابن حبان ص 247 (998) والطحاوي في شرح معاني الآثار 2 \ 178، والبيهقي 5 \ 85 كلهم من طريق عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي من طريق عطاء 2 \ 217 (967) بلفظ: '' الطواف حول البيت مثل الصلاة. . '' الحديث. قال الحافظ في التلخيص: '' وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وابن حبان، وقال الترمذي: '' روي مرفوعا وموقوفا، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء لما. ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس، واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف النسائي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي، وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر. . . '' إلخ، وبين ذلك النظر بتتبع طرق الحديث وما فيه من متابعات وشواهد يتقوى بها، بل لعله يرتقي بها إلى درجة الصحة. وممن ذهب إلى ذلك الزيلعي وابن الهمام وغيرهما. كما وافقهم على ذلك الألباني في الإرواء إذ قال بعد أن أطال الكلام على الحديث ومتابعاته وشواهده 1 \ 158: '' وجملة القول: إن الحديث مرفوع صحيح، ووروده أحيانا موقوفا لا يعله ''. وعلى فرض التسليم بوقفه فهو حجة أيضا، كما قال النووي في المجموع 8 \ 18: '' إنه قول صحابي اشتهر ولم يخالفه أحد من الصحابة، فكان حجة ''. وانظر: نصب الراية 3 \ 57، تحفة المحتاج لابن الملقن 1 \ 154، 155 (29، 30) شرح السنة للبغوي 7 \ 125. تلخيص الحبير 1 \ 129، إرواء الغليل 1 \ 154 (121) ، أضواء البيان 5 \ 207.(53/218)
الثالث: وقالوا: إنه عبادة محضة تتعلق بالبيت، فاشترطت له النية كالصلاة (1) .
(3) واستدل من لم يشترط النية أصلا بما يلي:
الأول: قالوا: إن نية النسك تشمل أعمال المناسك كلها بما فيها الطواف بأنواعه فلا يحتاج إلى نية، كما أن الصلاة تشمل جميع أفعالها ولا يحتاج إلى النية في ركوع ولا غيره (2) .
الثاني: وقالوا: الإجماع على أنه لو وقف بعرفة ناسيا أجزأه، فكذلك لو طاف بعد الوقوف ناسيا أنه للإفاضة.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو أنه لا
__________
(1) انظر: المبدع 3 \ 221، حاشية الروض المربع 4 \ 108 لابن قاسم.
(2) انظر: المجموع 8 \ 17.(53/219)
يشترط تعيين نية الطواف في النسك من حج أو عمرة، بل إن نية الطواف كافية لصحته وأدائه عن الواجب في وقته، فمن طاف فور قدومه وكان معتمرا كان الطواف لعمرته ولو نوى القدوم وحده، ولو طاف بعد الوقوف فهو للزيارة وإن لم ينوه، أو نواه للوداع قبل صدوره من مكة. وذلك لما يلي:
1 - أن الطواف في الوقت المحدد له، يقع عن الطواف المشروع في ذلك النسك، دون الحاجة إلى تعيين النية لذلك الطواف، اكتفاء بنية النسك في ذلك. كمن صام رمضان بمطلق النية أو نية التطوع، وكمن حج بنية النفل قبل أن يحج الفريضة.
2 - أن الوقوف بعرفة يختلف عن الطواف، فلا يصح قياس الطواف عليه في الاكتفاء بنية الإحرام، ذلك أن الطواف عبادة مقصودة يتنفل بها، أما الوقوف فإنه لا يتنفل به.
والوقوف يؤدى في حال الإحرام، أما طواف الزيارة فإنه يؤدى بعد التحلل من الإحرام بالحلق فوجود النية في(53/220)
الإحرام لا يغني عن النية في الطواف (1) .
3 - أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طافوا في حجة الوداع معه، وهم لا ينوون إلا الحج- فكان طوافهم للقدوم- فلما فرغوا من سعيهم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل وجعلها عمرة، ولم يأمرهم بإعادة الطواف، مع أن طوافهم سنة أو واجب، وطواف العمرة ركن.
__________
(1) انظر: المبسوط 4 \ 37، بدائع الصنائع 2 \ 128.(53/221)
4 - لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلن لأصحابه، أو يأمرهم بإعلام الطائفين بأن هذا طواف للقدوم وذلك طواف للإفاضة، بل كان يؤدي المناسك ويقول: «خذوا عني مناسككم (1) » ولا شك أن كثيرا ممن حج معه صلى الله عليه وسلم لم يكن مستحضرا أن الطواف بعد الوقوف بعرفة، هو طواف الزيارة، وهو الطواف الركن، وإنما كانوا يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم في مناسكه.
5 - ذهب الفقهاء الذين اشترطوا تعيين النية للطواف الواجب، إلى القول بإجزاء الطواف المستحب عنه، في بعض صوره.
وذلك كإجزاء طواف القدوم عن طواف العمرة إذا فسخ الحج إلى العمرة متمتعا بها إلى الحج، عند أحمد. وإجزاء طواف التطوع عن طواف الإفاضة الفاسد إذا طافه بعده، عند مالك.
قال ابن رجب: " وأخذ الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا، سواء نوى التطوع أو غيره، ولا يشترط للحج تعيين النية، فمن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه، وكذلك لو حج عن نذر أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام فإنها تنقلب عنها " (2) .
6- أن القول باشتراط تعيين النية فيه حرج كبير، إذ إن أكثر الحجاج على جهل كبير بمناسك الحج ومعرفة الواجب فيه
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(2) جامع العلوم والحكم ص 17.(53/222)
من الفرض. فكم من الحجاج يطوف طواف الزيارة يوم النحر أو بعده مرافقا غيره دون أن يستحضر أنه الطواف الركن، أو الطواف الذي لا يتم الحج إلا به. (والله أعلم) .(53/223)
المطلب الخامس: كون الطواف داخل المسجد:
اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على اشتراط أن يكون الطواف داخل المسجد الحرام، فلا يجوز الطواف خارجه، وحكى النووي الإجماع على عدم صحة الطواف خارج المسجد الحرام؛ لأنه حينئذ لا يكون طائفا بالبيت، وإنما يكون طائفا بالمسجد، والله(53/223)
أمر بالطواف بالبيت، فقال سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)
وهل يجب الدنو من البيت أم يصح الطواف ولو مع البعد عنه ما دام في المسجد؟
وهل يصح الطواف على سطح المسجد أم يشترط ألا يكون مرتفعا عن بناء البيت؟
هذا ما سأتناوله في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: الطواف بأروقة المسجد.
الفرع الثاني: الطواف على سطح المسجد.
الفرع الأول: الطواف بأروقة المسجد:
لا خلاف بين العلماء أن الدنو من البيت للرجال مستحب.
وليس النظر في هذا البحث إلى سنن الطواف ومستحباته، وإنما إلى شروطه وواجباته، فهل يكون الدنو من البيت واجبا من واجبات الطواف، وشرطا في صحته، خاصة إذا لم يحل دون
__________
(1) سورة الحج الآية 29(53/224)
ذلك حائل، أو لم يكن الدنو متعذرا بسبب الزحام، أم لا؟
وهل الطواف بأروقة المسجد، وعلى بعد من البيت- إذا لم يكن خارج المسجد - مخلا بصحته أم بواجباته؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يجوز التباعد من البيت في الطواف ما لم يخرج من المسجد، سواء حال بينه وبين البيت حائل من السواري ونحوها أم لم يحل شيء من ذلك.
وإلى هذا القول ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.(53/225)
القول الثاني: يجب الدنو من البيت، فلو طاف من وراء السواري لحر ونحوه، فعليه الإعادة ما دام في مكة. أما إن طاف خارج المسجد القديم، فلا يعتد بطوافه، وعليه الإعادة. وإلى هذا القول ذهب المالكية.(53/226)
فإن تعذرت عليه الإعادة لرجوعه إلى بلده أو بعده، لم يلزمه الرجوع، وعليه دم على المذهب.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ". قالت: فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور (1) »
__________
(1) متفق عليه. أخرجه البخاري في الصلاة، باب إدخال البعير المسجد (78) 1 \ 119، وفي الحج، باب طواف النساء (64) 2 \ 164 وغيرها. ومسلم في الحج، باب جواز الطواف على بعير 9 \ 20.(53/227)
وجه الاستدلال منه:
أن إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بأن تطوف من وراء الناس، دليل على صحة الطواف بالبيت وإن لم يدن من البيت، أو كان بينه وبين البيت حائل من مصلين أو غيرهم.
الثاني: وقالوا: إن تباعد من البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد، سواء حال بينه وبين البيت حائل أم لم يحل؛ لأن الحائل في المسجد لا يضر، كما لو صلى في المسجد مؤتما بالإمام من وراء حائل (1) .
الثالث: وقالوا: قد وسع المسجد عما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من وسعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلو كان من شرط الطواف أن يكون في المسجد القديم، لنقل ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.
حجة الفريق الثاني:
لم أقف للمالكية على حجة فيما ذهبوا إليه من إيجاب الدنو من البيت أو اشتراط كونه بالمسجد القديم، لكن لعلهم استدلوا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2)
وجه الاستدلال منها:
1 - أن الله أمر بالطواف بالبيت، فلو طاف تحت السقائف والحوائل من غير زحام، لم يكن طائفا بالبيت بل
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 220.
(2) سورة الحج الآية 29(53/228)
بالسقائف؛ فدل ذلك على وجوب الدنو من البيت. "
2 - أن الله أمر بالطواف بالبيت، وجاء البيان بتحديد المكان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «خذوا عني مناسككم (1) » فدل ذلك على اشتراط أن يكون الطواف حيث طاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنه لا يصح الطواف إلا في المسجد القديم.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن الطواف من داخل المسجد صحيح وجائز، وإن تباعد عن البيت، وأن المستحب الدنو من البيت إن لم يكن في ذلك ضرر من زحام أو غيره، وأن المطاف يتسع باتساع المسجد. وذلك لما يلي:
1 - أن الله جل وعلا أمر بالطواف بالبيت ولم يأمر بالدنو منه، فمن طاف من داخل المسجد فهو طائف بالبيت.
2 - أن القول بوجوب الدنو من البيت عند عدم الزحمة يفتقر إلى
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(53/229)
دليل، فلو حمل الدنو على الاستحباب، والبعد على الكراهة لكان له وجه.
3 - أن القول باشتراط أن يكون الطواف في المسجد القديم، فيه بعد، وتضييق شديد، فقد وسع المسجد الحرام منذ عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وتتابعت الزيادات إلى عصرنا الحاضر، ومن رأى كثرة الناس وخاصة أيام الحج في أيامنا هذه يدرك ما في هذا القول من التضييق الشديد.
4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالطواف من وراء المصلين، دليل على عدم وجوب الدنو من البيت.
5 - أن الطواف بالبيت صحيح ما دام في المسجد، ولو حال بينه وبين البيت حائل، كما لو صلى في المسجد مؤتما من وراء حائل. (والله أعلم) .
الفرع الثاني: الطواف على سطح المسجد:
المستحب أن يكون الطواف بصحن المسجد، قريبا من البيت، فإن اشتد الزحام بالحجاج احتاجوا إلى الطواف تحت السقائف بأروقة المسجد أو على سطحه.
وقد أشرت في المسألة السابقة إلى الطواف بأروقة المسجد، وسيكون الحديث في هذه المسألة عن الطواف على سطح المسجد.
فأقول وبالله التوفيق: سطح المسجد لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون بناء البيت أعلى منه.(53/230)
الثاني: أن يكون السطح أعلى من بناء البيت.
أما الحالة الأولى: وهي أن يكون الطواف على سطح المسجد، ببناء البيت، أي: أن بناء البيت أرفع من السطح.
فالخلاف في هذه المسألة نحو الخلاف في المسألة السابقة:
1 - فالحنفية والشافعية والحنابلة يرون جواز الطواف على سطح المسجد.
2 - والمالكية يرون عدم جواز الطواف على سطحه؛ لأنهم يشترطون الطواف في المسجد القديم.
قال الحطاب: " ومثله- أي: مثل الطواف خارج المسجد في عدم الإجزاء- والله أعلم، من طاف على سطح المسجد، وهذا ظاهر، ولم أره منصوصا، وصرح الشافعية والحنفية بأنه يجوز الطواف على سطح المسجد، ولم يتعرض لذلك الحنابلة " (1) .
أما الحالة الثانية: وهي أن يكون الطواف على سطح المسجد، بفناء البيت. أي: أن السطح أعلى من بناء البيت.
فهل يكون الطواف في هذه الحالة طوافا بالبيت؟ وهل يكون طوافا مجزئا وصحيحا؟
اختلف العلماء الذين أجازوا الطواف في الحالة الأولى، في
__________
(1) مواهب الجليل 3 \ 75.(53/231)
هذه الحالة على قولين:
القول الأول: يجوز الطواف على سطح المسجد، ولو كان أرفع من بناء البيت.
وإلى هذا القول ذهب الحنفية، والشافعية على الصحيح، ووجه للحنابلة.
القول الثاني: لا يجوز الطواف على سطح المسجد، إذا كان أرفع من بناء البيت.
وإلى هذا القول ذهب الشافعية في وجه. وهو احتمال عند الحنابلة.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، القائلون بجواز الطواف على(53/232)
سطح المسجد، ولو ارتفع عن بناء البيت بما يلي:
الأول: بالإجماع على صحة الصلاة على جبل أبي قبيس مع ارتفاعه عن بناء البيت، فكذلك يصح الطواف ولو ارتفع الطائف عن بناء البيت (1) .
الثاني: أن البيت يطلق على الكعبة باعتبار البقعة، مع قطع النظر عن البناء، ولهذا لو هدم البيت- والعياذ بالله- صح الطواف به، فمن طاف على سطح المسجد، ولو كان فوق ارتفاع بناء البيت، فقد طاف بالبيت. أي: بالبقعة.
__________
(1) انظر: المجموع 8 \ 39، هداية السالك 2 \ 784، منسك ملا القاري ص 101.(53/233)
صفحة فارغة(53/234)
واستدل أصحاب القول الثاني: القائلون بعدم الجواز بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف بالبيت، فمن طاف مرتفعا عن بناء البيت لم يكن طائفا به.
الثاني: وبقوله تعالى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 144(53/235)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر باستقبال جهة البيت، فدل ذلك على صحة الصلاة على أبي قبيس ونحوه؛ لأن المصلي مستقبل شطر البيت.
أي: جهته.
وهذا بخلاف الطواف، فإن الطائف مأمور بالطواف بالبيت.
أي: ببنائه، فإذا علا لم يكن طائفا به (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن الطائف داخل المسجد يعد طائفا بالبيت، سواء كان ذلك في صحن المطاف، أم في أدوار المسجد المتكررة، وعلى سطحه.
وذلك لما يلي:
1 - أن البيت يطلق على الكعبة باعتبار البقعة مع قطع النظر عن البناء.
2 - أن الطواف بالبيت صلاة، فكما تصح الصلاة إلى البيت مع ارتفاع المصلي، فكذلك يصح الطواف بالبيت ولو ارتفع
__________
(1) انظر: هداية السالك 2 \ 784.(53/236)
الطائف عن بناء البيت. (والله أعلم) .(53/237)
المطلب السادس: كون الطواف بالبيت:
اتفق العلماء على اشتراط أن يكون الطواف بالبيت- أي حوله- لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) فلا يجوز الطواف داخله؛ لأنه حينئذ يكون طائفا فيه، لا طائفا به.
واختلفوا فيما إذا طاف فيه، بأن دخل من إحدى فتحتي الحجر وخرج من الجهة الأخرى، فلم يدخل الحجر في طوافه، أو طاف على الشاذروان. هل يصح طوافه أم لا؟
هذا ما سأتناوله في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: الطواف من داخل الحجر.
الفرع الثاني: الطواف على الشاذروان.
__________
(1) سورة الحج الآية 29(53/237)
الفرع الأول: الطواف من داخل الحجر:
لا خلاف بين العلماء أن الحجر أو جزء من الحجر من البيت، وإنما أخرج من البيت؛ لأن قريشا قصرت بهم النفقة فلم يستطيعوا إدخاله في البيت، ففي الصحيحين عن عائشة رضي(53/238)
الله عنها قالت: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: "نعم " قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: " إن قومك قصرت بهم النفقة (2) » . . . الحديث.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أحب أن أدخل البيت، فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدي فأدخلني في الحجر فقال لي: «صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت (3) » .
ولا خلاف بينهم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم (4) » . وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر. . . (5) »
قال النووي: " إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر، وهكذا الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة فمن بعدهم، وهذا يقتضي
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب فضل مكة وبنيانها (42) 2 \ 156، ومسلم في الحج، باب جدر الكعبة وبابها 9 \ 96.
(2) الجدر: المراد به الحجر. (1)
(3) أخرجه أحمد 6 \ 92، وأبو داود في المناسك، باب في الحجر 2 \ 214 (2028) ، والترمذي في الحج، باب ما جاء في الصلاة في الحجر 2 \ 181 (877) . وقال: حسن صحيح، والنسائي في المناسك، باب الصلاة في الحجر 5 \ 219 (2912) .
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(5) في مناقب الأنصار، باب القسامة في الجاهلية 4 \ 238.(53/239)
وجوب الطواف خارج الحجر، سواء كان كله من البيت أم بعضه، لأنه وإن كان بعضه من البيت فالمعتمد في باب الحج الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجب الطواف بجميعه " (1) .
فمن طاف من داخل الحجر بأن دخل من إحدى الفتحتين وخرج من الأخرى، فلا خلاف بين العلماء أنه قد أخل بالطواف الواجب؛ لأنه بفعله هذا طاف في البيت، ولم يطف به، وإنما اختلفوا فيما يترتب على من فعل ذلك على قولين:
القول الأول: أن طوافه غير صحيح، ولا يعتد به، فليزمه إعادته.
وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وبه قال عطاء.
القول الثاني: أنه يجب عليه إعادة الطواف ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده أجزأه وعليه دم. وتجزئ الإعادة على
__________
(1) المجموع 8 \ 25.(53/240)
الحجر خاصة، والأفضل الإعادة على كل البيت.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وبنحوه قال الحسن البصري.(53/241)
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: بالأدلة الدالة على أن الحجر من البيت (1) .
وجه الاستدلال منها:
أن الحجر من البيت، فمن ترك الطواف بالحجر، لم يطف بجميع البيت، فلم يصح، كما لو ترك الطواف ببعض البناء.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، وقد قال عليه الصلاة والسلام «لتأخذوا عني مناسككم (2) » .
وجه الاستدلال منه:
أن الله أمر بالطواف بالبيت، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله كيفية هذا الطواف، إذ طاف من وراء الحجر، وأمر بالاقتداء بفعله، فدل ذلك على أن من طاف من داخل الحجر، لم يصح طوافه؛ لأنه خلاف الطواف المأمور به (3) .
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بالأدلة الدالة على أن إكمال الأشواط السبعة ليس شرطا لصحة الطواف، فلو طاف أكثر الأشواط ولم يتمكن من إتمامه أو إعادته صح طوافه وأجزأه، وجبر المتروك منه (4) .
__________
(1) تقدمت الإشارة إلى شيء من هذه الأدلة في أول المطلب.
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(3) انظر: المغني 5 \ 230.
(4) تقدمت هذه الأدلة في المطلب الأول.(53/242)
الثاني: وقالوا: كون الحطيم من الكعبة ثبت بالآحاد، فكان الطواف به واجبا يجبر تركه بالدم (1) .
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو: أن من طاف من داخل الحجر، فطوافه غير صحيح، وعليه إعادته، ولا يجزئه الإعادة على الحجر وحده. وذلك لما يلي:
1 - أن الله أمر بالطواف بالبيت، فالطائف من داخل الحجر، لم يطف بالبيت، وإنما طاف فيه، فلم يصح طوافه.
2 - أن من طاف من داخل الحجر، لا شك أنه أتى بطواف على غير الصفة التي طاف عليها النبي عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » فلم يصح طوافه.
3 - أن الآية وإن لم تحدد عدد الأشواط، فالإجماع على أن المرة الواحدة لا تجزئ فيه، فكان بيان المراد بالعدد بفعله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في أنه طاف سبعة أشواط من وراء الحجر، فدل ذلك على أن المراد بالطواف في الآية، الطواف بالبيت سبعة أشواط من وراء الحجر.
4 - أن الطواف وإن كان من أسباب التحلل إلا أنه عبادة مقصودة، بل وركن من أركان الحج والعمرة، فإقامة البعض أو الأكثر في بعض الأجزاء لا يلزم منه إقامتها في كل جزء، فمن أتى بسائر أركان الحج بما فيها الوقوف بعرفة، ولم يطف للزيارة
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 2 \ 496.
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(53/243)
لم يتم حجه، ولا يقال: إن الإتيان بالأكثر يقوم مقام الكل.
(والله أعلم) .(53/244)
الفرع الثاني: الطواف على الشاذروان:
سبقت الإشارة في الفرع الأول إلى اتفاق العلماء: على اشتراط أن يكون الطواف بالبيت. أي: حوله من خارجه لا في داخله. ولا خلاف بينهم أن من طاف داخل البيت حول جدرانه لا يصح طوافه.
فهل الشاذروان من البيت؟ وما حكم الطواف عليه؟
سأتناول بحث ذلك في مسألتين: المسألة الأولى: هل الشاذروان من البيت؟ المسألة الثانية: حكم الطواف على الشاذروان.
مسألة هل الشاذروان من البيت؟ : اختلف العلماء في ذلك على قولين:(53/244)
القول الأول: ليس الشاذروان من البيت، فلو طاف عليه صح طوافه، إلا أن الأولى أن يطوف خارجه خروجا من الخلاف.
وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو اختيار بعض المالكية، والشافعية، وابن تيمية من الحنابلة.
القول الثاني: أنه من البيت، فلو طاف عليه لم يصح طوافه؛ لأنه حينئذ يكون طائفا في البيت لا به.
وإلى هذا ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو: أن(53/245)
الشاذروان ليس من البيت. وهو اختيار ابن جماعة وغيره من المحققين.
وقد أوضح سبب اختياره بقوله:
" ثبت أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، فإنهم عجزوا عن بنائه (1) » . وفي لفظ لمسلم: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت (2) » . وفي رواية له: «اقتصروا عن قواعد إبراهيم (3) » .
وفي أخرى: «استقصروا من بنيان الكعبة (4) » .
وصح أن ابن الزبير لما بلغه حديث عائشة قال: " أنا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس " (5) . فهدم الكعبة، وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب فضل مكة وبنيانها (42) 2 \ 156، واللفظ له، ما عدا قوله: '' فإنهم عجزوا عن بنائه ''. ومسلم في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها 9 \ 88- 91.
(2) صحيح البخاري الحج (1586) ، صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن الترمذي كتاب الحج (876) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/113) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .
(3) صحيح البخاري كتاب الحج (1583) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1333) ، سنن النسائي مناسك الحج (2900) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/113) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .
(4) صحيح البخاري الحج (1586) ، صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن الترمذي كتاب الحج (876) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/247) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .
(5) أخرجه مسلم 9 \ 93.(53/246)
ثم هدم الحجاج الشق الذي من ناحية حجر إسماعيل فقط كما قال الأزرقي وغيره، وأعاده على ما كان عليه في زمن قريش. والشق الآخر بناء ابن الزبير رضي الله عنه وهو يظهر للرائي عند رفع الأستار ". فهذا دليل على أن البيت مبني على قواعد إبراهيم، وأن الشاذروان ليس من البيت. (والله أعلم) .(53/247)
مسألة حكم الطواف على الشاذروان:
اختلف العلماء في ذلك بناء على اختلافهم، هل الشاذروان من البيت أم لا؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أن من طاف على الشاذروان، فطوافه صحيح، لكن ينبغي أن يكون طوافه من ورائه؛ خروجا من الخلاف.
وإلى هذا ذهب الحنفية وبعض المالكية، والشافعية، والحنابلة.
القول الثاني: أن من طاف على الشاذروان، فطوافه غير صحيح، ولا يعتد به.
وإلى هذا القول ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، في المشهور عنهم. إلا أن المالكية قالوا: يعيد ما دام في مكة،(53/248)
فإن تعذرت عليه الإعادة لرجوعه إلى بلده أو بعده، لم يلزمه الرجوع، وعليه دم.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)
وجه الاستدلال منها: أن الله أمر بالطواف بالبيت، والشاذروان ليس من البيت، بل خارج عنه، فمن طاف على
__________
(1) سورة الحج الآية 29(53/249)
جداره فقد أدى المأمور به وهو الطواف بالبيت.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)
وجه الاستدلال منها: أن الله أمر بالطواف بالبيت، والشاذروان منه، فمن طاف على جداره، لم يطف بكل البيت، فلم يصح طوافه.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الشاذروان، وقال.
«لتأخذوا عني مناسككم (2) » .
فدل ذلك على وجوب الطواف من وراء الشاذروان، وأن من طاف عليه لم يصح طوافه، لإخلاله بالطواف المأمور به.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو: أن الأولى بالطائف وخاصة إذا كان في حج أو عمرة- أن يأخذ بالأحوط في ذلك- وأن يطوف من وراء الشاذروان، وأنه إن طاف عليه وأمكنه إعادة الطواف دون مشقة فالأولى أن يعيده، خروجا من الخلاف في ذلك.
أما إن سافر إلى بلده، أو كان يشق عليه إعادته، فطوافه صحيح، ولا يلزمه شيء.
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(53/250)
1 - تقدم ترجيح أن الشاذروان ليس من البيت، بل خارج عنه، فمن طاف عليه، فقد طاف بالبيت كله، وأدى المأمور به.
2 - ما ذكره بعض الشافعية وتبعهم فيه غيرهم من الاحتراز عند التقبيل، أو مد اليد في هواء الشاذروان تكلف ما أنزل الله به من سلطان فلو كانت أمورا معتبرة لنبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها مما تمس إليها الحاجة. (والله أعلم) .(53/251)
المطلب السابع: الابتداء من الحجر الأسود:
لا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ الطواف بالحجر الأسود فاستمله ثم طاف سبعة أشواط كما قال جابر في حديثه:(53/251)
«حتى أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا (1) » .
فهل يعد ابتداء الطواف من الحجر الأسود شرطا لصحة ذلك الشوط؟ أم أن الابتداء به سنة وليس بواجب، إذ الواجب أن يطوف بالبيت سبعة أشواط، فمن حيث ابتدأ جاز؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الابتداء من الحجر الأسود شرط لصحة الطواف، فلو ابتدأ من عند الباب لم يحسب له ذلك الشوط، ولزمه أن يأتي ببدله.
وإلى هذا القول ذهب الشافعي، وأحمد، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وأشار إليه بعض المالكية.
__________
(1) تقدم تخريجه.(53/252)
القول الثاني: أنه سنة، وليس بشرط، فلو ابتدأ من دون الحجر أجزأه، وينتهي شوطه من حيث ابتدأ.
وإلى هذا ذهب الأحناف في المشهور.
القول الثالث: أنه واجب، فلو تركه في طواف الفرض لزمه إعادته ما دام في مكة، وإن رجع ولم يعده، جبره بالدم. وإلى هذا ذهب الأحناف في قول، والمالكية في(53/253)
المشهور.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأولى بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 29(53/254)
الثاني: وبحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف، يخب ثلاثة أطواف من السبع (1) » متفق عليه.
الثالث: وبحديث جابر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا (2) » رواه مسلم.
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف ببيته العتيق، ولم يحدد مكان الابتداء منه، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم، إذ ابتدأ من الحجر الأسود، وأمر بالاقتداء به في أعمال المناسك، فدل ذلك على وجوب الابتداء من الحجر الأسود، وأنه شرط لصحة الشوط.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
الأول: بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب استلام الحجر الأسود (56) 2 \ 161، وبنحوه في باب من ساق البدن معه (104) 2 \ 181، ومسلم في الحج باب وجوب الدم على المتمتع 8 \ 209، وباب استحباب الرمل في الطواف والعمرة 9 \ 8.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 196.
(3) سورة الحج الآية 29(53/255)
وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف، ولم يقيد ابتداءه من الحجر الأسود، فدل ذلك على أن الابتداء به سنة يكره تركها.
واستدل أصحاب القول الثالث، القائلون بالوجوب بما يلي:
بالآية نفسها، وقالوا في وجه الاستدلال منها:
أن الله أمر بالطواف، ولم يقيد ابتداءه من الحجر الأسود، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب في طوافه كله على الابتداء من الحجر الأسود فدل ذلك على وجوبه.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول. وهو: أن الابتداء من الحجر الأسود شرط لصحة الطواف، وأن على الطائف أن يحاذي الحجر الأسود، ولو ببعض بدنه، والأحوط للطائف- خاصة إذا كان الطواف واجبا- أن يبدأ طوافه قبل(53/256)
الحجر قليلا. وذلك لما يلي:
1 - أن الله أمر بالطواف ببيته العتيق، وأجمل تحديد ابتدائه، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم ومواظبته على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يبين مناسك الحج: «لتأخذوا عني مناسككم (1) » فدل ذلك على وجوب الابتداء من الحجر الأسود، وأنه شرط لصحة الطواف.
2 - أن الترتيب في الطواف، وذلك بأن يبدأ الشوط من الحجر الأسود فيحاذيه ولو ببعض بدنه، شرط لصحة الطواف، كالترتيب في الصلاة شرط لصحتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة (2) » . (والله أعلم) .
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(2) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(53/257)
المطلب الثامن: الوقت:
لا لخلاف بين العلماء على أن الطواف إن كان مؤقتا في بدايته أو نهايته، فإن الوقت حينئذ يكون شرطا لصحته. ولمعرفة نوع الطواف الذي يشترط الوقت لصحته، سأتناول ذلك بشيء من الإجمال (1) في الفروع التالية:
__________
(1) ذلك أني أفردت هذه الأنواع بالدراسة، فأكتفي بالإحالة إليها لمن أراد الاستزادة.(53/257)
الفرع الأول: طواف القدوم.
الفرع الثاني: طواف الإفاضة.
الفرع الثالث: طواف الوداع.
الفرع الأول: طواف القدوم:
الداخل إلى مكة محرما، إما أن يكون إحرامه بعمرة، سواء كانت مفردة، أم متمتعا بها إلى الحج. وإما أن يكون إحرامه بحج.
أولا: المحرم بعمرة، لا يشرع له أن يطوف للقدوم قبل أدائه العمرة؛ لأنه وقت دخوله يشرع له طواف مفروض، وهو طواف العمرة، فيسقط عنه طواف القدوم، كمن دخل المسجد وقت الفريضة، لا يشرع له صلاة تحية المسجد (1) .
قال ابن رشد: " أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم " (2) .
فطواف القدوم، يشرع من حين قدوم المحرم بعمرة ودخوله مكة، ولا يحد آخره بزمن، كما لم يحد أوله بزمن، بل يبقى محرما إلى حين الفراغ من عمرته، والتحلل منها.
ثانيا: المحرم بحج. لا خلاف بين العلماء أن المفرد بالحج إذا دخل مكة قبل يوم عرفة يشرع له طواف القدوم.
__________
(1) انظر: (أنواع الطواف وأحكامه) للباحث العدد (50) ص 211 من هذه المجلة.
(2) بداية المجتهد 1 \ 344.(53/258)
وإنما اختلفوا إذا لم يدخلها إلا بعد الوقوف بعرفة (1) على قولين:
القول الأول: لا يشرع له طواف القدوم؛ لفوات وقته.
وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة، ما عدا أحمد.
القول الثاني: يشرع له طواف القدوم بعد يوم عرفة إذا لم يأت مكة قبل ذلك، ولا طاف للقدوم.
إلى هذا ذهب أحمد.
وبناء على ما تقدم: فإن جمهور العلماء يرون أن لطواف القدوم وقتا ينتهي إليه، ولا يصح بعده، وهو الوقوف بعرفة.
__________
(1) انظر هذه المسألة في بحث أنواع الطواف وأحكامه، العدد (50) ص 215.(53/259)
الفرع الثاني: طواف الإفاضة:
لا خلاف بين العلماء أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ولا يتم الحج إلا به (1) .
ولا خلاف بينهم أيضا أن لطواف الإفاضة وقتا لا يجوز الطواف قبله، فمن طاف للإفاضة قبل يوم عرفة لم يصح طوافه باتفاق، وإنما اختلفوا في تحديد أوله على قولين:
القول الأول: أن أول وقته يبدأ من نصف ليلة النحر.
وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
__________
(1) انظر: (أنواع الطواف وأحكامه) المبحث الثاني: طواف الإفاضة، العدد (50) ص 239.(53/259)
القول الثاني: أن أول وقته يبدأ بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية.
أما آخر وقته:
فقد اختلف العلماء فيما يترتب على تأخير طواف الإفاضة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن تأخيره لا يوجب دما، إلا أنه يبقى محرما. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، ورواية عن مالك، وحكاه ابن المنذر عن جمهور العلماء.
القول الثاني: أن تأخيره إلى انتهاء أيام النحر، موجب للدم. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
القول الثالث: أن تأخير الطواف إلى انتهاء شهر ذي الحجة موجب للدم. وإلى هذا ذهب مالك في الرواية المشهورة.
القول الرابع: أن تأخير الطواف إلى انتهاء شهر ذي الحجة مبطل للحج. وإلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري.
وبناء على هذه الأقوال فإن جمهور العلماء متفقون على أنه لا آخر لوقت طواف الإفاضة، فلو أخره زمنا طويلا ثم طاف، صح طوافه وتم حجه، إلا أن بعضهم يوجب عدم تأخيره عن أيام النحر، أو عن شهر ذي الحجة.
ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم الظاهري، إذ اشترط أداءه(53/260)
قبل انتهاء شهر ذي الحجة، فجعل الوقت شرطا لآخر الطواف، كما أنه شرط في أوله.(53/261)
الفرع الثالث طواف الوداع:
يشرع للحاج قبل الرجوع إلى بلده أن يطوف بالبيت، وهو ما يسمى بطواف الوداع أو الصدر، ولا خلاف بين العلماء أن لطواف الوداع وقتا لا يجوز الطواف قبله، وهو أن يكون بعد طواف الإفاضة، فمن طاف للوداع قبل طواف الإفاضة لم يصح طوافه. وقد تبين في الفرع السابق أن طواف الإفاضة له وقت لا يصح قبله.
لكنهم اختلفوا في الوقت الذي يصح فيه طواف الوداع على قولين:
القول الأول: إذا أراد الخروج من مكة بعد الفراغ من أداء مناسكه طاف للوداع، فلو اشتغل بعده بغير أسباب الخروج كتجارة، أو إقامة، فعليه أن يعيده مرة أخرى.
وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف.
القول الثاني: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد طواف الزيارة، ولو في يوم النحر، أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام(53/261)
شهرا أو أكثر. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة،. وأشهب من المالكية.
وبناء على ما تقدم: فالجمهور يشترطون أن يكون طواف الوداع آخر العهد بالبيت، فلا يصح قبل ذلك.
وأما أبو حنيفة فيشترط أن يكون بعد طواف الإفاضة، ولو في يوم النحر.(53/262)
الخاتمة:
بعد هذا التطواف بمطالب هذا البحث، ودراسة مسائله، وما اشتمل عليه من مباحث يمكن إبراز نتائجه في النقاط التالية:
1 - أن بين واجبات الطواف وشروطه، عموما وخصوصا مطلقا، فكل شرط واجب، وليس كل واجب شرطا.
2 - أن الإخلال بشيء من الشروط والواجبات ليس على وتيرة واحدة، بل يتفاوت بناء على التفاوت في نوعه.
3 - الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعة أشواط، وأن من طاف بالبيت مرة واحدة لم يصح طوافه.
4 - أن من شرط صحة الطواف إكمال سبعة أشواط، فمن نقص من ذلك شوطا لم يعتد بطوافه.
5 - أن من شرط صحة الطواف الإسلام؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تصح من الكافر، ولا تقبل منه.
6 - أن من شرط صحة الطواف العقل، فلا يصح طواف المجنون،(53/262)
ولا الصبي غير المميز؛ لأنه عبادة بدنية فلا تصح من غير المميز كالصلاة.
7 - أن نية الطواف كافية لصحته وأدائه عن الواجب في وقته، فلا يشترط تعيين نية الطواف في النسك من حج أو عمرة.
8 - أن الطواف من داخل المسجد صحيح وجائز وإن تباعد البيت، وأن المطاف يتسع باتساع المسجد، وأن الطائف داخل المسجد يعد طائفا بالبيت، سواء كان ذلك في صحن المطاف، أم في أدوار المسجد المتكررة وعلى سطحه.
9 - أن من طاف في داخل الحجر فطوافه غير صحيح، ولا يجزئه الإعادة على الحجر وحده.
10 - أن الشاذروان ليس من البيت، فمن طاف عليه فطوافه صحيح، إلا أن الأولى به أن يطوف من ورائه احتياطا لصحة طوافه.
11 - أن الابتداء من الحجر الأسود شرط لصحة الطواف، وأن على الطائف أن يحاذي الحجر الأسود ولو ببعض بدنه، والاحتياط أن يبدأ قبل الحجر قليلا.
12 - أن لطواف القدوم وقتا ينتهي إليه، وهو الوقوف بعرفة.
13 - أن لطواف الإفاضة وقتا لا يجوز قبله، وهو النصف الثاني لليلة النحر، وليس له وقت ينتهي إليه، فلو أخره زمنا طويلا ثم طافه صح طوافه، وتم حجه.
14 - أن لطواف الوداع وقتا لا يجوز قبله، وهو أن يكون بعد(53/263)
طواف الإفاضة.
والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المبعوث بخاتم الرسالات وعلى آله وصحبه حتى الممات.(53/264)
تأملات في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (1)
د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد: فهذا بحث مشتمل على لطائف متفرقة وفوائد متنوعة منبثقة من النظر والتأمل لقوله تعالى- في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (2) وذلك في الآية السادسة من سورة الأحزاب، حيث جعلهن تبارك وتعالى أمهات للمؤمنين.
ولا ريب أن هذه درجة رفيعة نلنها، ومكانة سامية تبوأنها، تكرمة من الله لهن وتشريفا، ولله ما أعظمها من مكانة وأعلاها من درجة شرفن بها بزواجهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى بهذا التكريم لهن والتشريف يعظم حقهن، ويعلي بين الأمة قدرهن، وينوه بلزوم الاهتمام بواجبهن رضي الله عنهن وأرضاهن.
وقد انتظم هذا البحث خمس عشرة مسألة تدور حول فقه هذه الآية وتأملها. وقصدي من وراء ذلك نفع نفسي ومن يقف
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) سورة الأحزاب الآية 6(53/265)
عليه من إخواني، والقيام بشيء من واجبات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
والمسائل المبحوثة هنا هي:
المسألة الأولى: في بيان معنى الأزواج.
المسألة الثانية: في بيان معنى الأمهات.
المسألة الثالثة: في فائدة الإضافة في قول الله تعالى:
وأزواجه.
المسألة الرابعة: في فائدة الإضافة في قوله تعالى:
وأمهاتهم.
المسألة الخامسة: في وجه كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين.
المسألة السادسة: إذا قيل: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، فهل يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم؟
المسألة السابعة: هل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فقط؟ أو أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
المسألة الثامنة: هل يقال لإخوان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أخوال للمؤمنين؟ وهل يقال لبناتهن بأنهن أخوات للمؤمنين؟
المسألة التاسعة: هل يقال لسراري النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين أو لا يقال؟
المسألة العاشرة: هل النساء اللاتي عقد عليهن صلى الله عليه وسلم ولم(53/266)
يدخل بهن معدودات في أمهات المؤمنين؟
المسألة الحادية عشرة: في ذكر عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم والتعريف بهن رضي الله عنهن.
