ب- صفة العلم:
قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) . وورد في قصة الخضر مع موسى عليه السلام وفيها: «. . . وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر عليه السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر (2) » .
جـ - صفة القدرة:
قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (3) . وقال جابر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك (4) » . الحديث.
د- الإرادة:
قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) صحيح البخاري (8 \ 409) ، صحيح مسلم (4 \ 1847) رقم (2380) .
(3) سورة القيامة الآية 4
(4) صحيح البخاري (11 \ 182) رقم (1382)
(5) سورة المائدة الآية 6(49/179)
وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطي الله (1) » .
هـ - السمع والبصر:
قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (2) . وعن أبي موسى الأشعري - عندما رفع الصحابة أصواتهم بالدعاء - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته (3) » . . . .
__________
(1) صحيح البخاري (1 \ 164) رقم (71) ، صحيح مسلم (2 \ 718) رقم (1037) .
(2) سورة النساء الآية 134
(3) صحيح البخاري (13 \ 372) رقم (7386) ، صحيح مسلم (4 \ 2076) رقم (2704) .(49/180)
المبحث الثاني: إثبات الأسباب والمسببات:
السبب: كل شيء يتوصل به إلى غيره، وجمعه أسباب.
والله عز وجل مسبب الأسباب، ومنه التسبب (1) . قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (2) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (3) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (4) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (5) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (6) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (7) .
__________
(1) لسان العرب (1 \ 458) .
(2) سورة الليل الآية 5
(3) سورة الليل الآية 6
(4) سورة الليل الآية 7
(5) سورة الليل الآية 8
(6) سورة الليل الآية 9
(7) سورة الليل الآية 10(49/180)
وقال أنس بن مالك: «قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل (1) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه سولم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا، وتروح بطانا (2) » .
«ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها، فقيل له: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له. . . (3) »
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان أهل اليمن، يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (4) ، (5) . والله سبحانه وتعالى قدر المقادير وهيأ لها أسبابا وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلا
__________
(1) جامع الترمذي (4 \ 668) رقم (2517) ، وذكره الألباني وقال عنه حسن رقم (1079) .
(2) جامع الترمذي (4 \ 573) رقم (3344) ، أحمد (1 \ 30، 52) .
(3) ذكره الألباني في (صحيح الجامع) رقم (1085) ثم عزاه إلى الطبراني عن ابن عباس وعن عمران بن حصين ثم قال عنه: صحيح.
(4) سورة البقرة الآية 197
(5) صحيح البخاري (3 \ 383) رقم (1523) ، وأخرجه أبو داود في (السنن) كتاب (المناسك) الباب الرابع.(49/181)
من خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها والقيام بها.
وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه من كون الحرث سببا في وجود الزرع، والنكاح سببا في وجود النسل، وكذلك العمل الصالح سبب في دخول الجنة، والعمل السيء سبب في دخول النار. وقد فقه هذا كل هذا الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: "ما كنت بأشد اجتهادا مني الآن".
والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل: عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها (1) .
وقد يبدو لأول وهلة أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل وأن نفيها تمام التوكل والصحيح عكس ذلك تماما.
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية.
والتجرد من الأسباب جملة ممتنع عقلا وشرعا وحسا، وما أخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من الأسباب، وقد
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 118-120) .(49/182)
ظاهر بين درعين يوم أحد، ولم يحضر الصف قط عريانا كما يفعله من لا علم عنده ولا معرفة، واستأجر دليلا مشركا على دين قومه يدله على طريق الهجرة وقد هدى الله به العالمين وعصمه من الناس أجمعين، وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة، حمل الزاد والمزاد، وجميع أصحابه، وهم أولوا التوكل حقا وأكمل المتوكلين. . .) .
وقال ابن القيم: (. . . فمنع الأسباب أن تكون أسبابا، قدح في العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح في التوحيد، والتوكل والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال والله أعلم) (1) .
__________
(1) طريق الهجرتين ص (332) ، ط. دار الكتاب العربي بيروت.(49/183)
المبحث الثالث: توحيد القلب:
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 3
(3) سورة الأنفال الآية 4(49/183)
وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (2) {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (3) . قال ابن القيم: (. . . وحقيقة التوكل: القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب، والاعتقاد أنها بيده، فإن شاء منعها اقتضاءها، وإن شاء جعلها مقتضية لضد أحكامها، وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه.
فالموحد المتوكل: لا يلتفت إلى الأسباب، بمعنى أنه لا يطمئن إليها، ولا يرجوها، ولا يخافها، فلا يركن إليها، ولا يلتفت إليها، بمعنى أنه لا يسقطها ولا يهملها ويلغيها؛ بل يكون قائما بها، ملتفتا إليها ناظرا إلى مسببها - سبحانه - ومجريها.
فلا يصح التوكل - شرعا وعقلا - إلا عليه سبحانه وحده، فإنه ليس في الوجود سبب تام موجب إلا مشيئته وحده، فهو الذي سبب الأسباب، وجعل فيها القوى والاقتضاء لآثارها، ولم يجعل منها سببا يقتضي وحده أثره؛ بل لا بد معه من سبب آخر يشاركه، ويجعل لها أسبابا تضادها وتمانعها، بخلاف مشيئته سبحانه، فإنها لا تحتاج إلى أمر آخر، ولا في الأسباب الحادثة ما يبطلها، ويضادها، وإن كان الله سبحانه قد يبطل حكم مشيئته
__________
(1) سورة التغابن الآية 13
(2) سورة المزمل الآية 8
(3) سورة المزمل الآية 9(49/184)
بمشيئة، فيشاء الأمر ثم يشاء ما يضاده ويمنع حصوله، والجميع بمشيئته واختياره.
فلا يصح التوكل إلا عليه، ولا الالتجاء إلا إليه، ولا الخوف إلا منه، ولا الرجاء إلا له، ولا الطمع إلا في رحمته، كما قال أعرف الخلق به صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك (1) » وقال: «لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك (2) » (3) .
نعم لا يصح التوكل حتى يصح التوحيد، ولا يصح التوحيد إلا إذا صح توحيد الطلب والقصد، وأنه معنى لا إله إلا الله.
فإنه لا يكون إلها مستحقا للعبادة إلا من كان خالقا رازقا مالكا متصرفا مديرا لجميع الأمور حيا قيوما سميعا بصيرا، عليما حكيما موصوفا بكل كمال، منزها عن كل نقص، غنيا عما سواه مفتقرا إليه كل ما عداه، فاعلا مختارا، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا يخفى عليه خافية، وهذه صفات الله عز وجل، ولا تنبغي إلا له، ولا يشركه فيها غيره.
فكذلك لا يستحق العبادة إلا هو، ولا تجوز لغيره، فحيث كان منفردا بالخلق والإنشاء والبدء والإعادة لا يشركه في ذلك أحد، وجب إفراده بالعبادة دون من سواه لا يشرك معه في عبادته
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (486) ، سنن الترمذي الدعوات (3493) ، سنن النسائي التطبيق (1130) ، سنن أبو داود الصلاة (879) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3841) ، مسند أحمد بن حنبل (6/58) ، موطأ مالك النداء للصلاة (497) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (247) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن الترمذي الدعوات (3394) ، سنن أبو داود الأدب (5046) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/296) ، سنن الدارمي الاستئذان (2683) .
(3) مدارج السالكين (2 \ 499) ، ط. دار الكتاب العربي، بيروت.(49/185)
أحد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
فالمتوكل على الله، لا يتم توكله ولا يترتب عليه مقصوده إلا إذا وحد قلبه على الله، ونفى الشرك عنه، وتوكل على الله حق التوكل، بقطع علائق الأسباب عن قلبه.
لأن التوكل الصحيح خاص بالقلب، وفعل الأسباب خاص بالجوارح، فإذا تعلق القلب بالأسباب، فإنه قد أشرك وهذا يميز المتوكل الموحد، والمتوكل المشرك.
فإذا اجتمع توكل خالص، وفعل الأسباب حصل المقصود وتحقق الهدف والغاية والله المستعان.
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 22(49/186)
المبحث الرابع: حسن الظن بالله عز وجل:
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} (1) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه (2) » .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 5
(2) أخرجه مسلم في الصحيح (4 \ 2205) رقم (2877) من حديث جابر، وأبو داود في (السنن) كتاب (الجنائز) رقم (13) ، وابن ماجه في (السنن) كتاب (الزهد) رقم (14) ، وأحمد في (المسند) (3 \ 293، 315، 325، 330، 334، 390) .(49/186)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي (1) » .
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي (2) » .
وحسن الظن بالله هو: الرجاء، وهو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه.
وقيل: هو الثقة بوجود الرب تعالى، لكن لصحته علامة وهي حسن الطاعة.
قال شاه الكرماني: والمتوكل يعيش بين نظرين، نظر إلى نفسه وعيوبه، وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبره، ونظر يفتح عليه باب الرجاء.
ولذلك قال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
__________
(1) صحيح البخاري (13 \ 466) رقم (7505) من حديث أبي هريرة، صحيح مسلم (4 \ 2102) رقم (2675) .
(2) جامع الترمذي (5 \ 548) رقم (3540) ، سنن الدارمي (2 \ 230) رقم (2791) ، ذكره الألباني في (صحيح الجامع) رقم (4213) ثم عزاه إلى الترمذي والضياء عن أنس ثم قال: حسن.(49/187)
وقال يحيى بن معاذ: إلهي، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحب الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك (1) .
وقال ابن القيم: (وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فكل محب راج، خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه، أحب ما يكون إليه، وخوفه فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجاجه عنه، فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له، لما يحصل له به من حياة روحه، ونعم قلبه من ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضا، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه، فرجاؤه أعظم رجاء، وأجله وأتمه) (2) .
والعبد يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء.
والرجاء يبعث العبد إلى أعلى مقامات العبودية وهو الشكر.
والرجاء إذا انقطعت عنه الموانع، واستبان للعبد الطريق، طمع بالوصول وصارت حاله حال المعاين، فتتجمع له قوى الظاهر والباطن على قصد الوصول والعزم عليه لمشاهدته ما هو سائر إليه، هكذا عادة المسافر أنه إذا عاين القرية التي يريد
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 35-36) ، تهذيب المدارج ص (297) .
(2) تهذيب مدارج السالكين ص (299) .(49/188)
دخولها أسرع السير وبذل الجهد، وكذلك الصادق في آخر عمره، أقوى عزما وقصدا من أوله لقربه من الغاية التي يجري إليها.
وأعلى رجاء هو رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق، الباعث على الاشتياق، المبغض المنغص للعيش، المزهد في الخلق. (1) .
وقال ابن القيم أيضا: فعلى حسن ظنك بربك ورجائك له، يكون توكلك عليه، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله.
والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنه به، ولا التوكل على من لا يرجوه والله أعلم (2) . المبحث الرابع المبحث الخامس تفويض الأمر لله سبحانه وتعالى
__________
(1) تهذيب مدارج السالكين ص (301-305) .
(2) مدارج السالكين (2 \ 121) .(49/189)
المبحث الخامس: تفويض الأمر لله سبحانه وتعالى:
قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} (1) . قال ابن كثير على هذه الآية: (أي: وأتوكل على الله وأستعينه. . .) (2) والتفويض من أعمال القلوب.
قال ابن القيم: (. . . وأما علمه - يعني القلب - فسكونه إلى وكيله، وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، ورضاه بتصرفه له. . .) (3) .
__________
(1) سورة غافر الآية 44
(2) التفسير (7 \ 135) .
(3) طريق الهجرتين، ص (329) .(49/189)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في حديث الفاتحة: «فإذا قال العبد: قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي (2) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ما يقول العبد إذا أراد النوم: «اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك. . . (3) » الحديث.
وقال ابن الأثير في حديث الدعاء: «فوضت أمري إليك أي رددته، ويقال: فوض إليه الأمر تفويضا إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه (4) » .
وقال ابن القيم: (. . . التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلبا واختيارا لا كرما واضطرارا، والمفوض لا يفوض أمره إلى الله إلا لإرادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده، وإن كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا، فهو راض به لأنه يعلم أنه خير له، وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه، وهكذا حال المتوكل سواء) (5) .
__________
(1) صحيح مسلم (1 \ 296) رقم (295) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة الفاتحة الآية 4 (1) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
(3) صحيح البخاري (13 \ 462) رقم (7488) ، صحيح مسلم (الذكر) (56، 57) ، د أدب \ 98، ت دعوات \ 16، دي استئذان \ 51، حم 4 \ 285.
(4) النهاية (3 \ 479) .
(5) مدارج السالكين (2 \ 122) ، تهذيب المدارج ص (341) .(49/190)
الفصل الثاني
أهمية التوكل وفضله
التوكل له أهمية كبيرة وفضل عظيم ويدل على أهميته ما يلي:
أولا: الأمر من الله لأنبيائه بالتوكل عليه:
قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (3) .
وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (4) . وقال تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (5)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 58
(2) سورة الأنفال الآية 61
(3) سورة هود الآية 123
(4) سورة الأحزاب الآية 3
(5) سورة الأحزاب الآية 48(49/191)
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) .
__________
(1) سورة الملك الآية 29(49/192)
ثانيا: توكل الأنبياء على الله:
قال تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (1) {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} (2) {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) وقال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (4) {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (5) وقال تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (6) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت. . . . (7) »
__________
(1) سورة هود الآية 54
(2) سورة هود الآية 55
(3) سورة هود الآية 56
(4) سورة هود الآية 87
(5) سورة هود الآية 88
(6) سورة يوسف الآية 67
(7) أخرجه البخاري في (الصحيح) (3 \ 3) رقم (1120) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح) (1 \ 533) رقم (199) من حديث ابن عباس.(49/192)
ثالثا: الأمر من الله لعباده المؤمنين بالتوكل عليه:
قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) . وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (3) .
وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 23
(2) سورة آل عمران الآية 122
(3) سورة آل عمران الآية 160
(4) سورة التغابن الآية 13(49/193)
رابعا: توكل المؤمنين على الله:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (1) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) . وقال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 58
(2) سورة العنكبوت الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 36(49/193)
وقال تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (3) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (4) . وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (5) . وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (6) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (7) .
خامسا: الأمر من الأنبياء لأقوامهم بالتوكل على الله:
قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (8) {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (9) {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (10) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك (11) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 172
(2) سورة آل عمران الآية 173
(3) سورة آل عمران الآية 174
(4) سورة الأنفال الآية 2
(5) سورة التوبة الآية 51
(6) سورة النحل الآية 98
(7) سورة النحل الآية 99
(8) سورة يونس الآية 84
(9) سورة يونس الآية 85
(10) سورة يونس الآية 86
(11) أخرجه البخاري في الصحيح (13 \ 162) رقم (7488) ، ومسلم في كتاب الذكر (56، 57) من حديث البراء بن عازب.(49/194)
أما فضل التوكل فيدل عليه:
أولا: حب الله للمتوكلين:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) .
ثانيا: الهداية والكفاية والوقاية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله فيقال له: حسبك قد هديت وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي، ووقي (2) » .
ثالثا: دخول الجنة بغير حساب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون (3) » .
رابعا: الرزق السهل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) انظر صحيح الجامع للألباني رقم (513) ثم قال: صحيح.
(3) أخرجه البخاري في الصحيح (10 \ 155) رقم (5705) ، ومسلم في الصحيح (1 \ 198) رقم (372) من حديث عمران بن حصين.(49/195)
وتروح بطانا، (1) »
خامسا: تسمية الله نبيه صلى الله عليه وسلم: " المتوكل "
روى البخاري وأحمد من «حديث هلال بن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل (2) » . . . .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1 \ 30، 52) ، وأخرجه الترمذي في جامعه. (4 \ 573) رقم (2344) ، ثم قال: حديث حسن صحيح، من حديث عمر بن الخطاب.
(2) صحيح البخاري (4 \ 312) رقم (2125) ، المسند (2 \ 174) .(49/196)
الفصل الثالث
لا توكل بلا إيمان ولا إيمان بدون توكل
التوكل: هو كلة الأمر إلى مالكه، أي تسليمه إلى من هو بيده. وعلى هذا فلا يصح توكل من دون إيمان، بل إذا انتفى التوكل انتفى الإيمان، وقد شرط سبحانه وتعالى لوجود الإيمان التوكل عليه فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 23(49/196)
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) .
ومن ثم فقد قال ابن القيم: (التوكل من لوازم الإيمان ومقتضياته. . وإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان.
فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل. . . .) (2) .
وقال سيد قطب في معنى قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) (فعلى الله وحده يتوكل المؤمن وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته وهذا هو منطق الإيمان ومقتضياته. . .) (4) .
ومما سبق يتأكد ما ذكرناه ابتداء من أن الإيمان ينتفي إذا انتفى التوكل والتوكل لا يكون إلا من مؤمن، وبقدر قوة الإيمان يكون التوكل قوة وضعفا.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) طريق الهجرتين ص 326 ط. دار الكتاب العربي.
(3) سورة المائدة الآية 23
(4) في ظلال القرآن (2 \ 879) ط. الشروق.(49/197)
الفصل الرابع
اشتباه التوكل بغيره
إن هذا الباب - باب التوكل - يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق والعوارض، بالمطالب والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة، ونحن سنذكر لك هنا بعضا من ذلك؛ للتحذير منه والتنبه إليه.
أولا: اشتباه التفويض بالإضاعة:
التفويض: هو التبرؤ من الحول والقوة، وتسليم الأمر إلى صاحبه وهو الاستسلام لمالك الأمر ومصرفه، ويكون التفويض قبل وقوع السبب وبعد وقوعه.
والمفوض منقاد بالكلية إلى الحق سبحانه، ولا يبالي أكان ما يقضي له خيرا أم خلافه - في نظره - (1) .
أما الإضاعة: فهي تتمثل في عدم التوكل - والتوكل أشمل من التفويض - وترك فعل الأسباب، ولا شك أن من فعل ذلك فإنه يضيع الدنيا والآخرة، فإذا اشتبه الباب المحمود الكامل وهو التوكل على الله حق التوكل ثم التفويض إلى مالك الملك والمتصرف في ملكه، إذا اشتبه بالباب المذموم الناقص وهو الإضاعة بعدم بذل الأسباب وعدم التوكل ثم التفويض فإن النتيجة
__________
(1) مدارج السالكين 2 \ 137 - 143.(49/198)
هي عدم الإنتاجية أو تضييع من قبل العبد لحقه؛ لأنه أضاع حق الله.
أما المفوض فقد ضمن حق الله، فضمن الله له حقه وحقق هدفه (1) .
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 137 - 143) بتصرف.(49/199)
ثانيا: اشتباه التوكل بالراحة:
والتوكل - كما تقرر - هو التعلق بالله في كل حال، مع بذل الأسباب ثم التفويض لله، والذي يثمر الرضا بقضاء الله وقدره.
ولا يصح التوكل إلا بالقيام بالأسباب، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد، والراحة هي إلقاء حمل الكل، فيظن صاحبه أنه متوكل من دون بذل أدنى الأسباب.
فإذا اشتبه الباب المحمود بالباب المذموم فلا شك أن الإنتاج سيضمحل ويتلاشى، لكن التوكل الصحيح يؤدي إلى كل خير، بل إلى خيرات الدنيا والآخرة (1) .
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 137 - 143) بتصرف.(49/199)
ثالثا: اشتباه خلع الأسباب عن القلب بتعطيلها عن الجوارح:
وهناك فرق كبير بين خلع الأسباب عن القلب، واعتماد القلب على الله وحده، وبين إعمال الأسباب وفعلها في حق الجوارح، فاعتماد القلب على الله، وخلع الأسباب عن القلب توحيد، وإعمال الأسباب في حق الجوارح بعد اعتماد القلب على الله توكل(49/199)
صحيح، أما إذا عطلته الأسباب عن الجوارح فهو إلحاد وزندقة.
فإذا اشتبه الباب المحمود بالباب الفاسد، لا شك أن الخلل سيحدث وبالتالي لا يكون هناك إنتاج (1) .
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 124) ، (137 - 143 بتصرف) .(49/200)
رابعا: اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز:
يقول ابن القيم: والفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها، وتزكيتها، كغارس الشجر وباذر الأرض.
والمغتر العاجز: قد أفرط فيما أمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود (1) .
__________
(1) (مدارج السالكين 2 \ 124) ، (137 - 143) بتصرف.(49/200)
خامسا: اشتباه الطمأنينة إلى الله بالطمأنينة إلى المعلوم:
لأن الطمأنينة إلى الله مستمرة، وغير منقطعة، وهي دائمة؛ لأن سببها دائم حي قيوم، وهذا عين التوكل على الله.
أما الطمأنينة إلى المعلوم، فقد تنتهي وتنقطع بانقطاعه، مثل انتهاء نعمة معينة كان العبد قد اطمأن لها فيحصل له ويحضره هم شديد وبث وخوف، فهذا دليل على أن سكون العبد لم يكن إلى الله بل كان للمعلوم.
فإذا اشتبه الباب الأول المحمود وهو الطمأنينة إلى الله، بالباب الثاني المذموم وهو الطمأنينة للمعلوم من الأشياء، فإنه(49/200)
يحصل الإرباك وينقطع الرضا والعمل وبالتالي يتلاشى الإنتاج إذا وجد، والله المستعان (1) .
سادسا: اشتباه حال التوكل بعلم التوكل:
كثير من الناس يعرف التوكل، وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وهو ليس من أهل التوكل، فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به، وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها، وحال المحب العاشق وراء ذلك.
وكمعرفة علم الخوف، وحال الخائف وراء ذلك، وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها (2) .
فها أنت قد رأيت اشتباه الدعاوى بالحقائق وظهر لك الحق فالزمه.
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 124) ، (137 - 143) بتصرف.
(2) مدارج السالكين 2 \ 125.(49/201)
الفصل الخامس
الأسماء الحسنى والتوكل
التوكل له علاقة بجميع أسماء الله الحسنى، لأن التوكل كما عرفه وفسره بعض الأئمة هو المعرفة بالله.
لكن التوكل له تعلق خاص بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات ومنها:(49/201)
أولا: العفو:
وهو اسم من أسماء الله مشتق من العفو والتجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه (1) .
وأدلة ثبوته من القرآن والسنة كثيرة منها:
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (2) وقال عز اسمه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (3) وقال جل شأنه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (4) وقال الغفور الرحيم: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (5)
«وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة عندما سألته: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (6) » .
__________
(1) النهاية لابن الأثير (3 \ 265) .
(2) سورة الشورى الآية 25
(3) سورة آل عمران الآية 155
(4) سورة النساء الآية 149
(5) سورة البقرة الآية 187
(6) أخرجه الترمذي في الجامع (5 \ 534) رقم 3513 من حديث عائشة ثم قال: حديث حسن صحيح، جه (دعاء \ 5) ، حم (1 \ 19، 6 \ 171، 182، 208، 258) .(49/202)
والمتوكلون على الله حق التوكل، يتعبدون الله بهذا الاسم العظيم في غفران ذنوبهم والتجاوز عن سيئاتهم، وفي نصرهم على عدوهم، وفي التخفيف عنهم في المشاق والعفو عنهم فيما لا يملكون، وفي كل ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.(49/203)
ثانيا: الرحيم:
الرحمة تطلق في اللغة على: الرقة والتعطف، كما تطلق على المغفرة، وأيضا فإنها تطلق على الرزق والغيث.
أما في الاصطلاح: فرحمة الله: عطفه وإحسانه ورزقه، وفي أسماء الله تعالى: الرحمن الرحيم وهما اسمان مشتقان من الرحمة، وهما من أبنية المبالغة، ورحمن أبلغ من رحيم، والرحمن خاص لله لا يسمى به غيره، ولا يوصف به سواه.
أما الرحيم فإنه يوصف به غير الله فيقال: رجل رحيم (1) .
وأدلة ثبوت هذين الاسمين من القرآن والسنة كثيرة جدا منها:
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) . وقال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
__________
(1) لسان. العرب (12 \ 235) ط. صادر، النهاية لابن الأثير (2 \ 210) ط. عام 1383 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 37
(3) سورة يوسف الآية 53(49/203)
وقال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ". . . «فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط (3) » .
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت العزيز الرحيم (4) » .
هذا وقد سمى الله نفسه: رحيما في الكتاب العزيز في مائة وتسعة عشر موضعا، المتوكلون يتعبدون الله بهذا الاسم العظيم: الرحيم ليغفر ذنوبهم، ويتوب عليهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويتقون الله في السر والعلن لعل رحمة الرحيم التي
__________
(1) سورة التوبة الآية 118
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) صحيح أخرجه مسلم (1 \ 170) رقم 302، حم (1 \ 5) ، جه (زهد \ 35) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) صحيح أخرجه البخاري (11 \ 131) رقم (6326) ، صحيح مسلم (4 \ 2078) .(49/204)
وسعت كل شيء تسعهم.
والمتوكلون يؤمنون أن كل خير وسعادة، وهداية، وتوفيق، وألطاف، وعناية، وحفظ، وسلامة، وبركة، ونعيم في الدنيا والآخرة كل ذلك وغيره من آثار رحمة الله التي وسعت كل شيء.
وهي رحمة تليق بالرحيم بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، فاللهم ارحمنا برحمتك يا رحيم.(49/205)
ثالثا: الرؤوف:
وهو من الرأفة: وهي أشد الرحمة فهي أرق من الرحمة، ولا تكاد تقع في الكراهة، والرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة.
أما في الاصطلاح فالرؤوف هو: كثير الرأفة، وهو اسم من أسماء الله الحسنى فهو الرحيم بعباده، العطوف عليهم بألطافه.
وفي رسمه لغتان: رؤوف على وزن فعول، ورؤف على وزن فعل (1) .
وأدلة ثبوت هذا الاسم الكريم كثيرة منها:
قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (3) .
__________
(1) (النهاية) لابن الأثير (2 \ 176) ، لسان العرب (9 \ 112) .
(2) سورة التوبة الآية 117
(3) سورة آل عمران الآية 30(49/205)
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
وقد سمى الله نفسه رؤوفا في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا، والمتوكل على الله يتعبد الله باسمه الرؤوف ويعلم أن الله كريم، وجواد، وصاحب الفضل، ولطيف بعباده؛ فكتب له رأفته، ورحمته، وإحسانه، ثم يسأله باسمه الرؤوف أن يخرجه من الظلمات إلى النور، وأن لا يضيع إيمانه، وأن يتولاه في الدنيا والآخرة برأفته ورحمته.
__________
(1) سورة الحج الآية 65(49/206)
رابعا: فعال لما يريد:
وأدلة ثبوت ذلك كثيرة منها:
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (1) . وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (2) {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (3) . وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) سورة البروج الآية 15
(3) سورة البروج الآية 16
(4) سورة المائدة الآية 6(49/206)
يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله (1) » .
فالمتوكل إذا توجه إلى من له الإرادة المطلقة، ويفعل ما يشاء سبحانه، فإن توكله يكون صحيحا مما يكون له الأثر في تحقيق المقصود.
__________
(1) صحيح البخاري (1 \ 164) رقم (71) ، صحيح مسلم (2 \ 818) رقم (1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان.(49/207)
خامسا: القدير:
وأدلة ثبوت هذا الاسم الكريم كثيرة منها:
قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (1) وقال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} (2) . وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه للصحابة دعاء الاستخارة: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك. . (4) » الحديث.
فالمتوكل يتعبد الله (القادر) ويلجأ إليه ويسأله سبحانه، الذي له القدرة الشاملة، والتام القدرة، الذي لا يمتنع عليه شيء،
__________
(1) سورة القيامة الآية 4
(2) سورة المؤمنون الآية 95
(3) سورة الملك الآية 1
(4) صحيح البخاري (11 \ 182) رقم (6382) .(49/207)
ويتوكل عليه في تحقيق مطالبه، وهو القدير، الذي له مطلق القدرة، وكمالها وتمامها، الذي ما كان ليعجزه من شيء في الأرض ولا في السماء، الذي ما خلق الخلق ولا بعثهم في كمال قدرته إلا كنفس واحدة، الذي إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.(49/208)
سادسا: الغفار:
أي الستار لذنوب عباده مرة بعد أخرى.
وأدلة ثبوت هذا الاسم كثيرة منها:
قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1)
وقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (2)
وقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ".
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة ص الآية 66(49/208)
والمتوكل. يعلم علم اليقين أن الذي يستر الذنوب والعيوب مرة بعد أخرى هو الله الغفار، المستمر المغفرة، فهو يتوكل عليه في ستر ذنوبه وعيوبه وغفرانها ومحوها، كيف لا وقد تسمى بالغفار.(49/209)
سابعا: التواب:
وهو الذي يتوب على من يشاء من عباده، ويقبل توبته.
وأدلة ثبوته كثيرة منها:
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) . وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (2) . وقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (3) .
«وكان يعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور (4) » . وقال رسول صلى الله عليه وسلم لعائشة في حديث الإفك: «وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه. . . (5) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 37
(2) سورة النور الآية 10
(3) سورة النصر الآية 3
(4) رواه. الترمذي في (الجامع) (5 \ 494) رقم (3434) من حديث ابن عمر ثم قال: حسن صحيح غريب، وأحمد في (المسند) (1 \ 388، 392، 394) ، (2 \ 84) .
(5) أخرجه البخاري في (الصحيح) (5 \ 271) رقم (2661) ، والترمذي في (الجامع) كتاب (الأشربة) الباب الأول، وابن ماجه في (السنن) ، كتاب (الأشربة) الباب الرابع، والدارمي في (السنن) كتاب (الرقائق) الباب (62) ، وأحمد في (المسند) المجلد الأول ص (370) ، المجلد الثاني ص (176) .(49/209)
فالمتوكل يتعبد الله باسمه التواب، لأن العبد محل الخطأ، ومحل الذنب، لكنه سبحانه تسمى بالتواب ليكون دائم الغفران، فكلما أذنبوا تابوا إلى التواب فتاب عليهم، إنه هو التواب الرحيم.(49/210)
ثامنا: الفتاح:
وهو الحاكم بين عباده الذي يفتح المنغلق على عباده من أمورهم دينا ودنيا، ويكون بمعنى الناصر.
ومن أدلة ثبوته:
قوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (1) .
والمتوكل يلجأ إلى الحاكم العدل العالم بحقائق الأمور، الذي يفتح ما انغلق على عباده من أمورهم في دينهم ودنياهم فيتحقق مقصود المتوكل على الله حق التو كل.
__________
(1) سورة سبأ الآية 26(49/210)
تاسعا: الوهاب:
وهو الذي يجود بالعطاء الكثير من غير استثابة.
وأدلة ثبوته كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 8(49/210)
وقال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} (1) وروى الإمام أحمد من حديث أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث دعاء تثبيت القلوب:. . . «فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. . . . (2) » ورواه أيضا أبو حاتم وابن جرير.
فالمتوكل يتعبد الله الوهاب بسؤاله، ورفع حاجته إليه، لأنه هو الجواد سبحانه، ولا ينقص من ملكه شيء مهما وهب وأعطى.
__________
(1) سورة ص الآية 9
(2) مسند الإمام أحمد (6 \ 302) (تفسير ابن كثير 2 \ 10 ط الشعب) .(49/211)
عاشرا: الرزاق:
وهو القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وما مكنها من الانتفاع به.
وأدلة ثبوته كثيرة منها:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) وقال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (4) . والآيات في هذا الباب كثيرة جدا.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 58
(2) سورة المؤمنون الآية 72
(3) سورة هود الآية 6
(4) سورة الملك الآية 15(49/211)
وأما الأحاديث فمنها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا (1) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: «. . . وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم (2) » من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزلت، فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله برزق عاجل أو آجل (3) » .
والمتوكل يتوكل على الرزاق في رزقه وفي كل أمره، يتوكل على القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وكل ما ينتفع به في دينه ودنياه، فهو الرزاق في كل زمان، وفي كل حال، ولكل حي، فهو قد تكفل بالأرزاق سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه من حديث عمر في (السنن) (1 \ 1394) رقم (4164) ، والترمذي في (الجامع) كتاب (الزهد) باب (33) ، وأحمد في (المسند) (1 \ 30، 52) .
(2) أخرجه الترمذي في (السنن) (4 \ 656) رقم (2495) ، وأخرجه ابن ماجه في (السنن) (2 \ 1422) رقم (4257) ، وأخرجه أحمد في (المسند) (5 \ 177) .
(3) أخرجه الترمذي في (السنن) (4 \ 563) رقم (2326) ثم قال: حديث حسن صحيح غريب وهو من حديث عبد الله بن مسعود.(49/212)
حادي عشر: المعطي:
وأدلة ثبوته كثيرة منها:
قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) .
وقال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} (2) . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (3) . وقال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين والله المعطي، وأنا القاسم، ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون (5) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له (6) » .
__________
(1) سورة طه الآية 50
(2) سورة الإسراء الآية 20
(3) سورة الإسراء الآية 20
(4) سورة ص الآية 39
(5) أخرجه البخاري في (الصحيح) (6 \ 217) رقم (3116) من حديث معاوية، ومسلم في (الصحيح) كتاب (الزكاة) الباب (100) ، وأحمد في (المسند) (4 \ 100، 101) .
(6) أخرجه مسلم في (الصحيح) (1 \ 521) رقم (168) من حديث أبي هريرة، وأبو داود في (السنن) كتاب (السنة) الباب (19) ، والترمذي في (الجامع) كتاب (المواقيت) الباب (211) ، وابن ماجه في (السنن) كتاب (الإقامة) الباب (182) ، ومالك في (الموطأ) كتاب (القرآن) الباب (30) ، والدارمي في (السنن) كتاب (الصلاة) الباب (168) ، وأحمد في (المسند) (2 \ 264، 267) .(49/213)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه، دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1) » .
فالمتوكل على الله يثق في عطاء المعطي الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، يثق فيما عند الله الذي قد سمى نفسه بالمعطي، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، الذي يعطي بغير حساب، يعطي الكافر كما يعطي المؤمن ويعطي الفاسق كما يعطي التقي، أفلا يعطي من توكل عليه وفوض أمره إليه ووثق فيما عنده، بلى فهو الرزاق ذو القوة المتين سبحانه.
ثاني عشر: المعز المذل:
فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، لا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل.
__________
(1) أخرجه البخاري في (الصحيح) (2 \ 325) رقم (844) من حديث المغيرة بن شعبة، ومسلم في (الصحيح) كتاب (الصلاة) (1 \ 194) ، وأبو داود في (السنن) كتاب (الصلاة) الباب (140) ، والترمذي في (الجامع) كتاب (المواقيت) الباب (108) ، وابن ماجه في (السنن) كتاب (الإقامة) الباب (18) ، والدارمي في (السنن) كتاب (الصلاة) الباب (71) ، وأحمد في (المسند) (4 \ 93) .(49/214)
وأدلة ثبوته:
قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله. . . (2) » .
فالمتوكل إذا أخلص لله وثق في عزة الله، وأنه لا يمكن أن يذله وهو وليه وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 26
(2) أخرجه أحمد في (المسند) (2 \ 57) من حديث أبي سعيد الخدري.(49/215)
الفصل السادس
أثر التوكل وثمرته
للتوكل آثار وثمرات عديدة يعود خيرها على العبد المتوكل ومنها:
أولا: حصول المقصود:
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 3
(3) سورة الأنفال الآية 4(49/215)
إن المتوكل على الله حقا، الذي أقام الصلاة، وأنفق من رزق الله، ووجل قلبه إذا ذكر الله، وزاد إيمانه عند سماع كلمة الله، كل ذلك يجعل هذا المتوكل مؤمنا حقا، ويؤدي إلى تحقيق مقصوده في الدنيا والآخرة من الدرجات العلى، والمغفرة والرزق الكريم.
وقال وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) .
إن المتوكل على الله المهاجر إلى الله الصابر على ظلم الظالمين في الله قد أحسن الله له العقبى في الدنيا والآخرة، تبوأ في الدنيا الذكر الحسن والعمل الصالح والسعادة الغامرة، أما منازل الآخرة فهي أكبر، أكبر من الدنيا كلها بأمواله اوجاهها وأولادها وممتلكاتها، ومتاعها وشهواتها. . . نعم منازل الآخرة عالية كبيرة - نسأل الله من فضله العظيم -.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (3) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (4)
إن السائرين على هدي من الله، والذين صبروا - بأنواع الصبر الثلاثة - وتوكلوا على الله حق التوكل حصلوا سعادة الدنيا
__________
(1) سورة النحل الآية 41
(2) سورة النحل الآية 42
(3) سورة العنكبوت الآية 58
(4) سورة العنكبوت الآية 59(49/216)
والآخرة، الإيمان والعمل الصالح في الحياة الدنيا، وتبوء الغرف التي تجري من تحتها الأنهار والخلود في الآخرة، إنه أجر العاملين المخلصين الصابرين المتوكلين فنعم أجر العاملين في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (2) .
إن التقوى والتوكل على الله يحصل بهما السداد في القول والعمل، ومن تولاه الله ورزقه وكفاه فهو في سرور وحبور في الدنيا قبل الآخرة، إنه يجعل له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا، هذه سنة الله وقدره، اللهم تولنا وارزقنا واكفنا يا حي يا قيوم، وحقق لنا ما نريد يا الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا (3) » .
ودلالة الحديث واضحة وهي: أن المتوكل على الله ببذل أدنى الأسباب يحصل له مقصوده.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) أخرجه أحمد في (المسند) (1 \ 52) وصححه أحمد شاكر (1 \ 206) ، (التوكل) لابن أبي الدنيا ص (17) ، ابن ماجه (2 \ 1393) رقم (416) ، وغيرهم.(49/217)
ثانيا: عدم الفشل، والحفظ من الزلل:
قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
نعم إذا توكل المؤمنون على الله حق التوكل فإنه يتولاهم، وإذا تولاهم فلا يمكن أن يفشلوا.
وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (2) .
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (4) .
إن المؤمن المتوكل المستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، مسدد، فهو لا يزل ولا يخفق، بل يصل إلى هدفه بأقل التكاليف، وأيسر الطرق، لأن الشيطان ليس له عليه سلطان، ومن منعه الله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه ووسوسته ولمته، فإن لمة الملك ستتحقق بإذن الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان (5) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 122
(2) سورة الإسراء الآية 65
(3) سورة النحل الآية 98
(4) سورة النحل الآية 99
(5) أخرجه الترمذي في (الجامع) (5 \ 490) رقم (3426) ، وابن أبي الدنيا في (التوكل) ص (36) رقم (21) من حديث أنس بن مالك.(49/218)
ومن كفاه الله ووقاه، وتنحى عنه الشيطان، فإنه سيهدى إلى أقوم العمل وسيجنب الزلل.
وقالت أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته قال: «بسم الله توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا (1) »
ووجه الدلالة: أن من حفظه الله من أن يزل أو يضل أو يظلم أو يظلم أو يجهل أو يجهل عليه فهو مسدد، متحققة أهدافه، محفوظ من الخلل والزلل والفشل.
__________
(1) أخرجه الترمذي في (الجامع) (5 \ 495) رقم (3427) ثم قال: حديث حسن صحيح.(49/219)
ثالثا: المتوكل على الله لا يمسه السوء بل يحفظه الله من الشرور ويعصمه، ويرحمه ويدل على هذا:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 11
(2) سورة الأنفال الآية 62
(3) سورة الأنفال الآية 63(49/219)
وقال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} (1) {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) .
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ألقي إبراهيم في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (3) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (4) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف (5) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 50
(2) سورة التوبة الآية 51
(3) سورة آل عمران الآية 173
(4) سورة آل عمران الآية 174
(5) أخرجه أحمد والترمذي والحاكم من حديث ابن عباس (صحيح الجامع رقم (7834) ثم قال: صحيح) .(49/220)
رابعا: المتوكل على الله يدخل الجنة وله أجر عظيم:
ويدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (4) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (5) .
وقال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (6) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب. . . هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون (7) » . .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 3
(3) سورة الأنفال الآية 4
(4) سورة العنكبوت الآية 58
(5) سورة العنكبوت الآية 59
(6) سورة الشورى الآية 36
(7) أخرجه البخاري في (الصحيح) (10 \ 155) رقم (5705) من حديث ابن عباس، وأخرجه مسلم في (الصحيح) (1 \ 198، 199) رقم (372) من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي الدنيا في (التوكل) ص (40)(49/221)
خامسا: حصول مقصود المتوكل:
ويدل على هذا قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) .
وقال أنس بن مالك: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: " اعقلها وتوكل (4) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 23
(2) سورة النحل الآية 98
(3) سورة النحل الآية 99
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا ص (27) رقم (12) ، والترمذي في (الجامع) (4 \ 168) رقم (2517) وذكره الألباني في (صحيح الجامع) رقم (1079) ثم قال: حسن.(49/222)
سادسا: الحفظ من الشيطان:
ويدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (2) {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} (3) {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} (4) {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (5) {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (6) .
__________
(1) سورة المجادلة الآية 10
(2) سورة الإسراء الآية 61
(3) سورة الإسراء الآية 62
(4) سورة الإسراء الآية 63
(5) سورة الإسراء الآية 64
(6) سورة الإسراء الآية 65(49/222)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان (1) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في (الجامع) (5 \ 490) رقم (3426) من حديث أنس بن مالك ثم قال: حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن أبي الدنيا في (التوكل) ص (36) رقم (21) .(49/223)
سابعا: المتوكل على الله لا تضره فتنة الدجال:
ويدل على هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رأس الدجال من ورائه خبر حبك فمن قال أنت ربي افتتن، ومن قال: كذبت، ربي الله عليه توكلت فلا يضره (1) » أو قال «فلا فتنة عليه (2) » .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/20) .
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في (التوكل) ص (54) رقم (42) ، وأبو داود في (السنن) (4 \ 17) رقم (3910) ، والترمذي في (الجامع) (4 \ 161) رقم (1614) ثم قال: حسن صحيح، وابن ماجه في (السنن) (2 \ 1170) رقم (3538) ، وأحمد في (المسند) (1 \ 289) ، وصححه الألباني في (الصحيحة) (1 \ 172) رقم (430) من حديث عبد الله بن مسعود.(49/223)
ثامنا: البراءة من الشرك:
ودليل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(49/223)
«الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود (17 \ 4) رقم (3910) ، ت سر \ 47، وأحمد في (المسند) (1 \ 389، 438، 440) ، وذكره الألباني في (الصحيحة) (1 \ 172) رقم (430) ، ثم قال: صحيح، وابن ماجه في (السنن) كتاب (الطب) الباب \ 43.(49/224)
تاسعا: المتوكل على الله يتولاه الله:
ويثبت هذا قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 122(49/224)
عاشرا: المتوكل على الله يحبه الله، ويكفيه، ويعينه، ويؤيده، وهو حسبه ووليه ورازقه:
ويدل على كل ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) .
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة آل عمران الآية 160
(3) سورة النساء الآية 81(49/224)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وقال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) .
وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) .
وقال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4) {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (5) {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (6) .
وقال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} (7) {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (8) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 11
(2) سورة المائدة الآية 23
(3) سورة الأنفال الآية 49
(4) سورة الأنفال الآية 61
(5) سورة الأنفال الآية 62
(6) سورة الأنفال الآية 63
(7) سورة التوبة الآية 50
(8) سورة التوبة الآية 51(49/225)
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) .
وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (3) {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (4) {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (5) .
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (6) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (7) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (8) .
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: (سلام عليك، أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) سورة التوبة الآية 129
(3) سورة يونس الآية 84
(4) سورة يونس الآية 85
(5) سورة يونس الآية 86
(6) سورة الزمر الآية 38
(7) سورة الطلاق الآية 2
(8) سورة الطلاق الآية 3(49/226)
وسلم يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس (1) » والسلام عليك) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في (الجامع) (4 \ 610) رقم (3414) ، وذكره الألباني في (صحيح الجامع) رقم (5973) ثم قال: صحيح.(49/227)
حادي عشر: المتوكل على الله يزيد إيمانه، ويرجع بفضل من الله ونعمة:
وأدلة ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (3) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (4) .
وروى الطبراني وابن هشام أن محمد بن إسحاق بن يسار، ومجاهد، وعكرمة، وغير واحد: أنها نزلت في شأن بني النضير، حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 172
(2) سورة آل عمران الآية 173
(3) سورة آل عمران الآية 174
(4) سورة المائدة الآية 11(49/227)
جحاش بن كعب بذلك (1) .
__________
(1) انظر: (تفسير ابن كثير (3 \ 59) ط. الشعب) .(49/228)
ثاني عشر: المتوكل على الله يفتح الله بينه وبين قومه بالحق:
ومما يثبت ذلك قوله تعالى: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 89(49/228)
ثالث عشر: المتوكل على الله يفوض أموره جميعها إلى الله، وحينئذ يكفيه الله:
ودليل ذلك قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (1) .
وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (2) .
وقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (3) .
__________
(1) سورة غافر الآية 44
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة الممتحنة الآية 4(49/228)
رابع عشر: المتوكل على الله أكثر الناس توحيدا وإخلاصا:
وأدلة ثبوت ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وقوله تعال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (2) {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (3) .
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (4) .
__________
(1) سورة التغابن الآية 13
(2) سورة المزمل الآية 8
(3) سورة المزمل الآية 9
(4) سورة الرعد الآية 30(49/229)
خامس عشر: الهداية لأقوم الطرق:
ويثبت ذلك قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 11
(2) سورة إبراهيم الآية 12(49/229)
سادس عشر: الصبر:
ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة النحل الآية 41
(2) سورة النحل الآية 42(49/229)
سابع عشر: المتوكل على الله لا يطيع الكافرين والمنافقين:
ويثبت ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 48(49/230)
ثامن عشر: المتوكل على الله يرجع كل شيء إلى الله:
قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 10(49/230)
تاسع عشر: المتوكل على الله متيقن أنه على هدى من الله:
قال تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (1) {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} (2) {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) .
وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (4) .
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (5) .
__________
(1) سورة هود الآية 54
(2) سورة هود الآية 55
(3) سورة هود الآية 56
(4) سورة النمل الآية 79
(5) سورة الملك الآية 29(49/230)
هذا ومن أهم ثمرات التوكل الرضا ولأهمية هذه الثمرة سوف نفردها ببحث مستقل.(49/231)
الفصل السابع
الرضا ثمرة التوكل
الرضا ثمرة التوكل بل فسر بعض العلماء التوكل بأنه الرضا ولا شك أن الرضا أجل ثمرات التوكل، وأعظم فوائده، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.
والرضا له تعريفات عديدة تختلف في عبارتها وتتحد في معناها ومنها:
1 - ارتفاع الجزع في أي حكم كان.
2 - استقبال الأحكام بالفرح.
3 - سكون القلب تحت مجاري الأحكام.
والرضا بإلهية الله يتضمن عبادته والإخلاص له.
أما الرضا بربوبيته فإنه يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به، والثقة به والاعتماد عليه، وأن يكون راضيا بكل ما يفعله به.(49/231)
والرضا بنبيه رسولا يتضمن كمال الانقياد له.
أما الرضا بدينه فإنه يتضمن الرضا بحكمه وامتثال أمره والانتهاء عن نهيه رضا كاملا.
والرضا بالله ربا فرض ومن لم يرض بربه لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال.
وقال ابن تيمية: (المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل، ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية، وقال بشر الحافي: يقول أحدهم توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به) (1) .
وقد وردت نصوص شرعية عديدة في الرضا ومنها:
قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (2) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (3) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (4) {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني
__________
(1) تهذيب مدارج السالكين ص (363 - 381) .
(2) سورة الفجر الآية 27
(3) سورة الفجر الآية 28
(4) سورة الفجر الآية 29
(5) سورة الفجر الآية 30(49/232)
ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به (1) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا (2) » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس (3) » .
وللرضا ثمرات عديدة تعود على الراضي.
ثمرات الرضا:
الرضا يوجب للراضي الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه، وقراره، وينزل على العبد المتوكل السكينة التي لا أنفع له منها.
كما أنه يفرغ قلبه ويقلل همه وغمه، فيتفرغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها.
__________
(1) صحيح البخاري (3 \ 48) كتاب (التهجد) رقم (1162) ، والترمذي في (جامعه) كتاب (الوتر) (18) ، وابن ماجه في (السنن) كتاب (إقامة الصلاة) (188) .
(2) أخرجه البخاري في (الصحيح) كتاب (الاعتصام) ، ومسلم في (الصحيح) (1 \ 62) رقم (34) .
(3) رواه الترمذي في (الجامع) (4 \ 610) رقم (3414) من حديث عائشة، (صحيح الجامع) رقم (5973) .(49/233)
ومن ثمرات الرضا: الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى:
قال ابن القيم: (إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم (1) » توكل وتفويض.
أما قوله: «فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب (2) » . فإنه تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة، وتوسل بصفاته سبحانه والتي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون.
وأما سؤال العبد ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلا أو آجلا، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا، فهذا هو حاجته التي سألها، فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له فقال: «واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به (3) » .
فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها التوكل، والتفويض، قبل وقوع المقدور والرضا بعده وهو ثمرة التوكل، والتفويض علامة صحته، فإن لم يرض بما قضي له، فتفويضه معلول فاسد.
وهذا معنى قول بشر الحافي المتقدم: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1166) ، سنن الترمذي الصلاة (480) ، سنن النسائي النكاح (3253) ، سنن أبو داود الصلاة (1538) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1383) ، مسند أحمد بن حنبل (3/344) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1166) ، سنن الترمذي الصلاة (480) ، سنن النسائي النكاح (3253) ، سنن أبو داود الصلاة (1538) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1383) ، مسند أحمد بن حنبل (3/344) .
(3) صحيح البخاري الدعوات (6382) ، سنن الترمذي الصلاة (480) ، سنن النسائي النكاح (3253) ، سنن أبو داود الصلاة (1538) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1383) ، مسند أحمد بن حنبل (3/344) .(49/234)
وقول يحيى بن معاذ، وقد سئل متى يكون الرجل متوكلا؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلا) (1) .
وفي الختام أسأل الله أن يجعلنا من المتوكلين عليه حق التوكل ومن عباده المخلصين المقبولين، ومن أوليائه المقربين إنه سميع مجيب قريب، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله وحبيبه وخيرته من خلقه أفضل المتوكلين وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه. . آمين.
__________
(1) تهذيب مدارج السالكين ص (363 - 381) .(49/235)
صفحة فارغة(49/236)
القراءة الشاذة عند الأصوليين
وأثرها في اختلاف الفقهاء
للدكتور: علي بن سعد الضويحي
المقدمة:
الحمد لله الذي أنزل كتابه بالحق، فجعله نبراسا ومنهاجا، والصلاة والسلام على نبيه المبعوث رحمة للعالمين وسراجا، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين اشتغلوا بالعلم فجعلوه لتحقيق رضوان ربهم تعالى سلما ومعراجا.
أما بعد:
فإن من أعظم ما صرفت فيه الأوقات، وأكرم ما جندت له الطاقات، ما يخدم البحوث المتعلقة بكتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ لأنهما مصدرا التشريع، وإليهما المرجع في الأحكام الشرعية أصولا وفروعا.
ومن هذه البحوث (القراءة الشاذة) التي خرجت عما يثبت به القرآن الكريم وهو " التواتر ". ولخروجها عن كونها قرآنا(49/237)
لعدم ثبوتها بطريق التواتر اختلف علماء أصول الفقه الأجلاء في الاحتجاج بها في إثبات الأحكام الشرعية.
وبذلك تكون (القراءة الشاذة) دليلا من أدلة أصول الفقه المختلف في الاحتجاج بها عند الأصوليين من جهة قبولهم لها أو عدولهم عنها.
ولأهمية هذا الموضوع الأصولي الذي هو بأمس الحاجة إلى إيضاح وتجلية، فقد استعنت الله تبارك وتعالى على الكتابة فيه، رغم قلة العلم وضعف العزيمة، فإن كانت كتابتي فيه صوابا، فذلك فضل الله تعالى وتوفيقه، وله سبحانه الشكر على التسديد. وإن كانت خطأ، فذلك تسويل نفسي والشيطان، وله تعالى الحمد على كل حال.(49/238)
أسباب اختيار الموضوع:
والذي دفعني لاختيار هذا الموضوع الأسباب التالية:
1 - تعلقه بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين هما أجل العلوم وأشرفها.
2 - بناء بعض الفروع الفقهية على الخلاف في ثبوت حجيته.
3 - مساعدة طلاب العلم وبخاصة المهتمين بدراسة علم أصول الفقه على الإحاطة ولو بقدر يسير بهذا الموضوع توفيرا للوقت والجهد.(49/238)
منهج البحث:
وقد سلكت في هذا البحث منهجا علميا يرتكز على الأسس التالية:
1 - تتبع ما ذكره الأصوليون حول هذا الموضوع، ومحاولة عرضه بأسلوب واضح، مع الاختصار قدر الإمكان بغية تقريب المسألة بعيدا عن الغموض والتطويل.
2 - عزو كل آية كريمة إلى موضعها من السور في كتاب الله تعالى.
3 - تخريج الأحاديث وبيان درجتها إذا لم تكن في الصحيحين.(49/239)
خطة البحث:
وخطة هذا البحث انتظمت في مقدمة، وسبعة مباحث، وخاتمة.
أولا: (المقدمة) واشتملت على الأمور التالية:
1 - أسباب اختيار الموضوع.
2 - منهج البحث.
3 - خطة البحث.
ثانيا: (المباحث) وبيانها كالتالي:
المبحث الأولى: (تعريف القراءة الشاذة) .
المبحث الثاني: (ضابط ما شذ من القراءات) .(49/239)
المبحث الثالث: (هل تسمى القراءة الشاذة قرآنا؟) .
المبحث الرابع: (الموقف ممن قرأ بالشاذ في الصلاة وغيرها) .
المبحث الخامس: (الاحتجاج بالقراءة الشاذة في الأحكام) .
المبحث السادس: (شروط العمل بالقراءة الشاذة وتنزيلها منزلة خبر الواحد) .
المبحث السابع: (ثمرة الخلاف في الاحتجاج بالقراءة الشاذة) .
ثالثا: (الخاتمة) وستشتمل على نتائج البحث.
وأسأل الله الرحمن السلامة من زلة القلم وهفوة اللسان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(49/240)
المبحث الأول: (تعريف القراءة الشاذة) :
لا بد من البدء بتعريف (القراءة الشاذة) قبل الدخول في بحث مسائلها، إذ معرفة الشيء فرع عن تصوره.
أولا: (تعريفها لغة) :
أ - تعريف (القراءة) :
القراءة لغة: بمعنى (الجمع) وكل شيء جمعته فقد قرأته، ولذلك سمي (القرآن) قرآنا؛ لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض (1) .
ب - تعريف (الشاذ) :
الشاذ لغة: يطلق على معان تدور في مجملها حول الانفراد، والندرة، والقلة، والافتراق.
يقال: (شذ الرجل) إذا انفرد عن أصحابه.
ويقال: (شذ الشيء) إذا ندر عن جمهوره.
ويقال: (جاء القوم شذاذا) أي: قلالا.
ويطلق لفظ (شذان الإبل وشذانها) على ما افترق منها (2) .
وبناء على ذلك فالقراءة الشاذة هي التي جمعت المنفرد، أو النادر، أو القليل، أو المفترق.
__________
(1) لسان العرب (1 \ 129) ، القاموس المحيط (1 \ 24) .
(2) لسان العرب (3 \ 494 - 495) .(49/241)
ثانيا: (تعريفها اصطلاحا) :
القراءة الشاذة في الاصطلاح: عكس القراءة المتواترة، وهي: ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضة متلقاة من الأمة بالقبول (1) .
وإذا تقرر ذلك فبين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ترابط وثيق، فإن المنقول من غير تواتر واستفاضة متلقاة من الأمة بالقبول يصدق عليه وصف الانفراد والندرة والقلة والافتراق.
والقراءة الشاذة إما أن يقال: إنها نادرة وقليلة بالنسبة لطرق ثبوتها وروايتها، إذ القرآن المتواتر ورد بطرق كثيرة متواترة.
أو يقال: إنها منفردة عن القراءات الثابتة بالتواتر.
__________
(1) انظر البحر المحيط (1 \ 474) ، البرهان في علوم القرآن (1 \ 332) .(49/242)
المبحث الثاني: (ضابط ما شذ من القراءات) :
اعلم أن القراءة المتواترة هي المشتملة على الأركان الثلاثة الآتية:
1 - مساعدة خط المصحف لها.
2 - صحة النقل فيها.
3 - مجيئها على الفصيح من لغة العرب.
قال الزركشي رحمه الله تعالى: (وقد سبق أن المتواتر: كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها ومجيئها(49/242)
على الفصيح من لغة العرب) (1) .
وإذا علم ضابط (القراءة المتواترة) فإنه يمكن الجزم بأن (القراءة الشاذة) هي ما اختل فيها أحد هذه الأركان الثلاثة.
قال الشيخ أبو شامة رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أركان (القراءة المتواترة) : (فمتى اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة) (2) . وذلك فيما زاد على القراءات العشر؛ لأن القراءات العشر كلها متواترة على القول الصحيح.
قال الزركشي رحمه الله تعالى: (والمعروف أنها - أي القراءة الشاذة - ما وراء السبع، والصواب ما وراء العشر، وهي ثلاثة أخر: يعقوب، وخلف، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع. فالقول بأن هذه الثلاثة غير متواترة ضعيف جدا) (3) .
وبناء على هذا فإن ما اختل فيه أحد أركان (القراءة المتواترة " مما زاد على القراءات العشر فهو (القراءة الشاذة) .
__________
(1) البحر المحيط (1 \ 474) .
(2) البحر المحيط (1 \ 474) .
(3) البحر المحيط (1 \ 474) .(49/243)
المبحث الثالث: (هل تسمى القراءة الشاذة قرآنا؟) :
ذهب أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى أن (القراءة الشاذة) لا تسمى قرآنا، وذلك لخروجها عن الوجه الذي ثبت به القرآن الكريم، وهو (التواتر) .(49/243)
قال الباجي رحمه الله تعالى: (القرآن لا يثبت إلا بالخبر المتواتر، وأما خبر الآحاد فلا يثبت به قرآن) (1) .
وقال الآمدي رحمه الله تعالى: (وأما ما اختلفت به المصاحف فما كان من الآحاد فليس من القرآن، وما كان متواترا فهو منه) (2) .
وقال ابن الحاجب رحمه الله تعالى: (ما نقل آحادا فليس بقرآن، للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله) (3) .
قال أبو الثناء الأصفهاني في شرحه لكلام ابن الحاجب: (ما نقل آحادا ليس بقرآن، وذلك لأنا قاطعون بأن العادة تقضي بأن مثل هذا الكتاب الذي يكون هاديا للخلق، معجزا على وجه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله لم يقدروا عليه، يمتنع ألا يتواتر في تفاصيله، أي في أصله وأجزائه ووضعه وترتيبه ومحله، إذ الدواعي تتوفر على نقله إلى أن يصير شائعا مستفيضا متواترا، فما لم يبلغ إلى حد التواتر يقطع بأنه ليس من القرآن) (4) .
ونقل الزركشي رحمه الله تعالى عن إلكيا الطبري قوله:
(القراءة الشاذة مردودة لا يجوز إثباتها في المصحف، وهذا لا
__________
(1) المنتقى (4 \ 156) .
(2) الإحكام (1 \ 162) .
(3) شرح مختصر ابن الحاجب (1 \ 461) .
(4) بيان المختصر (1 \ 461) .(49/244)
خلاف فيه بين العلماء) (1) .
وقال ابن عبد الشكور رحمه الله تعالى: (ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا) (2) .
وقال عبد العلي الأنصاري رحمه الله تعالى ما مؤداه: (القراءة الشاذة ليست من القرآن اتفاقا) (3) .
وقد نقل الباجي رحمه الله تعالى الإجماع على المنع من كتابة ما عدا المتواتر في القرآن الكريم، فقال في معرض تعليقه على قول مولى عائشة رضي الله تعالى عنها: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: (وصلاة العصر) قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) » .
قال: (يقتضي أن يكون قبل جمع القرآن في مصحف، وقبل أن يجمع الناس على المصاحف التي كتب بها عثمان إلى
__________
(1) البحر المحيط (1 \ 475) .
(2) مسلم الثبوت (2 \ 9) .
(3) فواتح الرحموت (2 \ 9) .
(4) رواه مسلم في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) . (صحيح مسلم بشرح النووي 5 \ 129 - 130) .
(5) سورة البقرة الآية 238 (4) {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
(6) سورة البقرة الآية 238 (5) {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
(7) سورة البقرة الآية 238 (6) {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(49/245)
الأمصار؛ لأنه لم يكتب بعد ذلك من المصاحف إلا ما وقع الإجماع عليه وثبت بالخبر المتواتر أنه قرآن، فأما غير ذلك مما كان يكتب من معنى التفسير فأجمعوا على المنع منه) (1) .
ولو كان ما ثبت بغير الخبر المتواتر قرآنا لما أجمعوا على المنع من كتابته في القرآن الكريم.
وحيث إن (القراءة الشاذة) لا تسمى قرآنا فقد نقل الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى إجماع المسلمين على عدم جواز القراءة بالشاذ، وأنه لا يصلى خلف من يقرأ به فقال: (وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلا قوم شذوا لا يعرج.
عليهم) (2) .
وقد استند النووي رحمه الله تعالى على نقل ابن عبد البر لإجماع المسلمين في ذلك، فذهب إلى عدم جواز القراءة بالشاذ، وعدم الصلاة خلف من يقرأ به فقال: (ونقل الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها) (3) .
__________
(1) المنتقى (1 \ 244) .
(2) التمهيد (8 \ 293) .
(3) المجموع (3 \ 392) .(49/246)
وكذلك نقل ابن حزم رحمه الله تعالى الإجماع على عدم جواز القراءة بالشاذ، وعدم جواز كتابتها في المصحف، فقال في معرض رده على الذين احتجوا بقراءة عائشة رضي الله تعالى عنها: " والصلاة الوسطى وصلاة العصر ": (. . . ثم نقوله لهم: من العجب احتجاجكم بهذه الزيادة التي أنتم مجمعون معنا على أنها لا يحل لأحد أن يقرأ بها، ولا أن يكتبها في مصحفه) (1) .
__________
(1) المحلى (4 \ 255) .(49/247)
مناقشة حكاية الإجماع:
ما ذكر من الإجماع على أن (القراءة الشاذة) ليست من القرآن، وهو ما حكاه إلكيا الطبري، وعبد العلي الأنصاري، والباجي رحمهم الله تعالى.
وكذلك ما نقل من الإجماع على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ ولا يصلى خلف من يقرأ به، وهو ما حكاه العلامة ابن عبد البر والعلامة ابن حزم رحمهما الله تعالى، محل نظر؛ وذلك لأن بعض أهل العلم - كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ثمرة الخلاف - أجازوا قراءة الشاذ في الصلاة، وأفتوا بصحة الصلاة بتلك القراءة. وهذا يقتضي أن تكون (القراءة الشاذة) قرآنا عندهم، إذ لو لم تكن قرآنا لما أجازوا قراءتها في الصلاة، ولما صححوا الصلاة بها، ضرورة أنهم لا يصححون الصلاة بقراءة غير القرآن.(49/247)
ولعل الذين حكوا الإجماع على أن (القراءة الشاذة) ليست من القرآن، ولا تصح الصلاة بها، ربما اعتبروا قول الأكثر إجماعا، إذ الأكثر من أهل العلم ذهب إلى عدم اعتبار (القراءة الشاذة) قرآنا، وأنه لا تجوز قراءتها في الصلاة ولا يصلى خلف من يقرأ بها.(49/248)
المبحث الرابع: (الموقف ممن قرأ بالشاذ في الصلاة وغيرها) :
إذا كانت (القراءة الشاذة) لا تعد من القرآن بناء على ما ذهب إليه أكثر العلماء رحمهم الله تعالى، فما الموقف ممن قرأ بها في الصلاة وغيرها؟
قال ابن الحاجب رحمه الله تعالى: (وإذا قرأ بالقراءة الشاذة، فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به وأمر بتركها، وإن كان عالما أدب بشرطه، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك) (1) .
وقال النووي رحمه الله تعالى: (وأما الشاذة فليست متواترة. فلو خالف وقرأ بالشاذة أنكر عليه قراءتها في الصلاة أو غيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ. . . قال العلماء: فمن قرأ بالشاذ إن كان جاهلا به أو بتحريمه عرف ذلك، فإن عاد إليه بعد ذلك، أو كان عالما به عزر تعزيرا بليغا
__________
(1) البرهان في علوم القرآن (1 \ 333) .(49/248)
إلى أن ينتهي عن ذلك، ويجب على كل مكلف قادر على الإنكار أن ينكر عليه) (1) .
__________
(1) المجموع (3 \ 392) .(49/249)
المبحث الخامس: (الاحتجاج بالقراءة الشاذة في الأحكام) :
علمنا فيما سبق أن أكثر أهل العلم يرون أن (القراءة الشاذة) لا تسمى قرآنا، لعدم ثبوتها بالوجه الذي ثبت به القرآن الكريم وهو التواتر.
وإذا كانت لا تسمى قرآنا بناء على هذا الرأي الصادر من أكثر علماء الأمة، فهل تثبت بها الأحكام الشرعية بتنزيلها منزلة خبر الواحد المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون بذلك حجة شرعية، أو أنها ليست كذلك فلا تنهض لدرجة الاحتجاج بها؟
وللإجابة على هذا التساؤل أقول:
اختلف الأصوليون رحمهم الله تعالى في الاحتجاج بالقراءة الشاذة في الأحكام الشرعية على قولين:
القول الأول: أن القراءة الشاذة ليست بحجة في الأحكام الشرعية، لعدم ثبوتها عندهم قرآنا ولا خبرا.
وذهب إلى هذا القول بعض الأصوليين وعلى رأسهم؛ الجويني، والغزالي، والآمدي رحمهم الله تعالى.(49/249)
قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله تعالى: (ظاهر مذهب الشافعي: أن القراءة الشاذة التي لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها، ولا تنزل منزلة الخبر الذي ينقله آحاد من الثقات) (1) .
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: (القراءة الشاذة المتضمنة لزيادة في القرآن مردودة، كقراءة ابن مسعود في آية كفارة اليمين: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (2) متتابعات) (3) .
وقال الآمدي رحمه الله تعالى: (اتفقوا على أن ما نقل إلينا من القرآن نقلا متواترا، وعلمنا أنه من القرآن أنه حجة.
واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحادا كمصحف ابن مسعود وغيره: أنه هل يكون حجة أم لا؟ فنفاه الشافعي، وأثبته أبو حنيفة. . . والمختار إنما هو مذهب الشافعي) (4) .
والإمام ابن حزم رحمه الله تعالى بعد أن حكى الإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ بالقراءة الشاذة، ولا أن يكتبها في المصحف، قال: (وفي هذا بيان أنها روايات لا تقوم بها حجة. وكل ما كان عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا
__________
(1) البرهان (1 \ 666) .
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) المنخول ص (281) .
(4) الإحكام (1 \ 160) .(49/250)
حجة فيه) (1) .
القول الثاني: أن القراءة الشاذة حجة في الأحكام الشرعية.
وذهب إلى هذا القول بعض الأصوليين، ومنهم السرخسي، وأمير باد شاه، وابن قدامة، والطوفي، وابن اللحام، وأبو الحسين البصري.
قال السرخسي رحمه الله تعالى: (فإن قيل: فقد أثبتم بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " كونه قرآنا في حق العمل به، ولم يوجد فيه النقل المتواتر. . .
قلنا: نحن ما أثبتنا بقراءة ابن مسعود كون تلك الزيادة قرآنا، وإنما جعلنا ذلك بمنزلة خبر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمنا أنه ما قرأ بها إلا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبره مقبولة في وجوب العمل به) (2) .
وقال أمير باد شاه رحمه الله تعالى: (القراءة الشاذة حجة ظنية) (3) .
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (فأما ما نقل نقلا غبر متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " فقد قال قوم: ليس بحجة. . . والصحيح: أنه
__________
(1) المحلى (4 \ 255) .
(2) أصول السرخسي (1 \ 281) .
(3) تيسير التحرير (3 \ 9) .(49/251)
حجة) (1) .
وقد أشار رحمه الله تعالى إلى كون الشاذ قرآنا أو خبرا فقال في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الواردة بزيادة " متتابعات ": (وهذا إن كان قرآنا فهو حجة؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن لم يكن قرآنا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . وعلى كلا التقديرين فهو حجة يجب المصير إليه) (2) .
وقال الطوفي رحمه الله تعالى: (المنقول آحادا نحو: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " حجة عندنا وعند أبي حنيفة) (3) .
وقال ابن اللحام رحمه الله تعالى: (القراءة الشاذة كقراءة ابن مسعود في كفارة اليمين: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " هل هي حجة أم لا؟
فمذهبنا ومذهب أبي حنيفة: أنها حجة يحتج بها) (4) .
وقال أبو الحسين البصري رحمه الله تعالى: (القرآن المنقول بالآحاد؛ إما أن يظهر فيه الإعجاز، وإما ألا يظهر فيه الإعجاز.
فإن لم يظهر فيه الإعجاز جاز أن نعمل بما تضمنه من عمل
__________
(1) روضة الناظر ص (63) .
(2) المغني (13 \ 529) .
(3) البلبل ص (46) ، شرح مختصر الروضة (2 \ 25) .
(4) القواعد والفوائد الأصولية ص (155) .(49/252)
إذا نقل إلينا بالآحاد، ولهذا نعمل بمثل ما ينقل من قراءة عبد الله بن مسعود رحمه الله.
وما يظهر فيه الإعجاز فهو حجة للنبوة، ولا يكون حجة إلا وقد علم أنه لم يعارض في عصر النبي عليه السلام مع سماع أهل العصر له، ولا يعلم ذلك إلا وقد تواتر نقل ظهوره في ذلك العصر) (1) .
__________
(1) المعتمد (1 \ 104) .(49/253)
أدلة الفريقين:
أولا: أدلة الفريق الأول القائلين بأن القراءة الشاذة ليست حجة في الأحكام الشرعية.
أ - وقد استدلوا على أنها ليست بقرآن بثلاثة أدلة:
الدليل الأولى: أن القرآن قاعدة الإسلام وقطب الشريعة وإليه رجوع جميع الأصول، ولا أمر في الدين أعظم منه، وكل ما يجل خطره ويعظم وقعه لا سيما من الأمور الدينية، فأصحاب الأديان يتناهون في نقله وحفظه، ولا يسوغ في اطراد الاعتياد رجوع الأمر فيه إلى نقل الآحاد ما دامت الدواعي متوفرة والنفوس إلى ضبط الدين متشوفة (1) .
وخلاصة هذا الدليل: أن الدواعي متوافرة على نقل القرآن الكريم لعظم منزلته في الشرع، ولو كانت القراءة الشاذة منه
__________
(1) البرهان (1 \ 667) .(49/253)
لاستفاض نقلها وتواتر.
الدليل الثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه على ما بين الدفتين واطرحوا ما عداه، وكان ذلك عن اتفاق منهم.
وكل زيادة لا تحويها الأم ولا تشتمل عليها الدفتان فهي غير معدودة في القرآن (1) .
الدليل الثالث: الراوي لما نقل آحادا، إذا كان واحدا؛ إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ قطعا؛ لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم، وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به.
وإن لم يذكره على أنه قرآن؟ فقد تردد بين أن يكون خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن يكون ذلك مذهبا له، فلا يكون حجة (2) .
(ب) واستدلوا على أن القراءة الشاذة لا تنزل منزلة الخبر: بأن الناقل للقراءة الشاذة نقلها على أنها قرآن ولم ينقلها على أنها خبر، والقرآن لا يثبت بهذا الطريق لعدم التواتر فيه، وإذا انتفى كونها قرآنا انتفى كونها خبرا.
__________
(1) البرهان (1 \ 668) ، المنخول ص (282، 283) .
(2) المستصفى (1 \ 102) ، الإحكام (1 \ 160) .(49/254)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (مذهبنا أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع، وإذا لم يثبت قرآنا لا يثبت خبرا) (1) .
ثانيا: أدلة الفريق الثاني القائلين بأن القراءة الشاذة حجة في الأحكام الشرعية:
وقد استدلوا لذلك فقالوا: إن المنقول بطريق الآحاد؛ إما أن يكون قرآنا، أو خبرا، وكلاهما موجب للعمل؛ لأنه لا يخرج عن كونه مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم ومرويا عنه، فيكون حجة كيفما كان.