المسألة الثانية عشرة: في ذكر بعض فضائلهن وخصائصهن.
المسألة الثالثة عشرة: في واجبنا نحو أزواجه صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة عشرة: في الحكمة من تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم.
المسألة الخامسة عشرة: في التحذير من بعض المواقف المنحرفة تجاه أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وهذا أوان الشروع في المراد، وبالله وحده التوفيق.
المسألة الأولى: في بيان معنى الأزواج:
الأزواج في اللغة: جمع زوج، وأصله من مادة " زوج " الدالة على مقارنة شيء لآخر. واقتران الذكر بالأنثى يسمى زواجا، ويسمى كل واحد منهما زوجا للآخر، ومنه قوله تعالى لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (1) ، وقوله عن زكريا:
{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} (2) ، وقد يقال للمرأة: زوجة، وتجمع على زوجات، إلا أن الأول أفصح (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 19
(2) سورة الأنبياء الآية 90
(3) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3 \ 35) ، وجلاء الأفهام لابن القيم (ص 150، 151) .(53/267)
والزواج يعد من النعم العظيمة التي امتن الله بها على عباده، ومن الآيات الكبيرة الدالة على كمال قدرة الله تبارك وتعالى، وتمام حكمته، ووجوب إخلاص الدين له دون ما سواه.
قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (1) ، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (2) {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
__________
(1) سورة النحل الآية 72
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة الروم الآية 21(53/268)
المسألة الثانية: في بيان معنى الأمهات:
الأمهات: جمع، مفرده أم، وهي لغة بإزاء الأب، وهي الوالدة القريبة التي ولدته، والبعيدة التي ولدت من ولدته، ولهذا قيل لحواء: هي أمنا، وإن كان بيننا وبينها وسائط، ويقال لكل ما كان أصلا لوجود الشيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه: أم.
قال الخليل: كل شيء ضم إليه سائر ما يليه يسمى أما (1) .
__________
(1) انظر: المفردات، للراغب ص (22) .(53/268)
وقد وردت كلمة (أم) في القرآن الكريم على أوجه عديدة:
الأول: بمعنى نفس الأصل: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) أي: أصله.
الثاني: بمعنى المرجع والمأوى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (2) أي: مسكنه النار.
الثالث: بمعنى الوالدة: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (3) .
الرابع: بمعنى الظئر: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (4) .
الخامس: بمعنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (5) .
السادس: بمعنى اللوح المحفوظ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} (6) .
السابع: بمعنى مكة شرفها الله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} (7) (8) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة القارعة الآية 9
(3) سورة طه الآية 40
(4) سورة النساء الآية 23
(5) سورة الأحزاب الآية 6
(6) سورة الزخرف الآية 4
(7) سورة الشورى الآية 7
(8) انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (2 \ 111، 112) .(53/269)
وبما تقدم يعلم أن المرأة قد تكون أما من أحد أوجه ثلاثة:
1 - إما من جهة الولادة، فالوالدة أم لمن ولدته، وأم لولد من ولدته.
2 - وإما من جهة الرضاعة، فالمرضع أم لمن أرضعته، وأم لولد من أرضعته.
3 - وإما من جهة التربية والإصلاح، فالمربية والمصلحة أم لمن ربته وأصلحته.
فمن الأول قوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (1)
ومن الثاني قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (2)
ومن الثالث قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (3)
__________
(1) سورة طه الآية 40
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة الأحزاب الآية 6(53/270)
المسألة الثالثة: في فائدة الإضافة في قوله تعالى: وأزواجه:
لا شك أن هذه الإضافة تعد شرفا عظيما لهن، حيثما تميزن عن نساء العالمين بذلك، فاختارهن الله واصطفاهن ليكن زوجات لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وصرن بذلك لسن كسائر النساء، بل أحسن وأطيب وأكمل، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (1) . فبزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهن نلن تلك الفضيلة وتبوأن تلك الدرجة السامقة السامية الرفيعة، التي لم تتحقق لأحد من النساء غيرهن رضي الله عنهن.
وقد خيرهن عليه الصلاة والسلام بين البقاء في هذه المنزلة
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32(53/270)
وإن قل العيش وضاق الرزق وبين الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها الزائل فلم يردن شيئا غير البقاء معه صلى الله عليه وسلم، وآثرن ذلك على الدنيا ومتاعها وزينتها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} (1) {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) ، فلم يخترن رضي الله عنهن غير الله ورسوله والدار الآخرة، وكن خير زوجات لخير زوج، مؤمنات قانتات عابدات صالحات، فآتاهن الله على ذلك الأجر العظيم، ونلن أجرهن مرتين، وأعد الله لهن الرزق الكريم والثواب الجزيل المضاعف، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} (3) . وعندما نتأمل قول الله تبارك وتعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (4) .
نعلم عظيم قدر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام الطيب المطيب، ونساؤه الطيبات، بل هو عليه الصلاة والسلام خير الطيبين وأفضلهم، ونساؤه عليه الصلاة والسلام خير الطيبات وأفضلهن، ولم يكن الله ليختار لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا خير النساء وأفضلهن.
فالإضافة في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (5) - ولا شك- فيها شرف وأيما شرف لهن رضي الله عنهن، لا سيما وأن الله أخبر عن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 28
(2) سورة الأحزاب الآية 29
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة النور الآية 26
(5) سورة الأحزاب الآية 6(53/271)
ذلك بلفظ الأزواج المشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران.
يقول ابن القيم رحمه الله: " وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان بلفظ الزوج مفردا وجمعا كقوله تعالى لآدم:
{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (1) ، وقال تعالى في حق زكريا:
{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} (2) ، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (3) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} (4) ، والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (5) إلى قوله: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (6) {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (7) ، وقال تعالى:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} (8) فلما كانتا مشركتين أوقع عليهم اسم المرأة، وقال في فرعون: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (9) لما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجا له، وقال في حق آدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (10) ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} (11) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 19
(2) سورة الأنبياء الآية 90
(3) سورة الأحزاب الآية 6
(4) سورة الأحزاب الآية 28
(5) سورة المسد الآية 1
(6) سورة المسد الآية 4
(7) سورة المسد الآية 5
(8) سورة التحريم الآية 10
(9) سورة التحريم الآية 11
(10) سورة الأعراف الآية 19
(11) سورة الأحزاب الآية 50(53/272)
وقال في حق المؤمنين: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (1) .
فقالت طائفة، منهم السهيلي وغيره: إنما لم يقل في حق هؤلاء: الأزواج؛ لأنهن لسن بأزواج لرجالهم في الآخرة؛ ولأن التزويج حلية شرعية وهو من أمر الدين فجرد الكافرة منه كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط. ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} (2) ، وقوله تعالى عن إبراهيم: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} (3) ، وأجاب بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع؛ لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة، فذكر المرأة أولى به؛ لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع، لا من حيث كانت زوجا.
قلت: ولو قيل: إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران، كما هو المفهوم من لفظه؛ فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان، ومنه قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (4) ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أزواجهم:
أشباههم ونظراؤهم " (5) ، وقاله الإمام أحمد أيضا، ومنه قوله
__________
(1) سورة البقرة الآية 25
(2) سورة مريم الآية 5
(3) سورة الذاريات الآية 29
(4) سورة الصافات الآية 22
(5) ذكره ابن كثير في تفسيره (7 \ 7) .(53/273)
تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (1) أي: قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية: " الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار " (2) ، وقاله الحسن، وقتادة، والأكثرون (3) ، وقيل: " زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين " (4) ، وهو راجع إلى القول الأول، وقال تعالى:
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} (5) ثم فسرها " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد، ومنه قولهم. "زوجا خف، وزوجا حمام " ونحوه، ولا ريب أن الله سبحانه قطع المشابهة والمشاكلة بين الكفار والمؤمنين، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (6) ، وقال تعالى: في حق مؤمن أهل الكتاب وكافرهم:
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (7) الآية، وقطع المقارنة سبحانه بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان، ولا يتناكحان، ولا يتولى أحدهما صاحبه، فكما انقطعت الوصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم، فأضاف فيها المرأة بلفظ الأنوثة
__________
(1) سورة التكوير الآية 7
(2) رواه الحاكم في المستدرك (2 \ 516) .
(3) انظر: الدر المنثور للسيوطي (8 \ 430) .
(4) قاله الكلبي. انظر: الدر المنثور للسيوطي (8 \ 430) .
(5) سورة الأنعام الآية 143
(6) سورة الحشر الآية 20
(7) سورة آل عمران الآية 113(53/274)
المجرد، دون لفظ المشاكلة والمشابهة.
فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه؟
ولهذا وقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن لفظ المرأة دون الزوجة؛ تحقيقا لهذا المعنى. والله أعلم.
وهذا أولى من قول من قال: إنما سمى صاحبة أبي لهب امرأته، ولم يقل لها زوجته؛ لأن أنكحة الكفار لا يثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام. فإن هذا باطل بإطلاقه اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط، مع صحة ذلك النكاح.
وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى:
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (1) إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث، وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين " (2) . اهـ كلامه رحمه الله.
وبهذا التقرير الدقيق والتحقيق القيم- الذي ذكره رحمه الله- يتبين ما في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (3) من تكريم بالغ، وتشريف عظيم لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن أجمعين.
__________
(1) سورة النساء الآية 12
(2) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص (151- 154) .
(3) سورة الأحزاب الآية 6(53/275)
المسألة الرابعة: في فائدة الإضافة في قوله تعالى:
{أُمَّهَاتُهُمْ} (1) وفيها فائدتان:
الأولى: تتعلق بأزواج النبي عليه الصلاة والسلام، حيث شرفهن الله وأكرمهن بهذا الوصف العظيم، - ويعلم عظيم قدر هذا التشريف إذا علم نوع هذه الأمومة التي وصفن بها رضي الله عنهن، ولهذا تفصيل وإيضاح يأتي في المسألة القادمة إن شاء الله.
الفائدة الثانية: تتعلق بالمؤمنين، حيث أكرمهم الله بأن جعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لهم، ولا ريب أن في هذا تكريما للمؤمنين وحفزا لهم لمعرفة قدر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفضلهن وما لهن على المؤمنين من حقوق وواجبات، ومتى قوي استشعار المؤمن لأمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له قوي إقباله وزاد اهتمامه بما لهن من حقوق وواجبات.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6(53/276)
المسألة الخامسة: في وجه كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين:
لقد وصف الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن أمهات المؤمنين، وذكر تعالى في آية أخرى ما يدل على أن الأم إنما هي الوالدة، وذلك في قوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (1) ، وكتاب الله لا تعارض فيه ولا اختلاف، ومن هنا فلا بد من بيان معنى الأمومة التي وصف بها أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2(53/276)
وفيما يلي أذكر ما أورده أهل العلم في بيان معنى الآية، ثم أتبع ذلك بذكر ما يتلخص من كلامهم رحمهم الله.
فقد روي ابن جرير عن قتادة رحمه الله في قوله تعالى:
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (1) قال: " يعظم بذلك حقهن " (2) .
وروى ابن أبي حاتم عنه رحمه الله أنه قال: " أمهاتهم في الحرمة، لا يحل لمؤمن أن ينكح امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إن طلق ولا بعد موته، هي حرام على كل مؤمن مثل حرمة أمه " (3) .
وروى ابن جرير عن ابن زيد في معنى الآية: أي " محرمات عليهم " (4) .
وقال الشافعي رحمه الله: " وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (5) مثل ما وصفت من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معاني مختلفة. . . فقوله: أمهاتهم من يعني في معنى دون معنى، وذلك أنه لا يحل لهم نكاحهن بحال، ولا يحرم عليهم نكاح بنات لو كان لهن، كما يحرم عليهم نكاح بنات أمهاتهم اللاتي ولدنهم أو أرضعنهم.
قال الشافعي: فإن قال قائل: ما دل على ذلك؛ فالدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج فاطمة بنته وهو أبو المؤمنين وهي
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) جامع البيان (11 \ 122) .
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (21 \ 566) .
(4) جامع البيان (11 \ 122) .
(5) سورة الأحزاب الآية 6(53/277)
بنت خديجة أم المؤمنين زوجها عليا رضي الله عنه، وزوج رقية وأم كلثوم عثمان وهو في المدينة، وأن زينب بنت أم سلمة تزوجت، وأن الزبير بن العوام تزوج بنت أبي بكر، وأن طلحة تزوج ابنته الأخرى، وهما أختا أم المؤمنين، وعبد الرحمن بن عوف تزوج ابنة جحش أخت أم المؤمنين زينب، ولا يرثهن المؤمنون ولا يرثنهم كما يرثون أمهاتهم ويرثنهم، ويشبهن أن يكن أمهات لعظم الحق عليهم مع تحريم نكاحهن " (1) .
وقال ابن جرير الطبري: " وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم في أنهن يحرم عليهم نكاحهن من بعد وفاته، كما يحرم عليهم نكاح أمهاتهم " (2) .
وقال القرطبي: " أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات، وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس " (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن
__________
(1) الأم (5 \ 151) .
(2) جامع البيان (14 \ 112) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (13 \ 82) .(53/278)
الخلوة بهن، كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارم، ولهذا أمرن بالحجاب، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (2) (3) .
وقال ابن كثير رحمه الله: " أي: في الحرمة والاحترام والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. . . ".
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله بعد أن نقل كلام ابن كثير السابق: " وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم كحرمة الأم واحترامهم لهن كاحترام الأم. . . إلخ- واضح لا إشكال فيه، ويدل له قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (4) ، لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب، وقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (5) ، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) منهاج السنة (4 \ 369) .
(4) سورة الأحزاب الآية 53
(5) سورة المجادلة الآية 2(53/279)
لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم " (1) .
وبهذا يتبين وجه الجمع بين قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (2)
وقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (3) ويتبين أيضا معنى الأمومة التي وصف بها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فالأمومة نوعان:
1 - أمومة دينية:
وهي التي يكون سببها الدين، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من هذا الوجه؛ لكونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو للمؤمنين بمنزلة الوالد، ولما قمن به من جهود عظيمة في نقل أحاديثه صلى الله عليه وسلم: أقواله وأعماله وأخلاقه وعباداته، وصار بسببهن نفع للأمة عظيم.
وهذه الأمومة تقتضي وجوب تقديرهن واحترامهن والقيام بحقوقهن فإنهن بمنزلة الأمهات، وتقتضي كذلك تحريمهن على المؤمنين؛ فلا يجوز نكاحهن، كما قال تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (4) . وهي لا توجب ميراثا كأمومة النسب، ولا تنتشر؛ ولهذا جاز تزويج بناتهن وأخواتهن، وقد مضى أدلة ذلك في كلام أهل العلم المتقدم.
2 - وأمومة طريقها النسب:
ويسميها. بعض أهل العلم أمومة طينية، وهي التي قال الله
__________
(1) أضواء البيان (6 \ 570) .
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) سورة المجادلة الآية 2
(4) سورة الأحزاب الآية 53(53/280)
عنها: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (1) . فالوالدة أم لولدها، إذ هي التي أنجبته وولدته، ولهذه الأمومة أحكامها وحقوقها المعلومة.
وخلاصة القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان للمؤمنين بمنزلة الوالد " يربيهم كما يربي الوالد أولاده، فترتب على هذه الأبوة أن كان نساؤه أمهاتهم؛ أي: في الحرمة والاحترام والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية " (2) .
فهن أمهات للمؤمنين أي: في تحريم نكاحهن على التأبيد، ووجوب إجلالهن وتعظيمهن، ولا تجري عليهن أحكام الأمهات في كل شيء، إذ لو كن كذلك لما جاز أن يتزوج بناتهن، ولورثن المسلمين، ولجازت الخلوة بهن.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (6 \ 98) .(53/281)
المسألة السادسة: إذا قيل: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فهل يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم؟ وهذه مسألة مهمة تكلم عليها أهل العلم عند تفسيرهم لهذه الآية؛ إذ إن هذه الآية الكريمة يفهم منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم، كما أن أزواجه أمهات لهم، بل كما قال شيخ الإسلام: " فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعا له، فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات " (1) .
وقد جاء في قراءة شاذة للآية عن بعض الصحابة والتابعين
__________
(1) منهاج السنة (5 \ 238) .(53/281)
قراءة الآية هكذا: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ".
فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ هذه الآية: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ".
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قرأ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ".
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان في الحرف الأول: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم " (1) .
قال ابن كثير: " وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس أنهما قرآ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ". وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن. . . " (2) .
وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن القراءة المشهورة تدل على ذلك (3) .
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (21 \ 567) .
(2) تفسير القرآن العظيم (6 \ 382) .
(3) منهاج السنة لابن تيمية (5 \ 238) .(53/282)
فالنبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين أبوة دينية، بمعنى أنه يربيهم ويرشدهم ويدلهم على الخير وعلى عبادة الله وطاعته والاستقامة على دينه، بل إن كل الأنبياء بهذا المعنى آباء لأممهم؛ ولهذا نقل عن مجاهد أنه قال: "كل نبي أب لأمته " (1) ؛ لأنهم نصحوا لأممهم وأرشدوهم إلى الخير ونهوهم عن الشر.
ومما يدل على هذا المعنى ويقويه ما ثبت في السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه (2) » «وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة (3) » . فهذا الحديث فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين على المعنى الذي ذكر في الحديث وهو بالنظر إلى ما يقوم به صلى الله عليه وسلم لهم من نصح وبيان وإرشاد.
ولهذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:
" وهو صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين كما في قراءة بعض الصحابة يربيهم كما يربي الوالد أولاده " (4) .
وعلى هذا فلا مانع من وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أب للمؤمنين على المعنى الذي سبق بيانه.
__________
(1) ذكره الألوسي في تفسيره (21 \ 152) .
(2) سنن النسائي الطهارة (40) ، سنن أبو داود الطهارة (8) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/247) ، سنن الدارمي الطهارة (674) .
(3) رواه أحمد (2 \ 247، 250) وأبو داود (1 \ 3) ، والنسائي (1 \ 38) ، وابن ماجه (1 \ 114) ، وحسنه الألباني. انظر صحيح الجامع (2 \ 284) . والرمة: العظم.
(4) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (6 \ 98) .(53/283)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا للمؤمنين، محتجين على ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) قالوا: ولكن يقال: مثل الأب للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم (2) » . . . " (3) .
ذكر هذا القرطبي رحمه الله تعالى، ثم قال: " والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين: أي: في الحرمة، وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ} (4) أي: في النسب " (5) .
فلا تعارض بين الأبوة المثبتة والأبوة المنفية، فالأبوة المنفية هي أبوة النسب، وأما الأبوة التي أثبتها أهل العلم واحتجوا لها بما تقدم فهي أبوة التعليم والنصح والبيان.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله " ويفهم من قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6) أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس أنهما قرآ: " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " وهذه الأبوة أبوة دينية، وهو صلى الله عليه وسلم أرأف بأمته من الوالد الشفيق بأولاده، وقد قال جل وعلا في رأفته ورحمته بهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سنن النسائي الطهارة (40) ، سنن أبو داود الطهارة (8) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/247) ، سنن الدارمي الطهارة (674) .
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14 \ 84) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (6 \ 382) .
(4) سورة الأحزاب الآية 40
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14 \ 84) .
(6) سورة الأحزاب الآية 6
(7) سورة التوبة الآية 128(53/284)
وليست الأبوة أبوة نسب كما بينه تعالى بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1)
ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه (2) » «وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة (3) » . فقوله خياله في هذا الحديث: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد (4) » يبين معنى أبوته المذكورة كما لا يخفى " (5) .
وقال في كتابه: (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) عندما أورد هذا الإشكال: " والجواب ظاهر، وهو أن الأبوة المثبتة دينية والأبوة المنفية طينية " (6) .
والخلاصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين أبوة دينية تفوق أبوة النسب وتعلوها قدرا ومكانة وشأنا؛ ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (7) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سنن النسائي الطهارة (40) ، سنن أبو داود الطهارة (8) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/247) ، سنن الدارمي الطهارة (674) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3860) ، سنن النسائي الطهارة (40) ، سنن أبو داود الطهارة (8) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/247) ، سنن الدارمي الطهارة (674) .
(4) سنن النسائي الطهارة (40) ، سنن أبو داود الطهارة (8) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/247) ، سنن الدارمي الطهارة (674) .
(5) أضواء البيان (15 \ 570، 571) .
(6) طبع في آخر أضواء البيان (10 \ 239) .
(7) رواه البخاري (1 \ 22) ، ومسلم (1 \ 67) .(53/285)
المسألة السابعة: هل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فقط؟ أو أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
في هذا قولان مشهوران لأهل العلم:(53/285)
الأول: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فقط.
ويستدلون على ذلك بما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمي، فقالت: " أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ". قال ابن العربي: " وهو الصحيح " (1) ، وقال ابن كثير: " وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رحمه الله " (2) .
والثاني: أنهن أمهات للمؤمنين والمؤمنات. ويستدلون على ذلك بما جاء عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: " أنا أم الرجال منكم والنساء " (3) .
يقول القرطبي مرجحا هذا القول: ". . . والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيما لحقهن على الرجال والنساء، يدل عليه صدر الآية {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (4) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل على ذلك حديث " أبي هريرة وجابر، فيكون قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (5) عائدا إلى الجميع. ثم إن في مصحف أبي بن كعب: " وأزواجه أمهاتهم
__________
(1) أحكام القرآن (3 \ 542) .
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6 \ 381) .
(3) رواه ابن سعد في الطبقات كما في الدر المنثور للسيوطي (21 \ 567) ، ولم أهتد إليه في الطبقات.
(4) سورة الأحزاب الآية 6
(5) سورة الأحزاب الآية 6(53/286)
وهو أب لهم ". وقرأ ابن عباس " من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم " وهذا كله يوهن ما رواه مسروق [أي عن عائشة] إن صح من جهة الترجيح وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم، والله أعلم " (1) .
وما ذهب إليه واحتج له هو الأقرب. على أنه يمكن الجمع بين المروي عن عائشة رضي الله عنها والمروي عن أم سلمة رضي الله عنها بأن يقال: إذا كان المقصود بالأمومة تحريم نكاحهن من بعده صلى الله عليه وسلم وتحريم النظر إليهن والخلوة بهن فلا يخفى أن هذا أمر خاص بالرجال دون النساء. وإن كان المقصود بالأمومة التوقير والاحترام والقيام بالحقوق والواجبات ونحو ذلك فهذا شامل للنساء والرجال للمؤمنين والمؤمنات، فلعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لحظت بقولها المعنى الأول، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها لحظت بقولها المعنى الثاني، والله أعلم.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14 \ 84) .(53/287)
المسألة الثامنة: هل يقال لإخوان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أخوال للمؤمنين؟ وهل يقال لبناتهن أخوات للمؤمنين؟
لما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين في حكم التحريم دون المحرمية. تنازع العلماء في إخوانهن هل يقال لأحدهم خال المؤمنين، وكذلك في بناتهن هل يقال لهن أخوات المؤمنين؟(53/287)
ولهم في هذه المسألة قولان
الأول: المنع من الإطلاق:
قال شيخ الإسلام: " ومن علماء السنة من قال: لا يطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين، فإنه لو أطلق ذلك لأطلق على أخواتهن أنهن خالات المؤمنين، ولو كانوا أخوالا وخالات لحرم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم خالته وحرم على المرأة أن تتزوج خالها.
وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يجوز للمؤمنين والمؤمنات أن يتزوجوا أخواتهن وإخوتهن، كما تزوج العباس أم الفضل أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وولد له منها عبد الله والفضل وغيرهما، وكما تزوج عبد الله بن عمر وعبيد الله ومعاوية وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر من تزوجوهن من المؤمنات، ولو كانوا أخوالا لهن لما جاز للمرأة أن تتزوج خالها.
قالوا: وكذلك لا يطلق على أمهاتهن أنهن جدات المؤمنين، ولا على آبائهن أنهم أجداد المؤمنين؛ لأنه لم يثبت في حق الأمهات جميع أحكام النسب، وإنما ثبت الحرمة والتحريم، وأحكام النسب تتبعض، كما يثبت بالرضاع التحريم والمحرمية ولا يثبت سائر أحكام النسب، وهذا كله متفق عليه " (1) .
__________
(1) منهاج السنة (6 \ 370) .(53/288)
وقال القرطبي: " قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين ولا إخوانهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، قال الشافعي رضي الله عنه: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة ولم يقل: هي خالة المؤمنين. . . " (1) .
الثاني: جواز إطلاق ذلك:
وهو كما يقول ابن كثير: " من باب إطلاق العبارة، لا إثبات الحكم " (2) .
قال شيخ الإسلام عقب كلامه السابق: " والذين أطلقوا على الواحد من أولئك أنه خال المؤمنين لم ينازعوا في هذه الأحكام، ولكن قصدوا بذلك الإطلاق أن لأحدهم مصاهرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه كما اشتهر أنه كاتب الوحي، وقد كتب الوحي غيره، وأنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أردف غيره. . . " (3) .
وقد أفرد القاضي أبو يعلى رحمه الله مصنفا في الدفاع عن معاوية وتبرئته من الظلم والفسق أسماه (تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان من الظلم والفسق في مطالبته بدم أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهما) عقد فيه فصلا نافعا بين فيه صحة هذا الإطلاق، وذكر ما يشهد له ويدل عليه.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14 \ 84) .
(2) تفسير القرآن العظيم (6 \ 381) .
(3) منهاج السنة (4 \ 370، 371) .(53/289)
قال رحمه الله: " ويسمى إخوة أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوال المؤمنين ولسنا نريد بذلك أنهم أخوال في الحقيقة كأخوال الأمهات من النسب، وإنما نريد أنهم في حكم الأخوال في بعض الأحكام، وهو التعظيم لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخال والد (1) » تعظيما له.
وقد نص أحمد على إطلاق "هذه التسمية في رواية أبي طالب فقال: " معاوية خال المؤمنين وابن عمر خال المؤمنين " (2) .
وقال أبو بكر المروذي: سمعت هارون بن عبد الله يقول لأبي عبد الله: جاءني كتاب من الرقة أن قوما قالوا: لا نقول:
معاوية خال المؤمنين. فغضب وقال: " ما اعتراضهم في هذا الموضع؟ يجفون حتى يتوبوا " (3) .
إلى أن قال: والدليل على أن هذه التسمية ليس طريقها اللغة والقياس وإنما طريقها التوقيف والشرع، وقد ورد الشرع بتسمية الإخوة أخوالا.
ثم ساق بسنده إلى ابن عباس في هذه الآية {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} (4) .
__________
(1) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1 \ 448) وعزاه للخرائطي في مكارم الأخلاق وقال: '' في سنده سعيد كذبه أحمد '' وأورده الديلمي في الفردوس (2 \ 207) عن عبد الله بن عمر بلا سند.
(2) رواه الخلال في السنة برقم (657) .
(3) رواه الخلال في السنة برقم (658) .
(4) سورة الممتحنة الآية 7(53/290)
قال: " فكانت المودة التي جعلها الله بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، ومعاوية خال المؤمنين ".
ثم نقل عن ابن بطة ما رواه بإسناده. في جزء له فيه فوائد من تخريجاته عن محمد بن قحطبة الدمشقي قال: " جئت إلى معاوية ابن أبي سفيان فقلت: يا أبا عبد الرحمن، قد جاء الحسن بن علي بن أبي طالب زائرا فدعه يصعد المنبر. فقال: دعني أفتخر على أهل الشام. فقلت: شأنك وإياه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال له معاوية: سألتك بالله يا أبا محمد، ألست من بطحاء مكة؟ فقال: أي والله الذي لا إله إلا هو. قال: اللهم اشهد. ثم قال: سألتك بالله يا أبا محمد، ألست خال المؤمنين؟ قال: أي والذي لا إله إلا هو. قال: اللهم اشهد. . . " وذكر الخبر بتمامه.
ثم قال: ولأنه إذا جاز إطلاق تسمية الأمهات على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكونوا أمهات في الحقيقة؛ لأنه يجوز التزويج بأخواتهن وبناتهن، وإنما جاز لأنهن في حكم الأمهات في تحريم العقد عليهن، كذلك جاز إطلاق تسمية الأخوال على إخوانهن في(53/291)
بعض الأحكام وهو التعظيم لهن، ولا معنى لقولهم: إن هذه التسمية طريقها التوقيف والشرع، لم يرد بذلك توقيف؛ لأنا قد بينا وروده عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس ومنهم قول معاوية على المنبر ومنهم تصديق الحسن له على ذلك، ولا معنى لقولهم: إنهم لو كن أخوالا لما جاز التزويج بهم " لأنا قد بينا أنا لا نطلق هذه التسمية حقيقة، وإنما نطلقها على وجه التعظيم للحرمة.
فإن قيل: فهل تطلقون تسمية الخالات على أخواتهن؟
قيل: لا نطلق ذلك؛ لأنه لم يرد بذلك توقيف، وقد ورد التوقيف في الأخوال. هذه التسمية طريقها التوقيف، وعلى أنه لا يمتنع أن نطلق عليهم اسم الخالات، وإن لم ينص على هذه التسمية؛ لأن الله تعالى نص على الأمهات والأخوات من الرضاعة، ثم قد أطلق الفقهاء تسمية الخالات من الرضاعة " (1) . اهـ.
وعلى كل فالإطلاق صحيح على وجه الاحترام والتوقير، لا على وجه إثبات الحكم، والله أعلم.
__________
(1) تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان (ص 74- 79) . والنص مثبت كما هو في النسخة الخطية.(53/292)
المسألة التاسعة: هل يقال لسراري النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين أو لا يقال؟
وقد نقل ابن القيم في زاد المعاد عن أبي عبيدة أنه قال:
" كان له أربع: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة، وجارية(53/292)
أخرى جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش " (1) .
فهل هؤلاء يطلق عليهن أمهات المؤمنين أم أن الإطلاق خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: أن هذا خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر القرآن، ولم يرد ما يدل على مشروعية إطلاقه على سراري النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطفى صفية بنت حيي قال الصحابة: " إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإلا فهي مما ملكت يمينه " (2) .
قال شيخ الإسلام وقد ذكر هذا الحديث: " وفي الحديث دليل على أن أمومة المؤمنين لأزواجه دون سراريه، والقرآن ما يدل إلا على ذلك؛ لأنه قال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (3) " (4)
__________
(1) زاد المعاد (1 \ 114) .
(2) رواه البخاري (9 \ 126 فتح) ومسلم (2 \ 1045) .
(3) سورة الأحزاب الآية 6
(4) مجموع الفتاوى (15 \ 448، 449) .(53/293)
المسألة العاشرة: هل النساء اللاتي عقد عليهن صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن معدودات في أمهات المؤمنين؟ سيأتي ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المعروفات اللاتي دخل بهن صلى الله عليه وسلم، واللاتي ثبت لهن في القرآن الوصف بأمهات المؤمنين.
لكن من خطبها صلى الله عليه وسلم ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها، وهن نحو أربع أو خمس نسوة كالجونية التي بعث إليها(53/293)
ليتزوجها، فدخل عليها ليخطبها فاستعاذت منه، فأعاذها ولم يتزوجها، وكذلك الكلبية، وكذلك التي رأى بكشحها بياضا فلم يدخل بها، والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور من القرآن (1) .
فهل هؤلاء أيضا يوصفن بأنهن أمهات المؤمنين؟
يقول ابن القيم رحمه الله: ". . . فمن فارقها في حياتها ولم يدخل بها لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن ومات عنهن صلى الله عليه وعلى أزواجه وذريته وسلم تسليما " (2) .
وبهذا يعلم جواب هذه المسألة، والله أعلم.
__________
(1) انظر: زاد المعاد (1 \ 113، 114) .
(2) جلاء الأفهام (ص 172) .(53/294)
المسألة الحادية عشرة: في ذكر عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم والتعريف بهن رضي الله عنهن:
لا ريب أن من تمام تدبر الآية معرفة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعددهن وشيء من حياتهن رضي الله عنهن، وكتب السيرة والتراجم حافلة ببيان ذلك، لكن المفيد هنا أن نشير إلى شيء من ذلك ولو على وجه الاختصار.(53/294)
عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة امرأة توفي في حياته اثنتان منهن، ومات صلى الله عليه وسلم عن التسع الباقيات.
1 - أولهن خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية، تزوجها قبل النبوة ولها أربعون سنة، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم رضي الله عنه فإنه من سريته مارية، وهي التي آزرته على النبوة وجاهدت معه، وواسته بنفسها ومالها، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين.
ومن خصائصها: أن الله سبحانه بعث إليها السلام مع جبريل فبلغها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولانصب (1) » .
ومن خصائصها: أنها لم تسؤه قط ولم تغاضبه، ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قط ولا هجر.
__________
(1) البخاري (13 \ 465 فتح) ومسلم (4 \ 1887) .(53/295)
ومن خصائصها: أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة.
2 - ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة بن قيس القرشية رضي الله عنها، وكبرت عنده، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فأمسكها (1) ، وهذا من خواصها أنها آثرت يومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبا له، وإيثارا لمقامها معه، فكان يقسم لنسائه ولا يقسم لها، وهي راضية بذلك، مؤثرة لرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، وتوفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنها، وعن الصحابة أجمعين.
3 - ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر، الصديقة بنت الصديق، في شوال قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث وهي بنت ست سنين، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى وهي بنت تسع سنين، وقد عرضها عليه الملك قبل نكاحها في سرقة من حرير، ففي الصحيحين عنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«أريتك في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك. فأكشف فإذا هي أنت. فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه (2) » .
ومن خصائصها: أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه البخاري (9 \ 312 فتح) .
(2) البخاري (12 \ 399 فتح) ، ومسلم (4 \ 1889) .(53/296)
إليه، كما ثبت عنه ذلك في البخاري ومسلم، وقد «سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة " قيل: فمن الرجال؟ قال: " أبوها (1) » .
ومن خصائصها أيضا: أنه لم يتزوج امرأة بكرا غيرها، وقد جاء في البخاري «عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديا فيه شجرة قد أكل منها، وشجرة لم يؤكل منها، ففي أيها كنت ترتع بعيرك، قال: " في التي لم يرتع فيها (2) » . تعني أنه لم يتزوج بكرا غيرها.
ومن خصائصها: أنه كان ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فإني والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها (3) » .
ومن خصائصها: أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبراءتها وحيا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم، وكانت رضي الله عنها تتواضع وتقول: " ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى. . . " (4) .
__________
(1) البخاري (8 \ 74 فتح) ، ومسلم (4 \ 1856) .
(2) البخاري (9 \ 120 فتح) .
(3) رواه البخاري (7 \ 107 فتح) .
(4) \ 50 رواه البخاري (7 \ 431 فتح) ومسلم (4 \ 2129) .(53/297)
ومن خصائصها: أنها كانت أفقه نسائه صلى الله عليه وسلم وأعلمهن، بل أفقه نساء الأمة وأعلمهن على الإطلاق، وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها.
ومن خصائصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها، وفي يومها، وبين سحرها ونحرها، ودفن في بيتها (1) .
وقد مات عنها صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة، وتوفيت بالمدينة ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة رضي الله عنه، سنة ثمان وخمسين من الهجرة.
واختلف أهل العلم هل هي أفضل أو خديجة على ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: هي أفضل. وقال بعضهم: خديجة أفضل. وتوقف آخرون.
قال السيوطي في ألفيته في علم الحديث:
وأفضل الأزواج بالتحقيق ... خديجة مع ابنة الصديق
وفيهما ثالثها الوقف وفي ... عائشة وابنته الخلف قفي
يليهما حفصة فالبواقي ... وآخر الصحاب باتفاق (2)
__________
(1) رواه البخاري (8 \ 144 فتح) ، ومسلم (4 \ 1893) .
(2) ألفية السيوطي في علم الحديث (196)(53/298)
قال ابن القيم رحمه الله: " وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: اختص كل واحدة منهما بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتثبته وتسكنه، وتبذل دونه مالها فأدركت غرة الإسلام، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها. 0 وعائشة -رضي الله عنها- تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التفقه في الدين، وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها، هذا معنى كلامه " (1) .
4 - ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنها- وعن أبيها في السنة الثالثة من الهجرة، وكانت قبله عند خنيس ابن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وممن شهد بدرا، وقد توفيت عام سبع أو ثمان وعشرين من الهجرة.
5- ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية من بني هلال بن عامر، وتوفيت عنده -صلى الله عليه وسلم- بعد ضمه لها بشهرين، وكانت تسمى أم المساكين لكثرة إطعامها للمساكين -رضي الله عنها-.
6- ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية وقيل هي آخر نسائه موتا، وقد توفيت سنة اثنتين وستين للهجرة، ودفنت في البقيع، وقد تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة الرابعة من الهجرة.
ومن خصائصها: أن جبرائيل دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي
__________
(1) جلاء الأفهام (154) .(53/299)
عنده، فرأته في صورة دحية الكلبي. ففي صحيح مسلم «عن أبي عثمان قال: " نبئت أن جبرائيل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أم سلمة، قال: فجعل يتحدث ثم قام، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة من هذا؟ (1) » الحديث.
7- ثم تزوج زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة، وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبل عند مولاه زيد ابن حارثة، فطلقها فزوجها الله إياه من فوق سبع سماوات، وأنزل عليه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (2) فقام فدخل عليها بلا استئذان، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات " (3) .
0 وهذا من خصائصها. توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت في البقيع. وهي أول نسائه لحوقا به بعد موته -عليه الصلاة والسلام- فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا، قالت: فكانت أطولنا يدا زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق (4) » .
8- وتزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابها، وتزوجها سنة ست
__________
(1) صحيح مسلم (4 \ 196) .
(2) سورة الأحزاب الآية 37
(3) رواه البخاري (13 \ 403 فتح) .
(4) رواه مسلم (4 \ 1907) .(53/300)
من الهجرة، وتوفيت سنة ست وخمسين.
ومن فضائلها: أن المسلمين أعتقوا بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (1) .
وكان هذا من بركاتها على قومها.
9 - ثم تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية، وقيل: اسمها هند، تزوجها وهي ببلاد الحبشة مهاجرة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك، وماتت في أيام أخيها معاوية بن أبي سفيان.
10 - وتزوج في السنة السابعة صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، فهي ابنة نبي وعمها نبي وزوجها نبي، وكانت من أجمل نساء العالمين، وكانت قد صارت له من الصفي أمة فأعتقها وجعل عتقها صداقها. وهذا من خصائصها -رضي الله عنها-.
11 - ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهي آخر من تزوج بها، تزوجها بسرف، وبنى بها بسرف، تزوجها في السنة السابعة من الهجرة بعد عمرة القضاء، وماتت بسرف سنة ثلاث وستين من الهجرة في أيام معاوية -رضي الله عنه- وعنها وعن الصحابة أجمعين.
فهؤلاء. نساؤه المعروفات اللاتي دخل بهن وهن إحدى عشرة امرأة، وهن فقط أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- أجمعين.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (6 \ 277) .(53/301)
قال الحافظ العراقي في ألفيته في السيرة النبوية:
زوجاته اللاتي بهن قد دخل ... ثنتا أو إحدى عشرة خلف نقل
خديجة الأولى تليها سودة ... ثم تلي عائشة الصديقة
وقيل قبل سودة فحفصة ... فزينب والدها خزيمة
فبعدها هند أي أم سلمة ... فابنة جحش زينب المكرمة
تلي ابنة الحارث أي جويرية ... فبعدها ريحانة المسبية
وقيل بل ملك يمين فقط ... لم يتزوجها وذاك أضبط
بنت أبي سفيان وهي رملة ... أم حبيبة تلي صفية
من بعدها فبعدها ميمونة ... حلا وكانت كاسمها ميمونة
وابن المثنى معمر قد أدخلا ... في جملة اللاتي بهن دخلا
بنت شريح واسمها فاطمة ... عرفها بأنها الواهبة(53/302)
.