وخلاصة هذا الدليل: أن القراءة الشاذة منقول عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب قبوله كسائر منقولاته (2) .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى بعد سياقه للحديث الذي رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا " فامضوا إلى ذكر الله ".
وذلك في قوله الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (5 \ 130 - 131) .
(2) روضة الناظر ص (63) ، البلبل ص (46) ، شرح الكوكب المنير (2 \ 139) ، تيسير التحرير (3 \ 9) .
(3) سورة الجمعة الآية 9(49/255)
قال: (وفي هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه العلماء من الاحتجاج بما ليس في مصحف عثمان على جهة التفسير، فكلهم يفعل ذلك ويفسر به مجملا من القرآن ومعنى مستغلقا في مصحف عثمان، وإن لم يقطع عليه بأنه كتاب الله، كما يفعل بالسنن الواردة بنقل الآحاد العدول وإن لم يقطع على منعها، وقد كان ابن مسعود يقرؤها كما كان يقرؤها عمر: " فامضوا إلى ذكر الله "، وكان ابن مسعود يقول: لو قرأتها: فاسعوا إلى ذكر الله لسعيت حتى يسقط ردائي " (1) .
الترجيح:
مما سبق عرضه وبيانه يترجح لدي في هذه المسألة مذهب القائلين بأن (القراءة الشاذة) حجة في الأحكام الشرعية، وذلك لسببين:
السبب الأول: قوة دليلهم لأنه يعتمد أساسا على عدالة الناقل لتلك القراءة، والناقل لها صحابي جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم حريصون على حفظ الشريعة، وبعيدون عن التقول فيها دون مستند شرعي فما نقلوه لنا من ذلك لا يخرج عن كونه قرآنا أو خبرا، وكلاهما حجة في
__________
(1) الاستذكار (2 \ 296) .(49/256)
إثبات الأحكام الشرعية.
السبب الثاني: ضعف ما استدل به القائلون بأن (القراءة الشاذة) ليست حجة في الأحكام الشرعية، ويظهر ضعف تلك الأدلة من خلال المناقشة التالية:
أولا: يناقشون على أدلتهم التي أقاموها على أن (القراءة الشاذة) ليست بقرآن، فلا تكون حجة في بناء الأحكام، بما يلي:
1 - يناقشون على دليلهم الأول والثاني المبنيين على عدم استفاضة نقل القراءة الشاذة، ونقل القراءة الشاذة، وعلى اطراح الصحابة رضوان الله تعالى عليهم للخارج على ما بين الدفتين:
بأنا نسلم لكم أن (القراءة الشاذة) لا تثبت قرآنا لما ذكرتموه، لكنه لا يلزم من عدم ثبوت قرآنيتها عدم ثبوت كونها خبرا صحيحا منقولا، وإذا لم يلزم ذلك فإنها حجة ظنية تثبت بها الأحكام الشرعية لعدالة ناقلها (1) .
2 - ويناقشون على دليلهما الثالث الذي قالوا فيه: إن كان الناقل نسب تلك القراءة إلى القرآن فهو خطأ، وإن لم ينسبها إليه تردد نقله لها بين أن يكون خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن يكون مذهبا له، يناقشون عليه من وجهين:
الوجه الأول: لو سلمنا لكم أن نقل الصحابي له قرآنا خطأ، فلا يضرنا ذلك؛ لأنه إنما يلزم منه أنه ليس بقرآن، لا أنه
__________
(1) روضة الناظر ص (63) ، البلبل ص (46) ، تيسير التحرير (3 \ 9) .(49/257)
ليس بخبر " لعدالة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحريهم فيما ينقلونه. وإذا ثبت أنه خبر مرفوع كان كافيا في العمل والاحتجاج.
الوجه الثاني: أن نسبة الصحابي رأيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذب وافتراء لا يليق به، ولا يجوز ظن مثل هذا بالصحابة رضي الله تعالى عنهم مع استفاضة عدالتهم وتنزههم عن الكذب وبخاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: وأما ما استدلوا به على أن (القراءة الشاذة) لا تنزل منزلة الخبر، بحجة أن الناقل لها لم ينقلها إلا على كونها قرآنا.
فيناقشون على ذلك: بأن الناقل إنما نقل لنا تلك القراءة سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم. وكونه يظن ذلك قرآنا فنقله على أنه قرآن لا يخرجه عن كونه خبرا في الاحتجاج به لتحقق السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اطرح كون ذلك قرآنا ثبت كونه خبرا منقولا من عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون حجة في العمل.(49/258)
المبحث السادس: (شروط العمل بالقراءة الشاذة وتنزيلها منزلة الخبر) :
الذين يحتجون بالقراءة الشاذة وينزلونها منزلة خبر الواحد لا يقولون بها مطلقا، وإنما يذهبون إليها وفق شروط معينة إذا توافرت في تلك القراءة كانت محل الأخذ في الاعتبار عندهم، وإلا صرفوا النظر عنها تمسكا بغيرها.
ولعل هذا المبحث يلقي الضوء على هذه الشروط بشيء من الوضوح والإيجاز من خلال المطالب التالية:
المطلب الأولى: شروط العمل عند الأحناف:
الأحناف رحمهم الله تعالى يشترطون للعمل بالقراءة الشاذة أن تكون مشهورة، ولذلك لم يعملوا بقراءة أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: " فعدة من أيام أخر متتابعات ". لأنها قراءة شاذة غير مشهورة، واحتجوا بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ". لأنها كانت مشهورة في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى (1) .
قال التفتازاني رحمه الله تعالى: (والقراءة الشاذة لم تنقل إلينا بطريق التواتر، بل بطريق الآحاد كما اختص بمصحف أبي رضي الله عنه، أو الشهرة كما اختص بمصحف ابن مسعود رضي الله عنه) (2) :
__________
(1) البحر المحيط (1 \ 476) .
(2) التلويح على التوضيح (1 \ 27)(49/259)
وقال النسفي. رحمه الله تعالى. (. . . ولهذا لم يشترط التتابع في قضاء رمضان لإفضائه إلى الزيادة على النص بخبر الواحد، بخلاف قراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات "؛ لأنها مشهورة، فيجوز الزيادة بها بلا خلاف، إذ المشهور آحاد الأصل متواتر الفرع) (1) .
وعلى هذا فالقراءة الشاذة عندهم إن كانت مشهورة فإنها حجة، ويجوز الزيادة بها على ما في القرآن الكريم، وإن كانت غير مشهورة فليست بحجة، ولا يجوز الزيادة بها على ما في القرآن الكريم لانتفاء التواتر في أصلها وفرعها.
__________
(1) كشف الأسرار، (1 \ 12) .(49/260)
المطلب الثاني: شروط العمل عند المالكية:
المالكية رحمهم الله تعالى متفقون على عدم العمل بالقراءة الشاذة إذا لم يصرح الراوي بسماعها من النبي صلى الله عليه(49/260)
وسلم، أما إذا صرح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم فهم مختلفون في الاحتجاج بها على قولين:
1 - فريق منهم ذهب إلى عدم الاحتجاج بها كابن العربي رحمه الله تعالى، حيث قال: (والقراءة الشاذة لا ينبني عليها حكم؛ لأنه لم يثبت لها أصل) (1) .
وقد صرح بأن الصحيح عدم وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، وأن قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليست بنص يحتج به، فقال: (وقال مالك والشافعي: " يجزئ التفريق ". وهو الصحيح، إذ التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص، وقد عدما في مسألتنا) (2) .
2 - وفريق آخر منهم ذهب إلى الاحتجاج بها، كالقرطبي رحمه الله تعالى، حيث اعتد بزيادة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه " متتابعات " وجعلها مقيدة لمطلق قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (3)
وفي ذلك يقول: (قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (4) قرأها ابن مسعود: " متتابعات " فيقيد بها المطلق، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره
__________
(1) أحكام القرآن (1 \ 79) .
(2) أحكام القرآن (2 \ 654) .
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة المائدة الآية 89(49/261)
المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار، واعتبارا بقراءة عبد الله) (1) .
ومن هذا يتبين أن شرط العمل بالقراءة الشاذة عند من عمل بها من المالكية أن يصرح الراوي بسماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا.
قال الزركشي رحمه الله تعالى: (وجعل القرطبي محل الخلاف بين الحنفية وغيرهم فيما إذا لم يصرح الراوي بسماعها. . .، فأما لو صرح الراوي بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفت المالكية في العمل بها على قولين، والأولى الاحتجاج بها تنزيلا لها منزلة الخبر) (2) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (6 \ 183)
(2) البحر المحيط (1 \ 478) .(49/262)
المطلب الثالث: شروط العمل عند الشافعية:
شرط العمل بالقراءة الشاذة عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ألا تخالف رسم المصحف، وألا يوجد غيرها مما هو أقوى منها، فإن خالفت رسم المصحف، أو وجد ما هو أقوى منها عدل عن الاحتجاج بها؟ ولذلك لم يحتج رحمه الله تعالى بقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "وعلى الذين يطيقونه فدية" مع أن مذهبه وجوب الفدية.
وعدوله عن الاحتجاج بهذه القراءة إما لمخالفتها رسم(49/262)
المصحف، وإما لوجود ما هو أقوى منها، فإن الله تعالى قد خير أولا بين الصيام وبين الإفطار والفدية ثم حتم الصيام بقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) . وبقي من لم يطق على حكم الأصل في جواز الفطر ووجوب الفدية (2) .
وكذلك لم يحتج بقراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " في صيام كفارة اليمين، لوجود ما يعارضها وهو قوله صلى الله عليه وسلم في قضاء رمضان: «إن شاء فرق وإن شاء تابع (3) » .
ومن أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى من اشترط شرطا آخر، وهو أن يقرأها قارئها على أنها قرآن لا على أنها تفسير، فإن قرأها على أنها تفسير لم تنهض للاحتجاج بها.
وممن ذهب إلى ذلك الشيرازي رحمه الله تعالى كما نقل ذلك عنه الزركشي رحمه الله تعالى حيث قال: (ويخرج من كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي شرط آخر، فإنه قال في كتابه
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) البحر المحيط (1 \ 477) .
(3) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: '' قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع ''. رواه الدارقطني في كتاب الصيام 2 \ 193. وهذا الحديث تفرد بوصله سفيان بن بشر رحمه الله تعالى. وقد صحح الحديث ابن الجوزي فقال: (ما علمنا أحدا طعن في سفيان بن بشر) . راجع نيل الأوطار (4 \ 232 - 233) .(49/263)
" التذكرة في الخلاف ": القراءة الشاذة إنما تلحق بخبر الواحد إذا قرأها قارئها على أنها قرآن، فإن ذكرها على أنها تفسير فلا، كقراءة ابن عمر: " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها "، وقراءة أبي بن كعب: " فعدة من أيام أخر متتابعات ") (1) . ومنهم من اشترط أن يضيفها القارئ إلى القرآن، أو إلى السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يفعل ذلك فإنها لا تنزل منزلة الخبر في الاحتجاج.
وممن ذهب إلى ذلك " الماوردي " رحمه الله تعالى كما نقل ذلك عنه الزركشي حيث قال: (وقال الماوردي في موضع آخر: إن أضافها القارئ إلى التنزيل أو إلى سماع من النبي صلى الله عليه وسلم أجريت مجرى خبر الواحد، وإلا فهي جارية مجرى التأويل) (2) .
__________
(1) البحر المحيط (1 \ 477) .
(2) البحر المحيط (1 \ 478) .(49/264)
المطلب الرابع: شروط العمل عند الحنابلة:
الحنابلة رحمهم الله تعالى يشترطون للعمل بالقراءة الشاذة صحة إسنادها كما كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى والأئمة من قبله يشترطون ذلك، وهذا ما صرح به الفتوحي رحمه الله تعالى حيث قال ما مؤداه: (وما صح مما لم يتواتر حجة عند أحمد(49/264)
وأبي حنيفة والشافعي) (1) . فإذا صح إسناد القراءة الشاذة بنقل العدل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت حجة في العمل عندهم سواء صرح بكونها قرآنا أو لم يصرح، وهذا ما ترجمه الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى حين قال في مسألة " اشتراط التتابع في صيام كفارة اليمين ": (ولنا: أن في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " كذلك ذكره الإمام أحمد في " التفسير " عن جماعة، وهذا إن كان قرآنا، فهو حجة؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن لم يكن قرآنا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يحتمل أن يكونا (2) سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا فظناه قرآنا، فثبت له رتبة الخبر، ولا ينقص عن درجة تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية، وعلى كلا التقديرين فهو حجة، يجب المصير إليه) (3) .
وقال في مسألة: " قطع يد السارق اليمنى ": (لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع، وفي قراءة ابن مسعود: " فاقطعوا أيمانهما " وهذا إن كان قراءة وإلا فهو تفسير) (4) .
__________
(1) شرح الكوكب المنير (2 \ 138) .
(2) أي: أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما.
(3) المغني (13 \ 529) .
(4) المغني (12 \ 440) .(49/265)
وبعد أن تبينت لنا شرائط العلم بالقراءة الشاذة، وتنزيلها منزلة خبر الواحد عند القائلين بالاحتجاج بها، فإن الجامع لهذه الشرائط كلها: أن القراءة الشاذة لا تنزل منزلة خبر الواحد في الاحتجاج إلا إذا توافر فيها ثلاثة أركان:
الركن الأول: صحة الإسناد.
الركن الثاني: موافقة الوجه الإعرابي.
الركن الثالث: موافقة المعنى العربي.
وهذا ما صرح به الشوكاني رحمه الله تعالى حيث قال:
(والحاصل أن ما اشتمل عليه المصحف الشريف واتفق عليه القراء المشهورون فهو قرآن، وما اختلفوا فيه فإن احتمل رسم المصحف قراءة كل واحد من المختلفين مع مطابقتها للوجه الإعرابي والمعنى العربي فهي قرآن كلها. وإن احتمل بعضها دون بعض، فإن صح إسناد ما لم يحتمله وكانت موافقة للوجه الإعرابي والمعنى العربي فهي الشاذة ولها حكم أخبار الآحاد في الدلالة على مدلولها، وسواء كانت من القراءات السبع أو من غيرها.
وأما ما لم يصح إسناده مما لم يحتمله الرسم فليس بقرآن ولا منزل منزلة أخبار الآحاد.
أما انتفاء كونه قرآنا فظاهر، وأما انتفاء تنزيله منزلة أخبار الآحاد فلعدم صحة إسناده وإن وافق المعنى العربي والوجه الإعرابي، فلا اعتبار بمجرد الموافقة مع عدم صحة الإسناد) (1) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص (30، 31) .(49/266)
المبحث السابع:. ثمرة الخلاف في الاحتجاج بالقراءة الشاذة:
بعد أن عرفنا موقف الأصوليين من (القراءة الشاذة) من جهة ثبوت كونها حجة شرعية أو عدم ثبوتها، والذي أسفر عن مذهبين مشهورين أحدهما بجواز الاحتجاج بها، والآخر بعدمه.
فإن الخلاف فيها ليس خلافا لفظيا لا تنهض به ثمرة عملية تتعلق بمسائل الفقه، وإنما هو خلاف معنوي ظهرت فائدته في بعض الفروع الفقهية التي جال فيها الفقهاء قبولا لتلك القراءة أو عدولا عنها.
ولعل من المناسب هنا قبل الشروع في بيان ثمرة الخلاف أن نتعرف على موقف الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى من الاحتجاج بالقراءة الشاذة من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: موقف الإمام أبي حنيفة:
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يحتج بالقراءة الشاذة لا على أنها قرآن لعدم التواتر فيها، وإنما لكونها خبرا منقولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابي عدلي ثقة، كما ذكر ذلك السرخسي، ومحمد أمين فيما سبق.
ومن ثم ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى شرط التتابع في صيام كفارة اليمين احتجاجا بقراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ".(49/267)
قال الجويني رحمه الله تعالى: (وشرط أبو حنيفة التتابع، وتعلق بهذه القراءة) (1) .
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: (القراءة الشاذة المتضمنة لزيادة في القرآن مردودة كقراءة ابن مسعود في آية كفارة اليمين " فصيام ثلاثة أيام متتابعات "، فلا يشترط التتابع، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه فإنه قبله) (2) .
وقال الآمدي رحمه الله تعالى: (واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحادا. . . فنفاه الشافعي، وأثبته أبو حنيفة، وبنى عليه وجوب التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه من قوله: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ") (3) .
وقال الإسنوي رحمه الله تعالى: (وخالف أبو حنيفة رضي الله عنه فذهب إلى الاحتجاج بها، وبنى عليه وجوب التتابع في كفارة اليمين) (4) .
__________
(1) البرهان. (1 \ 667) .
(2) المنخول ص (281، 282) .
(3) الإحكام (1 \ 160) .
(4) التمهيد ص (142) .(49/268)
المطلب الثاني: موقف الإمام مالك:
الإمام مالك رحمه الله تعالى لا يحتج بالقراءة الشاذة في المشهور من مذهبه، ولذلك فإنه لم يوجب التتابع في قضاء(49/268)
رمضان، ولم يبن على قراءة أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: " فعدة من أيام أخر متتابعات ". .
إلا أنه كان يستحب التتابع، فقد أثر عنه رحمه الله تعالى أنه قال فيمن فزق قضاء رمضان: (ليس عليه إعادة، وذلك يجزئ عنه، وأحب ذلك إلي أن يتابعه) (1) .
وكذلك فإنه لم يوجب التتابع في صيام كفارة اليمين، ولم يبن على قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وإنما أجاز التفريق.
وكذلك فإنه يرى أن قليل الرضاع وكثيره يحرم إذا كان في الحولين، فقد أثر عنه رحمه الله تعالى أنه قال: (الرضاعة قليلها وكثيرها إذا كان في الحولين تحرم، فأما ما كان بعد الحولين فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئا، وإنما هو بمنزلة الطعام) (2) .
ولم يحتج في ذلك بقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان فيما أنزل من القرآن: " عشر رضعات معلومات يحرمن " ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن (3) » لأن هذا الذي تلته عائشة
__________
(1) الموطأ ص (206) .
(2) الموطأ ص (415) .
(3) رواه مسلم في (كتاب الرضاع) (10 \ 29) .(49/269)
رضي الله تعالى عنها ليس بقرآن يقرأ.(49/270)
المطلب الثالث: موقف الإمام الشافعي:
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يحتج بالقراءة الشاذة وينزلها منزلة الخبر المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذهب إلى تحديد عدد الرضعات بخمس أخذا بما روت عائشة رضي الله تعالى عنها، وقد نص على ذلك في " مختصر البويطي " حين قال: (ذكر الله الرضاع بلا توقيت، وروت عائشة التوقيت بخمس، وأخبرت أنه مما أنزل من القرآن، وهو إن لم يكن قرآنا فأقل حالاته أن يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن لا يأتي به غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأقضين بينكما بكتاب الله (1) » ، فحكمنا به على هذا، وليس هو قرآنا يقرأ) (2) .
وكذلك فقد نص رحمه الله تعالى على الاحتجاج بالقراءة الشاذة في كتابه " الأم " في تفسيره للأقراء بأنها: الأطهار، وذلك في قول الحق تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (3)
__________
(1) من حديث رواه البخاري في (كتاب الشروط) (3 \ 176) ، والترمذي في (أبواب الحدود) (2 \ 443) ، وابن ماجه في (كتاب الحدود) (2 \ 852) ، والدارمي في (كتاب الحدود) (2 \ 177) .
(2) البحر المحيط (1 \ 476) .
(3) سورة البقرة الآية 228(49/270)
حيث قال: (تلا النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن " أو " في قبل عدتهن ". . . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أن العدة الطهر دون الحيض، وقرأ: " فطلقوهن لقبل عدتهن " أن تطلق طاهرا؛ لأنها حينئذ تستقبل عدتها، ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض) (1) .
وما نسبه الغزالي، والآمدي رحمهما الله تعالى إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من عدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة وهم منهما، اعتمادا على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله تعالى حيث قال: (ظاهر مذهب الشافعي: أن القراءة الشاذة التي لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها، ولا تنزل منزلة الخبر الذي ينقله آحاد من الثقات) (2) .
وفي ذلك يقول الزركشي رحمه الله تعالى: (اعلم أن الآمدي نسب القول بأنها ليس بحجة إلى الشافعي، وكذا ادعى الأبياري في (شرح البرهان) أنه المشهور من مذهب مالك والشافعي، وتبعه ابن الحاجب، وكذلك النووي. . .، والموقع لهم في ذلك دعوى إمام الحرمين في (البرهان) أن ذلك ظاهر مذهب الشافعي. وتبعه أبو نصر بن القشيري، والغزالي في (المنخول) ، وإلكيا الطبري في (التلويح) ، وابن السمعاني في
__________
(1) الأم (5 \ 224) .
(2) البرهان 1 \ 666) .(49/271)
(القواطع) ، وغيرهم) (1) .
والسبب في نسبة هذا الوهم إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى نفيه اشتراط (التتابع) في صيام كفارة اليمين، كما ذكر ذلك إمام الحرمين رحمه الله تعالى حيث قال: (ولهذا نفى - أي الإمام الشافعي - التتابع، واشتراطه في صيام الأيام الثلاثة في كفارة اليمين، ولم ير الاحتجاج بما نقله الناقلون من قراءة ابن مسعود في قول الله تعالى: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " (2) .
وفي ذلك يقول الزركشي رحمه الله تعالى: (إن الحامل لهم على نسبة أنها ليست بحجة للشافعي عدم إيجابه التتابع في صوم كفارة اليمين مع علمه بقراءة ابن مسعود. وهو ممنوع) (3) .
وقد تعقب الإسنوي رحمه الله تعالى ما نسبه الآمدي وإمام الحرمين إلى الإمام الشافعي من القول بعدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة فقال: (والصحيح عند الآمدي وابن الحاجب: أنه لا يحتج بها، ونقله الآمدي عن الشافعي رضي الله عنه. وقال إمام الحرمين في البرهان: (إنه ظاهر مذهب الشافعي) . . . .
وما قالوه جميعه خلاف مذهب الشافعي، وخلاف قوله جمهور أصحابه، فقد نص الشافعي في موضعين من مختصر
__________
(1) البحر المحيط (1 \ 475) .
(2) البرهان (1 \ 666، 667) .
(3) البحر المحيط (1 \ 476) .(49/272)
البويطي على أنها حجة. ذكر ذلك في باب الرضاع، وفي باب تحريم الجمع، وجزم به الشيخ أبو حامد في الصيام وفي الرضاع، والماوردي في الموضعين أيضا، والقاضي أبو الطيب في موضعين من (تعليقته) أحدهما الصيام، والثاني في باب وجوب العمرة، والقاضي الحسين في الصيام، والمحاملي في الأيمان من كتابه المسمى (عدة المسافر وكفاية الحاضر) ، وابن يونس شارح (التنبيه) في كتاب الفرائض في الكلام على ميراث الأخ للأم، وجزم به الرافعي في باب حد السرقة.
والذي وقع للإمام (1) فقلده فيه النووي مستنده عدم إيجابه للتتابع في كفارة اليمين بالصوم، مع قراءة ابن مسعود السابقة. وهو وضع عجيب، فإن عدم الإيجاب يجوز أن يكون لعدم ثبوت ذلك عن الشافعي، أو لقيام معارض) (2) .
وحيث كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا يحتج في بعض المواضع بالقراءة الشاذة كما هو الحال بالنسبة لقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويحتج بها في أكثر المواضع، فقد أوجد ذلك نوعا من اللبس عند البعض في تبين موقف الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من القراءة الشاذة، ولذلك كان لا بد من تحرير مذهبه فيما يتعلق بالاحتجاج بها.
وقد تصدى لتحرير مذهب الإمام الشافعي في ذلك الزركشي
__________
(1) يعني به إمام الحرمين الجويني.
(2) التمهيد ص (141 - 143) .(49/273)
رحمه الله تعالى فقال: (إن هاهنا سؤالا، وهو أن يقال: إن كان مذهب الشافعي أنها حجة فهلا أوجب التتابع في صوم الكفارة اعتمادا على قراءة ابن مسعود " متتابعات "؟ وهلا قال في الصلاة الوسطى: إنها صلاة العصر اعتمادا على قراءة عائشة: " وصلاة العصر "؟ وإن كان مذهبه أنها ليست بحجة فكيف اعتمد في التحريم في الرضاع بخمس على حديث عائشة؟
وكيف قال: إن الأقراء هي الأطهار واعتمد في " الأم " (1) على أنه عليه الصلاة والسلام قرأ: " لقبل عدتهن "؟
والذي يفصل عن هذا الإشكال ألا يطلق القول في ذلك، بل يقال: لا يخلو إما أن تكون القراءة الشاذة وردت لبيان حكم أو لابتدائه.
فإن وردت لبيان حكم فهي عنده حجة كحديث عائشة في الرضاع، وقراءة ابن مسعود: " أيمانهما "، وقوله: " لقبل عدتهن ".
وإن وردت ابتداء حكم كقراءة ابن مسعود: " متتابعات " فليس بحجة. . .
أو يقال: القراءة الشاذة إما أن ترد تفسيرا، أو حكما.
__________
(1) انظر الأم (5 \ 224) .(49/274)
فإن وردت تفسيرا. فهي حجة كقراءة ابن مسعود: " أيمانهما "، وقوله: " وله أخ أو أخت من أم " (1) ، وقراءة عائشة: " والصلاة الوسطى صلاة العصر ".
وإن وردت حكما فلا يخلو: إما أن يعارضها دليل آخر أم لا. فإن عارضها فالعمل للدليل كقراءة ابن مسعود في صيام المتمتع: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات "، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إن شئت فتابع أو لا ".
وإن لم يعارضها دليل آخر فللشافعي قولان كوجوب التتابع في صوم الكفارة) (2) .
__________
(1) وهي قراءة سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه.
(2) البحر المحيط (1 \ 479) .(49/275)
المطلب الرابع: موقف الإمام أحمد:
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يحتج بالقراءة الشاذة، ولذلك فإن المذهب المنصوص عنه وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين استنادا إلى قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " (1) .
__________
(1) المغني (13 \ 528، 529) ، القواعد والفوائد الأصولية ص (156) .(49/275)
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في مسألة اشتراط التتابع في صيام كفارة اليمين: (ولنا: أن قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " كذلك ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة. . . .) (1) .
وقال ابن اللحام رحمه الله تعالى: (المذهب المنصوص عن الإمام أحمد: الوجوب) (2) . أي: وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين.
وحيث تبين لنا بجلاء موقف الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى من الاحتجاج بالقراءة الشاذة، فلنشرع الآن في بيان ثمرة الخلاف.
وسوف أقتصر في بيان تلك الثمرة على بعض المسائل الفقهية التي برز فيها الخلاف بشكل واضح، إذ المقصود التمثيل لا الحصر.
__________
(1) المغني (13 \ 529) .
(2) القواعد والفوائد الأصولية ص (156) .(49/276)
المسألة الأولى: حكم قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها:
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا تجوز قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها.
وإلى هذا القول ذهب الإمامان مالك وأحمد في إحدى(49/276)
الروايتين عنهما، وهو قول أكثر العلماء (1) .
قال الفتوحي رحمه الله تعالى: (وتكره قراءة ما صح من غير المتواتر. نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه) (2) .
ونقل الزركشي رحمه الله تعالى عن الشيخ السخاوي قوله: (ولا تجوز القراءة بشيء من الشواذ لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي ثبت به القرآن وهو المتواتر، وإن كان موافقا للعربية وخط المصحف؟ لأنه جاء من طريق الآحاد، وإن كانت نقلته ثقات) (3) .
وقال النووي رحمه الله تعالى: (قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنا، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر) (4) .
وقال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: (يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا واستفاض نقله بذلك وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع؛ لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول، فما لم يوجد فيه ذلك ما عدا العشرة فممنوع من
__________
(1) مجموع الفتاوى (13 \ 394) .
(2) شرح الكوكب المنير (2 \ 140) .
(3) البحر المحيط (1 \ 474، 475) .
(4) المجموع (3 \ 392) .(49/277)
القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة، وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك) (1) .
وقال ابن الحاجب رحمه الله تعالى: (لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها عالما بالعربية كان أو جاهلا) (2) .
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: (لا يحل لأحد أن يقرأ بها ولا أن يكتبها في مصحفه) (3) .
وإنما لم تجز قراءة الشاذ في الصلاة؛ لأنه ليس بقرآن وإنما هو جار مجرى أخبار الآحاد.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (. . . وإنما لم تجز القراءة به في الصلاة؟ لأن ما عدا مصحف عثمان فلا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد) (4) .
وحيث لا تجوز قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها عند أصحاب هذا القول فقد فرعوا على ذلك: عدم صحة الصلاة بتلك القراءة، وعدم جواز الصلاة خلف من يقرأ بها.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (من قرأ في صلاته
__________
(1) البرهان في علوم القرآن (1 \ 332) .
(2) المرجع السابق.
(3) المحلى (4 \ 255) .
(4) التمهيد (8 \ 292) .(49/278)
بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه) (1) .
وقال الفتوحي رحمه الله تعالى ما مؤداه: (ما ورد غير متواتر، وهو ما خالف مصحف عثمان ليس بقرآن، فلا تصح الصلاة به؛ لأن القرآن لا يكون إلا متواترا، وهذا غير متواتر، فلا يكون قرآنا، فلا تصح الصلاة به على الأصح) (2) .
وذكر الزركشي رحمه الله تعالى في بحره المحيط نقل الشاشي عن القاضي الحسين: أن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح (3) .
كما نقل عن الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه قال في فتاويه: (الصلاة بالقراءة الشاذة تحرم) (4) .
وقال السرخسي رحمه الله تعالى: (اعلم بأن الكتاب هو القرآن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المكتوب في دفات المصاحف، المنقول إلينا على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا، لأن ما دون المتواتر لا يبلغ درجة العيان ولا يثبت بمثله القرآن مطلقا، ولهذا قالت الأمة: لو صلى بكلمات تفرد بها ابن مسعود لم تجز صلاته؟ لأنه لم يوجد فيه النقل المتواتر،
__________
(1) التمهيد (8 \ 293) .
(2) شرح الكوكب المنير (2 \ 136) .
(3) البحر المحيط (1 \ 475) .
(4) المرجع السابق.(49/279)
وباب القرآن باب يقين وإحاطة، فلا يثبت بدون النقل المتواتر كونه قرآنا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر، فيكون مفسدا للصلاة) (1) .
القول الثاني: يجوز قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها:
وإلى هذا القول ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين عنه.
قال ابن وهب رحمه الله تعالى: (قيل لمالك: أترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب: " فامضوا إلى ذكر الله "؟
فقال: ذلك جائز. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر (2) » . . .
وقال مالك: لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا، وقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم كانت لهم مصاحف) (3) .
وقال ابن وهب رحمه الله تعالى: (أخبرني مالك بن أنس قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} (4) {طَعَامُ الْأَثِيمِ} (5) ، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود: طعام الفاجر. فقلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟
__________
(1) أصول السرخسي (1 \ 279، 280) .
(2) صحيح البخاري الخصومات (2419) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (818) ، سنن الترمذي القراءات (2943) ، سنن النسائي الافتتاح (938) ، سنن أبو داود الصلاة (1475) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) ، موطأ مالك النداء للصلاة (472) .
(3) التمهيد (8 \ 292) .
(4) سورة الدخان الآية 43
(5) سورة الدخان الآية 44(49/280)
قال: نعم أرى ذلك واسعا) (1) .
وأيضا فقد ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في إحدى الروايتين عنه، وذهب إليه بعض أصحابه وبعض الشافعية (2) .
واحتجوا لذلك: بأن الصحابة --رضي الله تعالى عنهم-- كانوا يقرؤون بالقراءة الشاذة في الصلاة.
وكان المسلمون يصلون خلف أصحاب هذه القراءات كالحسن البصري، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وغيرهم من أضرابهم، ولم ينكر ذلك أحد عليهم (3) .
ولو لم يروا جواز ذلك لما قرءوه في الصلاة.
وحيث جوز أصحاب هذا القول قراءة الشاذ في الصلاة وغيرها، فقد فرعوا على ذلك صحة الصلاة بالقراءة الشاذة.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام، وصحت في العربية، وصح سندها جازت القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقا، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله صلى الله
__________
(1) التمهيد (8 \ 292)
(2) مجموع الفتاوى (13 \ 394) ، شرح الكوكب المنير (2 \ 136 - 137)
(3) مجموع الفتاوى (13 \ 394) ، شرح الكوكب المنير (2 \ 137)(49/281)
عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال) (1) .
بيان الراجح في المسألة:
من خلال استعراض رأي الفريقين القائلين بجواز قراءة الشاذ وعدمه، يترجح لدي عدم جواز قراءة الشاذ وبخاصة في الصلاة؛ وذلك لأن القراءة الشاذة لا تسمى قرآنا على الأصح، وإنما هي منزلة منزلة الخبر فلا يحكم لها بأنها قرآن، ولا يجوز قراءة ما لم تثبت قراءته في الصلاة، ولا تصح الصلاة بتلك القراءة.
وما روي عن بعض الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أنهم كانوا يقرءون الشاذ في الصلاة لا يخرج عن أحد احتمالين:
الاحتمال الأول: أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل العرضة الأخيرة.
الاحتمال الثاني: أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل إجماعهم على المصحف العثماني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: (هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم- أن جبريل -عليه السلام- كان
__________
(1) إعلام الموقعين (4 \ 263) .(49/282)
يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين، والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف. أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة) (1) .
وما روي عن بعض التابعين رحمهم الله تعالى من أنهم كانوا يقرءون بالشاذ في الصلاة فذلك عن اجتهاد منهم قد قوبل باجتهاد آخر مخالف له.
__________
(1) مجموع الفتاوى (13 \ 395)(49/283)
المسألة الثانية: المراد بالصلاة الوسطى:
اختلفت آراء الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في المراد بالصلاة الوسطى الواردة في قول الحق تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) أهي صلاة العصر، أم صلاة الصبح، أم غيرهما؟
1 - فذهب الإمامان أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى إلى أنها العصر.
2 - وذهب الإمام مالك والشافعي رحمهما الله تعالى إلى أنها الصبح.
__________
(1) سورة البقرة الآية 238(49/283)
3 - وذهب بعضهم إلى أنها الظهر، ونقلوه عن زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبي سعيد الخدري، وعائشة -رضي الله تعالى عنهم-.
4 - وذهب قبيصة بن ذؤيب -رحمه الله تعالى- إلى أنها المغرب.
5 - وذهب آخرون إلى أنها العشاء.
6 - وقيل: هي الجمعة (1) .
واستدل القائلون بأنها " العصر " بالأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا (2) » .
ومما احتج به من ذهب إلى أنها غير العصر قراءة عائشة - رضي الله عنها- الشاذة: " والصلاة الوسطى وصلاة العصر ".
قال الباجي -رحمه الله تعالى-: (الأظهر بهذه الزيادة أن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر، وقد اختلف أهل العلم في الصلاة الوسطى، فالذي يقتضي ما أملته عائشة أنها غير صلاة العصر؛ لأنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى، ولا
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (5 \ 128 - 129) .
(2) رواه مسلم في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) (5 \ 128) ، وابن ماجه في (كتاب الصلاة) (1 \ 224) ، والبيهقي في كتاب الصلاة) (1 \ 459) ، وأحمد في (المسند) (2 \ 46) .(49/284)
يعطف الشيء على نفسه، وليس في هذه الزيادة تعيين للصلاة الوسطى) (1) .
وقال النووي -رحمه الله تعالى-: (هكذا هو في الروايات: " وصلاة العصر " بالواو، واستدل به بعض أصحابنا على أن الوسطى ليست العصر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة) (2) .
بيان الراجح في المسألة:
يترجح لدي في هذه المسألة أن الصلاة الوسطى: هي صلاة " العصر " كما ذكر ذلك الإمام النووي -رحمه الله تعالى- حيث قال بعد سرده لأقوال الفقهاء في المراد من الصلاة الوسطى: (والصحيح من هذه الأقوال قولان: العصر والصبح، وأصحهما العصر) (3) .
وسبب هذا الترجيح أمران:
الأمر الأول: ما رواه الإمام مسلم والبيهقي رحمهما الله تعالى بسنديهما عن البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه- قال: «نزلت: " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر ") . فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن نقرأها ثم إن الله نسخها فأنزل: (5) »
__________
(1) المنتقى (1 \ 245) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (5 \ 130) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (5 \ 129) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (1200) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (539) ، سنن الترمذي الصلاة (405) ، سنن النسائي السهو (1219) ، سنن أبو داود الصلاة (949) ، مسند أحمد بن حنبل (4/368) .
(5) سورة البقرة الآية 238 (4) {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(49/285)
فهذا فيه إشارة إلى أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
والحكمة من نسخها إخفاء تلك الصلاة حتى يجتهد المسلم لتحصيلها فيدفعه ذلك إلى المحافظة على جميع الصلوات.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الصلاة الوسطى بأنها " العصر " حيث قال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر (1) » .
فيكون هذا التفسير قاطعا لكل احتمال؛ لكونه صادرا عمن لا ينطق عن الهوى -عليه الصلاة والسلام-.
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6396) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (627) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2984) ، سنن النسائي الصلاة (473) ، سنن أبو داود الصلاة (409) ، سنن ابن ماجه الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (1/113) ، سنن الدارمي الصلاة (1232) .(49/286)
المسألة الثالثة: قضاء رمضان متتابعا:
اختلف الفقهاء -رحمهم الله تعالى- إلى وجوب التتابع في قضاء رمضان. 1- فذهب النخعي والشعبي، وداود الظاهري -رحمهم الله تعالى- إلى وجوب التتابع في قضاء رمضان.
وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهم- (1) .
2 - وذهب الأئمة الأربعة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد -رحمهم الله تعالى- إلى أنه يجزئ قضاء رمضان متفرقا.
__________
(1) المغني (4 \409) .(49/286)
قال الكاساني الحنفي -رحمه الله تعالى-: (ولا يلزمه الاستقبال كصوم رمضان، بخلاف ما إذا أوجب على نفسه صوم شهر متتابعا فأفطر يوما أنه يلزمه الاستقبال) (1) .
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله تعالى-: (قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) يعطي بظاهره قضاء الصوم متفرقا، وقد روي ذلك عن جماعة من السلف منهم أبو هريرة. وإنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز بكل حال) (3) .
وقال النووي الشافعي -رحمه الله تعالى-: (فرع في مذاهبهم في تفريق قضاء رمضان وتتابعه: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب تتابعه ويجوز تفريقه) (4) .
وقال الخرقي الحنبلي -رحمه الله تعالى-. (وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ، والمتتابع أحسن) (5) .
وحجة القائلين بوجوب التتابع قراءة أبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه- الشاذة: (فعدة من أيام أخر متتابعات) (6) .
7
__________
(1) بدائع الصنائع (2 \ 105) .
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) أحكام القرآن (1 \ 78، 79) .
(4) المجموع (6 \ 367) .
(5) المغني (4 \ 408) .
(6) نيل الأوطار (4 \ 233) .(49/287)
وحجة القائلين بعدم وجوبه القراءة المتواترة وهي قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) حيت أطلق القضاء ولما يقيده بالتتابع (2) .
بيان الراجح في المسألة:
زيادة " متتابعات " في قراءة أبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه- التي تمسك بها من ذهب إلى وجوب التتابع في قضاء صوم رمضان أخبرت عنها عائشة -رضي الله تعالى عنها- بقولها: (نزلت: " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت متتابعات) .
وحيث سقطت اللفظة المحتج بها سقط الاحتجاج بتلك الزيادة. وفي ذلك يقول الموفق ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: (فإن قيل: قد روي عن عائشة أنها قالت: نزلت " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت " متتابعات ".
قلنا: هذا لم يثبت عندنا صحته، ولو صح فقد سقطت اللفظة المحتج بها) (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) المغني (4 \ 409) .
(3) المغني (4 \ 409) .(49/288)
وبذلك يترجح لدي في هذه المسألة عدم وجوب التتابع في قضاء صوم رمضان لثلاثة أسباب:
السبب الأولى: ما سبق ذكره من سقوط اللفظة المحتج بها، وهي قوله: " متتابعات ".
السبب الثاني: أن زيادة " متتابعات" قد عارضها الدليل الثابت في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) حيث أطلق سبحانه القضاء ولم يقيده بالتتابع.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع» .
حيث فوض النبي صلى الله عليه وسلم الخيار للمكلف في كيفية القضاء.
السبب الثالث: أن قضاء رمضان متفرقا هو المناسب ليسر الشريعة المبنية على رفع الحرج، وإن كان الأفضل هو التتابع لمن كان قادرا عليه، لما في ذلك من المبادرة إلى فعل الواجب الذي يحصل به إبراء الذمة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(49/289)
المسألة الرابعة: وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين:
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين:(49/289)
1 - فذهب الأحناف، والحنابلة، وكذلك الشافعية في أحد القولين عندهم إلى وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين.
قال السرخسي -رحمه الله تعالى-: (وإذا حنث الرجل وهو معسر فعليه ثلاثة أيام متتابعة) (1) .
وقال الكاساني -رحمه الله تعالى-: (وأما صوم كفارة اليمين فيشترط فيه التتابع أيضا عندنا) (2) .
وقال الخرقي -رحمه الله تعالى-: (فإن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا أجزأه صيام ثلاثة أيام متتابعة) (3) .
قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في شرحه لقول الخرقي:
(يعني: إن لم يجد إطعاما، ولا كسوة، ولا عتقا، انتقل إلى صيام ثلاثة أيام؟ لقول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (4) . وهذا لا خلاف فيه إلا في اشتراط التتابع في الصوم، وظاهر المذهب اشتراطه) (5) .
واحتج الأحناف والحنابلة في ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود
__________
(1) المبسوط (8 \ 155) .
(2) بدائع الصنائع (5 \ 111) .
(3) المغني (13 \ 528) .
(4) سورة المائدة الآية 89
(5) المغني (13 \ 528) .(49/290)
رضي الله تعالى عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
قال الكاساني -رحمه الله تعالى-: (ولنا قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات "، وقراءته كانت مشهورة في الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، فكانت بمنزلة الخبر المشهور لقبول الصحابة -رضي الله عنهم- إياها تفسيرا للقرآن العظيم إن لم يقبلوها في كونها قرآنا، فكانت مشهورة في حق حكم الصحابة -رضي الله عنهم- إياها في حق وجوب العمل، فكانت بمنزلة الخبر المشهور، والزيادة على الكتاب الكريم بالخبر المشهور جائزة بلا خلاف، ويجوز بخبر الواحد، وكذا عند بعض مشايخنا على ما عرف في أصول الفقه) (1) .
وصرح ابن قدامة -رحمه الله تعالى- بالاحتجاج في هذه المسألة بقراءة عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- مبينة أن تلك القراءة دائرة بين القرآن والخبر وكلاهما حجة (2) .
وأما من ذهب من الشافعية -رحمهم الله تعالى- إلى القول بوجوب التتابع في هذه المسألة فاحتجوا لذلك بالقياس على كفارة الظهار والقتل حيث قالوا: لا يجوز الصوم في كفارة اليمين إلا متتابعا؛ لأنه كفارة جعل الصوم فيها بدلا عن العتق، فشرط في صومها التتابع ككفارة الظهار والقتل (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع (5 \ 111)
(2) المغني (13 \ 529) .
(3) المجموع (18 \ 120)(49/291)
2 - وذهب المالكية والشافعية في الأظهر من مذهبهم إلى عدم وجوب التتابع مع كونه الأفضل.
قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في معرض ذكره لكفارة اليمين: (. . . فإن لم يجد شيئا من ذلك كله صام ثلاثة أيام متتابعات، فإن فرقها أجزأت عنه) (1) .
وقال ابن رشد -رحمه الله تعالى-: (وأما المسألة الثالثة وهي اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام، فإن مالكا والشافعي لم يشترطا في ذلك وجوب التتابع وإن كانا استحباه، واشترط ذلك أبو حنيفة.
وسبب اختلافهم في ذلك شيئان:
أحدهما: هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف؟ وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ".
والسبب الثاني: اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل في الصيام الواجب بالشرع إنما هو التتابع؟) (2) .
وقال النووي -رحمه الله تعالى-: (وللتكفير بالمال بدل وهو الصوم. وهل يجب التتابع في صوم الثلاثة؟ قولان أظهرهما
__________
(1) الكافي (1 \ 453) .
(2) بداية المجتهد (1 \ 418) .(49/292)
عند الأكثرين: لا) (1) .
وقال الغزالي -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة: (فلا يشترط التتابع) (2) .
وقال الشربيني -رحمه الله تعالى-: (والتكفير بالمال له بدل وهو الصوم، ولا يجب تتابعها في الأظهر لإطلاق الآية.
والثاني يجب لأن ابن مسعود قرأ: " ثلاثة أيام متتابعات "، والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العمل) (3) وحجتهم في عدم وجوب التتابع: أنه صوم نزل به القرآن مطلقا فجاز متفرقا ومتتابعة كالصوم في فدية الأذى، والتتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص، وذلك معدوم في هذه المسألة) (4) .
بيان الراجح في المسألة:
يترجح لدي في هذه المسألة وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، وذلك لسببين:
السبب الأول: لقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ".
__________
(1) روضة الطالبين (11) .
(2) المنخول ص (281) .
(3) مغني المحتاج (4 \ 328) .
(4) أحكام القرآن (2 \ 654) المجموع (18 \ 120) .(49/293)
السبب الثاني: أن المقصود بالصيام في كفارة اليمين ردع المسلم عن اعتياد الأيمان.
والذي يناسب هذا الردع التتابع لا التفريق، إذ التتابع يجعله يحس بمرارة الجوع والعطش في ثلاثة أيام متوالية.
وهذا الإحساس يضعفه التفريق في صيام تلك الأيام الثلاثة.(49/294)
المسألة الخامسة: المقدار المحرم من الرضاع:
اختلف الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في المقدار المحرم من الرضاع:
1 - فذهب الأحناف والمالكية -رحمهم الله تعالى- إلى أن الرضاع المحرم لا حد لقدره، بل يستوي قليله وكثيره.
قال الكاساني -رحمه الله تعالى-: (ويستوي في الرضاع المحرم قليله وكثيره) (1) .
وقال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: (وكل ما وصل إلى جوف الطفل أو الطفلة في الحولين من اللبن وإن كان مصة واحدة حرم عند مالك وأكثر أهل المدينة) (2) .
وقال ابن رشد -رحمه الله تعالى-: (أما مقدار المحرم من
__________
(1) بدائع الصنائع (4 \ 7) .
(2) الكافي (2 \ 539، 540) .(49/294)
اللبن فإن قوما قالوا فيه بعدم التحديد، وهو مذهب مالك وأصحابه، وروي عن علي وابن مسعود، وهو قول ابن عمر وابن عباس. وهؤلاء يحرم عندهم أي قدر كان، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري والأوزاعي) (1) .
واحتجوا لذلك بقول الحق تبارك وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) .
حيث أطلق الرضاع ولم يقيده بعدد معين (3) .
ولم يحتج المالكية -رحمهم الله تعالى- في ذلك بقول عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) .
وفي ذلك يقول الباجي -رحمه الله تعالى-: (هذا الذي ذكرت عائشة -رضي الله عنها- أنه نزل من القرآن مما أخبرت عن أنه ناسخ أو منسوخ لا يثبت قرآنا؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالخبر المتواتر، وأما خبر الآحاد فلا يثبت به قرآن، وهذا من أخبار الآحاد الداخلة في جملة الغرائب، فلا يثبت بمثله قرآن، وإذا لم يثبت بمثله قرآن فمن مذهبنا أن من
__________
(1) بداية المجتهد (2 \ 35) .
(2) سورة النساء الآية 23
(3) بدائع الصنائع (4 \ 7) ، بداية المجتهد (2 \ 35) .(49/295)
ادعى فيه أنه قرآن وتضمن حكما فإنه لا يثبت ذلك الحكم إلا أن يثبت بما ثبت به القرآن من الخبر المتواتر؛ لأن ذلك الحكم ثبوته فرع عن ثبوت الخبر قرآنا) (1) .
2 - وذهب الشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم إلى أن المحرم من الرضاع ما كان خمسة فصاعدا.
قال النووي -رحمه الله تعالى-: (الرضاع لا تثبت حرمته إلا بخمس رضعات. هذا هو الصحيح المنصوص) (2) .
وقال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: (الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعدا. هذا الصحيح في المذهب) (3) واحتجوا لذلك بقول عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (كان فيما أنزل من القرآن " عشر رضعات معلومات يحرمن "، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) (4) .
__________
(1) المنتقى (4 \ 156) .
(2) روضة الطالبين (9 \ 7)
(3) المغني (11 \ 310) .
(4) تفسير القرآن العظيم (1 \ 404) ، المغني (11 \ 311) ، شرح النووي على صحيح مسلم (10 \ 29) .(49/296)
بيان الراجح في المسألة:
يترجح لدي في هذه المسألة: أن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان خمسا فصاعدا؛ وذلك لحديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- الدال على التوقيت بخمس مع بقائها دون نسخ، ولحديث عائشة وأم سلمة -رضي الله تعالى عنهم- أن «سهلة بنت سهيل -رضي الله تعالى عنها- جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا (2) »
فحين أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ترضعه، أرضعته خمسا، مما يدل على أن الأمر قد استقر عندهم على ذلك.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الرضاع (10 \ 31) ، وأبو داود واللفظ له في كتاب النكاح (2 \ 549، 550) ، والنسائي في كتاب النكاح (6 \ 104) .
(2) (1) ، وقد أنزل عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه "، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.(49/297)
المسألة السادسة: المراد من لفظ الأقراء:
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في لفظ " القروء " الوارد في قول الحق تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 228(49/297)
هل المراد به "الحيض "، أو "الأطهار"؟ على قولين: 1- ذهب الأحناف والحنابلة -رحمهم الله تعالى- إلى أن الأقراء: هي الحيض (1) .
2 - وذهب المالكية والشافعية رحمهم الله تعالى إلى أن الأقراء هي الأطهار (2) .
وكل فريق وجه لفظ " القروء " في الآية الكريمة إلى المعنى الذي رآه راجحا عنده، كما قال ابن رشد -رحمه الله تعالى-: (وقد رام كلا الفريقين أن يدل على أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه) (3) .
إلا أن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- قد صرح بأنه ذهب إلى أن المراد بالقروء الأطهار استنادا إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن ".
وفي ذلك يقول: (أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضا، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك " (4) ، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا طلقتم النساء
__________
(1) بدائع الصنائع (3 \ 193) ، المغني (11 \ 199) .
(2) بداية المجتهد (2 \ 89) ، الأم (5 \ 224) .
(3) بداية المجتهد (2 \ 90) .
(4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (كتاب الطلاق) باب (تحريم طلاق الحائض بغير رضاها) (10 \ 69) .(49/298)
فطلقوهن لقبل عدتهن ". . . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أن العدة الطهر دون الحيض وقرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن ") (1) .
وبعد: فمن خلال عرض هذه الأمثلة التي بني الخلاف فيها على (القراءة الشاذة) قبولا لها أو عدولا عنها يتضح لنا جدوى البحث في هذه الجزئية المهمة من مباحث أصول الفقه.
__________
(1) الأم (5 \ 224) .(49/299)
الخاتمة:
الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، والصلاة والسلام على من فاق الناس بخلقه وخلقه، وعلى آله وأصحابه الذين أخذوا الإسلام بحقه.
أما بعد:
فإذا علمنا أن ما كتبه الأصوليون -رحمهم الله تعالى- في هذا الموضوع الجليل شيء يسير وقليل لا يكاد يشفي عليلا ولا يروي غليلا، أدركنا وعورة الإقدام عليه وخطورة الكلام فيه.
ولذلك لم يكن من السهولة بحال إنهاء البحث على هذا المنوال، ولا سيما على من كان مثلي ممن بضاعتهم في العلم قليلة، وهمتهم في التحصيل قليلة، لولا تأييد الله تعالى وإحسانه وتسديد منه سبحانه.(49/299)
ولا أدعي أن ما كتبته في هذا الموضوع سيحقق للقارئ الكريم مأربه، بل إني على يقين أن ذلك ما بلغ الكمال ولا قاربه.
ولكن حسبي من هذا أني بذلت فيه من الجهد ما أطيقه، وصرفت فيه من الوقت ما أستطيعه، والعصمة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه للناس من خطابه.
وقد خرجت من بحثي في هذا الموضوع الهام بنتائج سأذكرها مرتبة حسب ما اقتضاه المقام:
1 - الشاذ في اللغة تدور معانيه حول الانفراد، والندرة، والقلة، والتفرق.
2 - القراءة الشاذة في الاصطلاح: ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضة تلقتها الأمة بالقبول.
3 - القراءة الشاذة عند أكثر العلماء لا تسمى قرآنا، وإنما هي منزلة منزلة الخبر.
4 - حكاية إجماع الكل على أن القراءة الشاذة لا تسمى قرآنا محل نظر لوجود من يجيز قراءتها في الصلاة.
5 - من قرأ بالشاذ في الصلاة إن كان جاهلا عرف بعدم جواز ذلك، وإن كان عالما أدب وعزر.
6 - القراءة الشاذة حجة في إثبات الأحكام الشرعية على الأصح من قولي الأصوليين تنزيلا لها منزلة خبر الواحد.(49/300)
7 - شرط العمل بالقراءة الشاذة عند الأحناف الشهرة.
8 - شرط العمل بالقراءة الشاذة عند من احتج بها من المالكية التصريح بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم.
9 - شرط العمل بالقراءة الشاذة عند الشافعية عدم مخالفة رسم المصحف، وقراءتها على أنها قرآن، وإضافتها إلى السماع من النبي صلى الله عليه وسلم.
15 - شرط العمل بالقراءة الشاذة عند الحنابلة صحة الإسناد فيها.
11 - الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم -رحمهم الله تعالى- يحتجون بالقراءة الشاذة.
12 - الإمام مالك -رحمه الله تعالى- لا يحتج بالقراءة الشاذة في المشهور من مذهبه، وأصحابه على قولين في قبولها.
13 - للخلاف في الاحتجاج بالقراءة الشاذة ثمرة عملية تتعلق بمسائل الفقه.
14 - الراجح عدم جواز قراءة الشاذ في الصلاة؛ لأن القراءة الشاذة لا تعد قرآنا على الأصح، ولا تصح الصلاة بتلك القراءة.
15 - الراجح في المراد بالصلاة الوسطى: أنها العصر لتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بذلك، ونزول القرآن الكريم بها صريحة قبل النسخ.(49/301)
16 - الراجح عدم وجوب التتابع في قضاء صوم رمضان؛ لتناسبه مع يسر الشريعة.
17 - الراجح وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين؛ لأن ذلك أدعى في الزجر عن اعتياد الأيمان.
18 - الراجح أن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان خمسا فصاعدا؛ لصحة ما روته عائشة -رضي الله تعالى عنها- من التوقيت بخمس رضعات.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه وابتغاء مرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.(49/302)
عقيدة الأمة في المهدي المنتظر
للشيخ: يوسف بن عبد الرحمن البرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كثر الحديث والسؤال في هذه الأيام عن المهدي المنتظر، وذلك لكثرة من يدعيه في كل عصر من أهل الأهواء وأصحاب الأطماع من المرتزقة الذين اتخذوا هذه الدعوة جسرا للوصول إلى غايات وتحقيق أهداف.
وهناك من الناس من يتساءل عن أخبار المهدي على أمل البشرى والتفاؤل بالخير، وتغير الأحوال، وتفريج كرب الأمة مما نزل بها من بلاء وعناء، وما حل بها من كوارث ومصائب، وما لحق بها من آلام وأضرار، حيث تكالبت عليها قوى الشر والعدوان كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها (1) » .
رواه أبو داود في سننه من حديث ثوبان -رضي الله عنه-.
وبالرجوع إلى أحداث التاريخ نجد أن قضية المهدي تستغل عبر القرون وعلى مر العصور من قبل أهل الأهواء، وذلك للوصول إلى منصب الحكم وقيادة الأمة لتحقيق أغراض فيها.
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4297) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .(49/303)
فكثيرا ما تروج هذه الدعوة الكاذبة على الدهماء والطغام من العوام فيصدقها الناس ويسيرون وراء كل ناعق بها، وما ذاك إلا لجهل الكثير من الأمة بعقيدته وواقع الحال، فالجهل أوقعهم في مثل هذه المزالق الشيطانية وأرداهم إلى المهالك، والتاريخ شاهد على ذلك، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) : (ادعى خلق كثير أنه المهدي، عدد لا يحصيه إلا الله) وسيأتي في موضعه.
المهدي من علامات الساعة الكبرى:
إن موضوع المهدي من علامات الساعة الكبرى وأشراطها العظمى التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشراط الساعة الكبرى من الأمور الغيبية التي كلف الله عباده بالتصديق بها والإيمان بمدلولها، وعقيدتنا تملي علينا وجوب الإيمان بذلك.
قال تعالى: {الم} (1) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (2) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (3) ، والأمور الغيبية لا تثبت بالمنامات ولا بالإرهاصات والمكاشفات، كما أنها لا تثبت بالأوهام والتخيلات أو الادعاءات الكاذبة، إنما تثبت بالأدلة الشرعية من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمغيبات لا تثبت بالاجتهادات العقلية ولا الآراء الشخصية إنما ذلك بالنصوص الشرعية العقلية، وهذا حال كل أمر غيبي. ولهذا جاء في كتاب لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية في
__________
(1) سورة البقرة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 3(49/304)
عقيدة الفرقة المرضية) للعالم محمد السفاريني الحنبلي، ج 2 ص (70) ، قال:
وما أتى بالنص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط
منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح
قال رحمه الله: من أشراط الساعة التي وردت فيها الأخبار وتواترت في مضمونها الآثار من العلامات العظمى وهي أولها أن يظهر الإمام (المهدي) المقتدى بأقواله وأفعاله الخاتم للأئمة فلا إمام بعده، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الخاتم للنبوة والرسالة فلا نبي ولا رسول بعده.(49/305)
وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة:
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) . جاء في مختصر ابن كثير، ج 1 ص (408) ، قال ابن كثير: قال مجاهد: وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصوله الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله والسنة، كما قال الله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(49/305)
بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وقال تعالى في وصف نبيه الكريم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) جاء في مختصر ابن كثير، ج 3 ص (396) ، قال ابن كثير: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق (3) » . رواه أحمد وأبو داود.
بهذا فقد أرشدنا القرآن الكريم عند الاختلاف في أمور الدين بالرجوع إلى كتاب الله العظيم وسنة نبيه الأمين فهما الميزان الواضح لمعرفة الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والسنة من البدعة، وبهما يعرف الخير من الشر.
فعلى هذا فقد وردت أحاديث صحيحة وصريحة في أخبار المهدي المنتظر في آخر الزمان. وقد جمع علماء الإسلام الأحاديث الواردة في شأنه والمتعلقة بأمر المهدي، فمن العلماء من أدرجها ضمن المؤلفات العامة في السنن والمسانيد وغيرها ذكرت في باب (أشراط الساعة) أو في باب (الفتن) ، ومنهم من أفرد لها كتبا مستقلة في هذا الموضوع، مثل كتاب: (عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر) ، وغيره.
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) سنن أبو داود العلم (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (484) .(49/306)
ذكر بعض الكتب التي جمعت أحاديث المهدي:
1 - كتاب (العرف الوردي في أخبار المهدي) وهو ضمن كتاب (الحاوي للفتاوى) ، للإمام جلال الدين السيوطي في الجزء الثاني، وقد جمع مؤلفه ما يقرب من مائتي حديث في هذا الموضوع، منها الحديث الصحيح والضعيف.
2 - كتاب (الفتن والملاحم) وهو المعروف بـ (النهاية) للحافظ عماد الدين ابن كثير، صاحب التفسير.
3 - كتاب (المنار المنيف) لابن قيم الجوزية، وقد حقق -رحمه الله- الأحاديث التي جمعها في أخبار المهدي فبين الصحيح والضعيف منها.
4 - كتاب (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر) لابن حجر المكي، المتوفى سنة 974 هـ.
5 - كتاب (المشرب الوردي في مذهب المهدي) لملا علي قاري الحنفي، المتوفى سنة 1014 هـ.
6 - كتاب (فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر) لمرعي بن يوسف الحنبلي، المتوفى سنة 1033 هـ.
7 - كتاب (عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر) ، ليوسف بن يحيى بن علي السلمي الشافعي، المتوفى سنة 685 هـ.
وهناك مؤلفات أخرى في هذا الموضوع جمع مصنفوها(49/307)
الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة، فمن أراد المزيد من الاطلاع فليراجع كتاب (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح) للإمام محمد بن علي الشوكاني، صاحب نيل الأوطار. وقال -رحمه الله- في كتابه المذكور:
والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق المتواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول. انتهى وسيأتي في موضعه.(49/308)
اختلاف الأقوال في المهدي المنتظر:
فالناس في المهدي على أقوال متعددة وآراء مختلفة، فمنهم المثبت لأمر المهدي المنتظر ومؤمن بظهوره في آخر الزمان، ومنهم المتردد في أمره والمتوقف في ذلك، وهناك المكذب والنافي لهذه الحقيقة الغيبية واعتبر ذلك من نسج الخيال ومن وضع أهل الأوهام.
وقد اختلفت الآراء في المهدي المنتظر على خمسة أقوال أذكرها بإيجاز:
القول الأول: هو قول أهل السنة والجماعة، الذين يؤمنون بالمهدي المنتظر، الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر في آخر الزمان، ليقضى على الشر والطغيان، ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، وذلك بين يدي(49/308)
الساعة ومن علاماتها الكبرى، وهو موضوع بحثنا في هذا المقال.
القول الثاني: هو عبد الله السفاح الذي ولي أمر بني العباس، وأصحاب هذا الرأي يقولون: إن المهدي قد ظهر وحكم وانتهى زمانه ومضت أيامه، وهو مهدي بني العباس الذي ولي الخلافة وسلب الحكم من بني أمية وهو السفاح.
وقد ضعف هذا القول ابن قيم الجوزية في كتابه (المنار المنيف) قال -رحمه الله- في كتابه المذكور ص 149: القول الثاني: إن المهدي الذي ولي من بني العباس وقد انتهى زمانه، وقال ابن القيم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا وكيع عن شريك عن علي بن زيد عن أبي قلابة عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج فإن فيها خليفة الله المهدي (1) » . قال ابن القيم: (علي بن زيد) قد روى له مسلم متابعة ولكن هو ضعيف وله مناكير تفرد بها فلا يحتج بما يتفرد به.
وأصحاب هذا الرأي قالوا بأن الرايات أقبلت من خراسان يحملها أبو مسلم الخراساني أيام السفاح، واستولى بها على ملك بني أمية، وقد انتهى أمره، ومضى زمانه، وهو المهدي المذكور في الحديث.
القول الثالث: هو قول الشيعة الكيسانية والشيعة الإمامية، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في هذا البحث في موضعه.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/277) .(49/309)
القول الرابع: هم دعاة المهدي الذي يزعمونها ادعاء وكذبا وزورا، وهؤلاء هم دعاة الضلالة المغرضون الذين يتسترون وراء هذه الدعوة طمعا بالملك ورغبة في استلام السلطة وحبا بالرياسة لتحقيق أطماع والوصول إلى غايات رسمها الشيطان لهم، وكثير من الضلال من أهل الأهواء ادعى أنه المهدي المنتظر يريد إصلاح أمر الأمة على حد زعمه وذلك منذ عصر بني العباس إلى يومنا هذا، وسيأتي بيانه في موضعه مفصلا.
القول الخامس: هم نفاة المهدي وأنه لا مهدي إلا عيسى ابن مريم، وهناك من نفى قضية المهدي مطلقا وكذلك نفى نزول عيسى -عليه السلام - واعتبر الأحاديث الواردة في ذلك هي رمز لنصرة المسلمين وإعزازهم.
وقد نفى بعض العلماء قديما وحديثا ظهور المهدي وأنه لا مهدي إلا عيسى ابن مريم مستدلين بالحديث التالي: عن محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم (1) » رواه ابن ماجه في سننه.
ويرى البعض من العلماء أن قضية المهدي من وضع الشيعة والفرق الباطنية وسيأتي في موضعه.
أجوبة العلماء على حديث: «لا مهدي إلا عيسى (2) » :
وقد ضعف علماء الإسلام حديث أنس المتقدم، حيث يوجد في سنده راو مجهول، وهو (محمد بن خالد الجندي) كما
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .
(2) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .(49/310)
صرح بذلك العلماء المختصون ومن ذلك: 1 - كلام ابن قيم الجوزية: جاء في كتاب (المنار المنيف) لابن القيم ص 141 قال: وسئلت عن حديث «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم (1) » فكيف يأتلف هذا مع أحاديث المهدي وخروجه؟ وما وجه الجمع بينهما؟ وهل في المهدي حديث أم لا؟
فقال ابن القيم: فأما حديث «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم (2) » فرواه ابن ماجه في سننه، وهو مما تفرد به محمد بن خالد، قال أبو الحسين محمد بن الحسين الآبري في كتابه (مناقب الشافعي) : محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل.
وقال أيضا: وقال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد هذا، وقد قال الحاكم أبو عبد الله: هو مجهول.
2 - كلام القرطبي: جاء في كتاب (التذكرة في أحوال الآخرة) للإمام الحافظ القرطبي ص 61 قال: فقوله: «لا مهدي إلا عيسى (3) » يعارض أحاديث هذا الباب، فقيل: إن هذا الحديث لا يصح لأنه انفرد بروايته محمد بن خالد الجندي، وقال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: الجندي هذا مجهول. . . إلى أن قال القرطبي: ويحتمل أن يكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا مهدي إلا عيسى (4) » أي لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى وعلى هذا تجتمع الأحاديث ويرتفع التعارض. انتهى.
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .
(2) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .
(4) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .(49/311)
3 - كلام ابن كثير: جاء في كتابه (النهاية) ص 33 قال الحافظ ابن كثير: أما الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه، وساق الحديث بسنده إلى أن قال: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم (1) » .
قال ابن كثير: فإنه حديث مشهور بمحمد بن خالد الجندي الصنعاني المؤذن شيخ الشافعي، وروي من غير واحد أيضا، وليس هو بمجهول كما زعمه الحاكم بل قد روي عن ابن معين أنه وثقه. . . إلى أن قال ابن كثير: وهذا الحديث فيما يظهر ببادئ الرأي مخالف للأحاديث التي أوردناها بعده وعند التأمل لا ينافيها بل يكون المراد من ذلك أن المهدي حق، المهدي عيسى ابن مريم، ولا ينافي ذلك أن يكون غيره مهديا أيضا، والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (1/394) .(49/312)
ذكر بعض نفاة المهدي:
1 - وممن نفى ظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان أبو محمد بن الوليد البغدادي، معتمدا على الحديث المتقدم «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم (1) » .
جاء في كتاب (منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 211، ج 4 بعد أن ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تفيد خروج المهدي، قال رحمه الله: وهذه الأحاديث غلط فيها
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .(49/312)
طوائف؛ طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم (1) » . قال: وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه، وليس مما يعتمد عليه، وأسهب في ذلك.
2 - وممن أنكر أحاديث المهدي المؤرخ المشهور عبد الرحمن بن خلدون المغربي المتوفى سنة 808 هـ والمعروف عنه أنه ضعف جميع أحاديث المهدي كما جاء في مقدمة تاريخه المشهورة من صفحة 199 لغاية صفحة 209 الفصل الثاني والخمسون تحت عنوان (في أمر الفاطمي) طبعة بيروت عام 1988 م.
وقد تعقب ابن خلدون بعض العلماء ورد عليهم في هذا الموضوع وممن تعقبه:
أ- صديق حسن خان القنوجي المتوفى سنة 1307 هـ قال -رحمه الله- في كتابه (الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة) : ولا شك أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من الأخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة خلفا عن سلف إلا من لا يعتد بخلافه، وقال: لا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود والمنتظر المدلول عليه بالأذلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر. انتهى.
ب- وكذلك رد على ابن خلدون الشيخ محمد شاكر في
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4039) .(49/313)
تخريجه أحاديث مسند الإمام أحمد بن حنبل قال -رحمه الله-: أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحما لم يكن من رجالها، وقال: إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته (المهدي) تهافتا عجيبا وغلط أغلاطا واضحة، وقال: إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين " الجرح مقدم على التعديل " ولو اطلع على أقوالهم وفقهها لما قال شيئا مما قال. انتهى.
ج- وممن أنكر على ابن خلدون وخطأه في تضعيفه أحاديث المهدي، الشيخ " محمد شمس الحق العظيم أبادي " في كتابه (عون المعبود شرح سنن أبي داود) ص 361 ج 11، قال: وقد بالغ الإمام المؤرخ ابن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها فلم يصب بل أخطأ. انتهى.
أقول: والحق أن الذي حمل العلامة ابن خلدون على تضعيف أحاديث المهدي هو أمران اثنان والله تعالى أعلم.
الأول: كما قال العلماء فيه أن ابن خلدون مؤرخ مشهور وليس محدثا ولا من رجال الحديث وليس هو من أهل الاختصاص بعلوم الحديث ولهذا ضعفها وردها.
الثاني: لكثرة دعاة المهدوية فقد كثر عبر القرون في كل عصر وزمان من يظهر ويزعم أنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، فسرعان ما ينكشف أمره ويتضح حاله بأنه مفتر على الله بدعواه الكاذبة سفاك للدماء مفسد في الأرض.
ولهذا فقد ذكر ابن خلدون في مقدمته وفي تاريخه الكثير(49/314)
من دعاة المهدوية في بلاد المغرب والمشرق فقد جاء في مقدمته ص 208 قال: ومن ذلك ظهر في (غمارة) سنة 709 هـ رجل يعرف بالعباس وادعى أنه الفاطمي واتبعه الدهماء من (غمارة) ودخل مدينة فاس عنوة - أي بالقوة- وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد (المزمة) فقتل بها غيلة ولم يتم أمره، وقال: وكثير من هذا النمط، وقد أسهب في ذكر دعاة المهدوية المضللة. فهذا من الدوافع التي دفعت ابن خلدون على رفض أحاديث المهدي لكثرة من يدعيها ويتستر بها.
3 - وممن أنكر أحاديث المهدي من علماء العصر الشيخ محي الدين عبد الحميد، يقول في تعليقه على كتاب (الحاوي للفتاوي للسيوطي) ص 166 ج 2 في (العرف الوردي في أخبار المهدي) قال: يرى بعض الباحثين أن كل ما ورد عن المهدي وعن الدجال من الإسرائيليات. انتهى.
4 - وممن أنكر أحاديث المهدي وظهوره الأستاذ المعاصر أبو عبية في تعليقه على كتاب (الفتن والملاحم) لابن كثير قال بما معناه: إن كل ما جاء من الأحاديث في شأن المهدي ونزول عيسى ابن مريم والدجال إنما هو رمز لانتصار الحق على الباطل. انتهى.
فقد حمل فضيلة الشيخ الأحاديث الواردة بشأن المهدي على غير ظاهرها ومدلولها وحقيقتها ولا شك أن هذا تكلف منه.
5 - وممن استبعد ظهور المهدي المنتظر الداعية الشيخ أبو(49/315)
الأعلى المودودي في كتابه (البيانات) قال -رحمه الله-: ولا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبا دينيا يعرف (بالمهدوية) يجب على كل مسلم أن يؤمن به ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة. انتهى.
6 - ومن نفاة المهدي المنتظر الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف في تعليقه على (تحفة الأحوذي لشرح جامع الترمذي) للحافظ محمد عبد الرحمن المباركفوري المتوفى سنة 1353 هـ. قال المعلق: ص 474 ج 6: يرى الكثيرون من العلماء أن كل ما ورد من أحاديث المهدي إنما هي موضع شك، وأنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من وضع الشيعة. انتهى.
أقول: والحق أن الأحاديث الواردة في شأن المهدي دلت على ظهور إمام للمسلمين في آخر الزمان عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام كما سيأتي في موضعه.
ولا شك أن هذه الأقوال المتقدمة التي نفت ظهور المهدي هي أقوال مردودة للأدلة الصحيحة الصريحة الثابتة في كتب الحديث في باب أشراط الساعة وعلاماتها والتي تفيد خروج المهدي في نهاية الدنيا، فلا مجال لردها ولا مبرر لرفضها ولا معنى لتأويلها عن ظاهرها وصرفها عن حقيقتها فهي نصوص واضحة في هذا الباب. والله أعلم وإليه المآب.(49/316)
ذكر دعاة المهدوية:
ولو استعرضنا كتب التاريخ والسير لوجدنا أن دعاة المهدوية كثيرون في كل عصر وزمان وبدون حصر وقد ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته وفي تاريخه عددا من دعاة المهدوية في بلاد المغرب وفي بلاد المشرق، وقد تقدمت الإشارة لذلك، ففي مقدمته ضعف أحاديث المهدي وردها ثم ذكر طائفة ممن ادعى أنه المهدي المنتظر من ص 199 لغاية 209. وأيضا ذكر عددا من ذلك في تاريخه في الجزء الثالث ص 335 وما بعدها.
بدأ بذكر من ادعى المهدوية في البحرين وهجر من القرامطة.
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) ص 212 ج 4 قال -رحمه الله- بعد أن ذكر بعض دعاة المهدي قال: ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك منهم من قبل ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه وهؤلاء كثيرون لا يحصي عددهم إلا الله. . . إلى أن قال: وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ الذين فيهم زهد وعبادة يظن كل منهم أنه المهدي وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات متعددة ويكون المخاطب له بذلك الشيطان وهو يظن أنه خطاب من قبل الله تعالى. . وأسهب في الموضوع.
وأسوق للقارئ الكريم بعض دعاة المهدوية:
1 - وممن ادعى أنه المهدي المنتظر (عبيد الله بن ميمون القداح) مؤسس الدولة الفاطمية.
جاء في كتاب (منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية(49/317)
ص 211 ج 4 قال رحمه الله: إن طوائف كثيرة ادعى كل منهم أنه المهدي المبشر به، مثل مهدي القرامطة الباطنية الذي أقام دعوتهم بالمغرب من ولد ميمون القداح، وادعوا هذا من ولد محمد بن إسماعيل وإلى ذلك انتسب الإسماعيلية، وهم ملاحدة في الباطن خارجون عن جميع الملل أكفر من الغالية النصيرية، ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة مع إظهار التشيع وجدهم رجل يهودي كان ربيبا لرجل مجوسي، وقد كانت لهم دولة وأتباع وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار الهمداني، وكتاب الغزالي ونحوهم.
وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) ص 161 ج 11 بعد أن ذكر أعمال القرامطة الوحشية الإجرامية في معقل الإسلام والمسلمين قال: وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد أفريقية من أرض المغرب ويلقب أميرهم بالمهدي وهو: (أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح) وقد كان صباغا بسلمية وكان يهوديا، فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد أفريقية فادعى أنه شريف فاطمي فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت لهم دولة فملك مدينة سجلماسة ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه.
قال ابن قيم الجوزية في كتابه (المنار المنيف) ص 153:(49/318)
ثم خرج المهدي الملحد (عبيد الله بن ميمون القداح) وكان جده يهوديا من بيت مجوس فانتسب بالكذب والزور، واستفحل أمره إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ولرسوله على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام، واشتدت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم. وكانوا يدعون الإلهية ويدعون أن للشريعة باطنا يخالف ظاهرها، وهم ملوك القرامطة الباطنية أعداء الدين، فتستروا بالرفض والانتساب كذبا لآل البيت ودانوا بدين أهل الإلحاد وروجوه، ولم يزل أمرهم ظاهرا إلى أن أنقذ الله الأمة منهم ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم وعادت مصر دار إسلام بعد أن كانت دار نفاق وإلحاد في زمنهم.
20 - وممن ادعى أنه المهدي المنتظر (محمد بن تومرت) في بلاد المغرب وهو من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب، جاء في (منهاج السنة) ص 213 ج 4، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وممن ادعى أنه المهدي ابن تومرت الذي خرج أيضا في بلاد المغرب وسمى أصحابه (الموحدين) ، وكان يقال له في خطبهم (الإمام المعصوم والمهدي المعلوم) ، وقد علم بالاضطرار أنه ليس هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال ابن خلكان في تاريخه (وفيات الأعيان) ص 45 ج 5، قال: (المهدي بن تومرت) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت المنعوت بالمهدي الهرغي صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب - وكان ابن تومرت ينتسب إلى الحسن بن(49/319)
علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- إلى أن قال: وهو من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب. وأسهب في الكلام عنه لغاية ص 55، وأيضا ذكره ابن خلدون في تاريخه ص 300 ج 6 قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف ص 153: أما مهدي المغاربة محمد بن تومرت فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل ملك بالظلم والتغلب والتحيل فقتل النفوس وأباح حريم المسلمين وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم وكان شرا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير.
وقال: وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، يأمرهم أن يقولوا للناس أنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يردم عليهم ليلا لئلا يكذبوه بعد ذلك. وسمى أصحابه الجهمية (الموحدين) نفاة صفات الرب وكلامه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ورؤية المؤمنين له يوم القيامة، واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم والإيمان وتسمى بالمهدي المعصوم. انتهى.
3 - وممن زعم أتباعه أنه المهدي المنتظر (الغازي الشهيد الإمام الأمجد أحمد البريلوي) جاء في كتاب (عون المعبود شرح سنن أبي داود) للشيخ محمد شمس الحق العظيم أبادي ص 365 ج 11 قال بعد أن تكلم عن دعاة المهدوية وأطال في ذلك: ويقرب من هذا ما زعم أكثر العوام وبعض الخواص بحق الغازي الشهيد الإمام السيد أحمد البريلوي -رضي الله عنه- أنه المهدي الموعود المبشر في الأحاديث وأنه لم يستشهد في معركة(49/320)
الغزو بل إنه اختفى عن أعين الناس وهو حي موجود في هذا العالم إلى الآن، حتى أفرط بعضهم فقال: إنا لقيناه في مكة المعظمة حول المطاف ثم غاب بعد ذلك، ويزعمون أنه سيعود وسيخرج بعد مرور الزمان فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما. وقال الشيخ: هذا غلط وباطل، وأسهب في بيان بطلان ذلك.
ومما يجدر بالذكر: أن الجماعة البريلوية والتي تؤمن بالمهدي (أحمد البريلوي) منتشرة في بعض بلدان العالم على غرار الجماعة القاديانية. ولقد قمت بزيارة مركز الجماعة البريلوية في هولندا في العاصمة (أمستردام) في شهر شعبان عام 1406 هـ وذلك للوقوف على نحلتهم، وعندي المعلومات الكافية عنهم، ولهم مركز كبير يتبعه مسجد واسع أطلق عليه (مسجد طيبة) من أجمل المساجد في أوروبا وله أربع منارات ولعل خروج إمامهم المذكور من هذا المسجد حيث سموه بمسجد طيبة ليوافق اسم المدينة المنورة والتي يخرج منها المهدي الحق آخر الزمان، وتسمى هذه الجماعة بالنورانية حيث يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم نور وليس بشرا إلى غير ذلك من الاعتقاد الباطل وهم خليط من عرب وعجم.
4 - وممن ادعى المهدوية (حمدان قرمط) من القرامطة في ناحية العراق.
قال العلامة ابن خلدون المؤرخ المشهور في تاريخه المجلد(49/321)
الثالث ص 335 تحتق عنوان (ابتداء القرامطة) قال -رحمه الله-:
وكان ابتداء القرامطة أن رجلا ظهر بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين يتسم بالزهد، وكان يدعى قرمط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى قرميطة فعرب، وقيل اسمه حمدان ولقبه قرمط، وزعم أنه داعية لأهل البيت للمنتظر منهم، فقبض عليه الهيصم عامل الكوفة وحبسه، ففر من حبسه وزعم أن الأغلال لا تمنعه، ثم زعم أنه الذي بشر به (أحمد بن محمد بن الحنفية) وقال في كتاب تناقلته القرامطة خلاصته: أن حمدان قرمط هو داعية المسيح وهو المهدي وأن المسيح تصور له بصورة إنسان وقال له: إنك الداعية وإنك الحجة وإنك روح القدس، وعرفه أن الصلاة أربع ركعات قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن القبلة إلى بيت المقدس، وألغى صيام رمضان تخفيفا على الناس، واستباح لهم المحارم، وأباح شرب الخمور، إلى غير ذلك، وقد أطال ابن خلدون في بيان كفره وضلاله وإلحاده وأسهب في ذلك.
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية ص 61 ج 11 في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين هجرية: وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة والملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون بنبوة زرادشت ومزدك وكانا يبيحان المحرمات وهم أتباع كل ناعق إلى باطل.
5 - وقد ذكر الشريف البرزنجي في كتابه (الإشاعة لأشراط الساعة) ص 119 لغاية ص 122 ذكر عددا ممن ادعى المهدوية(49/322)
في الهند وبلاد الأكراد وبلاد العرب، ثم قال -رحمه الله-: فهؤلاء الذين ادعوا المهدوية بالباطل واتبعهم بعض السفهاء وحصلت منهم فتن وفساد كبير في الدين، وأسهب في ذلك.
أقول: ولا شك أن المهدوية لعبت دورا كبيرا في تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها حيث تستر دعاتها من الزنادقة والمغرضين الحاقدين على الإسلام والمسلمين، واستغلوا هذه الدعوة متسترين وراءها بالإسلام ظاهرا، يظهرون الخير للأمة ويبطنون الحقد والعداء لها، فأخذت دعوتهم في نهجها تتحول إلى طابع سياسي حتى تمكن أربابها من الوصول إلى الحكم وهذا هو الهدف المنشود والمطمع المقصود الذي يحلم به دعاة المهدوية، فلما توصلوا إلى مراكز السلطة حققوا أغراضهم في هذه الأمة.(49/323)
دعاة المهدوية سفاكون للدماء:
يتضح لنا من خلال استعراضنا لكتب التاريخ والسير، نجد أن كل من ادعى أنه المهدي المنتظر عبر القرون يعتمدون في نشر دعوتهم على العنف والقوة وحمل الناس على دعوتهم بالسيف وذلك لقهر الأمة حتى تنقاد إليهم وتستسلم لهم ولذا كثر البطش والقتل في الأمة على أيدي هؤلاء السفاحين.
فأعمال ابن تومرت الإجرامية وأصحابه من بعده في بلاد المغرب، ودولة العبيديين الباطنية في بلاد المسلمين، والقرامطة في جهة المشرق، لدليل ناطق يشهده التاريخ بأن هؤلاء زنادقة ملاحدة تستروا بالمهدوية يحملون وسام المهدي كذبا وزورا(49/323)
وادعاء، وهذا الذي دفع العلامة ابن خلدون بالمجازفة على رد الأحاديث الواردة في شأن المهدي المنتظر وهذا الذي حمله على تضعيفها كلها؛ لأن المهدوية أصبحت شعارا لسفك الدماء وعاملا لقهر العباد يتستر بها أهل الأهواء للانقضاض على الأمة الإسلامية والفتك بها وهذا ما حصل حيث عانت منهم الأمة الويلات.
وكتب التاريخ مشحونة بالأحداث والوقائع التي عانتها الأمة من جراء هذه الدعوة المزعومة الكاذبة ومن ذلك:(49/324)
أعمالهم الإجرامية في بلاد المغرب:
أ- فقد ذكر ابن خلدون في مقدمته وتاريخه العديد ممن ادعى أنه المهدي وما جرى على أيديهم من نكبات وويلات تعرضت لها الأمة، وتقدمت الإشارة لذلك. وأيضا فقد ذكر ابن خلدون أعمال العنف والقتل التي قام بها خليفة المهدي ابن تومرت في بلاد المغرب.
وقد مات محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين سنة أربع وعشرين وخمسمائة للهجرة، وقد عهد ابن تومرت بأمره من بعده لكبير أصحابه (عبد المؤمن بن علي الكومي) ، وقد ذكر المؤرخون الأحداث التي جرت على أيدي المذكور عبد المؤمن وأبنائه من بعده، وجاء ذلك في تاريخ ابن خلدون في المجلد السادس من صفحة 305 لغاية 311 تحت عنوان: (الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بنيه) . ب- وجاء في وفيات الأعيان لابن خلكان ص 45 ج 5(49/324)
تحت عنوان (المهدي بن تومرت) قال: هو أبو عبد الله محمد بن تومرت المنعوت بالمهدي الهرغي صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب وكان ينسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- إلى أن قال: وهو من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب - ثم أسهب في بيان دعوته ونحلته.
خلاصة القول قال: إن محمدا لم يزل حتى جهز جيشا عدد رجاله عشرة آلاف مقاتل بين فارس وراجل وفيهم عبد المؤمن - فنزل القوم لحصار مراكش وأقاموا عليها شهرا ثم كسروا كسرة شنيعة وهرب من سلم من القتل، وحضرت الوفاة محمد بن تومرت وأوصى من حضر من القائمين أن النصر لهم فلا يضجروا وليعاودوا القتال. . . وأطال ابن خلكان إلى أن قال ص 49: وتوجه عبد المؤمن وأعوانه جميعا إلى مراكش وملكها (أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين) وكان ملكا عظيما حليما ورعا عادلا متواضعا. . . وأسهب في الحديث عن المهدوية وأعمالها في دولة بني تاشفين.
وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان) ص 126 ج 7:
ولما خرج عبد المؤمن بن علي المتقدم ذكره قاصدا بلاد المغرب ليأخذها من علي بن يوسف بن تاشفين، فوصل إلى وهران - وسمى ذلك الموضع (بالرباط) - ثم توجه إلى تلمسان - وهي مدينة قديمة- ثم توجه إلى مدينة فاس وحاصرها وأخذها في سنة أربعين وخمسمائة، ثم قصد مراكش وفيها (إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين) حيث تولى إسحاق الأمر بعد موت أبيه (علي)(49/325)
سنة سبع وثلاثين وخمسمائة في شهر رجب. وحاصر عبد المؤمن مراكش أحد عشر شهرا فأخذها ثم نزل عبد المؤمن القصر بعد مقتل إسحاق وذلك في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وانقرضت دولة بني تاشفين. وهكذا تفعل دعاة المهدوية حتى يتوصلوا إلى كرسي الملك والحكم.
وقال ابن خلكان: يوسف بن تاشفين اللمتوني أمير المسلمين وملك الملثمين وهو الذي اختط مدينة مراكش وكان موضعها مكمنا للصوص، وكان يوسف هذا رجلا شجاعا عادلا مقداما- وأطال ابن خلكان في ترجمته، ومن أراد المزيد من الاطلاع على أعمال المهدوية في بلاد المغرب فليراجع المجلد الخامس من (وفيات الأعيان لابن خلكان) من ص 45 ولغاية 55، والمجلد السابع ص 125- 127.(49/326)
أعمالهم الإجرامية في المشرق العربي:
جاء في وفيات الأعيان ص 147 ج 2 قال ابن خلكان: قال شيخنا ابن الأثير في هذه السنة سنة ثمان وسبعين ومائتين تحرك قوم بسواد الكوفة يعرفون بالقرامطة ثم بسط القول في ابتداء أمرهم. . . وحاصله: أن رجلا أظهر العبادة والزهد والتقشف وكان يدعو الناس إلى إمام من أهل البيت (المهدي) -رضي الله عنهم- وأقام على ذلك مدة فاستجاب له خلق كثير. . . إلى أن قال: بعد هذا في سنة ست وثمانين ظهر رجل من القرامطة يعرف (بأبي سعيد الجنابي) بالبحرين واجتمع إليه(49/326)
جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره فقتل من حوله من أهل تلك القرى. وقد تقدم أن أبا سعيد الجنابي هذا ادعى أنه المهدي المنتظر. وقد بسط القول ابن خلكان في وفيات الأعيان في بيان أعماله الإجرامية من قتل وسفك للدماء وتحريق في النار واستولى على كثير من بلاد المسلمين حتى وصل إلى بلاد الشام سنة تسع وثمانين ومائتين.
مقتل أبي سعيد الجنابي:
قال ابن خلكان: وقتل أبو سعيد الجنابي سنة إحدى وثلاثمائة قتله خادم له وهو في الحمام وقام مقامه ولده (أبو طاهر سليمان بن سعيد الجنابي) وأسهب ابن خلكان في بيان أعمال أبي طاهر الجنابي الإجرامية في وفيات الأعيان من ص 148 لغاية 150 المجلد الثاني.
أقول: وللعلم فإن ابن خلكان بسط القول في دعاة المهدوية من القرامطة في كتابه وفيات الأعيان في ترجمة (الحلاج) لأنهم من الزنادقة والحلاج زنديق مثلهم من ص 140 لغاية 157 ج2. وأما الحافظ ابن كثير: فقد أسهب وأطال في بيان الأحداث الإجرامية، والأعمال الدموية، التي وقعت على أيدي هؤلاء الملاحدة وكيف فتكوا بالمسلمين فتك الوحوش بفريستها واستباحوا ديار المسلمين واستحلوا محارمهم، وقتلوا الحجيج وذبحوهم ذبح البقر وجزر الإبل، وأذاقوا الأمة صنوف العذاب، ومن أراد(49/327)
الوقوف على أعمالهم الوحشية فليراجع البداية والنهاية لابن كثير الجزء الحادي عشر من ص 147- 152، والمصيبة الكبرى والكارثة العظمى والمجزرة التي انتهكوها وتقشعر منها الأبدان، فليراجع من صفحة 160 ولغاية 163 نفس الجزء والمصدر تحت عنوان حوادث سنة 317 هـ. وهكذا تصنع دعاة المهدوية بالمسلمين ومقدساتهم حتى يتضح لكل منصف أن دعاة المهدوية سفاحون سفاكون للدماء.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1)
__________
(1) سورة ق الآية 37(49/328)
المهدي المنتظر رحمة للأمة:
والحق أن المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالأخبار الثابتة والأحاديث الصحيحة هو رحمة للأمة وغيث لأهل الأرض، تستبشر الأمة بقدومه وتنعم الدنيا بوجوده ويسعد أهل الأرض في ظله وأيام حكمه، فتزهر الدنيا أيام مكثه فيعم الخير وتكثر البركة وينشر العدل في الأرض، فيأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فلا قتل ولا سلب ولا شحناء ولا بغضاء بين الناس ولا خصومة، فبهذا كان المهدي المنتظر رحمة للأمة، وقد جاءت الأحاديث مصرحة بذلك ومن ذلك:
1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله(49/328)
الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعا أو ثمانيا يعني صحاحا» .
أخرجه الحافظ أبو عبد الله الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي على ذلك. كتاب (عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر) ص 215.
2 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تنعم أمتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط ويرسل السماء عليهم مدرارا ولا تدع الأرض شيئا من نباتها إلا أخرجته (1) » . رواه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي والحافظ الطبراني في معجمه. (عقد الدرر، ص 216) .
3 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ «"يخرج رجل من أهل بيتي يعمل بسنتي وينزل الله له البركة من السماء وتخرج الأرض بركاتها وتملأ به عدلا كما ملئت ظلما وجورا يعمل على هذه الأمة سبع سنين وينزل بيت المقدس» . أخرجه الإمام أبو عمر الداني في سننه وأخرجه الحافظ أبو نعيم في صفة المهدي. (عقد الدرر، ص 78) .
فهذه الأحاديث المتقدمة صريحة في وظيفة المهدي ومهمته لأهل الأرض فإن الله سبحانه وتعالى يظهره بالخير والرحمة للبشرية جمعاء في آخر الزمان، والفارق كبير بين دعاة الحق الذين تسعد بهم الأمة من أئمة الهدى والصلاح وبين دعاة الضلالة
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4083) .(49/329)
من أهل الأهواء وأصحاب الأطماع والتي شقيت البلاد بوجودهم وظلمت العباد بحكمهم، فالفرق عظيم بين دعاة الحق ودعاة الشر قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (1) {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (2) . ورحم الله الشاعر البحتري حين قال:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
__________
(1) سورة القلم الآية 35
(2) سورة القلم الآية 36(49/330)
عقيدة الشيعة في المهدي المنتظر:
تعريف الشيعة: قال الإمام الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ في كتابه الملل والنحل ص 146 ج 1: الشيعة هم الذين شايعوا عليا -رضي الله عنه- على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصية، إما جليا وإما خفيا واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بتنصيبهم بل هي قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز للرسل -عليهم الصلاة والسلام- إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله.
وهذا ما نص عليه أيضا كتاب عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر - عميد كلية الفقه بالنجف في بلاد العراق صفحة 60 تحت عنوان (عقيدتنا في أن الإمامة بالنص) .(49/330)
أ- الشيعة الكيسانية: هم أتباع كيسان مولى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقيل: كيسان هو تلميذ لعلي بن أبي طالب، وقيل هو المختار بن أبي عبيد كان يلقب بكيسان، وهؤلاء الشيعة الكيسانية ادعوا إمامة (محمد بن الحنفية) وأنه هو المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومحمد بن الحنفية هو ابن علي بن أبي طالب، أمه خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة من بني حنيفة بن لجيم ويقال بل كانت من سبي اليمامة في حروب الردة وصارت إلى علي بن أبي طالب فأنجبت له محمدا هذا وانتسب محمد إلى أمه وكانت ولادته سنة (16 هـ) في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وكان محمد ابن الحنفية عالما فاضلا شجاعا توفي -رضي الله عنه- سنة (81 هـ) . (وفيات الأعيان لابن خلكان من صفحة 169- 173) وذكر ذلك مختصرا عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 هـ في كتابه الفرق بين الفرق ص 38.
عقيدة الشيعة الكيسانية في المهدي المنتظر:
تعتقد الشيعة الكيسانية بأن محمد ابن الحنفية لم يمت إنما دخل جبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، وأنه المهدي المنتظر، وأنه سيعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، وهذا أول حكم بالغيبة والعودة حكم به الشيعة وأصبح ركنا من أركان التشيع(49/331)
عند الشيعة. وبهذه المناسبة يقول الشاعر كثير عزة وكان شيعيا كما نقل ذلك عبد القاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) ص 41 والشهرستاني في (الملل والنحل) ص 150 ج 1 وغيرهما كابن كثير في تاريخه وابن خلدون في مقدمته.
يقول كثير عزة:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
والذي عناهم الشاعر في هذه الأبيات المتقدمة هم: علي بن أبي طالب وأبناؤه الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية -رضي الله عنهم- وأرضاهم آل البيت وطيب الله ثراهم.
أما علي: فهو الخليفة الرابع للخلفاء الراشدين ولد قبل البعثة النبوية بعشر سنين وقتل شهيدا في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين هجرية قتله عدو الله عبد الرحمن بن ملجم(49/332)
المرادي الخارجي. جاء في كتاب (نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار) ص 108، ذكر المؤلف أبياتا من الشعر لعمران بن حطان الرقاشي الخارجي والتي يمدح بها ابن ملجم في قتله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
قال عدو الله:
لله در المرادي الذي فتكت ... كفاه مهجة شر الخلق إنسانا
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فأجابه القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الشافعي -رحمه الله- ورد عليه ردا شافيا فقال:
إني لأبرأ مما أنت قائله ... عن ابن ملجم الملعون بهتانا
يا ضربة من شقي ما أراد بها ... إلا ليهدم للإسلام أركانا
إني لأذكره يوما فألعنه ... دينا وألعن عمرانا وحطانا
عليه ثم عليه الدهر متصلا ... لعائن الله إسرارا وإعلانا(49/333)
فأنتم من كلاب النار جاء به ... نص الشريعة برهانا وتبيانا
عليكما لعنة الجبار ما طلعت ... شمس وما أوقدوا في الكون نيرانا
أما الحسن بن علي -رضي الله عنه- قال ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة ص 328 ج 1: ولد -رضي الله عنه- سنة ثلاث من الهجرة ومات سنة ثمان وخمسين على خلاف في موته، وتنازل عن الخلافة لمعاوية -رضي الله عنه- في سنة إحدى وأربعين لحقن دماء المسلمين وذلك مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (1) » رواه البخاري. (نور الأبصار، ص 121) .
أما الحسين -رضي الله عنه-: وهو الذي عناه الشاعر بقوله: (وسبط غيبته كربلاء) وهو الحسين بن علي -رضي الله عنه- ولد في شعبان سنة سبع للهجرة وقتل شهيدا يوم عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة في كربلاء في أرض العراق. (الإصابة في تمييز الصحابة ص 333 ج 1) .
وأما محمد ابن الحنفية -رضي الله عنه-: فهو الذي عناه الشاعر كثير عزة في البيتين الأخيرين (وسبط لا يذوق الموت حتى. . . الخ) وهو المهدي المنتظر بزعمهم الذي اختفى في جبل رضوى.
جاء في وفيات الأعيان ص 173 ج 4 قال ابن خلكان:
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2704) ، سنن الترمذي المناقب (3773) ، سنن النسائي الجمعة (1410) ، سنن أبو داود السنة (4662) ، مسند أحمد بن حنبل (5/51) .(49/334)
والفرقة الكيسانية تعتقد بإمامة محمد ابن الحنفية ويزعمون أنه مقيم برضوى في شعب منه ولم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه ولم يوقف لهم على خبر، وهم أحياء يرزقون ويقولون إنه مقيم في هذا الجبل بين أسد ونمر وعنده عينان نضاختان تجريان عسلا وماء، وإنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلا، وقد أطال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل ص 150 ج 1 في هذا الموضوع.
وجاء في الأنوار البهية للسفاريني الحنبلي ص 85 ج 2 قال -رحمه الله-: وكان السيد الحميري على مذهب الشيعة الكيسانية وهو القائل:
ألا قل للإمام فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما
قال: وجبل رضوى هو جبل جهينة قريبا من ينبع بينهما مسيرة يوم واحد وهو من المدينة على سبع مراحل وهو على ليلتين من البحر وقد أطال الشرح في كتابه المذكور.(49/335)
2 - الشيعة الإمامية:
والشيعة الإمامية هم القائلون بإمامة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- بعد النبي صلى الله عليه وسلم نصا ظاهرا وتعيينا صادقا، والإمامة لأولاده من بعده ويعتقدون بالأئمة الاثني عشر وهم: علي بن أبي طالب الملقب بالمرتضى، والحسن بن علي (الزكي) ، والحسين بن علي (سيد الشهداء) ، وعلي بن الحسين (زين العابدين) ، ومحمد بن علي (الباقر) ، وجعفر بن(49/335)
محمد (الصادق) ، وموسى بن جعفر (الكاظم) ، وعلي بن موسى (الرضا) ، ومحمد بن علي (الجواد) ، وعلي بن محمد (الهادي) ، والحسن بن علي (العسكري) ، ومحمد بن الحسن (المهدي) ، والأخير منهم هو المتمم للأئمة الاثني عشر وهو المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية، كما جاء في كتاب عقائد الإمامية ص 62 لمحمد رضا المظفر - عميد كلية الفقه بالنجف في أرض العراق تحت عنوان عقيدتنا في عدد الأئمة.
عقيدة الشيعة الإمامية في المهدي المنتظر:
والأئمة الاثنا عشر المذكورون -رضي الله عنهم- هم مرجع الشيعة الإمامية في الأحكام الشرعية ويقولون بعصمتهم- كالأنبياء والرسل عليهم السلام- من جميع الكبائر والصغائر، وهم حفظة الشرع والقوامون عليه.
ويعتقدون أن (محمد بن الحسن العسكري الإمام الثاني عشر هو المهدي المنتظر والذي ولد سنة 256 هـ ودخل سرداب سامراء في دار أبيه في العراق وعمره خمس سنوات ولم يزل حيا في السرداب وسيخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما. وهذا ما يعتقده الشيعة في أئمتهم وقد صرح بذلك محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الإمامية) ص 51 تحت عنوان عقيدتنا في عصمة الإمام وتحت عنوان عقيدتنا في المهدي، ص 63.(49/336)
رأي عالم من علماء الشيعة المعاصرين:
وقال الدكتور موسى الموسوي في كتابه (الشيعة والتصحيح) : الصراع بين الشيعة والتشيع ص 61 وما بعدها تحت عنوان (الإمام المهدي) قال: تعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام الحسن العسكري وهو الإمام الحادي عشر للشيعة عندما توفي عام 260 هـ كان له ولد يسمى محمدا له من العمر خمس سنوات، وهو المهدي المنتظر. وهناك روايات أخرى تقول: إن المهدي ولد بعد وفاة والده العسكري. ومهما كان الأمر فإن المهدي تسلم منصب الإمامة بعد والده وبنص منه وبقي مختفيا عن الأنظار طيلة خمسة وستين عاما، وكانت الشيعة تتصل به في هذه الفترة عن طريق نواب عينهم لهذا الغرض والنواب هم: (عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد بن عثمان، وحسين بن روح وآخرهم علي بن محمد السيمري) .
وقال: وهؤلاء النواب الأربعة لقبوا بالنواب الخاص والفترة هذه تسمى بعصر الغيبة الصغرى، وفي عام 329 هـ وقبيل وفاة (علي بن محمد السيمري) بشهور قليلة وصلت رقعة إليه أي (رسالة) بتوقيع الإمام المهدي جاء فيها: (لقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد أن يأذن الله، فمن ادعى رؤيتي فهو كاذب مفتر) ، وهذا العام هو بداية الغيبة الكبرى ومنذ ذلك الحين انقطع اتصال الشيعة بالإمام بصورة مباشرة وغير مباشرة. وحتى إذا ادعى أحد ذلك فالشيعة تكذبه بسبب النص الوارد في آخر خطاب ورد إليهم من الإمام المهدي.(49/337)
وقال: وهذه خلاصة عقيدة الشيعة الإمامية في المهدي المنتظر، ولا تزال الشيعة في كل عام يوم الخامس من شهر شعبان تحتفل بولادة المهدي احتفالا كبيرا، وهو الإمام الوحيد الذي تحتفل الشيعة بيوم ولادته فقط، أما الأئمة الآخرون فتكون الاحتفالات في أيام مولدهم ووفاتهم على السواء.
وقال الدكتور: وفكرة المهدي وظهور قائد في آخر الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا موجودة في كثير من الأديان، وهناك أحاديث روتها كتب الصحاح عن النبي الكريم عن ظهور مهدي من ولده في آخر الزمان ولكن ليس على نحو التعيين.
وقال: وأما الشيعة فتستند على روايات نسبت إلى أئمتها أن المهدي المنتظر الذي أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إنما هو ابن الإمام الحسن العسكري، ونحن لا نريد أن ندخل في ذلك الجدل البيزنطي القديم حول المهدي وإعطاء تفسير عقلي لبقائه آلاف السنين في هذه الدنيا فنحن معاشر الشيعة كسائر الفرق الإسلامية الأخرى ما دمنا نعتقد بالغيب وأن الله على كل شيء قدير فلا نجد صعوبة في الاعتقاد بأن إنسانا ما يعيش في هذه الدنيا خارجا عن القوانين الطبيعية آلاف السنين فالقرآن الكريم صريح بأن نوحا عاش في قومه ألفا إلا خمسين عاما وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا وأن الله رفع عيسى ابن مريم وهو حي في رحابه. . . إلى أن قال: وفكرة المهدي بحد ذاتها فكرة جميلة فهي توحي في الخير(49/338)
المحض والتطلع إلى عالم مليء بالخيرات والفضائل والحسنات، عالم مثالي طالما دعا إليه أفلاطون في جمهوريته، والفارابي الفيلسوف في مدينته الفاضلة، مضافا إلى تلك النظرية المثالية قيما إسلامية رفيعة.
وقال في كتابه المشار إليه ص 63: ولو أن الاعتقاد بوجود المهدي بقي محصورا في الإيمان بوجود إمام غائب من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر في يوم ما ويملأ الأرض قسطا وعدلا لكان المسلمون بخير، ولكن مع الأسف الشديد أن فقهاء المذهب الجعفري ألصقوا إلى المهدي جناحين شوهوا بهما صورة المهدي الرفيعة الوضاءة. وهذان الجناحان بدعتان كبيرتان ألصقتا بالمذهب الشيعي في عهد ظهور الصراع بين الشيعة والتشيع وهما تتناقضان مناقضة صريحة واضحة مع نصوص القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الإمام علي والأئمة من بعده.
البدعة الأولى: هي تفسير الخمس في أرباح المكاسب.
والبدعة الثانية: هي ولاية الفقيه في المجتهدين.
وقال: إن الزعامات المذهبية التي تولت أمور الشيعة الدينية بعد الغيبة الكبرى بسبب فتح باب الاجتهاد، ولا زالت هي الماسكة بزمام العقيدة الشيعية حتى هذا اليوم كانت وراء هاتين البدعتين، وأسهب في حديثه عن هاتين البدعتين في كتابه المذكور لغاية ص 78 وقد أجاد وأفاد في توضيح هاتين المسألتين.(49/339)
وهذه هي خلاصة ما كتبه الدكتور الموسوي في عقيدة المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية وهو لا يستبعد ذلك ما دام أن الله على كل شيء قدير.
أقول: لا شك أن الله تبارك وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه على كل شيء قدير. ولكن إثبات قصة صاحب السرداب محمد بن الحسن العسكري وأنه المهدي المنتظر بدليل حياة نوح عليه السلام، وطول مكثه في الأرض وبقصة أصحاب الكهف وبحياة عيسى ابن مريم في السماء لهو استدلال مرفوض لأن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أثبتت ذلك وتحدثت عن المذكورين، ولم يثبت دليل واحد من القرآن أو السنة بسند صحيح أو ضعيف تشير إلى اختفاء محمد بن الحسن العسكري في سرداب سامراء وأنه الإمام المنتظر في آخر الزمان. وإنما هي حكايات عن أئمة الشيعة تناقلوها فيما بينهم كما صرح بذلك الدكتور. وبمثل هذه الحكايات الموروثة لا تثبت بذلك الأمور الغيبية إنما تثبت بالقرآن أو السنة المطهرة، وكذا الحالة في كل أمر غيبي لا يثبت إلا بدليل شرعي لا بالعقل والاجتهاد ولا بالمنامات أو المكاشفات، وقد أشرت إلى ذلك في مقدمة البحث.
ومما يستحق الذكر فإن الدكتور الموسوي له كتاب جيد مفيد سماه (الثورة البائسة) كشف فيه خفايا الأمور، وصرح فيه عما لا يعرفه إلا أمثاله من المطلعين المعاصرين للأحداث، فحري بطلبة العلم أن يطلعوا عليه ويقفوا على ما فيه لتحذير(49/340)
الجماهير المصفقة للشعارات البراقة الخداعة حتى لا ينخدعوا بها كما اغتروا بها وانخدعوا من قبل.
ردود علماء الإسلام:
لقد رفض علماء الإسلام قصة ابن الحسن العسكري عند الشيعة الإمامية وسجلوا ردودهم في كتبهم التي لا حصر لها وأكتفي بذكر بعض المراجع منها:
كتاب (الفرق بين الفرق) ص 70 لعبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 هـ، وكتاب (البداية والنهاية) ص 39 ج 9 للحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ وأيضا كتابه (الفتن والملاحم) ص 31، وكتاب (المنار المنيف) ص 152 لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ، وكتاب (وفيات الأعيان) ص 176 ج 4 لابن خلكان المتوفى سنة 681 هـ، ومقدمة ابن خلدون ص 135 المتوفى سنة 808 هـ تحت عنوان (مذاهب الشيعة في حكم الإمامة) ، و (منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 212 ج 4 المتوفى سنة 728 هـ، وكتاب (الأنوار البهية) للسفاريني الحنبلي ص 71 ج 2 المتوفى سنة 1188 هـ وكتاب (الإشاعة لأشراط الساعة) للبرزنجي الشافعي ص 87 وص 120 المتوفى سنة 1103 هـ فهذه المراجع المذكورة أفادت بأن اختفاء محمد بن الحسن العسكري في سرداب سامراء لا حقيقة له ففيها الكفاية لمن أراد الحق.(49/341)
المهدي المنتظر عند أهل السنة:
أهل السنة والجماعة وعلماء المسلمين من فقهاء ومحدثين ومؤرخين ومفسرين وأدباء ومفكرين كلهم يؤمنون بظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان بين يدي الساعة، ولم يخالف في ذلك إلا القليل ممن لا يعتد بخلافه، ويعتقد أهل السنة أن المهدي المنتظر من آل البيت -رضوان الله عليهم-، وقد استدل أهل السنة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة في هذا الموضوع، واسمه (محمد بن عبد الله الحسني) من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، والأدلة على ذلك مستفيضة حتى قال الكثير من العلماء: إن أحاديث المهدي تواترت تواترا معنويا بحيث لا مجال لردها لثبوتها ولكثرة طرقها ورواتها، كما سيأتي قريبا.(49/342)
بعض الأحاديث الواردة في ظهور المهدي:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم (1) » رواه البخاري في باب نزول عيسى ابن مريم (2) . هذا الحديث الصحيح وإن لم يكن فيه دلالة صريحة على ظهور المهدي المنتظر وإنما فيه إشارة إلى أن هناك إماما للمسلمين مجتمعة عليه الأمة المحمدية عند نزول عيسى عليه السلام.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3449) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/483) .
(2) فتح الباري، ص (491) ج 6.(49/342)
2 - وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعالى صل لنا فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة (1) » رواه مسلم في كتاب الإيمان باب نزول عيسى ابن مريم.
هذه الأحاديث تفيد نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان، وأمر المسلمين قائم على رجل صالح منهم حيث هو الذي يؤمهم في الصلاة، وهذا يدل على صلاحه وتقواه، وأن عيسى ابن مريم يقتدي به ويصلي وراءه. وهذا مما يؤيد أن عيسى يكون تابعا وليس متبوعا حيث يصلي مأموما وراء إمام المسلمين القائم عند نزوله، ويحكم بالشريعة الإسلامية لا بشريعته المنسوخة، وسيأتي ذلك.
فالأحاديث التي وردت في السنن والمسانيد وغيرها تصرح بأن هذا الإمام القائم في آخر الزمان عند نزول عيسى عليه السلام هو (المهدي) وكما هو معلوم عند علماء الأصول أن الآيات القرآنية تفسر بعضها بعضا، والأحاديث النبوية يشرح بعضها بعضها، وقد جاء حديث جابر الآتي صريحا بأن هذا القائم على أمر المسلمين عند نزول عيسى ابن مريم هو المهدي كما جاء في مسند أبي أسامة في سنده.
3 - عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم (المهدي)
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/384) .(49/343)
تعال صل بنا فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة (1) » . قال ابن القيم في المنار المنيف ص 148: وهذا إسناد جيد.
وفي كتاب عقد الدرر في أخبار المنتظر ص 293 قال المحقق مهيب البوريني: قال الشيخ الغماري في كتابه (عقيدة أهل الإسلام) ص 105: حديث صحيح.
4 - عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا (2) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال: وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وقالت الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند ص 199 ج 5: إسناده صحيح، عقد الدرر في أخبار المنتظر ص 89.
5 - وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه نظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلا (3) » . أخرجه أبو داود والترمذي، وسكت عنه أبو داود ولا يسكت إلا على الحديث الصحيح، عقد الدرر ص 82.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/384) .
(2) الجامع للترمذي، ص (505) ج 4.
(3) سنن أبو داود المهدي (4290) .(49/344)
جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود ص 381 ج 11 قال الشارح محمد شمس الحق العظيم أبادي: يشبهه في السيرة ولا يشبهه في الصورة.
6 - وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة (1) » . أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه السيوطي في الجامع الصغير، فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ص 277 ج 6. قال ابن القيم في المنار المنيف ص 146: في إسناده زياد بن بيان، وثقه ابن حبان وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر.
7 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وعدوانا قال: ثم يخرج من عترتي أو من أهل بيتي من يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا (2) » . رواه أحمد في مسنده بسند صحيح.
جاء في عقد الدرر قال المحقق مهيب البوريني: أخرجه أحمد في المسند بسند صحيح رجاله ثقات في مسند أبي سعيد الخدري ص 36 ج 3.
__________
(1) سنن أبو داود المهدي (4284) ، سنن ابن ماجه الفتن (4086) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/36) .(49/345)
رأي العلماء في أحاديث المهدي:
أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) ص 211 ج 4: إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج(49/345)
المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره.
ب- قال الحافظ محمد بن عبد الرحمن المباركفوري في كتابه (تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي) ص 485 ج 6 قال: الأحاديث الواردة في خروج المهدي كثيرة جدا ولكن أكثرها ضعاف، ولا شك في أن حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه الترمذي في هذا الباب لا ينحط عن درجة الحسن، وله شواهد كثيرة من بين حسان وضعاف، فحديث عبد الله بن مسعود هذا مع شواهده وتوابعه صالح للاحتجاج به بلا مرية، فالقول بخروج المهدي وظهوره هو القول الحق والصواب والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ أيضا: وقال القاضي الشوكاني في الفتح الرباني: الذي أمكن الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر خمسون حديثا وثمانية وعشرون أثرا ثم سردها مع الكلام عليها ثم قال: وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع.
ج- قال الشريف البرزنجي في كتابه (الإشاعة لأشراط الساعة) ص 112: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها. اهـ(49/346)
د- قال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في كتابه (لوامع الأنوار البهية) ص 84 ج 2 قال: وقد كثرت بخروجه يعني المهدي الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي وأسماء بعض الصحابة الذين رووها ثم قال: وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم -رضي الله عنهم- بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي.
فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة. انتهى.
هـ- قال العلامة محمد شمس الحق العظيم أبادي في كتابه (عون المعبود شرح سنن أبي داود) ص 361 ج 11 قال: وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم أبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء -رضي الله عنهم- وأسانيد أحاديث هؤلاء بين صحيح وحسن وضعيف. انتهى.
وقال الشيخ صديق حسن خان القنوجي في كتابه (الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة) قال -رحمه الله-:(49/347)
والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر المعنوي وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد.
ز- قال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة 1345 هـ في كتابه (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) قال -رحمه الله-: وقد ذكروا أن نزول سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام- ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ثم قال: والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة وكذا الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-. انتهى.(49/348)
أقوال الأئمة في المهدي المنتظر:
1 - قول ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري شرح البخاري) عند شرحه لحديث نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ص 493 ج 6 قال -رحمه الله-: وعند أحمد من حديث جابر في قصة الدجال ونزول عيسى: «وإذ هم بعيسى فيقال: تقدم يا روح الله القدس فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم (1) » . ولابن ماجه من حديث أبي أمامة الطويل في الدجال قال: «وكلهم أي المسلمون في بيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت» .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/368) .(49/348)
وقال ابن حجر: قال أبو الحسن الآبري في كتاب (مناقب الشافعي) تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلي خلفه. . . إلى أن قال ابن حجر: وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة. والله أعلم.
2 - قول الإمام القرطبي صاحب التفسير المتوفى سنة 671 هـ قال -رحمه الله- في كتابه (التذكرة) ص 617 قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الآبري السجزي:
قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم عن المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه سيملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى صلوات الله وسلامه عليه يصلي خلفه.
3 - قال الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ جاء في كتابه النهاية ص 27 قال -رحمه الله-: فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان وهو أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين- فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكون في آخر الدهر وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى ابن مريم كما دلت على ذلك الأحاديث. وأسهب في ذلك.(49/349)
4 - قول السمهودي المتوفى سنة 911 هـ قالت -رحمه الله-:
ويتحصل مما ثبت في الأخبار عنه- أي المهدي - أنه من ولد فاطمة، وفي أبي داود أنه من ولد الحسن والسر فيه ترك الحسن الخلافة لله شفقة على الأمة، فجعل القائم بالخلافة الحق عند شدة الحاجة وامتلاء الأرض ظلما من ولده، وهذه سنة الله في عباده أنه يعطي لمن ترك شيئا من أجله أفضل مما ترك أو يعطي ذريته وقد بالغ الحسن بن علي في ترك الخلافة ونهى أخاه الحسين عنها وتذكر ذلك ليلة مقتله فترحم على أخيه. وما روي من كونه- أي المهدي - من ولد الحسين فواه جدا. انتهى. ذكر ذلك المناوي في كتاب فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي ص 279 ج 6. (والسمهودي هو أبو الحسن نور الدين علي السمهودي مؤرخ المدينة المنورة صاحب كتاب " وفاء الوفا ") (1) . 5- قول الشيخ ملا علي قاري الحسيني المتوفى سنة 1014 هـ قال -رحمه الله- في شرحه كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة عند قول الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-: وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام قال: وفي نسخة قدم طلوع الشمس على البقية. وعلى كل تقدير فالواو لمطلق الجمع، وإلا فترتيب
__________
(1) الإشاعة لأشراط الساعة، للبزرنجي ص (4) .(49/350)
القضية أن المهدي -عليه السلام- يظهر أولا في أرض الحرمين ثم يأتي بيت المقدس فيأتي الدجال ويحصره في ذلك الحال فينزل عيسى -عليه السلام- من المنارة الشرقية في دمشق الشام ويجيء إلى قتال الدجال فيقتله بضربة في الحال فإنه يذوب كالملح فيجتمع عيسى -عليه السلام- بالمهدي -رضي الله عنه- وقد أقيمت الصلاة فيشير المهدي لعيسى بالتقدم فيمتنع معللا بأن الصلاة أقيمت لك فأنت أولى بأن تكون الإمام في هذا المقام ويقتدي به ليظهر متابعته لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. . . إلى أن قال: وفي شرح العقائد، الأصح أن عيسى -عليه السلام- يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل وإمامته أولى. قال ملا علي قاري: ولا ينافي ما قدمناه كما لا يخفى.
قال الشريف البرزنجي في كتابه (الإشاعة لأشراط الساعة) ص 106: فإن عيسى لا يسلب المهدي ملكه فإن الأئمة من قريش ما دام من الناس اثنان، وعيسى يكون من أخص وزرائه وتابعا له لا أميرا عليه، ومن ثم يصلي خلفه ويقتدي به كما يدل عليه حديث جابر عند مسلم. . . إلى أن قال: ثم يكون عيسى إماما بعده لأنه ثبت إمامته وإمارته، جاز أن يعينه إماما للصلاة لأنه أفضل وأفضليته لا تستلزم خلافته.
أقول: ولهذا جاء في فتح الباري شرح البخاري ص 494 ج 6 قال ابن حجر العسقلاني وقال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إماما لوقع في النفس إشكال ولقيل: أتراه(49/351)
تقدم نائبا أو مبتدئا شرعا فصلى مأموما لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي (1) » . انتهى.
7 - قال العلامة محمد شمس الحق العظيم أبادي في كتابه (عون المعبود شرح سنن أبي داود) ص 361 ج 11: واعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى -عليه السلام- ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل من بعده فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3455) ، صحيح مسلم الإمارة (1842) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2871) ، مسند أحمد بن حنبل (2/297) .(49/352)
خلاصة القول في الموضوع:
إن جمهور علماء الإسلام من سلف هذه الأمة وخلفها أثبتوا ظهور المهدي في آخر الزمان بين يدي الساعة كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة ونطقت بذلك الآثار والأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وظهور المهدي في آخر الزمان إنما هو نصرة لهذا الدين الحنيف وإعزاز للمسلمين بعد أن تكالبت على هذه الأمة قوى الشر والعدوان وتمالأت عليها دول الكفر والطغيان من كل مكان فأذاقوا المسلمين صنوف العذاب وساموهم بأنواع البلاء فأصاب العابد الذل والهوان وطغى الشر وعم الظلم، والحال هذه يبعث الله المهدي والأمة في شقاء وعناء وفي كرب وبلاء من فتن ومحن وظلم وطغيان، فالله تبارك(49/352)
وتعالى يرحم الأمة المحمدية بظهوره ويستبشر المسلمون بخروجه فيقضي على الشر والجور ويحقق على يديه العدل والخير ويعز الله به المسلمين ويذل المنافقين ويخذل أعداء الدين من الكفرة المعاندين، فهو المنقذ لهذه الأمة مما تعانيه في آخر الزمان من الجور والعدوان وهو المصلح لها أمر دينها عندما اشتدت غربة الإسلام، فالعصر الذهبي لهذه الأمة في آخر الزمان هو عصر المهدي الذي بشر به سيد الأنام، وهذه بشرى للمؤمنين ورحمة للمسلمين ونحمد الله رب العالمين راحم المسلمين قال تعالي: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (2) .
إن موضوع ظهور المهدي الحق الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم هو حقيقة غيبية وليس بقصة خيالية وإنما هو حق بلا شك ولا ريب كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (3) .
__________
(1) سورة الروم الآية 4
(2) سورة الروم الآية 5
(3) سورة الكهف الآية 29(49/353)
شبهة والرد عليها:
يصرح البعض من المنكرين للمهدي المنتظر بين يدي الساعة بقولهم: إن أحاديث المهدي التي بشرت بظهوره إنما هي أحاديث آحاد وليست متواترة، ولا تثبت الأمور الغيبية بأحاديث(49/353)
الآحاد على حد قولهم وزعمهم.
فالجواب: إن القول بعدم الأخذ بأحاديث الآحاد في باب العقائد والإيمان بالغيبيات إنه لقول باطل مبتدع في الدين لم يرد ذلك عن سلف الأمة ولم يقل بذلك علماؤها وأئمتها الفحول.
وإنما ابتدعته طوائف المعتزلة والقدرية وأهل الكلام من فرق الضلال، وذلك لنفي صفات الله تعالى التي ثبتت بأحاديث الآحاد، فلم يحتجوا بها مع ثبوتها خوفا من التشبيه فوقعوا بالتعطيل حيث نفوا عن الله تعالى صفات الكمال التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا عجب من قولهم هذا، فهؤلاء القوم أولوا صفات الله تعالى الثابتة في كتابه العظيم وهي الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة الله تعالى: كالمجيء والنزول والاستواء والغضب والرضى والمحبة، فأولوها على غير مدلولها وصرفوا المعنى المراد منها على غير حقيقته فقالوا: وجاء ربك أي جاء أمره، والاستواء بمعنى الاستيلاء، والنزول نزول رحمته وأمره، والغضب كناية عن العقاب، والرضى كناية عن الثواب، والمحبة كناية عن الإحسان، فهؤلاء هم نفاة الصفات، وكذلك أولوا اليدين بالنعمة والقدرة، والوجه بالذات، كل ذلك فرارا من التشبيه فوقعوا في التعطيل كالمستجير من الرمضاء بالنار.
فعقيدة أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه في القرآن الكريم من صفات الكمال، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثبتون ذلك لله تعالى(49/354)
إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما أثبتها الله لنفسه قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
فالله جل وعلا نفى عن نفسه المشابهة والمماثلة لخلقه، وأثبت لنفسه السمع والبصر على ما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، فالسمع والبصر صفات كمال لله تعالى، ليست كصفات المخلوقين. كما قال السلف الصالح: لله ذات تليق بعظمته لا تشبه الذوات كذلك لله صفات لا تشبه الصفات.
فأهل الحق من هذه الأمة المحمدية هم الذين يتبعون الكتاب العظيم والسنة المطهرة، ويتمسكون بهما يؤمنون بكل ما جاء عن الله على مراد الله تبارك وتعالى، ويؤمنون بكل ما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أهل الأهواء من فرق الضلال فقد آمنوا بالله حسب هواهم وما أملته عليه عقولهم وشياطينهم فوقعوا في متاهات لا حدود لها في باب العقيدة، وخصوصا في باب الصفات وضلوا ضلالا بعيدا عن الحق. نعوذ بالله من الزيغ والضلال.
وجمهور علماء الإسلام يحتجون بأحاديث الآحاد ويأخذون بها في باب العقيدة والأحكام ولا يفرقون بالاستدلال بها في باب العقائد والعبادات والمعاملات، فالاحتجاج بخبر الواحد هو العمل به عند أهل الإسلام منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا، ولا يعتد بمن خالف في ذلك قديما من أهل الكلام وفرق الضلال،
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(49/355)
ولا من خالف وعاند في هذا الزمان كأمثال التحريريين، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم فهم ضعفاء في العلم والعمل غلاظ في المراء والجدل، يرفضون أحاديث الآحاد في باب العقائد والمغيبات.
والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة تفيد الأخذ بخبر الواحد، وقد عقد الإمام البخاري بابا في صحيحه قال: (باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق) تحت عنوان: [كتاب أخبار الآحاد] وساق الأدلة على قبول الأخذ بخبر الواحد سواء كان في باب العقيدة أو الأحكام.
وقد أطال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري من صفحة 231 لغاية 244 المجلد الثالث عشر في بيان حجة خبر الواحد.
وكذلك كتب الإمام الشافعي محمد بن إدريس المتوفى سنة 204 هـ كتابا في أصول الفقه سماه (الرسالة) وعقد بابا في هذا الموضوع تحت عنوان (باب الحجة في تثبيت خبر الواحد) وقد أسهب في الموضوع وأثبت بأن خبر الواحد حجة.
وهناك العديد من كتب الأصول لعلماء الإسلام تعرضت لهذا البحث ففيها الجواب الكافي لمن أراد الحق والوصول إليه والعمل به.
أقول: وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه رسلا إلى ملوك الأرض يدعونهم إلى الإسلام ومن ذلك بعث دحية الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبد الله بن حذافة(49/356)
السهمي إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وغيرهم إلى ملوك الأرض.
فهؤلاء الرسل من الصحابة الكرام كل منهم يحمل دعوة العقيدة ورسالة التوحيد، وهذا دليل قاطع على قبول خبر الواحد في العقائد والأحكام؛ لهذا فإن أحاديث المهدي المنتظر في آخر الزمان الثابتة الصحيحة التي وردت بأخبار الآحاد مقبولة وعلى المسلم تصديقها والإيمان بها وإلا كان من أهل الأهواء، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين.
وصلى الله وسلم على رسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين.(49/357)
صفحة فارغة(49/358)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 64
في 25 \ 10 / 1398 هـ
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة الثالثة عشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الآخر من شهر شوال 1398 هـ بمدينة الطائف، وبناء على رغبة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في إحالة موضوع الاستفتاء الوارد إلى الرابطة من رئيس تحرير جريدة (مسلم نيوز) الصادرة بـ (كيب تون) إلى هيئة كبار العلماء؛ لإعداد بحث في الموضوع، وتقرير ما تراه الهيئة نحوه، والمتضمن الإفادة بأن المسلمين في تلك الجهة يواجهون مشكلة كبيرة، بسبب ما أقدم عليه مجلس مشروع التحقيقات العالمية والصناعية الذي يعمل على إنتاج ماء للشرب النقي من مياه المجاري، وأنهم يسألون عن حكم استعمال هذه المياه بعد تنقيتها للوضوء.
بناء على ذلك، فقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك، من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، كما اطلع(49/359)
المجلس على خطاب معالي وزير الزراعة والمياه رقم 1299 \ 1 وتاريخ 30 / 1398 \ 5 هـ، وبعد البحث والمداولة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه، أو بإضافة ماء طهور إليه، أو زال تغيره بطول مكث، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك؛ لزوال الحكم بزواله علته.
وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لإعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك، ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم.
لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة، بحيث تعود إلى خلقتها الأولى، لا يرى فيها تغير بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع ذلك؛ محافظة على النفس وتفاديا للضرر لا لنجاستها.(49/360)
والمجلس إذ يقرر ذلك، يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل؛ احتياطا للصحة، واتقاء للضرر، وتنزها عما تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(49/361)
قرار رقم (176) وتاريخ 17 \ 3 \ 1413 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف في الفترة من 24 \ 2 \ 1413 هـ إلى 18 \ 3 \ 1413 هـ اطلع على الاستفتاء الوارد من استشاري طب الأطفال د. إبراهيم بن سليمان الحفظي المؤرخ في 25 \ 11 \ 1412 هـ المتعلق بطفلة أنثى اتضح بالفحص الطبي عليها أنها تحمل بعض خصائص الذكورة، ودرس المجلس موضوع تحويل الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر، واطلع على البحوث المعدة في ذلك، كما اطلع على قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي الذي أصدره في دورته الحادية عشرة في الموضوع. وبعد البحث والمناقشة والدراسة قرر المجلس ما يلي:(49/362)
أولا: لا يجوز تحويل الذكر الذي اكتملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها إلى النوع الآخر، وأي محاولة لهذا التحويل تعتبر جريمة يستحق فاعلها العقوبة؛ لأنه تغيير لخلق الله، وقد حرم سبحانه هذا التغيير بقوله تعالى مخبرا قول الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (1) . وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل) . ثم قال: (ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل: (3) » .
ثانيا: أما من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال فينظر فيه إلى الغالب من حاله؛ فإن غلبت عليه علامات الذكورة جاز علاجه طبيا بما يزيل الاشتباه في ذكورته، ومن غلبت عليه علامات الأنوثة جاز علاجه طبيا بما يزيل الاشتباه في أنوثته، سواء كان العلاج بالجراحة أم بالهرمونات، لما في ذلك من المصلحة العظيمة ودرء المفسدة.
ثالثا: يجب على الأطباء بيان النتيجة المتضحة من الفحوص الطبية لأولياء الطفل ذكرا كان أو أنثى؛ حتى يكونوا
__________
(1) سورة النساء الآية 119
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2125) ، سنن أبو داود الترجل (4169) ، سنن ابن ماجه النكاح (1989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) ، سنن الدارمي الاستئذان (2647) .
(3) سورة الحشر الآية 7 (2) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(49/363)
على بينة من الواقع. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء(49/364)
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي
القرار الخامس
بشأن حكم التطهر بمياه المجاري بعد تنقيتها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989 م قد نظر في السؤال عن حكم ماء المجاري بعد تنقيته، هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغسل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟
وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية، وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربعة:
وهي الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم.(49/365)
قرر المجمع ما يأتي: إن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه صار طهورا يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به؟ بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
أسماء الأعضاء
نائب الرئيس ... . ... رئيس مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
د. عبد الله عمر نصيف ... - ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد بن جبير ... د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد الرحمن البسام
- ... مخالف (لوجهة النظر المرفقة) ... -
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... محمد بن عبد الله السبيل ... مصطفى أحمد الزرقا
متوقف ... - ... -
- ... د. يوسف القرضاوي ... د. محمد رشيد راغب القباني
محمد الشاذلي النيفر ... أبو بكر جومي ... د. أحمد فهمي أبو سنه
د. محمد الحبيب بن الخوجه ... - ... محمد سالم عدود
محمد محمود الصواف ... - ... د. طلال عمر بافقيه
- ... - ... (مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)(49/366)
وجهة نظر في الاستعمالات الشرعية والمباحة لمياه المجاري المنقاة
الحمد لله وبعد. .
فإن المجاري معدة في الأصل لصرف ما يضر الناس في الدين والبدن طلبا للطهارة ودفعا لتلوث البيئة.
وبحكم الوسائل الحديثة لاستصلاح ومعالجة مشمولها لتحويله إلى مياه عذبة منقاة صالحة للاستعمالات المشروعة والمباحة مثل: التطهر بها، وشربها، وسقي الحرث منها، بحكم(49/366)
ذلك صار السبر للعلل والأوصاف القاضية بالمنع في كل أو بعض الاستعمالات، فتحصل أن مياه المجاري قبل التنقية معلة بأمور:
الأول: الفضلات النجسة بالطعم واللون والرائحة.
الثاني: فضلات الأمراض المعدية وكثافة الأدواء والجراثيم (البكتريا) .
الثالث: علة الاستخباث والاستقذار لما تتحول إليه باعتبار أصلها ولما يتولد عنها في ذات المجاري من الدواب والحشرات المستقذرة طبعا وشرعا.
ولذا صار النظر بعد التنقية في مدى زوال تلكم العلل وعليه:
فإن استحالتها من النجاسة بزوال طعمها ولونها وريحها لا يعني ذلك زوال ما فيها من العلل والجراثيم الضارة.
والجهات الزراعية توالي الإعلام بعدم سقي ما يؤكل نتاجه من الخضار بدون طبخ فكيف بشربها مباشرة. ومن مقاصد الإسلام المحافظة على الأجسام؛ ولذا لا يورد ممرض على مصح، والمنع لاستصلاح الأبدان واجب كالمنع لاستصلاح الأديان.
ولو زالت هذه العلل لبقيت علة الاستخباث والاستقذار باعتبار الأصل لماء يعتصر من البول والغائط فيستعمل في الشرعيات والعادات على قدم التساوي.
وقد علم من مذهب الشافعية، والمعتمد لدى الحنبلية أن(49/368)
الاستحالة هنا لا تؤول إلى الطهارة، مستدلين بحديث النهي عن ركوب الجلالة وحليبها، رواه أصحاب السنن وغيرهم ولعلل أخرى.
ومع العلم أن الخلاف الجاري بين متقدمي العلماء في التحول من نجس إلى طاهر هو في قضايا أعيان، وعلى سبيل القطع لم يفرعوا حكم التحول على ما هو موجود حاليا في المجاري من ذلكم الزخم الهائل من النجاسات والقاذورات وفضلات المصحات والمستشفيات، وحال المسلمين لم تصل بهم إلى هذا الحد من الاضطرار لتنقية الرجيع للتطهر به وشربه، ولا عبرة بتسويغه في البلاد الكافرة لفساد طبائعهم بالكفر.
وهناك البديل بتنقية مياه البحار، وتغطية أكبر قدر ممكن من التكاليف، وذلك بزيادة سعر الاستهلاك للماء، بما لا ضرر فيه، وينتج إعمال قاعدة الشريعة في النهي عن الإسراف في الماء، والله أعلم.
عضو المجمع الفقهي الإسلامي بمكة
بكر أبو زيد(49/369)
القرار السادس
بشأن تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989 م قد نظر في موضوع تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس.
وبعد البحث والمناقشة بين أعضائه قرر ما يلي:
أولا: الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها، لا يحل تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحق فاعلها العقوبة؛ لأنه تغيير لخلق الله، وقد حرم الله سبحانه هذا التغيير بقوله تعالى مخبرا عن قول الشيطان {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (1) فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل) ثم قال: (ألا ألعن من لعن رسول
__________
(1) سورة النساء الآية 119(49/370)
الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل يعني قوله: وما (2) » . ثانيا: أما من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال فينظر فيه إلى الغالب من حاله؛ فإن غلبت عليه الذكورة جاز علاجه طبيا بما يزيل الاشتباه في ذكورته، ومن غلبت عليه علامات الأنوثة جاز علاجه طبيا بما يزيل الاشتباه في أنوثته، سواء أكان العلاج بالجراحة أو بالهرمونات؛ لأن هذا مرض والعلاج يقصد به الشفاء منه، وليس تغييرا لخلق الله عز وجل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
أسماء الأعضاء
نائب الرئيس ... - ... رئيس مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
د. عبد الله عمر نصيف ... - ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد بن جبير ... د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد الرحمن البسام
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... محمد بن عبد الله السبيل ... مصطفى أحمد الزرقا
- ... د. يوسف القرضاوي ... د. محمد رشيد راغب القباني
محمد الشاذلي النيفر ... أبو بكر جومي ... د. أحمد فهمي أبو سنه
د. محمد الحبيب بن الخوجه ... - ... محمد سالم عدود
محمد محمود الصواف ... - ... د. طلال عمر بافقيه
- ... - ... (مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4886) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2125) ، سنن الترمذي الأدب (2782) ، سنن النسائي الزينة (5102) ، سنن أبو داود الترجل (4169) ، سنن ابن ماجه النكاح (1989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) ، سنن الدارمي الاستئذان (2647) .
(2) سورة الحشر الآية 7 (1) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(49/371)
تعقيب على الكلمة الطيبة التي تفضل بها صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني المنشورة في صحيفة " المسلمون "
لسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وفقه الله المنشور في صحيفة (المسلمون) الذي أجاب به فضيلته من سأله عن: (تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل) .
فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين وأوضح - وفقه الله- أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن غيره من سلف الأمة.
ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) ،
__________
(1) سورة المائدة الآية 44(49/373)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) هو الصواب.
وقد أوضح - وفقه الله- أن الكفر كفران أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفرا أكبر، وظلم ظلما أكبر، وفسق فسقا أكبر. ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر وظلمه ظلما أصغر وهكذا فسقه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (3) » ، أراد بهذا صلى الله عليه وسلم: الفسق الأصغر والكفر الأصغر، وأطلق العبارة تنفيرا من هذا العمل المنكر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت (4) » . أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (5) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) برقم (3639) ، والبخاري في (الإيمان) برقم (48) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (64) .
(4) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9397) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (67) واللفظ له.
(5) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) برقم (18686) ، والبخاري في (العلم) برقم (121) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (65) .(49/374)
فالواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم التثبت في الأمور، والحكم فيها على ضوء الكتاب والسنة، وطريق سلف الأمة، والحذر من السبيل الوخيم الذي سلكه الكثير من الناس لإطلاق الأحكام وعدم التفصيل، وعلى أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله سبحانه بالتفصيل وإيضاح الإسلام للناس بأدلته من الكتاب والسنة، وترغيبهم في الاستقامة عليه والتواصي والنصح في ذلك، مع الترهيب من كل ما يخالف أحكام الإسلام، وبذلك يكونون قد سلكوا مسلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلك خلفائه الراشدين وصحابته المرضيين في إيضاح سبيل الحق، والإرشاد إليه، والتحذير مما يخالفه عملا بقول الله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ، وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) ، وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » ، وقوله صلى الله عليه
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (27585) ، ومسلم في (الإمارة) برقم (1893) .(49/375)
وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه- لما بعثه إلى اليهود في خيبر: «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (2) » . متفق على صحته. وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله، والدخول في الإسلام بالنصح والحكمة والصبر والأسلوب الحسن، حتى هدى الله على يديه وعلى يد أصحابه من سبقت له السعادة ثم هاجر إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام-، واستمر في دعوته إلى الله سبحانه، هو وأصحابه -رضي الله عنهم-، بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر والجدال بالتي هي أحسن، حتى شرع الله له الجهاد بالسيف للكفار، فقام بذلك -عليه الصلاة والسلام-، هو وأصحابه -رضي الله عنهم- أكمل قيام، فأيدهم الله ونصرهم وجعل لهم العاقبة الحميدة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8915) ، ومسلم في (العلم) برقم- (2674) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (22314) ، والبخاري في (الجهاد والسير) برقم (3009) ، ومسلم في (فضائل الصحابة) برقم (2406) .(49/376)
وهكذا يكون النصر وحسن العاقبة لمن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم إلى يوم القيامة، والله المسئول أن يجعلنا وسائر إخواننا في الله من أتباعهم بإحسان، وأن يرزقنا وجميع إخواننا الدعاة إلى الله البصيرة النافذة والعمل الصالح، والصبر على الحق حتى نلقاه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(49/377)
صفحة فارغة(49/378)
حكم صلاة الكسوف في أوقات النهي
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الكسوف في أوقات النهي، كما لو كسف القمر بعد طلوع الفجر، أو الشمس بعد صلاة العصر، فذهب بعضهم إلى أنها لا تشرع الصلاة للكسوف في هذين الوقتين، ولكن يشرع التكبير والذكر والاستغفار والدعاء والصدقة والعتق؛ لورود الأحاديث الصحيحة بذلك، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره (1) » ، ولما «ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وغيرها أنه أمر عند الكسوف بالتكبير والصدقة والدعاء والعتق» . وذهب آخرون من أهل العلم إلى شرعية الصلاة للكسوف في الوقتين المذكورين لعموم الأحاديث الصحيحة الآمرة بها عند الكسوف، وهي كثيرة ومنها: قوله صلى
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الجمعة) برقم (999 و 1000) .(49/379)
الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم (1) » . وهذا القول هو الصواب؛ لعموم الأحاديث المذكورة، ولأن صلاة الكسوف من ذوات الأسباب. والراجح من كلام العلماء أن الصلاة ذات السبب غير داخلة في النهي عن الصلاة في أوقات النهي، وإنما يراد بذلك النهي عن الصلاة التي لا سبب لها خاص، أما ذوات الأسباب فهي غير داخلة في النهي مثل صلاة الكسوف، ومثل صلاة الطواف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار (2) » ، ومثل تحية المسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (3) » . وهذا يعم أوقات النهي وغيرها، ومثل سنة الوضوء فإنه يشرع لمن توضأ أن يصلي ركعتين كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجماعة من
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه في باب (صفة صلاة الكسوف) برقم (2834) ، وكنز العمال في (باب صلاة الكسوف) برقم (1559) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) برقم (1097) واللفظ له، ومسلم في (صلاة المسافرين) برقم (1167) .
(3) رواه الترمذي في (باب الحج) برقم (868) ، والنسائي في (كتاب المناسك) برقم (2924) ، وابن ماجه في كتاب (إقامة الصلاة والسنة فيها) برقم (1254) ، والبيهقي في السنن الكبرى (كتاب الحج) (5 \ 92) .(49/380)
أهل العلم للأحاديث المذكورة.
وبناء على ذلك فمتى كسفت الشمس بعد العصر فإنه يشرع للمسلمين أن يبادروا بصلاة الكسوف مع الذكر والدعاء والتكبير والاستغفار والصدقة؛ عملا بالأحاديث كلها في ذلك. أما إذا كسف القمر بعد طلوع الفجر فظاهر الأدلة الخاصة كما تقدم يقتضي شرعية صلاة الكسوف؛ لأن سلطانه لم يذهب بالكلية، فيشرع لكسوفه صلاة الكسوف لعموم الأحاديث، ومن ترك فلا حرج عليه عملا بالقول الثاني، ولأن سلطانه في الليل وقد ذهب الليل، ومن صلى لكسوف القمر بعد الفجر، فالأفضل البدار بذلك قبل صلاة الفجر، وهكذا لو كسف في آخر الليل ولم يعلم إلا بعد طلوع الفجر، فإنه يشرع البدء بصلاة الكسوف، ثم يصلي صلاة الفجر بعد ذلك، مع مراعاة تخفيف صلاة الكسوف حتى يصلي الفجر في وقتها.
وفيما ذكرناه الجمع بين الأحاديث والعمل بها كلها، مع العلم بأن أخبار الحسابين عن الكسوف لا يعتمد عليها، ولا يعمل بها، وإنما تشرع صلاة الكسوف إذا رأى الناس ذلك لما ذكرنا من الأحاديث. والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(49/381)
صفحة فارغة(49/382)
حديث شريف
عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان (1) »
متفق عليه واللفظ للبخاري
__________
(1) صحيح البخاري الأضاحي (5550) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن أبو داود المناسك (1947) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .(49/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)
(سورة آل عمران، الآية 103)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103(50/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(50/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(50/3)
المحتويات
الافتتاحية
بيان حقوق ولاة الأمور على الأمة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
وقت الأذان الثاني ليوم الجمعة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 43
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 75(50/4)
البحوث
بحث في الذهب في بعض خصائصه وأحكامه للشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 95
وجوه التحدي والإعجاز في الأحرف المقطعة في أوائل السور د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي 141
أنواع الطواف وأحكامه للدكتور / عبد الله بن إبراهيم الزاحم 193
طلاق المكره والغضبان للشيخ / هاني بن عبد الله بن محمد الجبير 323
بيان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول التأمين التجاري والتأمين التعاوني 359
بيان حكم الشرع في الجارودي لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 361(50/5)
صفحة فارغة(50/6)
الافتتاحية
بيان حقوق ولاة الأمور على الأمة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا ريب أن الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الأمر والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) هذا هو الطريق، طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الأمور في المعروف من طاعة الله ورسوله، ولهذا قال جل وعلا: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) فطاعة ولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، فإن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء،
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 59(50/7)
والواجب طاعتهم في المعروف، أما إذا أمروا بمعصية الله سواء كان أميرا أو ملكا أو عالما، أو رئيس جمهورية، أو غير ذلك، فلا طاعة له في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » ، والله يقول: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (2) يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} (3) فالله أمر بالتقوى، والسمع، والطاعة، يعني: في المعروف، لذا فإن النصوص يشرح بعضها بعضا، ويدل بعضها على بعض، فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الأمور في الخير، والطاعة في المعروف، وحفظ الألسنة عن أسباب الفساد، والشر، والفرقة، والانحلال، ولهذا يقول الله جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4) أي: ردوا الحكم في ذلك إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في اتباع الحق والتلاقي على الخير والتحذير من الشر، هذا هو طريق أهل الهدى، وهذا هو طريق المؤمنين. أما من أراد دفن
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الأحكام) برقم (6612) ، ومسلم في (الإمارة) برقم (3424) ، والنسائي في (البيعة) برقم (4134) ، وأبو داود في (الجهاد) برقم (2256) ، وأحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (686) .