ولم أجد من جمع الصحابة ... ذكرها ولا بأسد الغابة
وعلها التي استعاذت منه ... وهي ابنة الضحاك بانت منه
وغير من بنى بها أو وهبت ... إلى النبي نفسها أو خطبت
ولم يقع تزويجها فالعدة ... نحو الثلاثين بخلف أثبتوا (1)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وقال بعضهم هن ثلاثون امرأة، وأهل العلم بسيرته وأحواله -صلى الله عليه وسلم- لا يعرفون هذا، بل ينكرونه، والمعروف عندهم أنه بعث إلى الجونية ليتزوجها فدخل عليها ليخطبها فاستعاذت منه فأعاذها ولم يتزوجها، وكذلك الكلبية، وكذلك التي رأى بكشحها بياضا فلم يدخل بها، والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور من القرآن، هذا هو المحفوظ، والله أعلم " (2) .
__________
(1) العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية للعراقي تأليف عبد الرزاق المناوي ص 255 هـ 256.
(2) زاد المعاد (1\ 113) .(53/303)
المسألة الثانية عشرة: في ذكر بعض فضائلهن وخصائصهن:
مر معنا في المسألة السابقة بعض الفضائل والخصائص التي تميز بها بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذه المسألة سأشير إلى بعض فضائلهن وخصائصهن إجمالا، أو الفضائل والخصائص(53/303)
المشتركة بينهن -رضي الله عنهن- أو بين أكثرهن.
أولا: فمن خصائصهن أن الله أكرمهن وشرفهن بأن كن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه فضيلة عظيمة ومنقبة كبيرة من الله عليهن بها، وهن أزواجه في الدنيا والآخرة.
ثانيا: ما ترتب على ذلك، وهو أنهن صرن بذلك أمهات للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (1) فهذه فضيلة أخرى وخاصية ثانية نلنها لما أكرمهن بأن كن أزواجا للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثا: وصف الله لهن في القرآن بأنهن لسن كأحد من النساء، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (2) بل أحسن وأفضل.
رابعا: ومن خصائصهن أنهن لا يجوز نكاحهن من بعده، كما قال تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (3) وهذه خاصة بهن دون سائر النساء.
خامسا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على الصلاة عليهن، ففي الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولوا: «اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (4) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) سورة الأحزاب الآية 32
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) البخاري (6 \ 407 فتح) ، ومسلم (1 \ 306) .(53/304)
سادسا: إيثارهن البقاء مع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحياة الدنيا وزينتها لما خيرن في ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} (1) {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) فاخترن البقاء معه -صلى الله عليه وسلم-.
سابعا: أنهن داخلات في آل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدل على دخولهن في الآل أمور عديدة، منها:
1- قوله تعالى في حقهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (3) .
2- قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي حميد المتقدم: «اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته (4) » وفي غيره من الأحاديث: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد (5) » . وهذا غايته أن يكون الأول منهما قد فسره اللفظ الآخر.
3 - ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا (6) » .
وكان رزق أزواجه -صلى الله عليه وسلم- قوتا، وما كان يحصل لهن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 28
(2) سورة الأحزاب الآية 29
(3) سورة الأحزاب الآية 33
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3369) ، صحيح مسلم الصلاة (407) ، سنن النسائي السهو (1294) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (905) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، موطأ مالك النداء للصلاة (397) .
(5) رواه البخاري (6 \ 408 فتح) ، ومسلم (1 \ 305) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.
(6) البخاري (11 \ 283 فتح) ومسلم (4 \ 2281) .(53/305)
بعد من الأموال كن يتصدقن بها ويجعلن رزقهن قوتا.
4 - ما ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عز وجل (1) » وأزواجه كان أمرهن كذلك.
5 - وإنما دخل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآل تشبيها لذلك؛ لأن اتصالهن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- غير مرتفع، وهن محرمات على غيره في حياته وبعد مماته، وهن زوجاته في الدنيا والآخرة، فالسبب الذي لهن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم مقام النسب (2) .
ثامنا: أنهن تحرم عليهن الصدقة، وهذا مترتب على الذي قبله؟ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد (3) » .
وهن داخلات في الآل كما تقدم، فالصدقة تحرم عليه؛ لأنها من أوساخ الناس، وقد صان الله سبحانه ذلك الجناب الرفيع من كل أوساخ بني آدم (4) .
تاسعا: أنهن من الذين يؤتون أجرهم مرتين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} (5)
__________
(1) البخاري (9 \ 552 فتح) ومسلم (4 \ 2281) .
(2) انظر: جلاء الأفهام لابن القيم (ص 142، 143) .
(3) رواه مسلم (2 \ 753) .
(4) جلاء الأفهام لابن القيم (ص 143) .
(5) سورة الأحزاب الآية 31(53/306)
" فقنتن لله ورسوله وعملن صالحا، فعلم بذلك أجرهن " (1) رضي الله عنهن أجمعين.
وقد أفرد السيوطي رسالة لطيفة فيمن يؤتى أجره مرتين، جمع فيها من ورد في حقهم هذا الأجر المضاعف، بدأها بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- (2) ، وأورد، الآية الكريمة المتقدمة، ثم ساق ما رواه الطبراني (3) عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أربعة يؤتون أجرهم مرتين: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن أسلم من أهل الكتاب، ورجل كانت عنده أمة فأعجبته فأعتقها ثم تزوجها، وعبد مملوك أدى حق الله وحق ساداته (4) » .
إلا أن الحديث غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لضعف إسناده، والآية كافية في الدلالة على هذه الفضيلة وإثباتها.
وقد قال السيوطي في آخر رسالته المتقدمة (5) نظما:
وجمع أتى فيما روينا أنهم ... يثنى لهم أجر حووه محققا
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (6 \ 106) .
(2) مطلع البدرين فيمن يؤتى أجره مرتين للسيوطى (ص 19- 22) .
(3) في معجمه الكبير (8 \ 252 رقم 7856) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (3011) ، صحيح مسلم الإيمان (154) ، سنن الترمذي النكاح (1116) ، سنن النسائي النكاح (3344) ، سنن أبو داود النكاح (2053) ، سنن ابن ماجه النكاح (1956) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) ، سنن الدارمي النكاح (2244) .
(5) مطلع البدرين (ص 58) .(53/307)
فأزواج خير الخلق أولهم ومن ... على زوجها أو القريب تصدقا
فهذه بعض خصائص وفضائل أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-. والمقصود الإشارة ليس إلا، والله أعلم.(53/308)
المسألة الثالثة عشرة: في واجبنا نحو أزواجه -صلى الله عليه وسلم-:
يمكن أن نلخص الواجب علينا نحو أزواجه -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين في النقاط التالية:
1 - تولي أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحبهن، ومعرفة فضلهن وقدرهن ومنزلتهن العظيمة التي شرفهن الله بها.
2 - احترامهن وتوقيرهن واعتقاد أنهن أمهات للمؤمنين، وأنهن أزواج للرسول -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة. قال أبو عثمان الصابوني في رسالته في اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث والأئمة (1) : " وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه -رضي الله عنهن- والدعاء لهن ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين ".
3 - سلامة الصدر تجاههن من الغل أو الغش، وملؤه بالحب والنصح.
4 - إحسان القول فيهن، وسلامة اللسان تجاههن. يقول الطحاوي رحمه الله: " ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذريته المقدسين من كل
__________
(1) ص (107) .(53/308)
رجس، فقد برئ من النفاق ". قال الشارح: " وإنما قال: " بريء من النفاق " لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق قصده إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما ذكر ذلك العلماء " (1) .
5 - البراءة من طريقة الروافض ومن نحا نحوهم تجاه أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من تكفير أو سب أو وقيعة أو سخرية أو تنقص أو نحو ذلك.
6 - الذب عنهن، والرد على من يريد التنقص من قدرهن أو يحط من شأنهن أو يقلل من مكانتهن.
7 - دراسة سيرتهن، ومعرفة أخبارهن وآدابهن وعبادتهن، فإنهن أعظم النساء تعلما في مدرسة النبوة، بل إن هناك أمورا عديدة من هديه -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن العلم بها إلا من طريقهن -رضي الله عنهن- أجمعين.
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية (ص 737، 738) .(53/309)
المسألة الرابعة عشرة: في الحكمة من تعدد أزواجه -صلى الله عليه وسلم-:
تقدم معنا أن عدد أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إحدى عشرة امرأة، وقد جمع في عصمته بين تسع نسوة، والجمع لهذا العدد هو من خصوصياته -عليه الصلاة والسلام-، وأما من سواه من الأمة فلا يجوز لأحد منهم أن يجمع بين أكثر من أربع، لقوله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) ولما روى ابن
__________
(1) سورة النساء الآية 3(53/309)
ماجه وأحمد والحاكم وغيرهم «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن (1) » .
وروى أبو داود «عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: " اختر منهن أربعا (2) » .
ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف هاهنا على غير قدم التسليم، بل يجب أن يعتقد أن قضاء الله الذي أبرمه لخلقه لا يخرج عن حكم أرادها تبارك وتعالى.
ولا ريب أن في إباحته تبارك وتعالى لعبده ورسوله محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يجمع بين هذا العدد من النسوة حكما عظيمة وغايات جليلة لم يؤمر العباد بتكلف بحثها وتطلبها، لا سيما وإن كان هذا البحث ناشئا عن اعتراض على قدر الله وتشكيك في أحكامه، فهذا النوع من البحث إنما يقع من الزنادقة والملاحدة ومن في دينهم رقة، وأما المؤمنون بالله ورسوله فلا يقع عندهم شيء من هذا، ولا يغشى قلوبهم المطمئنة قليل منه ولا كثير، بل إن وقفوا على شيء من الحكم في هذا أخذوا بها، وإن لم يقفوا على شيء منها كفوا عن التكلف والتخرص والبهتان، ووقفوا عند قدم التسليم والتصديق والإيمان.
__________
(1) ابن ماجه (1 \ 628) ، المسند (2 \ 44) ، المستدرك (2 \ 192) ، وصححه العلامة الألباني في الإرواء (6 \ 291) .
(2) سنن أبي داود (2 \ 272) ، وحسنه الألباني في الإرواء (6 \ 295) .(53/310)
هذا وقد ترتب على زواجه -صلى الله عليه وسلم- بهذا العدد من النسوة مصالح عديدة وفوائد عظيمة؛ " فقد ترتب على زواجه بعائشة حفظ الألوف من الأحاديث، لدخولها في عصمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حال صغرها وحداثة نشأتها، وترتب على زواجه بجويرية عتق قومها بني المصطلق، وترتب على جمعه لتسع نسوة في عصمته -صلى الله عليه وسلم- إحاطتهن بكل شئونه داخل البيت، فما خفي على واحدة فعلمه عند أخرى، ومن ثم تحققت المصلحة الكبرى للأمة بنقل أمهات المؤمنين لجانب عظيم من التشريع لا يطلع عليه سواهن ".
وغير ذلك من المصالح العظيمة، لكن ليس لنا سبيل إلى الجزم بأنها هي عين السبب الذي لأجله تم زواجه -صلى الله عليه وسلم- بهن، والله أعلم.(53/311)
المسألة الخامسة عشرة: في التحذير من بعض المواقف المنحرفة تجاه أزواجه -صلى الله عليه وسلم-:
بعد أن عرفنا شيئا يسيرا من فضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين، ومكانتهن، وما لهن من درجة عالية، ومكانة سامقة، ومنزلة رفيعة، فيحسن الإشارة في مختتم هذه المسائل إلى بعض المواقف الشاذة والمذاهب المنحرفة تجاه أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - الطاهرات المطهرات، والطيبات المكرمات.
وتتمثل هذه المواقف تجاههن -رضي الله عنهن- في الطائفة(53/311)
المخذولة والفرقة المرذولة، الرافضة الأشرار، والمسلم لا ينقضي عجبه عندما يقرأ في كتب هؤلاء ويرى ما يوجهونه لهن -رضي الله عنهن-، بل ولسائر الصحابة، من تكفير وسب وغير ذلك، وهو ناشئ ولا ريب عن حقد دفين، وغل مكين في قلوب هؤلاء الممرضة ونفوسهم الفاسدة.
وفيما يلي ذكر لبعض هذه المواقف مع مراعاة الاختصار، وإلا فكتبهم ملأى بمثل ذلك، وكل قول أورده أذكره موثقا من كتبهم المعتبرة ومؤلفاتهم المعتمدة عندهم:
1 - تغيظهم وعدم رضاهم من تسميتهن بأمهات المؤمنين، ولا سيما أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، يقول ابن المطهر الحلي الرافضي: "وسموها أم المؤمنين، ولم يسموا غيرها بذلك الاسم" (1) "
2 - قال محمد باقر المجلسي في كتابه حق اليقين (ص 519) : " وعقيدتنا في التبرؤ أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ومن النساء الأربع: عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أشياعهم وأتباعهم، وأنهم شر خلق الله على وجه الأرض، وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله
__________
(1) انظر رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه في قوله هذا في منهاج السنة (4 \ 402 / 68) .(53/312)
والأئمة إلا بعد التبرؤ من أعدائهم ".
3 - الدعاء المسمى بدعاء صنمي قريش، وهو موجود في عدد من كتب الرافضة، وهو دعاء يدعون به صباحا ومساء إلى وقتنا الحاضر، ونصه: " اللهم صل على محمد وآل محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وأفاكيهما وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا أنعامك وعصيا رسولك وقلبا دينك. . . إلخ ". . وينسبون هذا الدعاء كذبا وباطلا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقولون: إن عليا قال: " إن الداعي به كالرامي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر وأحد وحنين بألف ألف سهم ".
ذكر ذلك محسن الكاشاني في كتابه علم اليقين (2 / 701) .
وحاشا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من ذلك، بل هو من إفك هؤلاء المبين.
4 - وذكر المجلسي في كتاب عين الحياة (ص 599) أن جعفر الصادق - وحاشاه- كان يلعن في دبر كل مكتوبة أربعة من الرجال وأربعا من النساء: التيمي والعدوي وعثمان ومعاوية يسميهم وعائشة وحفصة وهند وأم الحكم أخت معاوية.
5 - ويزعمون كما في الصراط المستقيم للبياضي (3 \ 168) أن عائشة وحفصة وأبا بكر تآمروا على أن يسموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
6 - ويقول المجلسي في كتابه حياة القلوب (2 / 700) : " إن عائشة وحفصة لعنة الله عليهما وعلى أبويهما قتلتا رسول الله(53/313)
-صلى الله عليه وسلم- بالسم دبرتاه ".
7- وذكر العياشي في تفسيره (2 \ 269) : أن {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (1) هي عائشة نكثت إيمانها، أي أنها ارتدت.
8 - ويعتقد هؤلاء أن عائشة من أهل النار ولم يثبت لها إيمان، كما في تفسير سورة الحجر للعياشي (2 \ 243) .
9 - ويذكر القمي في تفسيره (ص 341) أن قائمهم المهدي إذا قام سيقيم عليها- أي: عائشة - حد القذف.
10 - ويقول محمد صادق الصدر وهو من الروافض المعاصرين: " والحق أن من يقرأ صفحة حياة عائشة جيدا يعلم أنها كانت مؤذية للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأفعالها وأقواله اوسائر حركاتها ".
11 - وقد أفرد النباطي في كتابه الصراط المستقيم لمستحقي التقديم (3 \ 161) فصلين خاصين في الطعن في عائشة وحفصة رضي الله عنهما، سمى الأول (فصل في أم الشرور) يعني أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أورد تحته أقذع السباب وألوان الطعن فيها -رضي الله عنها-، ولقبها بالشيطانة، والفصل الآخر (في أختها حفصة) .
12 - ويذكرون في تفاسيرهم أن المراد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (2) أي: عائشة.
__________
(1) سورة النحل الآية 92
(2) سورة البقرة الآية 67(53/314)
ويذكر عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أن من حماقتهم أنهم يأتون في يوم من السنة بشاة حمراء لكون عائشة -رضي الله عنها- تسمى الحميراء يجعلونها عائشة ويعذبونها بنتف شعرها وغير ذلك، ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة (1) .
فهذه الأقوال جميعها في الحقيقة تصك الأسماع وتؤذي القلوب، لكن لا بد من إيرادها لتعرف حقيقة القوم، وما ينطوون عليه من خبث ومكر تجاه أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل تجاه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عامة، وكتبهم مليئة بمثل هذا السب والقدح والتكفير لخيار الصحابة وأفاضل الأمة وصفوة القرون.
وما ذكر هنا إنما هو غيض من فيض، وقليل من كثير مما يقوله هؤلاء تجاه أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين، وليس هذا بغريب من هؤلاء، فإن دأبهم الكذب والافتراء على خيار المتقين، وديدنهم التكفير واللعن والوقيعة في صفوة المؤمنين.
والنقول السابقة اشتملت على طوام عظيمة وموبقات كبيرة وكفريات مردية لهؤلاء، كاعتقادهم التبرؤ من خيار الصحابة، ولعنهم لهم، واعتقادهم أنهم شرار الخلق، واعتقادهم في أبي بكر وعمر أنهما خالفا أمر الله وأنكرا وحيه وجحدا أنعمه وعصيا رسوله وقلبا دينه. . . ووصفهم لأبي بكر وعمر وعائشة وحفصة بأنهم تآمروا على أن يسموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنهم دبروا أمر قتله، ووصفهم لعائشة بأنها ارتدت عن الدين، ورميهم لها بالإفك الذي
__________
(1) منهاج السنة (1 \ 49) .(53/315)
برأها الله منه، ووصفها بأم الشرور وأنها شيطانية وغير ذلك.
نعوذ بالله من سبيل المجرمين، وطريق المغضوب عليهم والضالين، ونسأله أن يحشرنا في زمر المؤمنين المتقين. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) . {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) . وختاما فهذا ما تيسر جمعه من مسائل تتعلق بقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (3) وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الجهد لوجهه الكريم خالصا، وأن يتقبله بقبول حسن، وأن ينفع به عباده المؤمنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته وجميع أصحابه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 8
(2) سورة الحشر الآية 10
(3) سورة الأحزاب الآية 6(53/316)
الحكم الشرعي لاستقطاع
الأعضاء وزرعها تبرعا أو بيعا
د. أمين محمد سلام البطوش (1)
مقدمة:
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان وكرمه على خلقه ورباه على عينه، فهو الذي يقول في محكم تنزيله مبرهنا على هذه الحقيقة التي لا مراء فيها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (2) . ويقول سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) . فلما تقدم الإنسان في العلوم ومن بينها علم الطب والجراحة اختلف الناس في استقطاع الأعضاء وزرعها بين مبيح ومانع، وما كان لشيء أن يجد أو يستجد إلا وله حكم في كتاب الله تعالى
__________
(1) عضو هيئة ''التدريس بقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في كلية الآداب بجامعة مؤتة بالأردن.
(2) سورة الإسراء الآية 70
(3) سورة فاطر الآية 11(53/317)
لقوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) نتيجة لذلك فإن هذا البحث يقدم محاولة لبيان ما في هذا الأمر من حكم شرعي.
وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وفصل واحد يحتوي ثمانية مباحث كما يلي:
فصل: جسم الإنسان- كرامته وامتهانه:
ويحتوي هذا الفصل ثمانية مباحث:
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة.
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح.
المبحث الرابع: مدى شرعية التشريح.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي.
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة.
المبحث السابع: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار.
المبحث الثامن: فتاوى العلماء في هذه المسالة.
ثم الخاتمة. راجيا من الله تعالى أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38(53/318)
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان:
إن الله تعالى لما خلق الإنسان خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وطرد إبليس من أجله لعصيانه أن يسجد لآدم، وأسكن آدم الجنة، وعلمه الأسماء كلها، وجعله خليفته في الأرض، فإن كان الإنسان لربه مطيعا مخبتا كان أفضل من الملائكة، وإن عصاه كان أدنى من البهائم، كل هذا دليل على التكريم، فهل تراه يسلمه ويذله ويخزيه ما دام يسير طبقا لخط السير الذي رسمه له ربه، كلا وحاشا أن يكون ذلك.
فها هو سبحانه يقول في حقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (1) ويخلقه في أحسن صورة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (2) وتتجلى فيه عظمته سبحانه فيقول: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) .
من أجل ذلك فقد تولاه ربه، وأوصى باحترامه في شرائعه، وحرم قتله بغير حق قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (4) وهذه قاعدة تحرم مساسه بغير حق. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين في سنته أن أولى ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، كما توعد الله قاتله بالعذاب يوم القيامة قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (5)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2) سورة التين الآية 4
(3) سورة المؤمنون الآية 14
(4) سورة الإسراء الآية 33
(5) سورة النساء الآية 93(53/319)
هذا في الآخرة بالإضافة إلى عقوبة القصاص في الدنيا والحرمان من الميراث إن كان القاتل من ورثة المقتول.
فإذا كان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل الإباحة، فكذلك فإن قطع عضو من أعضائه لا يحل ولو كان بإذن المجني عليه (1) .
كما يرى ابن قدامة في المغني (2) " بينما يرى الحنفية أن أعضاء الإنسان كالمال بالنسبة لصاحبها " وليس للإنسان أن يقتل نفسه قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3) أو يتلف أعضاء جسمه قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4) لأن الحق في سلامة البدن حق مشترك بين العبد وبين ربه (5) ، وقد بلغت حرمة جسد الإنسان في نظر فقهاء الإسلام حدا جعلهم يرون دفن ما يسقط منه كشعر أو ظفر (6) .
قال القرافي في الفروق ما نصه: " إن حق الله تعالى لا يتمكن العباد من إسقاطه والإبراء منه بل إن ذلك يرجع إلى صاحب الشرع " (7) ، ويضيف القرافي: " حرم الله القتل والجرح
__________
(1) المغني لابن قدامة، ج 7، ص 723، ط 3، القاهرة 1367 هـ.
(2) انظر كشف أصول البزدوي، ج 1، ص 297، القاهرة 1307 هـ.
(3) سورة النساء الآية 29
(4) سورة البقرة الآية 195
(5) ابن عبد السلام، ج 1، ص 122.
(6) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج 2، ص 102.
(7) الفروق، ج1، ص 195.(53/320)
صونا لمهجة العبد وأعضائه ومنافعها عليه ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه " (1) .
والإنسان منذ بداية تكوينه وهو جنين في بطن أمه أدركته حماية الشرع، فالقرآن يؤرخ له ويقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (2) {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) . وألزم الشرع الإسلامي من جنى على امرأة حامل فأسقطت جنينها بغرة عبد كغرامة دنيوية هذا إن سقط ميتا، أما إن سقط حيا ثم مات ففيه الدية كاملة. حتى أن الأم لو تسببت بإسقاط جنينها بواسطة غيرها لزمتها دية الجنين كذلك، ولم يسلم من أعان على هذا الأمر من تبعة مغبته.
أضف إلى ذلك أن المرأة الحامل لو كان عليها القصاص أو الحد فإنه لا يجوز التنفيذ حتى تتم حملها وتضعه وترضع وليدها وتربيه إلى الوقت الذي يستغني بنفسه عنها سواء كان الحد بالنفس أو الأطراف (4) .
ويجوز في الشرع الإسلامي شق بطن الأم الميتة لاستخراج ولدها من رحمها، لأن مصلحة حفظ حياته أعظم من مفسدة انتهاك حرمة بدنها الميت (5) .
وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح إلا لعذر، أما قبل نفخ الروح فإن العلماء قد اختلفت
__________
(1) المصدر السابق، ص 140.
(2) سورة الإنسان الآية 1
(3) سورة الإنسان الآية 2
(4) حاشية الدسوقي، ج 4، ص 260، والمغني، ج 7، ص 731.
(5) ابن عبد السلام، ص 97.(53/321)
أقوالهم بين الإباحة والكراهة والتحريم.
ولكن إن ثبت بطريق موثوق أن الجنين يؤدي إلى وفاة أمه فيجب إسقاطه تطبيقا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين، وهذا يعتبر تضحية بالجزء (الفرع) في سبيل إنقاذ الكل (الأصل) (1) .
وأما بعد الموت فقد تولى الشرع الإسلامي حفظ الإنسان وحمى جثته من عبث العابثين، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كسر عظم الميت ككسره حيا (2) » وفي رواية: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم (3) » ، ومن أراد المزيد من هذه الأدلة فعليه بالرجوع إلى المذاهب الفقهية وما كتب في أبواب الجنائز، فسيتبين له الأمر بجلاء ووضوح عظيم الحرمة في مساس الأجساد الميتة.
__________
(1) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، ج 1، ص 602، القاهرة 1353 هـ.
(2) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .
(3) السيوطي، الجامع الصغير وشرحه، ج 4، ص 550.(53/322)
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة:
بالرغم مما تقدم بيانه من تعظيم الشرع لحرمة جسم الإنسان، فإن ضرورة العلاج أو الحاجة إليه تفسح المجال وتبرر المحظور الشرعي. فالتداوي أمر مأمور به شرعا حفظا لهذا الإنسان، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تداووا فإن الله عز وجل لم(53/322)
يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم (1) » .
وتعلم الطب في الإسلام فرض من فروض الكفاية التي يتعين على طائفة من الأمة القيام به وإلا أثمت الأمة جميعا.
وهذا العمل وإن كان من فروض الكفاية فإنه يحتاج إلى شروط إليك بعضها:
1 - أن يباشر العمل الطبي مختص فيه مع كون الحاجة ملحة لنتجنب من لا يحذق هذا الفن، فلا بد من كونه حاذقة بصيرا عارفا (2) .
فإن كان غير ذلك فما يحصل من أضرار على يديه كان فيها ضامنا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن (3) » .
2 - أن يكون القصد العلاج والرعاية للمصالح المشروعة مع المعرفة بأن الطبيب لا يهدف من عمله غرضا خاصا ولا البحث عن الكشف العلمي، بل جل هدفه علاج المريض ومنفعته.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الطب، ج 4، ص 3، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.
(2) المغني لابن قدامة، ج 6، ص 120، ط 1، 1347 هـ.
(3) السيوطي، الجامع الصغير وشرحه، ج 6، ص 106، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم.(53/323)
3 - أن يمارس عمله الطبي وفقا لأصول صنعة الطب وإلا كان ضامنا خشية أن يتولد ما هو أعظم.
4 - إن كان المريض قاصرا، يشترط الإذن من وليه (1) .
__________
(1) ابن حزم، المحلى، ج 10، ص 444، 1352 هـ، المغني، ج 6، ص 121، أبو زهرة، الجريمة والعقوبة، ج 1، ص 475.(53/324)
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح:
إن للتشريح أهمية كبيرة إذ بدونه لا يعرف الطبيب مكان العضو ولا كيفية اتصاله بالبدن، كما أن للتشريح أهمية أخرى وذلك في الكشف عن السبب الحقيقي للموت في قضايا الجنايات، هذه الأهميات تقفز أمام نظرة الناس إلى الجثة الآدمية نظرة ملؤها التقديس والحرمة، ولقد قام علماء من المسلمين القدامى بتشريح الجسم الإنساني وإن كانوا لم يقولوا صراحة بجواز التشريح كابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى وابن الهيثم الذي قام بتشريح العين (1) .
ولقد استشهد الفقهاء في مواقف عديدة على تصحيح آرائهم على نتائج علم التشريح في زمانهم. أما قبله فكأنها إباحة غير صريحة لهذا العلم.
وإليك أقوال المذاهب في هذا الموضوع:
الحنفية: " حامل ماتت وولدها حي يضطرب، يشق بطنها
__________
(1) قنديل شاكر شبير، تشريح جسم الإنسان لأغراض التعليم الطبي، ص10، فراغ، ص 53.(53/324)
من الأيسر ويخرج ولدها. . . ولو مات الولد في بطنها وهي حية وخيف على الأم قطع وأخرج بخلاف ما لو كان حيا " (1) .
وكذلك لو بلع مال غيره ولا مال له هل يشق؟ قولان، الأول: نعم وإن كانت حرمة الآدمي أعلى من صيانة حرمة المال، إلا أنه أزال حرمته بتعديه.
وجاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم تحت قاعدة (الأشد يزال بالأخف) أنه يجوز شق بطن الميتة لإخراج الولد إن كانت ترجى حياته بخلاف ما إذا ابتلع لؤلؤة فمات فإنه لا يشق بطنه لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال.
المالكية: اختلفوا في شق بطن المرأة، وقيده البعض بأن يكون في السابع أو التاسع أو العاشر (2) .
الشافعية: إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي يشق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه ما إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، واشترطوا لذلك حياة الطفل بأن يكون له ستة شهور فصاعدا (3) .
الحنابلة: إذا ماتت امرأة حامل شق جوفها، فإن احتملت حياته وتعذر إخراجه بالطريق المعتاد قال البعض يشق، والمذهب
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج 1، ص 628، ط 3، 1323 هـ.
(2) محمد عليش، فتح العلي المالك، ص 135.
(3) المصدر السابق، ج 5، ص 301.(53/325)
لا، لا تدفن حتى يموت (1) .
الظاهرية: إن ماتت امرأة حامل والولد يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولا ويخرج الولد، ويبرر شق البطن في هذه الحالة بأنه ارتكاب لأخف الضررين وأدعى لتحقيق المصلحة.
فمن أقوال الأئمة المتقدمة يتبين لنا جواز شق بطن الميت من أجل إنقاذ الحي فمصلحة إنقاذ الحي مقدمة على مفسدة هتك حرمة الميت، ولكن مما تقدم رأينا أن بين الحي والميت تعلقا وارتباطا لا يسهل انفكاكه، فهل بالإمكان أن نعدي هذا الجواز إلى ما هو أبعد من ذلك؟ هذا ما سنصل إليه إن شاء الله ولكن بشروط منها: موافقة ذوي الشأن، ووجود ضرورة تتطلب التشريح وعدم التمثيل في الجثة.
__________
(1) ابن قدامة، ج2، ص551.(53/326)
المبحث الرابع: مدى شرعية التشريح:
لما كانت شريعة الإسلام تنزيلا من حكيم حميد عليم بما كان وما سيكون، أنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جعلها سبحانه قواعد كلية، ومقاصد سامية شاملة، فكانت تشريعا عاما خالدا صالحا لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.
إن كثيرا من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصا عليها نفسها في الكتاب أو السنة، وربما لم تكن وقعت(53/326)
من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن من البحث العلمي يتضح أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها.
ومسألة التشريح لجثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص، فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لا بد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة وشمولها وصلاحيتها لجميع الخلق، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) .
إن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت- مسلما كان أو ذميا- تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة. فالمتهم عند الاشتباه مثلا يطلب تشريح جثة المجني عليه لإثبات الجناية أو نفيها وفي هذا حفظ للحق وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن والتحقق من
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة المائدة الآية 3(53/327)
المجرمين لردع من تسول له نفسه ارتكاب جريمة يظن أنها تخفى على الناس. كما أن الشخص قد يموت موتا طبيعيا وفي التشريح تبرئة للمتهم، أضف أنه يمكن الكشف على الأمراض السارية بواسطة التشريح، وبذلك تحفظ الأمة من الأوبئة والأمراض السارية الخطيرة. من هذا تبرز أهمية علم التشريح، وما دام أنه جزء من علم الطب فالعلم به إذن من فروض الكفاية التي لا بد لجماعة من المسلمين معرفته والتدرب عليه. ولذلك فإن التدرب على الجثث الحقيقية يعرف الطبيب بمكان العضو المصاب وأوصافه، خلافا لمن رأى التدرب على الجثث غير الآدمية لاختلاف الأوصاف وعدم التمكن من الوصول إلى الحق في هذا الموضوع.(53/328)
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي:
قواعد الطب الإسلامي تؤخذ من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي.
أولا- قواعد التصرف في الحق لسلامة الحياة والجسد:
أ- حق الله تعالى وحق العبد في نفس هذا الأخير يوكلان لمن ينسبان إليه ثبوتا وإسقاطا.
ب- لا يجوز لإنسان أن يتصرف في حق الغير إلا بإذنه.
ج- قتل الإنسان أو فصل عضو من أعضائه لا يحتمل الإباحة بغير حق.(53/328)
د- لا يملك الإنسان إسقاط حقه، فيما اجتمع فيه حق الله تعالى، لعدم جواز تصرفه في حق الله تعالى.
هـ- يقدم ما كان فيه حق الله وحق العبد على ما كان فيه حق العبد وحده (1) .
وحق الله مبني على التسهيل بخلاف حق الآدمي فإنه مبني على التشديد إلا عند الضرورة (2) .
ثانيا: قواعد المفاضلة بين المصالح والمفاسد:
1 - جواز ارتكاب أخف الضررين دفعا لأعظمهما، فالواجب تحصيل أعلى المصلحتين، فإن تعذر رخص في التقديم والتأخير بينهما، ومثاله من صال على نفسين مسلمتين فلم نتمكن من دفعه عنهما فإننا ندفع عن أي واحدة منهما (3) .
أ- إذا اجتمعت المفاسد في عمل واحد فإنه لا تفاضل بينها لأن الواجب درء الجميع، فإن تعذر ذلك درأنا الأفسد فالأفسد.
__________
(1) حفظا لمهجة العبد، ابن عبد السلام، ج 1، ص 57، السيوطي، ص 81. ومنه جواز أكل النجاسات والميتة للضرورة.
(2) المجموع للنووي، ج 9، ص 40.
(3) ابن عبد السلام، ج 1، ص 84.(53/329)
ب- إذا اجتمعت المصالح والمفاسد، فالمطلوب تحصيل المصالح ودرء المفاسد جميعا إن أمكن، فإن تعذر ذلك وكانت المفسدة أعظم من المصلحة أو مساوية لها درأنا المفسدة وفوتنا المصلحة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (1) .
أما إن كانت المفسدة أعظم من المصلحة التي تقابلها فتقدم المصلحة (2) ، من ذلك مثلا أن مصلحة إنقاذ الحي أولى بالرعاية من مفسدة انتهاك حرمة الموتى (3) بشرط أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة وأعظم منها.
ج- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (4) .
2 - الضرورات تبيح المحظورات:
أ- تقدر الضرورة بقدرها (5) .
ب- يجب أن تكون المصلحة التي تقتضيها الضرورة أعظم من مفسدة المحظور.
ج- الضرر لا يزال بمثله (6) ، فلا يجوز مثلا لشخص قتل غيره
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، م 30، ابن عبد السلام، ج 1، ص 92.
(2) ابن عبد السلام، ج 1، ص 88، 97، وقد مثل له بقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح.
(3) النووي، صح9، ص 4.
(4) مجلة الأحكام العدلية، م 21.
(5) نفس المصدر السابق، السيوطي، ص 85.
(6) مجلة الأحكام العدلية، م 25.(53/330)
ليدفع الضرر عن نفسه. وذلك بأخذ علاجه أو غذائه الذي هو بحاجة إليه بمثل حاجته هو.
د- الحاجة تنزل منزلة الضرورة سواء كانت الحاجة عامة أو خاصة (1) .
هـ- الاضطرار لا يبطل حق الغير (2) .
ثالثا: قواعد مزاولة العمل الطبي والجراحي:
1- حق التطبيب والجراحة لأن الشرع أجاز التداوي، فهذا يتضمن جواز ممارسة الطب.
2 - جواز ممارسة الطبيب للجراحة لا تعطيه حق تشريح أجساد الآخرين إلا بالرضا من المريض باستثناء حالات الاستعجال والضرورة.
3 - مراعاة أصول العلاج في حفظ الصحة الموجودة للمريض ورد المفقودة بقدر الإمكان وإزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان.
4 - استعمال طرق العلاج الأسهل فالأسهل.
5- لا مسئولية على الطبيب فيما يجوز له فعله.
6- لا يتقيد عمل الطبيب بشرط السلامة، لأن المطلوب منه القيام بالمعتاد ما دام رضي المريض أو وليه بذلك.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، م 32.
(2) مجلة الأحكام العدلية، م 33.(53/331)
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة:
الإسلام بطبيعته يشجع البحث العلمي ويدعو إليه فالله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) . إلا أن للبحث العلمي في بعض الأحيان هفواته التي لا تغتفر، وشطحاته التي لا تصيب الهدف، وعلى ذلك لا بد من تمحيص النتائج على ضوء القواعد التي وضعها صاحب الشرع سبحانه وتعالى، العليم بأحوال عباده فإنه كما قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (2) .
قطع الأعضاء البشرية لغرض الزرع:
لما كان مما يجوز للطبيب أن يعمل مبضعه في جسم المريض من أجل علاجه وإبعاد الأذى عنه، فهل له مثل ذلك ولكن في جسم سليم ليخلص جسما آخر هو بحاجة إلى العلاج؟
أي هل يجوز أن يكون علاج المريض جزءا أو قطعة أو عضوا من جسم سليم؟ فيكون الأول معطيا والآخر آخذا أو متلقيا.
بالنسبة لزرع عضو في جسم المريض من أجل إنقاذه لا إشكال عليه في الشريعة الإسلامية، فإنه علاج مباح ما دام حصل إذن الشرع بالعلاج وإذن المريض بالتداوي وتقبله ولكن الصعوبة كل الصعوبة في قطع العضو من الحي أو الميت.
__________
(1) سورة الزمر الآية 9
(2) سورة يوسف الآية 76(53/332)
فلنتكلم أولا على استقطاع عضو حي لإنقاذ حي بحاجة إلى ذلك العضو:
أول ما نلجأ إليه في مثل هذا الأمر هو البحث في الشريعة الإسلامية قبل غيرها، فإن أجازت هذا العمل ترتب عليه الجواز من الناحية الطبية وإلا فلا، والحقيقة أنه لا نص على هذه القضية بصراحة في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، بل هي قضية تندرج تحت غيرها من القواعد الكلية كما أسلفت فيما سبق، والقواعد الفقهية تراعي ثلاثة أمور في الغالب هي:
دينية: تتصل بمدى حرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي حيا أو ميتا.
فقهية أو قانونية: تتعلق بالوسيلة الفنية التي يمكن بواسطتها بلورة هذا الانتفاع.
تزاحم المصالح: أي المفاضلة بين المصالح المتزاحمة.
نجد أن الفقهاء أجازوا الانتفاع بلبن الظئر، وذلك بتأجيرها أو استئجارها، فقد اختلفوا في الناحيتين الأولى والثانية، ولكن هذا الاختلاف دل على سعة الأفق والتوقعات المستقبلية لما يجد ويستحدث، مما يحفز المختص في أن يبحث مدى شرعية استقطاع الأعضاء من جسم حي أو ميت لغرض الزرع، وعليه فلا بد من الموازنة والترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة الحظر:
هل جسم الإنسان من الأموال وهل هو ملك لصاحبه؟
والصحيح أن جسم الإنسان ليس مالا له ولا يجوز بيعه.(53/333)
فلا الشرع ولا الطبع ولا العقل يجيز بيع الأجزاء الآدمية، لأن الله كرمه وميزه عن غيره، والأصل في المبيعات أن تكون أشياء خارجة عن الإنسان، وأعضاؤه ليست خارجة عنه (1) .