(2) سورة الممتحنة الآية 12
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) سورة النساء الآية 59(50/8)
الفضائل، والدعوة إلى الفساد والشر، ونشر كل ما يقال، مما فيه قدح بحق أو باطل، فهذا هو طريق الفساد، وطريق الشقاق، وطريق الفتن. أما أهل الخير والتقوى فينشرون الخير، ويدعون إليه، ويتناصحون بينهم فيما يخالف ذلك؛ حتى يحصل الخير، ويحصل الوفاق والاجتماع والتعاون على البر والتقوى؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ومعلوم ما يحصل من ولاة الأمر المسلمين من الخير والهدى والمنفعة العظيمة؛ من إقامة الحدود، ونصر الحق، ونصر المظلوم، وحل المشاكل، وإقامة الحدود، والقصاص، والعناية بأسباب الأمن، والأخذ على يد السفيه والظالم، إلى غير هذا من المصالح العظيمة، وليس الحاكم معصوما إنما العصمة للرسل عليهم الصلاة والسلام، فيما يبلغون عن الله عليهم الصلاة والسلام، لكن الواجب التعاون مع ولاة الأمور في الخير، والنصيحة فيما قد يقع من الشر والنقص، هكذا فهم المؤمنون، وهكذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر بالسمع والطاعة لولاة الأمور، والنصيحة لهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(50/9)
أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (1) » الحديث، ويقول عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة قالوا يا رسول الله لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة (3) » ولما سئل عن ولاة الأمر الذين لا يؤدون ما عليهم قال صلى الله عليه وسلم: «أدوا الحق الذي عليكم لهم وسلوا الله الذي لكم (4) » فكيف إذا كان ولاة الأمور حريصين على إقامة الحق، وإقامة العدل، ونصر المظلوم، وردع الظالم، والحرص على استتباب الأمن، وعلى حفظ نفوس المسلمين ودينهم وأموالهم وأعراضهم، فيجب التعاون معهم على الخير وعلى ترك الشر، ويجب الحرص على التناصح والتواصي بالحق؛ حتى يقل الشر ويكثر الخير.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8444) ، ومالك في الموطأ في (كتاب الجامع) برقم (1572) .
(2) رواه الترمذي في (البر والصلة) برقم (1849) ، والنسائي في (البيعة) برقم (4128) ، وأبو داود في (الأدب) برقم (4293) .
(3) رواه مسلم في (الإمارة) برقم (3448) ، وأحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (22856) .
(4) رواه مسلم في (الفتن) برقم (2116) ، بلفظ: '' أدوا إليهم حقهم وسلوا الله الذي لكم '' ورواه أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (3458) .(50/10)
وقد من الله على هذه البلاد بدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، ومناصرة جد هذه الأسرة الإمام محمد بن سعود رحمه الله لهذه الدعوة، وحصل بذلك من الخير العظيم، ونشر العلم والحق، ونشر الهدى، والقضاء على الشرك، وعلى وسائل الشرك، وعلى قمع أنواع الفساد، من البدع والضلالات، ما يعلمه أهل العلم والإيمان ممن سبر هذه الدعوة، وشارك فيها، وناصر أهلها.
فصارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والإخلاص له، والبعد عن البدع والضلالات، ووسائل الشرك، حتى جرى ما جرى من الفتنة المعلومة التي حصل بسببها العدوان على هذه الدعوة وأهلها، ثم جمع الله الشمل على يدي الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود والد الإمام فيصل بن تركي رحمة الله على الجميع، ثم على يد ابنه فيصل بن تركي، ثم على يد ابن ابنه عبد الله بن فيصل بن تركي، ثم حصلت فجوة بعد موت الإمام عبد الله بن فيصل رحمه الله، فجاء الله بالملك عبد العزيز، ونفع الله به المسلمين، وجمع الله به الكلمة، ورفع به مقام الحق، ونصر به دينه، وأقام به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحصل به من العلم العظيم والنعم الكثيرة، وإقامة العدل، ونصر الحق، ونشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ثم سار على ذلك أبناؤه من بعده، في إقامة الحق، ونشر العدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.(50/11)
فالواجب على جميع المسلمين في هذه المملكة التعاون مع هذه الدولة في كل خير، وهكذا كل من يقوم بالدعوة إلى الله ونشر الإسلام والدعوة إلى الحق يجب التعاون معه في المشارق وفي المغارب، فكل دولة تدعو للحق، وتدعو إلى تحكيم شريعة الله، وتنصر دين الله يجب التعاون معها أينما كانت. وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق، ونصر بها الدين، وجمع بها الكلمة، وقضى بها على أسباب الفساد، وأمن الله بها البلاد، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله، وليست معصومة، وليست كاملة، كل فيه نقص، فالواجب التعاون معها على إكمال النقص، وعلى إزالة النقص، وعلى سد الخلل، بالتناصح والتواصي بالحق والمكاتبة الصالحة والزيارة الصالحة، لا بنشر الشر والكذب، ولا بنقل ما يقال من الباطل بل يجب على من أراد الحق أن يبين الحق ويدعو إليه، وأن يسعى في إزالة النقص بالطرق السليمة وبالطرق الطيبة وبالتناصح والتواصي بالحق، هكذا كان طريق المؤمنين وهكذا حكم الإسلام، وهكذا طريق من يريد الخير لهذه الأمة، أن يبين الخير والحق وأن يدعو إليه، وأن يتعاون مع ولاة الأمور في إزالة النقص، وإزالة الخلل، هكذا أوصى الله جل وعلا بقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ،
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(50/12)
فالدين النصيحة، الدين النصيحة، فمن أهم الواجبات التعاون مع ولاة الأمور في إظهار الحق، والدعوة إليه، وقمع الباطل، والقضاء عليه، وفي نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، بالطرق الشرعية.
ويجب على الرعية التعاون مع ولاة الأمور، ومع الهيئات، ومع كل داع إلى الحق، يجب التعاون على الحق وعلى إظهاره والدعوة إليه، وعلى ترك الفساد والقضاء عليه، هذا هو الواجب على جميع المسلمين، بالطرق التي شرعها الله في قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، وفي قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (2) ، وفي قوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) ، وفي قوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) ، وفي قوله عز وجل لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة طه الآية 44(50/13)
أما ما يقوم به الآن محمد المسعري وسعد الفقيه وأشباههما من ناشري الدعوات الفاسدة الضالة فهذا بلا شك شر عظيم، وهم دعاة شر عظيم، وفساد كبير، والواجب الحذر من نشراتهم، والقضاء عليها، وإتلافها، وعدم التعاون معهم في أي شيء يدعو إلى الفساد والشر والباطل والفتن؛ لأن الله أمر بالتعاون على البر والتقوى، لا بالتعاون على الفساد والشر، ونشر الكذب، ونشر الدعوات الباطلة التي تسبب الفرقة واختلال الأمن إلى غير ذلك. هذه النشرات التي تصدر من الفقيه، أو من المسعري، أو من غيرهما من دعاة الباطل ودعاة الشر والفرقة، يجب القضاء عليها وإتلافها وعدم الالتفات إليها، ويجب نصيحتهم وإرشادهم للحق، وتحذيرهم من هذا الباطل، ولا يجوز لأحد أن يتعاون معهم في هذا الشر، ويجب أن ينصحوا، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يدعوا هذا الباطل ويتركوه. ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدعوا هذا الطريق الوخيم، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم، والله سبحانه وعد عباده التائبين بقبول توبتهم، والإحسان إليهم، كما قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الزمر الآية 53(50/14)
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والمقصود أن الواجب على جميع المسلمين التعاون مع ولاة الأمور في الخير والهدى والصلاح حتى يحصل الخير ويستتب الأمن، وحتى يقضى على الظلم، وحتى ينصر المظلوم، وحتى تؤدى الحقوق، هذا هو الواجب على المسلمين؛ التعاون مع الولاة، ومع القضاة، ومع الدعاة إلى الله، ومع كل مصلح، في إيجاد الحق، والدعوة إليه، وفي نصر المظلوم، وردع الظالم، وإقامة أمر الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتخلص من الباطل، ويجب التعاون والتناصح لمن حاد عن الخير فينصح ويوجه إلى الخير وأسباب النجاة، حتى يحصل الخير العظيم، والمصالح العامة، وحتى يقضى على الفساد والشر والاختلاف بالطرق الشرعية، والناس في خير ما تناصحوا وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا تعاونوا على الباطل وعلى الشر والفساد ساد البلاء، ونزع الأمن، وانتصر الباطل، ودفن الحق، وهذا هو الذي يحبه الشيطان والذي يدعو إليه شياطين الإنس والجن. فالواجب الحذر مما يدعو إليه شياطين الإنس والجن، والتواصي بكل أسباب الأمن، وبكل أسباب الخير والهدى. والتواصي بالتعاون مع ولاة الأمور، في كل خير، ومع كل من يدعو إلى الخير، وإقامة أمر الله، وفي نصر
__________
(1) سورة النور الآية 31(50/15)
الحق، وفي إقامة المعروف. والتعاون مع كل مصلح فيما يدحض الباطل وفي التحذير من الباطل، والتحذير من أسباب الفرقة والاختلاف.
هذا هو الواجب كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وقال جل وعلا: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (5) هذا هو الذي فيه النجاة والإيمان الصادق والعمل الصالح والعاقبة الحميدة، وبهذا يكثر الخير، ويحصل التعاون على البر والتقوى، ويدحض الشر، وتأمن البلاد، ويستتب الأمن، ويحصل التعاون على الخير، ويرتدع السفيه المفسد، وينتصر صاحب الحق وصاحب الهدى.
ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفق الجميع للخير، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يعيذنا وإياهم من شرور النفس، وسيئات الأعمال واتباع الهوى، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير،
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة آل عمران الآية 103(50/16)
وأن ينصر بهم الحق، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق أعوانهم للخير، وأن يعيذهم من كل ما يخالف شرع الله، وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين.
كما نسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(50/17)
صفحة فارغة(50/18)
وقت الأذان الثاني ليوم الجمعة
بحث من إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه. وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة عشرة من إعداد بحث في موضوع وقت الأذان الثاني للجمعة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مختصرا في الموضوع، اشتمل على مقدمة في بيان الحكمة لمشروعية الأذان، وعلى نقول من كلام بعض المفسرين، وبعض شراح الحديث، ونقول كلام بعض فقهاء المذاهب الأربعة، وفيما يلي تفصيل ذلك، والله المستعان.(50/19)
1- الحكمة لمشروعية الأذان:
الحكمة العامة لمشروعية الأذان الإعلام بدخول الوقت، وأما الحكمة الخاصة في الأذان الأول للفجر فالإعلام بقرب وقت الفجر، حتى إن المتهجد إذا سمعه أنهى ما بقي من صلاته وارتاح؛ حتى يذهب إلى صلاة الفجر نشيطا، وإيقاظ النائم حتى يتأهب لصلاة الفجر مبكرا.(50/19)
وأما الحكمة الخاصة للأذان الأول يوم الجمعة فهي الإعلام بدخول الوقت لصلاة الجمعة، ففيه تنبيه الغافلين والمشتغلين بمعايشهم.
وأما الحكمة الخاصة للأذان الثاني الذي بين يدي الخطيب فهي الإعلام بقرب شروع الخطيب في الخطبة لينصت الناس ويتركوا الكلام.(50/20)
2 - نقول عن التفسير:
(أ) قال الجصاص رحمه الله: (وروي عن ابن عمر والحسن في قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (1) ، قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة.
وروى الزهري عن السائب بن يزيد قال: «ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد، يؤذن إذا قعد على المنبر، ثم يقيم إذا نزل، ثم أبو بكر كذلك، ثم عمر كذلك، فلما كان عثمان وفشا الناس وكثروا زاد النداء الثالث (2) » .
وقد روي عن جماعة من السلف إنكار الأذان الأول قبل خروج الإمام: روى وكيع قال: حدثنا هشام بن الغار، قال: سألت نافعا عن الأذان الأول يوم الجمعة قال: قال ابن عمر: بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإن رآه الناس حسنا.
وروى منصور عن الحسن قال: النداء يوم الجمعة الذي
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/450) .(50/20)
يكون عند خروج الإمام والذي قبل محدث.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: إنما كان أذان يوم الجمعة فيما مضى واحدا ثم الإقامة، وأما الأذان الأول الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على المنبر فهو باطل، أول من أحدثه الحجاج، وأما أصحابنا فإنهم إنما ذكروا أذانا واحدا، إذا قعد الإمام على المنبر، فإذا نزل أقام، على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وأما وقت الجمعة فإنه بعد الزوال.
وروى أنس وجابر وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس (1) » .
وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود وأصحابه الجمعة ضحى، ثم قال: إنما فعلت ذلك مخافة الحر عليكم.
وروي عن عمر وعلي أنهما رضي الله عنهما صلياها بعد الزوال، ولما قال عبد الله: إني قدمت مخافة الحر عليكم، علمنا أنه فعلها على غير الوجه المعتاد المتعارف بينهم، ومعلوم أن فعل الفروض قبل أوقاتها لا يجوز لحر ولا لبرد، إذا لم يوجد أسبابها، ويحتمل أن يكون فعلها في أول وقت الظهر الذي هو أقرب أوقات الظهر إلى الضحى، فسماه الراوي ضحى؛ لقربه منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر: «تعال إلى
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (904) ، سنن الترمذي الجمعة (503) ، سنن أبو داود الصلاة (1084) ، مسند أحمد بن حنبل (3/128) .(50/21)
الغداء المبارك (1) » ، فسماه غداء لقربه من الغداء، وكما قال حذيفة: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نهارا» - والمعنى قريب من النهار - ولما اختلف الفقهاء في الذي يلزم من الفرض بدخول الوقت، فقال قائلون: فرض الوقت الجمعة، والظهر بدل منها. وقال آخرون: فرض الوقت الظهر، والجمعة بدل منه، استحال أن يفعل البدل إلا في وقت يصح فيه فعل المبدل عنه، وهو الظهر، ولما ثبت أن وقتها بعد الزوال، ثبت أن وقت النداء لها بعد الزوال، كسائر الصلوات) (2) .
(ب) قال القرطبي رحمه الله (3) : (فقد تقدم حكم الأذان في سورة المائدة مستوفى، وقد كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوات، يؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر. وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا على داره التي تسمى الزوراء (4) حين كثر الناس
__________
(1) سنن النسائي الصيام (2163) ، سنن أبو داود الصوم (2344) ، مسند أحمد بن حنبل (4/127) .
(2) أحكام القرآن للجصاص، ج 3 ص 444، 445، دار الكتاب العربي.
(3) راجع ج 6 ص 224 وما بعدها.
(4) الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة، قيل إنه مرتفع كالمنارة. وقيل: حجر كبير عند باب المسجد.(50/22)
بالمدينة. فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخطب عثمان. خرجه ابن ماجه في سننه من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: «ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد، إذا خرج أذن، وإذا نزل أقام، وأبو بكر وعمر كذلك، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها: (الزوراء) ، فإذا خرج أذن، وإذا نزل أقام (1) » . خرجه البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها: أن الأذان الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام. وقال الماوردي: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان، ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد؛ ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قاله ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة. كما قال عليه الصلاة والسلام: «بين كل أذانين صلاة لمن شاء (2) » يعني: الأذان والإقامة. ويتوهم الناس أنه أذان أصلي، فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم. ورأيتهم يؤذنون بمدينة السلام بعد أذان المنار
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) صحيح البخاري كتاب الأذان (624) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .(50/23)
بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية، وكل ذلك محدث) .(50/24)
3 - نقول عن شراح الحديث
أ - قال البخاري رحمه الله: باب الأذان يوم الجمعة:
حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء (1) » .
قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (باب الأذان يوم الجمعة) أي متى يشرع.
قوله: عن (السائب بن يزيد) في رواية عقيل عن ابن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره، وفي رواية يونس عن الزهري سمعت السائب، وسيأتيان بعد هذا.
قوله: (كان النداء يوم الجمعة) في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة (كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة) ، وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة (2) » . قال ابن خزيمة: قوله: أذانين، يريد الأذان والإقامة. يعني: تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام، كما تقدم في أبواب الأذان.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/450) .(50/24)
قوله: (إذا جلس الإمام على المنبر) في رواية أبي عامر المذكورة (إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة -) ، وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري ولفظه: «وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني: على المنبر (1) » وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الماجشون بدون قوله (يعني) ، وللنسائي من رواية سليمان التيمي عن الزهري: «كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل أقام (2) » . وقد تقدم نحوه في مرسل مكحول قريبا.
قال المهلب: الحكمة في جعل الأذان في هذا المحل؛ ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب. كذا قال، وفيه نظر، فإن في سياق ابن إسحاق عند الطبراني وغيره عن الزهري في هذا الحديث، أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات. نعم لما زيد الأذان الأول كان للإعلام، وكان الذي
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (913) ، سنن النسائي الجمعة (1393) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) سنن النسائي الجمعة (1394) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) .(50/25)
بين يدي الخطيب للإنصات.
قوله: (فلما كان عثمان) أي: خليفة.
قوله: (وكثر الناس) أي: بالمدينة وصرح به في رواية الماجشون، وظاهره أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته.
لكن في رواية أبي ضمرة عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج، أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته.
قوله: (زاد النداء الثالث) في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب (فأمر عثمان بالأذان الأول) ، ونحوه للشافعي من هذا الوجه ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه جعل مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا. ولفظ رواية عقيل - الآتية بعد بابين - أن التأذين بالثاني أمر به عثمان، وتسميته ثانيا أيضا متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة.
قوله: (على الزوراء) : بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء ممدودة، وقوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف وهذا في رواية أبي ذر وحده، وما فسر به الزوراء هو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه بلفظ: (زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء) ، وفي روايته عند الطبراني «فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء، فكان يؤذن له عليها فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة (1) » . وفي رواية له من هذا الوجه «فأذن بالزوراء
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1394) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) ، مسند أحمد بن حنبل (3/450) .(50/26)
قبل خروجه؛ ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت» ونحوه في مرسل مكحول المتقدم. وفي صحيح مسلم من حديث أنس «أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق (1) » الحديث، زاد أبو عامر عن ابن أبي ذئب (فثبت ذلك حتى الساعة) . وسيأتي نحوه قريبا من رواية يونس بلفظ (فثبت الأمر كذلك) . والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر. لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد. وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: (الأذان الأول يوم الجمعة بدعة) ، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك. وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله.
وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى.
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2279) .(50/27)
(تنبيهان)
الأول: ورد ما يخالف هذا الخبر أن عمر هو الذي زاد الأذان، ففي تفسير جويبر عن الضحاك من زيادة الراوي، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن معاذ، (أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه؛ لكثرة المسلمين) . انتهى.
وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت لأن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام، واستمر إلى أن مات بالشام في طاعون عمواس. وقد تواردت الروايات أن عثمان هو الذي زاده فهو المعتمد. ثم وجدت لهذا الأثر ما يقويه، فقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا إنما كان يدعو الناس دعاء ولا يؤذن غير أذان واحد، انتهى، وعطاء لم يدرك عثمان فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره، ويمكن الجمع بأن الذي ذكره عطاء هو الذي في زمن عمر، واستمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك فنسب إليه؛ لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان فعله عمرة لكونه مجرد إعلام.
الثاني: تواردت الشراح على أن معنى قوله: (الأذان الثالث) أن الأولين: الأذان والإقامة، لكن نقل الداودي أن(50/28)
الأذان أولا كان في سفل المسجد، فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام - يعني: ابن عبد الملك - جعل من يؤذن بين يديه فصاروا ثلاثة، فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. انتهى.
وهذا الذي ذكره يغني ذكره عن تكلف رده، فليس له فيما قاله سلف، ثم هو خلاف الظاهر، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله، وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين (1) سنة. واستدل البخاري بهذا الحديث أيضا على الجلوس على المنبر قبل الخطبة خلافا لبعض الحنفية. واختلف من أثبته هل هو للأذان أو لراحة الخطيب؟ فعلى الأول لا يسن في العيد إذ لا أذان هناك، واستدل به أيضا على أن التأذين قبيل الخطبة، وعلى ترك تأذين اثنين معا، وعلى أن الخطبة يوم الجمعة سابقة على الصلاة، ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة. وإذا كان يقع حين يجلس الإمام على المنبر دل على سبق الخطبة على الصلاة (2) .
ب - قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: باب ما جاء في أذان الجمعة:
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: «كان الأذان
__________
(1) صوابه: سبعين.
(2) فتح الباري، ج2 ص393 - 395، دار الفكر العربي.(50/29)
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - إذا خرج الإمام [وإذا] ، أقيمت الصلاة، فلما كان عثمان [رضي الله عنه] ، زاد النداء الثالث على [الزوراء] (1) » .
قال أحمد محمد شاكر رحمه الله:
[وإذا] الزيادة ليست في شئ من النسخ التي بيدي، إلا أنها ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه حين حكى لفظ الحديث، وهي ثابتة في رواية البيهقي من طريق ابن أبي ذئب (ج 3 ص 192) ، وكذلك نقل الحافظ في الفتح (ج 2 ص 326) أن رواية ابن خزيمة من طريق ابن أبي ذئب (إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة) .
وهي زيادة ضرورية؛ لأن النداء لصلاة الجمعة كان أذانا واحدا عند خروج الإمام، ثم الإقامة عند الصلاة، وهي النداء الثاني، ثم زاد عثمان الأذان عند الزوراء قبل خروج الإمام إلى المسجد.
[رضي الله عنه] الزيادة من ع، م، ب.
[الزوراء] بفتح الزاي وسكون الواو، قال البخاري في صحيحه: (الزوراء موضع السوق بالمدينة) . قال ابن حجر: (هو المعتمد) ، وقواه بما نقله عن صحيح مسلم من حديث أنس: «أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق (2) » .
وقوله: (الثالث) إنما سماه (ثالثا) لأنه زيد على
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) صحيح مسلم الفضائل (2279) .(50/30)
النداءين، وإن كان هو الأول في الوقوع؛ لأنه يبدأ به قبل خروج الإمام. وفي بعض روايات الحديث (فأمر عثمان بالأذان الأول) ، وهو موافق للواقع فعلا. وفي بعض رواياته أيضا تسميته الثاني باعتبار أنه زيد على الأذان الذي كان قبل، وعدم اعتبار الإقامة في العدد لأنها ليست أذانا، وإن كانت من النداء للصلاة.
ولفظ (الثالث) أوجب شبهة عجيبة، فقد نقل القاضي أبو بكر بن العربي (ج 2 ص 305) أنه كان بالمغرب: (يؤذن ثلاثة من المؤذنين بجهل المفتين، فإنهم لما سمعوا أنها ثلاثة لم يفهموا أن الإقامة هي النداء الثالث، فجمعوها وجعلوها ثلاثة غفلة وجهلا بالسنة، فإن الله تعالى لا يغير ديننا، ولا يسلبنا ما وهبنا من نعمه) (1) .
فائدة: في رواية عند أبي داود في هذا الحديث: «كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد (2) » فظن العوام، بل كثير من أهل العلم أن هذا الأذان يكون أمام الخطيب مواجهة، فجعلوا مقام المؤذن في مواجهة الخطيب، على كرسي أو غيره. وصار هذا الأذان تقليدا صرفا، لا فائدة له في دعوة الناس إلى الصلاة وإعلامهم حضورها، كما هو الأصل في الأذان والشأن فيه، وحرصوا على ذلك حتى لينكرون على من يفعل غيره. واتباع
__________
(1) هكذا في العارضة في الأصل.
(2) سنن أبو داود الصلاة (1087) .(50/31)
السنة أن يكون على المنارة أو عند باب المسجد ليكون إعلاما لمن لم يحضر. وحرصوا على إبقاء الأذان قبل خروج الإمام، وقد زالت الحاجة إليه، لأن المدينة لم يكن بها إلا المسجد النبوي، وكان الناس كلهم يجمعون فيه، وكثروا عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد، فزاد عثمان الأذان الأول؛ ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة. أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة: فإنا نرى أن يكتفى بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام؛ اتباعا للسنة، أو يؤمر المؤذنون عند خروج الإمام أن يؤذنوا على أبواب المساجد (1) .
__________
(1) سن الترمذي، ج2 ص (392، 393) دار الكتب العلمية.(50/32)
4 - نقول عن بعض الفقهاء:
أ - قال مؤلف بدائع الصنائع رحمه الله:
الجمعة فيها أذان وإقامة؛ لأنها مكتوبة تؤذن بجماعة مستحبة، ولأن فرض الوقت هو الظهر عند بعض أصحابنا، والجمعة قائمة مقامه. وعند بعضهم الفرض هو الجمعة ابتداء، وهي آكد من الظهر، حتى وجب ترك الظهر لأجلها، ثم إنهما وجبا لإقامة الظهر، فالجمعة أحق. ثم الأذان المعتبر يوم الجمعة هو ما يؤتى به إذا صعد الإمام المنبر، وتجب الإجابة والاستماع له دون الذي يؤتى به على المنارة. وهذا قول عامة العلماء.(50/32)
وكان الحسن بن زياد يقول: المعتبر هو الأذان على المنارة؛ لأن الإعلام يقع به. والصحيح قول العامة لما روي عن السائب بن يزيد أنه قال: «كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أذانا واحدا، حين يجلس الإمام على المنبر، فلما كانت خلافة عثمان رضي الله عنه وكثر الناس أمر عثمان رضي الله عنه بالأذان الثاني على الزوراء (1) » ، وهي المنارة، وقيل: اسم موضع بالمدينة.
ب - قال ابن الهمام رحمه الله:
وإذا أذن المؤذن الأذان الأول ترك الناس البيع والشراء، وتوجهوا إلى الجمعة؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (2) وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث.
ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان؛ ولهذا قيل: هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع. والأصح أن المعتبر هو الأول، وإذا كان بعد الزوال لحصول الإعلام به. والله أعلم.
ج - وقال صاحب شرح العناية على الهداية:
وإذا أذن المؤذنون، ذكر المؤذنين بلفظ الجمع إخراجا للكلام مخرج العادة، فإن المتوارث في أذان الجمعة اجتماع
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) سورة الجمعة الآية 9(50/33)
المؤذنين، لتبلغ أصواتهم إلى أطراف المصر الجامع، والأذان الأول هو الذي حدث في زمن عثمان رضي الله عنه على الزوراء. وكان الحسن بن زياد يقول: المعتبر هو الأذان على المنارة؛ لأنه لو انتظر الأذان عند المنبر تفوته أداء السنة وسماع الخطبة، وربما تفوته الجمعة إذا كان بيته بعيدا من الجامع. وكان الطحاوي يقول: المعتبر هو الأذان عند المنبر بعد خروج الإمام، فإنه هو الأصل الذي كان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، وهو اختيار شيخ الإسلام؛ والأصح أن المعتبر في وجوب السعي وكراهة البيع هو الأذان الأول إذا كان بعد الزوال؛ لحصول الإعلام به، مع ما ذكرنا في قول الحسن آنفا، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي.
5 - أ - قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله:
ووقت الجمعة وقت الظهر، ولا تجوز قبل الزوال. والأذان الواجب لها إذا جلس الإمام على المنبر، فإن أذن مؤذن في صومعة، وأذن غيره بين يدي الإمام فلا بأس؛ لأنه قد عمل به قديما في المدينة. والأذان الثاني أوكد من الأول، وعنده يحرم البيع، وقد قيل: لا يجوز البيع من وقت جلوس الإمام على المنبر حتى تصلى الجمعة.
وروى ابن نافع عن مالك، قال: لا بأس بالبيع والشراء بعد التأذين الأول من يوم الجمعة؛ لأنه إنما كان تأذينان فزيد(50/34)
الثالث، وإنما يكره البيع والشراء بعد التأذين الذي بعد قعود الإمام.
وقال ابن القاسم مثله، وزاد: فأما التأذين الأول فلا أرى به بأسا إلا أن يترك احتياطا. قال ابن القاسم: سألت مالكا غير مرة، فقال: إنما هو التأذين الذي هو بعد قعود الإمام، وهو في سائر النهار قبل وبعد جائز.
ب - وقال ابن رشد رحمه الله:
وأما الأذان فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على المنبر، واختلفوا هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط أو أكثر من واحد؟ فذهب بعضهم إلى أنه إنما يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط، وهو الذي يحرم به البيع والشراء. وقال آخرون: بل يؤذن اثنان فقط. وقال قوم: بل إنما يؤذن ثلاثة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك. وذلك أنه روى البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء (1) » . وروى أيضا عن السائب بن يزيد أنه قال: «لم يكن يوم الجمعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد (2) » . وروى أيضا عن سعيد بن المسيب أنه قال: «كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) ، مسند أحمد بن حنبل (3/450) .(50/35)
الإمام، فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد الأذان الأول؛ ليتهيأ الناس للجمعة» .
وروى ابن حبيب أن المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة. فذهب قوم إلى ظاهر ما رواه البخاري وقالوا: يؤذن يوم الجمعة مؤذنان. وذهب آخرون إلى أن المؤذن واحد فقالوا: إن معنى قوله: فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث - أن النداء الثاني هو الإقامة. وأخذ آخرون بما رواه ابن حبيب. وأحاديث ابن حبيب عند أهل الحديث ضعيفة، ولا سيما فيما انفرد به.
6 - أ - قال النووي رحمه الله:
(فرع) اختلف أصحابنا في الأذان للجمعة فقال المحاملي في المجموع: قال الشافعي رحمه الله: أحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر، ويستحب أن يكون المؤذن واحدا؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بلال. هذا كلام المحاملي. وقال البندنيجي: قال الشافعي: أحب أن يكون مؤذن الجمعة واحدا بين يدي الإمام إذا كان على المنبر، لا جماعة مؤذنين، وصرح أيضا القاضي أبو الطيب وآخرون بأنه يؤذن للجمعة مؤذن واحد. وقال الشافعي - رحمه الله - في البويطي: النداء يوم الجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة، حين يجلس الإمام على المنبر؛ ليسمع الناس فيأتون إلى المسجد، فإذا فرغوا(50/36)
خطب الإمام بهم، ومنع الناس البيع والشراء تلك الساعة. هذا نصه بحروفه. وفي صحيح البخاري في باب رجم الحبلى من الزنا: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس عمر رضي الله عنه على المنبر يوم الجمعة، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله تعالى وذكر الحديث (1) .
ب - وقال محمد الشربيني الخطيب في شرحه على مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (ج1 ص 289) ، وفي البخاري: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر حين يجلس الإمام على المنبر، فلما كثر الناس في عهد عثمان، أمرهم بأذان آخر على الزوراء (2) » واستقر الأمر على هذا.
7 - أ - قال ابن قدامة رحمه الله (3) :
(مسألة) قال: (وأخذ المؤذنون في الأذان، وهذا الأذان الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون فيه مدركا للجمعة) .
أما مشروعية الأذان عقيب صعود الإمام فلا خلاف فيه، فقد كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم. قال السائب بن يزيد: «كان النداء إذا صعد الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى
__________
(1) المجموع، ج 3 ص (124) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) ، مسند أحمد بن حنبل (3/450) .
(3) المغني، ج2 ص (297، 298) .(50/37)
الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان كثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء (1) » رواه البخاري.
وأما قوله: (هذا الأذان الذي يمنع البيع ويلزم السعي) فلأن الله تعالى أمر بالسعي ونهى عن البيع بعد النداء بقوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (2) ، والنداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر؛ فتعلق الحكم به دون غيره، ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده، وحكى القاضيرواية عن أحمد أن البيع يحرم بزوال الشمس وإن لم يجلس الإمام على المنبر، ولا يصح هذا؛ لأن الله تعالى علقه على النداء لا على الوقت، ولأن المقصود بهذا إدراك الجمعة، وهو يحصل بما ذكرنا دون ما ذكره، ولو كان تحريم البيع معلقا بالوقت لما اختص بالزوال، فإن ما قبله وقت أيضا، فأما من كان منزله بعيدا لا يدرك الجمعة بالسعي وقت النداء فعليه السعي في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة؛ لأن الجمعة واجبة، والسعي قبل النداء من ضرورة إدراكها، وما لا يتم الواجب إلا به واجب، كاستقاء الماء من البئر للوضوء إذا لم يقدر على غيره، وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ونحوهما.
ب - قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: (والصواب: أن يقال: ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة، ولو
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) سورة الجمعة الآية 9(50/38)
كان الأذانان على عهده. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء (1) » كراهية أن يتخذها الناس سنة. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر، وقبل العشاء الآخرة، وقبل المغرب، وأن ذلك ليس بسنة راتبة، وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذاني المغرب، وهو يراهم فلا ينهاهم، ولا يأمرهم، ولا يفعل هو ذلك. فدل على أن ذلك فعل جائز.
وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله.
«بين كل أذانين صلاة (2) » . وعارضه غيره فقال: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده، ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر. ويتوجه أن يقال: هذا الأذان لما سنه عثمان، واتفق المسلمون عليه، صار أذانا شرعيا، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة؛ كالصلاة قبل صلاة المغرب، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه.
وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يظنون أن هذه سنة راتبة، أو أنها واجبة، فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة، ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض، كما استحب أكثر
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (627) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .
(2) صحيح البخاري الأذان (627) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .(50/39)
العلماء أن لا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة، مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، فإذا كان يكره المداومة على ذلك ف ترك المداومة على ما لم يسنه النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانا لأنها تطوع مطلق، أو صلاة بين الأذانين، كما يصلي قبل العصر والعشاء، لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز، وإن كان الرجل مع قوم يصلونها، فإن كان مطاعا إذا تركها - وبين لهم السنة - لم ينكروا عليه، بل عرفوا السنة فتركها حسن، وإن لم يكن مطاعا ورأى أن في صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع، أو دفعا للخصام والشر؛ لعدم التمكن من بيان الحق لهم، وقبولهم له، ونحو ذلك، فهذا أيضا حسن.
فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه (1) » . والحديث في الصحيحين. فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام؛ لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن الترمذي الحج (875) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .(50/40)
ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه (1) .
هذا ما تيسر جمعه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 24 ص (193 - 195) .(50/41)
صفحة فارغة(50/42)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(50/43)
صفحة فارغة(50/44)
فتوى رقم (19402)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات، وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى (وحدة الأديان) : دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب، وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي:
أولا: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبق على وجه الأرض دين يتعبد الله به(50/45)
سوى الإسلام قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . والإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.
ثانيا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: (القرآن الكريم) هو آخر كتب الله نزولا وعهدا برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سوى: (القرآن الكريم) قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (2) .
ثالثا: يجب الإيمان بأن (التوارة والإنجيل) قد نسخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة المائدة الآية 13(50/46)
وقوله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (1) . وقوله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) .
ولهذا فما كان منها صحيحا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ! ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي (3) » رواه أحمد والدارمي وغيرهما.
رابعا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (4) . فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى
__________
(1) سورة البقرة الآية 79
(2) سورة آل عمران الآية 78
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .
(4) سورة الأحزاب الآية 40(50/47)
محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حيا لما وسعه إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك - كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) . ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعا لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكما بشريعته. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (2) .
كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) . وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) وغيرها من الآيات.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة الأعراف الآية 158(50/48)
خامسا: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافرا، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (1) . وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (2) . وغيرها من الآيات.
وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (3) » .
ولهذا: فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، طردا لقاعدة الشريعة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) .
سادسا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية، فإن الدعوة إلى: (وحدة الأديان) والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وجر
__________
(1) سورة البينة الآية 1
(2) سورة البينة الآية 6
(3) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .(50/49)
أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (1) . وقوله جل وعلا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) .
سابعا: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (3) . ويقول جل وعلا: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4) .
ثامنا: أن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة النساء الآية 89
(3) سورة التوبة الآية 29
(4) سورة التوبة الآية 36(50/50)
الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعا، محرمة قطعا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
تاسعا: وتأسيسا على ما تقدم:
1 - فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلا عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها، والانتماء إلى محافلها.
2 - لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد! ! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق (القرآن الكريم) والمحرف أو الحق المنسوخ (التوراة والإنجيل) .
3 - كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: (بناء مسجد وكنيسة ومعبد) في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة؛ لأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان،(50/51)
ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله - تعالى الله عن ذلك - كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس (بيوت الله) وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله، لأنها عبادة على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . بل هي: بيوت يكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (22 \ 162) (ليست - أي: البيع والكنائس - بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار) .
عاشرا: ومما يجب أن يعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85(50/52)
قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (1) قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) ، أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عرى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (3) .
وإن اللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة: (وحدة الأديان) ، ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سببا في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم. نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 42
(2) سورة آل عمران الآية 64
(3) سورة المائدة الآية 49(50/53)
للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راض عنا.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... بكر بن عبد الله أبو زيد ... صالح بن فوزان الفوزان(50/54)
من الفتوى رقم 15634
السؤال الثامن: قبل أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال لأصحابه من نصائح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته في الخطبة يوم عرفة في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن تمسكتم به: كتاب الله (1) » ، وفي رواية أخرى ذكرها الحاكم في صحيحه: «كتاب الله وسنتي» ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه أوصى أمته بالصلاة والإحسان إلى المماليك، وأوصى أيضا بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب، وقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
وننصحك بمراجعة البداية للحافظ ابن كثير - رحمه الله - في
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3788) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(50/55)
الكلام على وفاته صلى الله عليه وسلم ووصاياه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/56)
فتوى رقم 9835
س: لي أخ يعمل بهذا الرسم الموضح أعلاه بالكتابة التالية: قال المؤلف: هذا مثال خاتم النبوة (يعني: الرسم أعلاه) الذي كان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ومن خواصه فيما نقله الترمذي أن من توضأ ونظر إليه وقت الصبح حفظه الله تعالى إلى وقت المغرب، ومن نظر إليه وقت المغرب حفظه الله تعالى إلى وقت الصبح، ومن نظر إليه في أول الشهر يحفظه إلى آخره، ومن نظر إليه أول وقت السنة يحفظه الله إلى آخرها من البلاء والآفات، ومن نظر إليه أول السفر يصير مباركا عليه، وإن مات في تلك السنة يختم له بالإيمان، وقال أرقم: هذا وأرجو الله تعالى أن من نظر إليه يصدق المحبة والإيمان فمره مرة واحدة يحفظه الله تعالى من جميع ما يكره(50/56)
إلى أن يلقى الله تعالى، هل هذا صحيح يستحب أن يعمل به المسلمون أم هو باطل وبدعة يجب على أخي ترك العمل به؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: عمل الرسم المذكور في الاستفتاء والكتابة عليه غير صحيح، فقد نقل الزرقاني في شرح المواهب اللدنية عن الحكيم الترمذي عند ذكر خاتم النبوة أنه (كبيضة حمامة مكتوب في باطنها الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها توجه حيث كنت فإنك منصور) ورواه أبو نعيم وقال: إنه غير ثابت، وقال في المورد: إنه حديث باطل، وبذلك نعرف أن العمل بالرسم المذكور لا يجوز، ويجب على من يفعل ذلك أن يتركه، ويتوب إلى الله مما وقع منه، وثبت في صحيح مسلم صفة خاتمه صلى الله عليه وسلم، حيث روى عن جابر بن سمرة في باب إثبات خاتم النبوة أنه قال: «رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام (1) »
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي (17 \ 97) توزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية.(50/57)
من الفتوى رقم 5488
السؤال الأول: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أحيانا على مكان مرتفع به كالسرير مثلا؟ وهل إذا نام إنسان على الحصير اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يأخذ حسنات أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله فصلا في كتاب زاد المعاد فقال: (كان ينام على الفراش تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله وتارة على كساء أسود) (1) ا. هـ.
فمن هذا يظهر أنه كان ينام بعض الأحيان على الحصير، وإذا نام الإنسان على الحصير بعض الأحيان قاصدا الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فيرجى له الخير، وقد شرع الله سبحانه الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
__________
(1) زاد المعاد، (1 \ 155) بتحقيق الأرناؤوط.(50/58)
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(50/59)
من الفتوى رقم 9184
س 2: يوجد حديث - وأعتقد أنه صحيح - يروى فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن بن علي وهو صبي صغير يلتقط تمرة من تمر الصدقة في الأرض، فقال له: كخ كخ (1) » أي إرم بها، أو ما معناه.
س 3: وحديث ثان أنه «خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة ثم جاء أبو بكر قال " ما أخرجك يا أبا بكر "، فقال: ما أخرجني إلا الجوع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " وأنا أيضا ما أخرجني إلا ذلك "، ثم جاء عمر
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1491) ، صحيح مسلم الزكاة (1069) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الزكاة (1642) .(50/59)
فقال له مثل الذي قال لأبي بكر، وأجابه مثل جوابه الأولى، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر إلى بيت أحد الأنصار فطرقا بابه ثم ضيفهم الأنصاري وذبح لهم شاة وقدم لهم طعاما، ثم انطلق إلى بستانه فقطف لهم التمر منه، وجاءهم به فلما أكلوا وشبعوا قال لهم عليه السلام: " والله لتسألن يومئذ عن النعيم (1) » ، وهذا الحديث أعتقد أنه صحيح أيضا.
س 4: وهناك حديث ثالث: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي على صاع من بر (2) » أعتقد أنه صحيح أيضا والله أعلم، ولكن السؤال هو: هل هذا يتعارض مع آيات سورة الضحى، قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (3) وهل هذا من باب زهده هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، أم أن هذا كان في أول الإسلام فلما فتح الله تعالى على رسول اغتنى؟ ومما يحضرني حديث إذا مات أحد الصحابة أو أحدهم في زمنه وعليه دين لا يصلي عليه، ويقول: «صلوا على صاحبكم (4) » فلما فتح الله تعالى على نبيه قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا أو (عيلة) عائلة فإلي وعلي (5) » فهل هذا صحيح؟ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أزهد الناس هو وأصحابه رضوان
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2038) ، سنن الترمذي الزهد (2369) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2916) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(3) سورة الضحى الآية 5
(4) صحيح البخاري الحوالات (2291) ، سنن النسائي الجنائز (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (4/47، 4/50) .
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/338) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(50/60)
الله عليهم أجمعين؟
وحديث آخر يحضرني «رأى عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر الحصير في جنبه الشريف فبكى عمر، فقال له: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ فقال: إني لا أرى إلا ما أرى في بيت مال المسلمين، وأرى كسرى وقيصر وهما ما هما عليه من الشرك - متنعمان بالفرش الوثيرة، وأنت رسول الله وصفوته من خلقه هكذا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة (1) » فهل هذا صحيح؟
فهل هذا كله من باب الزهد والإعراض عن الدنيا والإقبال على الدار الآخرة؟ أم أن هذا كان في أول الإسلام فلما كثر المال واغتنى المسلمون من فضل الله تعالى أصبح الأمر كما بينا، وهل هذه الأحاديث إن كانت صحيحة تتعارض مع سورة الضحى؟ وهذا ما لا أعتقده، أفتونا بالجواب الصحيح أثابكم المولى جل وعلا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج 2، 3، 4: لا تعارض بين ما ذكرت لأمرين:
الأول: أنه كان فقيرا فأغناه الله، كما هو نص آيتي الضحى.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4913) ، صحيح مسلم الطلاق (1479) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3318) ، سنن النسائي الصيام (2132) ، مسند أحمد بن حنبل (1/34) .(50/61)
الثاني: أنه مع كثرة ما أعطاه الله وتحقق رضاه بما أعطاه من الخيرات المادية وغيرها كانت مسئولياته تجاه أمته ومصالحها العامة والخاصة أعظم، وبذله ونفقاته في ذلك أكثر من دخله، فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كما وصفه أعرابي بذلك لقومه في ثنائه عليه، ومن ذلك قضاؤه لدين من مات وعليه دين، وتكفله من مات عائلهم بتولي جميع شئونهم من رعاية ونفقات، وقد ثبت عنه أنه قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته (1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه (2) » رواه البخاري، فلم تكن قلة ماله أخيرا عن فقر، بل عن بذل وكرم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2297) ، صحيح مسلم الفرائض (1619) ، سنن الترمذي الجنائز (1070) ، سنن النسائي الجنائز (1963) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2955) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2415) ، مسند أحمد بن حنبل (2/453) ، سنن الدارمي البيوع (2594) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4781) ، صحيح مسلم الفرائض (1619) ، سنن الترمذي الجنائز (1070) ، سنن النسائي الجنائز (1963) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2955) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2415) ، مسند أحمد بن حنبل (2/453) ، سنن الدارمي البيوع (2594) .(50/62)
من الفتوى رقم 9071
السؤال الرابع: كيف كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وكيف كانت أخلاقه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: كان خلقه القرآن كما وصفته عائشة رضي الله عنها، واستدلت على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وكان سمحا مع أهله حسن العشرة معهم، يقوم بواجبهم في بيته حتى ينادى بالصلاة، وننصحك بقراءة القرآن وكتب الحديث والسيرة لتزداد معرفة به، ولا تجعل همك كثرة الأسئلة فيما يمكنك معرفته بنفسك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القلم الآية 4(50/63)
من الفتوى رقم 8808
السؤال الأولى: قد قيل أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد وجدنا في صور من حياة الصحابة الجزء الثالث للصف الثاني المتوسط إن أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة بن شراحيل، أفيدونا أيهما أولى من أسلم من هذين الرجلين جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الصحيح من القولين: أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة وبلال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/64)
من الفتوى رقم 6899
السؤال الأول: هل وقع بين المسلمين والمشركين مبارزة في غزوة تبوك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لم يقع بين المسلمين والروم مبارزة في غزوة تبوك، وإنما صالح النبي صلى الله عليه وسلم ملك أيلة وأهل جربا وأذرح على الجزية وكتب لهم كتابا بين لهم فيه ما لهم وما عليهم.
ونوصيك بالرجوع إلى ما كتبه ابن كثير رحمه الله حول هذا الموضوع في (ج 5) من كتاب: (البداية) ، وما كتبه علماء السيرة في ذلك لتعرف تفصيل الموضوع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/65)
من الفتوى رقم 7066
السؤال الثالث: هل صحيح ما يروى عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا ليت أبا بكر كان شجرة قطعها فأس حطاب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج 3: لم يثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال ذلك فيما نعلم، لكن أخرج أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني قال: قال أبو بكر الصديق (لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن) وهذا أثر غير صحيح أيضا لأن أبا عمران الجوني لم يدرك أبا بكر الصديق، وأخرج أيضا عن الحسن قال: قال أبو بكر: (والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد) ، وهذا الأثر غير صحيح؛ لأن الحسن لم يدرك أبا بكر الصديق.
السؤال الرابع: هل صحيح ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو قيل: كل الناس يدخلون الجنة إلا رجلا واحدا لظننت أنه أنا؟
ج 4: لم يثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال ذلك فيما نعلم،(50/66)
بل هذا لا يتفق مع قوة إيمان عمر وحسن ظنه بربه ورجائه فيه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/67)
من الفتوى رقم 3315
السؤال الثاني: من هن أمهات المؤمنين؟ وما عددهن؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: عددهن تسع وهن: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وجويرية بنت الحارث، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وصفية بنت حيي، وميمونة بنت الحارث، رضي الله عنهن أجمعين. وهؤلاء أزواجه اللاتي مات عليه الصلاة والسلام وهن في عصمته، ومن أزواجه أمهات المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهي أم أكثر أولاده، وتوفيت في(50/67)
حياته قبل الهجرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/68)
فتوى رقم 1606
س: ما صحة حديث مضمونه: «من أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخطها فقد أسخطني» ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لم نجد حديثا بهذا اللفظ، ولكن روى البخاري في صحيحه بسنده عن المسور بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3714) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2449) ، سنن أبو داود النكاح (2071) ، سنن ابن ماجه النكاح (1999) ، مسند أحمد بن حنبل (4/326) .(50/68)
من الفتوى رقم 5401
السؤال الأول: هل من الجائز أن يذكر اسم أي صحابي، فنقول، عليه السلام، بدلا من الترضي عنه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز أن نذكر الصحابي وغيره، فنقول: عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الإمام البخاري في كتابه: (الصحيح) باب: هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي أوفى قال: «كان إذا أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته قال: اللهم صل عليه، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى (2) » لكن لا يتخذ شعارا لبعض الناس، ولا يستعمل مع الصحابة ولا غيرهم بصفة دائمة، ولكن إذا فعل مع بعض الناس لكونه قدم صدقته، ولأسباب أخرى من علم وفضل من دون أن يتخذ ذلك عادة مستمرة. والأفضل أن يقال: رضي الله عنه عند
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) صحيح البخاري الدعوات (6359) ، صحيح مسلم الزكاة (1078) ، سنن النسائي الزكاة (2459) ، سنن أبو داود الزكاة (1590) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1796) ، مسند أحمد بن حنبل (4/383) .(50/69)
ذكر الصحابة رضي الله عنهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/70)
من الفتوى رقم 9770
السؤال الأول: ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (1) » أريد شرح هذا الحديث، وما يستفاد منه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: نهى النبي صلى الله عليه وسلم المكلف أن يضر نفسه أو يضر غيره. ففيه دلالة على منع الإنسان من التعدي على نفسه أو غيره، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه جاء من طرق يقوي بعضها بعضا، وله شواهد فينهض إلى درجة الحسن لغيره ويصلح للاستدلال به.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(50/70)
ونوصيك بمراجعة كتاب: (جامع العلوم والحكم) للحافظ ابن رجب في شرح هذا الحديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/71)
من الفتوى رقم 4246
السؤال الخامس: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1) » ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث رواه ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحاكم: صحيح
__________
(1) سنن ابن ماجه الطلاق (2043) .(50/71)
على شرطهما. وقال أبو حاتم: لا يثبت، نقله عنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، ورواه الطبراني في الكبير عن ثوبان رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم لكن بسند ضعيف، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد، الخطأ هنا: ضد العمد، والنسيان: ضد الذكر والحفظ، ومعناه: أن الله تعالى أكرم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته بأن لا يؤاخذ أحدا منهم ارتكب محظورا أو ترك واجبا خطأ أو نسيانا لا يكون بذلك في حكمه تعالى آثما.
أما بالنسبة لاستدراك ما أخطأ فيه من الواجبات أو نسيه وما يلزمه من أجل فعل المحظورات فذلك يرجع إلى الأدلة التفصيلية، فقد يلزمه بعض الأحكام كالدية والكفارة في القتل خطأ، واستدراك ما نسيه أو أخطأ فيه كسجود السهو، وقضاء الصلاة المنسية، وجزاء الصيد في الحرم أو كفارته، وقد لا يلزمه شيء كقضاء الصوم إذا أفطر المكلف ناسيا، وكفارة الحنث في اليمين إذا حنث ناسيا.
وكذا المكره الذي لا قدرة له على التخلص إلا بفعل ما أكره عليه من المحظورات فلا إثم عليه في فعل ما أكره عليه ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، مستنكرا لما أكره عليه من المحرمات، غير مستحل له إلا الإكراه بالقتل على القتل فيأثم بقتل من أكره على قتله؛ لما في ذلك من جعل قتله لغيره فداء لنفسه.
أما الإكراه على ترك واجب فلا إثم عليه في تركه، لكن(50/72)
عليه أن يؤديه بعد زوال المانع حسب ما تقتضيه الأدلة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(50/73)
من الفتوى رقم 590
السؤال الأول: ما الفرق بين الواجب والمندوب والمستحب والسنة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الفرق بينهما في الاصطلاح، أن الواجب: هو ما يثاب فاعله ويستحق العقاب تاركه، وأما المندوب أو المستحب أو السنة فهي معان متقاربة إن لم تكن مترادفة، وكلها تتفق في الاصطلاح على إثابة فاعل المندوب والمستحب والمسنون وعدم(50/73)
عقاب تاركه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(50/74)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم حسينيات الرافضة
والذبائح التي تذبح بهذه المناسبة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم المستفتي: م. أ. - الكويت. وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان. . . آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق، وما تضمنه من السؤالين كان معلوما.
الأول: ما حكم حسينيات الرافضة وما يحصل فيها من لطم وخمش للخدود ونوح وشق للجيوب وضرب يصل أحيانا بالسلاسل مع الاستغاثة بالأموات وآل البيت الكرام؟
والجواب: هذا منكر شنيع وبدعة منكرة، يجب تركه، ولا يجوز المشاركة فيه، ولا يجوز الأكل مما يقدم فيه من الطعام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من أهلالبيت وغيرهم لم يفعلوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(50/75)
«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، وعلقه البخاري رحمه الله في صحيحه جازما به. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
أما الاستغاثة بالأموات وأهل البيت: فذلك من الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم؛ لقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (5) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (6) ، وقال سبحانه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (7) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (8) . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة (9) » أخرجه أهل السنن الأربع بإسناد صحيح، وروى مسلم في
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سورة المؤمنون الآية 117
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة الأحقاف الآية 5
(6) سورة الأحقاف الآية 6
(7) سورة فاطر الآية 13
(8) سورة فاطر الآية 14
(9) سنن الترمذي تفسير القرآن (2969) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3828) .(50/76)
صحيحه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «لعن من ذبح لغير الله (1) » .
فالواجب على جميع الشيعة وعلى غيرهم إخلاص العبادة لله وحده، والحذر من الاستغاثة بغير الله، ودعائهم من الأموات والغائبين، سواء كانوا من أهل البيت أو غيرهم.
كما يجب الحذر من دعاء الجمادات والاستغاثة بها من الأصنام والأشجار والنجوم وغير ذلك؛ لما ذكرنا من الأدلة الشرعية.
وقد أجمع العلماء من أهل السنة والجماعة من الصحابة وغيرهم على ذلك.
الثاني: ما حكم الذبائح التي تذبح في ذلك المكان بهذه المناسبة؟ وكذلك ما حكم ما يوزع من هذه المشروبات في الطرقات وعلى العامة من الناس؟
والجواب: عن هذا السؤال: هو الجواب عن السؤال الأول، وهو: أنه بدعة منكرة، ولا تجوز المشاركة فيه ولا الأكل من هذه الذبائح ولا الشرب من هذه المشروبات، وإن كان الذابح ذبحها لغير الله من أهل البيت أو غيرهم فذلك شرك أكبر؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) . وقوله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (4) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) سورة الكوثر الآية 1
(5) سورة الكوثر الآية 2(50/77)
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا المسلمين لكل ما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر إخواننا من مضلات الفتن، إنه قريب مجيب. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(50/78)
حكم تتبع آثار الأنبياء
ليصلى فيها أو ليبنى عليها مساجد
س: الأماكن التي صلى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هل من الأفضل بناء مساجد عليها، أم بقاؤها كما هي، أو عمل حدائق عامة بها؟
ج: لا يجوز للمسلم تتبع آثار الأنبياء ليصلي فيها أو ليبني عليها مساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه ينهى الناس عن ذلك ويقول: (إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم) ، وقطع رضي الله عنه الشجرة التي في الحديبية التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها؛ لما رأى بعض الناس يذهبون إليها ويصلون تحتها، حسما لوسائل الشرك، وتحذيرا للأمة من البدع، وكان رضي الله عنه حكيما في أعماله وسيرته، حريصا على سد ذرائع الشرك وحسم أسبابه، فجزاه الله عن أمة محمد خيرا؛ ولهذا لم يبن الصحابة رضي الله عنهم على آثاره صلى الله عليه وسلم في طريق مكة وتبوك وغيرهما مساجد؛ لعلمهم بأن ذلك يخالف شريعته، ويسبب الوقوع في الشرك(50/78)
الأكبر، ولأنه من البدع التي حذر الرسول منها عليه الصلاة والسلام، بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » رواه مسلم في صحيحه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (3) » خرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(50/79)
حكم ذبح الذبائح عند الآبار
التي يقصدها الناس للاستشفاء بها
س: توجد في جنوب الأردن المياه المعدنية والتي يطلق عليها: بئر سليمان بن داود، فيقصدها الناس للاستحمام والشفاء، ويحضرون معهم الذبائح لذبحها حال وصولها، فما حكم ذبح مثل هذه الذبائح؟
ج: إذا كان الماء مجربا معلوما، ينتفع به لبعض الأمراض فلا بأس بذلك؛ لأن الله جعل في بعض المياه فائدة لبعض الأمراض، فإذا عرف ذلك بالتجارب أن هذا الماء ينتفع به من كان به أمراض معينة، كالروماتيزم أو غيره، فلا بأس بذلك.(50/79)
أما الذبائح ففيها تفصيل: فإن كانت تذبح من أجل حاجتهم وأكلهم ونحو ذلك، وما يقع لهم من ضيوف، فلا بأس بذلك، وإن كانت تذبح لأي شيء آخر كالتقرب إلى الماء أو إلى الجن أو إلى الأنبياء، أو لشيء من الاعتقادات الفاسدة، فهذا لا يجوز؛ لأن الله سبحانه يقول مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (2) ، ويقول عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) .
فالذبح لله سبحانه وتعالى، والنسك له وحده، وهكذا سائر العبادات كلها لله وحده، لا يجوز صرف شيء منها لغير الله؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) ، وقوله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (7) ، ولما تقدم من الآيات، وما جاء في معناها، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (8) » خرجه مسلم في صحيحه، من حديث علي رضي الله عنه.
فليس للمرء أن يذبح للجن أو النجم الفلاني، أو الكوكب الفلاني، أو الماء الفلاني أو النبي الفلاني، أو لأي شخص، أو للأصنام، بل التقرب كله لله سبحانه وتعالى بالذبائح والصلوات، وسائر العبادات؛ لقول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (9) ،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 3
(8) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(9) سورة الفاتحة الآية 5(50/80)
ولما سبق من قوله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) ، وقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) ، وغيرها من الآيات.
والذبح من أهم العبادات، وأفضل القربات، فيجب إخلاصه لله وحده؛ لما ذكرنا من الآيات، ولما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » .
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(50/81)
دفن الموتى في المساجد إحدى وسائل الشرك
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فقد اطلعت على صحيفة الخرطوم الصادرة في 17 \ 4 \ 1415 هـ، فألفيتها قد نشر فيها بيان بدفن السيد م. ح. أ. بجوار أبيه في مسجدهم بمدينة أم درمان. . إلخ.
ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان إنكار المنكر رأيت التنبيه على أن الدفن في المساجد أمر لا يجوز، بل هو من وسائل الشرك، ومن أعمال اليهود والنصارى التي ذمهم الله عليها، ولعنهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين(50/81)
عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، وفي صحيح مسلم، عن جندب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين في كل مكان حكومات وشعوبا أن يتقوا الله، وأن يحذروا ما نهى عنه، وأن يدفنوا موتاهم خارج المساجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يدفنون الموتى خارج المساجد وهكذا أتباعهم بإحسان.
وأما وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في مسجده صلى الله عليه وسلم فليس به حجة على دفن الموتى في المساجد، لأنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيته - في بيت عائشة رضي الله عنها - ثم دفن صاحباه معه، فلما وسع الوليد بن عبد الملك المسجد أدخل الحجرة فيه على رأس المائة الأولى من الهجرة، وقد أنكر عليه ذلك أهل العلم، ولكنه رأى أن ذلك لا يمنع من التوسعة، وأن الأمر واضح لا يشتبه.
وبذلك يتضح لكل مسلم أنه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد، وإدخالهم فيه بسبب التوسعة ليس بحجة على جواز الدفن في المساجد؛ لأنهم ليسوا في المسجد، وإنما هم في بيته عليه الصلاة والسلام، ولأن عمل الوليد لا يصلح حجة لأحد في ذلك، وإنما الحجة في الكتاب
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(50/82)
والسنة، وفي إجماع سلف الأمة رضي الله عنهم، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
وللنصح وبراءة الذمة جرى تحريره في 14 \ 5 \ 1415 هـ.
والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان.(50/83)
تنبيه حول الاحتفال بالمناسبات الإسلامية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه الأخ: ف. ع. م. في صحيفة المدينة الصادرة في 15 \ 2 \ 1415 هـ، يؤيد بذلك ما كتبه ع. أ. من تحبيذ الاحتفال بالمناسبات الإسلامية.
فرأيت أن من الواجب التنبيه على غلطهما في ذلك؛ نصحا لله ولعباده، عملا بقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (4) » .
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(50/83)
وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم وحذر منه عباده، كما في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وقوله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) .
ولا شك أن الدعوة إلى إقامة الاحتفالات الإسلامية التي لم يحتفل بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم من البدع المحدثة في الدين، ومن أسباب الغلو في دين الله، وشرع عبادات لم يشرعها الله، وقد يكون بعضها مع كونه بدعة وسيلة للشرك الأكبر؛ كالاحتفال بالمولد النبوي، وموالد الصحابة والعلماء، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) ، وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) ، وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (6) » متفق على صحته، وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (7) » خرجه مسلم في صحيحه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: «أما بعد: فإن خير
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة الإسراء الآية 36
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة الشورى الآية 21
(5) سورة الجاثية الآية 18
(6) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(7) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(50/84)
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » خرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على علماء المسلمين، وعلى طلبة العلم، وعلى كل مسلم أن يتقي الله، وأن يحذر الدعوة إلى غير ما شرعه من البدع والمحدثات وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، ففي ذلك السعادة والعاقبة الحميدة والنجاة في الدنيا والآخرة، والبعد عن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى الذين أحدثوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فضلوا وأضلوا، ومن الواجب على المسلم - بدلا من إحداث البدع والدعوة إليها - التواصي بالحق والتناصح، والعناية بتدبر القرآن الكريم والإكثار من تلاوته، والعناية بالسنة الصحيحة والدعوة إلى ذلك قولا وعملا في المساجد والبيوت، والعناية بحلقات العلم والإكثار منها، حتى يتعلم الجاهل، ويتذكر الناسي، ويكثر الخير، ويقل الشر، كما كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يقومون بذلك ويتواصون به.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل به وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من المتواصين بالحق والداعين إليه على بصيرة، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، ويولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(50/85)
جماعة التبليغ والصلاة في المساجد التي فيها قبور
سؤال من: م. ع. من أمريكا يقول: خرجت مع جماعة التبليغ للهند والباكستان، وكنا نجتمع ونصلي في مساجد يوجد بها قبور، وسمعت أن الصلاة في المسجد الذي يوجد به قبر باطلة، فما رأيكم في صلاتي وهل أعيدها؟ وما حكم الخروج معهم لهذه الأماكن؟
ج: بسم الله، والحمد لله، أما بعد:
جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة حتى يرشدهم وينصحهم ويتعاون معهم على الخير؛ لأنهم نشيطون في عملهم، لكنهم يحتاجون إلى المزيد من العلم، وإلى من يبصرهم من علماء التوحيد والسنة. رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه.
أما الصلاة في المساجد التي فيها القبور فلا تصح، والواجب: إعادة ما صليت فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(50/86)
نصيحة لمن اعتقد بوفاة المسيح
وعدم نزوله في آخر الزمان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى فضيلة الأخ الشيخ: أ. م. ج. وفقه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد اطلعت على كتابكم حول وفاة المسيح عيسى ابن مريم، وتقريركم: عدم نزوله في آخر الزمان، وعنوانه: (حل النزاع في مسألة نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام) ، ويقع في ثلاثين صفحة من القطع الصغير.
واستغربت ذلك كثيرا؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة المتواترة في نزوله آخر الزمان، ولا يوجد في الكتاب الكريم ما يخالف ذلك.
فالواجب عليك الرجوع عن هذا القول، والتوبة إلى الله من ذلك، ومتابعة أهل السنة في إثبات نزوله عليه السلام آخر الزمان، ومن خالفهم فقد شذ وخالف الحق.
ومثلكم يقتدى به، فالواجب عليكم: الرجوع إلى الصواب، ولا عيب في ذلك، فإن الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الخطأ هو الطريق الحق، وهو مسلك العلماء قديما وحديثا.(50/87)
وأنصحكم بمراجعة كتب الحديث في ذلك، وتفسير ابن جرير والبغوي وابن كثير، ففيها الكفاية والمقنع لطالب الحق.
وفقنا الله وإياكم لما يرضيه، وأعاذنا الله وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن، ومن نزغات الشياطين، إنه جواد كريم، كما أسأله سبحانه لكم التوفيق والإعانة على كل خير، إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(50/88)
حكم سفر المرأة للعمرة
في حافلة النقل الجماعي بلا محرم
س: الأخت التي رمزت لاسمها بأم محمد ص. من المدينة المنورة تقول في سؤالها: امرأة مطلقة تبلغ من العمر أربعين سنة ليس لها محرم حيث إنها تعيش وحدها في المدينة المنورة؛ لأن أبناءها وأكبرهم 16 سنة يعيشون مع أبيهم في مدينة أخرى، هذه المرأة ذهبت في رمضان المبارك إلى مكة المكرمة للعمرة في حافلة النقل الجماعي الذي يوجد فيه مكان خاص للنساء، وقد أوصلها النقل الجماعي أمام الحرم، وبعد انتهائها من العمرة استقلت حافلة أخرى تابعة للنقل الجماعي إلى الموقف الرئيسي خارج مكة المكرمة، ومن هناك سافرت إلى المدينة في حافلات النقل الجماعي، فهل هي آثمة بسفرها وهي في هذا السن وهذه الظروف؟(50/88)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرته السائلة فالسفر المذكور محرم، وعلى المرأة المذكورة التوبة إلى الله من ذلك، وذلك بالندم على ما وقع منها، والعزم الصادق على أن لا تعود لذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (1) » متفق عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد قال الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) . والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) سورة الحشر الآية 7(50/89)
سفر المرأة مع المرأة بدون محرم
س: هل تعد المرأة محرما للمرأة الأجنبية في السفر، ونحو ذلك أم لا؟
ج: ليست المرأة محرما لغيرها، إنما المحرم: هو الرجل الذي تحرم عليه المرأة بنسب كأبيها وأخيها، أو بسبب مباح كالزوج وأبي الزوج وابن الزوج، وكالأب من الرضاع والأخ من الرضاع ونحوهم. ولا يجوز للرجل أن يخلو بالمرأة الأجنبية، ولا أن يسافر بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (1) » متفق على صحته، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان (2) » رواه الإمام أحمد وغيره، من حديث عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/26) .(50/89)
حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
س: ما حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من قبور الأولياء والصالحين وغيرهم؟
ج: لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الناس في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق عليه.
والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعيد عن المدينة أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي فتدخل زيارة القبر الشريف وقبري أبي بكر وعمر والشهداء وأهل البقيع تبعا لذلك.
وإن نواهما جاز؛ لأنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا، أما نية القبر بالزيارة فقط فلا تجوز مع شد الرحال، أما إذا كان قريبا لا يحتاج إلى شد رحال ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفرا، فلا حرج في ذلك؛ لأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه من دون شد رحال سنة وقربة، وهكذا زيارة قبور الشهداء وأهل البقيع، وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان سنة وقربة، لكن بدون شد الرحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(50/90)
يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية (1) » أخرجه مسلم أيضا في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .(50/91)
الحياة في القبر
س: إذا قيل: إن الميت يحيا في القبر، فهل هي نفس حياته الأولى، وكم حاسة ترجع إليه، وإلى كم تبقى حياته في القبر، إذا كان الميت تسأل جثته، فما مصير الذين يحرقون مثل الهندوس واليابان وغيرهم، وأين يتم سؤالهم؟
إن الطبيب عندما يجري العملية يبعد الحواس لدى الإنسان عنه بمخدر. . أما هذا الموت فإني أتساءل كيف هو؟
ج: أولا: ينبغي أن يعلم أن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة التصديق بما أخبر الله به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأمور المتعلقة بالآخرة والحساب والجنة والنار، وفيما يتعلق بالموت والقبر وعذابه ونعيمه، وسائر أمور الغيب مما جاء في القرآن الكريم أو صحت به السنة المطهرة، فعلينا الإيمان والتسليم والتصديق بذلك؛ لأننا نعلم أن ربنا هو الصادق فيما يقوله سبحانه وفيما يخبر به جل وعلا لقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (1) ،
__________
(1) سورة النساء الآية 122(50/91)
وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (1) .
ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، فما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، وجب التصديق به، وإن لم نعرف حقيقته.
فالواجب علينا أن نصدق بما جاء به من أمر الآخرة، وأمر الجنة والنار، ومن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وكون العبد في القبر يعذب أو ينعم، وترد إليه روحه، كل هذا حق جاءت به النصوص، فعلى العبد أن يسلم بذلك، ويصدق بكل ما علمه من القرآن، أو صحت به السنة، أو أجمع عليه علماء الإسلام.
ثم إذا من الله على المؤمن والمؤمنة بمعرفة الحكمة في ذلك والأسرار، فهذا خير إلى خير، ونور على نور، وعلم إلى علم، فليحمد الله وليشكره على ما أعطاه من العلم والبصيرة في ذلك، التي من الله عليه بها حتى زاد علمه، وزادت طمأنينته.
أما ما يتعلق بالسؤال في القبر وحال الميت فإن السؤال حق، والميت ترد إليه روحه، وقد صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الميت في قبره غير حياته الدنيوية، بل هي حياة خاصة برزخية، ليست من جنس حياته في الدنيا التي يحتاج فيها إلى الطعام والشراب ونحو ذلك، بل هي حياة خاصة يعقل معها السؤال والجواب، ثم ترجع روحه بعد
__________
(1) سورة النساء الآية 87(50/92)
ذلك إلى عليين، إن كان من أهل الإيمان، وإن كان من أهل النار إلى النار، لكنها تعاد إليه وقت السؤال والجواب، فيسأله الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فالمؤمن يقول ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، هكذا يجيب المؤمن والمؤمنة، ويقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ (محمد صلى الله عليه وسلم) ، فيقول: هو رسول الله، جاءنا بالهدى، فآمنا به وصدقناه، واتبعناه، فيقال له: قد علمنا إن كنت لمؤمنا، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، ويقال: هذا مكانك حتى يبعثك الله إليه، ويرى مقعده من النار، ويقال: هذا مكانك لو كفرت بالله، أما الآن فقد أعاذك الله منه، وصرت إلى الجنة.
أما الكافر فإذا سئل عن ربه ودينه ونبيه، فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين: يعني: الجن والإنس، وتسمعها البهائم، فيفتح له باب إلى النار، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويكون قبره عليه حفرة من حفر النار، ويفتح له باب إلى النار يأتيه من سمومها وعذابها، ويقال: هذا مكانك حتى يبعثك الله إليه، ويفتح له باب إلى الجنة فيرى مقعده من الجنة، ويقال له: هذا مكانك لو هداك الله.
وبذلك يعلم أن القبر: إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. والعذاب والنعيم للروح والجسد جميعا في(50/93)
القبر، وهكذا في الآخرة في الجنة أو في النار.
أما من مات بالغرق أو بالحرق أو بأكل السباع: فإن روحه يأتيها نصيبها من العذاب والنعيم، ويأتي جسده من ذلك في البر أو البحر، أو في بطون السباع ما شاء الله من ذلك، لكن معظم النعيم والعذاب على الروح التي تبقى؛ إما منعمة وإما معذبة. فالمؤمن تذهب روحه إلى الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن روح المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، يأكل من ثمارها، والكافر تذهب روحه إلى النار (1) » .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الاطمئنان إلى ما أخبر به الله، وأخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يصدق بذلك على الوجه الذي أراده الله عز وجل، وإن خفي على العبد بعض المعنى، فلله الحكمة البالغة سبحانه.
__________
(1) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1641) ، سنن النسائي كتاب الجنائز (2073) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1449) ، مسند أحمد بن حنبل (3/455) ، موطأ مالك الجنائز (566) .(50/94)
بحث في الذهب في بعض خصائصه وأحكامه
للشيخ عبد الله بن سليمان المنيع.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين، الهادي إلى الصراط المستقيم، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فالذهب معدن نفيس، استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره، والافتخار بتملكه، والتزين به، حتى أغراه بعبادته، قال تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (1) {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (2) .
فالذهب معدن نفيس، يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية، تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية، وسلامته من التعرض للصدأ، فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب، حينما قطع أنفه في إحدى المعارك مع رسول الله، وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال، فقد أذن
__________
(1) سورة طه الآية 87
(2) سورة طه الآية 88(50/95)
في اتخاذ الأسنان منه للرجال للحاجة.
ولوقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (1) الآية.
وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم، قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} (2) .
ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره، عدا الفضة وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما، فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) .