وإذا أراد الناس أن يقولوا: ولكن الإنسان تضمن قيمته إذا قتل، قلنا: إن هذا استدلال فاسد لأن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي يتمثل في القضاء الكامل للمضمون صورة ومعنى وإن جاز في بعض الحالات فإنه على سبيل الاستثناء (2) .
وهو قول الجماهير من أهل العلم.
وعند الحنفية: أن أطراف الإنسان تعتبر من قبيل الأموال بالنسبة لصاحبها، ومعنى الأطراف هنا ينسحب على أي عضو أو جزء من الأجزاء الإنسانية معزولا عن باقي الأعضاء التي لا يجوز التصرف بمجموعها.
ولكن الإنسان يستطيع أن يضحي بجزء من أجزاء بدنه لإنقاذ حياته (3) ، فهي كالمال خلق وقاية للنفس (4) .
ونجد أن
__________
(1) السرخسي، ج 5، ص 125، البخاري، ج 1، ص 171، 175، 176.
(2) انظر الكاساني، ج 7، ص 56.
(3) الطوارئ تكملة البحر الرائق، ج 8، ص 311.
(4) الكاساني، ج 7، ص 257، 297.(53/334)
الحنفية أنفسهم أجازوا العقد على ". منافع الأشياء- بالإجارة- بالرغم من أن المنافع لي! ست من الأموال عندهم، وهو استحسان تبرره الضرورة (1) .
هل أجزاء الإنسان المنفصلة عنه طاهرة؟
إن من شروط صحة العقد أن يكون محل العقد طاهرا منتفعا به طبعا وشرعا (2) ، فلا يصح العقد على نجس أو محرم.
لم يتفق الفقهاء على طهارة الجزء المنفصل، فعند الحنفية أن ما انفصل عن جسم حي وكان فيه دم فهو نجس لا يجوز الانتفاع به (3) .
ونص أيضا على أنه لا يجوز التداوي بعظم الآدمي أو أي جزء منه لعدم الطهارة أو الكرامة الإنسانية.
أما المذاهب الأخرى فالراجح فيها أن أجزاء الآدمي المنفصلة طاهرة كجملته (4) ، كما ذهب نفر إلى جواز بيع أجزاء
__________
(1) السرخسي، ج 1، ص 78، 79، الزيلعي، ج 6، ص 202.
(2) ابن الهمام، ج 5، ص 251، محمصاني، النظرية العامة للموجبات، ج1، ص 9.
(3) ابن عابدين، ج 1، ص 142، وذهبت الفتاوى الهندية: أنه لا يجوز الانتفاع بسعر لآدمي، ج 3، ص 88.
(4) السرخسي، ج 5، ص 125، 354، ابن الهمام، ج 2، ص 65، الكاساني، ج 5، ص 142.(53/335)
الإنسان إذا كان يستفاد منها (1) .
أما بالنسبة لجثة الإنسان فالراجح في المذاهب الفقهية أنها طاهرة خلافا لبقية الميتات (2) لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنجسوا أمواتكم فإن المؤمن لا ينجس حيا أو ميتا (3) » ، ولكن منع النووي من الانتفاع بأي جزء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ويتعين دفنه.
ويحسن بنا أن نفهم أن حرمة استعمال الدواء النجس إنما تكون عند عدم وجود الطاهر، فإن لم يوجد الطاهر جاز استعمال النجس للضرورة وليس في هذا مخالفة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» أو «لا شفاء في نجس (4) » .
ويجوز للإنسان أن ينتفع بجزء من أجزائه للتداوي بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء، وتطبيقا لذلك يجوز لصق ما انفصل من الجسد في موضعه (5) ، كما يجوز ترقيع الجلد المحروق من مكان آخر سليم.
ومعلوم في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز بيع الأجزاء الآدمية لأنها ليست ملكا للشخص بل هي بمجموعها مسخرة للإنسان ليقوم بطاعة ربه وقضاء حوائجه، ولكن إذا كان بالهبة وبدون
__________
(1) الحطاب، ج 1، ص 230، عبد الرحمن بن رجب، القواعد، ج 4، القاهرة 1933 م قاعدة رقم 5 \ 2.
(2) النووي، ج2، ص 560، 563.
(3) القرطبي، ج 2، ص 230.
(4) النووي، ج2، ص 138، 562.
(5) النووي، ج 3، ص 139، المغني، ج 7، ص 812.(53/336)
مقابل فما الذي يمنع ذلك بشرط أن تكون القضية بوسيلة جائزة ومشروعة.
وقد أجاز الفقهاء إجارة الظئر كما قدمنا فهو بيع لأجزاء آدمية بشرط الرضاء الصحيح المحل المبين، والسبب المشروع.
فلبنها مال متقوم يجوز بيعه عند الشافعية (1) ، والحنابلة في رواية، وعند المالكية (2) والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (3) .
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل، ج 1، ص 80، ابن رشد، ج 2، ص 105، القرافي، ج 9، ص 241، المغني، ج 4 ص، 260.
(2) السرخسي، ج15، ص125.
(3) سورة الطلاق الآية 6(53/337)
المبحث السابع: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار:
لقد أباح الشرع الإسلامي أكل المحرمات، وورد ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) . ومن هذه، الآية المباركة خرج الفقهاء بقاعدة كلية تقول: " الضرورات تبيح المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها ". والذي يتضح لي في هذا الموضوع أن الله تعالى الذي أباح أكل الميتة لتبقى الحياة لا يمنع من إباحة الاستدواء بها، فإن ضرورة الدواء كضرورة الغذاء تبيح المحظورات، ويزيد
__________
(1) سورة البقرة الآية 173(53/337)
هذا القول قوة أن إباحة الأكل جازت خوفا من الهلاك ومثله العلاج نستعمله خوفا من الهلاك.
والفقهاء القدامى منعوا من الانتفاع بلحم الإنسان على بني جنسه (1) في أبواب الضرورة (2) لا أبواب الأطعمة. والضرورة في رأي الفقهاء تبيح التداوي بالمحرم إذا لم يوجد غيره من المباحات يقوم مقامه، وعليه فهل الضرورة تبيح استقطاع أجزاء من جسم الإنسان أو جثة كوسيلة لعلاج إنسان آخر؟
يذهب الحنفية: إلى عدم جواز التداوي بعظم الآدمي أو أي جزء من أجزائه، بينما خالف في ذلك السرخسي وأجاز المداواة في العظم (3) .
ويذهب المالكية: إلى أن الضرورة لا تبرر الانتفاع بأجزاء آدمي غيره ولو كان ميتا، وهذا يشمل عندهم غير معصوم الدم كالمرتد، لكرامة الإنسان التي تتعلق بإنسانيته بصرف النظر عن صفته، وهناك سبب آخر وهو الخوف من هلاك الحي بسبب ذلك (4) كما أن بعضهم يرى أن السبب تعبدي لا تدرك حكمته.
وأما الظاهرية: لا يجيزون الانتفاع بأجزاء الآدمي إلا اللبن
__________
(1) الموسوعة الفقهية، ف 3 \ 2، ص 15.
(2) ابن نجيم، ص 15، وما بعدها، الموسوعة الفقهية، ص 82، ف 136.
(3) ج5، ص47.
(4) الموسوعة الفقهية، ف 136، ص 83، ابن عابدين، ج 2، ص 628.(53/338)
وحده لوجود نص بإباحته (1) .
وأما الحنابلة: فهم لا يجيزون حتى للمضطر الانتفاع بأجزاء الآدمي ولو ميتا متى كان معصوم الدم قبل موته (2) .
ومن تقدم يحرم هذا العمل حتى للضرورة.
ومن جانب آخر، يجيز الشافعية للمضطر أن ينتفع بأجزاء الآدمي سواء كان معصوم الدم أو مهدور الدم وفقا للتفصيل التالي:
يجوز للمضطر أن يستعمل جسم إنسان مهدور الدم- كالحربي والزاني المحصن أو جثته في الغذاء، ولا يجوز عندهم أن يقطع جزءا للغذاء، ولا أن يقدم جزءا للمضطر لأن الضرر لا يزال بمثله (3) .
ويجوز للمضطر، عند الشافعية أن يقطع جزءا من جسمه ليأكله إن لم يجد غيره، لأنه إحياء للنفس بإتلاف عضو فجاز، وهذا من باب استبقاء الكل بزوال الجزء وعللوا الجواز قياسا على قطع العضو الذي أصابته الأكلة (الغرغرينا) لإحياء النفس (4) .
__________
(1) ابن حزم، المحلى، ج 1، ص 133، ج 7، ص 399.
(2) ابن حزم، ج2، ص 24.
(3) السيوطي، ص 87.
(4) النووي، ص 41، 45، الموسوعة الفقهية، ف 151، ص 92.(53/339)
ومؤدى هذا أنه يجوز عندهم استقطاع جزء من جسم لمصلحته العلاجية، وهو جواز مشروط بما يلي:
1- ألا يجد المضطر غيره، ولو مغلظ الحرمة كلحم الخنزير.
2 - أن يكون المضطر معصوما، فلو كان مهدور الدم لم يجيزوا له الانتفاع بلحم الآدمي الميت.
3 - ألا يكون المضطر ذميا أو معاهدا أو مستأمنا إذا كانت أجزاء الميتة لمسلم.
4 - أن يكون الضرر المترتب على عدم الانتفاع أعظم من الضرر المترتب على عدم مراعاة المحظور (أي المصلحة أعظم من المفسدة) (1) .
وكل هذا في أجزاء الميت خلافا لأجزاء الحي.
ونتيجة لما تقدم من الحظر والإباحة بشروط كل منهما، فهل إذا توافرت شروط الضرورة ورضاء الإنسان بأن يعطي عضوا من جسده، إذا كان الهدف من ذلك لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية، والمصلحة أعظم من المفسدة، فهل تنقلب الضرورة إلى إباحة أم لا؟
أمام هذا الجواب عقبتان:
الأولى: دينية تتجسد في حرمة الآدمي وكرامته من ناحية
__________
(1) الموسوعة الفقهية: ف 151، ص 92، السيوطي، ص 87، النووي، ج3، ص 139.(53/340)
وفي الضرر الذي يعود عليه من ناحية أخرى.
والثانية: تتجسد في الطابع الفقهي لأنها تتصل بالوسيلة (العقود) التي يمكن بها نقل الانتفاع بأجزاء الآدمي إلى آخر غيره.
فالعقبة الثانية لا تستوقفنا كثيرا لأن قضايا العقود تختلف من وقت لآخر، بينما في العقبة الدينية لا بد لنا من وقفة، فإنه لما كان جسم الإنسان يتعلق فيه حقان: الأول: حق الله تعالى، والثاني: حق الآدمي، ولا بد من معرفة إذن الشرع وإذن الآدمي كي نرتب عليهما جوابا نهائيا لهذه المسألة.
فالله تعالى يقول: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) . ففي هذه الآية الكريمة الدليل الواضح لحفظ المصالح الاجتماعية.
ويقول تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) . فالتضحية من أجل الغير لها حدود تتقيد بها بشرط أن لا تؤدي إلى الهلاك أو الضرر. والسنة النبوية قد عبرت عن الوحدة الإنسانية ومدى ارتباط المؤمن بأخيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له
__________
(1) سورة المائدة الآية 32
(2) سورة البقرة الآية 195(53/341)
سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » .
فمن هذا الحديث الشريف يمكن أن نقول بصراحة: إن أجزاء المسلمين إذا نقلت إلى بعضها البعض دون ضرر للمعطي فإنها مباحة وليست من تغيير خلق الله؛ لأن المسلمين جسد واحد. والأحكام الشرعية إنما جعلت لمصالح العباد، فقد ترى الشيء لا مصلحة فيه فيمنع منه الشرع، فإذا وجدت المصلحة فيه جاز (2) .
وإن صدور عدة فتاوى بإباحة نقل القرنية من إنسان لآخر منها فتوى دار الإفتاء المصرية الواردة في السجل رقم 88 مسلسل 512 ص 93، وفتوى رقم 73 \ 1966 المسجلة رقم 500 \ 100 متنوع (3) .
شروط إباحة الاستقطاع من الجثة:
1 - أن تكون حالة الضرورة واضحة بينة.
2- التحقق من موت الشخص المستقطع منه.
3- أن يكون قد أذن بذلك بدون مقابل في أثناء حياته أو رضي وليه بعد مماته.
4- أن تكون من مسلم إلى مسلم بناء على الحديث المتقدم.
5- أن يكون المعطي إنسانا بالغا عاقلا راشدا، وله حق الرجوع متى شاء.
__________
(1) متفق عليه.
(2) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص 213.
(3) محمد حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية، ص 364.(53/342)
6 - أن لا يتجاوز حالة الضرورة للقواعد الشرعية.(53/343)
المبحث الثامن: فتاوى العلماء في هذه المسألة (1) .
انعقدت الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية في شهر شعبان عام 1396 هـ، وكانت قد تقدمت سفارة ماليزيا بجدة بمذكرة تستفسر فيها عن حكم إجراء عملية جراحية على ميت مسلم لأغراض مصالح الخدمات الطبية، كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وتبين أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة للوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي:
بالنسبة للقسمين- الأول والثاني- فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك حرمة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة
__________
(1) قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم 47 وتاريخ 20 \ 8 \ 1396 في دورته التاسعة.(53/343)
بذلك، وأن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلا أنه نظر إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة. فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم (2) .
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .
(2) أحمد عيسى عاشور الفقه الميسر في العادات والمعاملات، ط 4، مكتبة الاعتصام، 1399 هـ 1979، ص 423- 424.(53/344)
الخاتمة:
مما تقدم بحثه وبيانه رأينا كيف أن الإسلام حافظ على الكرامة الإنسانية، ومنع من مساسها بغير ضرورة واضحة، ومنع من المثلة بجسم الإنسان كائنا من كان، فقد ورد النهي عن المثلة ولو بالكلب، وعظم من حرمة الإنسان حيا وميتا فقال -صلى الله عليه وسلم-: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » ، وكل ذلك رفعا لمكانة الإنسان واعتبارا لإنسانيته، فكيف إذن نتخلى عن هذه الكرامة الربانية وتلك العظمة التي قد عظمه ربه.
لو أمعن الإنسان النظر ودققه لوجد أن الإذن بإعطاء الأعضاء بغرض التبرع للزرع في جسم من يحتاجها هو أيضا كرامة جديدة للإنسان الذي يبذل ويعطي في حياته وبعد مماته، وأي عظمة تداني عظمة الإنسان الذي تلك صفاته. إن الإذن بذلك ليس فيه امتهان لجثة الشخص ما دام أننا تقيدنا بالشروط التي تقدمت، والتزمنا بالقواعد الشرعية التي فصلت، وهذا يؤيده -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه (2) » ، كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أباح وضع أنف من ذهب لمن قطع أنفه، روى أبو داود قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الخزاعي، المعنى قالا: أخبرنا أبو الأشهب «عن عبد الرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا
__________
(1) أبو داود، ج 2، ص 69، ابن ماجه، ج 1، ص 492 وغيرهم.
(2) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(53/345)
من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم-: فاتخذ أنفا من ذهب (1) » ، ولو كان الطب متقدما في زمنه -صلى الله عليه وسلم- كتقدمه في عصرنا الحاضر لأباح زرع أنف عادية، بدليل أنه أمر بوضع أنف له من أنفس المعادن، ولا شك أن الأنف التي من اللحم أنفس من تلك التي من الذهب.
كما أن نفع المحتاج بالعضو المطلوب أولى من دفنه في التراب ونحن بحاجة إليه.
وبناء على ما تقدم فإنني أرى أنه لا مانع من إعطاء الأعضاء والتبرع بها وزرعها بشرط الضرورة الملحة، والتحقق من الموت للمعطي، بإذنه المسبق أو إذن وليه، من مسلم إلى مسلم، ومن غير المسلم لغير المسلم، وبقدر الضرورة وليس من المسلم لغير المسلم، أو لمهدور الدم، كقاتل عمد أو مرتد أو زان محصن مستوجب للقصاص؛ لأن في هذا الأخير إعانة على الظلم والباطل، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وللحديث المتقدم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » .
ولا مانع من إعانة هذا الصنف الأخير لعل في ذلك ما يعيده إلى جماعة أهل الحق، تأليفا لقلبه،
__________
(1) عون المعبود بشرح ابن القيم، ط 2، ج 11، 1389، ص 293.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.(53/346)
وإحسانا إليه، وأملا في أن يكون عضوا صالحا في المجتمع.
كما أنني لا أرى فتح الباب على مصراعيه أمام الناس في التبرع بالأعضاء بل بحسب الحاجة وعلى قدر الضرورة، خشية أن ينقلب الأمر إلى امتهان كل جثة، وهذا ليس من باب الضرورة في شيء لما فيه من تشويه الأموات وإن كان بإذن مسبق منهم ولكن يطلب العضو عند الحاجة إليه، ولا بأس أن يكون عندنا الشيء اليسير من الأعضاء المحفوظة للحاجة الذي لا نضطر معه لطلب غيره، فإنه لا ضرر ولا ضرار، وإنه ليس من شك أن إفادة الناس بعضهم بعضا دليل على الكرامة الإنسانية وليس عكسها. والله أعلم وأحكم.(53/347)
صفحة فارغة(53/348)
العقيدة هي الأساس والعبادة
هي البناء القائم على أصل العقيدة
أ. د. محمد بن أحمد الصالح (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فحديثنا اليوم عن العقيدة، والأسس التي تقوم عليها، والأهداف التي تتحقق من خلالها. ولتكن بداية حديثنا باستعراض جملة من، الآيات الواردة في سورة الأنعام، التي عنيت بشأن العقيدة وتركيزها، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (2) {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (3) {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (4) وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5) {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (6)
__________
(1) وردت ترجمة للكاتب في العدد العاشر ص 303.
(2) سورة الأنعام الآية 1
(3) سورة الأنعام الآية 2
(4) سورة الأنعام الآية 3
(5) سورة الأنعام الآية 13
(6) سورة الأنعام الآية 14(53/349)
وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (4) {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (5) {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (6) {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (7) وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (8) {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (9) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (10) وبعث رسوله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الحياة إلى
__________
(1) سورة الأنعام الآية 17
(2) سورة الأنعام الآية 18
(3) سورة الأنعام الآية 65
(4) سورة الأنعام الآية 95
(5) سورة الأنعام الآية 96
(6) سورة الأنعام الآية 97
(7) سورة الأنعام الآية 98
(8) سورة الأنعام الآية 102
(9) سورة الأنعام الآية 103
(10) سورة الصف الآية 9(53/350)
سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وكانت مهمة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الأولى هي ترسيخ العقيدة، وتأصيلها في النفوس؛ فهي المهمة الأولى، وهي القضية الكبرى فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا الدين، وهي الأساس، والعبادة هي البناء القائم على أصل العقيدة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، يترتب عليه الانقياد. له فيما اختاره ورضيه، وفيما أمر به وما نهى عنه.
فالعقيدة هي المدخل للإسلام وهي محوره والروح التي تسري فيه، وقد جاءت هذه العقيدة في سورتين موجزتين هما سورتا الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) وهاتان السورتان جاءت فيهما خلاصة العقيدة، ولهذا جاءت السنة بمشروعية قراءتهما في ركعتي الفجر؛ ليبدأ المسلم حياته اليومية بتصفية نفسه، وإخلاص عقيدته وصدق توجهه إلى خالقه.
فالقرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاثة عشر عاما كاملة يحدثه فيها عن قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر؛ ذلك أن الأسلوب القرآني يجعلها
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الكافرون الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 1(53/351)
في كل عرض جديدة.
لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية في هذا الدين الكريم، فقضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية الألوهية والعبودية وما بينهما من علاقة.
إنها قضية الإنسان التي لا تتغير لأنها قضية وجوده في هذا الكون، وقضية مصيره، وقضية علاقته بخالق هذا الكون بكل ما فيه من الأحياء، وكانت العقيدة هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.
ولقد شاء الله تعالى أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول لهذه الرسالة العالمية، وأن يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
إن الناس كل الناس عبيد لله وحده لا شريك له، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية لا إله إلا الله، فالجنسية التي توحد الناس هي جنسية العقيدة التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية لا إله إلا الله، وبعث رسول الله خير بهذا الدين الذي يعمل على بناء الأخلاق التي لا. تقوم إلا على أساس من العقيدة التي تضع الموازين، وتحدد القيم، وتقرر السلطة التي تعتمد عليها هذه الموازين والقيم، وبدون هذه العقيدة تظل القيم والأخلاق كلها(53/352)
متأرجحة بلا ضابط؛ لأن بالعقيدة الحقة يتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته، وقد قام النظام الإسلامي بعدل لا يعرف الظلم، وبميزان قسط لا يعرف الجور، ورفع راية الإسلام، وطهر النفوس، وزكى الأخلاق، ونقى القلوب والأرواح؛ لأن الرقابة قامت على رسوخ العقيدة، وقوة الإيمان، ولأن الطمع في رضى الله وثوابه، والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة.
فنظام هذا الدين يتناول الحياة كلها، ويتولى شئون البشرية كبيرها وصغيرها، وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة، وقد عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما.
إن القرآن الكريم يخاطب فطرة الإنسان بما في وجوده هو، وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات.
إن بني الإنسان حين يضلون عن سبيل الله يتخبطون في الضلالات، ويتسكعون في الظلمات، ويغرقون في ألوان الشرك، وأوضار الجاهلية: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (2) البشر عقولهم قاصرة، قاصرة عن أن تدرك طريق الصلاح بمفردها، أن تستبين سبيل الرشاد بذاتها، إنها لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعا، أو تدفع ضررا.
__________
(1) سورة الروم الآية 31
(2) سورة الروم الآية 32(53/353)
لا يرتفع عن النفوس الشقاء، ولا يزول عن العقول الاضطراب إلا حين تسلم العقول بأنه سبحانه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، له الملك كله، وبيده الأمر كله " وإليه يرجع الأمر كله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (1) ، {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) ، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (3) {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (4) {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5) {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (6) {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (7) .
إن إسلام الوجه لله، وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خلقه، وتفكيره ينقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين وأحبار السوء ورهبانها ممن يشترون بآيات الله وأيمانهم ثمنا
__________
(1) سورة غافر الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 112
(3) سورة النساء الآية 125
(4) سورة البقرة الآية 136
(5) سورة البقرة الآية 137
(6) سورة البقرة الآية 138
(7) سورة البقرة الآية 163(53/354)
قليلا. إن التوحيد الخالص يحفظ الإنسان من الانفلات بلا قيد أو حاجز.
إن توحيد الله وإفراده بالعبادة هو العبودية التامة له وحده سبحانه تحقيقا لكلمة الحق لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تحقيقا لها في لفظها ومعناها، والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليها حياته كلها، صلاته ونسكه، محياه ومماته، توحيد في الاعتقاد، وتوحيد في العبادة، وتوحيد في التشريع، توحيد تنقى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في الألوهية لأحد غير الله، وتنقى به الجوارح والشعائر من أن تصرف لأحد غير الله، وتنقى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاها من أحد دون الله عز وجل.
التوحيد هو عماد الدين، وجوهر العقيدة، وأول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته، الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعصمت به الأنفس، وحقنت به الدماء، وامتازت به دار الإيمان عن دار الكفرة وانقسم به الناس إلى مؤمن وكافر، وسعيد وشقي.
ولقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة؛ فهو القضية الكبرى، قضية العقيدة التي هي قوام الدين كله إنها قوام حياة الضمير، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة الإنسانية.(53/355)
فقضية العقيدة هي قضية هذا الدين الأساسية، وهي القاعدة التي يقوم عليها بناء الدين، وترجع إليها التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات.
القاعدة التي يجب أن تستقر في النفوس، وترسخ في القلوب قبل الدخول في الأوامر والنواهي، وقبل الدخول في التكاليف والفرائض، وقبل الدخول في الشرائع والأحكام حيث يجب ابتداء أن يعترف الإنسان بوحدانية الله وربوبيته، وينقي ضميره من شوائب الشرك، وينقي عقله من شوائب، الخرافة، وينقي المجتمع من تقاليد الجاهلية؛ لأن الشرك في كل صوره هو المحرم الأول؛ لأنه يجر إلى كل محرم، وهو المنكر الأول الذي يجب رفضه ومحاربته، والتوحيد هو المهمة الأولى لرسل الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (2) فالقرآن كله حديث عن التوحيد، وبيان حقيقته، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم عند ربهم كما أنه حديث عن ضده من الشرك بالله، وبيان حاله وأهله، وسوء منقلبهم في الدنيا، وعذاب الهون في الأخرى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (3) لأن الله لا يغفر أن
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الزخرف الآية 45
(3) سورة الحج الآية 31(53/356)
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) والأوامر والنواهي، ولزوم الطاعات، وترك المحرمات هي أسس التوحيد وحقوقه ومكملاته، القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه، ويؤمنوا به ويعتنقوه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (3) {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (4) وكل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (5) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6) التوحيد يخاطب به المؤمنون ليزدادوا إيمانا وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص فيه أو الخلل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (7) .
ومن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (8) ومن نعوت أهل الإيمان الموعودين بالتمكين في الأرض، قال تعالى:
__________
(1) سورة لقمان الآية 13
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة الذاريات الآية 50
(4) سورة الذاريات الآية 51
(5) سورة الأعراف الآية 59
(6) سورة الأنبياء الآية 25
(7) سورة النساء الآية 136
(8) سورة الفرقان الآية 68(53/357)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة من أهله، والإعراض عنه وعنهم، فقال جل وعلا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) وقال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (4) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (6) ، {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} (7) ، {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (8) {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (9)
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة الحج الآية 26
(3) سورة البقرة الآية 132
(4) سورة البقرة الآية 133
(5) سورة الزمر الآية 65
(6) سورة الزمر الآية 66
(7) سورة الرعد الآية 36
(8) سورة القصص الآية 87
(9) سورة الأنعام الآية 106(53/358)
ولقد قال إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1) {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (4) هذا بعض ما جاء في القرآن.
أما السنة فإن بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسالته وسيرته من أولها إلى آخرها، مكيها ومدنيها، حضرها وسفرها، كلها تعالج قضية التوحيد، وتعني ببناء العقيدة منذ أن أمر بالإنذار في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (5) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (6) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (7) {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (8) {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (9) وحتى أمر -عليه الصلاة والسلام- بإنذار الأقربين من عشيرته، فقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} (10) {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (11) {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (12) {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (13) {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (14) {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} (15) {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (16) {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (17) وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (18) {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (19) {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (20)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 35
(2) سورة إبراهيم الآية 36
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة محمد الآية 19
(5) سورة المدثر الآية 1
(6) سورة المدثر الآية 2
(7) سورة المدثر الآية 3
(8) سورة المدثر الآية 4
(9) سورة المدثر الآية 5
(10) سورة الشعراء الآية 213
(11) سورة الشعراء الآية 214
(12) سورة الشعراء الآية 215
(13) سورة الشعراء الآية 216
(14) سورة الشعراء الآية 217
(15) سورة الشعراء الآية 218
(16) سورة الشعراء الآية 219
(17) سورة الشعراء الآية 220
(18) سورة الروم الآية 17
(19) سورة الروم الآية 18
(20) سورة الروم الآية 19(53/359)
ويواصل جهوده -عليه الصلاة والسلام- بإظهار دعوته امتثالا لقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) فما ترك -عليه الصلاة والسلام- تقرير التوحيد وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انشغل عنه وهو يتلقى الأذى والعنت من بني ثقيف في الطائف عندما توجه إلى ربه متضرعا متذللا خاشعا منيبا، يهتف بالدعاء المؤثر الذي يحرك الوجدان، ويهز المشاعر، وتخشع له القلوب، وتذرف له الدموع: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك (2) » .
ويلازم -عليه الصلاة والسلام- الإقرار بالتوحيد وهو وحيد مع صاحبه في الغار، فيقول: «ما بالك باثنين الله ثالثهما، (3) » لا تحزن إن الله معنا ".
__________
(1) سورة الحجر الآية 94
(2) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 \ 35، كنز العمال برقم (3613، 3756، 5120) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3653) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2381) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3096) ، مسند أحمد بن حنبل (1/4) .(53/360)
وفي المدينة عاصمة الإسلام الأولى، وهو عليه الصلاة(53/360)
والسلام بين المهاجرين والأنصار، بين أحبابه وأتباعه يأتي الإذن بالقتال والجهاد مقترنا بالتوحيد، قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (1) وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (2) إلى فتح مكة حين كسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأصنام بيده الشريفة، وتلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (3) إلى الإعلام بدنو الأجل والاقتراب من اللحوق بالرفيق الأعلى، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (4) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (5) {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (6) فلم تخل مرحلة من هذه المراحل ألبتة من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرض البعثة كلها في ذلك، فلا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب دراسته والتعمق فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عند تكرار عرض البيعة على التوحيد، ونبذ الشرك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} (7) فهذه سيرته الناصعة
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 39
(3) سورة الإسراء الآية 81
(4) سورة النصر الآية 1
(5) سورة النصر الآية 2
(6) سورة النصر الآية 3
(7) سورة الممتحنة الآية 12(53/361)
وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله، من أجل هذا كان التوحيد أولا، ولا بد أن يكون أولا في كل عصر وفي كل مصر.
أما أركان الإسلام الخمسة الكبرى، ومعالمه العظمى فشرعت لتعلن التوحيد، وتجسده، وتقرره، وتؤكده إقرارا وعملا، فالشهادتان إثبات للوحدانية، ونفي للتعدد، وحصر للتشريع والمتابعة في شخص المصطفى المبلغ محمد -صلى الله عليه وسلم-.
والصلاة تعين على الإيمان والشفاء، يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (1) {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) والصلاة في الإسلام عماد الدين، وهي كالعبادة مفهوم شامل لكل ما يصل العبد بربه، ولها مفهومها الخاص الذي حددته الشريعة استعدادا لها (بالتطهر والاتجاه إلى القبلة. . .) وأداءها في أوقات معينة، ولمناسبات معينة: الصلوات الخمس في اليوم والليلة: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (3) وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (4) والجمعة والعيدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 45
(2) سورة البقرة الآية 46
(3) سورة الإسراء الآية 78
(4) سورة هود الآية 114
(5) سورة الجمعة الآية 9
(6) سورة الكوثر الآية 2(53/362)
، ثم الصلاة حيث تدعو لها الحاجة كالجنائز والاستسقاء والكسوف أو الخسوف. . . إلخ.
والصلاة صلة بين العبد وربه، والصلاة في جماعة صلة بين العبد "وإخوانه، وفي أدائها صلة بين أجيال متتابعة، وأقطار وإن تباعدت فلها في الإسلام امتدادها التاريخي واتساعها المكاني وتكاملها مع العبادات الأخرى، وفي الصلاة خلاصة الإسلام مما يجعلها تمس النفس الإنسانية، ويستطيع المسلم أن يؤديها في الإقامة والسفر، والأمن والخوف، والصحة والمرض، قائما وقاعدا ومستلقيا وبالإيماء وحركة العين، قال -عليه الصلاة والسلام- لعمران بن حصين رضي الله عنه: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (1) » . . . الحديث. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (2) {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} (3) وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (4) {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .
(2) سورة النساء الآية 101
(3) سورة النساء الآية 102
(4) سورة البقرة الآية 238
(5) سورة البقرة الآية 239(53/363)
وإذا لم يجد المسلم ماء تيمم صعيدا طيبا، قال تعالى:. . . {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) ، الآية.
الصلاة تجمع قواعد الإسلام الأخرى، فيها الشهادتان، والتكبير (الله أكبر) هذه الكلمة الموجزة البليغة المعجزة المدوية التي تخلع قلوب الجبابرة، وتهز عروش الأكاسرة؛ لأن الله أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، والمنبئ عن طرح كل من سوى الله عز شأنه، واستصغار كل ما دون الله عز وجل.
ناهيك بدعاء الاستفتاح الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفتتح به صلاته، كله توحيد وإخلاص وتقديس وتمجيد وإخبات وإنابة واستغاثة.
وحسبك أن تنظر فيما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك (2) » ، أو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس (3) » ،
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) رواه الإمام. أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) برقم (11260) ، ومسلم في (الصلاة) برقم (399) .
(3) رواه البخاري في (الأذان) برقم (744) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (598) .(53/364)
أو «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم (1) » .
ناهيك بسورة الفاتحة التي هي ركن في الصلاة، وتمثل الدرة الفريدة في المعجزات السماوية، وما تضمنته من حمد وثناء وتمجيد، وإفراد لله بالعبادة والاستعانة، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وما يتلو سورة الفاتحة من آيات أخرى كريمة، وما يتبع هذه التلاوة من ركوع لله، وتسبيح، وذكر، ورفع من الركوع وتحميد، وسجود متضمن للخضوع والخشوع بين يدي الله.
وفي الصلاة من الزكاة تقديم جزء من الوقت للعبادة، والوقت هو الحياة، فهي قرينة الصلاة، فالتعبد، والاعتراف للرب بجليل النعم، وإخراجها خالصة لله طيبة بها النفس براءة من عبادة الدرهم والدينار: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (2) {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (3) .
وفي الصلاة من الصوم الامتناع عن الطعام والشراب، فالصيام الحق هو الذي يدع الصائم فيه طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه ومولاه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (24699) ، ومسلم في (صلاة المسافرين) برقم (770) .
(2) سورة فصلت الآية 6
(3) سورة فصلت الآية 7(53/365)
وفي الصلاة من الحج التوجه إلى بيت الله، فالحج شعار الأمة كلها في هذه البقاع، فهو التلبية بالتوحيد، ونفي الشرك «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك (1) » .
وإذن فالنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج إنما شرعت للتقرب إلى الله، والرجوع إليه، وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح من الطاعة والانقياد، وفيما أثر عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في الورد اليومي: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما، وما كان من المشركين (2) » .
وفي دعاء المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم (3) » .
ثم إن الصلاة عمل يشترك فيه الجسم واللسان والعقل والقلب، ولكل منها نصيب غير منقوص، وكل فيها ممثل تمثيلا حكيما عادلا؛ فللجسم قيام وركوع وسجود وانتصاب وانحناء، وللسان تلاوة وتسبيح، وللعقل تفكر وتدبر وتفهم وتفقه، وللقلب خشوع ورقة وطمع في المزيد من فضل الله، وقد أعطى الله تعالى
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1549) ، مسند أحمد بن حنبل (2/120) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) برقم (14935) ، والدارمي في (الاستئذان) برقم (2688) .
(3) أخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) برقم (1379) 2 \ 402 / 39، وأخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة) باب الشرك برقم (287) والبخاري في (الأدب المفرد) برقم (716) .(53/366)
في كتابه المحكم كلا نصيبه فقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) كل ذلك من أعمال الجسد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (3) فنص على أن الصلاة لا بد أن تكون عن تعقل وشعور، وذلك من أعمال العقل، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) والخشوع من أعمال القلب، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6) والخوف والطمع من أعمال القلب.
ثم إن الصلاة تجمع بين الانعزال عن الحياة والاندماج فيها، انعزال عنها بأداء الصلاة والانشغال بها وترك ما يشغل الإنسان من عمل أو تجارة، وفي أثنائها يسمع قراءة القرآن، ويدعو ربه، والاستماع تعلم وتذكر يعود عليه بالنفع في حياته اليومية، وصلاة النهار في السر عندما ترتفع أصوات الناس بالحوار والحديث، وصلاة الليل جهرية عندما يهدأ الناس، وبهذا كان فيها خروج عن مألوف عمله حتى في درجة الصوت، ثم عودة
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة الحج الآية 77
(3) سورة النساء الآية 43
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2
(6) سورة السجدة الآية 16(53/367)
إلى الحياة بزاد يغذي القلب والفكر ويزكي الخلق، ولهذا كان من قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «أرحنا بالصلاة يا بلال (1) » .
ويستحب للعابد أن يكثر فيها الدعاء وبخاصة في السجود، وخاتمة التشهد، وبعد السلام، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (2) » .
ويقول الله عن الصلاة، وكيف أنها تعين على أمر الحياة: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (3) {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (4) {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (5) .
فلهذا لم تكن هذه الأدلة المتكاثرة والحجج المتظاهرة والبراهين المتوافرة إلا لعظم الأمر، وخطر شأن القضية، وشدة شأن الخوف على الناس من الانحراف، والقلوب من الزيغ، ولماذا لا يخاف عليهم والشياطين ما فتأت تترصد لبني آدم تجتالهم، وتغويهم، وفي الحديث القدسي: «خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطان (6) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (22578) ، وأبو داود في (الأدب) بر قم (4985) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9165) ، ومسلم في (الصلاة) برقم (482) .
(3) سورة الحجر الآية 97
(4) سورة الحجر الآية 98
(5) سورة الحجر الآية 99
(6) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (17030) ، ومسلم في (الجنة وصفة نعيمها) برقم (2865) .(53/368)
كيف لا يكون الخوف من الشرك والرسول -صلى الله عليه وسلم- خاطب أصحابه وهم الصفوة المختارة من الأمة: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر (1) » .
ويزداد الخوف حين يتأمل المتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الشرك أخفى في الأمة من دبيب النمل (2) » بل لقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن فئاما من الأمة تعبد الأوثان.
وإذن فالأمر في غاية الدقة والخطورة، شرك خفي في المحبة والخضوع والتذلل؛ من أعطى حبه وذله وخضوعه وتسليمه وانقياده وطاعته لغير الله، كيف يكون قد حقق التوحيد! {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (3) {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) . وتعددت أنواع الشرك، فهذا مشرك في الخوف والرجاء، وآخر في الجهاد بالرياء والسمعة، وذاك مشرك في باب الأسباب، وآخر في باب النفع والضر، وانظروا في السحر والشعوذة، والتطير والتشاؤم، والرقى والتمائم، والحلف بغير الله، في صور لا تكاد تحصر.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (23119) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) برقم (19109) .
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) سورة التوبة الآية 31(53/369)
ناهيك بدعاء غير الله، والاستعانة بأصحاب القبور، والغلو في الصالحين، والطواف حول الأضرحة، يدعون عندها ثم يدعونها، ويذبحون عندها ولها، ويتمسحون، ويتطور الحال حتى يتخذوها عيدا.
وصورة جديدة من صور الخلل في التوحيد باءت بها فئات من المنتسبين إلى الإسلام تزعم الثقافة والمعرفة، لا ترضى بحكم الله، ولا تسلم له؛ بل إن في صدورها لحرجا، وفي قلوبها لمرضا، وتضيق ذرعا، إذا أقيم حد من حدود الله ارتعدت فرائصهم، واشمأزت قلوبهم.
ولهم إخوان يمدونهم في الغي، يزعمون الحفاظ على حقوق الإنسان، وما ضاعت حقوق الإنسان وحقوق الأمم إلا بهم وبأمثالهم، الإسلام عندهم جناية على الحقوق، والحدود في نظرهم قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الفكر والإبداع، وأحكام الشرع كلها عودة إلى عصور الظلام والتعصب والانغلاق: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
والتوحيد صعب على الأذلاء، ومن سيموا الخسف والذل والتبعية: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (2) . صب على من استمرءوا الفساد، وولغوا في الأوحال:
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة ص الآية 5(53/370)
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (1) .
إنهم ينكرون التوحيد، ولا يعرفون صفاء العقيدة، مستعبدون في فكرهم، مشركون في تفكيرهم، وقالوا للذين كفروا وكرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، بل لعلهم قالوا سنطيعكم في كل الأمر، إنهم حين لم يعرفوا التوحيد، ولم يحققوه، أصبحوا فئة منفصلة عن أمة الإسلام، بفكرها ومعتقدها، تولي وجهها نحو الشرق أو الغرب، وقد تجلى ذلك في تمردهم على أصالة الأمة، وأمجادها، وتراثها.