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز، واعتبار ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون وفي معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام وأن دعواه الرسالة تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 14
(2) سورة الحج الآية 23
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) سورة الزخرف الآية 53(50/96)
وقال تعالى في معرض الفداء، مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب، وأنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له، لما حل به من سوء العذاب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} (1) . ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية؛ فقد جعلهما الإنسان أكثر إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما. ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والتكبر والطغيان؛ فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم، إلا ما استثني، وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسرا لقلوب الفقراء. ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما، ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن؛ فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن، وحرم ذلك على الرجال، كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما، لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وقد أشار تعالى إلى طبيعة النفس البشرية في تمتعها بالذهب، فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحافا من ذهب، قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 91
(2) سورة الزخرف الآية 71(50/97)
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في حصوله على احتياجه من طعام وشراب ومسكن ومركب ونحو ذلك، فهو مدني بطبعه، قليل بنفسه، كثير ببني جنسه، لا يستطيع العيش بدون معونتهم؛ فبالرغم من البساطة التامة في حياته إبان العصور الأولى، فقد كان محتاجا إلى ما عند الآخرين، فإن كان مزارعا فهو محتاج إلى أدوات الحرث والري من الصناع، وإن كان صيادا أو راعي أنعام فهو محتاج إلى بعض الحبوب والثمار من المزارعين. ولا شك أن كل فرد في الغالب يضن ببذل ما عنده لحاجة غيره، ما لم يكن ذلك البذل في مقابلة عوض.
وتحقيقا لعوامل الاحتياج نشأ لديهم ما يسمى بالمقايضة، بمعنى أن الصياد أو مستنتج الأنعام مثلا يشتري حاجته من الإنتاج الزراعي، مما يملكه من لحوم وأصواف وجلود وأنعام وهكذا.
ويعتقد علماء الاقتصاد أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما، إلا أن تطور الحياة البشرية، وما يعترض الأخذ بمبدأ المقايضة من صعوبات أهمها:
(أ) صعوبة التوافق المزدوج بين متبادلين، فصاحب القمح قد لا يجد من يبادله بما هو في حاجة إليه من أدوات الحرث مثلا.
(ب) صعوبة توازن قيم السلع وحفظ نسب التبادل بينها، فلا يمكن قياس كمية من السكر بجزء من السمن أو الشاي أو غيرهما إلا بعناء.(50/98)
(ج) صعوبة التجزئة، إذ قد تكون الحاجة إلى شيء تافه، فلا يتكافأ هذا الشيء التافه مع ما يرغب فيه من سلعة أخرى.
(د) صعوبة احتفاظ السلع بقيمتها لتكون مستودعا للثروة وقوة للشراء المطلق ومعيارا للتقويم.
كل ذلك أدى إلى الاستعاضة عنها بطريقة يحصل بها التغلب على الصعوبات المشار إليها، فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط في التبادل، وليكون في ذلك الوسيط وحدة للمحاسبة، ومقياس للقيم، وخزانة للثروة، وقوة شرائية مطلقة. إلا أن نوعية هذا الوسيط لم تكن موحدة بين الناس؛ فكان للبيئة أثرها في تعيين وسيط التبادل. فالبلاد الساحلية كانت تختار الأصداف نقدا، والبلاد الباردة وجدت في الفراء ندرة تؤهلها لاختيارها وسيطا للتبادل، أما البلاد المعتدلة فنتيجة للرخاء في عيشة أهلها آثروا المواد الجميلة كالخرز والرياش وأنياب الفيلة والحيتان نقودا، ويذكر أن اليابان كانت تستعمل الأرز وسيطا للتبادل، كما كان الشاي في وسط آسيا، وكتل الملح في أفريقيا الوسطى، والفرو في الشمال من أوروبا.
وبتطور الحياة البشرية بمختلف أنواعها من فكرية واجتماعية واقتصادية ظهر عجز السلع وسيطا للتبادل عن مسايرتها هذا التطور الشامل.
هذا العجز يكمن في تأرجح قيم السلع ارتفاعا وانخفاضا، تبعا لمستلزمات العرض والطلب، وأن السلع عرضة للتلف فضلا عن صعوبة حملها، وعن الأخطار التي تصاحب نقلها من مكان إلى آخر.(50/99)
وفضلا عن ذلك كله، فهناك مجموعة من السلع لا تنسب لها قيمة تذكر بجانب السلع المتخذة وسائط تبادل، كالبيضة والبطيخة والرغيف من الخبز، ونحو هذه المعدودات، مما يحتاجه الجميع دائما.
لذلك اتجه الفكر الاقتصادي إلى البحث عن الاستعاضة عن السلع وسيطا للتبادل بما يسهل حمله، وتكبر قيمته، ويكون له من المزايا والصفات الكيمياوية والطبيعية ما يقيه عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان؛ فاهتدى إلى المعادن النفيسة من ذهب وفضة ونحاس، ووجد فيها أسباب التغلب على الصعوبات التي كانت تصاحب السلع كوسائط للتبادل، فساد التعامل بها ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة. إلا أن اختلاف أنواع هذه المعادن وخصوصا الذهب، أوجد في استعمالها ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب، وليس كل الناس يعرف المعيار المقبول للتبادل، ثم إن ترك تقدير القطع النقدية وخصوصا فيما له ندرة عالية كالذهب، وإرجاع ذلك إلى الوزن، أوجد فرصا لسرقتها بالتلاعب بوزنها، فضلا عما في كل صفقة بيع من المشقات الناتجة عن وزن المقادير المتفق عليها من المعدن الثمين.
لهذا كان واجبا على ولاة الأمور التدخل في شئون النقد، وحصر الإصدار في الإدارات الحكومية، وأن يكون على شكل قطع مختلفة من النقود المعدنية، لكل منها وزن وعيار معلومان، وأن(50/100)
تختم كل قطعة بختم يدل على مسئولية الحاكم عن الوزن والعيار.
فتدخل الحكام في ذلك، وأصبحت العمل المعدنية معدودة بعد أن كانت توزن، وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار. ويذكر أن أول من ضرب النقود كرويوس ملك ليديا في جنوب آسيا الصغرى في القرن السابع قبل الميلاد. ويقال بأنه يوجد أنموذج من نقوده في المتحف البريطاني.
ثم قام بتقليده غيره من ملوك المماليك المتاخمة لها. وفي ازدهار الحضارة اليونانية اتخذت لنفسها عملة خاصة أطلقت عليها اسم الدراخمة، ومعناها قبضة اليد. ولا يزال هذا الاسم هو اسم العملة اليونانية حتى يومنا هذا، ويقال بأن العرب نقلوا اسم الدراخمة إلى العربية وعربوها باسم الدرهم.
وقد ذكر بعض العلماء أن الذهب والفضة يعتبران أثمانا بالخلقة والطبيعة، سواء في ذلك مسكوكهما وسبائكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن؛ ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال: «جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول صلى الله عليه وسلم الله يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: زن وأرجح (1) » ، ومثله حديث جابر بن عبد الله وبيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه حينما قال: «يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) » . وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فجاء في
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1305) ، سنن النسائي البيوع (4592) ، سنن أبو داود البيوع (3336) ، سنن ابن ماجه التجارات (2220) ، مسند أحمد بن حنبل (4/352) ، سنن الدارمي البيوع (2585) .
(2) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن النسائي البيوع (4639) ، سنن أبو داود النكاح (2048) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .(50/101)
مجموع الفتاوى ما نصه: (إن الناس في زمن رسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) (1) . اهـ.
والذي يظهر لي أن الأثمان يتم اعتبارها بالاصطلاح، وأن أي شيء يتعارف عليه الناس ويتخذونه ثمنا؛ فيلقى قبولا عاما فهو ثمن يحمل في نفسه مقومات الثمنية: من قبول عام، ومستودع للثروة، ومقياس للقيم.
ولهذا كان أقرب تعريف للنقد وأصوبه تعريفه بأنه كل شيء يلقى قبولا عاما وسيطا للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون.
وقد أشار بعض المحققين من علماء الإسلام إلى هذا. ففي المدونة الكبرى للإمام مالك في كتاب الصرف ما نصه: (ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) . اهـ.
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا - إلى أن قال - والوسيلة المحضة التي لا
__________
(1) ج19 ص 248.(50/102)
يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) (1) . اهـ.
ففي قوله رحمه الله: (والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) . في قوله هذا إشارة إلى أن النقد هو ما يلقى قبولا عاما كوسيلة للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ.
وذكر لنا سماحة شيخنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله أنه اطلع على نقل عن الغزالي بأنه يرى أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره، حتى ولو كانت قطعة من أحجار أو أخشاب.
وجاء في فتوح البلدان للبلاذري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك (2) .
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن النقدين الذهب والفضة خلقا للثمنية. وقد يقوى الشك في صحة هذا القول لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (3) .
وبما ذكرنا نستطيع القول بأن النقد شيء اعتباري، سواء أكان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام، وأن
مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد الخمسون - الإصدار: من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1417هـ 1418هـ > البحوث > بحث في الذهب بعض خصائصه وأحكامه > النشأة التاريخية لاتخاذ الذهب ثمنا
__________
(1) ج 19 ص 251.
(2) (فتوح البلدان) للبلاذري ص 578.
(3) انظر (الورق النقدي) ص26 - 32 لمؤلفه عبد الله المنيع.(50/103)
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في حصوله على احتياجه من طعام وشراب ومسكن ومركب ونحو ذلك، فهو مدني بطبعه، قليل بنفسه، كثير ببني جنسه، لا يستطيع العيش بدون معونتهم؛ فبالرغم من البساطة التامة في حياته إبان العصور الأولى، فقد كان محتاجا إلى ما عند الآخرين، فإن كان مزارعا فهو محتاج إلى أدوات الحرث والري من الصناع، وإن كان صيادا أو راعي أنعام فهو محتاج إلى بعض الحبوب والثمار من المزارعين. ولا شك أن كل فرد في الغالب يضن ببذل ما عنده لحاجة غيره، ما لم يكن ذلك البذل في مقابلة عوض.
وتحقيقا لعوامل الاحتياج نشأ لديهم ما يسمى بالمقايضة، بمعنى أن الصياد أو مستنتج الأنعام مثلا يشتري حاجته من الإنتاج الزراعي، مما يملكه من لحوم وأصواف وجلود وأنعام وهكذا.
ويعتقد علماء الاقتصاد أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما، إلا أن تطور الحياة البشرية، وما يعترض الأخذ بمبدأ المقايضة من صعوبات أهمها:
(أ) صعوبة التوافق المزدوج بين متبادلين، فصاحب القمح قد لا يجد من يبادله بما هو في حاجة إليه من أدوات الحرث مثلا.
(ب) صعوبة توازن قيم السلع وحفظ نسب التبادل بينها، فلا يمكن قياس كمية من السكر بجزء من السمن أو الشاي أو غيرهما إلا بعناء.(50/98)
(ج) صعوبة التجزئة، إذ قد تكون الحاجة إلى شيء تافه، فلا يتكافأ هذا الشيء التافه مع ما يرغب فيه من سلعة أخرى.
(د) صعوبة احتفاظ السلع بقيمتها لتكون مستودعا للثروة وقوة للشراء المطلق ومعيارا للتقويم.
كل ذلك أدى إلى الاستعاضة عنها بطريقة يحصل بها التغلب على الصعوبات المشار إليها، فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط في التبادل، وليكون في ذلك الوسيط وحدة للمحاسبة، ومقياس للقيم، وخزانة للثروة، وقوة شرائية مطلقة. إلا أن نوعية هذا الوسيط لم تكن موحدة بين الناس؛ فكان للبيئة أثرها في تعيين وسيط التبادل. فالبلاد الساحلية كانت تختار الأصداف نقدا، والبلاد الباردة وجدت في الفراء ندرة تؤهلها لاختيارها وسيطا للتبادل، أما البلاد المعتدلة فنتيجة للرخاء في عيشة أهلها آثروا المواد الجميلة كالخرز والرياش وأنياب الفيلة والحيتان نقودا، ويذكر أن اليابان كانت تستعمل الأرز وسيطا للتبادل، كما كان الشاي في وسط آسيا، وكتل الملح في أفريقيا الوسطى، والفرو في الشمال من أوروبا.
وبتطور الحياة البشرية بمختلف أنواعها من فكرية واجتماعية واقتصادية ظهر عجز السلع وسيطا للتبادل عن مسايرتها هذا التطور الشامل.
هذا العجز يكمن في تأرجح قيم السلع ارتفاعا وانخفاضا، تبعا لمستلزمات العرض والطلب، وأن السلع عرضة للتلف فضلا عن صعوبة حملها، وعن الأخطار التي تصاحب نقلها من مكان إلى آخر.(50/99)
وفضلا عن ذلك كله، فهناك مجموعة من السلع لا تنسب لها قيمة تذكر بجانب السلع المتخذة وسائط تبادل، كالبيضة والبطيخة والرغيف من الخبز، ونحو هذه المعدودات، مما يحتاجه الجميع دائما.
لذلك اتجه الفكر الاقتصادي إلى البحث عن الاستعاضة عن السلع وسيطا للتبادل بما يسهل حمله، وتكبر قيمته، ويكون له من المزايا والصفات الكيمياوية والطبيعية ما يقيه عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان؛ فاهتدى إلى المعادن النفيسة من ذهب وفضة ونحاس، ووجد فيها أسباب التغلب على الصعوبات التي كانت تصاحب السلع كوسائط للتبادل، فساد التعامل بها ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة. إلا أن اختلاف أنواع هذه المعادن وخصوصا الذهب، أوجد في استعمالها ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب، وليس كل الناس يعرف المعيار المقبول للتبادل، ثم إن ترك تقدير القطع النقدية وخصوصا فيما له ندرة عالية كالذهب، وإرجاع ذلك إلى الوزن، أوجد فرصا لسرقتها بالتلاعب بوزنها، فضلا عما في كل صفقة بيع من المشقات الناتجة عن وزن المقادير المتفق عليها من المعدن الثمين.
لهذا كان واجبا على ولاة الأمور التدخل في شئون النقد، وحصر الإصدار في الإدارات الحكومية، وأن يكون على شكل قطع مختلفة من النقود المعدنية، لكل منها وزن وعيار معلومان، وأن(50/100)
تختم كل قطعة بختم يدل على مسئولية الحاكم عن الوزن والعيار.
فتدخل الحكام في ذلك، وأصبحت العمل المعدنية معدودة بعد أن كانت توزن، وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار. ويذكر أن أول من ضرب النقود كرويوس ملك ليديا في جنوب آسيا الصغرى في القرن السابع قبل الميلاد. ويقال بأنه يوجد أنموذج من نقوده في المتحف البريطاني.
ثم قام بتقليده غيره من ملوك المماليك المتاخمة لها. وفي ازدهار الحضارة اليونانية اتخذت لنفسها عملة خاصة أطلقت عليها اسم الدراخمة، ومعناها قبضة اليد. ولا يزال هذا الاسم هو اسم العملة اليونانية حتى يومنا هذا، ويقال بأن العرب نقلوا اسم الدراخمة إلى العربية وعربوها باسم الدرهم.
وقد ذكر بعض العلماء أن الذهب والفضة يعتبران أثمانا بالخلقة والطبيعة، سواء في ذلك مسكوكهما وسبائكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن؛ ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال: «جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول صلى الله عليه وسلم الله يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: زن وأرجح (1) » ، ومثله حديث جابر بن عبد الله وبيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه حينما قال: «يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) » . وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فجاء في
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1305) ، سنن النسائي البيوع (4592) ، سنن أبو داود البيوع (3336) ، سنن ابن ماجه التجارات (2220) ، مسند أحمد بن حنبل (4/352) ، سنن الدارمي البيوع (2585) .
(2) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن النسائي البيوع (4639) ، سنن أبو داود النكاح (2048) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .(50/101)
مجموع الفتاوى ما نصه: (إن الناس في زمن رسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) (1) . اهـ.
والذي يظهر لي أن الأثمان يتم اعتبارها بالاصطلاح، وأن أي شيء يتعارف عليه الناس ويتخذونه ثمنا؛ فيلقى قبولا عاما فهو ثمن يحمل في نفسه مقومات الثمنية: من قبول عام، ومستودع للثروة، ومقياس للقيم.
ولهذا كان أقرب تعريف للنقد وأصوبه تعريفه بأنه كل شيء يلقى قبولا عاما وسيطا للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون.
وقد أشار بعض المحققين من علماء الإسلام إلى هذا. ففي المدونة الكبرى للإمام مالك في كتاب الصرف ما نصه: (ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) . اهـ.
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا - إلى أن قال - والوسيلة المحضة التي لا
__________
(1) ج19 ص 248.(50/102)
يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) (1) . اهـ.
ففي قوله رحمه الله: (والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) . في قوله هذا إشارة إلى أن النقد هو ما يلقى قبولا عاما كوسيلة للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ.
وذكر لنا سماحة شيخنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله أنه اطلع على نقل عن الغزالي بأنه يرى أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره، حتى ولو كانت قطعة من أحجار أو أخشاب.
وجاء في فتوح البلدان للبلاذري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك (2) .
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن النقدين الذهب والفضة خلقا للثمنية. وقد يقوى الشك في صحة هذا القول لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (3) .
وبما ذكرنا نستطيع القول بأن النقد شيء اعتباري، سواء أكان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام، وأن
__________
(1) ج 19 ص 251.
(2) (فتوح البلدان) للبلاذري ص 578.
(3) انظر (الورق النقدي) ص26 - 32 لمؤلفه عبد الله المنيع.(50/103)
القول بأن الذهب والفضة خلقا للثمنية قول يفقد مقومات اعتباره من الناحية الشرعية، ومن الناحيتين اللغوية والتاريخية، وهذا لا يعني عدم التسليم بأنهما أكثر من غيرهما إيغالا في الثمنية، بل هما موغلان فيها، ولهذا جاء النص بعموم جريان الربا فيهما، سواء في ذلك تبرهما ومسكوكهما، إلا ما أخرجته الصنعة منهما كالحلي، ففي جريان الربا فيه خلاف بين العلماء نذكره في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.(50/104)
علة الربا في النقدين:
لا أدري لعل غيري كان يتساءل كما كان مني التساؤل منذ كنت في المرحلة الثانوية أدرس ضمن دراستي مادة الفقه مسائل الربا، وذلك حينما أجد الفقهاء رحمهم الله يعبرون عن ضابط ما يجري فيه الربا بالعلة فيقولون: علة الربا في النقدين الوزن، وفي غيرهما الكيل. فأي مناسبة في الوزن لجريان الربا في النقدين، وفي الكيل لجريانه في غيرهما من الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت؟ الواقع أن التعليل بالوزن أو بالكيل لجريان الربا تعليل بوصف طردي لا حكمة فيه، والتعليل بالوصف الطردي ممتنع لدى جمهور علماء الأصول ومحققيهم. قال الآمدي في كتابه (إحكام الأحكام) في بحثه: القياس وشروطه (1) .
(اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة
__________
(1) ج3 ص12.(50/104)
المجردة، والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث. أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه، بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين: الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب، لا بالعلة المستنبطة منه. الثاني: أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقفا عليها ومتفرعا عنها وهذا دور ممتنع) . اهـ.
وقال الأستاذ علي حسب الله في كتابه (أصول التشريع الإسلامي) نقلا عن صاحب شرح التلويح ما نصه (1) : (إن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد، بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا لبناء الحكم عليه) . اهـ.
وفي مسودة آل تيمية جاء ما نصه (2) :
(مسألة) قال ابن برهان: " لا يجوز القياس والإلحاق إلا بعلة أو شبه يغلب على الظن عند أصحابنا وأكثر الحنفية - إلى أن قال - وكذلك ذكر المسألة أبو الخطاب صاحبنا والقاضي، وهو منصوص أحمد، ولفظه في المجرد: ولا يجوز رد الفرع إلى أصل حتى تجمعهما علة معينة تقتضي إلحاقه، فأما أن يعتبر ضرب من التنبيه فلا) . اهـ.
__________
(1) ص132 طبع دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة.
(2) ص377 من مسودة آل تيمية.(50/105)
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض انتقاده التعليل بالوزن لجريان الربا في النقدين ما نصه (1) : (وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) . اهـ.
ففي انتقاده التعليل بالوزن لعدم وجود مناسبة، إشارة إلى أنه رحمه الله يشترط المناسبة في العلة كغيره من محققي علماء الأصول. وفي انتقاد القول بأن علة الربا في النقدين الوزن وفي غيرهما الكيل يقول الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) ما نصه (2) : (ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة للربا بأظهر من جعل الدخول في الجوف علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم، في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح) . اهـ.
وهناك من العلماء من أجاز التعليل بالوصف الطردي، واعتبره بمثابة المناط. ففي المستصفى للغزالي قال ما نصه (3) : (لا معنى لعلة الحكم إلا أنها علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر، ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر. ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول: من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر) . اهـ.
__________
(1) ج2 ص137.
(2) ص62.
(3) ج2 ص57(50/106)
وقال في موضع آخر من المستصفى (1) : (وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة) . اهـ.
وقال في كتابه (شفاء العليل) حسبما نقله عنه الدكتور سعيد رمضان في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ما نصه (2) : (فكل ما جعل علة للحكم فإنما جعل علة، لأن الشارع جعله علة لا لمناسبة) . اهـ. وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) ما نصه (3) : (ومعنى العلة الشرعية العلامة. ويجوز أن تكون حكما شرعيا - إلى أن قال - وتكون مناسبا وغير مناسب) . اهـ.
على أي حال فليس هذا موضوع بحثنا، وإنما ذكرنا ذلك استطرادا وتبريرا لتساؤلنا. وعلى أي حال فسواء أكثر القائلون بجواز التعليل بالوصف الطردي، أم قلوا؟ فإن هذا لا يغير ما نحن بصدده من ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله في علة الربا في النقدين، ومناقشتها واختيار ما نراه أقرب إلى الصواب منها.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة، نتيجة اختلاف مفاهيمهم في حكمة تحريمه فيهما. فمن تعذر عليه إقامة دليل يرضاه على حكمة التحريم، قصر العلة فيهما مطلقا. سواء أكانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين. وهذا
__________
(1) ج2 ص93.
(2) ص92 من كتاب ضوابط المصلحة.
(3) ج2 ص313 من روضة الناظر.(50/107)
مذهب أهل الظاهر، ونفاة القياس، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها. فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية، ولا في غيرهما مما يعد نقدا. والأمر في تحريم الربا فيهما عندهم أمر تعبدي.
وغير أهل الظاهر ومن قال بقولهم فهموا للتحريم حكمة تتفق مع مراعاة الشريعة تحقيق العدل والرحمة والمصلحة بين العباد في الأحكام، وتتفق مع ما لهذه الشريعة من شمول واستقصاء، فاعتبروا النص على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة من قبيل التمثيل بهما؛ لما ينتج التعامل به في حال التفاضل، أو الإنظار المستلزم الغالب التفاضل من الفساد والظلم والقسوة بين العباد؛ فاستخرجوا مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا، إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط. فذهب بعضهم إلى أن علة الربا في النقدين الوزن؛ فطردوا القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن، كالحديد والنحاس والرصاص والصفر والذهب والفضة والصوف والقطن والكتان وغيرها. وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، وقد اختلفوا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن ما لم يكن ذهبا أو فضة، كاللجم والإبر والأسطال والقدور والسكاكين والألبسة من قطن أو حرير أو كتان، وكالفلوس؛ فذهب جمهورهم إلى عدم جريان الربا فيها. وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمنية. وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي، فالعلة عندهما في الذهب والفضة(50/108)
قاصرة عليهما. والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين. فالثمنية عندهم طارئة على الفلوس فلا ربا فيها، وذهب فريق ثالث إلى أن العلة فيهما مطلق الثمنية. وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد. قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من محققي العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) : (والمقصود هنا الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن، كما قال جمهور العلماء - إلى أن قال - والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب؛ فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها. فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية. واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب؛ فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة، مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل. فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى؛ فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل) .
__________
(1) ج29 ص471 - 472.(50/109)
نقاش هذه الآراء:
لقد استعرضنا بصورة سريعة ومختصرة جدا أشهر آراء العلماء في مناط الربا في النقدين الذهب والفضة، دون مناقشة أي من هذه الآراء، ونحب الآن مناقشة هذه الآراء، لتظهر لنا حقيقتها، وليترجح لنا منها ما يتفق مع حكمة حظر الربا على الأمة الإسلامية؛ ليكون لنا عونا ومبررا في توجيهنا ما نراه علة للربا في الذهب.
لقد أورد بعض أهل العلم على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيرادا ملخصه: أن العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة. قال أبو محمد عبد الله بن قدامة رحمه الله في المغني في معرض توجيهه قول القائلين بالثمنية (1) : (ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسأ) . اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه في معرض توجيهه القول بالثمنية (2) : (ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا. والمنازع يقول: جواز هذا استحسان، وهو نقيض للعلة. ويقول:
__________
(1) ج4 من المغني ص4.
(2) ج29 من الفتاوى ص471.(50/110)
إنه جوز هذا للحاجة، مع أن القياس تحريمه) . اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه القول بالثمنية وتصحيحه ما نصه: (1) . (فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما. فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا. فإن ما يجرى فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) 10 هـ.
وقد أجاب القائلون بهذا من الحنابلة عن إيراد اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، مع أنه بيع موزون بموزون إلى أجل، باستثناء هذه الجزئية من القاعدة للحاجة الماسة إلى الإسلام بأحد النقدين، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا. أما الحنفية فوضعوا قيدا ليدفعوا به هذا الاعتراض، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل وطريقته، وقالوا: إن مسألة السلم لا تنقض قاعدتنا؛ حيث إن النقدين موزونان بالميزان، أما ما يسلم فيه مما يوزن فوزنه بالقبان، فاختلف الميزان فجاز (2) .
__________
(1) ج2 من إعلام الموقعين ص137.
(2) ج5 من بدائع الصنائع ص186.(50/111)
ولا يخفى ما في هذا الدفع بهذا القيد من تكلف ظاهر.
وأورد أيضا على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيراد آخر ملخصه: أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن؛ بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا كالفلوس والورق النقدي، بل إن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي، وبشكل واضح في غالبه، تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها، كفئات الخمسمائة ريال والألف دولار.
فليس التعليل بالوزن جامعا لأجزاء ما يجري فيه الربا من أنواع الأثمان، فتعين المصير إلى مناط جامع مانع.
أما القائلون بغلبة الثمنية علة لجريان الربا في النقدين، فأورد عليهم أن العلة عندكم قاصرة على النقدين الذهب والفضة، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم. قال النووي رحمه الله في مجموعه شرح المهذب في معرض سياقه الرد على الشافعية لقولهم بالعلة القاصرة (1) : (وعندكم في العلة القاصرة وجهان لأصحاب الشافعية. أحدهما: أنها فاسدة لا يجوز التعليل بها لعدم الفائدة فيها، فإن حكم الأصل قد عرفناه، وإنما مقصود العلة أن يلحق بالأصل غيره. والوجه الثاني: أن القاصرة صحيحة ولكن المتعدية أولى. قالوا: فعلتكم مردودة
__________
(1) ج9 من المجموع ص445.(50/112)
على الوجهين لأن حكم الذهب والفضة عرفناه بالنص. قالوا: ولأن علتكم قد توجد ولا حكم، وقد يوجد الحكم ولا علة كالفلوس بخراسان وغيرها، فإنها أثمان ولا ربا فيها عندكم، والثاني كأواني الذهب والفضة يحرم الربا فيها مع أنها ليست أثمانا) اهـ.
وأورد عليهم أيضا ما أورد على القائلين بالوزن علة من أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على النقدين، بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان، كالفلوس والورق النقدي إلى آخر الاعتراض المتقدم قريبا.
أما القائلون بأن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، فقد استخرجوا مناطا جامعا مانعا متفقا مع الحكمة في جريان الربا في الذهب والفضة. وما ذكره ابن مفلح رحمه الله في كتابه الفروع من قوله: بأنها علة قاصرة لا يصلح التعليل بها في اختيار الأكثر، منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي. فهذا الإيراد لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية. أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا بنوعيه كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة.
كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة؛ لأن الصناعة قد نقلته من مادة الثمنية إلى جنس السلع والثياب؛ ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور، مع أنه من مادة الذهب والفضة.(50/113)
وفي امتناع جريان الربا في الحلي المباح من الذهب والفضة يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ما نصه (1) : (وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة، كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية، فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي. وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه.
فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها البتة، بل بيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر، لشهوة الرطب. وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه
__________
(1) ج2 من الإعلام ص 140 - 141.(50/114)
بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع. وغاياتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله: «الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير» ، وفي الزكاة قوله: «في الرقة ربع العشر (1) » والرقة هي الورق، وهي الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين، وإيجابا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما؛ بل فيه تفصيل. فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة شيء لدليل منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وسائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه الصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة، فلا محظور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) . كما لا يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل. ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1454) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1800) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) .(50/115)
الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أنهم كانوا يعطونها للمحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها. ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه. ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف. يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيح العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب، والشاهد والطبيب، والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلي المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك) إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقد يرد على ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله من أن الحلية المصنوعة لا يجري فيها الربا، ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد قال: «اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز. ففصلتها فوجدت أكثر من اثني(50/116)
عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل (1) » وفي لفظ لأبي داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة أو سبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينه وبينه. فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما، قال: فرده حتى ميز بينهما (2) » .
ووجه الإيراد أن القلادة حلية فيها ذهب وقد اشتريت بذهب، ومع هذا فقد اعترض صلى الله عليه وسلم على صحة هذا البيع وأمر برده حتى يفصل. وقد يكون من الجواب عليه أن ذهب القلادة كان أكثر من ثمنها، حيث ذكر فضالة أنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارا. وأكثر ما روي في ثمنها أنه اثني عشر دينارا. وقد روي أنه اشتراها بسبعة دنانير أو تسعة. فإذا كان ما فيها من الذهب أكثر من ثمنها ذهبا، لم يكن للصياغة فيها مقابل، وآل الأمر فيها إلى بيع ذهب بذهب متفاضلا، لم يكن لزيادة بعضه على بعض مقابل.
وابن القيم رحمه الله يشترط أن يكون ثمن الحلية أكثر منها وزنا، ليكون الزائد على ثمنها من الثمن في مقابلة الصياغة. وقد مر بنا قوله: (وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها) . وقال رحمه الله بعد هذا في معرض الدفاع عن هذا الرأي (3) : (فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة) . اهـ.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/21) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(3) ج2 من الإعلام ص 142.(50/117)
وأجاب بنحو هذا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض جوابه عن جواز بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع القطع بأن بينهما تفاوتا في الوزن فقال رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) :
(وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي؛ بل يخرص خرصا، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين (2) ، وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباع حتى تفصل (3) » فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل؛ لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله (4) ، وزيادة خرز، وهذا لا يجوز.
وإذا علم المأخذ، فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك، فيجوز التفاوت) . اهـ.
__________
(1) ج 29 من مجموع الفتاوى ص 453.
(2) هكذا في المطبوع والصواب: (خيبر) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن الترمذي البيوع (1255) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3352) ، مسند أحمد بن حنبل (6/21) .
(4) هكذا في المطبوع ولعل الصواب: قد باع ذهبا بذهب مثله وزيادة وخرز. والله أعلم.(50/118)
ومما أجيب به عن هذا الحديث أن فيه اضطرابا واختلافا، يوجب ترك الاحتجاج به، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه (تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير) ما نصه (1) : (وله عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا، في بعضها: قلادة فيها خرز وذهب، وفي بعضها: ذهب وجوهر، وفي بعضها: خرز وذهب، وفي بعضها: خرز معلقة بذهب، وفي بعضها: باثني عشر دينارا، وفي أخرى: تسعة دنانير، وفي أخرى: بسبعة دنانير، وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة) . اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب. اهـ.
قلت: قد رأيت لبعض المتأخرين من محدثي الهند تعقيبا على ابن حجر رحمه الله في جوابه هذا، فقد ذكر المفتي عبد اللطيف الرحماني في شرحه جامع الترمذي الجزء الثاني ص (709) ما نصه: (وأما ما أجاب الحافظ عنه بأن المقصود
__________
(1) ج 3 من تلخيص الحبير ص 9.(50/119)
من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، ففيه أيضا أنه غير محفوظ بما روى البيهقي في السنن عن فضالة بن عبيد، قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (1) » ففي هذا الحديث ليس للقلادة ذكر، وليس فيه النهي عن بيع ما لم يفصل، بل فيه النهي عن بيع الذهب بالدينار إلا مماثلا. وأما ما قال الحافظ من أنه ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فنحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم. ففيه إنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح. وأيضا لا يجوز تغليط ثقة لأن عليه الاعتماد.
فعلى هذا لا حجة في هذا الحديث لاضطرابه، وكيف وفيه حرج عظيم ومشقة على الأمة، إذا حكم بفصل الذهب والفضة عن الأشياء التي تحلى بالذهب والفضة، لأن بعض الأشياء بعد نزوع الذهب والفضة منها ينقص قيمتها كثيرا، بل بعضها لا يكون لها قيمة. فكيف يحكم بهذا الشارع، ويحكم بإبطال الصنع وهو حكيم؟) اهـ.
أقول: في اعتراضه رحمه الله بقوله: ففيه إنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ في قوله هذا نظر ملخصه: هل تحقق أن رواة هذه الروايات المختلفة كلهم سواء في الحفظ والضبط؟ كما أن قوله: لا يجوز تغليط ثقة لأن عليه الاعتماد، ليس على إطلاقه؛ بل إذا روى الثقة حديثا يخالف ما
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن أبو داود البيوع (3353) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(50/120)
روى الناس اعتبرت روايته هذه شاذة، ويتعين التوقف فيها، وعدم الاحتجاج بها. قال ابن كثير رحمه الله في كتابه (الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث) في معرض تعريفه الشاذ ما نصه (1) : (قال الشافعي: وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره. وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضا، قال: والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة - إلى أن قال - فإذن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب: إنه إذا روى الثقة شيئا قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ. يعني المردود) . اهـ.
ومن المسائل التطبيقية لهذه المسألة ما ذكره ابن حجر رحمه الله في كتابه (هدي الساري مقدمة فتح الباري) من قوله (2) :
(قال الدارقطني أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال: (كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة) . وهذا مما ينتقد به على مالك لأنه رفعه، وقال فيه إلى قباء. وخالفه عدد كثير، منهم شعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن الحارث، ويونس بن
__________
(1) انظر ص61 من الكتاب نفسه.
(2) الجزء الثاني من هدي الساري ص111.(50/121)
يزيد، ومعمر، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وآخرون. انتهى.
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك، وموضع التعقب منه قوله: إلى قباء، والجماعة كلهم قالوا إلى العوالي. ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة) . اهـ.
فقول ابن حجر رحمه الله: ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث، يدل على أنه يرى كغيره من حفاظ الحديث، أن الثقة إذا شذ عن الجماعة برواية خالفهم فيها وترتب على هذه الرواية وهم غير يسير، لزم من ذلك القدح في صحة الرواية، وإن كان الثقة مالكا أو من يدانيه، فضلا عمن هو دونه.
كما أنه قد يورد مورد اعتراضا على القائلين بمطلق الثمنية، بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه، في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أو كانا مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنا، وإنما الإشكال في جريان الربا بنوعيه في سبائكهما، مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا، إلا أنه يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وشاملة لسبائكهما ومسكوكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا. وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس، قال: «جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم(50/122)
يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: زن وأرجح (1) » . ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) » . وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا، فجاء في مجموع الفتاوى (3) : (إن الناس في زمن رسول الله! كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ.
ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت وغيره فقال (4) : (وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين، لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: تبرها وعينها سواء) . اهـ.
ولابن القيم رحمه الله توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها - أن نذكره كختام لمبحثنا هذا. قال رحمه الله في كتابه (إعلام
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1305) ، سنن النسائي البيوع (4592) ، سنن أبو داود البيوع (3336) ، سنن ابن ماجه التجارات (2220) ، مسند أحمد بن حنبل (4/352) ، سنن الدارمي البيوع (2585) .
(2) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن النسائي البيوع (4639) ، سنن أبو داود النكاح (2048) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .
(3) ج 19 ص 248 مجموع الفتاوى.
(4) ج2 من الإعلام ص 140.(50/123)
الموقعين) ما نصه (1) : (وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب.
فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا. فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية.
فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس - إلى أن قال - فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطي صحاحا
__________
(1) ج2 من الإعلام ص 137.(50/124)
ويأخذ مكسرة، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها، لصارت متجرا وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلعة. فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات) . اهـ.
ونظرا لوجود النص الثابت الصريح في جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة، وذلك فيما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » وحيث إنه لا اجتهاد مع نص فإن الربا بنوعيه يجري فيهما في مسكوكهما وسبائكهما وتبرهما إلا ما أخرجته الصنعة منهما فقد اتجه بعض المحققين من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما إلى جواز التفاضل في بيع الذهب بجنسه والفضة بجنسها إذا كان أحد العوضين مما أخرجته الصنعة كالحلي مع بقاء الحكم بوجوب التقابض في مجلس العقد رعاية للنص الخالي عما يصرفه عن الحكم العام في جريان ربا النسيئة فيهما. وقد تقدم النقل عن ابن القيم رحمه الله في تعليل ذلك وأن للصنعة فيهما قيمة تقابل زيادة الثمن وزنا على وزن الحلية المبيعة من ذهب أو فضة.
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (كتاب المساقاة) برقم (1587) .(50/125)
مما تقدم يتضح أن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وأن النص صريح في اعتبارهما مالا ربويا يجب في المبادلة بينهما التماثل والتقابض في مجلس العقد فيما اتحد جنسه، والتقابض في مجلس العقد في بيع بعضهما ببعض إلا ما أخرجته الصناعة عن معنى الثمنية فيجوز التفاضل بين الجنس منهما دون النسأ على ما سبق من توضيح وتعليل.
وتأسيسا على ما تقدم في البحث من خصائص الذهب وكونه أكثر الأثمان إيغالا في الثمنية، وما جاء فيه من نص صريح يقضي باعتباره مالا ربويا يلزم في المبادلة بين الجنس منهما المماثلة والتقابض في مجلس العقد، وفي المبادلة بين الجنسين التقابض في مجلس العقد، وتأسيسا على ما تقدم لنا من اعتبار الثمنية علة وقوع الربا في الذهب يمكننا الحكم على المسائل التي عرضها مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
ومنها: حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر. الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجوازة لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا؛ حيث إن الزيادة في الثمن وزنا هي قيمة الصنعة في الحلي؛ وقد مر بنا النقل عن ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا الحكم وتعليله (1) .
ومنها: بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا: أي فيه صنعة
__________
(1) إعلام الموقعين ج 2 ص 140 - 141.(50/126)
وصياغة. لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب، وقد يباع بنقد آخر من فضة أو ورق نقدي أو فلوس. فإذا كان الذهب المبيع مشغولا، كأن يكون حليا، فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من وزن الذهب الحلي، وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل. وقد مر بنا رأي ابن القيم في ذلك وذكره تعليل القول بالجواز، إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد. وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا إذا كان يدا بيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » .
ومنها: المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال. لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية التحريم؛ وما حرم تملكه حرم بيعه. أما الحلي فإن كان معدا للرجال فهو حرام، والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر؛ وما حرم تملكه حرم بيعه. قال ابن القيم رحمه الله: (وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وبغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي) (2) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .
(2) إعلام الموقعين ج 2 ص 147.(50/127)
وأما المتاجرة في الحلي المعد للنساء فلا بأس فيه، إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض. وقد يتفرع من هذه المسألة مسألة، هي: هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شرائه حليا جديدا هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشتري منه حليا جديدا؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع بين أعضاء مجلس الهيئة. ونظرا إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا على مخالفة في الصرف، ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة؛ فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه. وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله حيث قال: (الصحيح جواز قوله: بعتك داري بكذا على أن تبيعني عبدك أو نحوه بكذا، ولا يدخل تحت نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة؛ لأن المراد أن يعقد على شيء واحد في وقت واحد عقدين، وذلك كمسائل العينة وما أشبهها) (1) اهـ.
وقال رحمه الله في معرض إجابته عن الذي يدخل في النهي عن بيعتين في بيعة: (ويدخل في ذلك مسائل العينة وضدها. . . - إلى أن قال - وأما تفسيره بأن تقول: بعتك هذا البعير مثلا بمائة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة فالمذهب إدخالها في هذا
__________
(1) الفتاوى الجلية ص 96.(50/128)
الحديث، والقول الآخر في المذهب عدم إدخالها وأن لا يتناولها النهي لا بلفظه ولا بمعناه، ولا محظور في ذلك، وهو الذي نراه ونعتقده) (1) اهـ.
وأما الساعات الذهبية، فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها، واستعمالها، والمتاجرة فيها بالبيع والشراء، وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء. والله أعلم.
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة أو مشغولا بهما أو بأحدهما، بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيها قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به، فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر، وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر. فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأى أن في التمويه بهما أو شغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما، من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما، أو بجزء منها؛ لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير العاجز عن تملكها، ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما، وأن ما فيها من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا، ونظر إلى القاعدة الشرعية: يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا - قال بجواز ذلك. ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
__________
(1) الفتاوى السعدية ص 298.(50/129)
يقول: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام (1) » . والله أعلم.
ومنها: شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان أيعد ذلك قبضا للثمن؟ اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مراطلة، وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس صرفا، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد، واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس التقابض في مجلس العقد، وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة (2) » . إلى آخره - واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى العرف والعادة، فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد والقدرة التامة على التصرف فيه تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا للذمة؟ فأصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قرارا باعتبار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه. وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر. فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه؛ لأن تصديقه
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2) صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/97) .(50/130)
يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه، كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك، وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه، وهذا معنى القبض. وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته. ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله؛ فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه، وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه، وبالتالي فينتفي عن هذا الشيك معنى القبض وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه.
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق. وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن، فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة.
وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله؛ وبالتالي فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة، والمصارفة بموجبه في رأيي غير صحيحة؛ لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق.
فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة، منها احتمال سحبه على غير رصيد، أو على رصيد لا يكفي لتغطيته، أو لاحتمال رجوع ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه، فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.(50/131)
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان، فنظرا إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين، وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه، ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة، ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها؛ حيث يتفرق المصارفان بموجبها وليس بينهما شيء. ومع هنا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية. والله المستعان.
ومنها: التعامل بشهادات الذهب أو حسابات الذهب، وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب، ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها، وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات.
هذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات، أو من مخازن متخصصة، لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك، وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة.(50/132)
الذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين: أحدهما: أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق، حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد، للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه. الثاني: أن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه، فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده، فيطلب من المشتري الانتظار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء. وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة، فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى. وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها. والله أعلم.
ومنها: حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه، هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها؟
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب؛ وذلك لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع والإلزام والالتزام وغير ذلك(50/133)
من التصرفات المالية. فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها. ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الإنتاج. وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة، كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب. فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه، حتى يقال بمراعاة شروط الصرف، وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها، والسهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها، فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج. فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك، ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه، ولكنه يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط، وفي هذه الحركة الإنتاجية والصناعية، والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك. ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا ترى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها أو عليها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة، كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتمليكا حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.(50/134)
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية الحوالات. والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه، كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي أو الدولار الأمريكي، فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين، فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل إلى ذلك البلد على أحد المصارف أو على فرع من فروعه، هذا النوع من التحويل المصرفي حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف، وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله:
السفتجة: هي أن يعطي أحد الناس مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر؛ وذلك لضمان الطريق على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة.
وقد اختلف العلماء في حكمها، فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه؛ فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا؛ فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله أجازوا ذلك.(50/135)
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا؛ فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق - رد المجيزون على ذلك بقولهم:
المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، واستعماله، وقبول هديته، ولا مصلحة له في ذلك؛ بخلاف هذه المسألة، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان، فهي من جنس المعاونة والمشاركة.
وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى حيث قال: (والصحيح الجواز؛ لأن المقرض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك، وأمن خطر الطريق. فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض. والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم) (1) اهـ.
وفي مجموع رسائل وفتاوى شيخنا الجليل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ما نصه:
__________
(1) ج 29 ص 531.(50/136)
(فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا منك، المتضمن أنك تقرض من تتولى بيع ماشيته لاستعجاله وتستوفي ما أقرضت مما تقبضه من قيمة ماشيته المباعة بواسطتك حتى تستكمل قرضك وتذكر أنك تتخذ هذه الطريقة لترغيب الجالبين وإيثارهم إياك دون غيرك.
والجواب: الحمد لله، لا شك أن أصل مشروعية القرض واستحبابه التقرب إلى الله في تفريج كرب المحتاجين، وهذا القرض ليس مقصدا من مقاصدك في الإقراض، وإنما غرضك جر منفعة لذاتك، وحيث إن هذه المنفعة لا تنقص المقترض شيئا من ماله فغاية ما في الأمر الكراهة) (1) اهـ.
وقال آخرون بمنعها؛ بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته.
وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: السفتجات حرام. وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فلا يصح الاحتجاج به. والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس؛ لما في ذلك من المصلحة العامة، والتيسير على المسلمين في معاملاتهم، وانتفاء الدليل المقنع على المنع، ولأن الأصل في المعاملات الإباحة.
__________
(1) ج7 ص 210 رقم الفتوى 1706.(50/137)
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر، فهذا النوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة، ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد. وقد تقرر لدى المجامع الفقهية والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلقت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » .
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف، بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف، سواء أكان تسلما حسيا أو تسلما في معنى الحس، كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه، أو بقيده في حسابه أو تحويله، فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى، وهي تحويل نقد معين إلى بلد أخرى، ولفضيلة الدكتور الشيخ عمر المترك رحمه الله بحث في الموضوع يحسن إكمال بحث مسألتنا بنقل قوله في ذلك. قال رحمه الله: (فإن كان المدفوع للمصرف نقودا ويراد تحويلها إلى نقود من غير جنسها تسلم في مكان آخر، كأن يتقدم شخص إلى مصرف ويسلم نقودا من الريالات السعودية طالبا تسليمها له جنيهات مصرية في مصر أو ليرات في سوريا أو نحو ذلك، فإننا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(50/138)
إذا نظرنا إلى هذه العملية نجد أنها مركبة من صرف وتحويل، ومن شروط الصحة للصرف: التقابض في مجلس العقد ولا تقابض في هذا الصرف؛ لأن الواقع العملي والعادة المتبعة في المصارف أنهم لا يسلمونه المبلغ، وإنما يسلم طالب التحويل للمصرف النقود المطلوب تحويلها فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا مع شيك يتضمن حوالة على مصرف آخر بمبلغ يعادل هذا من النقود المطلوب التحويل إليها دولارات أو جنيهات مصرية؛ فتكون هذه العملية صرفا من غير تقابض وهو غير جائز، إلا أنه يمكن أن يقال إن العرف يعتبر تسليم الشيك بمثابة تسليم النقود في المعنى؛ لأنه في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود؛ لأنه محمي من حيث إن سحب الشيك على جهة بدون أن يكون له رصيد يفي بقيمة الشيك يعتبر جريمة شديدة يعاقب عليها قانونا حتى يطمئن جمهور المتعاملين إلى الثقة الواجب توفرها في الشيك كأداة وفاء؛ لذا فإنه يمكن القول بأن قبض الشيك كقبض مضمونه فيتحقق التقابض بناء على هذا التوجيه.
ولكن خروجا من شبهة الربا والريبة أرى أن يشتري المحيل النقود التي يريد تحويلها من المصرف أو غيره، وبعد قبضها يحيلها، فإن لم يمكن شراء العملة الأجنبية لكونها ممنوعا تصديرها خارج دولتها، فالمخرج أن يشتري عملة من العملات الأجنبية، وبعد قبضها ودفع قيمتها يحيلها، ثم بعد ذلك يصارف(50/139)
البنك المحالة عليه بالعملة التي يريدها) (1) . اهـ.
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة ص384.(50/140)
وجوه التحدي والإعجاز في الأحرف المقطعة في أوائل السور
د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الأحرف المقطعة التي افتتح الله سبحانه وتعالى بعض سور القرآن الكريم بها مما أشكل فهم معانيه، والمراد به، وكثرت الأقوال في ذلك وتعددت.
وعند ذكر الأحرف المقطعة ينصرف الذهن أول ما ينصرف إلى السؤال عن معناها، ويغفل بعض الناس عن أمور أخرى تتعلق بها، كالسؤال عما يعد منها آية وما لا يعد، والسؤال عن كيفية كتابتها وقراءتها، والسؤال عن إعرابها، وأحكام الوقف عليها، والسؤال عن أعدادها، وأنواعها، والسور التي وردت فيها، بل قد لا يخطر ببال أحدهم حتى مجرد السؤال عن وجه الإعجاز فيها والتحدي بها.
__________
(1) سبقت ترجمة لفضيلته في العدد (27) ص (257) .(50/141)
وقد رغبت في الإجابة على السؤال الأخير منها، وذلك بجمع أقوال العلماء رحمهم الله تعالى في بيان وجوه التحدي والإعجاز في الأحرف المقطعة، ومناقشتها، وبيان صحيحها من ضعيفها، إذ إن هذه الأقوال منها ما هو قريب معقول، ومنها ما هو بعيد متكلف، ومنها ما هو مردود ومرفوض.
وأسأل الله أن يكون عملي هذا وسائر أعمالي خالصة لوجهه إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(50/142)
تمهيد:
قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2) ، وقال عز شأنه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3) ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (4) في هذه النصوص وغيرها دعوات إلى تدبر القرآن الكريم وآياته، وإذا علمنا أن لفظ آياته جمع مضاف إلى معرفة، وقد تقرر عند العلماء أن هذا يفيد العموم (5) فإن الدعوة إذا دعوة إلى تدبر كل
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة النساء الآية 82
(3) سورة محمد الآية 24
(4) سورة المؤمنون الآية 68
(5) انظر: (المحصول في علم أصول الفقه) للرازي، ج 1، ق2، ص 594.(50/142)
آيات القرآن الكريم لا بعضها.
ولا يلزم من التدبر في الآيات أن يعرف المتدبر معناها، فإذا بذل وسعه وجهده، وأعمل فكره وذهنه فقد تدبر، فإن فهم المعنى فبها ونعمت، وإن اشتبه عليه المعنى ولم يظهر له المراد قال: آمنا به كل من عند ربنا، وهذا هو لشأن الراسخين في العلم.
ولا يعني التدبر ضرورة القول فيما يتدبره من آية أو آيات ما لم يكن قوله عن علم. فإذا لم يؤد به تدبره إلى رأي أو علم صحيح بدليل صحيح، فلا يصح له القول بغير علم قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) .
إذا تقرر هذا فإن العلماء رحمهم الله تعالى - تدبروا في حركات القرآن الكريم وكلماته، وجمله، وآياته، وسوره، وفواصله، وفواتحه، وخواتمه، ومناسباته، ومواضع عديدة منه، فوقفوا على بحور لا سواحل لها، وأخرجوا كنوزا من كنوزه، ودررا من درره، ولا يزال عطاؤه يفيض، وما زال العلماء منه ينهلون.
ومما تدبر فيه العلماء ودرسه الدارسون فواتح السور القرآنية، فبينوا أنواعها، وحصروا أقسامها، وبينوا معانيها، وكشفوا بعض أسرارها.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36(50/143)
أنواع فواتح السور:
وقد افتتح الله كتابه الكريم بعشرة أنواع من الفواتح لا يخرج شيء من السور عنها وهي:(50/144)
النوع الأول: الاستفتاح بالثناء على الله تعالى:
والثناء قسمان:
أ - إثبات لصفات المدح نحو: الحمد لله في خمس سور و: تبارك في سورتين.
ب - التنزيه وهو في سبع سور نحو: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (1) ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (2) ، و {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} (3) في ثلاث سور. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} (4) في سورتين، ومجموع ذلك في سبع سور أيضا.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1
(2) سورة الأعلى الآية 1
(3) سورة الحديد الآية 1
(4) سورة الجمعة الآية 1(50/144)
النوع الثاني: الاستفتاح بالنداء: وذلك في عشر سور ثلاث بلفظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (1) ، وثلاث بلفظ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الأحزاب الآية 1(50/144)
وفي سورتين بلفظ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (1) ، وفي سورة المدثر بلفظ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (2) وفي المزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 1
(3) سورة المزمل الآية 1(50/145)
النوع الثالث: الاستفتاح بالجمل الخبرية: وذلك في ثلاث وعشرين سورة. ففي الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (1) وفي التوبة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} (2) وفي النحل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (3) وبقية السور هي:
(الأنبياء) و (المؤمنون) و (النور) و (الزمر) و (محمد) و (الفتح) و (القمر) و (الرحمن) و (المجادلة) و (الحاقة) و (المعارج) و (نوح) و (القيامة) و (عبس) و (البلد) و (القدر) و (البينة) و (القارعة) و (التكاثر) و (الكوثر) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 1
(2) سورة التوبة الآية 1
(3) سورة النحل الآية 1(50/145)
النوع الرابع: الاستفتاح بالقسم: وذلك في خمس عشرة سورة هي:
{وَالصَّافَّاتِ} (1) {وَالذَّارِيَاتِ} (2) {وَالطُّورِ} (3) {وَالنَّجْمِ} (4) {وَالْمُرْسَلَاتِ} (5) {وَالنَّازِعَاتِ} (6) {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (7) {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (8) {وَالْفَجْرِ} (9) {وَالشَّمْسِ} (10) {وَاللَّيْلِ} (11) {وَالضُّحَى} (12) {وَالتِّينِ} (13) {وَالْعَادِيَاتِ} (14) {وَالْعَصْرِ} (15)
__________
(1) سورة الصافات الآية 1
(2) سورة الذاريات الآية 1
(3) سورة الطور الآية 1
(4) سورة النجم الآية 1
(5) سورة المرسلات الآية 1
(6) سورة النازعات الآية 1
(7) سورة البروج الآية 1
(8) سورة الطارق الآية 1
(9) سورة الفجر الآية 1
(10) سورة الشمس الآية 1
(11) سورة الليل الآية 1
(12) سورة الضحى الآية 1
(13) سورة التين الآية 1
(14) سورة العاديات الآية 1
(15) سورة العصر الآية 1(50/145)
النوع الخامس: الاستفتاح بالشرط: وذلك في سبع سور وهي:
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (1) {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (2) {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (3) {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (4) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (5) {إِذَا زُلْزِلَتِ} (6) {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} (7)
__________
(1) سورة الواقعة الآية 1
(2) سورة المنافقون الآية 1
(3) سورة التكوير الآية 1
(4) سورة الانفطار الآية 1
(5) سورة الانشقاق الآية 1
(6) سورة الزلزلة الآية 1
(7) سورة النصر الآية 1(50/146)
النوع السادس: الاستفتاح بالأمر: وذلك في ست سور هي:
{قُلْ أُوحِيَ} (1) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (2) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (3) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (5) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (6)
__________
(1) سورة الجن الآية 1
(2) سورة العلق الآية 1
(3) سورة الكافرون الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الفلق الآية 1
(6) سورة الناس الآية 1(50/146)
النوع السابع: الاستفتاح بالاستفهام: وذلك في ست سور هي: {هَلْ أَتَى} (1) {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (2) {هَلْ أَتَاكَ} (3) {أَلَمْ نَشْرَحْ} (4) {أَلَمْ تَرَ} (5) {أَرَأَيْتَ} (6)
__________
(1) سورة الإنسان الآية 1
(2) سورة النبأ الآية 1
(3) سورة الغاشية الآية 1
(4) سورة الشرح الآية 1
(5) سورة الفيل الآية 1
(6) سورة الماعون الآية 1(50/146)
النوع الثامن: الاستفتاح بالدعاء: وذلك في ثلاث سور هي:
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (1) {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (2) {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (3)
__________
(1) سورة المطففين الآية 1
(2) سورة الهمزة الآية 1
(3) سورة المسد الآية 1(50/146)
النوع التاسع: الاستفتاح بالتعليل: وذلك في سورة واحدة.
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (1)
__________
(1) سورة قريش الآية 1(50/146)
النوع العاشر: الاستفتاح بأحرف التهجي: وذلك في تسع(50/146)
وعشرين سورة، وهو الذي ندرسه في هذا البحث. وقد جمعها أبو شامة المقدسي في بيتين هما:
أثنى على نفسه سبحانه بثبو ... ت المدح والسلب لما استفتح السورا
والأمر شرط الندا التعليل والقسم الد ... دعاء حروف التهجي استفهم الخبرا
وأشهر هذه الأنواع وأكثرها ورودا هو الاستفتاح بأحرف التهجي، وقد بحثها العلماء من وجوه مختلفة ومعاني متعددة. وينبغي أن نوضح قبل ذكر أقوال العلماء في الأحرف المقطعة بعض الأمور:
أولا: أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث صحيح مرفوع في معنى هذه الأحرف. ومن ثم فإن القول في تفسيرها لا سند له من الكتاب أو السنة الصحيحة بالنص.
ثانيا: أن افتتاح الكلام بالأحرف الهجائية المقطعة أسلوب لم يكن معروفا عند العرب ولم يألفوه من قبل وإنما كان أسلوبا جديدا؛ ولذا فلن نجد لها شاهدا من كلام العرب.
ثالثا: أنه إذا لم يكن تفسير هذه الأحرف قد ورد في الكتاب ولا في السنة، وليس له شاهد في لغة العرب؛ فإن الأقوال فيها محض تخرصات، لا يصح أبدا أن يجزم أحد بمعناها، كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (اعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازما بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد غلط(50/147)
أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من الرطانة. . .) (1) إلخ. ومع هذا فإن من أقوال المفسرين لها ما هو معقول وقريب ولا عيب فيه إلا عدم الدليل، ومنها ما يفقد الدليل مع البعد والغرابة، والشطط والتكلف.
هذه الأمور لا بد من التنبيه عليها قبل ذكر أقوال العلماء فيها.
__________
(1) فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص 30.(50/148)
أقوال العلماء في الأحرف المقطعة:
وهي أقوال كثيرة زادت على العشرين، رأيت توطئة لبحث وجوه الإعجاز في هذه الأحرف المقطعة أن أذكر أهم وأبرز أقوال العلماء في معانيها فمنها:
1 - أنها علم استأثر الله تعالى به، ونسب هذا القول إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة.
2 - أنها حروف مقتضبة من أسماء الله تعالى وصفاته المفتتحة بأحرف مماثلة لهذه الحروف المقطعة، فالألف إشارة إلى(50/148)
أحد، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك، ونحو ذلك.
3 - أنها رموز إلى أسماء الله تعالى، أو أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أسماء الملائكة، فالألف مثلا من الله واللام من جبريل والميم من محمد.
4 - أنها أسماء الملائكة.
5 - أنها رموز لمدة بقاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم بحساب الجمل.
6 - أنها رموز لمعان مختلفة ف (ألم) أنا الله أعلم. و (ألمر) أنا الله أرى. . . ونحو ذلك.
7 - أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا، فهي إشارة إلى شعب الإيمان الواردة في الحديث: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (1) » فهذه الحروف هي شعب الإيمان.
8 - أنها أسماء للسور الواقعة فيها.
9 - أنها أسماء للقرآن الكريم.
10 - أن المركب من هذه الحروف هو من أسماء الله! ! ورووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق! ! وهو من الأقوال المنكرة.
11 - أنها أفعال وليست بأسماء، فإن حروف (ألم) هي حرف
__________
(1) رواه مسلم، ج1 ص 63.(50/149)
(ألم) بمعنى نزل. فالمراد: ألم ذلك الكتاب، أي نزل عليكم، ومع ظهور بطلانه فإنه لا يتأتى في بقية الأحرف.
12 - أنها قسم أقسم الله تعالى به كما أقسم بالقلم تنويها بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وكتابه الكريم وغير ذلك.
13 - أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة.
14 - أنها للتنبيه مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك: يا فتى لإيقاظ ذهن السامع.
15 - أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.
16 - أن كل حرف منها في مدة أقوام وآجال آخرين بحساب الجمل.
17 - أنها للدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر، فالمراد بها الدلالة على انتهاء سورة وابتداء أخرى.
هذه بعض أقوال العلماء في المراد بالأحرف المقطعة أهملت منها ما هو بعيد أو متشابه، كما أهملت من الأقوال ما يرى أنها للإعجاز إذ هو ما سنفصله هنا.
وقد أوردت هذه الأقوال من غير مناقشة لها، حتى ما هو(50/150)
ظاهر الضعف منها، فليس المقام هنا مقام دراسة لها أو تصحيح أو تضعيف، وإنما عرضتها لمعرفة موقع القول بأنها للإعجاز من هذه الأقوال.
فإن القول بأن هذه الأحرف المقطعة للتحدي والإعجاز من أقوى الأقوال وأظهرها إن لم يكن أصحها على الإطلاق.
وليس القول بالإعجاز والتحدي فيها قولا واحدا، بل أقوال مختلفة أيضا، منها الصواب، ومنها غير ذلك، بل منها ما أريد به الدلالة على الإعجاز ظاهرا، والإلحاد والضلال باطنا، مما دسه بين هذه الأقوال بعض الملحدين والمنحرفين.
ولعلي أكشف في هذه الدراسة السريعة عن أهم الأقوال التي قيلت في وجه الإعجاز في هذه الأحرف المقطعة وما أراه صوابا منها، وأظهر بعض الأقوال الأخرى، وأكشف زيف الزائف.
وسأحرص على نقل الأقوال والآراء بنصوص أصحابها، وذلك أني رأيت بعض الباحثين ينسب إلى بعض العلماء قولا أو رأيا لم يقل به ولم يذهب إليه، وإنما رواه بصيغة التمريض أو التضعيف بل قد يكون أورده ثم رد عليه وأبطله ومثل هذا لا يصح بحال أن ينسب إليه ما نفاه.(50/151)
وهذا مجمل أقوال العلماء في وجوه الإعجاز والتحدي في الأحرف المقطعة:
القول الأول: أن في هذه الأحرف إشارة إلى أن القرآن(50/151)
الكريم الذي تحداكم الله به إنما هو مؤلف من هذه الأحرف التي بها تقرءون وتكتبون، ولها تعرفون وهي: الألف واللام والميم والطاء والسين. . . إلخ، فدونكم إياها إن استطعتم الإتيان بمثله. . .
القول الثاني: أن التكلم بأسماء هذه الحروف لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنها من غير سبق تعلم كان ذلك إخبارا عن الغيب؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السور معجزة دالة على صدقه (1) .
القول الثالث: أن هذه الأحرف نصف الأحرف الهجائية ونصف كل نوع من صفاتها وغير ذلك، وقد جاءت على هذا النحو قبل وضع هذه المصطلحات ولا يجوز أن يقع هذا إلا ممن يعلم غيب السماوات والأرض، وذلك يجرى مجرى علم الغيب.
القول الرابع: حساب الجمل وما يتركب من هذه الأحرف من رموز وإشارات.
__________
(1) تفسير الرازي، ج2 ص7.(50/152)
وسأعرض هذه الأقوال بشيء من التفصيل:
القول الأول: أنها للتحدي والإعجاز:
وبسط هذا القول وبيانه أن هذا القرآن حين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم معجزة يظهر بها على قومه، لم يكتف بالتحدي ثم ينزوي(50/152)
يرجف فؤاده خشية أن يأتي أحد بمثل ما جاء به، بل برز إليهم مكررا تحديه عدة مرات، ومستثيرا للهمم وموقظا لها، ومسفها لأحلامهم، وساخرا، وناقضا لمعتقداتهم، ومبطلا لمبادئهم وعاداتهم، مما يرفع درجة التحدي إلى أعلاها.
وكرر عليهم التحدي بأساليب مختلفة ودعاهم إلى أن يجتمعوا مع من شاءوا حتى الجن، ويخبر سلفا - لزيادة الإثارة والتحدي - أنهم لن يستطيعوا مع ذلك الإتيان بمثله.
ونجد التحدي في أوائل السور فهو حين يقول: {الم} (1) يقول بعدها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (2) ، أو يقول: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (3) . وحين يقول: {طس} (4) يقول بعدها: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} (5) ، أو يقول: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (6) .
وهكذا في الآيات الأخرى التالية للأحرف المقطعة نجدها تتحدث عن القرآن الكريم، وكأنما في هذا إشارة إلى أن القرآن الكريم الذي تحداكم الله سبحانه وتعالى به إنما هو مؤلف من هذه الأحرف التي تقرءون بها، وبها تكتبون، وهي الألف واللام
__________
(1) سورة البقرة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 2
(3) سورة لقمان الآية 2
(4) سورة النمل الآية 1
(5) سورة النمل الآية 1
(6) سورة القصص الآية 2(50/153)
والميم، والطاء والسين. . . إلخ، وهي حروف تعقلونها وتعرفونها وتبنون كلامكم منها، فليست مادة هذا القرآن المعجز ببعيدة عن متناولكم، وليست بشيء لا تعرفونه، فدونكم إياها إن استطعتم الإتيان بمثله.
ولا شك أن في إلقائك لخصمك بقوسك وسهمك متحديا له أن يفعل مثل ما فعلت إثارة وأي إثارة وتحديا عظيما.
ومما يشهد لهذا الرأي ويقويه أن هذه الأحرف قد استهلت بها السور المكية إلا سورتي البقرة وآل عمران، حتى جعلوا ذلك من ضوابط السور المكية، ومعلوم أن التحدي بالقرآن وجه أصلا للخصوم المعاندين، وهم أهل مكة فصلة هذه الأحرف بالإعجاز والتحدي هنا ظاهرة (1) .
وعلى هذا القول فإن هذه الفواتح أسماء لمسمياتها وهي الحروف المذكورة، بمعنى أن (ألف) اسم لهذا الحرف (ا) ولام اسم لهذا الحرف (ل) وميم اسم لهذا الحرف (م) وهكذا، والمراد بذلك ما ذكرناه وهو التحدي والإعجاز.
وقد ذهب إلى هذا القول أئمة وعلماء كبار منهم ابن تيمية رحمه الله تعالى الذي قال عن هذه الأحرف: (وأما الحروف التي ينطق بها مفردة مثل: ألف لام ميم ونحو ذلك فهذه في الحقيقة أسماء الحروف) (2) .
__________
(1) انظر كتابي خصائص القرآن الكريم، ص 212، 213.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم، ج 12 ص 448.(50/154)
وقال الرازي: (اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة) (1) وذكر القول العاشر في المراد بالأحرف المقطعة: العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين - إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجا على الكفار، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه؛ أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر (2) .
ونقل الأنباري عن الفراء قوله: {طه} (3) بمنزلة ألم ابتدأ الله عز وجل بها مكتفيا بها من جميع حروف المعجم؛ ليدل العرب إلى أنه أنزل القرآن على نبيه باللغة التي يعلمونها، والألفاظ التي يعقلونها كي لا تكون لهم على الله حجة) (4) .
ونقل الزجاج عن قطرب قوله: إن {الم} (5) و {المص} (6) و {المر} (7) و {كهيعص} (8) و {ق} (9) و {يس} (10) و {ن} (11) حروف المعجم ذكرت لتدل على أن
__________
(1) تفسير الرازي، ج2 ص 2.
(2) تفسير الرازي، ج 2 ص 6.
(3) سورة طه الآية 1
(4) الأضداد: د. محمد بن القاسم الأنباري، ص 404، 405.
(5) سورة البقرة الآية 1
(6) سورة الأعراف الآية 1
(7) سورة الرعد الآية 1
(8) سورة مريم الآية 1
(9) سورة ق الآية 1
(10) سورة يس الآية 1
(11) سورة القلم الآية 1(50/155)
هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ، ب، ت، ث، فجاء بعضها مقطعا، وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه) .
ونقل أبو الليث السمرقندي عن بعضهم - ولم يسمه -: (أن المشركين كانوا يقولون: لا نفقه هذا القرآن، لأنهم قالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} (1) فأراد أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم، يعني هو على لغتكم، وما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف: تمام الحروف، كما أن الرجل يقول: علمت ولدي: أ، ب، ت، ث،. . . وإنما يريد به جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة) (2) .
أما الزمخشري فقد أفاض في بيان هذا المعنى للأحرف المقطعة فقال: (إنها كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدي بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات
__________
(1) سورة فصلت الآية 5
(2) تفسير أبي الليث السمرقندي، (بحر العلوم) ج1 ص 251.(50/156)
المتطاولة - وهم (1) أمراء الكلام، وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة، وحسن النظم، المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء - إلا لأنه ليس بكلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر، وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل) (2) .
وقال البيضاوي: إنها (. . . إيقاظا لمن تحدي بالقرآن، وتنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم) (3) ثم وصف هذا القول بأنه: (أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام. . . .) (4) وقال أبو السعود العمادي: (وإليه جنح أهل التحقيق) (5) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى
__________
(1) من قوله (وهم) إلى قوله (أعين البصراء) جملة اعتراضية.
(2) الكشاف: الزمخشري ج1 ص 16.
(3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: البيضاوي، ج1 ص 42.
(4) المرجع السابق، ج1 ص 45.
(5) إرشاد العقل السليم: أبو السعود العمادي، ج1 ص 21.(50/157)
هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية) .
ثم قال: (قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة) ثم ذكر أمثلة قال بعدها: (وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم) (1) .
وقال الراغب الأصفهاني: (وقال: - ألم - ذلك الكتاب، تنبيها أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام) (2) وقال: (إن المفهوم الأظهر بلا واسطة ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة، كالفراء وقطرب وهو قول ابن عباس وكثير من التابعين. . . . وهو: أن هذه الحروف لما كانت هي عنصر الكلام ومادته التي تركب منها بين تعالى أن هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم، تنبيها على إعجازهم وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم - مع تظاهركم - عن معارضته) (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج1 ص 37، 38.
(2) مقدمة جامع التفاسير: الراغب الأصفهاني، ص 105.
(3) مقدمة جامع التفاسير: الراغب الأصفهاني، ص 142.(50/158)
وقال ابن عاشور: (إنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين، وإيقاظا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم، كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة، ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء، وقال في الكشاف: وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة. (وقلت) : وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (1) فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته، ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره، وأن التهجي معروف عندهم للتعليم، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ.
ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع
__________
(1) سورة البقرة الآية 23(50/159)
بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في {كهيعص} (1) و {الم} (2) {أَحَسِبَ النَّاسُ} (3) و {الم} (4) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (5) ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه، ولعله لمراعاة فصاحة الكلام.
ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية، وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة، وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي.
ويؤيده أيضا الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء، والهاء، والراء، والطاء، والحاء، قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتاب طلبا للخفة) (6) .
ولم يكتف ابن عاشور بترجيح هذا القول، بل بنى عليه ترجيح أن جميع الأحرف المقطعة آيات مستقلة وليست بأجزاء من آيات، فقال: (والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم، لأن الدليل مفقود والوجه عندي أنها آيات، لأن لها دلالة تعريضية كنائية، إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال
__________
(1) سورة مريم الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة الروم الآية 1
(5) سورة الروم الآية 2
(6) التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 198، 199.(50/160)
مع ما يعقبها من الكلام، ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح، بل تعتبر دلالة المطابقة في هذه الحروف تقديرية، إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام) (1) .
أما الأستاذ رشيد رضا، فقد أورد رأي أستاذه محمد عبده الذي قال: ألم هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به. . . إلخ) .
ولم يرتض الأستاذ هذا المعنى، وبين ما يراه بقوله: (وأقول الآن - أولا - إن هذه الحروف تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها فنقول: ألف، لام، ميم، ساكنة الأواخر؛ لأنها غير داخلة في تركيب الكلام فتعرب بالحركات.
ثانيا: إن عدم إعرابها يرجح أن حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن، والإشارة إلى إعجازه. . .
ثالثا: اقتصر على جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن بعض المحققين من علماء اللغة وفنونها، كالفراء، وقطرب، والمبرد، والزمخشري، وبعض علماء الحديث، كشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية، والحافظ المزي، وأطال الزمخشري في بيانه وتوجيهه بما يراجع في كشافه، وفي تفسير البيضاوي
__________
(1) التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1، ص 204.(50/161)
وغيره) (1) .
وقال بهذا الرأي وأطال في بيانه الشيخ محمود شلتوت حيث حذر من الخوض في معاني هذه الحروف ودعا الناس إلى الكف عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه ثم قال: (وحسبهم أن يعرفوا أن الإتيان بهذه الفواتح على هذا الأسلوب الذي لم يكن مألوفا في الكلام، ولا معروفا عند العرب، كان قرعا لإسماع أولئك الجاحدين الذين تواصوا فيما بينهم ألا يسمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه لعلهم يغلبون - كان هزا لقلوبهم ودفعا بهم إلى إلقاء السمع، وتدبر ما يلقى، وقد جاء بعد هذه الحروف في الأعم الأغلب نبأ ذلك الشأن العظيم، وهو كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وختم به رسالته إلى خلقه، وبين فيه شريعته وسننه في كونه، وكان لنبيه معجزة خالدة تنطق بأنه رسول الله رب العالمين، اقرأ إن شئت: {الم} (2) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (3) {الم} (4) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (5) {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (6) ، {المص} (7) {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (8) . . . . . . ثم ذكر أغلب السور المفتتحة بأحرف التهجي وما بعدها من الآيات ثم قال: (اقرأ ذلك إن شئت تجد هذه السور كلها تتحدث عن القرآن، وتنزيل
__________
(1) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج1 ص 122.
(2) سورة البقرة الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 2
(4) سورة آل عمران الآية 1
(5) سورة آل عمران الآية 2
(6) سورة آل عمران الآية 3
(7) سورة الأعراف الآية 1
(8) سورة الأعراف الآية 2(50/162)
القرآن أو إنزاله، وهو الكتاب الذي كان موضع الأخذ والرد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. . . . .) (1) .
أما الأستاذ سيد قطب فأبدع - كعادته - رحمه الله تعالى في بيان هذا الوجه وفي استنباط الإشارات إلى دقائق المعاني، فهو أولا يختار هذا الوجه في الأحرف المقطعة فيقول عنها: (وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة، نختار منها وجها، إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. . .) ثم يكشف رحمه الله تعالى عن معنى دقيق وانتقال عجيب من المقارنة بين أجزاء الكلمات وما يتركب منها إلى معنى أعم فيقول: (والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس. . . إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة، أو آنية أو أسطوانة، أو هيكل أو جهاز كائنا في دقته ما يكون. . . ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة، حياة نابضة خافقة، تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز. . . سر الحياة. . ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر ولا يعرف سره بشر. . وهكذا القرآن. . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا. ويجعل منها الله
__________
(1) تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت، ص 61 - 63.(50/163)
قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض. . . هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة) (1) .
__________
(1) في ظلال القرآن: سيد قطب، ج1 ص 38.(50/164)
ويظهر بما ذكرت وغيره أن من أبرز القائلين بهذا الرأي:
المبرد، والفراء، والخليل، وأبو علي الفارسي، وقطرب، والزجاج، وابن تيمية، وأبو الليث السمرقندي، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والراغب، والحافظ المزي، وابن كثير، وابن عاشور، ورشيد رضا، ومحمود شلتوت، وسيد قطب، وغيرهم كثير.
وقد حرصت على أن أسوق عبارات القائلين بهذا الرأي لأمور، منها: بيان كثرتهم، ومدى قبولهم لهذا الرأي وحرصهم على تقريره وبسطه، وبذكر نص العبارة توثيقا لصحة نسبة الرأي إلى قائله.(50/164)
من أدلة أصحاب هذا الرأي:
وللقائلين بهذا الرأي أدلة تسند رأيهم وتقويه، منها:
1 - ما ذكره أكثر من أوردنا قوله وهو أنه قد تلا ذكر هذه الأحرف الحديث عن القرآن الكريم وبيان عظمته ومكانته كما قال ابن كثير: (قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه(50/164)
وعظمته. . . (1) إلخ.
وقول ابن عاشور: (ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته. . . (2) وقول محمود شلتوت: (وقد جاء بعد هذه الحروف في الأعم الأغلب نبأ ذلك الشأن العظيم وهو كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. . . .) (3) إلخ.
2 - وفي ورود هذه الأحرف المقطعة في أوائل السور المكية إلا في سورتي البقرة وآل عمران ما يشير إلى التحدي قال ابن عاشور: (ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية، وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة، وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي) (4) .
3 - كما استدل رشيد رضا بـ (أن عدم إعرابها يرجح أن حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن والإشارة إلى إعجازه) (5) .
وقد تثار على هذا القول بعض الأسئلة، كأن يقال إذا كانت هذه الأحرف المقطعة إنما ذكرت للإشارة إلى أن القرآن المعجز
__________
(1) تفسير ابن كثير: ج1 ص 38.
(2) التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 199.
(3) تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت، ص 61، 63.
(4) التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 199.
(5) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج1 ص 122.(50/165)
مركب من هذه الأحرف التي تعرفون فأتوا إن استطعتم بمثله من هذه الأحرف، إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يذكر هذه الأحرف مجتمعة في موضع واحد بل فرقها على تسع وعشرين سورة، وقد أثار هذا السؤال الزمخشري - أحد القائلين بهذا الرأي - ثم أجاب عليه، فقال: " (فإن قلت) فهلا عددت بأجمعها في أول القرآن، وما لها جاءت مفرقة على السور؟ (قلت) لأن إعادة التنبيه على أن المتحدى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض، وأقر له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب منه تمكين المكرر في النفوس وتقريره " (1) .
ثم أثار سؤالا آخر وأجاب عليه، فقال: " (فإن قلت) فهلا جاءت على وتيرة واحدة، ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت (ص) ، و (ق) ، و (ن) ، على حرف، و (طه) ، و (طس) ، و (يس) ، و (حم) ، على حرفين، و (ألم) ، و (الر) ، و (طسم) ، على ثلاثة أحرف، و (ألمص) ، و (ألمر) ، على أربعة أحرف و {كهيعص} (2) و {حم} (3) {عسق} (4) على خمسة أحرف؟ (قلت) هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوعة، وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك " (5) .
__________
(1) الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 18.
(2) سورة مريم الآية 1
(3) سورة الشورى الآية 1
(4) سورة الشورى الآية 2
(5) الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 18.(50/166)
ثم أثار سؤالا ثالثا عن وجه اختصاص كل سورة بالأحرف التي افتتحت بها فأجاب: (إذا كان الغرض هو التنبيه، والمبادئ كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة، كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيدا والآخر عمرا، لم يقل له لم خصصت "، ولدك هذا بزيد، وذاك بعمرو لأن الغرض هو التمييز. . . .) (1) .
__________
(1) الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 18.(50/167)
شبه المنكرين لهذا الرأي والجواب عليها:
ومع كثرة القائلين بهذا الرأي فإن بعض المفسرين قد رده وأنكره، ويظهر أن إنكارهم ليس لذات الرأي خاصة وإنما لتوقفهم المطلق عن القول في أي معنى، أو استنباط أي إشارة لهذه الأحرف المقطعة.
ومن أشهر المعارضين لهذا الرأي الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى وغيره، وسنذكر بعض ما أورده على هذا القول، وقد ينطبق بعضها على غيره من الأقوال في الأحرف المقطعة:
أولا: أنه لا يلزم من ذكر القرآن ووصفه بعد هذه الفواتح أن يكون المراد من الفواتح ما ذكروه من الإشارة إلى التحدي والإعجاز، إذ لا مانع من أن يكون المراد منها كونها أسماء للقرآن أو لسورة أو لله تعالى الذي أنزله أو غير ذلك، ولا يخفى مناسبة الحديث عن القرآن بعده لمثل ذلك أيضا، فلا يتعين ما(50/167)
ذكروه والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال (1) ويمكن أن يجاب على هذا الإشكال من وجهين:
الأول: أن القائلين بأنها إشارة للتحدي والإعجاز لم يجزم أحدهم بذلك ولم يقل أحد منهم إن المراد بها كذا وإنما قالوها وهم يعلمون أن ما قالوه ليس بتفسير لها وسيأتي مزيد بيان لذلك.
الثاني: أن قوله: (لا مانع أن يكون المراد منها كونها أسماء للقرآن. . .) غير صحيح. فلو كان المراد بها اسما من أسماء القرآن لكان المناسب أن لا يذكر اسم القرآن بعدها وإنما يذكر وصفه لأن في ذلك تكرارا للاسم فلو كانت (ألم) مثلا اسما للقرآن لكان المعنى القرآن ذلك الكتاب وفي هذا تكرار للمسمى والقول أنها أسماء للقرآن يقتضي أن تكون الآية هكذا (ألم ذلك لا ريب فيه) وكذا قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (2) يقتضي أن تكون (ق المجيد) ؟ ! ولما لم يصح هذا بطل ذاك، وأبعد من ذلك أن تكون اسما لله تعالى فكيف ستفهم الآية {الم} (3) {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (4) إذا قيل: إن (ألم) اسم لله تعالى حيث ستكون العبارة الله ذلك الكتاب؟ ! ! وهي عبارة ليس لها معنى صحيح.
ثانيا: أنه إذا كان المراد بالأحرف الرمز إلى التحدي بالقرآن المركب من الأحرف التي يعرفونها فإنه من المتيسر أن يقال لهم صراحة: (هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها، ليس - هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل
__________
(1) مختصر البيان في فواتح القرآن: د. حسن يونس عبيدو، ص 19.
(2) سورة ق الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 2(50/168)
سامع منهم دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح) (1) .
ويمكن أن يجاب على هذا الإشكال بما نقلناه عن الزمخشري في بيان الحكمة في تنويع الأحرف واختلاف أعدادها، فيقال هنا: إن عدم التصريح على سبيل التفنن في أساليب الكلام وتصرفهم فيه على سبل شتى ومذاهب متنوعة (2) . ويمكن أن يقال: إن التصريح قد ورد في آيات التحدي بالقرآن وبعشر سور وبسورة وبحديث مثله فاكتفى بالتصريح بالتحدي فيها، وجاء التحدي في أوائل السور على سبيل الرمز.
ثالثا: وهو ما أورده إسماعيل حقي من إشكال على هذا الرأي فقال بعد أن ذكره: (هذا ما جنح إليه أهل التحقيق، ولكن فيه نظر لأنه يفهم من هذا القول أن لا يكون لتلك الحروف معان وأسرار) (3) ولعل الجواب على هذا الإشكال يفهم من الأجوبة السابقة إذ إن القائلين بهذا لم يثبتوا لها معنى ولم ينفوه.
رابعا: أن القول بأن هذه الأحرف رمز للتحدي والإعجاز لا دليل عليه (وهو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين. . . ولا
__________
(1) فتح القدير: الشوكاني، ج1، ص 30.
(2) الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 18.
(3) روح البيان: إسماعيل حقي ج1 ص 28، وانظر مختصر البيان: حسن عبيدو ص 19.(50/169)
ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله) (1) .
قلت: ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأن الرمز والإشارة لا يلزم منه فهم الناس له، فقد لا يفهمه إلا القليل ولا يدركه إلا النادر من الرجال، فقد فهم أبو بكر رضي الله عنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفهمه غيره، حين قال عليه الصلاة والسلام: «إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فقال أبو بكر: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا قال: فعجبنا (2) » . وفهم ابن عباس وغيره إشارات في بعض الآيات لم يفهمها غيره، فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن يكون في هذه الفواتح من الرموز ما لا يفهمه إلا القليل.
ولا يلزم من فهم أحد لمعنى من المعاني أن ينقل ذلك عنه تلكم الأحرف السبعة بلغت أحاديثها حد التواتر ولا يعرف أحدنا الآن معناها يقينا فهل يصح لأحدنا أن يقول: إن الأحرف السبعة لا معنى لها لأن أهل العلم لم يعرفوا معناها.
__________
(1) فتح القدير: الشوكاني، ج1، ص 30.
(2) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، ج 5 ص 609.(50/170)
القول بأنها للتحدي والإعجاز لا يعتبر تفسيرا:
وذلك أن القائلين بأن الأحرف المقطعة للتحدي والإعجاز قالوا: إنها مجرد رمز لذلك، ولا يعني هذا الخوض في معناها أو القول بتفسيرها، أو أن هذا هو المراد بها، بل يقولون: إن(50/170)
الأحرف أسماء لمسمياتها الحروف المبسوطة من غير تعرض لمعناها بتفسير، بل صرح بعضهم بالتفويض.
وهذا ابن كثير رحمه الله تعالى ينقل عن بعضهم كلاما جامعا في معنى هذه الأحرف وفي الحكمة من إيرادها ويصرح بالفرق بين المعنى والحكمة فقال: (ومن هنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاما فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى، ومن قال من الجهلة: إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأ كبيرا، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1) ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين، هذا مقام. المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها؟) (2) ثم عد الأقوال في الحكمة ومن ضمنها القول بأنها للتحدي والإعجاز.
وابن عاشور اعتبر هذا القول معنى كنائيا لا معنى صريحا حيث قال: (لأن لها دلالة تعريضية كنائية، إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقبها من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) تفسير ابن كثير: ج1 ص 37.(50/171)
الكلام، ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح. . . إلخ) (1) .
وصرح السيد رشيد رضا بأن هذا القول مجرد إشارة إلى الحكمة فقال: (اقتصر على جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن بعض المحققين من علماء اللغة وفنونها. . . إلخ) (2) .
وقال أيضا: (. . . إن عدم إعرابها - يقصد الأحرف المقطعة - يرجح أن حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن، والإشارة إلى إعجازه) (3) .
ومن القائلين بهذا الرأي الشيخ محمود شلتوت مع تفويضه العلم بمعناها وتحذيره من الخوض فيما لا سبيل إلى علمه حيث يقول: (ولعل من الخير للناس بعد الذي قررناه في هذا المقام أن يوفروا على أنفسهم عناء البحث في معاني هذه الحروف، وأسرار ترتيبها، واختيارها على هذا النحو، وأن يكفوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه، ولم يكلفهم الله به، ولم يربط شيئا من أحكامه أو تكاليفه، وحسبهم أن يعرفوا أن الإتيان بهذه الفواتح. . . .) (4) ثم ذكر القول إنها للتحدي والإعجاز.
__________
(1) التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 204.
(2) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج1 ص 122.
(3) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج1 ص 122.
(4) تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت، ص 61 - وقد سبق نقل بقية النص عنه بما يغني عن إيراده هنا.(50/172)
وأشار إلى هذا المعنى أحد الباحثين فقال: (ولعل مراد المفسرين القائلين بالأقوال الأخرى كونها حكما أو فوائد، تستفاد من الفواتح دون القصد إلى كون هذه الأقوال هي المعنى المراد من الفواتح) وقال: (ولا مانع من وجود حكم أو فوائد تعرف من هذه الفواتح كأن يتحقق بها الإعجاز للمخاطبين. . .) (1) .
وبعد هذا العرض المفصل الذي أظهر قوة هذا الرأي وكثرة القائلين به من علماء اللغة والتفسير القدماء والمعاصرين ووجوه استدلالهم وحججهم على ما ذهبوا إليه والرد على ما يرد عليه من مآخذ وشبه مما جعله فيما أرى أقوى الآراء وأظهرها وأصحها.
وسأذكر بعد هذه بقية الآراء في وجه الإعجاز في الأحرف المقطعة من غير إطالة؛ إما لقلة القائلين بها أو لضعفها أو لبعدها عن الصواب.
__________
(1) مختصر البيان في فواتح سور القرآن، د. حسن عبيدو، ص 59.(50/173)
القول الثاني: أن ورود هذه الأحرف بهذه الصفة من رجل أمي أمر معجز. وبيان ذلك وتفصيله ذكره الزمخشري فقال: (أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب وتقدمه من دلائل الإعجاز؛ وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام - الأميون منهم وأهل الكتاب - بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصا بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغربا مستبعدا من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة كما قال عز وجل: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48(50/173)
فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد) (1) .
وذكر هذا القول الرازي في تفسيره فقال: (إن التكلم بهذه الحروف وإن كان معتادا لكل أحد، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخبارا عن الغيب فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه) (2) .
ووصف البيضاوي هذا الوجه بأنه خارق للعادة واستدل له (3) . كما ذكره الزركشي في البرهان، واستدل له بآية العنكبوت السابقة (4) كما أورده ابن عاشور إلا أنه وصفه بأنه: (بين البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف) (5) .
(قلت) والذي يظهر لي صواب ما ذهب إليه ابن عاشور رحمه الله تعالى في أن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف
__________
(1) الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 16، 17.
(2) تفسير الرازي، ج 2 ص 7.
(3) أنوار التنزيل: البيضاوي، ج1 ص 42.
(4) البرهان في علوم القرآن: الزركشي، ج1 ص 176.
(5) التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 201.(50/174)
وبأساميها، وكم سمعنا من أمي ينطق الحروف بأسمائها وهو لا يعرف صورتها ولا قراءتها ولا كتابتها ولا يخرجه مجرد النطق بها عن الأمية ولا يكون بمجرد نطقها متعلما ولم يقل أحد من العلماء: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف (1) » لم يقل أحد من العلماء: إن هذا الحديث معجز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أمي نطق بالألف واللام والميم، وفيما ثبت من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الظاهرة البينة الكثيرة غنى عن مثل هذه التكلفات، والله المستعان.
__________
(1) رواه الترمذي، ج5 ص 175، والدارمي، ج 2 ص 521 بلفظ آخر، وقال الترمذي: '' هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ''.(50/175)
القول الثالث: أن فيها إعجازا لغويا؛ وذلك أن الأحرف المقطعة في أوائل السور نصف حروف الهجاء، وهي أيضا نصفها على أي وجه من الوجوه التي اصطلح عليها علماء اللغة بعد نزول القرآن بزمن طويل (1) .
ومن العجيب إجماع المفسرين وكل من كتب في هذا الموضوع على نسبة التنبيه لهذا المعنى إلى الزمخشري (ت 538 هـ) ، مع أن أول من قال بذلك فيما نعلم الباقلاني (2) (ت 403 هـ) وقد سبقني إلى التنبيه لهذه المعلومة أحد الباحثين المعاصرين ونسيت الآن اسمه وأين قرأت ذلك فإن عثرت عليه فسأذكره في هذا الموضع إن شاء الله، إلا أن عرض الزمخشري أوفى، فقد قال:
__________
(1) انظر الإعجاز البياني للقرآن: د. عائشة عبد الرحمن، ص 141.
(2) انظر إعجاز القرآن: الباقلاني، ص 68 وما بعدها.(50/175)
(واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها (1) ومن المجهورة نصفها. . ومن الشديدة نصفها. . ومن الرخوة نصفها. . ومن المطبقة نصفها. . ومن المنفتحة نصفها ومن المستعلية نصفها. . ومن المنخفضة نصفها. . ومن حروف القلقلة نصفها. . ثم إذا استقرأت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته) (2) . وقد بين الباقلاني وجه الإعجاز في هذا التقسيم فقال:
(وإذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر على حد التنصيف الذي وصفنا دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه بعد العهد الطويل لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب) . إلى أن قال (. . . وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه) (3) .
__________
(1) حذفت تعداد الحروف اكتفاء بالجدول التالي.
(2) الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 17.
(3) إعجاز القرآن: الباقلاني، ص 69، 70.(50/176)
جدول بتقسيم الحروف على صفاتها، والمذكور منها في فواتح السور، وما لم يذكر على ما أورده الباقلاني والزمخشري، ويليه زيادة الزركشي
صفة الحرف ... عدد حروفها ... المذكور منها في الأحرف المقطعة ... ما لم يذكر منها
المهموسة ... 10 ... ص، ك، هـ، س، ح ... خ، ش، ث، ف، ت
المجهورة ... 18 ... أ، ل، م، ر، ع، ط، ق، ي، ن، (لن يقطع أمر) ...
الشديدة ... 8 ... أ، ك، ط، ق (أقطك) ... ج، ظ، ذ، ب
الرخوة ... 20 ... ل، م، ر، ص، هـ، ع، س، ح، ي، ن، (حمس على نصره) ...
المطبقة ... 4 ... ص، ط ... ظ، ض
المنفتحة ... 24 ... أ، ل، م، ر، ك، هـ، ع، س، ح، ق، ي، ن ...
المستعلية ... 6 ... ق، ص، ط ...
المنخفضة ... 22 ... أ، ل، م، ر، ك، هـ، ي، ع، س، ح، ن ...
القلقلة ... ق، ط
الصفير ... 3 ... س، ص ... ز
اللين ... 3 ... أ، ي ...
والمكرر ... 1 ... ر ...
الهاوي ... 1 ... أ ...
المنحرف ... 1 ... ل ...
الحلق ... 6 ... ع، ح، هـ ... ء، خ، غ(50/177)
وقال بهذا أيضا البيضاوي وفصله وزاد عليه أقساما أخرى من غير إشارة للزمخشري أو الباقلاني (1) ، كما نقل ابن كثير قول الزمخشري مجملا (2) ، أما الألوسي فقد وصف هذا المعنى بأنه من عجائب هذه الفواتح (3) ، كما ذكره الزركشي الذي تعقب الزمخشري وأضاف إلى تقسيماته ما ذكرته في الجدول المرفق، كما نقل ابن عاشور عبارة الزمخشري، وأشار إلى زيادة البيضاوي ثم عقب بذكر محصول كلامهما.
وقد عارض هذا الرأي بعض المفسرين وأولهم أبو حيان الذي قال: (وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان) (4) .
وأشهر المعارضين لهذا الرأي الإمام الشوكاني مع وصفه له بأنه (من أدق ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف) (5) ونقله لقول الزمخشري كاملا بنصه إلا أنه عقب عليه بقوله: (وأقول هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها. . .) ، ثم قال: (. . . ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على
__________
(1) أنوار التنزيل: البيضاوي، ج1 ص 42، 43.
(2) تفسير ابن كثير، ج1 ص 37.
(3) روح المعاني: الألوسي، ج1 ص 151.
(4) البحر المحيط: أبو حيان، ج1 ص 35.
(5) فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص 29.(50/178)
أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي، ولا مقر ولا منكر ولا مسلم ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الرب سبحانه، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به) ثم قال: (وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة، حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر) (1) .
ومن المعاصرين، عارض هذا الرأي محمد أبو فراخ، ليس من ناحية الفكرة، وإنما لعدم انضباطها، فهو يقول: (وذكر الزمخشري حروف الصفات السابقة، وإننا لا نؤيده في هذه الطريق، حيث إنها غير منضبطة في جميع الصفات فكيف نقسم حروف القلقلة الخمسة إلى نصفين، والمجهورة تسعة عشر حرفا والمستعلية سبعة. . إلخ تلك الصفات التي لا تنصيف فيها) (2) ثم نقل رد الشوكاني.
أما الدكتور عبد المقصود جعفر فقد بنى كتابه الفواتح الهجائية وإعجاز القرآن على هذا الرأي وأشار إلى ذلك في مقدمته فقال عن الزمخشري: (. . . وهو صاحب الرأي الذي اخترته في
__________
(1) فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص 30.
(2) حروف المعجم في فواتح السور: د. محمد أحمد أبو فراخ، ص 233.(50/179)
هذا البحث، وتوسعت فيه على ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، برغم أني - كما سوف نرى - قد اختلفت معه في بعض الأسس المنهجية التي انطلق منها في تطبيقه العملي لهذا الرأي) (1) وقال أيضا عن كلام للزمخشري: (وهذا الكلام - في الواقع - أحد الأسس الهامة التي يقوم عليها بحثنا هذا وسوف نرى في الباب القادم أن الدراسات اللغوية الحديثة تصدق كلام الزمخشري تمام التصديق) (2) .
ومع هذا فهو ينقل كلام الزمخشري ثم يقول بعده: (ومع أن هذا الغرض الذي يرمي إليه صحيح في أصله، إلا أننا نختلف معه حول بعض التفاصيل في كلامه السابق برغم أن بعض المفسرين والدارسين المحدثين تلقوا كلامه هذا بالتسليم التام) (3) .
وفي موضع آخر كشف وجه الإعجاز في الأحرف المقطعة فقال: (ثم إن انتقاء هذه الحروف على الصورة التي ذكرناها - وانتقاء تراكيبها أيضا كما سنعرف في الفصل القادم - لا يقصد به الغرض السابق فقط وإنما يقصد به أيضا التلاؤم مع المستوى الرفيع للبيان القرآني، فلا يتردد على لسان قارئه أو سامعه - أثناء تلاوة الفواتح الهجائية - ما يشق عليه من أصوات اللغة أو ما لا
__________
(1) الفواتح الهجائية: د. السيد عبد المقصود جعفر، ص 9.
(2) الفواتح الهجائية: د. السيد عبد المقصود جعفر، ص 53.
(3) الفواتح الهجائية: د. السيد عبد المقصود جعفر، ص 52.(50/180)
يألفه منها، بل يتردد على لسانه وسمعه أحب هذه الأصوات إليه نطقا وسمعا واستعمالا.
وإذا كان يمكن القول بأن العربي الأول يتجه في لغته نحو هذه الأصوات الأخيرة اتجاها فطريا تلقائيا، فإنه لا يمكن القول إطلاقا بأنه حاول في إحدى المرات أن يستقرئ حروف هذه اللغة حرفا حرفا؛ ليعرف أيها أسهل مخرجا أو أقوى سمعا أو أكثر انتشارا. . . ولا كانت الوسائل العلمية على عهده تعينه أصلا على شيء من ذلك. فإذا تحقق ذلك فعلا على يد أحدهم فإنه لا يمكن أن يكون مصادفة عشوائية ولا يمكن أن يكون غير معجزة حقيقية) (1) .
ومع اعتماده لهذا الرأي وأخذه به فقد نقده نقدا دقيقا، فوصف تقسيم الزمخشري هذه الأحرف إلى مجهورة ومهموسة. . . إلخ بأنه - يعني الزمخشري - بذل فيه جهده ولم يعارضه فيه أحد من القدماء. . . بل سلم به أيضا فريق من المحدثين خلال تعرضهم في بعض أبحاثهم لمسألة الحروف المقطعة وهذا - في الواقع - مسلك غير دقيق (2) .
ثم ذكر بعض التعليقات وهي التي تهمنا في بيان المآخذ والردود على هذا الرأي فمنها:
أولا: أن اختيار القرآن لحروف الفواتح الهجائية - وإن دل على إعجازه حين ينظر إليه في ضوء الدراسات اللغوية - إلا أنه لم يبن أصلا على أساس أن يكون في جملته وتفصيله نسخة من
__________
(1) الفواتح الهجائية: د. السيد عبد المقصود جعفر، ص 115، 116.
(2) الفواتح الهجائية: د. السيد عبد المقصود جعفر، ص 116، 117.(50/181)
التقسيمات والتصنيفات المتبعة في هذه الدراسات.
ثانيا: أن القرآن كتاب له طبيعته الخاصة، وله أهدافه المحددة، وله وسائله البيانية أيضا في تحقيق هذه الأهداف، ويدخل في هذه الوسائل بلا شك الفواتح الهجائية. . . وليست الفواتح منزلة. . . كي تكون تابعا لمسألة أقسام الحروف وأنواعها، أو لتصب صبا في قوالبها، وإنما هي تابعة أصلا لأهداف الكتاب الذي أنزلت فيه ولوسائله البيانية الخاصة. . .
ثالثا: ليس هناك اتفاق أصلا بين اللغويين والباحثين على نتائج هذه الدراسات اللغوية. . . خصوصا بين القدماء والمحدثين، بل بين المحدثين أنفسهم أحيانا، ففي صفات الحروف مثلا نجد أن الطاء والقاف من الأصوات المجهورة عند القدماء. . . وهما من الأصوات المهموسة عند المحدثين، وكذلك الضاد الرخوة قديما. . . وهي من الأصوات الشديدة حديثا، ويعلل البعض ذلك بأنه قد يرجع إلى اختلاف النطق بيننا وبينهم في هذه الأصوات. . . فبأي معيار نأخذ لو أردنا - ولو تكلفا - أن نضبط حروف الفواتح على أساس أن فيها النصف من كل نوع من أنواع الحروف؟
رابعا: أن هذا الضبط الذي ذكرناه أمر مستحيل أصلا - على أي معيار - في أغلب التصنيفات الخاصة بصفات الحروف؛ لأن هذه التصنيفات متعددة متنوعة فمنها ما هو زوجي العدد، ومنها ما هو فردي، ومنها ما هو حرف واحد، ومنها ما هو متميز، ومنها ما هو مندرج في غيره. . . فكيف يمكن الإتيان بالنصف.(50/182)
هذه بعض المآخذ على هذا القول في وجه الإعجاز في الأحرف المقطعة، ونرى أنها مع ما نقلناه من ردود أخرى كافية لرده، والله أعلم.(50/183)
القول الرابع: أن وجه الإعجاز في أعداد الحروف (حساب الجمل) .
وبيان ذلك عند أصحاب هذا القول أن مجموع أعداد الحروف المقطعة في كل سورة ترمز إلى تاريخ وقوع حادثة غيبية كواقعة من الوقائع أو مدة هذه الأمة أو مدد أقوام أو آجالهم.
وهي طريقة حسابية أدخلها اليهود وتلقوها عن سحرة بابل ويستخدمها السحرة والمنجمون والكهان في طلاسمهم ورموزهم، كما استعملها عدد من الأدباء في تاريخ بعض الأحداث والوقائع نظما أو نثرا.
أما في التفسير فإن هذا القول ينسب إلى أبي العالية (1) وإلى
__________
(1) المحرر الوجيز: ابن عطية، ج1 ص 39، وتفسير الرازي، ج 2 ص 6، والبيضاوي، ج1 ص 44.(50/183)
الربيع بن أنس الذي روى عنه الطبري قوله: (وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم. . .) (1) ، ولعل محمد بن السائب الكلبي هو المراد بقول الطبري: (وقال بعضهم هي حروف من حساب الجمل - كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه - إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله) (2) ، وليست هذه العبارة من الطبري بذم لهذا القول؛ إذ هو ممن يقول به. . . فقد قال: (والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع. . . إلخ) (3) ، وقال في موضع آخر: (. . . وهن من حروف حساب الجمل) (4) ، يعنى الأحرف المقطعة، وقال السهيلي: (لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة) (5) .
واستدل القائلون بهذا الرأي بدليل عقلي ودليل نقلي:
أما الدليل العقلي فقالوا: لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل، وسوى تهجي قول القائل: ألم، قالوا: وغير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمون ويعقلون عنه، فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله: ألم لا
__________
(1) تفسير الطبري: ج1 ص 208.
(2) تفسير الطبري، ج1 ص 220.
(3) تفسير الطبري، ج1 ص 222.
(4) تفسير الطبري، ج1 ص 220.
(5) الإتقان: السيوطي، ج 2 ص 14، وانظر الروض الأنف: السهيلي، ج4 ص419، 420.(50/184)
يعقل لها وجه توجه إليه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مرادا بها تهجي ألم صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني وهو حساب الجمل، لأن قول القائل: ألم لا يجوز أن يليه من الكلام {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (1) لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول، إن ولي ألم (2) ذلك الكتاب.
وأما النقلي: فبما رواه محمد بن إسحاق في السيرة قال: (وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود الذي كانوا يسألونه ويتعنتونه ليلبسوا الحق بالباطل - فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله بن رئاب - أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة البقرة: {الم} (3) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (4) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود فقال: (تعلموا والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه {الم} (5) {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (6) فقالوا: أنت سمعته؟ فقال: نعم. فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك: {الم} (7) {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، قالوا: أجاءك بها جبريل من عند الله؟ فقال: نعم، قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أكل (9) أمته غيرك،
__________
(1) سورة البقرة الآية 2
(2) جامع البيان: الطبري، ج1 ص 216.
(3) سورة البقرة الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 1
(6) سورة البقرة الآية 2
(7) سورة البقرة الآية 1
(8) سورة البقرة الآية 2
(9) الأكل، بالضم الرزق والطعام ويريد بأكل أمته طول مدتهم.(50/185)
وقال حيي بن أخطب وأقبل على من معه فقال لهم: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة! ! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: ألمص قال: هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد ستون فهذه إحدى وستون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم: الر قال: هذه والله أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتان، وهل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم: ألمر قال هذه والله أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (1) ، (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سيرة ابن هشام، ج 2 ص 194 - 195.(50/186)
قال السهيلي: (وهذا القول من أحبار اليهود وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل حتى الآن أن يكون من بعض ما دلت عليه هذه الحروف المقطعة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذبهم فيما قالوا من ذلك ولا صدقهم) (1) .
وقد رد المنكرون لهذا القول على أدلتهم، فقالوا عن الدليل العقلي: إن قصر المراد من الفواتح على وجهين (التهجي، وحساب الجمل) غير مسلم، فالأقوال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض، وإذا سلمنا جدلا بقصر المراد على هذين الوجهين فأنى لهم إبطال الأول منهما وقد قال به جمهرة من المفسرين، ثم أنى لهم تعين الثاني وليس له مستند من النقل ولا من العقل (2) .
أما الدليل النقلي فقد رده المنكرون من ناحية السند ومن ناحية المتن.
أما السند: فقد قال ابن كثير: فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به (3) ، وقال الشوكاني سنده ضعيف (4) ، وقال الأستاذ أحمد شاكر: (فهذا إسناد ضعيف جهله ابن إسحاق فجاء به معلقا بصيغة التمريض. . .) (5) والعجيب أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى
__________
(1) الروض الأنف: السهيلي، ج4 ص 418، 419.
(2) مختصر البيان: د. حسن عبيدو، ص 44.
(3) تفسير ابن كثير، ج1 ص 38.
(4) فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص 31.
(5) تفسير الطبري: ج1 ص 218 الهامش.(50/187)
قد استدل بهذا الحديث مع وصفه لمحمد بن السائب الكلبي بأنه ممن لا يجوز الاحتجاج بنقله (1) قال الأستاذ شاكر: (فكان عجبا منه - يعني الطبري - بعد هذا أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة ويرضى هذا التأويل المستنكر بحساب الجمل) (2) .
أما المتن: فقد قال البيضاوي: (والحديث لا دليل فيه لجواز أنه عليه السلام تبسم تعجبا من جهلهم) (3) وقال ابن كثير عن هذا الحديث: (. . . وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. . . وقال: (. . . ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم) (4) وقال الشوكاني: (فانظر ما بلغت إليه أفهامهم - يعني اليهود - من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع {الم} (5) {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (6) من ذلك العدد موجبا للتثبيط عن الإجابة له والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل
__________
(1) تفسير الطبري، ج1 ص 66.
(2) تفسير الطبري، ج1 ص 220 الهامش.
(3) أنوار التنزيل: البيضاوي، ج1 ص 44.
(4) تفسير ابن كثير، ج1 ص 38.
(5) سورة البقرة الآية 1
(6) سورة البقرة الآية 2(50/188)
ومدلول يفهم لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادئ ذي بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم) (1) .
وقال ابن عاشور: (وليس في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع. والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم) (2) .
ولم يكتف المنكرون برد الأدلة ونقضها فحسب، بل أنكروا هذا المذهب في تفسير الأحرف المقطعة أصلا واستدلوا بما رواه عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن قوما يحسبون أبا جاد وينظرون في النجوم ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق) وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له،
__________
(1) فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص31.
(2) التحرير والتنوير: ابن عاشور ج1 ص 194، 195.(50/189)
وطار في غير مطاره) (1) .
ونقل السيوطي عن ابن حجر قوله في حساب الجمل: (وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة) (2) وقد ألف الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى رسالة في أعداد الحروف رد فيها هذا القول وأبطل الاحتجاج بالحديث - على فرض صحته - من عدة وجوه.
ومن المعاصرين الذين أنكروا هذا المذهب في الأحرف المقطعة الأستاذ رشيد رضا الذي قال: (إن أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجمل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك) (3) ولعلك بعد هذا تقول وما وجه الإعجاز في حساب الجمل عند القائلين به؟ والجواب أن وجه الإعجاز أن فيها كشفا لأمور غيبية.
فمن ذلك ما قاله الخويبي: وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: {الم} (4) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (5) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ووقع كما قاله (6) .
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج1 ص 38.
(2) الإتقان: السيوطي ج2 ص14.
(3) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج1 ص 122.
(4) سورة الروم الآية 1
(5) سورة الروم الآية 2
(6) الإتقان: السيوطي، ج2 ص14، وانظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: الزملكاني، ص60.(50/190)
ومنها ما روي أن عليا رضي الله عنه كان يعلم ذلك واستخرج وقعة معاوية منه {حم} (1) {عسق} (2) .
ومن الخرافات التي بنيت على مذهبهم تحديد يوم القيامة عند بعض الدارسين المحدثين بأنه سيكون في عام 1710 هـ اعتمادا على حساب الجمل (3) .
وغير ذلك، فإذا ثبت بطلان هذا القول من أصله فإن ما يبنى عليه لا أساس له ولا يصح تفسير القرآن الكريم بمثل هذه التكهنات والأوهام والخرافات، سيما وقد علمنا أن السحرة والكهان هم الذين يستخدمون مثل هذه الأحرف والأرقام والرموز والطلاسم في تنبؤاتهم التي نهينا عن تصديقها، وكذب المنجمون ولو صدقوا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة الشورى الآية 1
(2) سورة الشورى الآية 2
(3) حروف المعجم: د. محمد أبو فراخ، ص52 ونسب هذا القول إلى د. رشاد خليفة.(50/191)
أنواع الطواف وأحكامه
د. عبد الله بن إبراهيم الزاحم (1) .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:
فإن فريضة الحج من أهم العبادات فهي ركن من أركان الإسلام، وإن كانت سائر الأركان وبقية أعمال الإسلام لا ترتبط بمكان، حيث يؤدي المسلمون صلواتهم، وصيامهم، وزكاة أموالهم في كل مكان، فإن الحج يرتبط بمكان معين. بل ولا بد أن يكون في زمان معين أيضا، وإذا عرفنا كثرة المسلمين ونظرنا إلى سعة انتشار المسلمين شرقا وغربا زاد يقيننا بحكمة خالقنا وعلمه ورحمته بعباده إذ لم يفرض عليهم حج بيته العتيق في كل عام وإنما أوجبه عليهم مرة واحدة في العمر وجعل ذلك مقيدا بالقدرة والاستطاعة إلى وصول بيته العتيق كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) .
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(2) سورة آل عمران الآية 97(50/193)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (1) » .
فلما كان الحج من الأهمية بتلك المكانة، ومن الصعوبة والمشقة ما يعجز عن تكراره كثير من المسلمين أحببت أن أقف على شئ من أفعاله بدراسة هادئة متأنية، أنظر في أقوال أصحاب المذاهب المختلفة وما استدل به كل فريق، وأوازن بين ذلك، جاعلا نصب عيني الميل مع الدليل، دون تعصب لمذهب، أو انتصار لقائل. ورأيت أن أهم أعمال الحج والعمرة الطواف ببيت الله العتيق، فهو الركن الوحيد المجمع عليه فيهما، فآثرت البدأ به. ثم اطلعت على بحث كتبه الدكتور شرف بن علي الشريف الأستاذ المساعد بجامعة أم القرى بعنوان: من أحكام الطواف، السنن (2) .
فازداد إقبالي على الكتابة في الموضوع، وإن كتابة
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر 9 \ 100
(2) نشرته مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد الحادي والعشرين السنة السادسة 1414 هـ.(50/194)
الدكتور: شرف تجعل من المناسب تقسيم الكتابة في موضوع الطواف إلى ثلاثة أقسام - فصول -.
القسم الأول: في أنواع الطواف وأحكامه.
القسم الثاني: شروط الطواف وواجباته.
القسم الثالث: سنن الطواف وآدابه.
فالدكتور شرف تناول القسم الثالث. وسأتناول في هذه الدراسة القسم الأول. ويبقى القسم الثاني مجالا للكتابة من أحدنا، أو من غيرنا من الزملاء، وإني بعون الله عازم على الكتابة فيه لأهميته وما فيه من مسائل تستدعي الوقوف والنظر. وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة.
المقدمة: وقد ضمنتها الافتتاحية وبيان أهمية الموضوع وخطته. التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في تعريف الطواف.
المطلب الثاني: في دليل مشروعيته.
المطلب الثالث: في حكم الطواف بغير بيت الله العتيق.
المبحث الأول: طواف القدوم. ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: طواف المعتمر.
المطلب الثاني: طواف المفرد.
المطلب الثالث: طواف القارن.
المبحث الثاني: طواف الإفاضة.(50/195)
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حكمه.
المطلب الثاني: وقته.
المطلب الثالث: ماذا يترتب عليه؟
المبحث الثالث: طواف الوداع. ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: حكمه وعلى من يكون.
المطلب الثاني: وقته وماذا يلزم من خرج ولم يودع؟
الخاتمة: وتشتمل على خلاصة البحث ونتائجه.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكون هذا البحث خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به من كتبه أو اطلع عليه، وما كان فيه من صواب فمن توفيق الله، وما كان فيه من خطأ فمني، سائلا الله أن يغفره لي وأرجو ممن وقف على خطأ فيه أو تقصير أن لا يتردد في إهداء ذلك إلي، وله مني الدعاء، والثناء الحسن. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/196)
التمهيد: في تعريف الطواف، ودليل مشروعيته، وحكم الطواف بغير بيت الله العتيق سأتناول دراسة هذا التمهيد في ثلاثة مطالب وهي:
المطلب الأول: في تعريف الطواف.
المطلب الثاني: في دليل مشروعيته.(50/196)
المطلب الثالث: في حكم الطواف بغير بيت الله العتيق.
المطلب الأول: تعريف الطواف:
أولا: في اللغة:
الطواف مصدر طاف بالشيء أي ألم به. ويقال: طاف حول الكعبة وبها طوفا، وطوافا، وطوفانا، وتطوف، واستطاف، وطوف كله بمعنى. أي: دار حولها واستدار عليها. ومنه قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) . والمطاف: موضع الطواف حول الكعبة.
وفي اللسان: أطاف فلان بالأمر: إذا أحاط به. وفي التنزيل: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} (2) . وأطاف به وعليه: طرقه ليلا، وفي التنزيل: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (3) ، (4) والطواف: الخادم.
وفي الحديث في الهرة «ليست الهرة بنجس إنما هي من
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) سورة الإنسان الآية 15
(3) سورة القلم الآية 19
(4) لسان العرب 9 \ 225.(50/197)
الطوافين عليكم أو الطوافات (1) » . قال أبو عبيد: إنما جعلها بمنزلة المماليك ألا تسمع قول الله عز وجل: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) إلى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} (3) ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (4) فهؤلاء الخدم) (5) .
والطوف: النجو، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه: «لا يصلين أحدكم وهو يدافع الطوف (6) » . وفي اللسان: طاف يطوف، واطاف اطيافا: تغوط، وذهب إلى البراز (7) .
والطوف: قرب ينفخ فيها، ثم يشد بعضها إلى بعض، ويجعل عليها خشب حتى تصير كهيئة سطح فوق الماء، والجمع
__________
(1) أخرجه أحمد 5 \ 303، 309، وأبو داود في الطهارة باب سؤر الهرة 1 \ 19 (57) ، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة 1 \ 62 (92) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الطهارة، باب سؤر الهرة (54) 1 \ 55 (68) ، وابن ماجه في الطهارة باب الوضوء بسؤر الهرة (32) 1 \ 31 (367) .
(2) سورة النور الآية 58
(3) سورة النور الآية 58
(4) سورة الواقعة الآية 17
(5) غريب الحديث لأبي عبيد 1 \ 270.
(6) أورده أبو عبيد في غريب الحديث 4 \ 214، والزمخشري في الفائق 2 \ 370. ويشهد له حديث لقيط بن صبرة عند أحمد 4 \ 13، 14 وفيه: (لا يبسط واحد منكم يده إلا وضع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى)
(7) لسان العرب 9 \ 227.(50/198)
(أطواف) مثل ثوب وأثواب.
ومما تقدم تبين لنا: أن الطواف بالشيء، أو عليه، أو حوله، تعني: ألم به، واستدار عليه ودار حوله. ومنه أخذ الطواف حول البيت، لأنه دوران حوله واستدارة عليه وإلمام به.(50/199)
ثانيا: في الاصطلاح:
لم أقف بعد البحث على تعريف للطواف في كتب الفقه، والذي يظهر أن سبب ذلك يرجع إلى أن الطواف في الاصطلاح لم يخرج عن تعريفه اللغوي، وإنما خصه بمكان وهو بيت الله الحرام، وأن يكون على صفة مخصوصة، فليس كل دوران حول الكعبة المشرفة يسمى طوافا. ولهذا يمكن تعريفه بأنه: الدوران حول الكعبة بصفة مخصوصة.(50/199)
المطلب الثاني: دليل مشروعية الطواف:
نعني بالطواف هنا الطواف المعهود ببيت الله العتيق. والأدلة على ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع.(50/199)
أولا: الأدلة من الكتاب الكريم منها:
1 - قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) .
2 - قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) .
والآيتان وإن كانتا خطابا لنبي الله وخليله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإنهما دالتان على مشروعية الطواف ببيت الله العتيق، وأنه كان من العبادات التي يتعبد الله بها في الأمم السابقة 3 - وقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) ، وهذه الآية الأمر فيها موجه لهذه الأمة أعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر الله عز وجل الحجاج بالطواف ببيته العتيق. فدل ذلك على مشروعيته.
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) سورة الحج الآية 26
(3) سورة الحج الآية 29(50/200)
وسيأتي الكلام على المراد بهذا الطواف وبيان حكمه.(50/201)
ثانيا: الأدلة من السنة المطهرة:
الأدلة من السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت العتيق أو أمر بذلك كثيرة جدا، وليس المراد هنا حصرها، وإنما الإشارة إلى شيء منها ليستدل به على مشروعية الطواف وسأكتفي بإيراد ثلاثة منها هي:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها: «أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف (1) » متفق عليه.
2 - حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «. . . حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا. . . (2) » الحديث أخرجه مسلم.
3 - حديث ابن عمر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة (3) » متفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة (63) 2 \ 163، وباب الطواف على وضوء (78) 2 \ 168، 169. ومسلم في الحج، باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي، صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 219 - 221.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 170 - 194.
(3) أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة (63) 2 \ 163. ومسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة 9 \ 7(50/201)
ثالثا: الإجماع:
لا خلاف بين العلماء على مشروعية الطواف، خاصة بعد الأمر به في كتاب الله الكريم، وتظافر الأدلة من السنة؛ بل تواترها على طواف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. ومع هذا فقد صرح بعض العلماء بالإجماع على مشروعية الطواف، وإن اكتفوا بالإشارة إلى بعض أنواعه كطواف الإفاضة، فالإجماع على فريضة طواف الإفاضة إجماع على مشروعية الطواف.
يقول ابن حزم رحمه الله: (وأجمعوا أن الطواف الآخر المسمى طواف الإفاضة بالبيت والوقوف بعرفة فرض) (1) .
وقال النووي: (أجمع العلماء على أن هذا الطواف هو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به) (2) .
وقال الموفق ابن قدامة: (طواف الزيارة، وهو ركن الحج، لا يتم إلا به بغير خلاف) .
__________
(1) مراتب الإجماع لابن حزم ص 42.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 9 \ 58.(50/202)
المطلب الثالث: حكم الطواف بغير بيت الله العتيق:
سبقت الإشارة إلى أن الطواف ببيت الله العتيق مما أمر الله به عباده وتعبدهم به (1) ، بل جعل بناء الإسلام قائما عليه، فالحج أحد أركان الإسلام الخمسة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (2) .
وحديث عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان (3) » متفق عليه.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا (4) » . . . الحديث.
ولا يتم الحج إلا بالطواف - أعني طواف الإفاضة - للإجماع
__________
(1) قال السرخسي في المبسوط 4 \ 37: (والطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط النية)
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) أخرجه البخاري في الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' بني الإسلام على خمس '' (1) 1 \ 8. ومسلم في الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1 \ 177.
(4) أخرجه مسلم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر 9 \ 100.(50/203)
على أنه ركن من أركان الحج لا يتم إلا به (1) . ولم يأمر الله جل وعلا عباده بالطواف بغير بيته العتيق.
وبهذا يعلم أن الطواف بغير بيت الله العتيق كالطواف على القبور والأضرحة لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: أن يكون قصده من هذا الطواف التقرب إلى الله جل وعلا معتقدا أن ذلك مما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهذا ابتداع في دين الله وضلالة عن طريق الهدى والرشاد، ومنكر عظيم يجب التحذير منه.؛ لأنه مفض إلى الأمر الثاني. ذلك أن الله جل وعلا قد أكمل دينه الذي ارتضاه لعباده فما من شيء يقرب إلى الله سبحانه وتعالى إلا وقد أبانه ودل عليه رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه في المطلب الذي قبله
(2) سورة المائدة الآية 3(50/204)
وصدق، لا كذب فيه ولا خلف) (1) .
ويقول ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) بتمام النصر وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه) (3) .
وقد حذر الله عباده أن يسلكوا طريق الأمم السابقة فيحلوا ويحرموا من تلقاء أنفسهم، أو يشرعوا من أنواع العبادات والقراءات ما لم يأذن به الله وإنما حسنته أهواؤهم وزينته عقولهم، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد التحذير لأمته من سلوك هذه الطريق الذي سلكته الأمم السابقة، وذلك لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة لن تخطئ سنن من قبلها، بل ستدخل مداخلها، وتسلك طرقها، وتسير على منوآله ا، كما أخبر بذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (5) » متفق عليه.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 \ 13.
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 2 \ 115.
(4) سورة الشورى الآية 21
(5) أخرجه البخاري في الاعتصام بالسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' لتتبعن سنن من كان قبلكم '' 8 \ 151، ومسلم في العلم، 16 \ 219.(50/205)
فكان عليه الصلاة والسلام يحذر أمته من البدع في الدين، والتعبد بما لم يشرعه رب العالمين، كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه: «. . . وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) » .
بل كان عليه الصلاة والسلام يحذر من ذلك دائما في خطبه، إذ يقول فيها: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (2) » .
ومما سبق يعلم: أن الطواف بغير بيت الله العتيق، تعبدا لله، وتقربا لله جل وعلا يعد بدعة وضلالة.
الثاني: أن يكون الطواف بتلك القبور والأضرحة والمشاهد، تقربا لأصحابها رجاء نفعهم، أو خوف ضرهم. وهذا
__________
(1) أخرجه أحمد 4 \ 126، 127، وأبو داود في السنة، باب في لزوم السنة 4 \ 200 (4607) ، والترمذي في العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 4 \ 149، 150 (2816) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين 1 \ 15 (42) ، والدارمي 1 \ 44، 45. والحاكم 1 \ 97، وابن حبان كما في الموارد ص56 (102) .
(2) أخرجه مسلم في الجمعة، باب خطبته صلى الله عليه وسلم في الجمعة 6 \ 153، من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم. . .) الحديث.(50/206)
ما يحصل من بعض المنتسبين إلى الإسلام. إذ تجد بعضهم يقصد تلك الأماكن وهو يرجو نفعها أو يخاف نقمتها، فيقدم لها النذور والقرابين، ويقيم عندها، ويطوف بها. ويقبل أعتابها، ويستلم أركانها، ويتمسح بجدرانها، داعيا وراجيا، ومستغيثا ومستجيرا. ولا شك أن هذا من أخطر الأمور، لأن في هذا الصنيع صرفا لعبادة أمر الله عباده بها، وقد أخبر سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أن دعوة الأنبياء جميعا اتفقت على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله جل وعلا فقد عبد غير الله، وأشرك في عبادته مع الله، وهذا أظلم الظلم، وأعظم الذنوب وأخطرها، كما قال تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (3) . ولما «سئل عليه الصلاة والسلام عن أعظم الذنوب قال: أن تجعل لله
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة لقمان الآية 13(50/207)
ندا وهو خلقك (1) » فإذا كان الله جل وعلا تفرد بالخلق والإيجاد، والرزق والإنعام، كان حقا على العباد أن يفردوه بالعبادة وحده دون أحد سواه.
ولما كان الشرك بهذه المثابة من الخطورة والعظم، أخبر سبحانه أنه محبط للأعمال الصالحة مهما عظمت أو كثرت، قال تعالى مخاطبا نبيه عليه الصلاة والسلام وغيره تبع له في هذا الخطاب: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (3) وكما أخبر أنه من مات وهو مشرك فقد حرم رحمة الله ومغفرته، واستحق دوام غضبه ونقمته، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (4) .
وبهذا يعلم: أن الطواف بغير بيت الله العتيق من أخطر الذنوب، وأعظم الآثام. وأن من أوجب الواجبات على المسلمين عامة، وعلى علمائهم خاصة أن يحذروا الواقعين في
__________
(1) جزء من حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة، باب قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) و (3) 5 \ 148، وفي الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (20) 7 \ 75، وفي الحدود، باب إثم الزناة (20) 8 \ 21، وفى التوحيد، باب قول الله تعالى: (فلا تجعلوا أندادا) و (40) 207. ومسلم في الإيمان، باب الشرك أقبح الذنوب 2 \ 79، 80.
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة الزمر الآية 66
(4) سورة النساء الآية 48(50/208)
هذه المخالفة، وأن يبينوا لهم الواجب عليهم من إفراده جل وعلا بالعبادة، وأنه لا يجوز لهم الطواف بغير بيت الله الحرام، ولا أن يصرفوا شيئا من العبادات لهذه القبور ولا لأصحابها، من دعاء أو استغاثة، أو نذر أو قربان، أو تمسح أو استلام.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يهدي ضال المسلمين، وأن يرد المسلمين إلى التمسك بكتابه الكريم وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(50/209)
أنواع الطواف
سبقت الإشارة إلى أن الطواف عبادة من العبادات التي يتقرب العبد بها إلى خالقه ومولاه، ولا يشترط للطواف أن يكون في نسك من حج أو عمرة، بل يصح التنفل بأدائه وحده في أي ساعة من ليل أو نهار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد 4 \ 80 - 84، وأبو داود في المناسك، باب الطواف بعد العصر 2 \ 180 (1894) ، والترمذي في المناسك، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد المغرب 2 \ 178 (869) وقال: حسن صحيح والنسائي في المواقيت، باب إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة (41) 1 \ 284 (585) ، وفي المناسك، باب إباحة الطواف في كل الأوقات (127) ، 5 \ 223 (2924) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت (149) 1 \ 398 (1254) ، والدارمي 2 \ 70.(50/209)
فالحديث دال على مشروعية الطواف ولو لم يرتبط بنسك من حج أو عمرة، والكلام في هذا النوع أعني: الطواف في غير نسك، سيتناوله الكلام في شروط الطواف، وواجباته، وآدابه، وسننه، لأن الكلام في تلك الموضوعات يتناول الطواف من حيث هو دون النظر إلى أنواعه.
والطواف في العمرة، لا يخرج في أنواعه عن الطواف في الحج، لأن من الأنساك التمتع (1) ، وهو: الإحرام بالعمرة من ميقات بلده، ويفرغ منها ثم ينشئ الحج من مكة في عامه.
فالحديث عن أنواع الطواف في الحج يتناول أنواع الطواف في العمرة أيضا.
وأنواع الطواف في الحج ثلاثة هي:
1 - طواف القدوم.
2 - طواف الإفاضة.
3 - طواف الوداع.
__________
(1) أنساك الحج ثلاثة وهي: الإفراد، والتمتع، والقران(50/210)
وسأتناول الحديث عنها في ثلاثة مباحث هي:(50/211)
المبحث الأول: في طواف القدوم.
المبحث الثاني: في طواف الإفاضة.
المبحث الثالث: في طواف الوداع.
المبحث الأول: طواف القدوم:
يشرع للداخل إلى مكة أن لبادر بالتوجه إلى المسجد الحرام للطواف بالبيت العتيق، فإن هذا الطواف تحية للبيت،(50/211)
كتحية المسجد، تشرع للداخل إلى المسجد.
لما روت عائشة - رضي الله عنها -: «أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف (1) » متفق عليه. وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: (لم يبلغنا أنه حين دخل مكة لوى لشيء، ولا عرج في حجته ولا عمرته كلها حتى دخل المسجد، ولا صنع شيئا حين دخل المسجد، لا ركع ولا صنع غير ذلك حتى بدأ بالبيت فطاف) . وحكي ذلك عن عطاء.
والداخل إلى المسجد الحرام لا يخلو حاله من أحد الأحوال التالية:
1 - أن يدخلها محرما. وهو في هذه الحال لا يخلو إحرامه من الأنواع الآتية:
أ - أن يكون محرما بالعمرة. سواء أكانت عمرة مفردة أم متمتعا بها إلى الحج - أي: متمتعا -.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة (63) 2 \ 163، وباب الطواف على وضوء (78) 2 \ 168، 169. ومسلم في الحج، باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي، صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 219 - 221.(50/212)
ب - أن يكون محرما بالحج وحده - أي: مفردا -.
ج - أن يكون محرما بالحج والعمرة معا - أي: قارنا -.
2 - أن يدخلها حلالا، غير محرم.
وبهذا يعلم أنه ليس على أهل مكة طواف قدوم - ما داموا فيها - لانعدام الدخول في حقهم (1) .
__________
(1) انظر الهداية وشرح فتح القدير عليها 2 \ 258، المجموع 8 \ 12، شرح الإيضاح ص 229.(50/213)
المطلب الأول: طواف المعتمر:
الداخل إلى مكة محرما بالعمرة سواء أكانت مفردة أم متمتعا بها إلى الحج لا يسن له أن يطوف للقدوم قبل أدائه للعمرة، لأنه وقت دخوله شرع له طواف مفروض، وهو طواف العمرة فيسقط عنه طواف القدوم كمن دخل المسجد وقت الفريضة لم يشرع له صلاة تحية المسجد.(50/213)
فالمعتمر ليس عليه إلا طواف واحد عند قدومه، وهو طوافه لعمرته قال ابن رشد: (أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم، وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين: طوافا للعمرة لحله منها، وطوافا للحج يوم النحر (1) . وقال السرخسي: (وليس في العمرة طواف الصدر، ولا طواف القدوم) (2) .
وطواف المعتمر لعمرته لا خلاف بين العلماء أنه ركن من أركان العمرة لا تصح إلا به. قال الكاساني: (وأما ركنها - أي العمرة - فالطواف، لقوله عز وجل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) ولإجماع الأمة عليه) .
وقال الدسوقي: (الركن هو: ما لا بد من فعله، ولا يجزئ بدلا عنه دم ولا غيره، وهي: الإحرام، والطواف، والسعي) .
__________
(1) بداية المجتهد، 1 \ 344.
(2) المبسوط، 4 \ 35.
(3) سورة الحج الآية 29(50/214)
وقال النووي في شرح المهذب: (واعلم أن العمرة ليس فيها طواف قدوم، وإنما طواف واحد يقال له طواف الفرض، وطواف الركن) .
وقال ابن النجار الحنبلي: (وأركان العمرة: إحرام، وطواف، وسعي) (1) وحكم المتمتع حكم المعتمر، لأن دخوله إلى مكة أولا بالعمرة، فلا يسن له طواف للقدوم إلا عند الإمام أحمد - رحمه الله - فإنه ذهب إلى أن المتمتع يسن له طواف القدوم بعد الوقوف بعرفة. ففي رواية الأثرم: (قال: قلت لأبي عبد الله - رحمه الله - فإذا رجع إلى منى يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجه، ويطوف طوافا آخر للزيارة. عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه) (2) . قال الموفق في المغني: (ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف) (3) .
__________
(1) منتهى الإرادات لابن النجار 1 \ 287، وانظر: غاية المنتهى 1 \ 442.
(2) انظر المغني، 5 \ 315.
(3) انظر المغني، 5 \ 315. وسيأتي مزيد تفصيل لهذا القول ودليله في المطلب الثاني.(50/215)
المطلب الثاني: طواف المفرد:
المحرم بالحج وحده - المفرد - لا يخلو حاله إما أن يكون دخوله إلى مكة قبل يوم عرفة؛ وإما أن يتأخر ويضيق عليه(50/215)
الوقت، فلا يتمكن من دخولها إلا بعد الوقوف بعرفة.
فهل يشرع له طواف القدوم أم لا؟ وهل لطواف القدوم وقت يفوت بمضيه أم لا؟ هذا ما نسعى للتعرف عليه في هذا المطلب من خلال بحث المسألتين التاليتين وهما:
المسألة الأولى: حكم طواف القدوم للمفرد إذا دخل مكة قبل يوم عرفة.
المسألة الثانية: هل يشرع طواف القدوم لمن لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف بعرفة أم لا؟
المسألة الأولى: حكم طواف القدوم للمفرد إذا دخل مكة قبل يوم عرفة. لا خلاف بين العلماء أن المفرد إذا دخل مكة قبل يوم عرفة يشرع له طواف القدوم، وإنما اختلفوا في حكم ذلك على قولين:
القول الأول: أن طواف القدوم سنة، وليس بواجب، فلا يترتب على تركه دم، ولا إثم. وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وبه قال الثوري، وابن المنذر، ورواية عن مالك.(50/216)
القول الثاني: أنه واجب، يجب بتركه دم. إلا إن تركه تداركا لإدراك الوقوف بعرفة. وإلى هذا ذهب: مالك، ورواية عن أحمد، وبه قال أبو ثور.(50/217)
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وجه الاستدلال منها: أن أمر الله بالطواف، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) الهداية وشرح فتح القدير 2 \ 457.(50/218)
وقالوا: إن المراد بالطواف في الآية طواف الإفاضة، وسياق الآية دال عليه، لأن هذا الطواف جاء في معرض التحلل وقضاء المناسك، من حلق - ونحوه مما فيه إزالة التفث - ونحر، وطواف. وهي التي يحصل بها التحلل. فصدر الآية تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وقالوا: إن طواف القدوم لا يجب على أهل مكة بالإجماع، ولو كان ركنا لوجب عليهم، لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم، كطواف الزيارة (2) .
وقالوا: أجمع أهل التفسير أن المراد بالطواف في الآية طواف الإفاضة (3) . قال القرطبي: (الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة، الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك) (4) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
أ - بقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (5) وقال في سياق
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 146، بداية المجتهد 1 \ 344.
(3) بدائع الصنائع 2 \ 146.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 \ 50.
(5) سورة الحج الآية 27(50/219)
الآية: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وجه استدلالهم منها:
أن الله - عز وجل - لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا ولم يحدد وقته، لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وطواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة، كما أن طواف الإفاضة يجزئ عن طواف القدوم، فدل ذلك على أن طواف القدوم واجب (2) .
ب - بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى البيت فليحيه بالطواف (3) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أتى البيت بالطواف، والأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب طواف القدوم.
ج - بفعله صلى الله عليه وسلم وأنه طاف للقدوم، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (4) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للقدوم حين دخل مكة، وقد قال: «خذوا عني مناسككم (5) » فدل ذلك على أن طواف القدوم من
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 \ 52، بداية المجتهد 1 \ 343.
(3) أورده المرغيناني في الهداية 2 \ 457. وقال في شرح فتح القدير: هذا غريب جدا، ولو ثبت كان الجواب بأن هناك قرينة تصرف الأمر عن الوجوب، وهو التحية، فإن مفهومها التبرع. ا. هـ بتصرف.
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(5) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(50/220)
المناسك التي يجب فعلها، أو جبرها بالدم.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الطواف سنة، وليس بواجب، فلا يلزم من تركه دم. لما يأتي:
1 - أن الطواف المأمور به في الآية إنما هو طواف الإفاضة الواقع بعد الوقوف بعرفة، فلا يكون طواف القدوم داخلا في هذا الأمر.
2 - لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أمر به أحدا من أصحابه، أو أمر من تركه بإراقة دم.
3 - سقوط هذا الطواف عن الحائض، وعن الداخل إلى مكة بعد يوم عرفة، فلو كان واجبا لوجب قضاؤه وتداركه، أو جبره بدم. والله أعلم.(50/221)
المسألة الثانية:
هل يشرع طواف القدوم لمن لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف بعرفة أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يشرع له طواف القدوم، لفوات وقته.
وإلى هذا القول ذهب جمهور العلماء، ومنهم أصحاب المذاهب الثلاثة ما عدا أحمد.(50/221)
القول الثاني: يشرع طواف القدوم للمفرد بعد يوم عرفة، إذا لم يأت مكة قبل ذلك ولا طاف للقدوم. وإلى هذا ذهب أحمد.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
أ - بحديث عائشة - رضي الله عنها - وفيه: فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا (1) .
وجه الاستدلال منه:
أن الطواف المشار إليه بعد الرجوع من منى إنما هو طواف الإفاضة فإنها لم تذكر طوافا آخر، فلو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة، الذي هو ركن الحج، ولا يتم الحج إلا به، وذكرت ما
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب طواف القارن (77) 2 \ 168.(50/222)
يستغنى عنه (1) .
ب - أن عائشة رضي الله عنها لما حاضت قرنت الحج والعمرة بأمره صلى الله عليه وسلم، ولم تكن طافت للقدوم، لم تطف للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم.
ج - لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع، ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أحدا.
د - أن طواف القدوم، طواف لتحية البيت، فطوافه بعد يوم عرفة للإفاضة يغني عن طواف القدوم، كتحية المسجد تسقط بأداء الفريضة (2) .
هـ - أن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب، لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة؛ لأنه أول قدومه إلى البيت، فهو به أولى من المتمتع الذي يعود
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 315، وقال: (ما ذكرت إلا طوافا واحدا، فمن أين يستدل به على طوافين؟) .
(2) انظر: شرح فتح القدير 2 \ 508، حاشية ابن عابدين 2 \ 492، المجموع 8 \ 12، المغني 5 \ 315.(50/223)
إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به.
2 - استدل الفريق الثاني بما يلي:
أ - بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم.
وجه استدلالهم منه:
أن عائشة رضي الله عنها أشارت إلى أن من جمع بين الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا، وأن الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج طافوا مرتين، ومعلوم أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة - القارنين - قد طافوا لقدومهم أثناء دخولهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاف المتمتعون كذلك لعمرتهم، فدل ذلك على أن الطواف الآخر المشار إليه للمتمتعين إنما هو طواف القدوم (1) .
ب - أن طواف القدوم مشروع، فلم يكن طواف الزيارة مسقطا له، كتحية المسجد قبل التلبس بالفرض (2) .
الرأي المختار:
الذي أختاره، هو ما ذهب إليه الجمهور: من سقوط طواف القدوم عن المفرد - ومثله القارن - إذا لم يدخلا مكة قبل يوم النحر، وأنه لا يسن لهما ولا للمتمتع الطواف للقدوم بعد
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 315، كشاف القناع 2 \ 586.
(2) انظر: المغني 5 \ 315، كشاف القناع 2 \ 586.(50/224)
طواف الإفاضة؛ لما يلي:
1 - أن الطواف الذي أخبرت به عائشة، وفرقت به بين المتمتع والقارن، هو الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما، لم يضيفوا إليه طوافا آخر يوم النحر، وأخبرت عن المتمتعين، أنهم طافوا بينهما طوافا آخر بعد الرجوع من منى للحج، وذلك الأول كان للعمرة. فيوافق هذا حديثها الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يسعك طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك (2) » .
2 - أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحدا من أصحابه الذين تمتعوا بالطواف مرة أخرى بعد طواف الإفاضة.
3 - أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم الذين تمتعوا معه صلى الله عليه وسلم: (أنهم طافوا طوافا آخر بعد طواف الإفاضة) .
4 - أنه لم ينقل عن عائشة رضي الله عنها أنها طافت للقدوم مع طواف الإفاضة، مع أنها رضي الله عنها لم تطف
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، في باب تحلل المعتمر المتمتع 8 \ 156
(2) (1)(50/225)
بالبيت فور قدومها؛ لكونها كانت حائضا، ولا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
5 - أن طواف القدوم تحية للمسجد الحرام، فإذا طاف الداخل للفرض طواف الإفاضة أسقط طواف القدوم، كتحية المسجد تسقط بصلاة الداخل للفريضة.
6 - الاتفاق على أن المعتمر لا يطوف للقدوم، بل يسقط بطواف العمرة، ودخوله فيه.
فكذلك المتمتع يسقط طواف القدوم عنه، ويجزئ عنه طوافه للعمرة ابتداء. وليس الذهاب للمشاعر مما يشرع للقادم منها طواف القدوم، للاتفاق على أن المفرد والقارن إذا طافا للقدوم قبل يوم عرفة لا يشرع لهما طواف القدوم مع طواف الزيارة. (والله أعلم) .(50/226)
المطلب الثالث: طواف القارن:
سبقت الإشارة في المطلب الثاني إلى مسألتين هما:
المسألة الأولى: حكم طواف القدوم للمفرد إذا دخل مكة قبل يوم عرفة. فهل القارن مثل المفرد في هذه المسألة أم يختلف عنه؟ والنظر في هذه المسألة للقارن يدفع إلى النظر في أصل المسألة وهي: هل أفعال القارن مثل أفعال المفرد؟ وهل تدخل أفعال العمرة في أفعال الحج؟ أم أن أفعال القارن تختلف عن المفرد، وأن القارن تلزمه أفعال العمرة وأفعال الحج معا؟
هذا ما سأتطرق إليه لمعرفة ماذا يلزم القارن من طواف؟(50/226)
أما المسألة الثانية: وهي هل يشرع طواف القدوم لمن لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف بعرفة أم لا؟ فإنها تشمل القارن والمفرد على حد سواء، كما سبق التنبيه إليه.
مسألة: ماذا يلزم القارن من طواف؟
اختلف العلماء فيما يلزم القارن من طواف على قولين:
القول الأول: لا يلزم القارن بين الحج والعمرة إلا ما يلزم المفرد، وأنه يجزئه طواف واحد، وسعي واحد، لحجه وعمرته.
وإلى هذا ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد - من أصحاب المذاهب - وبه قال: ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعائشة رضي الله عنهم وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن البصري، وأبو ثور، وإسحاق، وداود، وابن المنذر وابن حزم - رحمهم الله -.
القول الثاني: يلزم القارن طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية. وبه قال: مجاهد، والشعبي، والنخعي، وجابر بن زيد، وعبد الرحمن بن الأسود، والثوري، وحماد بن(50/227)
أبي سليمان، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والحكم بن عتبة، وشريح القاضي، ومحمد بن علي بن الحسين، والأسود بن يزيد، والحسن بن صالح - رحمهم الله - وروي هذا عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها - وقد قرنت بين الحج والعمرة -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك (1) » . .
2 - وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحرم بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد، وسعي واحد منهما جميعا (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، وقد تقدم
(2) أخرجه الترمذي في الحج، باب ما جاء أن القارن يطوف طوافا واحدا 2 \ 212 (955) ، وقال: حديث حسن غريب صحيح.. وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ولم يرفعوه، وهو أصح. وأخرجه البيهقي 5 \ 107. قال النووي شرح المهذب 8 \ 62: (ورواه البيهقي بإسناد صحيح مرفوعا) .(50/228)
وجه الاستدلال منهما:
أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها بأن طوافها للإفاضة يكفيها لحجها وعمرتها، وأن من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف وسعي واحد منهما جميعا، دليل على أن القارن لا يلزمه إلا طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته. وهو نص صريح في المراد.
3 - وبحديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج (1) » .
وجه الاستدلال منه:
أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بدخول العمرة في الحج، أي: تداخل أفعالهما، واتحادهما، فيطوف لهما طوافا واحدا، ويسعى لهما سعيا واحدا، كما لا يحرم لهما إلا إحراما واحدا (2) . .
4 - وبحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (. . . وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا) (3) .
5 - وبحديث جابر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 179.
(2) انظر: سنن البيهقي 5 \ 107
(3) أخرجه البخاري في الحج، باب طواف القارن (77) 2 \ 168.(50/229)
الحج والعمرة، فطاف لهما طوافا واحدا (1) » .
6 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف طوافا واحدا لحجه وعمرته (2) » . .
وجه الاستدلال منها:
أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أخبروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثله ممن جمع بين الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا لحجهم وعمرتهم، فدل ذلك على أن القارن لا يلزمه إلا طواف واحد لحجه وعمرته.
7 - وبأثر ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (من جمع بين الحج والعمرة، كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعا) (3) .
8 - وقالوا: (إنه يدخل فيهما بتلبية واحدة، ويخرج منهما بحلاق واحد، فوجب أن يطوف لهما طوافا واحدا، ويسعى لهما سعيا واحدا كالمفرد بالحج) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الحج، باب ما جاء أن القارن يطوف طوافا واحدا 2 \ 212 (954) وقال: حديث حسن.
(2) أخرجه الدارقطني 2 \ 262 وقال صاحب (التنقيح) إسناده صحيح. انظر: نصب الراية 3 \ 109، التعليق المغني على الدارقطني
(3) أخرجه مسلم في الحج، باب جواز التحلل بالإحصار وجواز القران 8 \ 214.