وبعد: فإن نعمة التوحيد يخرج بها قلب العبد من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده، يخرج من التيه والحيرة والضلال إلى المعرفة واليقين والطمأنينة والرضى والهداية، يخرج من الدينونة المذلة لأرباب متفرقين إلى الدينونة الموحدة لرب الأرباب: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) . وصفوة القول فإن العقيدة هي الأصل والأساس، والعبادة هي البناء القائم على أساس العقيدة، وتحقيق التوحيد يحتاج إلى يقظة قلبية دائبة دائمة، تنفي عن النفس كل خاطرة تقدح في عبودية العبد لربه، وتدفع كل خرافة شيطانية في كل حركة، أو تصرف، ليكون ذلك كله خالصا لله وحده دون من سواه. ومع
__________
(1) سورة الزمر الآية 45
(2) سورة القصص الآية 88(53/371)
شديد الأسف فإن قوادح التوحيد، ومنقصاته صارت عند كثير من الناس من أخفى المعاصي معنى، وإن كانت من أخطرها حكما، فلظهور حكمها ترى المسلمين عامتهم يتبرءون منها، ويغضبون كل الغضب إذا نسبوا إليها، وهم في هذا الغضب محقون، ولكن لخفاء معناها وقع فيها من لا يشعرون.
ولقد قرر أهل العلم أن الخوض في قوادح التوحيد والحديث عن مظاهر الشرك هي منهج القرآن الكريم؟ وذلك من أجل تحذير المسلمين، وليس من أجل الحكم عليهم به؛ فأهل السنة والجماعة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، وما زال أهل العلم يتكلمون عن أحكام الردة، وأسبابها، وطرق الزيغ والضلال، والتحذير منها. فمن غيم العقيدة الصحيحة، وعلمها، ودل عليها، ونبه إلى طرق الزيغ والكفر والبدع فقد سلك مسلك حق، ونهج منهج رشد؛ ولهذا فيتعين العناية بالأصول، وما يحتاجه الناس والناشئة، من التفصيل في التوحيد وأنواعه، وحقوقه، وبيان ضده من الشرك، وأنواعه، ومظاهره، وأسبابه، ولا بد من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن، ونبه عليه؛ إذ هو بين واضح يدرك ببداهة العقل لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولهذا يتعين إخلاص الدين لله وتحقيق التوحيد وعبادة الله والمسارعة إلى فعل الخير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.(53/372)
كلمة توجيهية في الدورة الرابعة والثلاثين
للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي
بمكة المكرمة عام (1416 هـ)
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به علينا في هذا المجلس لإنهاء أعمالنا المهمة العظيمة المتعلقة بمصالح المسلمين عموما ودولهم. ونسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما بذلنا من الجهود في ذلك، وأن ينفع بهذه الجهود جميع المسلمين في كل مكان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين في كل مكان في الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم. كما أسأله سبحانه أن يضاعف الأجر لجميع أعضاء هذا المجلس، وأن يعينهم على كل خير، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين.
وإنني بهذه المناسبة أوصي جميع دول المسلمين ورؤساء(53/373)
حكوماتهم أوصيهم جميعا بتقوى الله، وأن يحكموا شريعة الله في عباد الله، وأن يحسنوا إلى شعوبهم، ويوجهوهم إلى الخير، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر؛ لأن هذا هو أهم واجب على الرؤساء والأعيان؛ لأن الله جل وعلا يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (2) » .
فالإمام راع ومسئول عن رعيته، فالرعاة مسئولون، فالأمراء هم قادة الناس، سواء كانوا ملوكا أو رؤساء جمهوريات وهكذا غيرهم من الروساء والأعيان، حتى رؤساء العشائر، ورؤساء الشعوب، ومديري الشركات، مسئولون يجب عليهم أن يتقوا الله، وأن يؤدوا الأمانة التي اؤتمنوا عليها. وعلى الأمراء والرؤساء أن يتقوا الله في تحكيم الشريعة بين الناس، والتزامهم بأحكامها، وأخذهم بها، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
هذا هو واجبهم جميعا فعليهم أن يتقوا الله، وأن يقيموا دين الله بينهم، وأن يقيموا حدود الله في رعاياهم. هكذا تكون الدول الإسلامية، وهكذا يجب أن يكون أمراء المسلمين، أن يتقوا الله وينفذوا أحكام الله في عباد الله، وأن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، وأن يعمدوا العلماء ويشجعوا العلماء على
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) رواه البخاري في (كتاب الجمعة) برقم (844) ، ورواه مسلم في (كتاب الإمارة) برقم (3408) .(53/374)
تبليغ رسالة الله ودعوة الله، وتعليم الناس الخير، وتفقيههم في الدين؛ حتى يكون العلماء والأمراء متعاونين على البر والتقوى متناصحين، باذلين كل مستطاع في توجيه الناس وإرشادهم إلى الخير. ونسأل الله عز وجل أن يوفق العلماء في كل مكان لما يرضيه، وأن يعينهم على تبليغ رسالة الله إلى عباد الله، وأن يمنحهم المزيد من الفقه في الدين والعلم النافع، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها وسعادتها في الدنيا والآخرة. كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع المسلمين شبابا وشيبا رجالا ونساء لكل ما يرضيه، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يعينهم على كل خير، وأن يعيذنا وإياهم وإياكم من شرور الفتن، ومن شرور النفس، وسيئات العمل، إنه جل وعلا جواد كريم.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشكر لخادم الحرمين الشريفين الملك الكريم فهد بن عبد العزيز أعماله المباركة لدعم هذه الرابطة، وإعانتها على تبليغ رسالتها، ودعمها بكل ما يعينها على أداء المهمة التي أوكلت إليها. كما أشكره أيضا وحكومته على جهودهم العظيمة فيما يتعلق بمصالح المسلمين، ودعم قضاياهم في كل مكان، وإعانتهم على ما يرضي الله ويقرب إليه.
فنسأل الله أن يزيده من الخير، وأن يمن على خادم الحرمين الشريفين بالشفاء والعافية، وأن ينصر به الحق، وأن يوفق جميع المسئولين في حكومته لكل ما يرضي الله ويقرب لديه، ولكل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها وسعادتها في الدنيا والآخرة.(53/375)
ثم لا يفوتني أن أشكر هذه الرابطة وأمينها والعاملين معه، نشكرهم جميعا على جهودهم الطيبة وأعمالهم المباركة، ونسأل الله لهم المزيد من كل خير، والإعانة على كل خير، ونسأل الله أن يمنحهم الفقه في الدين والبصيرة، وأن يعينهم على أداء مهمتهم على الوجه الذي يرضي الله وينفع عباده.
وأشكر الأمين الجديد على أعماله في هذه الدورة، وأسأل الله له المزيد من كل خير، وأن يجعله مباركا أينما كان، وأن يعينه على مهمته على الوجه الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
كما لا يفوتني أن أشكر الأمين العام السابق / د. أحمد محمد علي على جهوده الطيبة وأعماله المباركة، وأسأل الله أن يعينه على مهمته في البنك التي سار إليها أخيرا، وأن ينفع به المسلمين، وأن يوفقنا جميعا لكل ما يرضيه، وأن يحسن لنا جميعا الختام، وأن يعيذنا جميعا من كل ما يغضبه ويقرب من سخطه، وأن يمنحنا الهداية والتوفيق والصلاح في القول والعمل، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه.(53/376)
حديث شريف
عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) »
رواه الإمام أحمد برقم (16499) .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(53/377)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1)
(سورة الأنعام، الآية 155)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155(54/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(54/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(54/3)
المحتويات
الافتتاحية
الوصية بكتاب الله لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
جباية الزكاة (القسم الأخير) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 35
الفتاوى
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 93
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 117(54/4)
البحوث
من مشاهد يوم القيامة (الجنة) للدكتور / دوخي بن زيد بن علي الحارثي 135
إمام المغازي محمد بن إسحاق للدكتور / مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي 223
من رواد العلم في المملكة للدكتور / محمد بن سعد الشويعر 279
واجب الشباب للشيخ / علي بن قاسم الفيفي 355
وجوب الحذر من استقدام غير المسلمين لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 379(54/5)
صفحة فارغة(54/6)
الوصية بكتاب الله (القرآن الكريم)
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله، وأمينه على وحيه، وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن كتاب الله فيه الهدى والنور، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، وهو ذكره الحكيم، من تمسك به نجا، ومن حاد عنه هلك. يقول الله عز وجل في هذا الكتاب العظيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) .
هذا كتاب الله يهدي للتي. هي أقوم، يعني: للطريقة التي هي أقوم، والمسلك الذي هو أقوم، الذي هو خير الطرق وأقومها وأهداها، فهو يهدي إليه، يعني: يرشد إليه، ويدل عليه، ويدعو إليه، وهو توحيد الله وطاعته، وترك معصيته والوقوف عند
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الإسراء الآية 10(54/7)
حدوده، هذا هو الطريق الأقوم، وهو المسلك الذي به النجاة، أنزله الله جل وعلا تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، كما قال سبحانه في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) . فهو تبيان لكل شيء، وهدى إلى طريق السعادة ورحمة وبشرى. يقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) . هدى لقلوبهم للحق، وشفاء لقلوبهم من أمراض الشرك والمعاصي والبدع والانحرافات عن الحق، وشفاء للأبدان من كثير من الأمراض. وهو بشرى للإنس والجن، لكنه سبحانه ذكر المؤمنين لأنهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به، وإلا فهو شفاء للجميع، كما قال جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) . فالقرآن شفاء ودواء للقلوب من جميع الأدواء المتنوعة؛ أدواء الشرك، والمعاصي، والبدع، والمخالفات، وهو شفاء لأمراض الأبدان أيضا وأمراض المجتمعات؟ شفاء لأمراض المجتمع وأمراض البدن لمن صلحت نيته وأراد الله شفاءه. ويقول جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (5) . فهو
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة إبراهيم الآية 1(54/8)
كتاب يخرج الله به الناس من الظلمات؛ من ظلمات الشرك، والمعاصي، والبدع، والفرقة والاختلاف إلى نور الحق والهدى والاجتماع على الخير والتعاون على البر والتقوى، وهذا هو صراط الله المستقيم وهو توحيد الله، وأداء فرائضه، وترك محارمه، والتواصي بحقه، والحذر من معاصيه، ومن مخالفة أمره، هذا هو صراط الله المستقيم، وهذا هو النور والهدى، وهذا هو الطريق الأقوم. وقال سبحانه في سورة الأنبياء: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (1) ، وقال سبحانه في سورة يس: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (2) {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3) سورة يس، الآيتان 69، 70. . والمقصود أن الله جل وعلا جعل كتابه ذكرا، وجعله نذارة، وجعله شفاء، وجعله هدى؛ فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يهتدوا به، وأن يستقيموا عليه، وأن يحذروا مخالفته. قال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (4) ، وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) ، وقال جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (6) «وسئلت عائشة رضي الله عنها، فقيل لها: يا أم المؤمنين، ماذا
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 50
(2) سورة يس الآية 69
(3) سورة يس الآية 70
(4) سورة ص الآية 29
(5) سورة الأنعام الآية 155
(6) سورة محمد الآية 24(54/9)
كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن (1) » . قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) . والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يتدبر القرآن، ويكثر من تلاوته، ويعمل بما فيه، فكان خلقه القرآن: تلاوة، وتدبرا، وعملا بأوامره، وتركا لنواهيه، وترغيبا في طاعة الله ورسوله، ودعوة إلى الخير، ونصيحة لله ولعباده، إلى غير ذلك من وجوه الخير.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) حديث السيدة عائشة -رضي الله عنها- برقم (24080 و 24774 و 25285) ، ومسلم في (صلاة المسافرين) باب جامع صلاة الليل برقم (746) بمعناه.
(2) سورة القلم الآية 4(54/10)
وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (1) . فالقرآن هو أحسن القصص، وهو خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
ونصيحتي لجميع المسلمين، رجالا ونساء، جنا وإنسا، عربا وعجما، علماء ومتعلمين، نصيحتي للجميع أن يعتنوا بالقرآن الكريم، وأن يكثروا من تلاوته بالتدبر والتعقل، بالليل والنهار، ولا سيما في الأوقات المناسبة التي فيها القلوب حاضرة للتدبر والتعقل. والذي لا يحفظه يقرؤه من المصحف، والذي لا يحفظ إلا البعض يقرأ ما تيسر منه. قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (2) . وإذا كان يعرف الحروف يتهجى ويقرأ من المصحف حتى يتعلم زيادة. والذي لا يعلم يتعلم من أمه، أو أبيه، أو
__________
(1) سورة يوسف الآية 3
(2) سورة المزمل الآية 20(54/10)
ولده، أو زوجته إن كانت أعلم منه. والتي لا تعرف يعلمها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو أختها، أو غيرهم.
وهكذا يتواصى الناس، ويتعاونون، الزوج يعين زوجته، والزوجة تعين زوجها، والأب يعين ولده، والولد يعين أباه، والأخ يعين أخاه، والخال والخالة، وهكذا الكل يتعاونون، ويتواصون بهذا الكتاب العظيم: تدبرا وتعقلا، وعملا لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ، ولما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله (5) » . هكذا يوصيهم عليه الصلاة والسلام بكتاب الله ويخبرهم أنهم لن يضلوا إذا اعتصموا به.
وفي اللفظ الآخر «كتاب الله وسنة نبيه (6) » . وسنة الرسول
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) رواه مسلم في صحيحه، (الحج) باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (1217) ، والحاكم في المستدرك 1 \ 93.
(6) رواه الإمام مالك في الموطأ بلاغا في (الجامع) باب النهي عن القول بالقدر برقم (1661) ، وذكره صاحب كنز العمال برقم (954) عن ابن عباس.(54/11)
صلى الله عليه وسلم من كتاب الله؛ لأن الله سبحانه يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) . فكتاب الله يأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) ، ويقول جل وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (3) ، ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) . فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالقرآن؛ فوصيته بالقرآن وصية بالسنة، وهي أقواله وأفعاله وتقريراته كما تقدم.
ويروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تكون فتن. فقيل له يا رسول الله، فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. . . (5) » الحديث.
فهو المخرج من جميع الفتن، وهو الدال على سبيل النجاة، وهو المرشد إلى أسباب السعادة والمحذر من أسباب الهلاك، وهو الداعي إلى جمع الكلمة، وهو المحذر من الفرقة
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة المائدة الآية 92
(4) سورة النساء الآية 80
(5) رواه الترمذي (فضائل القرآن) باب ما جاء في فضل القرآن برقم (2906) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7 \ 164، وبين بعض ألفاظهما اختلاف وزيادة(54/12)
والاختلاف. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (1) ، ويقول جل وعلا في هذا الكتاب العظيم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (2) ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) . فهو يدعو إلى الاجتماع على الحق، والتواصي بالحق، كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) . وهذه السورة العظيمة القصيرة قد جمعت الخير كله، وما أبقت شيئا من الخير إلا ذكرته، ولا شيئا من الشر إلا وحذرت منه.
وهؤلاء المستثنون فيها هم الرابحون؛ من الجن والإنس، من الذكور والإناث، من العرب والعجم، من التجار والفقراء، من الأمراء وغيرهم، هم الرابحون، وهم الناجون من الخسران، وهم الذين اتصفوا بأربع صفات، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
هؤلاء هم السالمون من الخسران، ومن عداهم خاسر على حسب ما فاته من هذه الصفات الأربع. فمن آمن بالله ورسوله وصدق الله في أخباره، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما
__________
(1) سورة الأنعام الآية 159
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3(54/13)
صح عنه، وآمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الآخرة والجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك، وآمن بأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة، وأنه واحد لا شريك له، وأن العبادة حقه، وأنه لا تجوز العبادة لغيره، وصدق بهذا كما أخبر الله في كتابه العظيم حيث قال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) ، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (5) ، وقال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (6) ، وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (8) .
فهذا هو أصل الدين وأساس الملة أن تؤمن بأن الله هو الخالق والرازق، وأنه هو المعبود بالحق، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى لا شبيه له، ولا كفو له، ولا شريك له
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة البقرة الآية 163
(6) سورة الزمر الآية 62
(7) سورة الذاريات الآية 56
(8) سورة البقرة الآية 21(54/14)
في العبادة، ولا في الملك والتدبير، كما قال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) ، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) ، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) ، وقال سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (7) ، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (8) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة الحج الآية 62
(8) سورة الجن الآية 18(54/15)
والخلاصة: أن الواجب على كل مكلف من الجن والإنس أن يخص الله بالعبادة، وأن يؤمن إيمانا قاطعا بأنه الخلاق الرزاق، لا خالق إلا الله، ولا رب سواه، وأنه سبحانه المستحق للعبادة، لا يستحقها أحد سواه، وهو المستحق لأن يعبد بالدعاء، والخوف والرجاء، والصلاة والصوم، والذبح والنذر وغيرها، كل لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) . وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة البينة الآية 5(54/15)
معناها لا معبود بحق إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (1) يعني فاعلم أنه لا معبود بحق إلا الله، فهو المستحق أن يعبد. ومن عبد الأصنام، أو أصحاب القبور، أو الأشجار، أو الأحجار، أو الملائكة، أو الأنبياء، فقد أشرك بالله، وقد نقض قول لا إله إلا الله وخالفها، وقد خالف قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) ، وخالف قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) ؛ فصار من جملة المشركين عباد القبور، والأصنام، والأشجار، والأحجار، الذين يستغيثون بأصحاب القبور، ويتبركون بقبورهم، ويدعونهم، أو يطوفون بقبورهم يرجون نفعهم وثوابهم، أو يستغيثون بهم، أو يطلبون منهم الولد أو المدد أو ما أشبه ذلك مما يفعله عباد القبور، وعباد الأصنام، أو يستغيثون بالنجوم، أو بالجن، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بغيرهم من المخلوقات. كل هذا نقض لقول لا إله إلا الله، وشرك بالله ينافي التوحيد ويضاده، ومخالف لقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (7) ،
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة الأنعام الآية 88
(6) سورة الزمر الآية 65
(7) سورة الزمر الآية 66(54/16)
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) . فلا بد من توحيد الله، والإخلاص له: في صلاتك، وصومك، وسائر عباداتك، وفي ذبحك، ونذرك، وخوفك، ورجائك. لا بد في كل ذلك من ترك الإشراك بالله، والحذر منه، مع الإيمان بالله ربك، وأنه خالقك لا خالق غيره ولا رب سواه، مع الإيمان بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه ذو الصفات العلى والأسماء الحسنى، لا شبيه له ولا كفؤ له ولا ند له، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وقال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (4) والمراد أشباه ونظراء، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (7) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (8) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (9) وعليه أيضا أن يؤمن بأن كل إنسان مكلف يجب أن يؤمن بأن الله سبحانه هو خالقه، وموجده، وأنه خالق كل شيء ومالكه، وأنه هو المستحق أن يعبده، وأنه هو الإله الحق، وهو المعبود
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) سورة الأعراف الآية 180
(4) سورة البقرة الآية 22
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) سورة الإخلاص الآية 1
(7) سورة الإخلاص الآية 2
(8) سورة الإخلاص الآية 3
(9) سورة الإخلاص الآية 4(54/17)
بالحق ولا يكون المرء مؤمنا إيمانا كاملا إلا إذا اعتقد أنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها على، وأنه لا شبيه له، ولا مثل له، ولا كفؤ له، كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (4) يعني: لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا شريك له، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) والمعنى: لا تجعلوا له أشباها ونظراء تدعونهم معه، قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) ، فهو يسمع أقوال عباده، ويسمع دعاءهم ويراهم، ومع ذلك لا شبيه له في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في سمعه وبصره، ولا في جميع صفاته، فهو الكامل في كل شيء، وخلقه لهم النقص، أما الكمال فهو له سبحانه وتعالى في كل الأمور.
فعليك بتدبر القرآن حتى تعرف هذا المعنى، تدبر القرآن من أوله إلى آخره، من الفاتحة وهي أعظم سورة في القرآن وأفضل سورة فيه إلى آخر ما في المصحف، قل هو الله أحد والمعوذتين. تدبر القرآن، واقرأه بتدبر وتعقل، ورغبة في العمل والفائدة، لا تقرأه بقلب غافل، اقرأه بقلب حاضر، بتفهم وبتعقل، واسأل عما أشكل عليك، اسأل أهل العلم عما أشكل عليك، مع أن أكثره
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة مريم الآية 65
(5) سورة البقرة الآية 22
(6) سورة الشورى الآية 11(54/18)
بحمد الله واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية، مثل قوله جل وعلا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ، وقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) ، وقوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (4) ، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (5) ، وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (6) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7) ، وقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (8) . فكله آيات واضحات، بين الله سبحانه وتعالى فيها ما حرم على عباده، وما أحل لهم، وما أمرهم به، وما نهاهم عنه.
وهكذا حرم الله الظلم فقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (9) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (10) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة البقرة الآية 43
(5) سورة البقرة الآية 183
(6) سورة آل عمران الآية 97
(7) سورة المائدة الآية 90
(8) سورة البقرة الآية 275
(9) سورة الشورى الآية 8
(10) سورة الفرقان الآية 19(54/19)
فعليك يا عبد الله أن لا تظلم الناس، لا في أنفسهم ولا في أعراضهم ولا في أموالهم.(54/20)
احذر الظلم فعاقبته وخيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله (1) » فاحذر، لا تعتد على الفقير أو تخنه، أو تخن غير الفقير، اتق الظلم في المعاملات وفي كل شيء، لا تظلم عمالا إذا كنت صاحب شركة، أو عندك عمال في بيتك، أعطهم حقوقهم، أوف لهم بالشروط، فشروطهم أعطهم إياها، سواء كنت مدير شركة، أو صاحب عمال في بيتك، أو في مزرعتك، فاتق الله فيهم، لا تستضعفهم فتخونهم، وهكذا في جميع شئونك، لا تكن خائنا ولا غشاشا في بيعك وشرائك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم «من غشنا فليس منا (2) » . ويقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (3) ، ويقول سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (4) ،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي هريرة برقم (7670) ، ومسلم في (البر والصلة) باب تحريم ظلم المسلم برقم (2564) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) مسند عبد الله بن عمر برقم (5092) ، ومسلم في (الإيمان) باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم- ''من غشنا فليس منا'' برقم (101) ، وابن حبان في صحيحه في (التجارات) باب النهي عن الغش برقم (2225) .
(3) سورة النساء الآية 58
(4) سورة المؤمنون الآية 8(54/20)
ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) . فإذا كنت وكيلا لإنسان في مزرعة أو شركة أو غير ذلك فلا تخنه، انصح وأد الواجب، ولا تأخذ من حقه شيئا إلا بإذنه. وهكذا في جميع الأشياء؛ كالوكيل في البيع أو الشراء يجب عليه أن ينصح في ذلك، في الإجارة انصح ولا تخن، في أي شيء، في بيع ثمار النخل، في أي شيء انصح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) . وإذا كان عليك دين فاتق الله في أداء الدين، لا تقل: إنني لا أستطيع وأنت تكذب، اتق الله وأد الدين لمستحقه، فأنت مأمور بذلك، مأمور أن تؤدي الحقوق، وأن توفي بالعقود. يقول الله جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (3) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (5) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (6) زكاة نفوسهم وزكاة أموالهم {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (7) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (8) أي: يحفظون الفروج من الزنا، واللواط وسائر المعاصي، إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (9) {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (10) يرعون الأمانات والعهود حتى
__________
(1) سورة الأنفال الآية 27
(2) سورة المعارج الآية 32
(3) سورة المؤمنون الآية 1
(4) سورة المؤمنون الآية 2
(5) سورة المؤمنون الآية 3
(6) سورة المؤمنون الآية 4
(7) سورة المؤمنون الآية 5
(8) سورة المؤمنون الآية 6
(9) سورة المؤمنون الآية 7
(10) سورة المؤمنون الآية 8(54/21)
يؤدوها كما شرع الله. وهكذا الكلام السري هو من الأمانات، فلا تتكلم به، ولا تفش السر. ومن قال: افعل كذا وكذا ولا تخبر به أحدا، فإن ذلك يكون سرا بينك وبينه فلا تخنه، ولا تخن أمانة السر التي ليس فيها ضرر على أحد. ومن أوصاك على عياله، أو أوصاك على مزرعته فأد الحق، وراقب الله في ذلك، فإن الله سبحانه رقيب عليك. وإذا اقترضت من إنسان حاجات فأد حقه إليه ولا تخنه في ذلك، واتق الله وأعطه جميع الحاجات التي أخذتها منه، أو ثمنها إن كنت أخذتها بالشراء، ولا تجحد ما عندك له إذا كان قد نسيه، بل أعطه إياه وقل: إن هذا لك عندي ثمن كذا وثمن كذا. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (1) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (2) . فالصلاة أعظم الواجبات وأهم الفرائض بعد التوحيد، وهي عمود الإسلام، وهي أعظم ركن وأعظم فريضة بعد الشهادتين، فاتق الله فيها وحافظ عليها في الجماعة؛ لقوله الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (3) ، ولقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (4) ، ولقوله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) ، ولقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (6) {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (7) ،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 8
(2) سورة المؤمنون الآية 9
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) سورة البقرة الآية 43
(5) سورة العنكبوت الآية 45
(6) سورة المعارج الآية 34
(7) سورة المعارج الآية 35(54/22)
ولقوله سبحانه عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} (1) . فلا ترض لنفسك بمشابهتهم، ولا تكن مثلهم متثاقلا عن الصلوات كأنك تجر إليها جرا، لكن كن نشيطا قويا مسارعا إليها في صلاة الفجر وغيرها، فلا تقدم النوم على صلاة الفجر ولا على غيرها، بل كن صابرا مسارعا ومراقبا الله في جميع الأوقات، وهكذا زوجتك، وهكذا أولادك، كن قويا في هذا الأمر مع الزوجة، ومع الأولاد، ومع الخدم، وأنت أولهم، كن مسارعا، وكن قدوة في الخير، إذا سمعت النداء فبادر إلى الصلاة: في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، كما أمرك الله سبحانه بذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (2) والصلاة الوسطى هي صلاة العصر، خصها الله بالذكر لعظم شأنها، ويقول سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (3) وإقامتها هي أداؤها كما أمر الله، وإيتاء الزكاة هو أداؤها لمستحقيها كما أمر الله. فالأموال التي عندك أد زكاتها كما أوجب الله، لا تبخل، وجاهد نفسك في إخراج الزكاة حتى تؤديها إلى أهلها، من هذا المال الذي عندك: من نقود، أو غنم، أو إبل، أو بقر، أو غير
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة البقرة الآية 43(54/23)
ذلك من وأموال الزكاة، وعروض التجارة، كالملابس، والأواني، والسيارات، إلى غير ذلك مما يعد للبيع.
فعليك أن تؤدي عن كل مال زكوي كلما حال عليه الحول في المائة من الدراهم والدنانير وغيرها من العمل اثنان ونصف، وهما ربع العشر، وفي الألف خمسة وعشرون، وفي مائة ألف ألفان وخمسمائة.
وهكذا في غنمك إذا كانت سائمة ترعى جميع الحول أو أكثره في الأربعين إلى مائة وعشرين واحدة وهي جذع من الضأن أو ثني من المعز، وفى المائة وإحدى وعشرين إلى مائتين اثنتان، وفي المائتين وواحدة ثلاث شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة؛ ففي أربعمائة من الغنم أربع شياه، وفي خمسمائة خمس شياه وهكذا.
وأما زكاة الإبل فقد فصلها النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل في الخمس من الإبل التي ترعى جميع الحول أو غالبه شاة واحدة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة من الإبل ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض- أنثى قد تم لها سنة- فإن لم توجد لدى صاحب المال أجزأ عنها ابن لبون- ذكر قد تم له سنتان- إلى خمس وثلاثين، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون- أنثى قد تم لها سنتان- إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة- قد تم لها ثلاث سنين- إلى ستين، فإذا(54/24)
بلغت واحدة وستين ففيها جذعة- قد تم لها أربع سنين- إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى إحدى وتسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى مائة وعشرين، فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
وهكذا في البقر إذا كانت سائمة ترعى جميع الحول أو أغلبه، ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة قد تم لكل منهما سنة، وفي الأربعين مسنة قد تم لها سنتان، وفي الستين تبيعان أو تبيعتان، وفي السبعين تبيع ومسنة، وفي الثمانين مسنتان، وفي التسعين ثلاثة أتباع أو ثلاث تبيعات، وفي المائة تبيعان أو تبيعتان ومسنة، وفي المائة والعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتباع، ثم تستقر الفريضة، ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.
أما الحبوب والثمار التي تكال وتدخر ففيها نصف العشر إذا كانت تسقى بمؤونة كالسواني والمكائن، أما إذا كانت تسقى بالمطر أو الأنهار ونحو ذلك ففيها العشر إذا بلغت خمسة أوسق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما شقي بالنضح نصف العشر (1) » أخرجه البخاري في الصحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة (2) » متفق على صحته.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب العشر فيما يسقى من ماء السماء برقم (1483) .
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب زكاة الورق برقم (1447) ، ومسلم في (الزكاة) برقم (979) واللفظ له.(54/25)
أما صيام رمضان فهو الركن الرابع من أركان الإسلام؛ يجب أن تتقي الله فيه. فإذا جاء رمضان عليك أن تصوم مع الناس كما أمر الله، وتحفظ صومك عن اللغو، وعن الغيبة والنميمة وسائر المعاصي، ولا تجرح صومك بشيء منها، بل الواجب أن تصون صيامك عن كل المعاصي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (1) » أخرجه البخاري في صحيحه.
وعليك بالكسب الحلال، تحر الحلال من مكسب طيب، واحذر الحرام، وصم صوما صحيحا، فإذا صمت فلتصم جوارحك عن كل ما حرم الله. هكذا الصوم الكامل، أن يصوم المرء عن الطعام والشراب، وأن يصوم عن كل ما حرم الله. وهكذا في حجك، لا ترفث ولا تفسق، فإذا حججت فصن حجك عن جميع المعاصي، احذر ذلك في جميع الأحوال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (2) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب من لم يدع قول الزور برقم (1903) .
(2) رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور برقم (1521، 1819، 1820) ، ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1350) .(54/26)
ليس له جزاء إلا الجنة (1) » متفق على صحته. والحج المبرور هو الذي ليس فيه رفث ولا فسوق.
وهكذا يجب عليك في جميع المعاملات الحذر من الغش والخيانة والكذب، فقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل عنده صبرة من طعام في السوق، فكأنه أحس بشيء فيها، فأدخل يده فيها؛ فنالت أصابعه بللا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
والمقصود: أن كتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التحذير من كل شر، وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الدعوة إلى كل خير والتحذير من كل شر.
فوصيتي لنفسي ولجميع إخواني المسلمين هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال، وتقوى الله: هي طاعته سبحانه بفعل الأوامر وترك النواهي، والإخلاص له جل وعلا في ذلك، والوقوف عند حدوده. ومن تقوى الله سبحانه العناية بالقرآن،
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم (1773) ، ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة برقم (1349) .
(2) رواه مسلم في (الإيمان) باب قوله النبي- صلى الله عليه وسلم- '' من غشنا فليس منا '' برقم (102)(54/27)
وتدبر معانيه، والإكثار من تلاوته حفظا أو نظرا، مع التدبر والتعقل والعمل. قال الله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (1) فهو لم ينزل لجعله في الدواليب، ولا لمجرد القراءة أو الحفظ، وإنما نزل ليقرأ، ويتدبر، ويعمل به. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (2) ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوم عرفة في حجة الوداع: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله (4) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: «إني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به " ثم قال: " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (5) » ، يعني بهم زوجاته وقراباته من بني هاشم، يذكر الناس بالله في أهل بيته بأن يرفقوا بهم، وأن يحسنوا إليهم، ويكفوا الأذى عنهم، ويوصوهم بالحق، ويعطوهم حقوقهم ما داموا مستقيمين على دينه، متبعين
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة إبراهيم الآية 1
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) رواه مسلم في (الحج) باب في المتعة بالحج والعمرة حديث رقم (1217) ، والحاكم في المستدرك 1 \ 93.
(5) رواه مسلم في (فضائل الصحابة) باب من فضائل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- برقم (2408) عن زيد بن أرقم.(54/28)
لشريعته عليه الصلاة والسلام «وصح عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه سئل عما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوصى بكتاب الله (1) » . يعني أوصى بالقرآن، فالقرآن وصية الله ووصية رسوله عليه الصلاة والسلام، فالله جل وعلا أوصانا بهذا الكتاب، فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} (2) . فهذه وصيته وأمره سبحانه باتباع كتابه، والتمسك به، وقال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3) . فهذا كتاب الله هو أحسن الحديث، وهو أحسن القصص، كما قال سبحانه في سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (4) .
فهو أحسن القصص؛ قص الله علينا فيه أخبار الماضين، من أخبار آدم، وأخبار نوح، وهود، وصالح، وغيرهم من الرسل المذكورين في القرآن، وقص علينا أخبار أممهم وما جرى لهم من العقوبات، وما جرى للمتقين من النصر والتأييد والعاقبة الحميدة، وليس هناك قصص أحسن منه، كما قص علينا صفات أهل الجنة والنار، وأنواع النعيم والعذاب، وأخبار يوم القيامة والجزاء والحساب، إلى غير ذلك من الأخبار العظيمة.
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2740) ، صحيح مسلم الوصية (1634) ، سنن الترمذي الوصايا (2119) ، سنن النسائي الوصايا (3620) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2696) ، مسند أحمد بن حنبل (4/355) ، سنن الدارمي الوصايا (3180) .
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة الزمر الآية 23
(4) سورة يوسف الآية 3(54/29)
فالوصية أيها الإخوة: رجالا ونساء، جنا وإنسا، هي العناية بكتاب الله والإكثار من تلاوته وتدبره والعمل بما فيه، وبسنة الرسول؟ لأنها داخلة في ذلك، فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم داخلة في الوصية بكتاب الله؛ لأن الله سبحانه أوحى إليه القرآن والسنة. قال جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (6) » . فالوصية بالقرآن وصية بالسنة، فالواجب على جميع المسلمين هو العمل بالكتاب والسنة وتحكيمهما في كل شيء. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أحاديثه الصحيحة، والاستفادة منها وحفظ ما تيسر منها أيضا والسؤال عما أشكل منها، لأن الله أوصى بها. قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (7) ، وقال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (8)
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النساء الآية 59
(6) رواه أبو داود في (السنة) باب لزوم السنة برقم (4604) ، ورواه من طريقه ابن عبد البر في (التمهيد) 1 \ 150 عن المقدام بن معدي كرب.
(7) سورة المائدة الآية 92
(8) سورة النور الآية 63(54/30)
يعني عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ، وقال جل وعلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) . نسأل الله العافية.
الوصية لنفسي ولكم ولجميع المسلمين ولجميع من بلغه هذا الكلام، الوصية هي تقوى الله، والعناية بكتاب الله الكريم، والتواصي بذلك: قولا وعملا ومذاكرة، ومن ضيع ذلك فهو خاسر، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) . فهؤلاء هم أهل السعادة وهم أهل الربح الذين آمنوا بالله وبرسوله ووحدوه، وأخلصوا لله العبادة، وأدوا فرائضه، وتركوا محارمه، وتواصوا بالحق: أي تناصحوا فيما بينهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ثم مع ذلك صبروا ولم يجزعوا حتى لحقوا بربهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (7) .
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النساء الآية 13
(3) سورة النساء الآية 14
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3
(7) سورة التوبة الآية 71(54/31)
هذا هو شأنهم، وهذا شأن المؤمنين، وقد وعدهم الله بالرحمة، فقال تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) وهذا جزاؤهم في الدنيا بالتوفيق والهداية والتسديد في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ، ويقول سبحانه في هذا المعنى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (5) البر والتقوى هو أداء فرائض الله وترك محارمه، ثم يقول سبحانه: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة " قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (7) » رواه مسلم في الصحيح، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (8) » وشبك بين أصابعه. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) سورة المائدة الآية 2
(7) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55) عن تميم الداري.
(8) رواه البخاري في (المظالم) باب نصر المظلوم برقم (2446) ، ومسلم (في البر والصلة) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2585) .(54/32)
الجسد بالسهر والحمى (1) » .
هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، متعاونين على البر والتقوى متناصحين، متواصين بالحق والصبر عليه، دعاة للخير محذرين من الشر، صبر في جميع الأحوال، مع أهلكم، ومع أولادكم، ومع جيرانكم، ومع جلسائكم، ومع جميع المسلمين أينما كانوا: في الباخرة، وفي الطائرة، وفي السيارة، في البر، وفي البحر، وفي أي مكان. فعليكم أيها الإخوة أن تكونوا متواصين بالحق متناصحين، متعاونين على البر والتقوى، دعاة للخير، محذرين من الشر، معتنين بكتاب الله: تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا.
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأن يوفقنا للعناية بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بها والعمل بما فيها، وأن يكون كتاب الله سبحانه خلقا لنا كما كان خلقا لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن، ومن نزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه والدعاة إليه على بصيرة، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على
__________
(1) رواه مسلم في (البر والصلة) برقم (2586) .(54/33)
عبده نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(54/34)
جباية الزكاة
(القسم الثالث) (1)
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
د- وقال النووي:
الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ فيه ثلاثة أقوال: (أصحها) عند الأصحاب وهو نص الشافعي رضي الله عنه في معظم كتبه الجديدة تجب. (والثاني) لا تجب، وهو نصه في القديم وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة، وذكر المصنف دليل القولين. (الثالث) حكاه الخراسانيون، أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنية، وهي الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنعها في الظاهرة، وهي الزروع والثمار والمواشي والمعادن، والفرق أن الظاهرة نامية بنفسها. وبهذا القول قال مالك. قال أصحابنا: وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا وسواء كان من جنس المال أو من غيره هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور.
وقال جماعة من الخراسانيين: القولان إذا كان ماله من جنس الدين، فإن خالفه وجبت قطعا، وليس بشيء. فالحاصل
__________
(1) هذا هو القسم الثالث وهو الأخير. إدارة المجلة.(54/35)
أن المذهب وجوب الزكاة، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا، من جنس الدين أم غيره. قال أصحابنا: سواء دين الآدمي ودين الله عز وجل، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر وغيرها.
وأما مسألة الحجر الذي ذكرها المصنف قال أصحابنا: إذا قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، فأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي فله ثلاثة أحوال: (أحدها) يحجر ويفرق ماله بين الفرق الغرماء فيزول ملكه ولا زكاة. (والثاني) أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه ويمكنهم من أخذه فحال الحول قبل أخذه فالمذهب أنه لا زكاة أيضا وبه قطع الجمهور لضعف ملكه.
وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وآخرون من الخراسانيين وجها أن وجوب الزكاة فيه يخرج على الخلاف في المغصوب؛ لأنه حيل بينه وبينه. وقال القفال يخرج على الخلاف في اللقطة في السنة الثانية؛ لأنهم تسلطوا على إزالة ملكه تسلط الملتقط في السنة الثانية بخلاف المغصوب. والصحيح ما سبق عن الجمهور. والفرق أن تسلط الغرماء أقوى من تسلط الملتقط؛ لأنهم أصحاب حق على المالك ولأنهم مسلطون بحكم حاكم، فكان تسليطهم مسنده ثبوت المال في ذمة المالك، وهو أقوى، بدليل أنهم إذا قبضوه لم يرجع فيه المفلس بوجه ما، بخلاف الملتقط فإن للمالك إذا رجع أن يرجع في عين اللقطة على أحد الوجهين.(54/36)
(الحال الثاني) (1) أن لا يفرق ماله ولا يعين لأحد شيئا ويحول الحول في دوام الحجر. وهذه هي الصورة التي أرادها المصنف. وفي وجوب الزكاة هنا ثلاثة طرق ذكرها المصنف بدلائلها: (أصحها) أنه على الخلاف في المغصوب. (والثاني) القطع بالوجوب. (والثالث) القطع بالوجوب في الماشية، وفي الباقي الخلاف كالمغصوب. والله أعلم.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: ولو قضى عليه بالدين وجعل لهم ماله حيث وجدوه قبل الحول ثم جاء الحول قبل أن يقبضه الغرماء لم يكن عليه زكاة؛ لأنه صار لهم دونه قبل الحول. فمن الأصحاب من حمله على الحالة الأولى ومنهم من حمله على الثانية.
وقال الشافعي في الحالة الثانية: وللغرماء أن يأخذوا الأعيان التي عينها لهم الحاكم حيث وجدوها. فاعترض الكرخي عليه وقال: أباح الشافعي لهم نهب ماله. فأجاب أصحابنا عنه فقالوا: هذا الذي توهمه الكرخي خطأ منه؛ لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا جاز له أخذها حيث وجدها؛ لأنه يأخذها بحق. والله أعلم.
(فرع) قال صاحب الحاوي وآخرون من الأصحاب: إذا أقر قبل الحجر بوجوب الزكاة عليه فإن صدقه الغرماء ثبتت، وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين. وحينئذ هل تقدم الزكاة
__________
(1) كذا في الأصل. ولعل الصواب: (الحال الثالث) . إدارة المجلة.(54/37)
أم الدين أم يستويان؟ فيه الأقوال الثلاثة المشهورة في اجتماع حق الله تعالى، ودين الآدمي. وإن أقر بالزكاة بعد الحجر ففيه القولان المشهوران في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر، هل يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء أم يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته.
(فرع) إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة فقد ذكرنا أنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي، قال أصحابنا: فلو ملك نصابا من الدراهم أو الماشية أو غيرهما فنذر التصدق بهذا المال أو بكذا من هذا المال فمضى الحول قبل التصدق فطريقان:
(أصحهما) القطع بمنع الزكاة لتعلق النذر بعين المال.
(والثاني) أنه على الخلاف في الدين. ولو قال: جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة، وقلنا: يتعين التضحية بهذه الصيغة، فالمذهب أنه لا زكاة قطعا، وطرد إمام الحرمين وبعضهم فيه الخلاف.
قال الإمام: والظاهر أنه لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة لا تبقى فيه حقيقة ملك، بخلاف الصورة السابقة فإنه لم يتصدق وإنما التزم التصدق، ولو نذر التصدق بأربعين شاة أو بمائتي درهم ولم يضف إلى دراهمه وشياهه، فهذا دين نذر. فإن قلنا: دين الآدمي لا يمنع، فهذا أولى، وإلا فهي وجهان: (أصحهما) عند إمام الحرمين لا يمنع؛ لأن هذا الدين لا مطالبة به في الحال، فهو أضعف، ولأن النذر يشبه التبرعات، فإن الناذر مخير(54/38)
في ابتداء نذره، فالوجوب به أضعف. ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه قال إمام الحرمين والغزالي: فيه الخلاف المذكور في مسألة النذر قبله. والله أعلم.
(فرع) إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، ففي علته وجهان: (أصحهما) وأشهرهما- وبه قطع كثيرون أو الأكثرون- ضعف الملك لتسلط المستحق. (والثاني) أن مستحق الدين تلزمه الزكاة. فلو أوجبنا على المديون أيضا لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد (1) .
__________
(1) المهذب والمجموع 5\ 313 وما بعدها.(54/39)
4 - النقل عن الحنابلة:
أ- قال الخرقي:
وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه.
ب- وقال ابن قدامة في شرح ذلك:
وجملة ذلك أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، وهي الأثمان وعروض التجارة، وبه قال عطاء، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والحسن، والنخعي، والليث، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال ربيعة، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي في جديد قوليه: لا يمنع الزكاة؛ لأنه حر مسلم ملك نصابا حولا، فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه.(54/39)
ولنا: ما روى أبو عبيد في الأموال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: " هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ". وفي رواية: " فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله ". قال ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكروه؛ فدل على اتفاقهم عليه. وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه» وهذا نص. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم» ؛ فدل على أنها إنما تجب على الأغنياء، ولا تدفع إلا إلى الفقراء، وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا تجب عليه الزكاة؛ لأنها لا تجب إلا على الأغنياء؛ للخبر، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1) » ويخالف من لا دين له عليه فإنه غني يملك نصابا، يحقق هذا أن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء، وشكرا لنعمة الغنى، والمدين يحتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لحاجة غيره ولا حصل له من الغنى ما يقتضي الشكر بالإخراج،. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول (2) » .
(فصل) فأما الأموال الظاهرة وهي السائمة والحبوب والثمار فروي عن أحمد أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها؛ لما ذكرناه في الأموال الباطنة. قال أحمد في رواية إسحاق بن
__________
(1) صحيح البخاري النفقات (5356) ، سنن النسائي الزكاة (2534) ، سنن أبو داود الزكاة (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) ، سنن الدارمي الزكاة (1651) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1426) ، سنن النسائي الزكاة (2534) ، سنن أبو داود الزكاة (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) ، سنن الدارمي الزكاة (1651) .(54/40)
إبراهيم: يبتدئ بالدين فيقضيه، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة، فيزكي ما بقي، ولا يكون على أحد دينه أكثر من ماله صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع ولا زكاة. وهذا قول عطاء، والحسن، وسليمان، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والليث، وإسحاق؛ لعموم ما ذكرنا. وروي أنه لا يمنع الزكاة فيها، وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي. وروي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن عمر وابن عباس فقال ابن عمر: يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي. وقال الآخر: يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي. وإليه أذهب أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي؛ لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا أو غنما لم يسأل أي شيء على صاحبها من الدين، وليس المال هكذا. فعلى هذه الرواية لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصة. وهذا ظاهر قول الخرقي؛ لأنه قال في الخراج: يخرجه ثم يزكي ما بقي. جعله كالدين على الزرع. وقال في الماشية المرهونة يؤدي منها إذا لم يكن له مال يؤدي عنها، فأوجب الزكاة فيها مع الدين. وقال أبو حنيفة: الدين الذي تتوجه فيه المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزرع والثمار. بناء منه على أن الواجب فيها ليس صدقة. والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد؛ لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها. ولهذا يشرع إرسال من يأخذ صدقتها من أربابها، «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة فيأخذون الصدقة من(54/41)
أربابها» ، وكذلك الخلفاء بعده. وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يأت عنه أنهم استكرهوا أحدا على صدقة الصامت، ولا طالبوه بها إلا أن يأتي بها طوعا، ولأن السعاة يأخذون زكاة ما يجدون ولا يسألون عما على صاحبها من الدين؛ فدل على أنه لا يمنع زكاتها. ولأن تعلق أطماع الفقراء بها أكثر والحاجة إلى حفظها أوفر فتكون الزكاة فيها أوكد.
(فصل) وإنما يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب، أو ما لا يستغني عنه، مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب إذا قضاه به، ولا يجد له قضاء من غير النصاب، فإن كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه، وإن كان عليه خمسة فعليه زكاة خمسة وعشرين، ولو كان له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين، فإن كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه؛ لأنه ينقص النصاب، وإن كان له مالان من جنسين وعليه دين جعله في مقابلة ما يقضي منه، فلو كان له خمس من الإبل ومائتا درهم فإن كانت عليه سلما أو دية ونحو ذلك مما يقضى بالإبل جعلت الدين في مقابلتها، ووجبت عليه زكاة الدراهم، وإن كان أتلفها أو غصبها جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم؛ لأنها تقضى منها، وإن كانت قرضا خرج على الوجهين فيما يقضى منه، فإن كانت إذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة تنقص النصاب الآخر، وإذا جعلناها في(54/42)
مقابلة الآخر لم يفضل منها شيء كرجل له خمس من الإبل ومائتا درهم وعليه ست من الإبل قيمتها مائتا درهم فإذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يفضل من الدين شيء ينقص نصاب السائمة وإذا جعلناها في مقابلة الإبل فضل منها بعير نقص نصاب الدراهم، أو كانت بالعكس، مثل أن يكون عليه مائتان وخمسون درهما وله من الإبل خمس أو أكثر تساوي الدين، أو تفضل عليه جعلنا الدين في مقابلة الإبل هاهنا، وفي مقابلة الدراهم في الصورة الأولى؛ لأن له من المال ما يقضي به الدين سوى النصاب، وكذلك لو كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم وتسع من الإبل فإذا جعلناها في مقابلة الإبل لم ينقص نصابها؛ لكون الأربع الزائدة عنه تساوي المائة وأكثر منها، وإن جعلناه في مقابلة الدراهم سقطت الزكاة منها فجعلناها في مقابلة الإبل كما ذكرنا في التي قبلها، ولأن ذلك أحظ للفقراء. وذكر القاضي نحو هذا فإنه قال: إذا كان النصابان زكويين جعلت الدين في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته، وإن كان من غير جنس الدين. فإن كان أحد المالين لا زكاة فيه والآخر فيه الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين، فقال القاضي: يجعل الدين في مقابلة العروض. وهذا مذهب مالك وأبي عبيد. قال أصحاب الشافعي: وهو مقتضى قوله؛ لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه؛ فوجبت عليه زكاتها، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا. وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه، فإنه قال في رجل عنده ألف(54/43)
وعليه ألف وله عروض بألف: إن كانت العروض للتجارة زكاها، وإن كانت لغير التجارة فليس عليه شيء. وهذا مذهب أبي حنيفة، ويحكى عن الليث بن سعد؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح، فجعل الدين في مقابلته أولى، كما لو كان النصابان زكويين. ويحتمل أن يحمل كلام أحمد هاهنا على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية، ولم يكن فاضلا عن حاجته فلا يلازمه صرفه في وفاء الدين؛ لأن الحاجة أهم، ولذلك لم تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال، ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته وهذا أحسن؛ لأنه في هذه الحال مالك لنصاب فاضل عن حاجته، وقضاء دينه، فلزمته زكاته كما لو لم يكن عليه دين. فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من أحدهما فإنك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته.
(فصل) فأما دين الله كالكفارة والنذر ففيه وجهان: أحدهما: يمنع الزكاة كدين الآدمي؛ لأنه دين يجب قضاؤه، فهو كدين الآدمي، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى (1) » . والآخر: لا يمنع؛ لأن الزكاة آكد منه لتعلقها بالعين، فهو كأرش الجناية، ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به. فإن نذر الصدقة بمعين فقال لله علي أن أتصدق بهذه المائتي درهم إذا حال الحول. فقال ابن عقيل: يخرجها في النذر ولا زكاة عليه؛ لأن النذر آكد لتعلقه بالعين، والزكاة مختلف فيها، ويحتمل أن تلزمه زكاتها، وتجزئه الصدقة بها، إلا أن ينوي الزكاة
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1953) ، صحيح مسلم الصيام (1148) ، سنن الترمذي الصوم (716) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310) ، سنن ابن ماجه الصيام (1758) ، مسند أحمد بن حنبل (1/362) ، سنن الدارمي الصوم (1768) .(54/44)
بقدرها، ويكون ذلك صدقة تجزئه عن الزكاة؟ لكون الزكاة صدقة، وسائرها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة، وإن نذر الصدقة ببعضها وكان ذلك البعض قدر الزكاة أو أكثر فعلى هذا الاحتمال يخرج النذور وينوي الزكاة بقدرها منه. وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن تجب الزكاة عليه؛ لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب؛ لكون المحل متسعا لهما جميعا. وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في أحد الوجهين، وفي الآخر يجب إخراجهما جميعا.
(فصل) إذا قلنا: لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة، فحجر الحاكم عليه بعد وجوب الزكاة لم يملك إخراجها؛ لأنه قد انقطع تصرفه في ماله وإن أقر بها بعد الحجر لم يقبل إقراره، وكانت عليه في ذمته كدين الآدمي، ويحتمل أن تسقط إذا حجر عليه قبل إمكان أدائها كما لو تلف ماله. فإن أقر الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة، أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه، وجب إخراجها من المال، فإن لم يخرجوها فعليهم إثمها.
(فصل) وإذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق أرشها برقبته منع وجوب الزكاة فيه إن كان ينقص النصاب؛ لأنه دين، وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش (1) .
__________
(1) المغني ومعه الشرح الكبير 2 \ 635 وما بعدها.(54/45)
ج- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فإن كان على مالك الزرع والثمار دين فهل تسقط الزكاة؟ فيه ثلاثة أقوال:
قيل: لا تسقط بحال. وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، ورواية عن أحمد.
وقيل: يسقطها. وهو قول عطاء، والحسن، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والليث، والثوري، وإسحاق. وكذلك في الماشية: الإبل، والبقر، والغنم.
وقيل: يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه، ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله. وقيل: يسقطها هذا وهذا. الأول قول ابن عباس. واختاره أحمد بن حنبل وغيره. والثاني قول ابن عمر (1) .
د- وقال شيخ الإسلام أيضا:
والدين يسقط زكاة العين: عند مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وأحد قولي الشافعي، وهو قول عطاء، والحسن، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وإسحاق، وأبي ثور.
واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان رضي الله عنه يقول: هذا شهر زكاتكم فمن
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25 ص 27.(54/46)
كان عليه دين فليؤده حتى تخلص أموالكم تؤدون منها الزكاة. وعند مالك إن كان عنده عروض توفي الدين ترك العين وجعلها في مقابلة الدين، وهي التي يبيعها الحاكم في الدين ما يفضل عن ضرورته. وإن كان له دين على مليء ثقة جعله في مقابلة دينه أيضا، وزكى العين. فإن لم يكن إلا ما بيده سقطت الزكاة (1) .
__________
(1) المصدر السابق ص 19.(54/47)
هـ- قال ابن مفلح: تجب الزكاة في عين المال، نقله واختاره الجماعة، قال الجمهور: هذا ظاهر المذهب، حكاه أبو المعالي وغيره (وهـ م ق) (1) وعنه: تجب في الذمة، اختاره الخرقي وأبو الخطاب وصاحب التلخيص، قال ابن عقيل: هو الأشبه بمذهبنا (وهـ ق) فعلى الأول: لو لم يزك نصابا حولين فأكثر لزمه زكاة واحدة (وهـ ق) (2) ولو تعدى بالتأخير، وعلى الثانية يزكي لكل حول. أطلقه أحمد وبعض الأصحاب. قال ابن عقيل وغيره: لو قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة لم تسقط هنا؛ لأن الشيء لا يسقط نفسه، وقد يسقط غيره. واختار جماعة منهم صاحب المحرر: إن سقطت الزكاة بدين الله تعالى وليس له سوى النصاب فلا زكاة للحول الثاني، لأجل الدين، لا للتعلق بالعين. زاد صاحب المستوعب: متى قلنا يمنع الدين فلا زكاة للعام
__________
(1) في الطبعة الأولى (وهـ م ق ش) \ 8،
(2) في الطبعة الأولى (وهـ ش)(54/47)
الثاني، تعلقت بالعين أو بالذمة، وإن أحمد حيث لم يوجب زكاة العام الثاني فإنه بنى على رواية منع الدين؛ لأن زكاة العام الأول صارت دينا على رب المال، والعكس بالعكس، جعل فوائد الروايتين إخراج الراهن الموسر من الرهن بلا إذن إن علقت بالعين، واختاره في سقوطها بالتلف وتقديمها على الدين، وقال غيره خلافه، وإنه إن كان فوق نصاب، فإن وجبت في العين نقص من زكاته لكل حول بقدر نقصه بها، فإذا نقص بذلك عن نصاب فلا زكاة لما بعد ذلك، وإن وجبت في الذمة زكاه جميعه لكل حول، ما لم تفن الزكاة المال. وقال ابن تميم: إن قلنا تجب في العين فهل تتكرر الزكاة بتكرر الأحوال؛ فيه وجهان، والشاة في الإبل تتكرر بتكرر الأحوال إن قلنا دين الزكاة لا يمنع، كذا قال، وكذا عند زفر تتعلق بالعين وتتكرر، كما لو كانت دينا فأتلف نصابا وجبت فيه، ثم حال عنده حول على نصاب آخر فالمنع ورد على رواية (1) ثم التعلق بالعين أقوى، ولهذا يمنع النذر المتعلق بالعين، ولا يمنع إذا كان في الذمة على رواية، فعلى المذهب في مائتين وواحدة من الغنم خمس، ثلاث للأول، واثنتان للثاني (وق) (2) وعلى الثاني ست لحولين، ولو لم يزك خمسين من الغنم اثني عشر حولا زكى إحدى عشرة شاة وفي الثانية عشرة الخلاف، أما لو كان الواجب من غير الجنس كالإبل
__________
(1) في مخطوط الدار: كما لو كان دينا بأن أتلف نصابا.. آخر ورد بالمنع على رواية.
(2) في الطبعة الأولى: وهو قول (ش) .(54/48)
المزكاة (1) بالغنم، فنص أحمد أن الواجب فيه في الذمة، وأن الزكاة تتكرر، فرق بينه وبين الواجب من الجنس (وم ش) ؛ لأن الواجب هنا (2) ليس بجزء من النصاب، وظاهر كلام أبي الخطاب واختاره صارما المستوعب والمحرر أنه كالواجب من الجنس (وهـ ش) على ما سبق من العين والذمة؛ لأن تعلق الزكاة كتعلق الأرش بالجاني والدين بالرهن، فلا فرق إذا، فعلى النص: لو لم يكن له سوى خمس من الإبل ففي امتناع زكاة الحول الثاني لكونها دينا الخلاف. قال القاضي في الخلاف: هذه المسألة لا تلزمه؛ لأن أحمد علل في المال (بما) إذا أدى منه نقص، فاقتضى ذلك إذا أدى من الغنم ما يحصل عليه به دين لم يلزمه؛ لأن الدين يمنع وجوب الزكاة، وحمل كلام أحمد على أنه عنده من الغنم ما يقابل الحولين، فعلى النص في خمس وعشرين بعيرا في ثلاثة أحوال: حول (3) بنت مخاض، ثم ثمان شياه لكل حوله، وعلى كلام أبي الخطاب أنها تجب في العين مطلقا كذلك لأول حول ثم الثاني، ثم إن نقص النصاب بذلك من عشرين بعيرا إذا قومناها فللثالث ثلاث شياه، وإلا أربع، وهل يمنع التعلق بالعين انعقاد الحول الثاني قبل الإخراج؛ يأتي في الفصل الثالث من الخلطة (4) .
__________
(1) في الطبعة الأولى: الزكاة.
(2) في الطبعة الأولى: لأن الواجب هذا.
(3) في مخطوط الدار: لأول حول بنت مخاض '' لكن ناقل التصحيح لم يذكرها بالهامش ''.
(4) الفروع 2 \ 343 وما بعدها.(54/49)
وجاء في المقنع وشرحه الإنصاف:
قوله: (ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب) . هذا المذهب، إلا ما استثني. وعليه أكثر الأصحاب. وعنه: لا يمنع الدين الزكاة مطلقا، وعنه: يمنع الدين الحال خاصة. جزم به في الإرشاد وغيره.
قوله: (إلا في الحبوب والمواشي) . في إحدى الروايتين. وقدمه في الفائق.
والرواية الثانية: يمنع أيضا. وهي المذهب، نص عليه. وعليه جماهير الأصحاب. قال الزركشي: هذا اختيار أكثر الأصحاب. قال ابن أبي موسى: هذا الصحيح من مذهب أحمد.
قلت: اختاره أبو بكر، والقاضي، وأصحابه، والحلواني، وابن الجوزي، وصاحب الفائق، وغيرهم، وجزم به في العمدة، وقدمه في المستوعب، والفروع، وصححه في تصحيح المحرر، وأطلقهما في الشرح والمحرر، والرعايتين، والحاويين. وعنه: يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك، أو كان ثمنه. ولا يمنع ما استدانه لمؤنة نفسه، أو أهله. قال الزركشي: فعلى رواية عدم المنع: ما لزمه من مؤنة الزرع من أجرة حصاد، وكراء أرض ونحوه يمنع. نص عليه. وذكره ابن أبي موسى وقال: رواية واحدة. وتبعه صاحب التلخيص. وحكى أبو البركات رواية: أن الدين لا يمنع في الظاهر مطلقا. قال الشيخ تقي الدين: لم(54/50)
أجد بها نصا عن أحمد. انتهى. وعنه: يمنع، خلا الماشية. وهو ظاهر كلام الخرقي.(54/51)
فوائد:
الأولى: في الأموال: ظاهرة، وباطنة. فالظاهرة: ما ذكره المصنف من الحبوب والمواشي، وكذا الثمار. والباطنة: كالأثمان، وقيمة عروض التجارة، على الصحيح من المذهب. وعليه الأكثر. وقال أبو الفرج الشيرازي: الأموال الباطنة: هي الذهب والفضة فقط. انتهى.
وهل المعدن من الأموال الظاهرة، أو الباطنة؟ فيه وجهان. وأطلقها في الفروع وابن تميم والرعايتين، والحاويين.
أحدهما: هو من الأموال الظاهرة. وهو ظاهر كلام الشيرازي على ما تقدم.
الثاني: هو من الأموال الباطنة. قلت وهو الصواب؛ لأنه أشبه بالأثمان، وقيمة عروض التجارة. قال في المغني: الأموال الظاهرة: السائمة، والحبوب، والثمار. قال في الفائق: ولمنع في المعدن (1) . وقيل: لا.
الثانية: لا يمنع الدين خمس الركاز، بلا نزاع.
الثالثة: لو تعلق بعد تجارة أرش جناية، منع الزكاة في قيمته؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة، بخلاف الزكاة. وجعله
__________
(1) كذا في الأصل. ولعله (ويمنع) .(54/51)
بعضهم كالدين. منهم صاحب الفروع في حواشيه.
الرابعة: لو كان له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بما عليه من الدين، جعل في مقابلة ما عليه من الدين وزكى ما معه من المال، على إحدى الروايتين. قال القاضي: هذا قياس المذهب. ونصره أبو المعالي اعتبارا بما فيه الحظ للمساكين. وعنه: يفعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه. صححه ابن عقيل. وقدمه ابن تميم وصاحب الحواشي، والرعايتين، والحاويين، وأطلقهما في الفروع، وشرح المجد، والفائق. وينبني على هذا الخلاف ما إذا كان بيده ألف، وله ألف دينار على مليء، وعليه مثلها، فإنه يزكي ما معه على الأولى لا الثانية. قاله في الفروع. وقدم في الفائق، والرعايتين، والحاويين هنا، تجعل الدين مقابلا لما في يده. وقالوا: نص عليه، ثم قالوا: أو قيل: مقابلا للدين.
الخامسة: لو كان له عرض تجارة بقدر الدين الذي عليه، ومعه عين بقدر الدين الذي عليه، فالصحيح من المذهب: أنه يحمل الدين في مقابلة العرض، ويزكي ما معه من العين. نص عليه في رواية المروذي وأبي الحارث، وقدمه في الفروع، والحواشي، وابن تميم.
وقيل: إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الذي جعل في مقابلته، وحكاه ابن الزاغوني رواية، وتابعه في الرعايتين، والحاويين، وغيرهم. وإلا اعتبر الأحظ. وأطلقهما في الرعايتين، والحاويين.(54/52)
وقيل: يعتبر الأحظ للفقراء مطلقا. فمن له مائتا درهم وعشرة " دنانير " قيمتها مائتا درهم، جعل الدنانير قبالة دينه، وزكى ما معه. ومن له أربعون شاة وعشرة أبعرة، ودينه قيمة أحدهما، جعل قبالة دينه الغنم وزكى شاتين.
السادسة: دين المضمون عنه، يمنع الزكاة بقدره في ماله، دون الضامن. على الصحيح من المذهب، خلافا لأبي المعالي.
السابعة: لا تجب الزكاة في المال الذي حجر عليه القاضي للغرماء، كالمال المغصوب؛ تشبيها للمنع الشرعي بالمنع الحسي. هذا الصحيح من المذهب. اختاره المصنف، والشارح، والقاضي، وقدمه في الرعايتين. وقال الأزجي في النهاية: هذا بعيد، بل إلحاقه بمال الديون أقرب. اختاره أبو المعالي. وظاهر الفروع: إطلاق الخلاف.
وقيل: إن كان المال سائمة زكاها لحصول النماء والنتاج من غير تصرف، بخلاف غيرها. وقال أبو المعالي: إن قضى الحاكم ديونه من ماله، ولم يفضل شيء من ماله. فهو الذي ملك نصابا وعليه دين. قال: وإن سمى لكل غريم بعض أعيان ماله، فلا زكاة عليه مع بقاء ملكه؛ لضعفه بتسليط الحاكم لغريمه على أخذ حقه. انتهى. وإن حجر عليه بعد وجوبها، لم تسقط الزكاة. على الصحيح من المذهب. وقيل: تسقط إن كان قبل تمكنه من الإخراج. قال في الحواشي، وابن تميم: وهو بعيد. ولا يملك إخراجها من المال لانقطاع تصرفه. قاله المصنف، والشارح. وقال ابن تميم: والأولى أن يملك ذلك كالراهن.(54/53)
وهما وجهان. وأطلقهما في الفروع. فإنه قال: لا يقبل إقراره بها. وجزم به بعضهم. ولا يقبل إقرار المحجور عليه بالزكاة. وتتعلق بذمته، كدين الآدمي. ذكره المصنف، والشارح، وأبو المعالي. وهو ظاهر ما قدمه في الفروع. وعنه: يقبل كما لو صدقه الغريم.
ويأتي زكاة المرهون في فوائد الخلاف الآتي آخر الباب. قوله: " والكفارة كالدين في أحد الوجهين " وحكاهما أكثرهم روايتين. وأطلقهما في الهداية، والمغني، والشرح، والحاويين، والفائق، والفروع، والحواشي، وابن تميم، والمحرر: إذا لم يمنع دين الآدمي الزكاة، فدين الله -من الكفارة والنذر المطلق، ودين الحج ونحوه- لا يمنع بطريق أولى. وإن منع الزكاة، فهل يمنع دين الله؟ فيه الخلاف.
أحدهما: هو كالدين (الذي) للآدمي. وهو الصحيح من المذهب. صححه المجد، وابن حمدان في رعايته. وهو قول القاضي وأتباعه. وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة، والخراج. وقال: نص عليه. وهو الذي احتج به القاضي في الكفارة.
الوجه الثاني: لا يمنع وجوب الزكاة.
فائدتان:
إحداهما: النذر المطلق، ودين الحج ونحوه كالكفارة، كما تقدم. وقال في المحرر: والخراج من دين الله. وتابعه في الرعايتين، والحاويين، وغيرهم. قاله القاضي، وابن البنا،(54/54)
وغيرهما. ففيه الخلاف في إلحاقه بديون الآدميين.
وأما الإمام أحمد، فقدم الخراج على الزكاة. وقال الشيخ تقي الدين: الخراج ملحق بديون الآدميين. ويأتي، لو كان الدين زكاة، هل يمنع؟ عند فوائد الخلاف (في الزكاة هل تجب) في العين أو في الذمة؟
الثانية: لو قال: لله على أن أتصدق بهذا، أو هو صدقة، فحال الحول، فلا زكاة فيه. على الصحيح من المذهب. وقال ابن حامد: فيه الزكاة. فقال في قوله: " إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة " فشفي، ثم حال الحول قبل أن يتصدق بها: وجبت الزكاة. وقال في الرعاية: إن نذر التضحية بنصاب معين. وقيل: أو قال: جعلته ضحايا، فلا زكاة. ويحتمل وجوبها إذا تم حولها قبلها. انتهى.
ولو قال: " علي لله أن أتصدق بهذا النصاب إذا حال الحول " وجبت الزكاة على الصحيح من المذهب. اختاره المجد في شرحه. وقيل: هي كالتي قبلها. اختاره ابن عقيل (وأطلقهما ابن تميم، والفروع) . فعلى الأول: تجزئه الزكاة (منه) على أصح الوجهين. ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا؛ لكون الزكاة صدقة. وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب، هل يخرجهما، أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما؟ وقال ابن تميم: وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا. وقيل: يدخل النذر في الزكاة وينويهما معا. انتهى (1) .
__________
(1) الإنصاف 3 \ 24 وما بعدها.(54/55)
خامسا: التعزير بالمال:
اختلف العلماء في التعزير بالمال، وفيما يلي ذكر أقوالهم ومداركهم مع ما تيسر من مناقشات بعضهم لبعض:
1 - النقل عن المالكية:
أ- قال الشاطبي:
إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك، حسبما ذكره الغزالي. على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأجمع العلماء على منعه.
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا يلائم تصرفات الشرع. مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما. قال: فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله إحدى نعله وشطر عمامته. قلنا: المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية، وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال، فرأى شطر ماله من فوائد الولاية؟ فيكون استرجاعا للحق، لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع. هذا ما قال. ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا، ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال، كما قال الغزالي.(54/56)
" وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان:
(أحدهما) : كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح. على أن ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك. فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال أنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال إليه ابن رشد. ورده عليه ابن النجار القرطبي وقال: إن ذلك من باب العقوبة في المالي، وذلك لا يجوز على حال.
(والثاني) : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه، فالعقوبة فيه عنده ثابتة، فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه: إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر.
وذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر، وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء. ووجه ذلك التأديب للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة، وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك.
ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من(54/57)
نصراني خمرا فإنه يكسر على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه ما تقدم (1) .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 2 \ 123.(54/58)
ب- قال ابن فرحون في أثناء الكلام على التعزير:
ومنها إباحته صلى الله عليه وسلم بسلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها. ومنها أمره لعبد الله بن عمر رضي الله عنه بتحريق الثوبين المعصفرين. ومنها أمره كفه يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية، ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم؛ فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة. ومنها هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة. ومنها إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر. ومنها إضعاف الغرم على كاتم الضالة. ومنها أخذه شطر مانع الزكاة غرامة من غرامات الرب تبارك وتعالى. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه، فلم يعرض له أحد. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم. ومنها تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر. ومنها تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره. ومنها مصادرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه(54/58)
عماله بأخذ شطر أموالهم، فقسمها بينهم وبين المسلمين. ومنها أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه وأخذ شيئا من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة. ومنها أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة. ومنها أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش. وغير ذلك مما يكثر تعداده. وهذه قضايا صحيحة معروفة (1) .
__________
(1) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك 2 \ 261.(54/59)
2 - النقل عن الشافعية:
أ- قال الشيرازي:
وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض وعزره على المنع والغلول. وقال في القديم: يأخذ الزكاة وشطر ماله، ومضى توجيه القولين في أول الزكاة.
قال النووي في شرح ذلك: إذا لزمته زكاة فمنعها أو غلها -أي: كتمها- وخان فيها أخذ الإمام أو الساعي الفرض منه، والقول الصحيح الجديد أنه لا يأخذ شطر ماله. وقال في القديم يأخذه، وسبق شرح القولين بدليلهما وفروعها في أول كتاب الزكاة.
قال الشافعي في المختصر في آخر باب صدقة الغنم السائمة: ولو غل صدقته عزر إذا كان الإمام عادلا، إلا أن يدعي الجهالة، ولا يعزر إن لم يكن الإمام عادلا. هذا نصه. قال(54/59)
أصحابنا: إذا كتم ماله أو بعضه عن الساعي أو الإمام ثم اطلع عليه أخذ فرضه، فإن كان الإمام أو الساعي جائرا في الزيادة، بأن يأخذ فوق الواجب أو لا يصرفها مصارفها لم يعزره؛ لأنه معذور في كتمه، وإن كان عادلا فإن لم يدع المالك شبهة في الإخفاء عزره؛ لأنه عاص آثم بكتمانه، وإن ادعى شبهة بأن قال: لم أعلم تحريم كتمانها، أو قال: ظننت أن تفرقتي بنفسي أفضل أو نحو ذلك، فإن كان ذلك محتملا في حقه لقرب إسلامه أو لقلة اختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يعزره. قال السرخسي: فإن اتهمه فيه حلفه، وإن كان ممن لا يخفى عليه لاختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يقبل قوله وعزره (1) .
__________
(1) المهذب وعليه المجموع 6 \ 172، 173.(54/60)
ب- قال ابن حجر: حديث: «في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء (1) » أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد قال يحيى بن معين في هذه الترجمة: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز ثقة. وقال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الشافعي: ليس بحجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به. وكان قال به في القديم. وسئل عنه أحمد، فقال: ما أدري ما وجهه. فسئل عن
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .(54/60)
إسناده فقال: صالح الإسناد. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا، ولولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه. وقال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا. وقال ابن الطلاع في أوائل الأحكام: بهز مجهول. وقال ابن حزم: غير مشهور بالعدالة. وهو خطأ منهما، فقد وثقه خلق من الأئمة، وقد استوفيت ذلك في تلخيص التهذيب. وقال البيهقي وغيره: حديث بهز هذا منسوخ. وتعقبه النووي بأن الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في الأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. والجواب عن ذلك ما أجاب به إبراهيم الحربي، فإنه قال في سياق هذا المتن: لفظة وهم فيها الراوي، وإنما هو: فإنا آخذوها من شطر ماله. أي نجعل ماله شطرين، فيتخير عليه المصدق، ويأخذ الصدقة من خير الشطرين؛ عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا. نقله ابن الجوزي في جامع المسانيد عن الحربي. والله الموفق (1) .
__________
(1) تلخيص الحبير 2 \ 160- 161.(54/61)
3 - النقل عن الحنابلة:
أ- قال ابن قدامة:
وإن منعها معتقدا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم. منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم. وكذلك إن غل(54/61)
ماله وكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه. وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «" في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون لا تفرق عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء (1) » . وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: ما أدري ما وجهه؟ وسئل عن إسناده؟ فقال: هو عندي صالح الإسناد. رواه أبو داود والنسائي في سننهما. ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في المال حق سوى الزكاة (2) » . ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولا بذلك. واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر، فقيل: كان في بدء الإسلام، حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه. وحكى الخطابي عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه الآن الواجبة عليه من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد، لكن ينتقى من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه، فيكون المراد بماله هاهنا الواجب عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره (3) .
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .
(2) سنن ابن ماجه الزكاة (1789) .
(3) المغني ومعه الشرح الكبير 2 \ 435.(54/62)
ب- قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
و" التعزير بالعقوبات المالية" مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في(54/62)
مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك. كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل «أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: " لا بل أحرقهما (1) » ، «وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن. فإنه لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: " افعلوا (2) » . فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة.
ومثل هدمه لمسجد الضرار، ومثل تحريق موسى للعجل المتخد إلها، ومثل تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل ما روي من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير. ومثل أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة،. ومثل تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه.
وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك، ونظائرها متعددة.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2077) ، سنن النسائي الزينة (5317) ، مسند أحمد بن حنبل (2/207) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4220) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1937) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4339) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3192) ، مسند أحمد بن حنبل (4/383) .(54/63)
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما. ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل. ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية؛ بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه. وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما. والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة. وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة لبعض النصوص (1) توهمه ترك العمل إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ. ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له، ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذا حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي
__________
(1) لعله (إلا بعض نصوص) إلخ.(54/64)
ادعاه صحيحا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعا. ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء.
وأيضا فإن واجبات الشريعة التي هي حق لله ثلاثة أقسام: عبادات، كالصلاة والزكاة والصوم. وعقوبات، إما مقدرة وإما مفوضة. وكفارات. وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني، وإلى مالي، وإلى مركب منهما.
فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام. والمالية: كالزكاة. والمركبة: كالحج.
والكفارات المالية: كالإطعام. والبدنية: كالصيام. والمركبة: كالهدي يذبح.
والعقوبات البدنية: كالقتل والقطع. والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم.
وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق، وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل، فكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف، وإلى تغيير، وإلى تمليك الغير.
فالأولى المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها. فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك(54/65)
جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي، مثل الطنبور، يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء. وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد. ومثل ذلك أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها. والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه. وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم. واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق لا روشيد. وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر، رواه أبو عبيد وغيره؟ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية. وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب، حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه. هذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؛ وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع) وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر.
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات: مثل الثياب التي نسجت نسجا رديئا أنه يجوز تمزيقها وتحريقها، ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه، فقال الزبير: أفزعت الصبي، فقال: لا تكسوهم الحرير. وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.(54/66)
وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق، وتقطع رجل المحارب ويده. وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر. وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضا، إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش، وهو الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد ونحو ذلك - يتصدق به على الفقراء، فإن ذلك من إتلافه. وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع، فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى، فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه. وعمر أتلفه لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في المدينة إما قليلا وإما معدومين.
ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه. ففي المدونة عن مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه. وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به، وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء.
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا. لكن الأول أشهر عنه، وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش، وفي ذلك(54/67)
عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه، ولا يهراق. قيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو غشه فهو كاللبن. قال ابن القاسم. هذا في الشيء الخفيف منه، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، يريد في الصدقة بكثيره.
قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره، وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا، وذلك إذا كان هو الذي غشه. وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو، وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.
وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان قال في الملاحف الرديئة النسج: تحرق بالنار. وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق، وقال: تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا. وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين. فأنكر عليه ابن القطان، وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ: وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين. وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله.(54/68)
وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش، إما بإزالة الغش، وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره. قال عبد الملك بن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب. قال عبد الملك بن حبيب: ولا يرده الإمام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، وبكسر الخبز إذا كثر ويسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه. هكذا العمل فيما غش من التجارات. قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28 \ 109 وما بعدها.(54/69)
ج- قال ابن القيم:
وأما التعزير بالعقوبات المالية فمشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع: منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.(54/69)
ومثل: أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية ثم استأذنوه في غسلها، فأذن لهم، فدلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر.
ومثل: هدمه مسجد الضرار.
ومثل: تحريق متاع الغال.
ومثل: حرمان السلب الذي أساء على نائبه.
ومثل: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر.
ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة.
ومثل: أخذه شطر مال مانع الزكاة، عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى.
ومثل: أمره لابس خاتم الذهب بطرحه، فطرحه فلم يعرض له أحد.
ومثل: تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم.
ومثل: قطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر.
ومثل: تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب(54/70)
فيه عن الرعية.
وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها.
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل سائغ في مذهب أحمد وغيره، وكثير منها سائغ عند مالك. وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضا لدعوى نسخها. والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها. فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد. ماذا ارتفع عن هذه الطبقة ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضا. فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ.
قال ابن رشد في كتاب البيان له: ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو لبن أو عسل أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك. فقد قال مالك في المدونة: " إن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض " أدبا لصاحبه. وكره ذلك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به. ومنع من ذلك في رواية أشهب، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان، وإن قتل نفسا. وذكر ابن الماجشون عن مالك -في الذي غش اللبن- مثل الذي تقدم في رواية أشهب. قال ابن حبيب: فقلت لمطرف وابن الماجشون: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص(54/71)
من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما غش من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يهراق ولا ينهب.
قال ابن حبيب: ولا يبدده الإمام، وليأمر ثقته ببيعه عليه ممن يأمن أن لا يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ثم يسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، وهكذا العمل في كل ما غش من التجارات، وهو إيضاح ما استوضحته من أصحاب مالك وغيرهم.
وروي عن مالك: أن المستحسن عنده أن يتصدق به؛ إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه. ولا يهراق.
وقيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو الذي غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف ثمنه، فأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، تزيد في الصدقة بكثير.
قال ابن رشد: قال بعض الشيوخ: وسواء -على مذهب مالك - كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه يسوي في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره.
وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا. وذلك إذا كان هو الذي غشه. فأما من وجد عنده من(54/72)
ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب، له أو ورثه، فلا خلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا به، وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران يباع على الذي غشه.
وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك؛ لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال، وذلك أمر كان في أول الإسلام.
ومن ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: «إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا (1) » ، وروي عنه «في جريبة النخل: " أن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال (2) » ، وما روي عنه: «أن من وجد يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن وجده سلبه (3) » .
ومثل هذا كثير، نسخ ذلك كله. والإجماع على أنه لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا. والقياس: أنه لا يتصدق من ذلك بقليل ولا كثير، انتهى كلامه.
وقد عرفت أنه ليس مع من ادعى النسخ نص ولا إجماع.
والعجب أنه قد ذكر نص مالك وفعل عمر، ثم جعل قول ابن القاسم أولى، ونسخ النصوص بلا ناسخ. فقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب، بل هو إجماع الصحابة. فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدا، ولم ينكره منهم منكر، وعمر يفعله بحضرتهم، وهم يقرونه ويساعدونه عليه،
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .
(2) سنن النسائي قطع السارق (4959) .
(3) سنن أبو داود المناسك (2038) .(54/73)
ويصوبونه في فعله. والمتأخرون كلما استبعدوا شيئا قالوا: منسوخ، ومتروك العمل به.
وقد أفتى ابن القطان في الملاحف الرديئة النسج بالإحراق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بتقطيعها خرقا وإعطائها للمساكين إذا تقدم لمستعملها فلم ينته. ثم أنكر ابن القطان ذلك وقال: لا يحل هذا في مال مسلم بغير إذنه، يؤدب فاعل ذلك بالإخراج من السوق.
وأنكر ذلك القاضي أبو الأصبغ على ابن القطان وقال: هذا اضطراب في جوابه، وتناقض من قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطائها للمساكين، قال: وابن عتاب أضبط لأصله في ذلك وأتبع لقوله.
وفي تفسير ابن مزين، قال عيسى: قال مالك في الرجل يجعل في مكياله زفتا: إنه يقام من السوق، فإنه أشق عليه. يريد: من أدبه بالضرب والحبس (1) .
__________
(1) الطرق الحكمية 266 وما بعدها.(54/74)
أولا: حق ولي الأمر في الجباية:
مما تقدم يتبين ما يأتي:
أ- الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي: بهيمة الأنعام والحبوب والثمار. والأموال الباطنة هي: النقدان وعروض التجارة. أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة.
2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه؛ لحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (1) » . . " الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها، مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له، وقتالهم معه، والمحافظة على حقوق مستحقيها، وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولا إنكار للمنكر.
3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل: يجب دفعها إلى عماله؛ لعموم آية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) سورة التوبة الآية 103(54/75)
سقوط الفرض به، بخلاف توزيعها من قبل رب المالي بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وبقدر الحاجات وبمن أخذ من قبل، ولأنه يقصد لها. وقيل: يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه أو وكيله، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها.
4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه. وقيل: الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام. وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة. والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه.
5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل: يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة، على ما تقدم، وبذلك تبرأ ذمة دافعيها، والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله. وقيل: لا يدفعها له، بل يحتال لإخفائها منه، ثم يخرجها بنفسه أو وكيله الأمين، ويضعها في مصارفها الشرعية. وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ينبغي ألا يدفعها له، ويجب توزيعها على مستحقيها، فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته، وإن لم يطلبها لم تدفع له، بل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية.(54/76)
6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها، بل يتقبل من أربابها ما بينوه، وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به؛ لأنهم مؤتمنون على أموالهم، إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه.(54/77)
ثانيا: زكاة عروض التجارة:
مما تقدم يتبين ما يأتي:
1- العروض جمع عرض، فقيل: هو ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة. وقيل: هو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه، من الثياب والحيوان والعقار وسائر المال، إذا قصد به التجارة.
2 - ذهب أهل الظاهر إلى أن العروض لا زكاة فيها، لحديث «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق (1) » ، ولأن الزكاة عبادة من العبادات مبنية على التوقيف، والنص إنما ورد في الدراهم والدنانير والسوائم والحبوب والثمار، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ولا يثبت بالقياس؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه قال: لا زكاة في العروض. ويجاب عن الأول بحمله على ما ليس للتجارة. ومعناه: لا زكاة في عينه، بخلاف الأنعام. وهذا التأويل متعين؛ ليجمع بينه وبين الأحاديث. وعن الثاني بأنه ورد النص. وعن الثالث بأنه قد
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن النسائي الزكاة (2477) ، سنن أبو داود الزكاة (1574) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/132) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) .(54/77)
ضعفه الشافعي والبيهقي وغيرهما، فلا حجة فيه. وعلى فرض صحته فهو محمول على عرض ليس للتجارة؛ جمعا بينه وبين الأحاديث وبين الرواية الأخرى عنه. وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لعموم أدلة القرآن، ولدلالة السنة والأثر والمعنى، كما سبق في الإعداد ص 36، 40، 45 (1) .
3 - اختلف القائلون بوجوب الزكاة في عروض التجارة. فمنهم من أوجبها في كل حول؛ لعموم أدلة وجوب الزكاة في المال إذا حال عليه الحول ولا مخصص لها.
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن التاجر ينقسم إلى قسمين: مدير، وغير مدير. فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجي قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السير ويتربص بها النفاق، وكذلك من كسدت سلعته، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها، وإن قامت أحوالا، فإذا باعها زكاها لحول واحد ص 26 وما بعدها (2) . وحجته أن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه؛ فلم
__________
(1) وهو في المجلة في ص (80، 87، 94) من العدد رقم (52) .
(2) وهو في المجلة في ص (63) من العدد رقم (52) .(54/78)
تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عين.
ويجاب عن ذلك بأن سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول متوافران، فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم، وبأنه دليل اجتهادي مقابل للنص، ولا اجتهاد مع النص.
4 - يشترط الحنفية ومن وافقهم لوجوب الزكاة كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية، ولا يشترط مالك، وحجته العمومات. والجواب: أنها محمولة على الفاضل عن الحوائج الأصلية. يرجع إلى ص 22 (1) . ويشترطون أيضا نية التجارة مقارنة لعمل التجارة.
أما المالكية فلهم شروط خمسة: أن لا يكون مما في عينه زكاة كالفضة، وأن يكون مملوكا بالشراء، وأن ينوي به التجارة عند الشراء، وأن يكون الثمن الذي اشترى به ذلك العرض عينا وعرضا ملك بشراء، وأن يبيع من العرض بعين نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل ولو درهما في المدير. ص34 (2) .
ويشترط الشافعية أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع، وأن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة. ص42 (3) .
__________
(1) وهو في المجلة في ص (55) من العدد رقم (52) .
(2) وهو في المجلة في ص (76) من العدد رقم (52) .
(3) وهو في المجلة في ص (90) من العدد رقم (52) .(54/79)
أما الحنابلة فيشترطون أن يملكه بفعله كالبيع، وأن ينوي عند تملكه أنه للتجارة. وعن أحمد رواية أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية، وعليه فلا يعتبر أن يملكه بفعله ولا أن يكون في مقابلة عروض، بل متى نوى به التجارة صار للتجارة. ومما تقدم يعلم أن النية شرط عند الجميع.
5 - تقوم عروض التجارة بالأحظ للفقراء. وقيل: بما اشتريت به، فإن لم تكن دخلت عليه بأحد النقدين فإنه يقومها بالنقد الغالب. وقيل: يقومها بالنقد الغالب مطلقا. وقيل: يقومها بما شاء. ومدارك هذه الأقوال الاجتهاد. ص 21، 22 (1) .
6 - تضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة، أو يقوم الذهب والفضة ويضمهما إلى قيمة العروض بالقيمة أو بالإجزاء. ومدرك كل من القولين الاجتهاد. ص 20 (2) .
7 - إذا ادعى من طلبت منه الزكاة أن ما بيده من العروض لم ينو به التجارة، أو أنه أدى زكاته، أو لم يحل عليه الحول، فقيل: يقبل؛ لأنه عبادة كالصلاة، فهو مؤتمن عليها. وقيل: لا يقبل إن اتهم؛ بناء على العمل بقاعدة القرائن لما سبق في رقم (6) من ملخص الأمر الأول.
__________
(1) وهو في المجلة في ص (53) من العدد رقم (52) .
(2) وهو في المجلة في ص (51) من العدد رقم (52) .(54/80)
ثالثا: الدين الذي للإنسان على غيره هل تلزمه زكاته؟
1 - قسم أبو حنيفة الديون ثلاثة أقسام: قوي، وضعيف، ومتوسط، فالقوي هو الذي وجب بدلا عن مال التجارة، ولا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما، فكلما قبض أربعين درهما أدى درهما واحدا.
والضعيف ما وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث أو بصنعه كالوصية، أو وجب عما ليس بمال كالمهر، فيزكيه إذا قبضه كله وحال عليه الحول بعد القبض.
والوسط ما وجب له بدلا عما ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة، فقال: تجب فيه الزكاة قبل القبض ولا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى.
وقال: لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض، وهو أصح الروايتين عنه، ومدركه اجتهادي يرجع إليه في ص 53 (1) .
2 - الديون عند المالكية تنقسم إلى أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة.
فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون من ميراث ونحوه، فلا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبضه ويحول عليه الحول من بعد القبض.
__________
(1) وهو في المجلة في ص (104) من العدد رقم (52) .(54/81)
الثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده، فإذا قبضه وحال عليه الحول بعد القبض زكاه.
الثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية، فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه الزكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض، وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه.
الرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني، وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل كما إذا أجر نفسه ثلاث سنين بستين دينارا فيقبضها معجلة، فقيل: يزكي إذا حال ما يجب له من الإجارة، وذلك عشرون دينارا، وقيل: يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار، وقيل: لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مر زكى عشرين؛ لأن ما ينوي بها من العمل دين عليه، فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء؛ فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين عنها.
وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان: أحدهما: وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض.
الثاني: أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم قبضه كدين الفائدة، وقد قيل: إنه يزكيه للأعوام الماضية.
وأما دين القرض: فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين، وأما المدير فقيل: يقومه، وقيل: لا(54/82)
يقومه، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان، يدير أحدهما ولا يدير الآخر؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير أخرجه بذلك عن الإدارة.
وأما دين التجارة: فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة، يقومه المدير، ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام.
ولزكاة الدين لسنة واحدة أربعة شروط:
أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها، أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل، وأن يقبض من المدين، وأن يكون المقبوض عينا ذهبا أو فضة، ولو كان القابض له موهوبا له من رب الدين أو أحال ربه به ممن له عليه دين على المدين، وأن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات، كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب.
3 - قسم الشافعية الديون إلى ثلاثة أقسام: غير لازم، كدين الكتابة، ولا زكاة فيه بلا خلاف عندهم، ولازم وهو ماشية، ولا زكاة فيه بلا خلاف؛ لأن ما في الذمة لا توصف بأنها سائمة، والسوم شرط.
والثالث: أن يكون دراهم أو دنانير أو عروض تجارة وهو مستقر، ففيه قولان مشهوران:
القديم: لا تجب الزكاة في الدين بحال؛ لأنه غير معين، والجديد الصحيح باتفاق الأصحاب: وجوب الزكاة في(54/83)
الدين على الجملة، وفيه تفصيل يرجع إليه ص 65 (1) .
4 - قسم الحنابلة الدين إلى قسمين: دين على معترف به باذل له، فعلى صاحبه زكاته إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى؛ لأنه دين ثابت في الذمة، فلم يلزمه الإخراج قبل القبض، كما لو كان على معسر؛ ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، وإنما يزكيه لما مضى؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به فلزمته زكاته كسائر الأموال.
وقيل: عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه؟ فلزمه إخراج زكاته كالوديعة.
ورد بالفرق، فإن الوديعة بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظها فيده كيده.
وقيل: ليس في الدين زكاة؛ لأنه غير نام؛ فلم تجب زكاته كعروض القنية.
الضرب الثاني: أن يكون على معسر أو جاحد أو مماطل به، ففي وجوبها روايتان: إحداهما: لا تجب؛ لأن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال.
الثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون، قال: إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى.
وروي نحوه عن ابن عباس، رواهما أبو عبيد؛ ولأنه
__________
(1) وهو في المجلة في ص (123) من العدد رقم (52) .(54/84)
مملوك يجوز التصرف فيه، فوجبت زكاته لما مضى كالدين على مليء.
ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما، وظاهر كلام أحمد لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل.(54/85)
رابعا: هل الدين يمنع وجوب الزكاة؟
مما تقدم يتبين ما يلي:
1 - منع الدين للزكاة:
أ - يشترط الحنفية ومن يوافقهم أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد حالا أو مؤجلا، والحجة في ذلك أثر عثمان رضي الله عنه: "هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم".
وفي رواية: "فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله".
قاله بمحضر من الصحابة ولم يعارض؛ فكان إجماعا.
وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه» وهذا نص؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم» ووجه الدلالة ظاهر؛ ولأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء، ولأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم.
ب - وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناض فقط، إلا أن(54/85)
يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع، والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (1) فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال، والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل أثر عثمان رضي الله عنه ص 98 (2) .
ج- مذهب الشافعية وجوب الزكاة، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا، من جنس الدين أو غيره، وسواء دين الله ودين الآدمي، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر ص 104 (3) .
وهذا إحدى الروايات الثلاث في المذهب، والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة؛ ولأنه مسلم ملك نصابا حولا فوجب عليه الزكاة كمن لا دين عليه.
ويجاب عن الأول بأن العمومات خصصها أثر عثمان رضي الله عنه، وعن الثاني بأنه يخالف من لا دين عليه، فإنه غني يملك نصابا ص 107 (4) .
د - أما الحنابلة ومن يوافقهم فإن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، والحجة لهذا القول ما سبق من أدلة الحنفية.
وأما الأموال الظاهرة فروي عن أحمد: أن الدين يمنع
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) وهو في المجلة في ص (78) من العدد رقم (53) .
(3) وهو في المجلة في ص (35) من هذا العدد.
(4) وهو في المجلة في ص (39) من هذا العدد.(54/86)
الزكاة أيضا فيها، لما سبق من الأدلة.
والرواية الثانية: لا يمنع الزكاة فيها، لما سبق من الأدلة.
والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها.
وفي رواية ثالثة: لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصة ص 107 (1) .
وأما دين الله كالكفارة ففيه وجهان: أحدهما: يمنع الزكاة كدين الآدمي؛ لما سبق من الأدلة؛ ولأنه دين يجب قضاؤه، فهو كدين الآدمي، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى (2) » .
ويناقش ذلك بالفرق، فإن دين الآدمي آكد، والمطالبة تتوجه به، والآخر: لا يمنع؛ لأن الزكاة آكد لتعلقها بالعين، فهو كأرش الجناية ص 58 وما بعدها (3) .
2 - يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب، أو ينقص ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو ما لا يستغنى عنه.
وإذا كان له مالان وأحدهما لا زكاة فيه، والآخر فيه الزكاة، كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين، فقال القاضي: يجعل الدين في مقابلة العروض، وهذا مذهب مالك وأبي عبيد.
قال أصحاب الشافعي: وهو مقتضى قوله؛ لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه؛ فوجب عليه زكاتها، كما
__________
(1) وهو في المجلة في ص (41) من هذا العدد.
(2) صحيح البخاري الصوم (1953) ، صحيح مسلم الصيام (1148) ، سنن الترمذي الصوم (716) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310) ، سنن ابن ماجه الصيام (1758) ، مسند أحمد بن حنبل (1/362) ، سنن الدارمي الصوم (1768) .
(3) وهو في المجلة في ص (112) من العدد رقم (52) .(54/87)
لو كان جميع ماله جنسا واحدا.
وظاهر كلام أحمد أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه، فإنه قال في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف: إن كانت العروض للتجارة زكاها، وإن كانت لغير التجارة فلا شيء عليه.
وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح، فجعل الدين في مقابلته أولى، كما لو كان النصابان زكويين، ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية، وإن لم يكن فاض عن حاجته فلا يلزم صرفه لوفاء الدين؛ لأن الحاجة أهم.
3 - بناء على قول من يقول: الدين يمنع وجوب الزكاة، وأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي، فإذا أقر بوجوب الزكاة قبل الحجر فإن صدقه الغرماء ثبتت وأخذت، وإن كذبوه فالقول قوله بيمينه؛ لأنه أمين.
وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان؟ فيه ثلاثة أقوال في اجتماع حق الله تعالى ودين الآدمي، ومداركها اجتهادية.
وإذا أقر بالزكاة بعد الحجر فقيل: يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء.
وقيل: يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته.
وفي ذلك تفاصيل ذكرت في الإعداد يمكن الرجوع إليها، وقد تركناها اختصارا.(54/88)
خامسا: التعزير:
اتفق الفقهاء على جواز التعزير بالضرب والسجن والنفي ونحوها من العقوبات البدنية عند وجود ما يقتضيها، واختلفوا في جوازه بالعقوبات المالية، فقال بعضهم بالمنع؛ لأن العقوبات المالية من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع، وتأولوا ما ورد من أخذ عمر شطر مال خالد رضي الله عنهما بأنه أخذ ما رأى أن خالدا استفاده بالولاية.
وأقر جماعة بأن التعزير بالمال قد كان أول الإسلام، ثم زعموا أنه فسخ بالإجماع على تركه، واستشهدوا لذلك بأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة حتى أخذها منهم، ولم ينقل عنه أنه زاد عليها، ولو كان لنقل؛ فدل ذلك على الإجماع على تركها، وستأتي مناقشة ذلك إن شاء الله.
وقال بعضهم: يجوز لولي الأمر التعزير بالعقوبات المالية، واستدلوا على ذلك بوقائع كثيرة، منها ما كان تأديبا بها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما كان من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دون نكير من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، حتى من نزلت به العقوبة.
وعلى هذا فدعوى المانعين أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد للشريعة به ولا يلائم تصرفات الشرع دعوى يكذبها الواقع الكثير.
وكذا ما زعموه من النسخ أو الإجماع على الترك باطل بوجود ذلك في تصرفات الخلفاء الراشدين على مشهد من(54/89)
الصحابة دون نكير، وبوجود الخلاف بعدهم في ذلك بين أئمة الفقهاء.
ورأى بعضهم أن التعزير بالمال في المال الذي وقعت فيه الإساءة وتوابعه بإتلافه أو مصادرته وحرمانه منه ونفع المساكين ونحوهم به، غير أنهم اختلفوا هل يقتصر في التعزير بذلك على اليسير أو يعم القليل والكثير؟ (1) .
هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) من ص (118) إلى ص (130) من الإعداد، وهو في المجلة من ص (56) إلى ص (74) من هذا العدد.(54/90)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب االلجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات
تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(54/91)
صفحة فارغة(54/92)
من الفتوى رقم: 5896
السؤال الثاني: أناس يتوضئون من ماء بركة، يتجمع في هذه البركة من سيول الأمطار، وقد لوحظ فيه دود يمشي في الماء الذي يتبقى من الشرب منه؛ لأن هذا الدود دليل على أن الماء قديم في البركة، فهل يجوز الوضوء منه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان هذا الماء لم يتغير طعمه ولا ريحه ولا لونه بنجاسة فلا يضره ما تولد فيه من الدود؛ لأن ذلك لا يمكن التحرز منه، فيعفى عنه للمشقة، ويجوز الوضوء منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/93)
من الفتوى رقم: 6401
السؤال الأول: ما حكم من توضأ بالماء الأحمر الذي يبقى في البراميل أي الخزانات؟
الحمد لله وحدة، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا حرج في ذلك إذا كان تغيره بغير نجاسة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/94)
من الفتوى رقم: 7344
السؤال الثالث: ما حكم الماء المتجمع من المطر في برك صناعية، علما أن الناس يستنجون به ويستعملونه في الغسل والوضوء، وقد يسبح فيه الأطفال، ويحتمل أنهم(54/94)
يبولون فيه (وهذا مجرد احتمال) ، وهل ينطبق عليه حديث «"الماء إذا كان أكثر من قلتين لا ينجس (1) » ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل في الماء أنه طهور بنفسه مطهر لغيره، إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .(54/95)
من الفتوى رقم: 7757
السؤال السادس: ما حكم استخدام الماء المشمس والسخانات الشمسية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا نعلم دليلا صحيحا يمنع من استعمال الماء المشمس.(54/95)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/96)
الفتوى رقم: 7604
س: أفتوني أثابكم الله فيما يلي: هل يجوز الوضوء للصلاة من ماء البحر، إذا كنت بجانب البحر ولدي ماء عذب متوفر فهل أتوضأ من الماء العذب أو ماء البحر؟ حيث يقال: إنه لا يجوز الوضوء بماء البحر إلا عند الضرورة، والبعض يقول: غير جائز الوضوء منه، أرجو الإجابة أدامكم الله.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز لك أن تتوضأ بماء البحر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته (1) » ولا فرق في ذلك،
__________
(1) رواه الإمام أحمد (2 \ 237، 361، 378، 392) ، وأبو داود برقم (83) ، والنسائي في (المجتبى) (1 \ 44، 143) ط: المكتب الإسلامي، والإمام مالك في (الموطأ) ص (26) ط: دار النقاش- بيروت، وابن ماجه برقم (386، 387، 388) .(54/96)
سواء وجد عندك ماء عذب تتوضأ منه أم لا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/97)
الفتوى رقم: 11108
س: أعيش في إحدى مناطق اليمن الجنوبي الجبلية، وقد كثر فيها الفساد، وهذا السؤال هو أنك عارف بقلة الأمطار وهذا كله بإرادة الله سبحانه وتعالى، وعندنا في المسجد المصلون قليلون جدا ويتوضئون في ماء ملوث، يعني قد تغير فيه اللون والطعم والعرف، وهذا الماء في سد صغير بالقرب من المسجد، وكلما نهيناهم عن الوضوء في هذا الماء لم ينتهوا ويصروا أنهم هم الذين على صواب.
والمشلكة أن رئيس المسجد أيضا معهم، لأنه أمي لا يعرف الصواب.(54/97)
وأرجو منك يا فضيلة الشيخ أن تفتينا في هذه المشكلة السائدة في منطقتنا الجبلية، وأرجو منك أن ترسل لهم رسالة عن طريقي حتى يقتنعوا ويكفوا عن هذا العمل؛ لأن الصلاة بدون وضوء لا تصح، وبهذا تكون قد أنقذت قرية من هذا العمل، وإن شاء الله أن يتوضئوا في بيوتهم والخروج من هذا العمل، وهذا شرف منك إن خرجت هؤلاء الناس العجزة مما هم عليه من الجهل.
والله الموفق، وأرجو من الله العلي القدير أن يهديهم إلى الطريق المستقيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: السؤال المذكور فيه إجمال يحتاج إلى تفصيل، وبيانه: إن كان التغير لذلك الماء بنجاسة فإنه نجس لا يصح التطهر به من حدث أكبر أو أصغر ولا غسل الملابس به.
وإن كان التغير بطاهر أو بطول مكثه جاز الوضوء به وكذلك الغسل وإزالة النجاسة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/98)
من الفتوى رقم: 10972
س: إننا في موقع في البر ولمدة أكثر من أربعة شهور، وعندنا بئر من الماء غير صالحة للشرب ولها لون في مائها ولسنا نشرب منها وذوقها مالح.
سؤالي هل يجوز الوضوء للصلاة منها أم ماذا؟ وإننا هذه المدة نتوضأ منها حيث إنه وقت فيه رائحة وعندما يبرد يكون له لون أبيض ولم نجد غيره بديلا.
جزاكم الله عنا خيرا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الماء في البئر باقيا على أصل خلقته فهو طاهر يصح الوضوء منه ولا يضره طول المكث ولا الملوحة في طعمه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/99)
من الفتوى رقم: 9389
س: نفيد فضيلتكم بأنه قد تم بعون الله إسناد إدارة وصيانة وتشغيل المسبح التابع لأمانة مدينة جدة إلينا، وحيث إن هذا المرفق الحيوي يرتاده الكثير من الإخوان وفي أوقات مختلفة تتخللها أوقات الصلاة، وبما أن أعدادهم تكون كثيرة في بعض الأحيان ومن الصعب جدا أن يتوضئوا كلهم في آن واحد، أولا: لمشاكل الماء، ثم ثانيا: لمشاكل الأماكن للوضوء فهي غير كافية لهم حيث يبلغ عددهم بعض الأحيان 600 أو أكثر وكلهم يسبحون في البرك، لذا كان هذا المعروض للاستفسار عن مدى صلاحية ماء برك السباحة شرعا للطهر والصلاة، وأقدم لكم نبذة عن الوضع: هناك بركتا سباحة إحداهما بها (2340) مترا مكعبا من الماء أي (58500) جالون، والأخرى بها (1955) مترا مكعبا أي (490000) جالون، طبعا تجري إضافة من 1000- 15000 جالون يوميا لتعويض المفقود بسبب التبخر وأعمال الفلترة والتنقية والتطهير، كما يجري تطهير أي تعقيم الماء بالمطهرات الكيماوية ضد الميكروبات وغيرها بمثل مادة (الكلور) وذلك يوميا، وإن الماء المذكور في البرك نقي نقاء(54/100)
تاما وصاف غير عكر ولا لون له ولا طعم ولا رائحة بتاتا، نأمل من فضيلتكم التكرم بإفتائنا عن ذلك حيث إن ذلك يسهل علينا ضبط أمور الصلاة في مواعيدها بالنسبة لمرتادي المسبح والتي نحن إن شاء الله شديدي الحرص على ضبطها.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من كثرة ماء برك السباحة إلى الحد المذكور، وأنه نقي صاف لم يتغير لونه ولا ريحه ولا طعمه بنجاسة، وأنه يضاف إليه كثير من الماء من وقت لآخر لتعويضه عما فقد منه والتنقية والتطهير، صلح للوضوء والغسل منه للصلاة وغيرها مما يتوقف فعله شرعا على الوضوء والغسل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/101)
الفتوى رقم: 3032
س: نعرض لكم بأن المؤسسة قد تعاقدت لإنشاء مجمع سكني بالجبيل يشتمل على إقامة محطة معالجة(54/101)
للمجاري بحيث يمكن استخدام مياه المجاري لري الزراعة بعد تنقيتها وتطهيرها من الميكروبات، ونظرا لاحتمال إصابة ملابس القاطنين برذاذ أو قطرات من هذه المياه أثناء الري فقد رأينا ضرورة الكتابة لسماحتكم لإفادتنا عن مدى طهارة تلك المياه، أو إمكانية الصلاة بالملابس المصابة بها وتقبلوا تحياتنا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الماء المتنجس كثيرا وزالت أوصاف النجاسة عنه لونا وطعما وريحا صار طهورا فلا ينجس ما أصابه من ثوب أو بدن أو مكان، وإن لم تزل منه أوصاف النجاسة بل بقي بعضها تنجس ما يصيبه من بدن أو ثوب أو مكان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/102)
الفتوى رقم: 3159
س: في هذه الأيام تجمع المياه النازلة في المجاري مع النجاسات في بعض البلدان، وتكرر لتعود للبيوت مرة ثانية، هل طهر عين النجاسة في هذه المياه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل في الماء الطهارة وما ذكرت من مياه المجاري إنما صارت متنجسة بما خالطها من البول والغائط ونحوهما، فإذا كررت وخلصت من النجاسة وزال منها ريح النجاسة وطعمها ولونها صارت طاهرة، وإلا فهي متنجسة بما بقي فيها من آثار النجاسة ومظاهرها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/103)
من الفتوى رقم: 4431
س: بعض الجهات بالمملكة وغيرها تقوم بتحويل مياه المجاري النجسة إلى مياه يستفاد منها بعد تكريرها بطرق فنية في ري الأراضي وزرعها وسقي الأشجار ونحو ذلك.
وإن محطات التكرير لتنقية مياه المجاري وتخليصها مما بها من النجاسة ونحوها تختلف باختلاف الإمكانيات والمناطق والجهود الشخصية فضلا عن الشركات المنفذة والقائمة على هذه المحطات بجدة والرياض مثلا في المملكة وفي غيرها.
ومياه المجاري التي نسأل عن حكمها تكون في النهاية بعد دقة التكرير وزيادة العناية به على حالة من صفاء لونها بحيث لا يمكن للإنسان أن يعرف عنها أنها مياه مجار عولجت وكررت حتى صارت إلى هذه الحال ولا يفرق بينها وبين ماء الشرب، فهل هذا الماء طاهر؟ وهل يصح أن نتوضأ منه ونطهر الثياب أو البدن أو المكان به بما أصابه من النجاسة وأن نشربه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر من صفاء مياه المجاري(54/104)
الكثيرة بعد التكرير والتنقية حتى ذهب لون ما خالطها من النجاسة وريحه وطعمه، فقد صار ماؤها طهورا لا ينجس ما أصابه، ويجوز استعماله في سقي المزارع والأشجار وفي تطهير البدن والمكان والملابس من النجاسات، وفي الوضوء والغسل من الجنابة ونحوها، ويجوز الشرب منه إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك محافظة على النفس وبعدا عن الضرر لا لنجاستها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/105)
من الفتوى رقم: 4446
السؤال الثاني: هل يجوز للرجل أن يبول في الحمام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: نعم يجوز له ذلك مع التحفظ من رشاش البول، ويشرع له أن يصب عليه ماء ليذهب مباشرة إن أراد أن يتوضأ بذلك المكان.(54/105)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/106)
من الفتوى رقم: 8691
السؤال الحادي عشر: ما حكم الوضوء في الحمام؟ وهل إذا وضع ساتر بين مكان النجاسة وصنبور الماء يصح الوضوء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا وضع حائل بين الماء الذي ينزل من الصنبور وبين محل النجاسة بحيث إن الماء إذا نزل على الأرض تكون هذه الأرض طاهرة فلا مانع من الوضوء والاستنجاء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/106)
من الفتوى رقم: 7039
س: هل يجوز عدم فصل بيت الأدب (المرحاض) عن الحمام؟ وعند استحمام أي رجل في هذا الحمام غير المفصول عن بيت الأدب هل يكون في هذا طهارة كاملة وصحيحة، وذلك؛ لأن جو بيت الأدب يكون دائما ملوثا، فما الجواب يا ترى؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأحسن أن يكون موضع الاغتسال -الحمام- منفصلا عن محل قضاء الحاجة، بعدا عن مظنة وجود النجاسة، حتى لا يصيبه شيء منها، لكن لو اغتسل جنب أو حائض بعد انقطاع حيضها في حمام غير منفصل عن محل قضاء الحاجة صح غسله، وعليه أن يحفظ نفسه مما قد يتطاير من رشاش متنجس بأي وسيلة ممكنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/107)
من الفتوى رقم: 1978
السؤال الثاني: نحن نستعمل الحمامات الإفرنجية فهل هذا مباح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز لكم أن تستعملوا الحمامات الإفرنجية، وعليكم أن تتقوا النجاسة؛ خشية أن تصيب أبدانكم أو ملابسكم عند قضاء حاجتكم فيها، وأن تؤدوا ما شرع بعد قضاء الحاجة من استجمار، أو استنجاء والأفضل الجمع بينهما، وإنما يكتفى بالاستجمار وحده إذا كان الاستجمار بطاهر ينقي، ولو ورقا، بشرط أن يكون ثلاث مسحات فأكثر مع الإنقاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه (1) » ، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، فإن لم ينق بالمسحات الثلاث زاد حتى ينقى،
__________
(1) الدارقطني (1 \ 127، 128) وقال في الأول المحفوظ مرسل، وفي الثاني الصواب مرسل (ط. لاهور) وأورد في ص (128) حديث: '' عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا من البول '' وقال: (لا بأس به) .(54/108)
والأفضل القطع على وتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من استجمر فليوتر (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد (2 \ 236، 254) وغير ذلك، والبخاري (1 \ 48) ط. اسطنبول، ومسلم (1 \ 146) ط. توزيع الإفتاء.(54/109)
من الفتوى رقم: 4213
السؤال الأول: هل يجوز أن يبول الرجل وهو واقف في محل مستور عن الناس؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل أن يبول الرجل وهو جالس اقتداء بالنبي صلى(54/109)
الله عليه وسلم، فقد روى النسائي، والترمذي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «"من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا جالسا (1) » ، وقال الترمذي: هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح.
ولكن إذا دعت الحاجة إلى بوله قائما جاز، لما رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن حذيفة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما، فتنحيت فقال: "ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ ومسح على خفيه" والسباطة ملقى التراب والزبالة (2) » .
ولو بال قائما لغير حاجة لم يأثم لكنه خالف في قضاء حاجته الأفضل والأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يجمع بين الحديثين المذكورين أو يحمل حديث عائشة رضي الله عنها بأنها لم تعلم ما اطلع عليه حذيفة رضي الله عنه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (12) ، سنن النسائي الطهارة (29) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (307) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (224) ، صحيح مسلم الطهارة (273) ، سنن الترمذي الطهارة (13) ، سنن النسائي الطهارة (18) ، سنن أبو داود الطهارة (23) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (305) ، مسند أحمد بن حنبل (5/402) ، سنن الدارمي الطهارة (668) .(54/110)
من الفتوى رقم: 6382
السؤال الثاني: إذا وقع شخص بما يسمى بنتر الذكر فكيف يترك هذه العادة؟(54/110)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا علم الشخص ضرر عادة ما، وتصور الآثار المترتبة على تعاطيها، كالنتر للذكر الذي يتسبب عنه سلس البول وعدم استمساكه وتعرض بدنه وثيابه للنجاسة، فإنه يترك العادة السيئة ويعرض عنها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/111)
من الفتوى رقم: 1900
السؤال الثاني: ما حكم ذكر اسم الله في الحمامات المعروفة حاليا؟ وما حكم التهليل فيها؟ وهل يجب على الإنسان إذا اغتسل من الجنابة أن يتشهد وهو يصب الماء على جسد5؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يكره للإنسان أن يذكر اسم الله في الحمامات أو يهلل(54/111)
فيها، ولا يشرع على من يغتسل من الجنابة أن يتشهد وهو يصب الماء على جسده، لكن يسن لمن يريد أن يدخل الحمام أو محل قضاء حاجته بولا أو غائطا أن يعوذ بالله من الخبث والخبائث قبل أن يدخل، وأن يقول بعد خروجه من محل قضاء الحاجة: غفرانك، وأن يقول بعد الفراغ من غسله والخروج من الحمام الذي اغتسل فيه من الجنابة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين ومن المتطهرين؛ لثبوت ما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/112)
من الفتوى رقم: 1607
السؤال الأول: هل يجوز للمسلم أن يدخل الحمام ويذكر الله عز وجل، أو أنه بمجرد أن يدخل يتوقف عن ذكر الله؟(54/112)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: من آداب الإسلام أن يذكر الإنسان ربه حينما يريد أن يدخل بيت الخلاء أو الحمام بأن يقول قبل الدخول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، ولا يذكر الله بعد دخوله، بل يسكت عن ذكره بمجرد الدخول.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/113)
من الفتوى رقم: 4255
السؤال الثامن: ما حكم من يذكر الله في مكان قضاء الحاجة؟ وما الحكم في دخول الخلاء ومعه شيء منقوش به اسم من أسماء الله؟ وهل يجوز الوضوء في هذا المكان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يكره للمسلم أن يذكر الله تعالى في مكان قضاء الحاجة، لكن يستحب أن يقول إذا أراد دخول محل قضاء(54/113)
الحاجة: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ويقول إذا خرج: غفرانك، ويكره أن يدخل بيت الخلاء بشيء منقوش أو مكتوب عليه ذكر الله أو أسماؤه، ويكره الوضوء فيه إلا إذا دعت إليه الحاجة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/114)
من الفتوى رقم: 4448
السؤال الحادي عشر: هل يجوز التسمية والتسبيح والتحميد والتكبير داخل الحمام أثناء الوضوء أم لا يجوز؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يكره أن يذكر الله تعالى نطقا داخل الحمام الذي تقضى فيه الحاجة؛ تنزيها لاسمه واحتراما له، لكن تشرع له التسمية عند بدء الوضوء؛ لأنها واجبة مع الذكر عند جمع من أهل العلم.(54/114)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/115)
من الفتوى رقم: 6915
السؤال الأول: قرأت أنه لا يجوز دخول دورة المياه بالمصحف الشريف، فهل يجري هذا الحكم على شرائط التسجيل المسجل عليها قرآن؟ وهل يجوز دخولها بكتب إسلامية أو غير إسلامية بها اسم الله تعالى؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز دخول الحمام بالمصحف الشريف، أما الشريط ونحوه المسجل عليه قرآن، وكذا كتب العلم مسجلة أو غير مسجلة مما فيه ذكر الله فمكروه عند عدم الحاجة، أما إذا احتاج لذلك فلا كراهة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/115)
من الفتوى رقم: 6497
السؤال السادس: هل يجوز دخول الخلاء بالسلاسل التي تحمل اسم الله أو الرسول أو بعض الآيات القرآنية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يكره الدخول بها في بيت الخلاء، إلا إذا خاف على ما كتبت فيه الضياع؛ فيرخص له في دخوله بها محافظة عليها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(54/116)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فضل التوبة ووجوب تكرارها إذا لزم الأمر
س: عاهدت الله أكثر من مرة أن لا آتي العمل الفلاني ولكن لم أوف بهذا العهد أرجو نصيحتي ومن ماثلني.
ج: هذا فيه تفصيل، فإن كانت المعاهدة على أمر حرم الله عليك فعله، وعاهدت الله أن لا تعود إليه ولا تقربنه، فالواجب عليك التوبة إلى الله ورجوعك إليه، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تشتمل على أمور ثلاثة: الندم على الماضي من المعصية، والإقلاع عنها، والعزم الصادق ألا يعود إليها، تعظيما لله وإخلاصا له سبحانه، فإذا فعل المسلم ذلك تاب الله عليه سبحانه وتعالى.
ومن تمام التوبة إتباعها بالعمل الصالح والاستقامة، كما قال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) ، وقال تعالى لما ذكر الشرك والقتل والزنا في سورة الفرقان {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3)
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69(54/117)
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (1) ، فأخبر عز وجل أن من تاب وأتبع توبته بالإيمان الصادق والعمل الصالح فإنه سبحانه يبدل سيئاته حسنات، وهذا يتضمن قبول التوبة، ثم زاده سبحانه مع كل ذلك بأن جعل مكان كل سيئة حسنة، وهذا من فضله وكرمه وجوده سبحانه.
وإن كان في المعصية حق للمخلوقين، من سرقة، أو عدوان على بعض أموال الناس، أو دمائهم، أو أعراضهم، فلا بد من التحلل من صاحب الحق، أو إعطائه حقه، فإذا سامحه سقط حقه، وهكذا في العدوان على العرض إذا استحل صاحبه فعفا، إلا أن يخاف مفسدة بسبب إخباره بالغيبة، فإنه لا يخبره، ولكن يدعو له، ويستغفر له، ويذكره بالخير الذي يعلمه منه، في المجالس التي ذكره فيها بالسوء، أو يثني عليه بالأشياء الطيبة التي يعلمها عنه حتى يقابل عمله السيئ بعمل صالح.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 70(54/118)
الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله
س: سمعت من عالم إسلامي يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطئ، فهل هذا صحيح؟ وقد سمعت أيضا أن الإمام مالك يقول: كل منا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر مع بيان حديث الذباب بعد أن تجرأ على تكذيبه بعض الناس.(54/118)
ج: قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل من أحكام، كما قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (5) فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله من الشرائع قولا وعملا وتقريرا، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم.
وقد ذهب جمهور أهل العلم أيضا إلى أنه معصوم من المعاصي الكبائر دون الصغائر، وقد تقع منه الصغيرة، لكن لا يقر عليها بل ينبه عليها، فيتركها.
أما في أمور الدنيا فقد يقع الخطأ، ثم ينبه على ذلك، كما وقع من «النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على جماعة يلقحون النخل، فقال: "ما أظنه يضره لو تركتموه". فلما تركوه صار شيصا، فأخبروه صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما قلت ذلك ظنا مني، وأنتم أعلم بأمر دنياكم، أما ما أخبركم به عن الله عز وجل فإني لن أكذب على الله (6) » رواه مسلم في الصحيح، فبين عليه الصلاة والسلام أن الناس أعلم بأمور دنياهم، كيف يلقحون النخل، وكيف يغرسون، وكيف يبذرون ويحصدون، أما ما يخبر به الأنبياء عن الله سبحانه
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النجم الآية 5
(6) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند أبي محمد طلحة بن عبيد الله برقم (1398) ، ومسلم في (الفضائل) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا برقم (2361) .(54/119)
وتعالى فإنهم معصومون في ذلك، فقول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يخطئ فهذا قول باطل، ولا بد من التفصيل كما ذكرنا، وقول مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" قول صحيح، تلقاه العلماء بالقبول، ومالك رحمه الله من أفضل علماء المسلمين، وهو إمام دار الهجرة في زمانه، في القرن الثاني، وكلامه هذا كلام صحيح، تلقاه العلماء بالقبول، فكل واحد من أفراد العلماء يرد ويرد عليه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يقول إلا الحق فليس يرد عليه، بل كلامه كله حق، فيما يبلغ عن الله تعالى، وفيما يخبر به جازما به، أو يأمر به، أو يدعو إليه.
أما حديث الذباب فهو حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه، وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم جازما به، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء (1) » .
وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري، وحديث أنس بن مالك، وكلها صحيحة، وقد تلقتها الأمة بالقبول، ومن طعن فيها فهو غالط وجاهل، لا يجوز أن يعول عليه في ذلك ومن قال: إنه من أمور الدنيا، وتعلق بحديث: «أنتم أعلم بأمر دنياكم (2) » فقد غلط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جزم بهذا، ورتب عليه حكما
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي هريرة برقم (7518) ، والبخاري في (بدء الخلق) باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم برقم (3320) .
(2) صحيح مسلم الفضائل (2363) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2471) ، مسند أحمد بن حنبل (6/123) .(54/120)
شرعيا، ولا قال: أظن، بل جزم وأمر، وهذا فيه تشريع من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه (1) » .
فهذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشريع للأمة، وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5782) ، سنن أبو داود الأطعمة (3844) ، سنن ابن ماجه الطب (3505) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الأطعمة (2038) .(54/121)
س: ما حكم إزالة الشعر الذي ينبت في وجه المرأة؟
ج: هذا فيه تفصيل: إن كان شعرا عاديا فلا يجوز أخذه؛ "لحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النامصة والمتنمصة. . . (1) » الحديث.
والنمص هو أخذ الشعر من الوجه والحاجبين، أما إن كان شيئا زائدا يعتبر مثله تشويها للخلقة، كالشارب واللحية فلا بأس بأخذه، ولا حرج؛ لأنه يشوه خلقتها ويضرها.
س: ما حكم ضرب الطالبات لغرض التعليم والحث على أداء الواجبات المطلوبة منهن لتعويدهن على عدم التهاون فيها؟
ج: لا بأس في ذلك، فالمعلم والمعلمة والوالد كل منهم عليه أن يلاحظ الأولاد، وأن يؤدب من يستحق التأديب، إذا قصر في واجبه؛ حتى يعتاد الأخلاق الفاضلة، وحتى يستقيم على ما ينبغي من العمل الصالح، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) رواه النسائي في (الزينة) برقم (5512) بلفظ ''نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ..''، ورواه أبو داود في (الترجل) برقم (4175) ولفظه ''لعنت ... ''.(54/121)
وسلم أنه قال: «"مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » فالذكر يضرب والأنثى كذلك إذا بلغ كل منهم العشر وقصر في الصلاة ويؤدب حتى يستقيم على الصلاة، وهكذا الواجبات الأخرى في التعليم وشئون البيت وغير ذلك، فالواجب على أولياء الصغار من الذكور والإناث أن يعتنوا بتوجيههم وتأديبهم لكن يكون الضرب خفيفا لا خطر فيه ولكن يحصل به المقصود.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) برقم (6717) ، وأبو داود في (الصلاة) برقم (495) .(54/122)
س: يقول بعض الزملاء: من لم يدخل الإسلام يعتبر حرا، لا يكره على الإسلام، ويستدل بقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2) فما رأي سماحتكم في هذا؟
ج: هاتان الآيتان الكريمتان والآيات الأخرى التي في معناها بين العلماء أنها في حق من تؤخذ منهم الجزية، كاليهود والنصارى والمجوس، لا يكرهون بل يخيرون بين الإسلام وبين بذل الجزية.
وقال آخرون من أهل العلم: إنها كانت في أول الأمر، ثم نسخت بأمر الله سبحانه بالقتال والجهاد، فمن أبى الدخول في الإسلام وجب جهاده مع القدرة حتى يدخل في الإسلام أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها.
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة البقرة الآية 256(54/122)
فالواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانوا لا تؤخذ منهم الجزية؛ لأن إسلامهم فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، كما يلزم الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو الضرب فإلزام الكفار بتوحيد الله والدخول في دين الإسلام أولى وأوجب؛ لأن فيه سعادتهم في العاجل والآجل، إلا إذا كانوا من أهل الكتاب، كاليهود والنصارى أو المجوس، فهذه الطوائف الثلاث جاء الشرع بأنهم يخيرون، فإما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق غيرهم بهم في التخيير بين الإسلام والجزية، والأرجح أنه لا يلحق بهم غيرهم، بل هؤلاء الطوائف الثلاث هم الذين يخيرون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار في الجزيرة، ولم يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ولم يقل: أو أدوا الجزية، فاليهود والنصارى والمجوس يطالبون بالإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا وجب على أهل الإسلام قتالهم، إن استطاعوا ذلك، يقول عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أخذ
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 29(54/123)
الجزية من المجوس ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم أخذوا الجزية من غير الطوائف الثلاث المذكورة.
والأصل في هذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وهذه الآية تسمى آية السيف، وهي وأمثالها هي الناسخة للآيات التي فيها عدم الإكراه على الإسلام.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة التوبة الآية 5(54/124)
س: ما رأي سماحتكم في من قال في معنى اسم الله الظاهر: أي الظاهر في كل شيء، هل يدخل هذا في القول بالحلول أم لا؟
ج: هذا باطل؛ لأنه خلاف ما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، فاقض عني الدين وأغنني من الفقر (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فالظاهر معناها: العالي فوق جميع الخلق، ولكن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8737) ، ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة) برقم (2713) .(54/124)
آياته ودلائل وجوده وملكه وعلمه موجودة في كل شيء، وأنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم، فأنت أيها الإنسان الذي أعطاك الله السمع والبصر والعقل وأعطاك هذا البدن والأدوات التي تبطش بها وتمشي بها من جملة الآيات الدالة على أنه رب العالمين.
وهكذا السماء والأرض والليل والنهار والمعادن والحيوانات وكل شيء، كلها آيات له سبحانه وتعالى تدل على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته وأنه المستحق للعبادة، كما قال الشاعر:
فوا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
والله يقول جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم قال بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) فأوضح سبحانه في هذه الآية أنواعا من مخلوقاته الدالة على أنه سبحانه هو الإله الحق الذي لا تجوز العبادة لغيره سبحانه وتعالى، فكل شيء له فيه آية ودليل على أنه رب العالمين
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164(54/125)
وأنه موجود وأنه الخلاق وأنه الرزاق وأنه المستحق لأن يعبد سبحانه وتعالى.
وأما معنى الظاهر فهو العالي فوق جميع الخلق، كما تقدم ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
س: قوله سبحانه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) هل المثل يعني الشبيه؟
ج: يعني المثل الوصف الأعلى من كل الوجوه، فهو سبحانه الموصوف بالكمال المطلق من كل الوجوه، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الروم الآية 27
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4(54/126)
س: ما الفرق بين الأسماء والصفات، وما معنى وحدة الوجود؟
ج: كل أسماء الله سبحانه مشتملة على صفات له سبحانه تليق به وتناسب كماله ولا يشبهه فيها شيء، فأسماؤه سبحانه أعلام عليه ونعوت له عز وجل، ومنها: الرحمن الرحيم العزيز الحكيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن إلى غير ذلك من أسمائه سبحانه الواردة في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الأمين.(54/126)
فالواجب إثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وهذا هو معنى قول أئمة السلف، كمالك والثوري والأوزاعي وغيرهم: أمروها كما جاءت بلا كيف.
والمعنى أن الواجب إثباتها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه، أما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله سبحانه.
ولما سئل مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) كيف استوى؟ أجاب رحمه الله بقوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
يعني بذلك رحمه الله السؤال عن الكيفية، وقد روي هذا المعنى عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن أم سلمة رضي الله عنها، وهو قول أئمة السلف جميعا، كما نقله عنهم غير واحد من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في العقيدة الواسطية، وفي الحموية، والتدمرية، وفي غيرها من كتبه رحمه الله.
هكذا نقله عنهم العلامة ابن القيم رحمه الله في كتبه المشهورة، ونقله عنهم قبل ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله.
__________
(1) سورة طه الآية 5(54/127)
س: لمزيد من الفائدة ما رأيكم في قول من قال: إن الإسلام انتشر بالسيف ونريد أن نرد عليهم ردا منطقيا؟
ج: هذا القول على إطلاقه باطل فالإسلام انتشر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأيد بالسيف فالنبي صلى الله عليه وسلم(54/127)
بلغه بالدعوة في مكة ثلاثة عشر عاما ثم في المدينة قبل أن يؤمر بالقتال، والصحابة والمسلمون انتشروا في الأرض ودعوا إلى الله، ومن أبى جاهدوه؛ لأن السيف منفذ، قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) فمن أبى قاتلوه لمصلحته ونجاته، كما يجب إلزام من عليه حق لمخلوق بأداء الحق الذي عليه ولو بالسجن أو الضرب، ولا يعتبر مظلوما، فكيف يستنكر أو يستغرب إلزام من عليه حق لله بأداء حقه؟ فكيف بأعظم الحقوق وأوجبها وهو توحيد الله سبحانه وترك الإشراك به؟ ومن رحمة الله سبحانه أن شرع الجهاد للمشركين وقتالهم حتى يعبدوا الله وحده ويتركوا عبادة ما سواه، وفي ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة الأنفال الآية 39(54/128)
الأدعية المستجابة.
س: ما هو الدعاء الذي أدعو به ليستجاب لي وهل الدعاء كطلب الزواج وغيره جائز في السجود في الفريضة، وما هي الأوقات التي يتحرى فيها المسلم الدعاء؟
ج: الله شرع لعباده الدعاء، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1)
__________
(1) سورة غافر الآية 60(54/128)
وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) والسجود محل للدعاء في الفرض والنفل.
وأحرى الأوقات لإجابة الدعاء آخر الليل وجوف الليل، وهكذا السجود في الصلاة فرضا أو نفلا يستجاب فيه الدعاء، وهكذا آخر الصلاة قبل السلام بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الدعاء يوم الجمعة حين يجلس الخطيب على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس يوم الجمعة.
فينبغي لمن أراد أن يدعو أن يتحرى هذه الأوقات، وهكذا ما بين الأذان والإقامة الدعاء فيه لا يرد، ومن أهمها آخر الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «"ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له (2) » وفي لفظ آخر يقوله جل وعلا: «هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى سؤله هل من تائب فيتاب عليه حتى يطلع الفجر (3) » وهذا وقت عظيم
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي هريرة برقم (7567) ، والبخاري في الجمعة برقم (145) ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها) برقم (758) .
(3) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي هريرة برقم (8751) وفي مسند أبي سعيد الخدري برقم (10993) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب الترغيب في الدعاء والذكر برقم (758) .(54/129)
ينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يكون لهما فيه حظ من التهجد والدعاء والاستغفار.
وهذا النزول الإلهي نزول يليق بالله عز وجل، لا يشابهه نزول خلقه، فهو ينزل سبحانه نزولا يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يشابه الخلق في شيء من صفاته، كالاستواء والرحمة والغضب والرضا وغير ذلك لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) فالاستواء يليق بجلاله سبحانه، ومعناه العلو والارتفاع فوق العرش، لكنه استواء يليق بالله لا يشابه فيه خلقه، ولا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) وكما قالت أم سلمة رضي الله عنها: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، وإنكاره كفر" وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك أحد التابعين رضي الله عنه لما سئل عن ذلك، قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول التبليغ، وعلينا التصديق".
ولما سئل الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة في زمانه في القرن الثاني عن الاستواء، قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" ثم قال للسائل ما أراك إلا رجل سوء ثم أمر بإخراجه.
وهذا الذي قاله الإمام مالك وأم سلمة وربيعة رضي الله عنهم هو قول أهل السنة والجماعة كافة، يقولون في أسماء الله وصفاته أنها يجب إثباتها لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، فالإيمان والإقرار
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الشورى الآية 11(54/130)
بها واجب، والتكييف منفي لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، ولهذا يقول سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1) ويقول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ويقول سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) وهو سبحانه يغضب على أهل معصيته والكفر به، ويرضى عن أهل طاعته ويحب أولياءه ويبغض أعداءه، وهذا الحب والبغض والرضا والغضب وغيرها من صفاته سبحانه كلها ثابتة له سبحانه على الوجه الذي يليق بجلاله عز وجل، وهو قول أهل السنة والجماعة.
فالواجب التزام هذا القول والثبات عليه والرد على من خالفه.
ومن أدلة الدعاء في السجود قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (5) » .
أخرجه مسلم في صحيحه، فإذا سألت المرأة زوجا صالحا في
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 4
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة النحل الآية 74
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) مسند عبد الله بن عباس برقم (1903) ، ومسلم في (الصلاة) باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم (479) .
(5) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي هريرة برقم (9165) ، ومسلم في (الصلاة) باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (482)(54/131)
السجود أو في آخر الليل أو مالا حلالا، وكذلك الرجل إذا سأل ربه أن يعطيه زوجة صالحة أو مالا حلالا فكل ذلك طيب والنكاح عبادة وفيه مصالح كثيرة للرجل والمرأة، وهكذا بقية الحاجات الخاصة، كأن يقول اللهم أغنني بفضلك عمن سواك، اللهم أغنني عن سؤال خلقك، اللهم ارزقني ذرية صالحة ونحو ذلك.(54/132)
س: كيف نرد على من قال: إنكم تقولون إن الله ينزل إلى السماء الدنيا بالثلث الأخير من الليل فإن ذلك يقتضي تركه العرش؛ لأن ثلث الليل الأخير ليس في وقت واحد على أهل الأرض؟
ج: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القائل عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر (1) » متفق على صحته وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، فهو ينزل كما يشاء، ولا يلزم من ذلك خلو العرش، فهو نزول يليق به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا، وهذا شيء يختص به تعالى لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقال جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (3)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي هريرة برقم (7567) ، والبخاري في (الجمعة) باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم (1145) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب الترغيب في الدعاء والذكر برقم (758) .
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة طه الآية 110(54/132)
وقال عز وجل في آية الكرسي: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ولا يلزم أن نقول يخلو منه العرش أو لا يخلو منه العرش، فهو ينزل مع علوه ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا، إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من السيارة خلت منه السيارة، فهذا قياس فاسد له؛ لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته.
كما أننا نقول استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله، وإنما نقول: استوى استواء يليق بجلاله وعظمته ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية حتى قالوا لا داخل العالم ولا خارج العالم ولا كذا ولا كذا حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية.
ولهذا ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب،
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(54/133)
والسؤال عنه بدعة" يعني عن الكيفية، ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة رضي الله عنها، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمهما الله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان بذلك واجب ".
ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل عديدة وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص وأن لا نزيد على ذلك.
وهكذا نقول: يسمع ويتكلم ويبصر ويغضب ويرضى على وجه يليق به سبحانه، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو، وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة وطريق العلم، وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه سبحانه وتعالى.
والله سبحانه ولي التوفيق.(54/134)
من مشاهد يوم القيامة "الجنة"
للدكتور \ دوخي بن زيد بن علي الحارثي (1)
الحمد لله، نحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، ونشهد أنه الإله الحق المستحق للعبادة دون سواه وغيره من الآلهة باطل، جعل الحياة الدنيا مزرعة للدار الآخرة، فيها يتسابق المتسابقون في العبادة، من توحيد الله تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، ومن الواجبات والسنن؛ ليظفروا بما أعد الله تعالى في الدار الآخرة من النعيم، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، أرسله الله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإذا كان الناس في الحياة الدنيا على قسمين: أهل طاعة واستقامة، وأهل معصية وانحراف، فكذا في الدار الآخرة: أهل نعيم في الجنة، وأهل عذاب أليم في النار، على ما كان من عمل في الدار الدنيا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (2) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (3) .
ولتشويق العباد لما أعد الله للطائعين من نعيم في الجنة
__________
(1) وردت ترجمة للكاتب في العدد الأربعين من مجلة البحوث صفحة (167) .
(2) سورة الزلزلة الآية 7
(3) سورة الزلزلة الآية 8(54/135)
رأيت أن أكتب بحثا عن الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده، سائله عز وجل أن يوفقني للصواب، ولدخول الجنة مع الأحباب.
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغبا ... فهذا زمان المهر فهو المقدم
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ... ولم يك فيها منزل لك يعلم
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم
الجنة:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يخلق هذا الخلق، وأن يكلفهم بعبادته، ابتلاء واختبارا، ليظهر الطائع المستقيم من العاصي المنحرف، وليميز بعضهم من بعض، كما قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) ، وكما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (3) .
فخلق سبحانه وتعالى الجنة، وجعلها دار المتقين، مستقر الأبرار الموحدين، نعيم عباد الله العاملين، إرث أتباع رسل رب
__________
(1) سورة الأنفال الآية 37
(2) سورة الملك الآية 1
(3) سورة الملك الآية 2(54/136)
العالمين، الحياة المستمرة أبد الآبدين.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (1) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (3) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (4) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (5) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (6) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7) وقال تعالى في وصف الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (8) وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (9) وقال تعالى في وصف نعيم الجنة: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (10) {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (11) {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (12) {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (13) {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} (14) {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (15) ، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} (16) {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} (17) {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} (18) {وَكَأْسًا دِهَاقًا} (19) {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} (20) {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (21) ، وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (22) .
__________
(1) سورة الدخان الآية 51
(2) سورة الدخان الآية 52
(3) سورة الدخان الآية 53
(4) سورة الدخان الآية 54
(5) سورة الدخان الآية 55
(6) سورة الدخان الآية 56
(7) سورة الدخان الآية 57
(8) سورة الرعد الآية 35
(9) سورة محمد الآية 15
(10) سورة ص الآية 49
(11) سورة ص الآية 50
(12) سورة ص الآية 51
(13) سورة ص الآية 52
(14) سورة ص الآية 53
(15) سورة ص الآية 54
(16) سورة النبأ الآية 31
(17) سورة النبأ الآية 32
(18) سورة النبأ الآية 33
(19) سورة النبأ الآية 34
(20) سورة النبأ الآية 35
(21) سورة النبأ الآية 36
(22) سورة السجدة الآية 17(54/137)
الجنة فيها النعيم، فيها القصور، فيها الغرف، فيها الخيام، فيها الحلي، فيها الفرش، فيها الأرائك، فيها الحور، فيها الغلمان (الخدم) فيها الأشجار، فيها الفواكه، فيها الأنهار، فيها العيون، فيها الأسواق، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (1) » .
وقال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2) .
وقال تعالى في أهل الجنة: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (3) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (4) {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (5) وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} (6) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (7) وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (8) وقال ابن القيم في وصف الجنة: (9)
فاسمع إذن أوصافها وصفاتها ... تيك المنازل ربة الإحسان
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير) سورة السجدة باب 32 حديث 4779، ورواه مسلم في صحيحه (كتاب الجنة) حديث 2824.
(2) سورة السجدة الآية 17
(3) سورة المطففين الآية 22
(4) سورة المطففين الآية 23
(5) سورة المطففين الآية 24
(6) سورة المطففين الآية 34
(7) سورة المطففين الآية 35
(8) سورة الحجر الآية 47
(9) نونية ابن القيم، (وصف الجنة) .(54/138)
هي جنة طابت وطاب نعيمها ... فنعيمها باق وليس بفان
دار السلام وجنة المأوى ومنزل ... عسكر الإيمان والقرآن
فالدار دار سلامة وخطابهم ... فيها سلام واسم ذي الغفران(54/139)
التعريف بالجنة:
الجنة: " هي دار النعيم في الدار الآخرة، من الاجتنان وهو الستر، لتكاثف أشجارها وتظليلها بالتفاف أغصانها.
قال: وسميت بالجنة وهي المرة الواحدة من مصدر جنه جنا إذا ستره، فكأنها سترة واحدة لشدة التفافها وإظلالها " (1) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص إن أضحك قليلا أبكى كثيرا، وإن سر يوما أحزن شهورا.
آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف، فيا عجبا من سفيه
__________
(1) لسان العرب مادة (جنن) 13 \ 100.(54/139)
في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ (1) عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات؛ ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار؛ وأبكارا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق، مسافحات أو متخذات أخدان؛ وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام؛ وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب بخس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين؛ ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الدميم؛ وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان؛ والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد؛ ونداء المنادي يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا له، وتشبوا فلا تهرموا، بغناء المغنين.
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
__________
(1) المسلاخ: الجلد، ويقال في المدح والذم: هو ملك أو حمار في مسلاخ إنسان. المعجم الوسيط 1 \ 442.(54/140)
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا، وسيق المجرمون إلى جهنم وردا، ونادى المنادي على رءوس الأشهاد، ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام، وادخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفي لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر، ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر، لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير في حياته وهو معدود من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعتريه الآفات، ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال، فهم في روضات الجنة يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال (1) يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من استبرق يتكئون، وبالحور العين يتنعمون، وبأنواع الثمار يتفكهون، يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء بما كانوا يعملون، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
تالله لقد نودي
__________
(1) الحجال: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار، لسان العرب مادة حجل 14 \ 11.(54/141)
عليها في سوق الكساد، فما قلب (1) ولا استام إلا أفراد من العباد.
فواعجبا لها كيف نام طالبها؟ وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها؟ وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ وكيف قر للمشتاق القرار، دون معانقة أبكارها؟ وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟ وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين " (2) .
__________
(1) في الأصل: (فما قلب، ورأيت الصح: (فما قبل) طبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ- 1964 م ص 9.
(2) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص 9.(54/142)
بناء الجنة وتربتها:.
«عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد، قال: لو تكونون-أو قال-: لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم" قال: قلنا يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر (2) ، وحصاؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها
__________
(1) رواه أحمد في المسند 189 \ 15 حديث 8030 تحقيق أحمد محمد شاكر وقال صحيح الإسناد.
(2) الملاط: الطين الذي يجعل بين سافي البناء يملط به الحائط أي يخلط. النهاية في غريب الحديث 4 \ 357. (1)(54/142)
الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب عز وجل: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» .
وفي حديث الإسراء، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك (1) » .
«وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد بيضاء
__________
(1) رواه البخاري (كتاب الصلاة) حديث 349، ورواه مسلم (كتاب الإيمان) حديث 63 / 1، وأحمد في المسند 5 \ 333.
(2) رواه مسلم في (كتاب الفتن) حديث 2928، ورواه أحمد في المسند 2 \ 4(54/143)
مسك يا أبا القاسم، قال: " صدقت (1) » .
الجنة ترابها المسك والزعفران، يكون التراب من زعفران فإذا عجن بالماء صار مسكا، والطين يسمى ترابا، فلما كانت تربتها طيبة وماؤها طيبا فانضم أحدهما إلى الآخر حدث لهما طيب آخر فصار مسكا، أو يكون زعفرانا باعتبار اللون، ممسكا باعتبار الرائحة، وهذا من أحسن شيء يكون، البهجة والإشراق لون الزعفران والرائحة رائحة المسك، وكذلك تشبيهها بالدرمك وهو الخبز الصافي الذي يضرب لونه إلى صفرة مع لينتها ونعومتها " (2) .
__________
(1) (2) : ما تربة الجنة؟ " قال: درمكة
(2) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (تربة الجنة) ص 104 بتصرف.(54/144)
أبواب الجنة ودخول المؤمنين منها:
قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (1) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة زمرا، أي: جماعة بعد جماعة: المقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كل طائفة مع ما يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم
__________
(1) سورة الزمر الآية 73(54/144)
والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضا (1) .
وهذا مشهد عظيم لوفود عباد الرحمن الصالحين، القادمين إلى دارهم ومنازلهم التي أعدت لهم، بعد أن ألقوا عن أنفسهم نصب الحياة الدنيا، تتلقاهم الملائكة بالاستقبال والتهنئة وفتح الأبواب لهم بعد إذن الرحمن: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (2) وقال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (3) .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، وأزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة " (4) .
فيا له من مشهد عظيم لأبواب الجنة التي يفد منه الأتقياء عندما تفتح.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى باب الريان لا يدخله إلا الصائمون (5) »
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 \ 99.
(2) سورة الزمر الآية 73
(3) سورة ص الآية 50
(4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 16 \ 126.
(5) رواه البخاري (كتاب بدء الخلق) باب 9 حديث 3257، ورواه مسلم عن عبادة بن الصامت في رواية أخرى (كتاب الإيمان) حديث 28، ورواه النسائي (كتاب الطهارة) باب القول بعد الفراغ من الوضوء 1 \ 92 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه (كتاب الجنائز) باب 57 ما جاء في ثواب من أصيب بولده عن أبي هريرة رضي الله عنه.(54/145)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير.
فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان ".
فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر (1) » .
قال ابن حجر: " ومعنى الحديث أن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل، وقد جاء ذلك صريحا من وجه آخر عن أبي هريرة: «لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل (2) » أخرجه أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح (3)
__________
(1) رواه البخاري (كتاب فضائل الصحابة) باب 5 حديث 3666، ورواه مسلم (كتاب الزكاة) باب 85 حديث 1027، ورواه الترمذي (كتاب المناقب) باب 16 حديث 3674، ورواه النسائي (كتاب الزكاة) باب 1 وجوب الزكاة. ورواه مالك في الموطأ (كتاب الجهاد) باب 19 حديث 49.
(2) مسند الإمام أحمد 2 \ 449.
(3) فتح الباري 7 \ 28.(54/146)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير وكما بين مكة وبصرى (1) » . وفي رواية «إن بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر أو هجر ومكة (2) » وفي رواية أخرى عن عتبة بن غزوان قال: «ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم
__________
(1) بصرى بضم الموحدة، مدينة بالشام بينها وبين دمشق ثلاث مراحل. نفس المرجع السابق.
(2) رواه مسلم في (كتاب الإيمان) حديث 194.(54/147)
وهو كظيظ من الزحام (2) » .
وفي حديث الشفاعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أراد الله عز وجل أن يصدع بين خلقه نادى مناد: أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخرون الأولون، فنحن آخر الأمم وأول من يحاسب، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محجلين من أثر الطهور، وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها.
قال: ثم آتي باب الجنة فأخذ بحلقة باب الجنة فأقرع الباب فيقال: من أنت؟ فأقول: محمد؟ فيفتح لي فأرى ربي عز وجل وهو على كرسيه أو سريره، فأخر له ساجدا وأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي؛ فيقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع (3) » .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الزهد) حديث 2967.
(2) كظيظ: ممتلئ، صحيح مسلم 4 \ 2279، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. (1)
(3) رواه أحمد في المسند 1 \ 282، وهو صحيح الإسناد قاله أحمد محمد شاكر، تحقيق المسند 4 \ 243 حديث 2692.(54/148)
درجات الجنة:
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (1) {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} (2) {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (3) .
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى جزاء المجرمين، بدأ سبحانه
__________
(1) سورة طه الآية 74
(2) سورة طه الآية 75
(3) سورة طه الآية 76(54/148)
وتعالى في بيان جزاء المؤمنين، وذلك أن لهم الدرجات العالية في جناته عز وجل، وما هيأ فيها من النزل الطيب لعباده الطيبين الذين طهروا أنفسهم من خبث الشرك وأدران المعاصي واتباعهم لرسل الله جل وعلا.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (3) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر (5) » .
وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون في الغرفة كما تتراءون الكوكب الشرقي
__________
(1) سورة الأنفال الآية 3
(2) سورة الأنفال الآية 4
(3) سورة الإسراء الآية 21
(4) رواه البخاري (كتاب بدء الخلق) باب 8 حديث 3256، ورواه مسلم (كتاب الجنة) باب 11 حديث 2831.
(5) (4) في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين(54/149)
أو الكوكب الغربي الغارب في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات" فقالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون، قال: "بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين (1) » .
قال المباركفوري: " والمعنى أن أهل الجنة تتفاوت منازلهم بحسب درجاتهم في الفضل حتى إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كالنجوم " (2) .
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما (3) » .
فالجنة مائة درجة جعلها الله عز وجل لعباده المتقين على قدر أعمالهم في حياتهم الدنيا.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام (4) » .
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله
__________
(1) رواه الترمذي، (كتاب صفة الجنة) باب 19 حديث 2556، وقال حديث حسن صحيح.
(2) تحفة الأحوذي 7 \ 273.
(3) رواه الترمذي (كتاب المناقب) باب 14 حديث 3658 وقال حديث حسن.
(4) رواه أحمد في المسند، انظر 15 \ 47 حديث 7910 تحقيق أحمد محمد شاكر، وقال إسناده صحيح.(54/150)
الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك، قال: " إن في الجثة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة (1) »
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة "فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله ففعل ثم قال: "وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله (2) » .
قال القاضي عياض: " يحتمل أن هذا على ظاهره، وأن الدرجات هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة كما جاء في أهل الغرف أنهم يتراءون كالكوكب الدري، قال: ويحتمل أن المراد الرفعة بالمعنى من كثرة النعيم وعظيم الإحسان مما لا يخطر على قلب بشر، ولا بصفة مخلوق، وأن أنواع ما أنعم الله به عليه من البر والكرامة يتفاضل تفاضلا كثيرا، ويكون تباعده في الفضل كما بين السماء
__________
(1) رواه البخاري (كتاب التوحيد) باب 22 حديث 7423، ورواه أحمد في المسند 2 \ 335.
(2) رواه مسلم (كتاب الإمارة) حديث 1884.(54/151)
والأرض في البعد.
قال القاضي: والاحتمال الأول أظهر وهو كما قال (1) .
وقال ابن حجر: " وليس في هذا السياق أي حديث أبي هريرة السابق ما ينفي أن يكون في الجنة درجات أخرى أعدت لغير المجاهدين دون درجة المجاهدين " (2) .
وقال: وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهدين قد ينالها غير المجاهد إما بالنية الخالصة أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة لأنه عن أمر الجميع بالدعاء بالفردوس بعد أن أعلمهم أنه أعد للمجاهدين " (3) .
الجنة دار المؤمنين ولا يدخلها غيرهم، وقد جعل سبحانه وتعالى لكل منهم درجة (منزلا) على قدر عمله في حياته الدنيا، فهي درجات، ويرفع الله بعضهم إلى بعض؟ لتقر الأعين بمتعة بعضهم بمجاورة بعض على ما هم فيه من النعيم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (4) .
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة.
فيقول: أي رب، كيف؟ وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا
__________
(1) شرح النووي على مسلم 13 \ 28.
(2) فتح الباري 6 \ 12.
(3) فتح الباري 6 \ 13.
(4) سورة الطور الآية 21(54/152)
أخذاتهم.
فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر" قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: (2) » .
ولا هناك أعلى درجة ولا منزلة ولا نعيما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (3) » لقد فاضل سبحانه وتعالى بين المنازل في الجنة، وذلك برفع درجات بعضها على بعض، وجعل ذلك مقر عباده الطائعين على قدر أعمالهم في الدنيا مع أن كلا في درجته وفي نعيمه لا يرى لأحد فضلا عليه؛ ليعيش حياة أبدية، كلها أنس وسعادة.
__________
(1) رواه مسلم (كتاب الإيمان) حديث 189.
(2) سورة السجدة الآية 17 (1) {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
(3) رواه مسلم (كتاب الصلاة) حديث 384.(54/153)
مع أن من علت درجاتهم يرون فضلهم، وما قد أكرموا به لقاء سعيهم في الدنيا، ولا أحد أفضل ولا أكرم عند الله من صفوة الخلق، صاحب الحوض المورود والمقام المحمود محمد، فهو في الدرجة العالية الرفيعة في جنات النعيم.
قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 95
(2) سورة النساء الآية 96(54/154)
الأنهار:
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} (1) .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (2) أي التي أعدها الله لعباده الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أنها من نعتها، وصفتها الجميلة. {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} (3) أي: غير متغير، لا بوخم، ولا بريح منتنة، ولا بحرارة، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحا، وألذها شربا {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} (4) بحموضة ولا غيرها {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (5) أي: يلتذ بها لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا التي يكره مذاقها، وتصدع الرأس،
__________
(1) سورة محمد الآية 15
(2) سورة محمد الآية 15
(3) سورة محمد الآية 15
(4) سورة محمد الآية 15
(5) سورة محمد الآية 15(54/154)
وتغول العقل {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} (1) من شمعه، وسائر أوساخه " (2) .
وقد جاءت الآيات مبينة بعظم نعيم الجنة الذي أعده الله تعالى لعباده الصالحين، وأن الأنهار تجري في ذلك جمالا للدار ونضرة وسرورا للساكن.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي: من تحت أشجارها وغرفها " (4) . وقال تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (6) ، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (7) .
عن حكيم بن معاوية. رضي الله عنهما عن أبيه عن النبي
__________
(1) سورة محمد الآية 15
(2) تفسير كلام المنان 7 \ 70.
(3) سورة البقرة الآية 25
(4) تفسير القرآن العظيم 1 \ 96.
(5) سورة آل عمران الآية 15
(6) سورة النساء الآية 13
(7) سورة التوبة الآية 72(54/155)
صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد (1) » .
وقال القاري: قد يقال: المراد بالبحار هي الأنهار، وإنما سميت أنهارا لجريانها، بخلاف بحار الدنيا، فإن الغالب منها أنها محل القرار (2) .
وعن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما (في حديث الإسراء) قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ورفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر (4) ، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران؛ فسألت جبريل، فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران النيل والفرات» .
__________
(1) رواه الترمذي (كتاب صفة الجنة) باب 27حديث 2571 وقال: حديث حسن صحيح.
(2) تحفة الأحوذي 7 \ 288.
(3) رواه البخاري (كتاب بدء الخلق) باب 6 حديث 3207 واللفظ له، ورواه مسلم (كتاب الإيمان) حديث 164، ورواه أحمد في المسند 4 \ 208 ورواه النسائي (كتاب الصلاة) 1 \ 225.
(4) (3) وورقها كأنه آذان الفيول الفيل: معروف والجمع أفيال وفيول وفيلة لسان العرب مادة فيل 11 \ 534.(54/156)
قال النووي: " هكذا هو في أصول صحيح مسلم: (يخرج من أصلها) والمراد: من أصل سدرة المنتهى، كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره. قال مقاتل: الباطنان هما السلسبيل والكوثر. قال القاضي رحمه الله: هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. قلت: هذا الذي قاله ليس بلازم، بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها، ثم تسير حيث أراد الله تعالى، حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع، وهو ظاهر الحديث، فوجب المصير إليه. والله أعلم " (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة (2) » .
قال النووي: " اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون. فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن، فجيحان نهر المصيصة، وسيحان نهر إذنة، وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان. فهذا هو الصواب في موضعهما " (3) .
وقد تعقب بعض الأقوال القائلة بغير هذا، (4) وقال:
__________
(1) شرح النووي على مسلم 2 \ 224.
(2) رواه مسلم (كتاب صفة الجنة) حديث 2839.
(3) شرح النووي على مسلم 17 \ 176.
(4) انظر نفس المرجع السابق تجد كلامه رحمه الله تعالى.(54/157)
" جيحون وسيحون وراء خراسان عند بلخ ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا (1) » .
وفي الجنة أنهار كثيرة، جعلها الله تعالى نعيما لأوليائه الصالحين من عباده المتقين، وهي مختلفة الأشكال والألوان والمذاق. وقد اختص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالكوثر، كما أخبر تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (2) ، وكما أخبر صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أسير في الجنة (4) » .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر
__________
(1) صحيح الجامع الصغير 3 \ 235 حديث 3636 وقال المحقق (الألباني) الحديث حسن.
(2) سورة الكوثر الآية 1
(3) رواه البخاري (كتاب الرقاق) باب 53 حديث 6581.
(4) (3) إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه - أو طينه- مسك أذفر " شك هدبة "(54/158)
والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج (1) » .
وعن عطاء بن السائب قال: قال لي محارب بن دثار: ما سمعت سعيد بن جبير يذكر عن ابن عباس في الكوثر؟ فقلت سمعته يقول: قال ابن عباس: هذا الخير الكثير، فقال محارب: سبحان الله ما أقل ما يسقط لابن عباس قول. سمعت ابن عمر يقوله: «لما أنزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، يجري على جنادل الدر والياقوت، وشرابه أحلى من العسل، وأشد بياضا من اللبن، وأبرد من الثلج، وأطيب من ريح المسك (4) » قال: صدق ابن عباس، هذا والله الخير الكثير.
قال أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى: " وتفسير ابن عباس - الموقوف عليه هنا"- الكوثر بأنه الخير الكثير، رواه عنه البخاري من رواية سعيد بن جبير) (5) . ثم قال ابن كثير: وهذا التفسير يعم النهر وغيره؛ لأن الكوثر من الكثرة، وهو الخير الكثير، ومن ذلك النهر، كما قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن بن أبي الحسن البصري،
__________
(1) رواه الترمذي (كتاب التفسير) سورة الكوثر حديث 3361، وقال حديث حسن صحيح.
(2) رواه أحمد في المسند (ترتيب أحمد محمد شاكر) 8 \ 159 حديث 5913، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(3) سورة الكوثر الآية 1 (2) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
(4) جنادل: الجندل: الحجارة. انظر لسان العرب مادة (جندل) ، 11 \ 128. (3)
(5) تفسير القرآن العظيم 4 \ 889 تحقيق حسين إبراهيم زهران.(54/159)