(4) انظر: المغني 5 \ 348 المهذب مع المجموع 8 \ 263.(50/230)
9 - وقالوا: (إن العمرة والحج عبادتان من جنس واحد، فإذا اجتمعتا دخلت أفعال الصغرى في الكبرى، كالطهارتين) (1) . .
واستدل الفريق الثاني بما يلي:
1 - بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) وجه الاستدلال منها:
أن إتمامها أن يأتي بأفعالهما على الكمال، ولم يفرق بين قارن وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) (3) . .
2 - وبحديث إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال: (طفت مع أبي، وقد جمع الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وحدثني أن عليا رضي الله عنه فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك) .
3 - وبحديث عمران بن حصين رضي الله عنه: «أن النبي
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 348
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) انظر: المغني 3 \ 347، شرح فتح القدير 2 \ 525(50/231)
صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين (1) » .
4 - وبحديث الصبي بن معبد، وأنه لما طاف طوافين، وسعى سعيين، قال له عمر رضي الله عنه: (هديت لسنة نبيك) .
وجه الاستدلال منها:
إخبار عمر، وعلي، وعمران رضي الله عنهم «بأن
__________
(1) أخرجه الدارقطني 2 \ 264 وقال: (قال الشيخ أبو الحسن: يقال: إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه، فوهم في متنه، والصواب بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي، وقد حدث به محمد بن يحيى الأزدي على الصواب مرارا، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي إلى الصواب والله أعلم) .(50/232)
النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين - وقد كان قارنا (1) » . فدل ذلك على أن القارن يلزمه طوافان وسعيان لحجه وعمرته.
5 - بأثر علي رضي الله عنه أنه قال: (إذا أهللت بالحج والعمرة فطف لهما طوافين واسع لهما سعيين بالصفا والمروة) .
6 - وبأثر علي، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا في (القارن) : (يطوف طوافين ويسعى سعيين) . .
__________
(1) القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنا، هو ما تؤكده الأدلة، وأثبته العلماء المحققون، وليس هذا مجال ذكره وإثباته فانظر: شرح السنة للبغوي 7 \ 71، نصب الراية 3 \ 99، وغيرهما(50/233)
7 - قالوا: إن القران ضم عبادة إلى عبادة، وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحدة على الكمال؛ لأنه لا تداخل في العبادات.
مناقشة أدلة القول الثاني:
1 - من الكتاب:
ليس في الآية ما يصلح أن يكون دليلا على أن القارن يأتي بأفعال الحج والعمرة على الكمال، والأثر دليل على ذلك؛ لأن المراد بالإتمام في الآية: إما أداؤهما والإتيان بهما، كقوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} (1) . وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (2) . أي: ائتوا بالصيام. وإما أن المراد بها: تمامهما بعد الشروع فيهما؛ لأن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه (3) .
وليس في الأثر ما يدل على أنه يفرد عمل كل واحد من النسكين إذا قرن بينهما، بل غايته أن يدل على أن النسكين يمكن جمعهما بسفر واحد، فتحرم بهما من دويرة أهلك. وهذا لا خلاف فيه. .
__________
(1) سورة البقرة الآية 124
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 \ 365.(50/234)
2 - من السنة:
قد أشرت على كل واحد منها في التعليق عليه بما يغني عن إعادته، وجملة القول فيها: أنها لا تخلو من مقال في سندها أو في متنها، أو فيهما معا. ولو قيل: بتعاضدها وارتقائها إلى درجة الاحتجاج.، فإنها لا تقوى على معارضة الأدلة الصحيحة الصريحة التي استدل بها أصحاب القول الأول، وقد تعين في هذه المسألة عند التعارض الترجيح، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة.
3 - من الآثار:
قد أشرت عند الاستدلال بها إلى اختلاف العلماء فيها صحة وضعفا، وذكرت قول ابن المنذر - رحمه الله -: (لا يثبت عن علي خلاف قول عمر) . وأزيد هنا قول سلمة بن كهيل: (حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا) .(50/235)
قال الحافظ ابن حجر: (وفيه بيان ضعف ما روي عن علي، وابن مسعود من ذلك) (1) وعلى التسليم بصحتها فإنها لا تكون معارضة للسنة الصحيحة الصريحة في أن القارن يسعه طواف واحد لحجه وعمرته. .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن القارن بين الحج والعمرة إنما يلزمه طواف واحد، وسعي واحد لحجه وعمرته. وذلك لما يلي:
1 - قوة أدلة الجمهور بكثرة طرقها وتعدد رواتها، وصحتها، وصراحتها في الموضوع، فهي نص في المسألة.
2 - ضعف أدلة أصحاب القول الثاني، إذ لا تقوى على معارضة أدلة أصحاب القول الأول.
3 - تعارض الأدلة في هذه المسألة يقتضي الترجيح بينها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة والله أعلم.
__________
(1) فتح الباري 3 \ 495.(50/236)
مسألة: هل يشرع للقارن طواف القدوم أم لا؟
تبين لنا من المسألة السابقة (1) . أن العلماء اختلفوا فيما يلزم
__________
(1) انظر: مسألة ما يلزم القارن من طواف(50/236)
القارن من الطواف، على قولين:
القول الأول: لا يلزمه إلا طواف واحد كالمفرد. وعلى هذا القول، فإن القارن يشرع له طواف القدوم كالمفرد، وقد سبق تفصيل القول في حكم طواف القدوم للمفرد. .
القول الثاني: يلزمه طوافان، طواف لعمرته، وآخر لحجه. وإلى هذا ذهب الأحناف. وعلى هذا القول، فإن الطواف الذي يبتدئ به القارن حين دخوله مكة إنما هو طواف العمرة. فهل يشرع للقارن بعد هذا الطواف، طواف آخر للقدوم أم لا؟ ذهب الأحناف إلى أنه يشرع للقارن بعد الفراغ من طواف العمرة وسعيها، أن يطوف طوافا آخر للقدوم، وأن يسعى بعده للحج.
قال صاحب البداية: (فإذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها، ويسعى بعد بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة، ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد) (1) .
ويصح كذلك أن يطوف للقدوم قبل الفراغ من مناسك العمرة، بأن يطوف طوافين متواليين دون أن يفصل بينهما بسعي
__________
(1) بداية المبتدي مع شرحها الهداية مع شرح فتح القدير 2 \ 525(50/237)
العمرة، قال الكاساني: (ولو طاف القارن طوافين متواليين، وسعى سعيين متواليين أجزأه، وقد أساء، أما الجواز فلأنه أتى بوظيفة من الطوافين والسعيين. وأما الإساءة، فلتركه السنة، وهي تقديم أفعال الحج على أفعال العمرة) (1) .، ويرى الأحناف أن تقديم القارن لطواف القدوم على طواف العمرة، لغو لا يصح، فلو نوى بطوافه للقدوم وقع عن العمرة.
يقول الكاساني: (ولو طاف أولا لحجته وسعى لها، ثم طاف لعمرته وسعى لها، فنيته لغو، وطوافه الأول وسعيه يكونان للعمرة) (2) .
وفي النفس من تسمية الطواف الثاني بعد طواف العمرة، طواف القدوم شيء؛ لأن تسميته طواف القدوم مأخوذ من كونه أول أفعال القادم، والاتفاق على أن الداخل إلى مكة بالعمرة يبدأ بأفعالها (3) ، فلو قيل: بسقوط طواف القدوم عن القارن، ووجوب تأخير سعي الحج كالمتمتع، لكان أقيس. والله أعلم.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 \ 150، وانظر: المبسوط 4 \ 37
(2) بدائع الصنائع 2 \ 150، وانظر: المبسوط 4 \ 37.
(3) وقد سبق تقرير ذلك في مطلب طواف القدوم للمعتمر.(50/238)
المبحث الثاني: طواف الإفاضة:
يشرع طواف الإضافة لحجاج بيت الله العتيق بعد وقوفهم بعرفة وإفاضتهم منها ومن مزدلفة، فإذا وصلوا إلى منى يوم النحر رموا جمرة العقبة وذبحوا هديهم، وحلقوا رءوسهم، ثم بعد ذلك يفيضون إلى مكة فيطوفون بالبيت العتيق طواف الإفاضة ضحى يوم النحر. وهذه هي السنة في طواف الإفاضة؛ لأنه هو الوقت الذي طاف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . .
وسأتناول في هذا المبحث الجوانب المتعلقة بهذا الطواف في المطالب التالية:
__________
(1) ستأتي الإشارة إلى ذلك في وقت الطواف(50/239)
المطلب الأول: حكمه.
المطلب الثاني: وقته.
المطلب الثالث: ماذا يترتب على أدائه.
المطلب الأول: حكم طواف الإفاضة:
لا خلاف بين العلماء أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، والدليل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أولا: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) ، وجه الاستدلال منها من وجهين:
الأول: أن الله - جل وعلا - أمر بالطواف في سياق الأمر بالحج، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فدل ذلك على أن الطواف الركن في الحج إنما هو طواف واحد. والإجماع على أن الطواف الذي يلزم جميع الحجاج - حتى المكي - إنما هو طواف الإفاضة، فتبين أن الطواف الركن إنما هو طواف الإفاضة.
الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - بين في هذه الآية حكم النحر، ثم عطف عليه بأمور ثلاثة هي: قضاء التفث، والوفاء بالنذر، والطواف، فيجب حمل الطواف على ما يفعل بعد النحر، وهو طواف الزيارة (2) .، وقد حكى الإجماع على أن المراد بالطواف في الآية طواف الإفاضة غير واحد من العلماء.
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) أحكام القرآن للكيا الهراس 2 \ 281(50/240)
ثانيا: وأما السنة: فحديث عائشة رضي الله عنها: «أن صفية بنت حيي - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - حاضت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذا (1) » .
وفي رواية لمسلم: «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر، إذا صفية على باب خبائها، كئيبة حزينة، فقال: عقرى حلقى، إنك لحابستنا. ثم قال لها: كنت أفضت يوم النحر؟ قالت: نعم. قال: فانفري (2) » . .
وجه الاستدلال منه:
أن قوله صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي (3) » ؟ أو قوله: «إنك لحابستنا (4) » دليل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به. قال البغوي في تفسيره: (ثبت بهذا الحديث أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة، لا يجوز له أن ينفر) (5) . .
ثالثا: وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به. وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء. قال السرخسي: (طواف الزيارة، وهو ركن
__________
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت (145) 2 \ 195
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 81، 82
(3) صحيح البخاري الحج (1757) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) .
(4) صحيح البخاري الحج (1762) ، صحيح مسلم الحج (1211) .
(5) معالم التنزيل للبغوي 5 \ 382، وانظر: المغني، 5 \ 345، المجموع. 8 \ 220(50/241)
الحج) (1) .، وقال المواق: (طواف الإفاضة، هو ركن في الحج) (2) . .
وقال النووي: (وهذا الطواف - أي طواف الإفاضة - ركن من أركان الحج، لا يصح الحج إلا به بإجماع الأمة) (3) . . وقال الموفق ابن قدامة: (طواف الزيارة، وهو ركن الحج، لا يتم إلا به، بغير خلاف) (4) . .
وقال ابن حزم: (وأجمعوا أن الطواف الآخر - المسمى طواف الإفاضة - بالبيت، والوقوف بعرفة فرض) (5) . . وقال ابن رشد: (وأجمعوا على أن الواجب منها - أي من أنواع الطواف - الذي يفوت الحج بفواته، هو طواف الإفاضة) (6) .
__________
(1) المبسوط، 4 \ 34
(2) التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق ومواهب الجليل 3 \ 64، 82
(3) المجموع، 8 \ 220
(4) المغني 5 \ 316
(5) مراتب الإجماع ص 42
(6) بداية المجتهد، 1 \ 343.(50/242)
المطلب الثاني: وقت طواف الإفاضة:
لطواف الإفاضة وقتان: وقت فضيلة، ووقت جواز (1) . .
فوقت الفضيلة: أن يطوف ضحى يوم النحر، بعد أن يفرغ من أعمال مناسك هذا اليوم، فيرمي جمرة العقبة، وينحر هديه، ويحلق رأسه؛ لأن هذا هو الوقت الذي طاف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث ابن عمر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم
__________
(1) انظر: المغني، 5 \ 312 إذ قال: (ولهذا الطواف وقتان: وقت فضيلة، ووقت إجزاء) والمجموع للنووي 2 \ 221(50/242)
النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى (1) » 58. . ولحديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء فيه: «أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه، ثم أفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر (2) » . .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر 9 \
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8 \ 170 - 194. (تنبيه) جاء في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وفي حديث جابر أنه صلى الظهر بمكة، وقد استشكل ذلك ابن حزم، لكن الجمع ممكن. ووجهه: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى نافلة. انظر: القرى للطبري ص 463، شرح النووي على صحيح مسلم 8 \ 193، هداية السالك 3 \ 1175، هداية الناسك ص 114. (تنبيه آخر) دل حديثا ابن عمر، وجابر رضي الله عنهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة ضحى يوم النحر، ويشكل عليهما حديث أبي الزبير عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف يوم النحر إلى الليل) أخرجه أحمد 1 \ 288. قال الهيثمي في المجمع 3 \ 265: (رجاله رجال الصحيح) ، وأبو داود، في باب الإفاضة في الحج 2 \ 207 (2000) ، والترمذي في طواف الزيارة بالليل 2 \ 201 (923) . وحسنه ابن ماجه في زيارة البيت 2 \ 1017 (3059) . لكن جمع بينهما من وجهين: (الأول) أنه صلى الله عليه وسلم أذن في تأخير الطواف إلى الليل، فنسب إليه. قاله ابن جماعة في هداية السالك 3 \ 1175، وفيه بعد. (الثاني) أن يتأول قوله: (أخر طواف يوم النحر إلى الليل) أي: طواف نسائه. قال النووي في المجموع 8 \ 223 بعد أن ذكره: (ولا بد من التأويل للجمع بين الأحاديث - فإن قيل - هذا التأويل يرده رواية القاسم عن عائشة في قوله: (وزار رسول صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا) فجوابه: لعله عاد للزيارة، لا لطواف الإفاضة، فزار مع نسائه، ثم عاد إلى منى فبات بها والله أعلم) ، ويؤيد الوجه الثاني حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم رقد رقدة بمنى، ثم ركب إلى البيت فطاف به) أخرجه أبو حاتم بن حبان، وقال في الجمع بينه وبين حديث ابن عمر: (يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رمى ثم أفاض، ثم رجع، فصلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء ورقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف طوافا ثانيا بالليل) . انظر القرى ص 462. ولو تعذر الجمع وآل الأمر إلى الترجيح، فإن روايات جابر، وابن عمر - وغيرهما - أصح، وأشهر، وأكثر رواة. فوجب تقديمها، ولهذا رواها مسلم في صحيحه دون حديث أبي الزبير. كما ذهب إليه النووي وغيره. وممن ذهب إلى الترجيح ابن القيم في زاد المعاد 2 \ 275، 278. إذ اعتبر حديث أبي الزبير غلط بين، وذكرها من ضمن الأوهام فقال 2 \ 308: (ومنها: وهم من وهم وقال: إنه أفاض مرتين: مرة بالنهار، ومرة مع نسائه بالليل - ثم بين مستند هذا الوهم وقال: وهذا غلط، والصحيح عن عائشة خلاف هذا: أفاض نهارا إفاضة واحدة، وهذه طريقة وخيمة جدا، سلكها ضعاف أهل العلم، المتمسكون بأذيال التقليد. (والله أعلم) . قلت: هذا تحامل شديد منه - رحمه الله - في أمر هو محل نظر واجتهاد، وقد تبين لك أن حديث أبي الزبير يشهد له أحاديث أخرى كحديث أنس عند ابن حبان، وهو ممن ذهب إلى الجمع بينهما، وليس مثله ممن يوصف بالتمسك بأذيال التقليد. فعفا الله عن الجميع(50/243)
أما وقت الجواز: فقد اختلف العلماء في أول وقت الطواف، وفي آخره على ما سأبينه في المسألتين التاليتين:(50/244)
مسألة: أول وقت الإفاضة:
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في أول وقت يجوز فيه طواف الإفاضة على قولين:
القول الأول: أن أول وقته يبدأ من نصف ليلة النحر.
وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد في المشهور عنه. .
القول الثاني: أن أول وقته يبدأ بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية. .
والخلاف في هذه المسألة مبني على أول وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر.، وقبل أن أتطرق إلى بحث هذه المسألة،(50/245)
أجيب على سؤال قد يرد وهو: ما علاقة الطواف برمي جمرة العقبة، حتى كان الخلاف في أول وقت الطواف مبنيا على الخلاف في أول وقت رمي جمرة العقبة؟ والجواب على ذلك: أن رمي جمرة العقبة، والذبح، والحلق، والطواف كلها من أعمال يوم النحر. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وأن بعض الصحابة حصل منهم إخلال بهذا الترتيب، فأخذوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عما قدموه أو أخروه من أفعال هذه اليوم، فكان يجيبهم صلى الله عليه وسلم: «افعل ولا حرج (1) » . . فكان هذا دليلا على أن أعمال يوم النحر مترابطة.
__________
(1) سيأتي بحث هذه المسألة وتخريج الحديث في المطلب الثالث إن شاء الله(50/246)
مسألة: أول وقت رمي جمرة العقبة:
اختلف العلماء - رحمهم الله - في أول وقت رمي جمرة العقبة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أول وقت رمي جمرة العقبة، يبدأ من منتصف(50/246)
ليلة النحر. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة، وعطاء وابن أبي ليلى، وعكرمة بن خالد، وطاوس، والشعبي.
القول الثاني: أن أول وقت الرمي يبدأ من طلوع الفجر الثاني، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية، وإسحاق، وابن المنذر. .(50/247)
القول الثالث: أن الرمي لا يجوز قبل طلوع شمس يوم النحر. وإلى هذا ذهب مجاهد، وسفيان الثوري، والنخعي، وأبو ثور، والظاهرية (1) . .
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (2) » . . . الحديث. .
__________
(1) انظر المغني 5 \ 295، المجموع 8 \ 180، فتح الباري 3 \ 528، المحلى 7 \ 135
(2) سنن أبو داود المناسك (1942) .(50/248)
صفحة فارغة(50/249)
صفحة فارغة(50/250)
وجه الاستدلال من الحديث:
الحديث نص صريح في أن أم سلمة رضي الله عنها رمت جمرة العقبة قبل الفجر، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الرمي، فدل ذلك على جواز الرمي قبل الفجر. قال الشافعي - رحمه الله -: (وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة قبل الفجر بساعة) (1) . .
2 - وبحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: «أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا؟ قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (2) » . .
وفي رواية لأبي داود، وابن خزيمة: «قلت: إنا رمينا الجمرة بليل؟ قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » .
__________
(1) الأم 2 \ 213
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري في الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل (98) 2 \ 178، ومسلم في الحج، باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهن 9 \ 39. والظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، ثم أطلق على المرأة مطلقا
(3) أخرجها أبو داود في المناسك، باب التعجيل من جمع 2 \ 195 (1943) ، وابن خزيمة في صحيحه 4 \ 280 (2884)(50/251)
وفي رواية لمالك والنسائي: «كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك (1) »
وجه الاستدلال منه:
أن صنيع أسماء رضي الله عنها من تعجيل الدفع من مزدلفة، ورميها جمرة العقبة بليل، ثم صلاتها الفجر في منزلها، وإخبارها أنهم كانوا يصنعون ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دليل على جواز رمي جمرة العقبة قبل الفجر.
وقد عنون له ابن خزيمة: (باب الرخصة للنساء في رمي الجمار قبل طلوع الفجر) .
3 - وقالوا: إن رمي أم سلمة رضي الله عنها قبل الفجر، صالح لجميع الليل، ولا ضابط له، فجعل النصف ضابطا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله. .
4 - وقالوا: إن منتصف الليل وقت للدفع من مزدلفة، فكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس. .
__________
(1) أخرجها مالك في الموطأ، في الحج، باب تقديم النساء والصبيان 1 \ 391، والنسائي في المناسك، باب الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر بمنى 5 \ 266 (3050)(50/252)
2 - واستدل أصحاب القول الثاني:
1 - بحديث «ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يقدم ضعفة أهله، فمنهم ممن يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . (1) »
وجه الاستدلال منه:
تقديم ابن عمر رضي الله عنهما أهله إلى منى قرب صلاة الفجر، ورميهم الجمرة فور قدومهم، وإخبار ابن عمر بأن ذلك مما أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل صريح على جواز الرمي قبل طلوع الشمس.
2 - وبحديث شعبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر (2) » . .
وجه الاستدلال منه:
إخبار ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب تقديم الضعفة من النساء 9 \ 41 (304) ، وابن خزيمة 4 \ 279 (2883) واللفظ له
(2) أخرجه أحمد 12 \ 174 من ترتيب المسند، قال في شرحه بلوغ الأماني: (وسنده جيد) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 258: (رواه أحمد، وفيه شعبة مولى ابن عباس، وثقه أحمد وغيره وفيه كلام) . وقال عنه الحافظ في التقريب ص146: (صدوق سيئ الحفظ)(50/253)
به مع أهله إلى منى، وأنهم رموا الجمرة مع الفجر، دليل على صحة الرمي قبل طلوع الشمس. وهذان الحديثان أقوى، وأصرح مما استدل به الأحناف من حديث ابن عباس الذي بعده.
3 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله. صبيحة جمع، أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين (2) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن لضعفة أهله بالإفاضة مع أول الفجر، نهاهم أن يرموا الجمرة حتى يصبحوا، فدل ذلك على عدم جواز الرمي قبل الفجر. (فإن قيل) : إن الحديث جاء بلفظ: (حتى تطلع الشمس) . فالجواب: أن تأخير الرمي إلى طلوع الشمس مستحب، والرمي بعد الفجر وقبل طلوع الشمس جائز جمعا بين الأدلة. .
__________
(1) أورده الكاساني بالمعنى، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2 \ 216، 217.
(2) الثقل: متاع المسافر وحشمه. انظر القاموس المحيط ص 1256، المصباح المنير 1 \ 83 (1)(50/254)
3 - واستدل أصحاب القول الثالث:
1 - بحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس (1) » . .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ضحى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (2) » . فدل ذلك على أن رمي جمرة العقبة إنما يبدأ بعد طلوع الشمس.
2 - بحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات فجعل يلطح (4) » . .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي 9 \ 47
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(3) أخرجه أحمد 1 \ 234، 311، 343، وأبو داود في المناسك، باب التعجيل من جمع 2 \ 194 (1940) ، والنسائي في المناسك، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس 5 \ 270 (3064) ، وابن ماجه في المناسك، باب من تقدم من جمع 2 \ 1007 (3025) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2 \ 217، والبيهقي 5 \ 132، كلهم من طريق الحسن العرني عن ابن عباس، وهو لم يسمع من ابن عباس ولهذا مال الحافظ ابن حجر إلى تضعيفه في بلوغ المرام ص 91 فقال: (رواه الخمسة إلا النسائي وفيه انقطاع) ، وقال ابن خزيمة في صحيحه عن حديث ابن عباس هذا 4 \ 280: (ولست أحفظ في تلك الأخبار إسنادا ثابتا من جهة النقل) ، لكن له طرق أخرى يقوي بعضها بعضا، منها ما أخرجه الترمذي في المناسك، باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل 2 \ 189 (894) من طريق المسعودي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. وقال حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، ولهذا أشار الحافظ في الفتح إلى تحسينه، والألباني إلى صحته. انظر: فتح الباري 3 \ 528، إرواء الغليل 4 \ 276
(4) (3) . أفخاذنا ويقول: أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس(50/255)
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم ضعفة أهله نهاهم عن رمي جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، فدل ذلك على أن رمي جمرة العقبة إنما يبدأ بعد طلوع الشمس.
3 - وقالوا: إن دخول وقت الرمي بخروج وقت الوقوف، إذ لا يجتمع الرمي والوقوف في وقت واحد، ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر، فوقت الرمي يكون بعده (1) . .
4 - وقالوا: إن وقت الرمي هو وقت التضحية، وإنما يدخل وقت التضحية بطلوع الفجر الثاني، فكذلك الرمي (2) . .
5 - وقالوا: إن الرمي بعد طلوع الشمس يجزئ بالإجماع، فهو
__________
(1) انظر: المبسوط 4 \ 21
(2) انظر: المبسوط 4 \ 21(50/256)
أولى مما فيه خلاف (1) .
المناقشة:
بالنظر إلى أدلة كل فريق نرى أنه بالإمكان التوفيق بينها، وأنها ليست من التعارض الذي يتعذر معه الجمع بينها، والجمع بين الأدلة - إن أمكن - إعمال للأدلة جميعا، وهو أولى من الترجيح؛ لأنه يقتضي إهمال بعضها.
أولا: الرمي بعد طلوع الشمس هو الأولى؛ لأنه الوقت الذي رمى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى به أغيلمة بني عبد المطلب، وفيه الخروج من الخلاف، وهذا ما دلت عليه أدلة القول الثالث.
ثانيا: أن الرمي قبل طلوع الشمس قد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم، فقول أسماء رضي الله عنها وقد رمت قبل طلوع الشمس بلا ريب: «كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » .
وقول ابن عمر رضي الله عنه وكان يقدم أهله لصلاة الفجر، ويرمون الجمرة فور وصولهم: «أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » . أدلة صحيحة صريحة في جواز الرمي قبل طلوع الشمس، فقول الألباني - عفا الله عني وعنه -: (واعلم أنه لا يصح حديث مرفوع صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخيص بالرمي قبل طلوع الشمس للضعفة. .) الإرواء 4 \ 276. ولا إخاله يعد هذه أحاديث موقوفة، وهي صريحة في المراد. ولهذا لم يذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى ما ذهب إليه الألباني، بل ذهب إلى الجمع بينها بأن النهي عن
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 294. .
(2) صحيح البخاري الحج (1679) ، سنن النسائي مناسك الحج (3050) ، سنن أبو داود المناسك (1943) ، موطأ مالك كتاب الحج (889) .
(3) صحيح البخاري الحج (1676) ، صحيح مسلم الحج (1295) .(50/257)
الرمي حتى تطلع الشمس خاص بالصبيان؛ لأنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء، فرمين قبل طلوع الشمس للعذر، والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم، وهذا الذي دلت عليه السنة، جواز الرمي قبل طلوع الشمس. . . إلخ.
ثالثا: أن حديث أسماء رضي الله عنها يدل على أنها رمت الجمرة قبل طلوع الفجر؛ لأنها بعد فراغها من الرمي رجعت إلى منزلها فصلت به الصبح. وهذا أيضا ما دل عليه صنيع أم سلمة رضي الله عنها وهو نص صريح أنها رمت قبل الفجر، وقد تبين أن من أعله كالإمام أحمد فلجوانب لا تؤثر على الشاهد منه، ولهذا احتج به أحمد، وصححه النووي، وابن حجر.
الرأي المختار: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: من أن أول وقت رمي جمرة العقبة يبدأ من منتصف ليلة النحر؛ وذلك لأن في هذا القول جمعا للأدلة، وإعمالا لها، وهو أولى من الترجيح. (والله أعلم) .(50/258)
مسألة: آخر وقت طواف الإفاضة:
سبقت الإشارة إلى أن السنة أن يطوف طواف الإفاضة ضحى يوم النحر، ويكره تأخير الطواف عن يوم النحر، قال النووي: (ويكره تأخير الطواف عن يوم النحر، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة، وخروجه من مكة بلا طواف أشد كراهة) (1) . . فهل لطواف الإفاضة وقت ينتهي إليه، فلا يصح فعله، كالوقوف بعرفة
__________
(1) المجموع، 8 \ 220(50/258)
ينتهي بطلوع فجر يوم النحر أو غيره من مناسك الحج كالمبيت بمزدلفة، وبمنى، ورمي الجمار، أم أنه لا يتقيد بزمن، بل يستمر ما دام الإنسان حيا، ولو مضى على ذلك زمن طويل؟ وهل يترتب على هذا التأخير شيء؟ وما الذي يترتب على هذا التأخير؟
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أن تأخير الطواف لا يوجب دما، إلا أنه يبقى محرما، إذ لم يتحلل التحلل الأكبر. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وابن عيينة، وأبو ثور، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، ورواية عن مالك، وابن المنذر، وحكاه عن جمهور العلماء.
القول الثاني: أن تأخير الطواف إلى انتهاء أيام النحر، موجب للدم. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.(50/259)
القول الثالث: أن تأخير الطواف إلى انتهاء شهر ذي الحجة، موجب للدم. وإلى هذا ذهب مالك، وهي الرواية المشهورة.
القول الرابع: أن تأخير الطواف إلى انتهاء شهر ذي الحجة، مبطل للحج. وإلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
أ - أن الأصل عدم وجوب الدم بالتأخير، حتى يرد الشرع به، ولا دليل على ذلك.
ب - أن الطواف ليس كبقية المناسك المؤقتة التي تفوت بفوات(50/260)
وقتها، فمتى أتى به صح، فلم يلزم دم بتأخيره (1) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
- أن الطواف نسك في الحج فكان مؤقتا بأيام النحر وجوبا، فإذا أخره عن وقته كان تاركا للواجب، وترك الواجب في الحج يوجب الجبر بالدم (2) 3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
- أن تأخير الطواف إلى المحرم، فعل للركن في غير أشهر الحج، وتأخير الركن عن وقته موجب للدم (3) 4 - واستدل أصحاب القول الرابع بما يلي:
- بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (4) .
وجه الاستدلال منها:
أن أشهر الحج ثلاثة وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. فإذا انتهى شهر ذي الحجة قبل طوافه فقد بطل حجه، لانتهاء وقته قبل تمامه.
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 313، المجموع 8 \ 224.
(2) انظر: المبسوط 4 \ 42، بدائع الصنائع 2 \ 132.
(3) انظر الشرح الصغير 2 \ 370.
(4) سورة البقرة الآية 197(50/261)
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن تأخير طواف الزيارة، لا يوجب دما، ولو بعد مضي أيام النحر، أو انقضاء شهر ذي الحجة. وذلك لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والأصل براءة الذمة، وعدم إلزامها بشيء حتى يرد الشرع به. والقول: بأن الطواف مؤقت بأيام النحر، أو بشهر ذي الحجة غير مسلم؛ لأنه لو كان مؤقتا بذلك لما صح أداؤه بعد انقضاء وقته، كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار فهذه المناسك لما كانت مؤقتة بزمن لم يصح أداؤها بعد مضي زمنها. وأما القول: ببطلان الحج إذا لم يطف حتى انقضى شهر ذي الحجة، فلا أعلم أحدا قال به غير ابن حزم، وهو منازع في المراد بالأشهر المعلومات (1) . (والله أعلم) .
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن 2 \ 405 المغني 5 \ 110 المجموع (7 \ 145)(50/262)
المطلب الثالث: ماذا يترتب على طواف الإفاضة؟:
أعمال يوم النحر أربعة هي: الرمي، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة. ولا خلاف بين العلماء أن السنة في ترتيب هذه الأعمال أن يبدأ بالرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف،(50/262)
لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه حديث أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق خذ. . . . (1) » قال الطبري: (في الحديث دلالة على استحباب الترتيب، بأن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق) (2) .
وفي هذا المطلب سأتناول ماذا يترتب على طواف الإفاضة في مسألتين:
إحداهما: ماذا يترتب على تقديمه على أفعال يوم النحر؟
الثانية: ماذا يترتب على فعله من التحلل؟
مسألة: ماذا يترتب على تقديم طواف الإفاضة على أفعال يوم النحر:
أشرت إلى أن السنة تأخير طواف الإفاضة بعد الرمي، والنحر، والحلق. فهل يجوز تقديمه على بقية أعمال هذا اليوم؟ وهل يلزمه إذا قدمه عليها شيء أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز تقديم الطواف على بقية الأعمال، إلا أنه خلاف السنة، ولا يلزم من قدم الطواف على بقية الأعمال
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب السنة يوم النحر 9 \ 52.
(2) القرى لقاصد أم القرى للطبري ص 453.(50/263)
شيء. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وداود، وأبو ثور، وعطاء، وإسحاق، ومجاهد، وطاوس.
القول الثاني: أنه يجب تقديم الرمي على الإفاضة، فلو طاف قبل الرمي فعليه هدي. وبه قال مالك. .(50/264)
القول الثالث: أن تقديم الرمي على الإفاضة واجب، فلو طاف قبل الرمي فطوافه غير صحيح. وهي رواية عن مالك. .
القول الرابع: أنه يجب الترتيب بين أعمال يوم النحر، فمن قدم منها شيئا أو أخره، عالما متعمدا فعليه دم. وبه قال أحمد في رواية، وهو قول سعيد بن جبير، وجابر بن زيد، وقتادة، والنخعي (1) . .
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله، إني حلقت قبل أن أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج " وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، قال: فما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال: " افعلوا ولا حرج»
__________
(1) انظر المغني 5 \ 322، الفروع 3 \ 515، وهي اختيار أبو بكر الأثرم، الإنصاف 4 \ 42، القرى للطبري ص 467(50/265)
متفق عليه. أخرجه، وفي رواية لمسلم: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: " فاذبح ولا حرج " قال: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج (1) » . .
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح، والحلق، والرمي، والتقديم، والتأخير فقال: لا حرج (2) » متفق عليه. وفي رواية للبخاري: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: "لا حرج" فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: " اذبح ولا حرج" قال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: لا حرج (3) » .
وجه الاستدلال منهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن تقديم أعمال يوم النحر بعضها على بعض، وفي كلها كان يقول: «افعل ولا حرج (4) » فدل ذلك على عدم وجوب الترتيب بينها، وأنه لا يلزم بتقديم بعضها على بعض دم، وقد شمل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السؤال عن أربعة أمور هي:
__________
(1) أخرجها مسلم من طريق ابن عيينة عن الزهري 9 \ 56
(2) أخرجه البخاري في الحج باب إذا رمى بعد ما أمسى (130) 2 \ 190، ومسلم في الحج باب جواز تقديم الذبح 9 \ 57.
(3) أخرجها البخاري في الباب المشار إليه (130) 2 \ 190.
(4) صحيح البخاري العلم (83) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، سنن ابن ماجه المناسك (3051) ، مسند أحمد بن حنبل (2/202) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .(50/266)
1 - الحلق قبل الذبح.
2 - والحلق قبل الرمي.
3 - والنحر قبل الرمي.
4 - والإفاضة قبل الرمي (1) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
بأثر ابن عباس رضي الله عنهما (من قدم شيئا من حجه أو أخره، فليهرق لذلك دما) .
وجه الاستدلال منه:
أن من قدم الإفاضة على الرمي فقد قدم نسكا يجب تأخيره، على نسك يجب تقديمه، فعليه دم.
3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
- بأثر ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول فيمن أفاض قبل أن يحلق: (يرجع فيحلق أو يقصر، ثم يفيض) (2) .
__________
(1) وقد أشار الحافظ في الفتح 3 \ 571، إلى صور أخرى جاء السؤال عنها في بعض الأحاديث فانظر.
(2) انظر القرى للطبري ص 469، المغني 5 \ 323.(50/267)
وجه الاستدلال منه:
أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأمر من عجل الإفاضة عن وقتها بإعادتها، وهذا دليل على عدم صحتها وإجزائها.
4 - واستدل أصحاب القول الرابع بما يلي:
1 - بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) . .
وجه الدلالة من الآية:
أن الله - سبحانه وتعالى - نهى عن الحلق قبل نحر الهدي، فدل ذلك على وجوب تقديم النحر على الحلق.
2 - بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » . . .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أفعال يوم النحر وأمر بأن يقتدى به في أفعال المناسك، فدل على أن الترتيب بينها واجب، وأن الإخلال بذلك موجب للدم.
3 - وبحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتقدم في أدلة الفريق الأول؛ إذ جاء فيه السؤال مقيدا بعدم العلم أو بعدم التعمد؛ لأن السائل كان يقول: لم أشعر) . فيحمل
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة 9 \ 44.(50/268)
الحديث المطلق على المقيد، وذلك دليل على التفريق بين الجاهل والناسي وبين العالم والعامد.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح؟ فقال: إن كان جاهلا، فليس عليه، فأما التعمد فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل، فقال: لم أشعر. قيل لأبي عبد الله: سفيان بن عيينة لا يقول: لم أشعر. فقال: نعم، ولكن مالكا والناس عن الزهري: لم أشعر (1) . .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن الأولى ترتيب أعمال يوم النحر كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف، اتباعا للسنة، وخروجا من الخلاف، لكن لو قدم الإفاضة على أعمال ذلك اليوم فلا شيء عليه، لما يلي:
1 - أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قد تضمن السؤال عن أربعة أشياء، ومنها تقديم الإفاضة على الرمي. وفي كلها يقول صلى الله عليه وسلم: «لا حرج (2) » . ونفي الحرج مع عدم الإخبار بوجوب شيء آخر دليل على نفي الإثم، وغيره كوجوب الدم، أو الإعادة؛ إذ لو كان شيئا من
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 322
(2) صحيح البخاري الحج (1721) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .(50/269)
ذلك يجب عليه لبينه؛ لأن الوقت وقت الحاجة للبيان. .
2 - وأما القول: بأن ذلك خاص بالجاهل، والناسي لقوله في الحديث: (لم أشعر) . فالجواب عنه: أن الروايات دلت على أن السؤال عن التقديم والتأخير لم يكن من شخص واحد، بل من أناس متعددين، فلا يلزم من إخبار بعضهم بعدم شعوره، أن جميعهم لم يشعروا بذلك، بل إن إخبار الراوي بعموم رفع الحرج فيما قدم أو أخر، دليل واضح على هذا المراد، كقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في آخر الحديث: «فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: " افعل ولا حرج (1) » .
3 - وأما الاستدلال بالآية، فقد أجيب عنه: بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي ذبحه فيه، وقد حصل. وإنما يتم له ما أرا د لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا (2) .
4 - وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (من قدم أو أخر
__________
(1) وأجاب بعضهم بقوله: بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو، كالترتيب بين السعي والطواف، فإنه لو سعى قبل أن يطوف، وجب عليه إعادة السعي. انظر: القرى للطبري ص 468، فتح الباري 3 \ 572.
(2) انظر: فتح الباري 3 \ 571، 572.(50/270)
شيئا من نسكه فليهرق لذلك دما) . فالجواب عنه. أنه ضعيف. وعلى تقدير الصحة فيلزم الأخذ به في كل شيء من الأربعة المذكورة، وقد تقدم بيان أن ابن عباس رضي الله عنهما ممن روى رفع الحرج في التقديم والتأخير لأعمال يوم النحر. فالمراد بالحديث - والله أعلم - ما عدا أيام يوم النحر، للأدلة الأخرى.
5 - وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما وأمره من قدم الإفاضة على الحلق والتقصير بإعادتها.
فالجواب عن ذلك: أن ذلك لعله مما خفي على ابن عمر رضي الله عنهما كما خفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض - كما سيأتي - أو يحمل ذلك على الاستحباب (1) .
__________
(1) انظر القرى للطبري ص 469.(50/271)
مسألة: ماذا يترتب على طواف الإفاضة من التحلل؟
لا خلاف بين العلماء أن التحلل من الإحرام ينقسم إلى قسمين: تحلل أصغر، وتحلل أكبر. واتفقوا على أن التحلل الأكبر يحصل بفعل أعمال يوم النحر، وأنه يحل به كل شيء كان(50/271)
حراما بالإحرام حتى النساء.، واختلفوا في التحلل الأصغر بم يحصل، وما الذي يحل به؟ وهذا ما سأتناوله في فرعين:
(الأول) : بم يحصل التحلل الأصغر؟
(الثاني) : ما الذي يحل بالتحلل الأصغر؟
فرع: بم يحصل التحلل الأصغر؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يحصل برمي جمرة العقبة، أو بخروج وقت أدائها. وإلى هذا ذهب مالك، وهو وجه للشافعية، ورواية عن أحمد، وبه قال عطاء، وأبو ثور. .(50/272)
القول الثاني: يحصل بفعل اثنين من ثلاثة وهي: الرمي، والحلق، والطواف (1) . . وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد في المشهور عنهما.
القول الثالث: يحصل بالحلق بعد الرمي، ولا يحل له بالرمي قبل الحلق شيء. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول، القائلون بأن التحلل يحصل برمي جمرة العقبة، بما يلي:
__________
(1) إن كان قد سعى للحج قبل ذلك، وإلا فإنه لا يحل إلا بالطواف والسعي معا(50/273)
بحديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل ما حرمتم منه - إلا النساء (1) » .
2 - وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء (2) » .
__________
(1) أخرجه أحمد 6 \ 295، وأبو داود في المناسك، باب الإفاضة في الحج 2 \ 207 (1999) ، والحاكم 1 \ 489، 490، وسكت عنه هو والذهبي، والبيهقي 5 \ 136، 137، كلهم من طريق ابن إسحاق عن أبي عبيدة عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث: قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 361: (رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات) وقال البنا في بلوغ الأماني 12 \ 203: (وسنده جيد) .
(2) أخرجه أبو داود في المناسك، باب في رمي الجمار 2 \ 202 (1978) ، من طريق الحجاج بن أرطأة عن الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها. قال أبو داود: (هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه) ، وقال النووي في المجموع 8 \ 226: (رواه أبو داود بإسناد ضعيف جدا) ، وأخرجه الطحاوي 2 \ 228، ولم يذكر لفظه، وإنما أحال على حديث الحجاج عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم - المتقدم - وحديث الحجاج رواه الدارقطني من عدة طرق 2 \ 276، وزاد فيه الذبح وبهذا تبين أن حديث عائشة رضي الله عنها جاء تعليق الإحلال فيه بثلاثة أمور: ا - بالاقتصار على الرمي وحده. 2 - بالرمي والحلق. 3 - بالرمي والحلق والذبح. وكلها من طريق الحجاج بن أرطأة، وقد عنعنه، وقد قال عنه ابن حجر في التقريب ص 64: (صدوق كثير الخطأ والتدليس) ، فالحديث مع ضعف سنده مضطرب متنا. (والله أعلم) ثم رأيت الألباني نبه إلى ذلك في الصحيحة 1 \ 427 وفي الضعيفة 3 \ 74 (1013) .(50/274)
3 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء (1) » . فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد «333117 رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذاك أم لا؟»
4 - وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت (3) » .
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3084) ، سنن ابن ماجه المناسك (3041) ، مسند أحمد بن حنبل (1/344) .
(2) أخرجه أحمد 6 \ 244، وأصله في الصحيحين دون قوله: (حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت) أخرجه البخاري في اللباس، باب الذريرة (81) 7 \ 61، ومسلم في باب استحباب الطيب قبل الإحرام 8 \ 99، 100.
(3) الذريرة: نوع من الطيب جموع من أخلاط. انظر النهاية لابن الأثير 2 / 157 (2)(50/275)
5 - وبحديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: من سنة الحج. . . - وفيه - فإذا رمى الجمرة الكبرى، حل له كل شيء حرم عليه، إلا النساء والطيب حتى يزور البيت.
6 - وبأثر عمر رضي الله عنه أنه قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم ما حرم عليكم إلا النساء والطيب) .(50/276)
وجه الاستدلال منها:
تعليق النبي صلى الله عليه وسلم الإحلال من الإحرام برمي جمرة العقبة، دليل على أن التحلل الأصغر يحصل برميها دون التوقف على أشياء أخر. وقد أبان عن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، كما أخبرت به عائشة رضي الله عنه، وأن تطييبها إياه كان عقب جمرة العقبة. وهو مفسر للروايات الأخرى، بأن المراد بقبل الطواف، أي: بعد رمي الجمرة.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء (1) » . .
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى، وحلق، قد حل له الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء، دليل على حصول التحلل الأصغر بالرمي والحلق.
__________
(1) أخرجه أحمد 6 \ 143، وابن خزيمة في صحيحه 4 \ 203 (2937) ، والطحاوي 2 \ 228، والدارقطني 2 \ 276، والبيهقي 5 \ 136. كلهم من طريق الحجاج بن أرطأة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها والحديث منقطع سندا، مضطرب متنا كما تقدم بيانه في استدلال أصحاب القول الأول به(50/277)
2 - وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها (1) » .
وجه الاستدلال منه:
إخبار عائشة رضي الله عنها بأنها طيبت النبي صلى الله عليه وسلم حين أحل قبل أن يطوف، دليل على أن التحلل الأصغر حصل قبل الطواف، أي بعد الرمي والحلق.
__________
(1) متفق عليه. أخرجه البخاري في الحج، باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة (143) 2 \ 195 واللفظ له، ومسلم في الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام 8 \ 98.(50/278)
3 - وقالوا: إنهما نسكان يعقبهما الحل، فكان حاصلا بهما (1) .
3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) . .
وجه الاستدلال منها:
نهي الله - سبحانه وتعالى - عن الحلق، إلى حين الذبح - ليس واجبا على كل أحد - فدل ذلك على أن التحلل يكون بالحلق بعد الرمي) (3) .
2 - واستدلوا كذلك بجملة ما استدل به أصحاب القول الأول، إلا أنهم ذهبوا إلى أن التحلل إنما حصل بالحلق بعد الرمي، وليس بالرمي وحده.
3 - وحاولوا الجمع بين أدلتهم، وأدلة أصحاب القول الثاني التي فيها تعليق التحلل بالرمي وحده، بأن تلك الأحاديث لم تذكر الحلق، فيحتمل أن يكون التحلل والتطيب بعد الحلق، ويحتمل أن يكون بعد الرمي، فالأولى أن يحمل ذلك على ما يوافق حديث عائشة، لا على ما يخالفه، فيكون التحلل والتطيب بعد الحلق (4) .
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 310.
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) نظر: المبسوط 4 \ 21.
(4) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 2 \ 229.(50/279)
4 - وقالوا: إن المعتمر إذا طاف وسعى لا يحل له الطيب والنساء إلا بعد الحلق، فدل ذلك على أن التحلل يكون به، فكذلك في الحج لا يحل له الطيب إلا بعد الحلق (1) . .
5 - وقالوا: إن التحلل من العبادة هو الخروج منها، ولا يكون ذلك بركنها، بل بما ينافيها أو بما هو محظورها، والحلق قبل أوانه محظور بخلاف الرمي، فدل ذلك على أن التحلل يكون بالحلق لا بالرمي (2) .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن التحلل الأصغر يحصل برمي جمرة العقبة. وذلك لما يلي:
1 - أن ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى لا تنهض لمعارضة أدلة هذا القول، فأحاديثهم إما غير صحيحة، كحديث عائشة رضي الله عنها وهو أقوى أدلتهم ومحورها، ولهذا سعى الطحاوي إلى حمل الأحاديث الأخرى عليه. وإما غير صريحة كحديث عائشة الآخر في الصحيحين، فإنهم حملوا قولها (. . . قبل أن يطوف) أي: بعد الرمي، والحلق، وهو احتمال فقط.
2 - أن أدلة أصحاب هذا القول صحيحة، وصريحة فيما ذهبوا إليه. فحديث أم سلمة، وحديث عائشة - في الذريرة -
__________
(1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي 2 \ 229
(2) انظر: الهداية مع شرح فتح القدير 2 \ 492.(50/280)
رضي الله عنهما أحاديث صحيحة، وفيها تعليق التحلل بالرمي وحده، دون الحلق. وكذا حديث ابن الزبير رضي الله عنهما مع ما فيه من خلاف في الحكم عليه بالرفع أو بالوقف.
3 - أن ما أشار إليه أصحاب القول الثالث من نظر. محل اعتبار، لولا وجود النصوص المشار إليها، إذ لا مجال له في مقابل النص. ومع هذا الاختيار، فالأولى بالحاج أن يؤخر التحلل حتى يحلق أو يقصر رأسه، خروجا من الخلاف. (والله أعلم) .(50/281)
فرع: ما الذي يحل بالتحلل الأصغر؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:. .
القول الأول: يحل به كل شيء إلا النساء (من الوطء، والقبلة، واللمس لشهوة، وعقد النكاح) . وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، فبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وهو قول ابن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي،(50/281)
وعبيد الله بن الحسن، وخارجة بن زيد، وأبي ثور.
القول الثاني: يحل به كل شيء إلا الوطء. وإلى هذا ذهب الشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهو مروي عن ابن عباس. .
القول الثالث: يحل به كل شيء إلا النساء، والصيد. وإلى هذا ذهب مالك، والليث. وكره(50/282)
مالك الطيب. .
الأدلة:
ا - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها (1) » . .
2 - وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر، قبل أن
__________
(1) أخرجه البخاري. في الحج، باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة (143) 2 \ 195 واللفظ له، ومسلم في الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام 8 \ 98(50/283)
يطوف بالبيت (1) » . . وجه الاستدلال منهما:
إخبار عائشة رضي الله عنها بأنها طيبت الرسول صلى الله عليه وسلم حين أحل قبل أن يطوف بالبيت، نص صريح في إباحة الطيب بالتحلل الأول.
- وبحديث أم سلمة رضي عنها أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة قبل أن تحلوا - يعني من كل ما حرمتم منه - إلا النساء (2) » . .
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى الجمرة تحلل إلا من النساء، دليل على أن التحلل الأصغر يحل به كل شيء من طيب، وصيد، وغيرهما إلا النساء.
4 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (إذا رميتم الجمرة، وذبحتم، وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم إلا النساء والطيب) . قال سالم بن عبد الله: وقالت عائشة: «أنا طيبت رسول صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله بعد أن رمى جمرة العقبة، وقبل أن يزور البيت (3) » قال سالم: (وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع) .
__________
(1) تقدم تخريجه
(2) أخرجه أحمد 6 \ 295، وأبو داود في المناسك باب الإفاضة في الحج 2 \ 207 (1999) ، والحاكم 1 \ 489، 490، وسكت عنه هو والذهبي، والبيهقي 5 \ 136، 137، كلهم من طريق ابن إسحاق عن أبي عبيدة عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث: قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 361: (رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات) وقال البنا في بلوغ الأماني 12 \ 203: (وسنده جيد)
(3) صحيح البخاري الغسل (270) ، صحيح مسلم الحج (1189) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2685) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) ، موطأ مالك الحج (727) ، سنن الدارمي المناسك (1802) .(50/284)
وجه الاستدلال منه:
إخبار عمر رضي الله عنه بأن التحلل الأصغر يحل به كل شيء إلا النساء والطيب، ومخالفة عائشة رضي الله عنها له في الطيب، وإخبارها بأمر شهدته، وعلمته أكثر من غيرها؛ لأنها باشرت بنفسها تطييب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال سالم: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. فدل ذلك على أن التحلل الأصغر يحل به كل شيء إلا النساء.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء (1) » .
وجه الاستدلال منه:
أن إباحة الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء بالتحلل الأصغر دليل على أنه لم يبق من المحرمات شيء إلا الوطء في الفرج؛ لأن الطيب من دواعي الجماع.
2 - وقالوا: إن الوطء في الفرج أغلظ المحرمات، ويفسد
__________
(1) أخرجه أحمد 6 \ 143، وابن خزيمة في صحيحه 4 \ 203 (2937) ، والطحاوي 2 \ 228، والدارقطني 2 \ 276، والبيهقي 5 \ 136. كلهم من طريق الحجاج بن أرطأة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها والحديث منقطع سندا، مضطرب متنا كما تقدم بيانه في استدلال أصحاب القول الأول به، وقد استدل به صاحب المهذب من الشافعية(50/285)
النسك بخلاف غيره (1) .
3 - وقالوا: إن القبلة والملامسة وغيرها من دواعي الجماع لا تفسد الإحرام، فتحل بالتحلل الأصغر كالطيب.
واستدل أصحاب القول الثالث على تحريم قتل الصيد بما يلي:
- بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) . .
وجه الاستدلال منها:
أن الله - سبحانه وتعالى - نهى عن قتل الصيد حال الإحرام، ومن تحلل التحلل الأصغر، لم يزل محرما؛ لأن التحلل الأكبر إنما يكون بعد الطواف. فدل ذلك على تحريم الصيد، فلا ترتفع حرمته إلا بتمام الإحلال.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أنه يحل بالتحلل الأصغر كل شيء إلا النساء، وذلك لما يلي:
1 - الأدلة التي استدلوا بها صحيحة، صريحة، فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة نص في الموضوع، إذ أخبر أن المحرم يحل له برمي جمرة العقبة ما حرم عليه بالإحرام، ولم يستثن إلا النساء، فدل ذلك على أنه يحل له كل شيء إلا النساء.
__________
(1) انظر: المغني، 5 \ 308.
(2) سورة المائدة الآية 95(50/286)
2 - أن من استثنى الوطء وحده، إنما خصه لمخالفته بقية المحظورات، إذ يفسد النسك دون غيره من المحظورات، وهذا استثناء عقلي، لا يصح تخصيص عموم الحديث به.
3 - أن قياس القبلة، والمباشرة على الطيب بجامع أن كلا منهما من دواعي الجماع لا يسلم، لمخالفة الطيب لهما وغيرهما في كثير من الأمور، فهو مشروع في اجتماعات الناس ولقاءاتهم، بخلاف القبلة، والمباشرة فإنهما من قضاء الشهوة المتعلقة بالنساء.
4 - أن قياس الطيب عليهما أيضا غير صحيح للفارق بينهما، ولأنه قياس في مقابل النص الدال على جوازه وإباحته.
5 - أن الاستدلال بالآية لتحريم الصيد لا يسلم؛ لأن المحرم إذا تحلل من إحرامه - وإن لم يكن الحل كله - فليس في الآية ما يدل على عدم إباحته بالتحلل. وحديث أم سلمة - كما تقدم - لم يستثن إلا النساء فقط، فيكون الصيد من الأشياء التي حلت بالتحلل الأصغر، وقياسه على النساء فيه بعد ظاهر. (والله أعلم) .(50/287)
المبحث الثالث: طواف الوداع::
يشرع للخارج من مكة أن يودع البيت العتيق بالطواف، كما شرع له عند دخولها أن يبادر البيت بالطواف ليحييه، وأن يكون هذا الطواف آخر أعماله، ليكون وداعا له، ولهذه الأماكن المقدسة، بعد أداء هذه العبادة العظيمة وقضاء مناسكه، وقد كان الناس يصدرون بعد حجهم من كل مكان، فأمروا أن يكون آخر عهدهم بالبيت. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » . .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78(50/288)
وسأتناول في هذا المبحث معرفة حكمه، وعلى من يكون، ووقته، وماذا يلزم من خرج ولم يودع؟ وذلك في مطلبين:(50/289)
المطلب الأول: حكم طواف الوداع، وعلى من يكون؟
سأتناول دراسة هذا المطلب في مسألتين:
المسألة الأولى: حكم طواف الوداع.
المسألة الثانية: على من يكون؟
مسألة: حكم طواف الوداع:
اختلف العلماء في حكم طواف الوداع على قولين:
القول الأول: أنه واجب، يجب بتركه دم، إلا أنه يعفى عن المرأة الحائض، والنفساء. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور عنهما، وبه قال الحسن، والحكم، وحماد، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور.(50/289)
القول الثاني: أنه مستحب، لا يجب بتركه شيء. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) .(50/290)
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » .
وجه الاستدلال منهما من وجهين:
(أحدهما) قول ابن عباس رضي الله عنهم: (أمر الناس) دليل على أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب طواف الوداع، ونهيه عليه الصلاة والسلام الناس عن النفر حتى يطوفوا بالبيت، دليل على وجوبه أيضا.
(الثاني) أن تخصيص الحائض بإسقاطه عنها، دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها معنى.
3 - قالوا: إن سقوطه عن الحائض لا يدل على عدم وجوبه على غيرها، كالصلاة تسقط عن الحائض، وهي واجبة على غيرها.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحابستنا هي؟ " فقلت: يا رسول
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78.(50/291)
الله، إنها قد كانت أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلتنفر (1) » .
وجه الاستدلال منه:
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحائض تقيم حتى تطهر لطواف الإفاضة، وأن لها أن تنفر قبل الوداع، دليل على سقوطه عنها، وعلى عدم وجوبه، إذ لو كان واجبا لأمرت بالإقامة له، أو لوجب بتركه شيء. .
2 - وقالوا: إن طواف الوداع، لتوديع البيت، فلم يكن واجبا كطواف القدوم تحية للبيت.
3 - وقالوا: إنه لو كان نسكا واجبا لاستوى فيه حال المعذور وغيره، والمقيم بمكة وغير المقيم بها، فلما لم يكن نسكا للمقيم والحائض يلزمهما بتركه دم، لم يكن نسكا لغيرهما،
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 80، وأصل الحديث عند البخاري بألفاظ متقاربة وقد تقدم(50/292)
ولم يلزم بتركه دم (1) . .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه دم، إلا أنه يعفى عن المرأة الحائض والنفساء. وذلك لما يلي:
1 - أن ما استدلوا به من أحاديث دالة على وجوبه، إذ فيها الأمر بأن يكون آخر عهدهم بالبيت، ونهيهم عن النفر إلا بعد الطواف، وذلك دليل الوجوب.
2 - أن سقوطه عن الحائض ليس دليلا على عدم وجوبه على غيرها، بل هو دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو لم يكن واجبا على غيرها لما كان لتخصيصها معنى.
3 - أن القول بوجوبه، يستلزم وجوب الدم بتركه، لأن واجبات الحج تجبر بالدم. (والله أعلم) .
__________
(1) انظر: الحاوي 4 \ 213(50/293)
مسألة: على من يكون طواف الوداع؟
سبقت الإشارة إلى أن طواف الوداع يشرع لكل خارج من مكة، سواء قيل بوجوبه أم باستحبابه، وسأتناول في هذه المسألة بعضا ممن اختلف العلماء هل يكون عليهم طواف الوداع كغيرهم أم لا؟ وهم:
- من أراد الإقامة بمكة.(50/293)
- من كان منزله قريبا من مكة.
- المرأة الحائض.
الطواف لغير الحاج.(50/294)
فرع: من أراد الإقامة بمكة:
من أتى مكة لأداء المناسك لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها. ومن أراد الإقامة، إما أن ينوي الإقامة قبل النفر، أو بعده. فإن نوى الإقامة قبل النفر، فلا وداع عليه كالمكي، لأنه لا وداع إلا على من أراد الخروج من مكة. قال الكاساني: (فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر، أي لا يجب عليه بالإجماع) .(50/294)
أما إن نوى الإقامة بعد النفر، اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه إن نوى الإقامة ولو بعد النفر فلا وداع عليه. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف.
القول الثاني: أنه إن نوى الإقامة بعد النفر فعليه الوداع وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد حتى يطوف للوداع، فدل
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78.(50/295)
ذلك على أن من أراد الإقامة، ولم يرد النفر فليس عليه أن يطوف للوداع.
2 - أن من أراد الإقامة بعد حل النفر فليس عليه طواف الوداع، كمن نوى الإقامة قبل حل النفر (1) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
أن من نوى الإقامة بعد أن حل النفر، لم يسقط عنه الطواف؛ لأنه وجب عليه بدخول وقته، فلا تؤثر نية الإقامة في رفعه.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، أن من نوى الإقامة فلا وداع عليه وذلك لما يلي:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد من مكة حتى يكون آخر عهده بالبيت، فلا مدخل لنية الإقامة في الوجوب وعدمه؛ لأنه إنما يجب بالعزم على الخروج، فإذا انعدم العزم لم يجب.
لا فرق بين من نوى الإقامة قبل حل النفر وبعده؛ إذ كل منهما لم يتحقق منه النفر، فلم يجب عليهما. (والله أعلم) .
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 336.(50/296)
فرع: من كان منزله قريبا من مكة:
اختلف العلماء القائلون بمشروعية طواف الوداع، وأنه(50/296)
يشرع لكل خارج من مكة، هل ذلك خاص بمن كان منزله بعيدا عن مكة، أم يشمل أيضا القريب منها؟ وما حد القرب والبعد؟
القول الأول: أن طواف الوداع يشرع لكل خارج من مكة أو الحرم، إذا قصد منزله، أو الإقامة الطويلة بمكان ولو كان ذلك قريبا، كمن منزله بذي طوى، أو التنعيم. أما من خرج ليعود فإن كان المكان بعيدا كالجحفة، فعليه أن يودع، وإن كان المكان قريبا كالتنعيم والجعرانة مما هو دون المواقيت فلا وداع عليه.
إلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور. .
القول الثاني: أن من دون المواقيت فهم بمنزلة أهل مكة لا وداع عليهم. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(50/297)
«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » . .
وجه الاستدلال منه:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، فدل ذلك على وجوب الطواف لكل خارج من مكة، ويستوي في ذلك القريب والبعيد.
2 - أنه خارج مكة فلزمه التوديع كالبعيد.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
- قالوا: إن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت، لهذا يسمى طواف الوداع، وهذا لا يوجد في أهل مكة، لأنهم في وطنهم، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة، فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة (2) .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه الجمهور: أن طواف الوداع على كل خارج من مكة أو الحرم، لما يلي:
1 - أن عموم الأحاديث يتناول كل خارج من مكة، ويشمل ذلك القريب والبعيد
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78
(2) انظر: بدائع الصنائع 2 \ 142.(50/298)
2 - أن الخارج من مكة مفارق للبيت، ويستوي في ذلك القريب والبعيد. (والله أعلم) .(50/299)
فرع: المرأة الحائض:
إذا حاضت المرأة قبل أن تطوف للوداع هل يلزمها أن تقيم بمكة إلى أن تطهر ثم تطوف للوداع أم لا يلزمها ذلك؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف للوداع، لا يلزمها أن تقيم لتودع، بل لها أن تخرج، ولا وداع عليها، ولا فدية. وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء، من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار. .
القول الثاني: أنه يلزمها أن تقيم بمكة إلى أن تطهر، ثم تطوف للوداع. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم (1) . .
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 341(50/299)
الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث عائشة رضي الله عنها: «أن صفية بنت حيي رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت. قال: " فلا إذا ". وفي رواية: " فلتنفر (1) » . .
وجه الاستدلال منه:
قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم أن صفية قد أفاضت: " فلا إذا " وقوله: " فلتنفر " دليل على أن المرأة الحائض لا تحبس لطواف الوداع كما تحبس لطواف الإفاضة، وأن لها أن تنفر من مكة من غير وداع، ولا شيء عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليها شيئا.
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) .
وجه الاستدلال منه:
إخبار ابن عباس رضي الله عنهما بأن الناس أمروا بطواف الوداع إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، دليل على أن المرأة الحائض ليست مأمورة كغيرها بطواف الوداع، وأن لها أن تنفر، ولا شيء عليها.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 81، 82(50/300)
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض؟ قال: (ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت) . فقال الحارث: (كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: عمر رضي الله عنه: (أربت. عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيما أخالف) .
وجه الاستدلال منه:
إخبار الحارث رضي الله عنه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفتاه بما أفتاه به عمر رضي الله عنه بأن على الحائض أن يكون آخر عهدها بالبيت، دليل على وجوب طواف الوداع على المرأة الحائض.(50/301)
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفر أحد حتى يطوف طواف الوداع، فدل ذلك على وجوبه على كل أحد حتى على المرأة الحائض.
3 - «وبفعله صلى الله عليه وسلم وأنه طاف للوداع قبل خروجه (2) » ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم (3) » . .
وجه الاستدلال منه:
أمره صلى الله عليه وسلم الحجاج بأن يفعلوا في مناسكهم كفعله، وقد طاف صلى الله عليه وسلم للوداع، فدل ذلك على وجوبه على جميع الحجاج ومنهم الحائض.
3 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78.
(2) أخرجه البخاري في الحج باب قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) (33) 2 \ 150، ومسلم في الحج باب بيان وجوه الإحرام 8 \ 149 من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه (فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة) وهذا لفظ مسلم
(3) جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة 9 \ 44(50/302)
بالبيت) . .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن طواف الوداع لا يلزم المرأة الحائض، وأن لها أن تنفر، ولا شيء عليها. وذلك لما يلي:
1 - أن قصة صفية رضي الله عنها، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تنفر، دليل صريح صحيح، أن المرأة الحائض لا يلزمها أن تقيم لتطوف للوداع.
2 - أن ما روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنهم قد ثبت عنهما الرجوع عنه، فقد أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن طاوس قال: (كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت) . فقال له ابن عباس: (إما لا فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت) (1) . .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 9 \ 79(50/303)
وأخرج البخاري بسنده عن طاوس - أيضا - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت) قال: وسمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (لا تنفر) ، ثم سمعته يقول بعد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن) .
فهذا دليل على أنهما كانا يفتيان بذلك؛ لعدم علمهما بالرخصة للحائض، فلما علما بها رجعا عن قولهما، وكذلك رجع عمر رضي الله عنه عن قوله، فقد أخرج ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن نافع قال: رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشى. كن أفضن يوم النحر، ثم حضن، فنفرن فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت، ثم بلغ(50/304)
عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول (1) . (والله أعلم) .
2 - أن حديث الحارث الثقفي رضي الله عنه إنما كان في أول الأمر، ثم رخص وخفف عن المرأة الحائض، وأذن لها بأن تنفر إن هي طافت للزيارة، كما أخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يعلم عمر رضي الله عنه ومن وافقه برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقاموا على ما معهم من علم، ولو علموا بالرخصة لرجعوا عن قولهم كما رجع غيرهم - وقد تبين أنهم رجعوا -.
قال الطحاوي - رحمه الله - بعد أن أورد الآثار الدالة على الرخصة للحائض بترك طواف الوداع: (فهذه الآثار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحائض لها أن تنفر قبل أن تطوف طواف الصدر إذا كانت قد طافت طواف الزيارة قبل ذلك طاهرا.
ورجع قوم إلى ذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان قد قال بخلافه، فثبت بذلك نسخ هذه الآثار، لحديث الحارث بن أوس، وما كان ذهب إليه عمر من ذلك) (2) .
وذهب آخرون إلى أن حديث الحارث الثقفي، وإن كان ظاهره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاه بأن على الحائض أن يكون آخر عهدها بالبيت. فليس ذلك مرادا، بل مراده رضي الله عنه
__________
(1) المحلى 7 \ 171، 172
(2) شرح معاني الآثار 2 \ 235(50/305)
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج البيت أو اعتمر، فليكن آخر عهده بالبيت (1) » واللفظ ظاهر في العموم، ثم سأل عمر عن صورة من صور العموم، فأفتاه بما يطابق العموم، ولم يعلما أن تلك الصورة مخصوصة من هذا اللفظ (2) .، يبين ذلك ما جاء في بعض طرق الحديث عن الحارث أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج البيت أو اعتمر، فليكن آخر عهده بالبيت (3) » فبلغ حديثه عمر، فقال له: خررت من يديك. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تخبرنا به.
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946) ، مسند أحمد بن حنبل (3/417) .
(2) انظر: المحلى 7 \ 172، شرح العمدة في بيان مناسك الحج لابن تيمية 2 \ 571
(3) سنن الترمذي الحج (946) ، مسند أحمد بن حنبل (3/417) .(50/306)
فرع: طواف الوداع لغير الحاج:
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في طواف الوداع، هل هو خاص بالحاج فقط، أم هو لكل من أراد الخروج من مكة وإن كان من أهلها؟ على عدة أقوال:
القول الأول: أنه خاص بالحج، فمن دخل مكة حاجا فلا يخرج منها حتى يكون آخر عهده بالبيت. وإلى هذا ذهب(50/306)
أبو حنيفة، وأحمد في المشهور.
القول الثاني: أنه خاص بالنسك، فمن دخل مكة حاجا أو معتمرا فعليه أن يطوف للوداع. وإلى هذا ذهب الشافعي، والحسن، وابن حزم.
القول الثالث: أن طواف الوداع لكل خارج من مكة، ولو كان من أهلها، إذا قصد مسكنه، أو الإقامة الطويلة - ولو كان المكان قريبا - أو قصد مكانا بعيدا، ولو بنية العودة. أما إذا قصد(50/307)
التردد عليها، أو قصد مكانا قريبا بنية العودة، فلا وداع عليه. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي في الأصح، وهو المعتمد، وأحمد. الأدلة:
1 - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الناس ينفرون من منى إلى وجوههم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر عهدهم بالبيت، ورخص للحائض (1) » . .
__________
(1) أخرجه الحاكم 1 \ 476، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والدارقطني 2 \ 299. من طريق عبد الرزاق أنبا زكريا بن إسحاق عن سليمان الأحول أنه سمع طاوسا يحدث عن ابن عباس به، وهذا إسناد صحيح - إن شاء الله - وأصله عند مسلم من طريق سفيان عن سليمان الأحول، دون هذه الزيادة، وقد تقدم(50/308)
وجه الاستدلال منه:
إخبار ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا ينفرون بعد فراغهم من الحج من منى، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت، فدل ذلك على أن الوداع خاص بالحجاج دون غيرهم من المعتمرين أو المقيمين.
2 - وبفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف للوداع، وأمر به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم (1) » .
وجه الاستدلال منه:
طوافه صلى الله عليه وسلم للوداع، مع قوله: «خذوا عني مناسككم (2) » دليل على أنه من مناسك الحج.
3 - وبأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أكثر من مرة، ولم يرو أنه طاف للوداع أو أمر به، فدل ذلك على أنه خاص بالحج. .
4 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يصدرن أحد من الحاج، حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت) .
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة 9 \ 44.
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(50/309)
5 - وقالوا: إن معظم الركن في العمرة الطواف، وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر كالوقوف في الحج؛ لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك، ولأن ما هو معظم الركن مقصود، وطواف الصدر تبع، يجب لقصد توديع البيت، والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا (1) . .
وجه الاستدلال منه:
نهي عمر رضي الله عنه الحاج عن الصدور حتى يطوف بالبيت، وإخباره بأنه آخر المناسك، دليل على أن طواف الوداع من مناسك الحج.
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بحديث الحارث الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت (2) » . .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحاج والمعتمر بأن يكون آخر عهده بالبيت، فدل ذلك على أنه مرتبط بالنسك من حج أو عمرة.
2 - وقد يقال: بأن العمرة أحد النسكين، فيجب فيها ما يجب في الحج من الوداع عند الخروج.
__________
(1) انظر: المبسوط 4 \ 35
(2) تقدم تخريجه، وبيان ضعفه(50/310)
3 - استدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
1 - بحديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (1) » . .
وجه الاستدلال منه:
إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثا، بعد قضاء نسكه. وطواف الوداع إنما يكون آخر العهد بمكة، وسماه قبله قاضيا للمناسك، وحقيقته أن يكون قضاها كلها، فدل ذلك على أن طواف الوداع ليس من المناسك (2) . .
2 - أن المكي إذا حج ونوى الإقامة بوطنه، وكذا الآفاقي إذا حج ونوى الإقامة بمكة قبل النفر لا وداع عليه، فلو كان من جملة المناسك لعم الحجيج (3) . .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن طواف الوداع خاص بالحاج إذا أراد الخروج من مكة. وذلك لما يلي:
1 - ما جاء من الأحاديث المطلقة الآمرة بأن يكون آخر عهد الناس بالبيت، قد بين حديث ابن عباس الآخر أن المراد بذلك الحجاج الذين كانوا ينفرون من منى، فإنهم المأمورون بذلك دون غيرهم.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر 9 \ 121
(2) انظر: شرح مسلم للنووي 9 \ 122، المجموع 8 \ 256
(3) انظر: شرح مسلم للنووي 9 \ 122، المجموع 8 \ 256. الفروع 3 \ 521(50/311)
2 - سقوطه عن المقيم، والحائض لا يستلزم أن يكون غير نسك؛ لأن طواف القدوم يسقط عن الحائض، ولا يلزم المقيم، وهو كما قال ابن جماعة: (من المناسك بلا شك) (1) . .
3 - لا يشكل على هذا حديث العلاء، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحاج قد قضى مناسكه قبل طواف الوداع؛ لأن المراد - والله أعلم - قضى أغلبها وأكثرها، أو يكون المراد: قضى المناسك المؤقتة كالوقوف، والمبيت، والرمي.
__________
(1) هداية السالك 1232(50/312)
المطلب الثاني: وقت طواف الوداع، وما يلزم من خرج ولم يودع؟
سأتناول دراسة هذا المطلب في مسألتين:
المسألة الأولى: وقت طواف الوداع.
المسألة الثانية: ماذا يلزم من خرج ولم يودع؟
مسألة: وقت طواف الوداع:
إذا أراد أحد الخروج من مكة طاف للوداع، ليكون آخر عهده من تلك المناسك والأماكن بالبيت، كما يودع المسافر إخوانه وأهله إذا أراد مفارقتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » . .
وإن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78(50/312)
في طريقه، لم يعده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت (1) .
وكذا إن اشتغل بأسباب الخروج كحزم الأمتعة، وإعداد الرواحل. .
أما إن اشتغل بعده بغير أسباب الخروج كتجارة، أو إقامة، فهل عليه إعادة الطواف مرة أخرى؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن عليه الإعادة. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وبه قال عطاء، والثوري، وأبو ثور، وأبو يوسف، والحسن، وابن حزم. .
__________
(1) قال الموفق في المغني 5 \ 339: (وبهذا قال مالك، والشافعي، ولا نعلم مخالفا لهما) .(50/313)
القول الثاني: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد طواف الزيارة، أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام شهرا أو أكثر. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وأشهب من المالكية.(50/314)
الأدلة:
أ - استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت. .
2 - وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » . .
وجه الاستدلال منهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون آخر العهد الطواف بالبيت، فمن أقام بعد طوافه لم يكن آخر عهده الطواف بالبيت، فدل ذلك على أنه يلزمه إعادة الطواف مرة أخرى.
3 - وقالوا: إذا أقام بعد الطواف، خرج أن يكون طوافه وداعا، فلم يجزئه، كما لو طاف قبل حل النفر (2) .
2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 - بالأحاديث السابقة.
وجه استدلالهم منها:
قالوا إن المراد بالحديثين أن يكون آخر عهده بالبيت
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78
(2) انظر: المغني 5 \ 339.(50/315)
نسكا، لا إقامة، والطواف آخر مناسكه بالبيت، وإن تشاغل بغيره.
2 - وبأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يصدرن أحد من الحاج، حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت) .
وجه الاستدلال منه:
إخبار عمر رضي الله عنه أن الطواف آخر المناسك، دليل على أنه ينبغي أن يكون آخر المناسك، ولو أقام بعده.
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن من أقام بعد طواف الوداع، أو اشتغل بعده بغير أسباب الخروج، فعليه إعادة الطواف مرة أخرى؛ لما يلي:
1 - أن المراد بالأحاديث أن يكون آخر العهد بالبيت، أي: لمن أراد الخروج من مكة وعدم الإقامة بها، ويدل على ذلك أيضا: قول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان الناس ينصرفون في كل وجه) (1) . فحمل ذلك على أن المراد أن يكون آخر العهد بالبيت نسكا، فيه بعد ظاهر.
2 - أن الإقامة بعد الطواف، تخرجه عن أن يكون آخر العهد
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب وجوب طواف الوداع 9 \ 78(50/316)
بالبيت، وأن يكون توديعا له؛ لأن الوداع إنما يكون عند إرادة المفارقة. (والله أعلم) .(50/317)
مسألة: ماذا يلزم من خرج ولم يطف للوداع؟
سبقت الإشارة إلى أن على من أراد الخروج من مكة، ألا يخرج منها حتى يكون آخر عهده بالبيت، فإن خرج ولم يطف لجهل أو خطأ أو غير ذلك، فإن زال ذلك السبب فلا يخلو حاله من أحد أمرين:
أ - إما أن يكون قريبا.
ب - إما أن يكون بعيدا.
(أ) فإن كان قريبا: ولم يمنع من رجوعه مانع كفوات رفقة أو مال، فإن عليه أن يعود، ويطوف ثم يخرج، ولا شيء عليه، بلا خلاف بين العلماء، سواء من قال بوجوبه أو باستحبابه.، فقد أخرج مالك عن يحيى بن سعيد: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد رجلا من مر الظهران. - لم يكن ودع(50/317)
البيت - حتى ودع) (1) .، فإن لم يرجع، فعليه دم، على القول بوجوبه؛ لأنه ترك واجبا من واجبات الحج، ويستوي في ذلك العمد والخطأ، والعلم والجهل، والعذر وعدمه.
(ب) أما إن كان بعيدا: فلا يلزمه الرجوع إلى مكة ليطوف، وعليه دم - على القول بوجوبه - لتركه واجبا من واجبات الحج.
فإن رجع، فهل يسقط عنه الدم أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يسقط عنه الدم؛ لأن الواجب عليه الطواف، وقد أتى به، فلم يجب عليه بدله كالقريب. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعية في وجه، وجعله الموفق ابن قدامة احتمالا. .
القول الثاني: أنه لا يسقط عنه الدم؛ لأنه استقر عليه، فلم يسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم، فأحرم دونه ثم
__________
(1) الموطأ في الحج، باب وداع البيت 1 \ 370 (121)(50/318)
رجع إليه. وإلى هذا ذهب الشافعية في الأصح، وأحمد. .
واختلفوا في حد القرب والبعد على أقوال:
القول الأول: القريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر. والبعيد: من بلغ مسافة القصر. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد. .
القول الثاني: القريب: ما دون المواقيت، والبعيد: ما جاوز المواقيت. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك القول الثالث: القريب: من كان في الحرم، والبعيد: من خرج عنه. وإلى هذا ذهب الثوري (1) .
الرأي المختار:
سبق أن المختار: وجوب الدم بترك طواف الوداع، والذي أختاره في هذه المسألة هو الرأي الأول: أن من رجع ليطوف للوداع، سقط عنه الدم؛ لأنه أتى بالواجب، فلم يجب عليه
__________
(1) انظر: المغني 5 \ 339، وحكي عن عطاء أنه كان يرى الطائف قريبا.(50/319)
بدله. كمن تجاوز الميقات، ثم رجع إليه فأحرم منه، فلا شيء عليه.
وأن حد القرب والبعد، مسافة القصر فما كان دونها فهو قريب، وما جاوزها فهو بعيد؛ لأن مسافة القصر حد منضبط، بخلاف المواقيت فإنها متفاوتة في البعد. (والله أعلم) .(50/320)
الخاتمة
بعد هذه الدراسة للمباحث والمسائل التي اشتمل عليها هذا البحث يمكن إبراز أهم نتائجه فيما يلي:
1 - أن الطواف في الاصطلاح هو: الدوران حول الكعبة على صفة مخصوصة.
2 - أن الطواف حول الكعبة، مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو من العبادات المشروعة في الأمم السابقة.
3 - أن الطواف حول غير الكعبة، كالأضرحة والقبور لا يجوز بل هو من أخطر الذنوب، فهو داخل في دائرة الشرك الأكبر إذا كان تعظيما لصاحب القبر، وتقربا إليه.(50/320)
4 - أن جملة أنواع الطواف المتعلقة بالمناسك ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
5 - أن طواف القدوم للمعتمر هو طواف العمرة، فطواف عمرته يجزئ عن طواف القدوم، فلا يشرع له أن يطوف للقدوم قبل العمرة، ولا بعدها، وهذا الطواف في العمرة ركن من أركانها بالإجماع.
6 - أن المتمتع كالمعتمر طوافه الأول لعمرته، ويجزئ عن طواف القدوم، فلا يشرع له طواف للقدوم لا قبل الوقوف بعرفة ولا بعدها
7 - أن المفرد والقارن يشرع لهما طواف القدوم إذا دخلا مكة قبل الوقوف بعرفة، أما إذا لم يدخلاها إلا بعد الوقوف بعرفة، فإن طواف القدوم يسقط عنهما، أو يجزئ عنه طواف الإفاضة.
8 - أن طواف القدوم سنة، وليس بواجب، فلا يجب بتركه دم.
9 - أن القارن إنما يلزمه طواف واحد لحجه وعمرته كالمفرد.
10 - أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج بالإجماع، فلا يتم الحج إلا به.
11 - أن أفضل الأوقات لطواف الإفاضة، ضحى يوم النحر، اتباعا للسنة. وخروجا من الخلاف.
12 - أن وقت طواف الإفاضة يبدأ من منتصف ليلة النحر، وليس له وقت ينتهي إليه، بل يمتد إلى ما بعد شهر ذي الحجة،(50/321)
ولا يجب بتأخيره دم.
13 - أن الأولى ترتيب أعمال يوم النحر بأن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف اتباعا للسنة، وخروجا من الخلاف، لكن لو قدم الإفاضة على أعمال ذلك اليوم، صح طوافه، ولا شيء عليه.
14 - أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه دم، إلا أنه يعفى عن المرأة الحائض والنفساء، فلها أن تنفر ولا شيء عليها.
15 - أن طواف الوداع إنما هو للخارج من مكة ولو كان منزله قريبا، فمن نوى الإقامة بها فلا وداع عليه.
16 - أن طواف الوداع خاص بالحاج، فلا يلزم المعتمر، ولا المكي.
17 - أن من أقام بعد طواف الوداع، أو اشتغل بغير أسباب الخروج، فعليه إعادة الطواف مرة أخرى، ليكون الطواف آخر عهده بالبيت.
18 - أن من خرج ولم يطف للوداع، فإن كان قريبا، ولم يشق عليه الرجوع، رجع للوداع ولا شيء عليه. وإن كان بعيدا، أو يشق عليه الرجوع، لم يلزمه الرجوع، وعليه دم، فإن رجع فلا شيء عليه.
19 - أن حد القرب والبعد، مسافة القصر، فما كان دونها فهو قريب وما جاوزها فهو بعيد.
والله أعلم. والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المبعوث بخاتم الرسالات وعلى آله وصحبه.(50/322)
طلاق المكره والغضبان
للشيخ: هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
أما بعد:
فمن أدرى بصلاح النفس من بارئها، ومن أعرف بحالها من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(50/323)
خالقها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) ، إن الذي سوى النفس فألهمها فجورها وتقواها لهو أعلم بما يصلحها ويسلك بها سبيل التقوى، أفترى هؤلاء اللاهثين وراء سراب التقدم والحرية أعلم بالبرية من بارئها؟ لا والله {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (2) ، إن في الإسلام لمنهجا في الحياة فريدا، ومسلكا للسعادة وحيدا، فيه سعادة البشرية جمعاء، وفيه الحل لجميع مشكلاتها ومعضلاتها.
وهنا في هذه الورقات سنستعرض آراء جمع من فقهاء الإسلام المبنية على نصوص الوحيين، في مسألتين مهمتين من مسائل كتاب الطلاق، وهما طلاق المكره، وطلاق الغضبان، حيث سنستعرض أقوالهم وأدلتهم، وما نوقشت به، مستخرجين الرأي الراجح من اجتهاداتهم، والحق أنني قد توقفت كثيرا عندما نظرت في أدلة كل قول خاصة في المسألة الثانية عندما تتكافأ الأدلة وتتوارد المناقشات على كل قول، حتى اطلعت على عبارة من العبارات الفذة التي سطرتها يراع العلامة النحرير، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه الله - في (الاختيارات الفقهية) حيث قال: (وأكثر من تميز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما، لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أن عنده ما
__________
(1) سورة الملك الآية 14
(2) سورة النساء الآية 27(50/324)
لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى للاجتهاد. . . إلى آخر ما قاله رحمه الله) (1) .
فعملت بقاعدته، واتبعت مسيرته، فرجحت ما ظهر لي رجحانه.
أما البحث فقد جعلته في تمهيد وفصلين وخاتمة.
فتناولت في التمهيد ثلاث مباحث:
المبحث الأول: في تعريف الطلاق.
وفيه مطلبان:
الأول: في تعريف الطلاق لغة.
والثاني: في تعريفه شرعا.
المبحث الثاني: في أدلة مشروعية الطلاق.
المبحث الثالث: في الحكمة من مشروعيته.
أما الفصل الأول: فقد قسمته إلى مبحثين بعد التمهيد.
فالتمهيد: في تعريف الإكراه لغة وشرعا.
المبحث الأول: أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه.
المبحث الثاني: طلاق المكره، الأقوال والأدلة والترجيح.
أما الفصل الثاني: فقد قسمته إلى تمهيد ومبحث واحد.
فالتمهيد: في تعريف الغضب وحالاته.
__________
(1) الاختيارات نقلا عن طريق الوصول لابن سعدي ص 125.(50/325)
والمبحث في حكم طلاقه، الأقوال والأدلة والترجيح.
أما الخاتمة فعرضت فيها أبرز النتائج التي استخلصتها من البحث.
هذا ولتعلم أيها القارئ في هذا البحث والناظر فيه أني لم آل جهدا في تحرير مباحثه واستيفاء مسائله، ولكني أرى عملي قاصرا لقصور كاتبه، وناقصا لنقص راقمه، وفاترا لفتور مقيده.
وهذا جهد المقل فإن أصبت فمن الله وحده، وفق وألهم، وسهل ويسر، وإن أخطأت فمني الخطأ، وأستغفر الله {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 8(50/326)
تمهيد
المبحث الأول: تعريف الطلاق:
المطلب الأول: تعريف الطلاق لغة:
الطلاق: مصدر طلقت المرأة وطلقت (1) تطلق طلاقا فهي طالق. ويدل على الترك والتخلية، يقال طلق البلاد أي تركها، وأطلق الأسير أي خلاه.
__________
(1) بفتح اللام وضمها كما قال ثعلب من أهل اللغة (اللسان 4 \ 2696) وهو ما ذكره صاحب المطلع (333) .(50/326)
ويستعمل في معان أخر فيطلق على الصفو الطيب الحلال، فيقال: هو لك طلق أي حلال، ويطلق على البعد، يقال: طلق فلان إذا تباعد، ويطلق على الخروج، يقال: أنت طلق من هذا الأمر أي خارج منه.
وهذه المعاني المذكورة إذا أنعمنا النظر فيها وجدنا بينها وبين مقصود الطلاق ترابطا واضحا، فالمطلق تارك لزوجته وهو أيضا قد أحلها لغيره، وقد باعدها بفراقه لها، وقد خرج أيضا عن العقد الذي كان يربطهما، فالطلاق قد اجتمعت فيه هذه المعاني جميعا.(50/327)
المطلب الثاني: تعريف الطلاق شرعا:
تنوعت عبارات الفقهاء، وتعددت تعريفاتهم للطلاق في العرف الشرعي، وقد حرصت على اختيار التعريف الجامع المانع منها وهو: (حل قيد النكاح (أو بعضه) في الحال أو المآل بلفظ مخصوص) .
وهو الذي عرفه به في الدر المختار (1) ، ومعناه متفق عليه
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين عليه (2 \ 414) .(50/327)
بين أهل العلم، وقد أضفت لتعريفه قيدا وهو (أو بعضه) وفائدته إدخال الطلاق الرجعي.(50/328)
المبحث الثاني: أدلة مشروعية الطلاق:
دل على مشروعية الطلاق الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) .
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق (3) » ، «وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها (4) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) رواه ابن ماجه في سننه كتاب (الطلاق) باب طلاق العبد، برقم (2081) ، والدارقطني في سننه كتاب (الطلاق والخلع والإيلاء) (4 \ 37) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الدارقطني مرسلا عن عكرمة وعن عصمة ابن مالك، وفي إسناد المرفوع عند الدارقطني أحمد بن الفرج مختلف فيه. انظر لسان الميزان (1 \ 266) ، والكامل لابن عدي (1 \ 190) وفي إسناده عند ابن ماجه ابن لهيعه وهو ضعيف، وللحديث طرق يقوى بها، انظر التعليق المغني (4 \ 37) وزوائد ابن ماجه بحاشية السنن، وقد حسن الحديث الألباني في الإرواء (2041) ، وصحيح سنن ابن ماجه (1 \ 355) .
(4) رواه أبو داود في سننه كتاب (الطلاق) باب في المراجعة رقم (2280) وابن ماجه في سننه كتاب (الطلاق) باب حدثنا سويد بن سعيد رقم (2016) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإسناده صحيح، وأخرجه النسائي في سننه، كتاب (الطلاق) باب الرجعة رقم 3560) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وفي الباب عن أنس وعمار. انظر إن شئت مجمع الزاوئد (9 \ 244) ، وإرواء الغليل رقم (2077) ، والسلسلة الصحيحة (2007) ، وانظر قصة طلاقها في سير أعلام النبلاء (2 \ 227) ، والإصابة (4 \ 52) .(50/328)
، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا (1) .
أما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جوازه وهو واقع منذ الصدر الأول في الإسلام إلى هذا الزمان لا ينكره أحد.
والمعقول يؤيد جوازه كما سيأتي في الحكمة من مشروعيته.
__________
(1) انظر نيل الأوطار (6 \ 247) ، وجمع الفوائد (1 \ 671) .(50/329)
المبحث الثالث: الحكمة من مشروعية الطلاق:
شرع الله الزواج ليكون دائما مؤبدا؛ إذ به تتحقق المنافع والمصالح المرادة منه، ولا بد لتحقيق أهداف النكاح العظيمة من وجود المودة والتفاهم بين الزوجين، فإذا حصل ما يقطع هذه المودة ويفسد هذا التفاهم مما هو واقع وكثير، لأسباب مشاهدة، كأن تفسد أخلاق أحد الزوجين فيندفع في تيار الفسق والفجور(50/329)
ويعجز المصلحون عن رده إلى سواء الصراط، أو يحدث بين الزوجين تنافر في الطباع وتخالف في العادات أو يلقى في نفس أحدهما كراهية الآخر والسأم منه، والتبرم من أفعاله، وقد يكون الزوج عقيما أو قد يصيبه مرض معد خطير، أو قد يغيب غيبة لا يعلم فيها حاله، ولا حياته من موته، وقد يصاب بضيق ذات اليد فلا يستطيع الإنفاق على زوجته وليست بخليه فتنكح غيره.
وهذه الأمثلة وليست من الخيال في شيء تفسد على البيت نظامه، وتعكر عليه صفوه، فينحرف الزوجان في البحث عن لذة بديلة أو سكن غير ما يجدانه في نكاحهما، وينحرف الأولاد حيث لا كافل لهم ولا راعي لشئونهم، ولا قائم بحقوقهم، وينشأ الأطفال نشأة يملؤها التشاؤم، ويغلب عليها الحزن والانطواء في مجتمع أسري كهذا.
لهذه الأمور وغيرها كثير؛ أباح الله الطلاق ليكون علاجا لهذا الوضع الرديء، والحال المفجع، والخطب الأليم، الذي أصاب الأسرة التي هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع.
ولأن الإسلام دين رب العالمين الذي هو أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، ولأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان، فقد حرص على وقاية المجتمعات من كل داهية تفتك به وكل فجيعة تلم به، وكل نكبة تصيبه، فقد شرع الطلاق ليتخلص به الزوجان من حياة مقلقة، وصلة موجعة، وارتباط مؤلم، ومن ثم ينقب كل منهما عمن هو خير من سابقه، وأجدر بالارتباط به، قال تعالى:(50/330)
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 130(50/331)
الفصل الأول: طلاق المكره:
تمهيد: تعريف الإكراه:
الإكراه لغة: هو مصدر أكره يكره إكراها، إذا غصبته وحملته على أمر هو له كاره. فأصل الكلمة يدل على خلاف الرضا والمحبة. قال الفراء: (يقال: أقامني على كره - بالفتح - إذا أكرهك عليه إلى أن قال: فيصير الكره بالفتح فعل المضطر.(50/331)
تعريف الإكراه شرعا:
هو حمل إنسان على عمل - أو ترك - بغير رضاه، ولو ترك بدون إكراه لما قام به.
وقال بعضهم فعل يفعله إنسان لغيره. . إلخ والمعنى متقارب.(50/332)
المبحث الأول: أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه:
للإكراه أنواع متعددة باعتبارات مختلفة؛ فيكون في الأفعال، ويكون في الأقوال، والإكراه في الأفعال نوعان ملجئ وغير ملجئ.
فأما الملجئ وهو الكامل، فلا يكون للفاعل إرادة البتة، كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلا فقهره من هو أقوى منه وكبله وحمله حتى أدخله فيها، فهذا غير مكلف إجماعا ولا إثم عليه، ولا يحنث عند الجمهور.(50/332)
وأما غير الملجئ وهو الناقص فهو كمن أكره بضرب أو غيره حتى فعل. فهذا وقع فيه خلاف بين أهل العلم، سببه أن هذا المكره يستطيع الفعل والترك، فهو مختار للفعل ولكن ليس غرضه نفس الفعل وإنما مراده دفع الضرر عن نفسه، وليس هذا مرادنا فأرجع فيه لمضانه.
وأما الإكراه في الأقوال:
فقد اتفق العلماء على صحته وأن من أكره على قول محرم إكراها معتبرا أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه، والإكراه متصور في سائر الأقوال، فمتى أكره على قول من الأقوال لم(50/333)
يترتب عليه حكم من الأحكام وكان لغوا وذهب الأحناف إلى التفريق بين ما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة فيفسخ، وما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق والنكاح فهو لازم، فمن أكره على البيع ففعل فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع بخلاف ما لا يحتمل الفسخ.
وعدم التفريق أنسب وألبق بأصول الشريعة وأدلتها، قال تعالى: {أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (1) ، قال الشافعي في تقرير الاستدلال بهذه الآية: (أن الله سبحانه وتعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه أسقط عنه أحكام الكفر، كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه من باب أولى) .
__________
(1) سورة النحل الآية 106(50/334)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1) » .
قال ابن القيم: (. . وعلى هذا فكلام المكره كله لغو لا عبرة به، وقد دل القرآن على أن من أكره على التكلم بكلمة الكفر لا يكفر، ومن أكره على الإسلام لا يصير به مسلما، ودلت السنة على أن الله سبحانه تجاوز عن المكره فلم يؤاخذه بما أكره عليه، وهذا يراد به كلامه قطعا وأما أفعاله ففيها تفصيل. . . إلى أن قال. . . والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه، أن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها، بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال، فإنها يمكن إلغاؤها وجعلها بمنزلة أقوال النائم والمجنون، فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول، فإنها تثبت إذا كان قائله عالما به مختارا له) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني (497) ، وابن حبان (360) ، والحاكم (2 \ 198) وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه، كتاب (الطلاق) ، باب طلاق المكره والناسي برقم (2045) لكن سنده منقطع، وفي الباب عن ابن عمر وعقبة بن عامر وثوبان كما في (نصب الراية) (2 \ 65) ، و (جامع العلوم والحكم) (ص 371) والغالب فيها الضعف لكنها تتقوى بطرقها. قال السخاوي في (المقاصد الحسنة) ص (230) : (ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا) اهـ. وقال الشنقيطي في مذكرته ص (33) : (وقد تلقاه العلماء بالقبول، وله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة) اهـ. وصححه العلامة الألباني في (إرواء الغليل) (82) . وفي (صحيح سنن ابن ماجه) (1 \ 348) برقم (1664) .(50/335)
إذا تقرر هذا فاعلم أن الإكراه يكون بحق وبغير حق، فأما الإكراه بغير حق - اعتداء وتسلطا - فهو ما سبق فيه البحث، وأما ما كان بحق فنحو إكراه الحاكم لشخص ببيع ماله ليوفي دينه، أو إكراهه موليا على الطلاق إن أبى الفيئة. فهذا الإكراه غير مانع من لزوم ما أكره عليه.(50/336)
مسألة شروط الإكراه:
ذكر أهل العلم شروطا للإكراه منها:
1 - أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب.
2 - أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، والعجز عن دفعه والهرب منه.
3 - أن يكون مما يلحق الضرر به.
وهذه الشروط اتفق على اعتبارها المالكية والشافعية والحنابلة، وزاد بعضهم شروطا أخرى، والذي يظهر أن تحديد الإكراه عائد لما يراه الحاكم، والمفتي، فما رأى أنه إكراه أبطله(50/336)
لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس.(50/337)
المبحث الثاني: طلاق المكره:
والمراد بالبحث الإكراه على الطلاق بغير حق هل هو واقع أم لا؟
فذهب مالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري أن طلاقه غير واقع، وقال بهذا القول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس، وجماعة كثيرون.
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى إيقاع هذا الطلاق، وقال به الشعبي والنخعي والثوري.(50/337)
وسبب خلافهم هو هل المكره مختار أم لا، فإن المطلق غير مريد لإيقاع الطلاق وهو في الوقت ذاته قد اختار أهون الشرين من الطلاق أو حصول ما أكره به (1) .
استدل الأحناف ومن وافقهم لمذهبهم بما يلي:
1 - ما روي «أن رجلا كان نائما فقامت امرأته فأخذت سكينا، فجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه فقالت: لتطلقني ثلاثا أو لأذبحنك، فناشدها الله فأبت، فطلقها ثلاثا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: " لا قيلولة في الطلاق (2) » .
2 - حديث أبي هريرة مرفوعا: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة (3) » .
__________
(1) بداية المجتهد (2 \ 61) ، فتح القدير (3 \ 344) جامع العلوم والحكم (ص 375) .
(2) أخرجه العقيلي كما في نصب الراية (3 \ 222) ، وابن حزم في المحلى (10 \ 203) متصلا وفي سنده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن، وروي مرسلا وليس فيه بقية، وفي المتصل والمرسل الغازي بن جبلة قال البخاري: حديثه منكر في طلاق المكره، وكذا قال أبو حاتم: انظر لسان الميزان (4 \ 479) ، الكامل لابن عدي (6 \ 9) ، نصب الراية (3 \ 222) .
(3) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب الطلاق على الهزل رقم (2194) ، والترمذي في جامعه، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل رقم (1184) ، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبا رقم (2039) ، والحاكم في مستدركه كتاب الطلاق (4 \ 18) وفي سنده عبد الرحمن بن حبيب قال عنه النسائي: منكر الحديث. ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحاكم: من ثقات المدنيين، (التهذيب 6 \ 144، 145) الكاشف (2 \ 143) وقال عنه ابن حجر: لين الحديث (التقريب 1 \ 476) ، وفى الباب عن فضالة بن عبيد وعبادة بن الصامت وأبي ذر. انظر تلخيص الحبير (3 \ 236) ، مختصر البدر المنير (ص 213) ، التعليق المغني (4 \ 19) ، وغالبها ضعاف لكنها تتقوى بطرقها، وحسن الحديث الترمذي وابن حجر والألباني في إرواء الغليل (1826) وصحيح سنن ابن ماجه برقم (1658) .(50/338)
ووجه الاستدلال:
أن الهازل لم يقصد إيقاع الطلاق وإنما قصد اللفظ فقط، وقد أوقع طلاقه فدل على أن الطلاق يعتبر فيه مجرد التلفظ به، فيقاس المكره على الهازل؛ لأنهما قصدا النطق ولم يردا المعنى (1) .
3 - ما روي عن عمر موقوفا: (أربع مبهمات مقفولات ليس فيهن رد: النكاح والطلاق، والعتاق والصدقة) .
4 - حديث حذيفة وأبيه حين حلفهما المشركون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم (2) » .
وجه الاستدلال:
أن اليمين حال الطواعية وحال الإكراه سواء، فعلم أنه لا
__________
(1) فتح القدير (3 \ 344) والعناية بحاشيته) . بدائع الصنائع (3 \ 99) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الوفاء بالعهد برقم (1787) .(50/339)
تأثير للإكراه في نفي الحكم المتعلق بمجرد اللفظ كالطلاق (1) .
5 - استدلوا بأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره (2) .
المناقشة:
1 - أما حديث «لا قيلولة في الطلاق» فضعيف كما ذكرت في تخريجه. قال عنه ابن حزم: (هذا خبر في غاية السقوط) (3) فيسقط الاستدلال به.
2 - وأما استدلالهم بحديث: «ثلاث جدهن جد (4) » . . . " الحديث. وقياسهم المكره على الهازل فهو قياس فاسد، فإن المكره غير قاصد للقول ولا لموجبه، وإنما حمل عليه وأكره على التكلم به، ولم يكره على القصد، وأما الهازل فإنه تكلم باللفظ اختيارا وقصد به غير موجبه، وهذا ليس إليه بل إلى الشارع، فإن من باشر سبب ذلك باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يرده، وأما المكره فإنه لم يرد هذا ولا هذا فقياسه على الهازل غير صحيح.
__________
(1) فتح القدير (3 \ 344)
(2) الهداية (3 \ 344) والعناية وحاشية سعدي جلبي (بحاشية الهداية) . وانظر المغني (10 \ 350) .
(3) المحلى (10 \ 204) .
(4) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن أبو داود الطلاق (2194) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) .(50/340)
3 - وأما أثر عمر فإنا لم نعلم سنده، ولم نقف على مخرجه حتى نعلم ثبوته، وعلى اعتبار صحته فإنه محمول على أن من أوقع الطلاق فإنه لا يمكنه أن يعود فيه، أما المكره فإنه لم يوقع الطلاق وإنما تلفظ به تخلصا من مكرهه، ثم إن الصحيح عن عمر رضي الله عنه إلغاء طلاق المكره (1) . وأما ما روي أن امرأة استلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت: والله لأنفذنك أو لتطلقني، فطلقها ثلاثا فرفع ذلك إلى عمر فأمضى طلاقها، فهذا ضعيف لا يثبت عنه رضي الله عنه.
4 - وأما خبر حذيفة وأبيه رضي الله عنهما، وقياس الطلاق على اليمين باعتبارهما متعلقين بمجرد اللفظ فإن الجواب أن هذا القياس غير صحيح، فليس الاعتبار في الطلاق خاصا باللفظ بل لا بد معه من إرادة التكلم بالصيغة والعلم بمدلولها، ألا ترى أن الشارع لم يمض طلاق النائم والناسي وزائل العقل (2) ،
__________
(1) زاد المعاد (5 \ 206 - 209) ، المحلى (10 \ 202، 203) ، وانظر نصب الراية (3 \ 223، 224) .
(2) زاد المعاد (5 \ 204، 205) حكم طلاق الغضبان ص (46، 61، 67) ، وانظر المحلى (10 \ 205) .(50/341)
وبهذا يظهر الفرق بينهما، ولا قياس مع وجود الفارق.
5 - وأما قولهم هو طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره، فنقول: هذا الدليل أشبه ما يكون بالمصادرة، فإنه إقرار لتكليف المكره، ثم إن قياسكم المكره على غيره هو في غاية الغرابة، يرده ما سنشير إليه من أدلة القول الثاني.
واستدل الجمهور لقولهم بما يلي:
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (1) » . ومن الإغلاق
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (6 \ 276) ، وأبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب في الطلاق على غضب رقم (2193) ، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره رقم (2046) ، والحاكم في مستدركه، كتاب (الطلاق) ، باب لا طلاق في إغلاق (2 \ 198) ، والدارقطني في سننه (4 \ 36) وفي سنده محمد بن عبيد بن أبي صالح، وقد وقع في سنن ابن ماجه عبيد بن أبي صالح، وهو خطأ كما نبه عليه الحافظ أبي حجر في تهذيب التهذيب (7 \ 63) ، وتقريبه (1 \ 543) ومحمد هذا ضعيف، وقد تابعه زكريا بن إسحاق ومحمد بن عثمان كما عند الدارقطني والبيهقي والحاكم إلا أن الراوي عنهم قزعة بن سويد، وهو ضعيف كما في التقريب (2 \ 126) والتهذيب (8 \ 336) ، وفي الحديث ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن، انظر مراتب الموصوفين بالتدليس ص (132) وتابعه عبد الله ابن سعيد الأموي كما عند الحاكم، وهو ثقة من رجال الشيخين كما في التقريب (1 \ 420) . فالحديث حسن إن شاء الله تعالى، وقد رمز السيوطي لحسنه كما في الجامع الصغير رقم (9905) . وحسنه المحدث الألباني في إروائه (2047) ، وفي صحيح سنن ابن ماجه (1665) .(50/342)
الإكراه؛ لأن المكره مغلق عليه أمره وتصرفه.(50/343)
2 - حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه موقوفا: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمكره (1) » .
3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما موقوفا: «ليس لمستكره ولا لمجنون طلاق (2) » .
4 - عن ثابت بن الأحنف أنه تزوج أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: فدعاني عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فجئته فدخلت عليه، فإذا سياط موضوعه، وإذا قيدان من حديد وعبدان له قد أجلسهما، وقال لي: تزوجت
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران، قال الحافظ في الفتح (9 \ 305) ، وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة أن عليا قال. . فذكره، وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه، وصرح في بعضها بسماع عابس بن ربيعة من علي. اهـ.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به، كتاب (الطلاق) باب الطلاق في الإغلاق والمكره، قال الحافظ في الفتح (9 \ 303) : وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعا - عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المزني عن عكرمة عن ابن عباس. اهـ.(50/344)
أم ولد أبي بغير رضاي، فأنا لا أزال أضربك حتى تموت، ثم قال: طلقها وإلا فعلت، فقلت هي طالق ألفا، فلما خرجت من عنده أتيت عبد الله بن عمر فأخبرته فقال: ليس هذا بطلاق، ارجع إلى أهلك، فأتيت عبد الله بن الزبير فقال مثل ذلك (1) .
5 - ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها (2) .
هذا وقد قدمنا الأدلة العامة التي استدل بها الجمهور على إلغاء طلاق المكره فراجعها.
الترجيح:
يتبين مما مضى أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من إلغاء طلاق المكره وعدم اعتباره، وذلك لأمور:
1 - قوة أدلة الجمهور.
2 - ضعف أدلة الأحناف؛ لما ورد عليها من مناقشة.
3 - أنه الأليق بأصول الشريعة وقواعدها كما مر معنا. وفيه دفع لمفاسد عظيمة، وإليك ما قاله الشيخ أحمد الدهلوي رحمه الله:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب جامع الطلاق ص (376) برقم (1245) وإسناده صحيح.
(2) المغني (10 \ 351) ، زاد المعاد (5 \ 204) .(50/345)
(. . ثانيهما: أنه لو اعتبر طلاقه - أي المكره - طلاقا لكان ذلك فتحا لباب الإكراه، فعسى أن يختطف الجبار الضعيف من حيث لا يعلم الناس، ويخيفه بالسيف ويكرهه على الطلاق إذا رغب في امرأته، فلو خيبنا رجاءه وقلبنا عليه مراده كان ذلك سببا لترك مظالم الناس فيما بينهم بالإكراه. .) (1) اهـ.
هذا وقد اختار هذا القول جمع من المحققين كابن تيمية (2) وابن القيم (3) ، والشوكاني (4) ، وصديق بن حسن القنوجي البخاري (5) ، وغيرهم رحمهم الله.
__________
(1) حجة الله البالغة (ج 2 \ 138) .
(2) مجموع الفتاوى (33 \ 110) ، ومختصر الفتاوى المصرية ص (437) .
(3) زاد المعاد (5 \ 204) ، وإعلام الموقعين (3 \ 108) ، تهذيب السنن (6 \ 187) .
(4) نيل الأوطار (6 \ 265) .
(5) الروضة الندية (2 \ 46) .(50/346)
الفصل الثاني: طلاق الغضبان:
تمهيد: تعريف الغضب وحالاته:
الغضب: مصدر غضب يغضب غضبا، ويقال: رجل غضبان وامرأة غضبى وهو نقيض الرضا (1) ، ويطلق في العرف على الغيض والانفعال. قال الجرجاني: (الغضب تغير يحصل عند
__________
(1) لسان العرب (5 \ 3262) ، مختار الصحاح ص (199) ، المصباح المنير ص (170) .(50/346)
غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر) (1) .
حالات الغضب (تحرير محل النزاع فيه) :
للغضب ثلاثة أقسام:
الأول: أن يحصل للإنسان مبادئ الغضب وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ويعلم ما يقول، فهذا يقع طلاقه بلا إشكال؛ فإنه مكلف عالم بأقواله ومريد للتكلم بها.
الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته فيزيل عقله فلا يعلم ما يقول، وهذا لا يقع طلاقه، قال ابن القيم (بلا نزاع) (2) :
وذلك أنه لم يعلم صدور الطلاق منه، فهو أشبه ما يكون بالنائم والمجنون ونحوهم.
__________
(1) التعريفات ص (162) ، وانظر معجم لغة الفقهاء ص (332) .
(2) زاد المعاد (5 \ 215) .(50/347)
الثالث: أن يستحكم الغضب بصاحبه ويشتد به فهو قد تعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره، فهذا موضع الخلاف محل النظر.(50/348)
المبحث الأول: حكم طلاق الغضبان:
اختلف العلماء في طلاق الغضبان على التفصيل السابق على قولين:
- فذهب الأحناف وبعض الحنابلة أن طلاق الغضبان لغو لا عبرة به.
- وذهب المالكية والحنابلة أن طلاق الغضبان واقع معتبر.(50/348)
الأدلة:
استدل الأحناف ومن وافقهم بعدة أدلة:
1 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (1) » . والإغلاق يتناول الغضبان؛ فإنه قد انغلق عليه رأيه (2) .
2 - قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (3) قال ابن عباس: (لغوا اليمين أن تحلف وأنت غضبان) فلما رفع
__________
(1) سبق تخريجه وهو حديث حسن
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض (1 \ 134) وقد سبقت الإشارة إليه.
(3) سورة البقرة الآية 225(50/349)
الله المؤاخذة عن الغضبان فيما تلفظ به علمنا إلغاءه لكلامه ومنه طلاقه (1) .
3 - قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (2) وما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق ونحوه هو من نزغات الشيطان، فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارا فلا يترتب عليه حكمه (3) .
ويدل عليه حديث عطية السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الغضب من الشيطان (4) » .
4 - حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين (5) » .
فإذا كان النذر الذي أثنى الله على من أوفى به قد أثر الغضب في انعقاده؛ لكون الغضبان لم يقصده فالطلاق أولى
__________
(1) طلاق الغضبان ص (32) .
(2) سورة الأعراف الآية 200
(3) طلاق الغضبان ص (35) .
(4) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب (الآداب) ، باب ما يقال عند الغضب برقم (4774) ، وأحمد في مسنده (4 \ 226.) .
(5) أخرجه النسائي في سننه، كتاب (الأيمان والنذور) ، باب كفارة النذر برقم (3841) وما بعده، وأحمد في مسنده (4 \ 433، 440) وغيرها. والحاكم في مستدركه (4 \ 305) ، والبيهقي في (سننه) (10 \ 70) . ومداره على محمد بن الزبير وهو متروك، التقريب (2 \ 161) ، التهذيب (9 \ 167) . فهو حديث ضعيف جدا، وضعفه الألباني في الإرواء (8 \ 211) .(50/350)
وأحرى (1) .
5 - حديث أبي بكرة مرفوعا: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان (2) » ، ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينه عن الحكم حال الغضب، فدل على نفي القصد فيبطل قوله ومنه طلاقه (3) .
6 - أن السكران بسبب مباح طلاقه غير واقع؛ لأنه غير قاصد للطلاق، ومعلوم أن الغضبان كثيرا ما يكون أسوأ حالا من السكران (4) .
المناقشة:
1 - أما حديث عائشة رضي الله عنها في الإغلاق فإنه خارج محل النزاع؛ إذ هو في الإغلاق، والإغلاق ليس هو محض الغضب. قال ابن القيم: (قال شيخنا: الإغلاق انسداد باب العلم والقصد عليه) (5) وهذا طلاقه غير واقع بالاتفاق وهو الحالة الثانية من تقسيم الطلاق.
__________
(1) طلاق الغضبان ص (41) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الأحكام) ، باب هل يقضي القاضي وهو غضبان برقم (7158) ، ومسلم في صحيحه، كتاب (الأقضية) ، باب كراهه قضاء القاضي وهو غضبان (1717) ، والترمذي في جامعه، كتاب (الأحكام) ، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان رقم (1324) ، وأحمد في مسنده (5 \ 52 - 182) .
(3) طلاق الغضبان ص (43) .
(4) طلاق الغضبان ص (45) .
(5) تهذيب السنن (6 \ 187) .(50/351)
أما تفسير ابن عباس فغير صحيح. قال ابن رجب: (لا يصح إسناده) (1) ، هذا وقد نقل عنه في تفسير الآية غير ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1 \ 268) عن سعيد بن جبير عنه أن لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك، قال ابن رجب: (صح عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة) .
3 - أما القول بأن ما يتكلم به الغضبان هو من نزغات الشيطان فلا يترتب عليه حكمه، فهذا غير صحيح فإن معناه أن ما كان أثرا لنزغات الشيطان فلا حكم له، وهذا ظاهر البطلان فإن غالب معاصي ابن آدم وسيئاتهم إنما هي من نزغات الشيطان ووساوسه، أعاذنا الله وإياكم منها.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال، فلولا أنه مكلف مؤاخذ لما أمر بذلك، والله تعالى أعلم.
4 - وأما حديث عمران فهو ضعيف كما سبق.
5 - وأما حديث أبي بكرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلف الحاكم حال غضبه
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص (149) .(50/352)
فدل على عدم خروجه عن التكليف؛ ثم إن الحكم يرتبط بحق الغير وليس كالطلاق فإنه مختص باللافظ فقط.
6 - وأما قياسه على السكران فهو صالح للمرتبة الثانية دون ما نحن بصدده؛ وذلك لأن السكران غير عالم بما يقول. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) وتقدم أن صاحب المرتبة الثانية هو من بلغ به الغضب نهايته فأزال عقله حتى لا يعلم ما يقول، والله تعالى أعلم.
وقد استدل المالكية والحنابلة لقولهم بما يلي:
1 - عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وضجر، وإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تشكوا إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفارة في قصة طويلة.
فهذا الرجل ظاهر في غضبه فألزم بالكفارة ولم يلغه؛ لكونه غضبانا والظهار كالطلاق (2) .
2 - عن أبي العالية أن خولة غضب زوجها فظاهر منها فأتت
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) انظر: جامع العلوم والحكم ص (149) ، وزاد المعاد (5 \ 325) .(50/353)
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قالت: إنه لم يرد الطلاق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» ، وذكر القصة وفي آخرها قال: «فحول الله الطلاق فجعله ظهارا (1) » .
قال ابن رجب في جامعه ص (149) : (فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال: إنها حرمت عليه بذلك، يعنى لزمه الطلاق، فلما جعله الله ظهارا مكفرا ألزمه بالكفارة ولم يلغه) .
وقد يرد على الحديثين اعتراض بأن المراد به الحالة الأولى حيث يكون الغضب في مبادئه، فأقول: قد ورد الحديث بذكر الغضب مطلقا عاما؛ إذ إنه لم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فتدخل الحالات الثلاث فيه، ويكون كل من طلق في غضب ألزم بطلاقه، وخص الإجماع الحالة الثانية حين يبلغ الغضب أشده فتخرج، وتبقى الحالتان الأخريان مرادتين بهذا الحديث.
3 - ما روي عن مجاهد عن ابن عباس أن رجلا قال له: إني
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير (4 \ 321) ، ابن جرير (28 \ 5) ، والبيهقي (7 \ 392) . وله شاهد عن ابن عباس عند البيهقي أيضا.(50/354)
طلقت امرأتي ثلاثا وأنا غضبان. فقال: ابن عباس لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك.
4 - قول الحسن: (طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهرا من غير جماع، وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض، فإن بدا له أن يراجعها كان أملك بذلك، فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، ما يذهب غضبه) (1) .
5 - أن القاعدة الفقهية تقول: (دلالة الأحوال تختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها، وتترتب عليها الأحكام بمجردها) (2) .
قال ابن رجب في قواعده: (يتخرج على القاعدة مسائل منها: كنايات الطلاق في حالة الغضب والخصومة لا تقبل دعوى إرادة غير الطلاق بها) اهـ.
وفيما ذكره خلاف ذكره صاحب المغني (10 \ 360) وهذا في كنايات الطلاق، ففي صريحه أولى وأحرى، قال في المغني: (والغضب هاهنا يدل على قصد الطلاق فيقوم
__________
(1) أخرجه القاضي إسماعيل كما في جامع العلوم والحكم (ص 149) .
(2) القواعد لابن رجب ص (322) ، القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة.(50/355)
مقامه) . اهـ.
الترجيح:
يتبين مما مضى أن الراجح هو ما ذهب إليه المالكية والحنابلة ومن وافقهم من إيقاع الطلاق على الغضبان على التفصيل المذكور؛ وذلك لأمور:
1 - قوة أدلتهم.
2 - صراحتها وقوة صلتها بالمسألة.
3 - ضعف أدلة المخالفين لما ورد عليها من المناقشة.
4 - أن القاعدة الشرعية أن الأصل في الأبضاع التحريم فالواجب التثبت في أمرها والتنبه لها.
وقد اختار هذا القول من المحققين ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى، والله أعلم.(50/356)
الخاتمة:
بعد هذه الجولة الماتعة في كتب أهل العلم من فقهاء ومحدثين ومفسرين وأصوليين نخلص هنا إلى أمور:
1 - وقوع طلاق المكره بحق دون المكره بغير حق.
2 - الغضبان الذي لم يغم عليه فطلاقه واقع.
وهنا أنبه إلى أن الطلاق إنما شرع لحل قيد الزوجية عند(50/356)
تعذر إتمام الزواج والبقاء عليه، فلا ينبغي أن يجعل وسيلة لأمور أخرى كما يفعله بعض الجهلة؛ كأسلوب تهديد، أو وسيلة تأديب أو طريقة تربية، أو يمينا يحلف عليها في كل حال فإن هذا كله من اتخاذ آيات الله هزوا، والله المستعان.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(50/357)
صفحة فارغة(50/358)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
حول التأمين التجاري والتأمين التعاوني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. . أما بعد:
فإنه سبق أن صدر من هيئة كبار العلماء قرار بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه؛ لما فيه من الضرر والمخاطرات العظيمة، وأكل أموال الناس بالباطل، وهي أمور يحرمها الشرع المطهر وينهى عنها أشد النهي.
كما صدر قرار من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني ?وهو الذي يتكون من تبرعات من المحسنين، ويقصد به مساعدة المحتاج والمنكوب، ولا يعود منه شيء للمشتركين - لا رءوس أموال ولا أرباح ولا أي عائد استثماري - لأن قصد المشترك ثواب الله سبحانه وتعالى بمساعدة المحتاج، ولم يقصد عائدا دنيويا - وذلك داخل في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(50/359)
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (1) » .
وهذا واضح لا إشكال فيه، ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات والشركات تلبيس على الناس وقلب للحقائق؛ حيث سموا التأمين التجاري المحرم تأمينا تعاونيا، ونسبوا القول بإباحته إلى هيئة كبار العلماء من أجل التغرير بالناس والدعاية لشركاتهم، وهيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة؛ لأن قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وتغيير الاسم لا يغير الحقيقة، ولأجل البيان للناس وكشف التلبيس ودحض الكذب والافتراء صدر هذا البيان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7379، 7882، 10118، 10298) ، ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) برقم (2699) ، والترمذي في (الحدود) برقم (1425) ، وفي (البر والصلة) برقم (1930) ، وأبو داود في (الأدب) برقم (4946) ، وابن ماجه في (المقدمة) برقم (225) .(50/360)
بيان حكم الشرع في الجارودي
على ضوء المقابلة معه في مجلة المجلة
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد كثر في الآونة الأخيرة في الصحف والمجلات الكلام عن الرجل المسمى (روجيه جارودي) الشيوعي الفرنسي؛ الذي ادعى أنه دخل الإسلام عن اقتناع ومحبة؛ ففرح بذلك بعض المسلمين وأظهروا حفاوة به، وأكرموه ومنحوه الثقة، وجعلوه عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد في رابطة العالم الإسلامي، وصار يحضر الندوات واللقاءات التي تعقد في العالم الإسلامي عن الإسلام متحدثا ومناظرا.
ثم لم يلبث أن تكشفت حقيقته وافتضح أمره، وبان ما كان يخفيه في صدره من حقد على الإسلام والمسلمين، وأنه لم يزل على كفره وإلحاده فانضم إلى أشكاله من المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 119(50/361)
وآخر ما نشر عنه الحوار الذي أجرته معه مجلة المجلة في عددها (839) حيث جاء فيه: أنه لم يتخل عن اعتقاداته الخاصة، وأنه لم يعتنق الإسلام الذي عليه المسلمون، وإنما اعتنق إسلاما آخر تخيله بذهنه زعم أنه خليط من الأديان: اليهودية والنصرانية ومن الإسلام الذي تخيله هو، لا الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وقال: إن هذا الإسلام المزعوم هو دين إبراهيم عليه السلام. فإبراهيم بزعمه هو أول المسلمين فالإسلام بدأ من عهد إبراهيم، قال: ولم يكن إبراهيم يهوديا ولا مسيحيا ولا مسلما بالإسلام التاريخي للكلمة أي الذي عليه المسلمون اليوم.
وكذب في ذلك فإن الإسلام الذي هو توحيد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه هو موجود من قبل إبراهيم، من عهد آدم ونوح والنبيين من بعده، وهو دين جميع الرسل. وهو الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، وهو دين المسلمين اليوم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) ، وقال
__________
(1) سورة النحل الآية 123
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة يوسف الآية 108(50/362)
تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، ولم يكن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليطا من الحق والباطل كما زعم هذا الضال؛ بل كان دينه التوحيد الخالص لله - عز وجل - والبراءة من الشرك وأهله، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (2) .
وهو الدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، ويرى هذا الضال أن البراءة من الكفر والشرك وما عليه اليهود والنصارى من الوثنيات والتحريفات الباطلة دين تفرقة؛ لأن الإسلام في مخيلته معناه التوحيد والتقارب بين المسلمين وغير المسلمين، يريد إسلاما يجمع بين المتناقضات والمتضادات، ويكفر المسلمين الذين يخالفونه في ذلك.
ويرى أيضا أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الفقه الإسلامي المستنبط من الكتاب والسنة انتهت صلاحيتهما في هذا الزمان؛ لأنهما كانا لزمان معين، وأنه يجب إحداث فقه جديد.
وهذا معناه ترك دين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصلح لهذا الزمان وإحداث دين جديد، وهذا كفر بعموم رسالة الرسول لكل زمان ومكان، ولكل جيل، ولكل البشرية إلى أن تقوم الساعة، وكفر بختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 95
(2) سورة الممتحنة الآية 4(50/363)
وكفر بصلاحية رسالته لكل زمان ومكان، وهذا كفر صريح وقول قبيح مناقض لقول الله سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) ، وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) ، وقوله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (4) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (5) » متفق على صحته. وقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (6) » ، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إجماعا قطعيا على أن محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة الفرقان الآية 1
(5) رواه الإمام البخاري في كتاب (التيمم) برقم 323) واللفظ له، ورواه الإمام مسلم في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (810) .
(6) رواه الإمام مسلم في كتاب (الإيمان) برقم (218) ، ورواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7856) .(50/364)
صلى الله عليه وسلم هو رسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وهو خاتم النبيين لا نبي بعده.
ثم يتناول هذا الملحد الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة وهو الصلوات الخمس الثابت بالكتاب والسنة، والمعلوم من الدين بالضرورة، فيرى أن الصلوات ثلاث صلوات في اليوم والليلة لا خمس صلوات. ويزعم أن هذا هو ما يدل عليه القرآن. وهذا القول الباطل بل الكفر الصريح ناتج عن كفره بالسنة التي بينت الأوامر التي جاءت في القرآن، ومن ذلك الصلوات فقد بينت السنة الصحيحة المتواترة أنها خمس صلوات في اليوم والليلة، وأجمع المسلمون على ذلك.
ثم بين هذا الضال الصلاة التي يعنيها وأنها ليست الحركات التي هي عبارة عن القيام والقراءة والركوع والسجود، وإنما هو التفكير العميق في الذات الإلهية، وذلك يستغرق عنده ساعات الليل والنهار الأربع والعشرين ساعة، وهذه صلاة الباطنية الملاحدة لا صلاة الأنبياء وأتباعهم، وهذا القول كفر صريح وردة عن الإسلام عند جميع أهل العلم.
ثم تناول الركن الرابع من أركان الإسلام وهو الصيام وقال: إنه ليس هو الامتناع عن الأكل والشرب، وإنما هو معاني الصيام وأهدافه. ثم إنه أعفى سكان المناطق القطبية من الصيام؛ لأنه لا يمكن تطبيقه في مناطقهم؛ لأنه ليس عندهم طلوع فجر ولا غروب شمس. وهذا تكذيب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين في(50/365)
أن الصيام ترك الأكل والشرب وسائر المفطرات، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (2) » متفق على صحته.
فمن أعظم منافيات الصيام الأكل والشرب. وأما الاقتصار على معاني الصيام وأهدافه فليس صياما شرعيا وإنما هو صيام الباطنية الذين يقولون: الصيام هو كتم الأسرار، وهذا إلحاد في دين الله عز وجل، وكذلك لا يعفى أحد من الصيام في جميع أقطار الأرض؛ لأن أحكام الشريعة عامة للبشرية أينما كانت، وإنما يصوم المسلم حسب استطاعته.
وكيفية صيام أهل المناطق القطبية قد بحثها علماء المسلمين قديما وحديثا وقرروا فيها رأيهم حسب ما ظهر من أدلة الكتاب والسنة. ثم إن هذا الملحد يجهل علماء المسلمين فيقول: (قد عملت معهم عندما كنت عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد واكتشفت أنهم أناس جهلة، بل إنهم من أجهل الناس إطلاقا يرددون بطرق آلية الأحاديث النبوية وآراء فقهاء القرون الوسطى التي حفظوها عن ظهر قلب، ولا أعتقد أن لدي استعدادا للتعاون مع هؤلاء بشان أي موضوع كان بسبب الانطباعات السيئة التي تركوها في ذهني) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) رواه الإمام البخاري في كتاب (الأذان) برقم (587) ، ورواه الإمام مسلم في (الصيام) برقم (1829) واللفظ متفق عليه.(50/366)
هذا شعوره نحو علماء الإسلام الذين اغتر الكثير منهم به، وأحسنوا به الظن وأكرموه وأشركوه معهم في مؤتمراتهم وندواتهم.
وإنها لموعظة للعلماء أن لا يتسرعوا بمنح الثقة لكل من تظاهر بالإسلام خصوصا من أمثال جارودي ممن عرفوا بالإلحاد والزندقة والشيوعية قبل ادعاء الإسلام حتى يتثبتوا في شأنه.
ومن كفر جارودي الصريح أنه يدعو إلى تعطيل حد السرقة، وتغيير مقادير المواريث، فيرى أن قطع يد السارق اليوم غير مناسب، وهذا اتهام للإسلام بالقصور وعدم صلاحيته لكل زمان ومكان. بل هو وصف لله سبحانه بالجهل، وأنه لا يعلم ما يجد في المستقبل وما يناسبه من العقوبة، فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق والسارقة جزاء بما كسبا ثم ختم الآية بقوله سبحانه: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ، فهو سبحانه يشرع لكل ذنب من العقوبة ما يناسبه ويمنع وقوعه في كل زمان ومكان. ثم يقول: (لو كنت قاضيا وجاءني أخ وأخت يتنازعان في قضية ميراث لأعطيت البنت ضعف ما أعطي الذكر) ، وهذا مصادم لقول الله تعالى في شأن الإخوة في آخر سورة النساء: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) ، ولقوله تعالى في أول السورة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (3) ، فهو اعتراض على الله في
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة النساء الآية 176
(3) سورة النساء الآية 11(50/367)
حكمه، وكفى بذلك كفرا وإلحادا.
ثم يدعو علماء الإسلام أن يتمردوا على شرع الله كما تمرد المسيحيون على البابا وثاروا في وجه الكنيسة، فهو يسوي بين الدين الحق الذي هو دين الإسلام ودين الكفر الذي هو دين البابوات ورجال الكنيسة المغير لشرع الله.
وأخيرا فإن روجيه جارودي لا يحكم عليه بأنه مرتد عن دين الإسلام كما توهمه بعضهم، وإنما هو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام كما اعترف هو بذلك حيث يقول: (انتهيت إلى الإسلام دون التخلي عن اعتقاداتي الخاصة وقناعاتي الفكرية) .
إن دين الإسلام لا يجتمع مع القناعات الإلحادية ولا يجتمع مع اليهودية والنصرانية؛ لأنهما ديانتان محرفتان ومنسوختان بدين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » أخرجه الإمام مسلم في
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) رواه الإمام مسلم في كتاب (الإيمان) برقم (218) ، والإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7856) .(50/368)
صحيحه كما تقدم، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (1) » وبذلك يعلم أنه لا يسع أحدا من هذه الأمة جنها وإنها إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل الله من أحد بعد بعثته إلا دينه.
ودينه هو الإسلام، وهو صالح لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (5)
__________
(1) رواه الإمام البخاري في كتاب (التيمم) برقم (323) واللفظ له، ورواه الإمام مسلم في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (810) ، والنسائي في (الغسل والتيمم) برقم (429.
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة آل عمران الآية 81(50/369)
وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (1) » . وذلك أن الله سبحانه أخذ الميثاق على الأنبياء كلهم من أولهم إلى آخرهم بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته، وأنه لو بعث وأحد منهم حي وجب عليه اتباعه وطاعته ومناصرته، وهذا الحكم يتناول أتباعهم أيضا، فإن من زعم أنه يتبع موسى وعيسى يجب عليه أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدما بعثه الله ويتبعه؛ لأن رسالته ختمت الرسالات، وشريعته نسخت الشرائع ولم يبق دين مقبول عند الله سوى الدين الذي بعثه الله به كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
وهذا الحكم واجب على جميع المكلفين من الجن والإنس إلى يوم القيامة، كما تقدم ذلك في قوله سبحانه آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (3) الآية من سورة الأعراف. وتقدم قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4)
__________
(1) رواه الإمام مسلم في كتاب (الإيمان) برقم (218) ، ورواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7856) .
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة سبأ الآية 28(50/370)
وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (2) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (3) » ، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة، وأسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يثبتنا وإياهم على دينه، وأن يمنحنا جميعا الفقه فيه، والاستقامة عليه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من شر أعداء الله ومكائدهم كالجارودي وأشباهه من سائر الملحدين، والكافرين، إنه على كل شي قدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) رواه الإمام البخاري في كتاب (التيمم) برقم 323) واللفظ له، ورواه الإمام مسلم في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (810) ، والنسائي في (الغسل والتيمم) برقم (429) .
(3) رواه الإمام مسلم في كتاب (الإيمان) برقم (218) ، ورواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7856) .(50/371)
حديث شريف
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » .
رواه الإمام مسلم
في كتاب (البر والصلة والآداب)
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(50/373)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (1) {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2)
(سورة البقرة، الآيتان 180، 181)
__________
(1) سورة البقرة الآية 180
(2) سورة البقرة الآية 181(51/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(51/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(51/3)
المحتويات
الافتتاحية
أقسام التوحيد لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض منها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 97
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 121(51/4)
البحوث
رسالتان في مسألة أن القرآن الكريم غير مخلوق تحقيق الشيخ / علي بن عبد العزيز الشبل 141
التعاون بين الدعاة مبادئه وثمراته الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد 195
التوبة في منهج القرآن الكريم د. / سليمان بن صالح القرعاوي 229
الشيخ محمد بن إبراهيم عالم الديار السعودية د. / محمد بن سعد الشويعر 293
من قرارات المجمع الفقهي قيام الشيك مقام القبض في صرف النقود 373
نصيحة حول الزلازل لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 375(51/5)
صفحة فارغة(51/6)
أقسام التوحيد
لسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
التوحيد موضوع عظيم هو أساس الملة وأساس جميع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم.
ولا ريب أن هذا المقام جدير بالعناية، وإنما ضل من ضل وهلك من هلك بسبب إعراضه عن هذا الأصل وجهله به وعمله بخلافه، وكان المشركون قد جهلوا هذا الأمر من توحيد العبادة الذي هو الأساس الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب وخلق من أجله الثقلان (الجن، والإنس) وظنوا أن ما هم عليه من الشرك دين صالح وقربة يتقربون بها إلى الله مع أنه أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وظنوا بجهلهم وإعراضهم وتقليدهم لآبائهم ومن قبلهم من الضالين أنه دين وقربة وحق، وأنكروا على الرسل وقاتلوهم على هذا الأساس الباطل كما قال سبحانه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) وقال جل وعلا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 30(51/7)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) وقال سبحانه {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (2) وأول من وقع في هذا البلاء واعتقد هذا الشرك قوم نوح عليه الصلاة والسلام فإنهم أول الأمم الواقعة في الشرك، وقلدهم من بعدهم، وكان سبب ذلك الغلو في الصالحين وأنهم غلوا في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء رجالا صالحين فيهم، فماتوا في زمن متقارب؛ فأسفوا عليهم أسفا عظيما، وحزنوا عليهم حزنا شديدا، فزين لهم الشيطان الغلو فيهم وتصويرهم ونصب صورهم في مجالسهم، وقال لعلكم بهذا تسيرون على طريقتهم، وفي ذلك هلاكهم وهلاك من بعدهم، فلما طال عليهم الأمر عبدوهم. وقال جماعة من السلف: فلما هلك أولئك وجاء من بعدهم عبدت هذه الأصنام وأنزل الله فيهم جل وعلا قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (3) {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} (4) {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (5) .
فالغلو في الصالحين من البشر وفي الملائكة والأنبياء والجن والأصنام هو أصل هذا البلاء، والله بين على أيدي الرسل
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة نوح الآية 23
(4) سورة نوح الآية 24
(5) سورة نوح الآية 25(51/8)
أن الواجب عبادته وحده سبحانه وأنه الإله الحق وأنه لا يجوز اتخاذ الوسائط بينه وبين عباده، بل يجب أن يعبد وحده مباشرة من دون واسطة، وأرسل الرسل وأنزل الكتب بذلك، وخلق الثقلين لذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2) وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3) وقال سبحانه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) وقال عز وجل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) .
وهذا المقام- أعني مقام التوحيد- دائما وأبدا يحتاج إلى مزيد العناية بتوجيه الناس إلى دين الله وتوحيده وإخلاص العبادة له؛ لأن الشرك هو أعظم الذنوب وقد وقع فيه أكثر الناس قديما وحديثا، فالواجب بيانه للناس والتحذير منه في كل وقت وذلك بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه والنهي عن الشرك وبيان أنواعه للناس حتى يحذروه، وقد قام خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم بذلك أكمل قيام في مكة والمدينة ومع هذا فقد ملئت الدنيا من هذا الشرك بسبب علماء السوء ودعاة الضلالة وإعراض الأكثر
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة النحل الآية 36(51/9)
عن دين الله وعدم تفقههم في الدين وعدم إقبالهم على الحق وحسن ظنهم بدعاة الباطل ودعاة الشرك إلا من رحم الله، كما قال الله سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال عز وجل {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (3) فلهذا انتشر الشرك في الأمم بعد نوح في عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم شعيب وقوم لوط ومن بعدهم من سائر الأمم وصاروا يقلد بعضهم بعضا يقولون: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (4) .
وإذا كان هذا البلاء قد عم وطم ولم يسلم منه إلا القليل، فالواجب على أهل العلم أن يقدموه على غيره- أعني بيان التوحيد وضده- وأن تكون عنايتهم به أكثر من كل نوع من أنواع العلم؛ لأنه الأساس فإذا فسد هذا الأساس وخرب بالشرك بطل غيره من الأعمال، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة سبأ الآية 20
(3) سورة الأنعام الآية 116
(4) سورة الزخرف الآية 22
(5) سورة الأنعام الآية 88(51/10)
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) والصوم والحج وغير ذلك من العبادات لا تنفع.
وأقسام التوحيد ثلاثة، بالاستقراء والنظر والتأمل في الآيات والأحاديث وما كان عليه أهل الشرك اتضح أنها ثلاثة أقسام؛ اثنان أقر بهما المشركون، والثالث جحده المشركون وقام النزاع بينهم وبين الرسل في ذلك، والقتال والولاء والبراء والعداوة والبغضاء.
ومن تأمل القرآن الكريم والسيرة النبوية وأحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام وأحوال الأمم عرف ذلك، وقد زاد بعضهم قسما رابعا سماه (توحيد المتابعة) يعني وجوب اتباع الرسول والتمسك بالشريعة، فليس هناك متبع آخر غير الرسول فهو الإمام الأعظم وهو المتبع، فلا يجوز الخروج عن شريعته فهي شريعة واحدة إمامها واحد وهو نبينا عليه الصلاة والسلام فليس لأحد الخروج عن شريعته، بل يجب على جميع الثقلين الجن والإنس أن يخضعوا لشريعته، وأن يسيروا على منهاجه في التوحيد، وفي جميع الأوامر والنواهي، وهذا القسم الرابع معلوم، وهو داخل في قسم توحيد العبادة، لأن الرب سبحانه أمر عباده باتباع الكتاب والسنة، وهذا هو توحيد المتابعة، وقد أجمع العلماء على وجوب اتباع الرسول والسير على منهاجه، وأنه لا يسع أحد الخروج عن
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة الزمر الآية 66(51/11)
شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى؛ فإن الخضر نبي مستقل على الصحيح ليس تابعا لموسى، وقد كان الأنبياء والرسل قبل محمد كثيرين كل له شريعة كما قال الله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) .
أما هذه الأمة فليس لها إلا نبي واحد وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فالواجب على هذه الأمة من حين بعث الله نبيها محمدا وإلى يومنا هذا إلى يوم القيامة اتباع هذا النبي وحده والسير على شريعته المعلومة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد الخروج عن ذلك، ليس لأحد أن يقول أنا أتبع التوراة أو الإنجيل، وفلانا أو فلانا. بل يجب على الجميع اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن زعم أنه يجوز لأحد الخروج عنها فهو كافر ضال بإجماع المسلمين.
وقد علمنا مما سبق أن أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فتوحيد الربوبية وهو الإيمان بأفعال الرب سبحانه وأنه فعال لما يريد، وأنه الخلاق الرزاق، وهذا القسم ما أنكره المشركون بل أقروا به، وهو يستلزم توحيد العبادة ويلزمهم بذلك، فمن كان بهذه الصفة من كونه هو الخلاق، الرزاق، المحيي، المميت،
__________
(1) سورة المائدة الآية 48(51/12)
ومدبر الأمور، ومصرف الأشياء وجب أن يعبد وأن يخضع له فإنه يقول سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1) والمعنى ما دمتم تعلمون أن هذا الله أفلا تتقون الله في توحيده والإخلاص له، وترك الإشراك به، وهم مقرون بهذا يعلمون أنه ربهم وخالقهم ورازقهم، ولكنهم اعتقدوا أن تقربهم إليه بعبادة الأوثان والأصنام أنه شيء يرضيه، كما قال الله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) هذا اعتقادهم الباطل {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (3) ، الشياطين زينت لهم السوء وزينت عبادة الأصنام، والملائكة، والأنبياء، والأشجار، والأحجار وغير ذلك، فاحتج الله عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية، والأسماء والصفات على ما أنكروه من توحيد العبادة؛ لأن الذي يخلق ويرزق ويدبر الأمور ويحيي ويميت هو المستحق لأن يعبد ويطاع سبحانه وتعالى وهكذا أسماؤه كلها دليل ظاهر على أنه هو المستحق للعبادة، فهو الرحمن الرحيم، الرزاق العليم المدبر للأمور، مالك الملك، العالم بكل شيء، والقادر على كل شيء،
__________
(1) سورة يونس الآية 31
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة الأعراف الآية 30(51/13)
وهو الفعال لما يريد فمن كان بهذه المثابة وجب أن يعبد وحده دون ما سواه، وهذه الأسماء كلها دالة على معان عظيمة: الرحمن يدل على الرحمة، العزيز يدل على العزة، الرؤوف يدل على الرأفة، السميع يدل على أنه يسمع دعوات عباده وكلامهم، والبصير الذي يراهم ويشاهد أحوالهم، إلى غير ذلك، فهي أسماء عظيمة حسنى دالة على معان عظيمة كلها حق، وكلها ثابتة لله سبحانه على وجه يليق به سبحانه، لا شبيه له فيها ولا نظير، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (2) .
والصحابة رضوان الله عليهم وأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام كلهم مجمعون على إثبات الأسماء والصفات، وأنها حق ثابتة لله تعالى على وجه يليق به، بلا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وأن الاستواء، والنزول، والسمع والبصر، والكلام وسائر الصفات كلها حق، وهكذا سائر الأسماء حق، ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) أي اسألوه به فهو يدعى ويسأل بأسمائه: يا رحمن يا رحيم، يا عزيز يا غفور، اغفر لي، ارحمني، فرج كربتي، إلى غير ذلك. كما أنه يدعى أيضا بتوحيده والإيمان به، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 4
(3) سورة الأعراف الآية 180(51/14)
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (1) .
وكما في الحديث: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت؛ الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (2) » فهو يسأل بتوحيده والإيمان به، واعتراف العبد بأنه ربه وإلهه ومعبوده الحق. وهكذا يسأل بالأعمال الصالحات، ويتوسل إليه بها فهذا كله من أسباب الإجابة كما سأله أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة وهم قوم دخلوا غارا للمبيت فيه والاتقاء من المطر، فأنزل الله عليهم صخرة سدت الغار عليهم، فلم يستطيعوا رفعها، فقالوا فيما بينهم: إنه لن يخلصكم من هذه الصخرة إلا الله بسؤالكم الله بأعمالكم الصالحة، فتوسل أحدهم ببره بوالديه، والآخر بعفته عن الزنا، والثالث بأدائه الأمانة، ففرج الله عنهم الصخرة فخرجوا، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من آياته العظيمة سبحانه وتعالى، ومن الدلائل على قدرته العظيمة، فهو يحب من عباده من يتوسل إليه بأسمائه وصفاته وأعمالهم الطيبة، أما التوسل بجاه فلان، أو بحق فلان، أو بذات فلان، فهذا بدعة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 193
(2) رواه الترمذي في (الدعوات) باب ما جاء في جامع الدعوات برقم (3397) وابن ماجه في (الدعاء) باب اسم الله الأعظم برقم (3847) .(51/15)
ولهذا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يتوسلون بدعائه في حياته، فيقولون يا رسول الله ادع الله لنا، ويدعو لهم صلى الله عليه وسلم كما وقع في أيام الجدب وكان على المنبر، فطلبوا أن يدعو الله لهم، فدعا الله لهم واستجاب الله له، وفي بعض الأحيان كان يخرج إلى الصحراء فيصلي ركعتين تم يخطب ويدعو. فلما توفي صلى الله عليه وسلم عدل عمر إلى عمه العباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقام العباس ودعا فأمنوا على دعائه فسقاهم الله. ولو كان التوسل بالذات أو الجاه مشروعا لما عدل عمر والصحابة رضي الله عنهم إلى العباس، ولتوسل الصحابة بذاته، لأن ذاته عظيمة عليه الصلاة والسلام حيا وميتا.
والمقصود من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صان هذا التوحيد وحماه، وبين أن الواجب على الأمة إخلاص العبادة لله وحده، وأن يتوجهوا إليه جل وعلا بقلوبهم وأعمالهم في عبادتهم، وألا يعبدوا معه سواه لا نبيا ولا ملكا ولا جنيا ولا شمسا ولا قمرا ولا غير ذلك.
والله سبحانه أوجب على عباده ذلك في كتابه الكريم، وعلم الأمة ذلك أن يعبدوه وحده، ويتوجهوا إليه وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم أكمل ذلك وبلغ البلاغ المبين، وحمى حمى التوحيد، وحذر من وسائل الشرك، فوجب على الأمة أن تخلص(51/16)
لله العبادة، فالعبادة حق الله وحده وليس لأحد فيها نصيب، كما قال الله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) وقال جل وعلا {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (7) » متفق على صحته. وهذا أمر معلوم بالنصوص من الكتاب والسنة وبالضرورة، ولهذا يجب على علماء الحق أن يبذلوا وسعهم في تبيين هذا الحق بالكتب والرسائل ووسائل الإعلام، والخطب والمواعظ، وبسائر الوسائل الممكنة؛ لأنه أعظم حق وأعظم واجب؛ ولأنه أصل الدين
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة غافر الآية 14
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة البينة الآية 5
(7) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب اسم الفرس والحمار برقم (2644) ، (والاستئذان) باب من أجاب بلبيك وسعديك برقم (5796) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (43) باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.(51/17)
وأساسه كما تقدم، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(51/18)
غلة الأوقاف المنقطعة
جهاتها أو الفائض من غلالها على مصارفها
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من بحث مسألة غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض من غلالها على مصارفها في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء، وبناء على المادة (7) من لائحة سير العمل لدى الهيئة- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على بيان مصرف غلة الوقف المنقطع حقيقة أو حكما، ومصرف الفائض من ريع الأوقاف. وبالله التوفيق، وصلى الله عليه وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أ- مذهب الحنفية:
1 - قال إبراهيم الحلبي وعبد الرحمن بن شيخ محمد بن سليمان - المعروف بداماه - (1) : (وشرط لتمامه) أي: لتمام الوقف بعد ما لزم بأحد الأمور المذكورة عنده (ذكر مصرف مؤبد) مثل أن يقول: علي كذا وكذا، ثم على فقراء المسلمين،
__________
(1) ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر (1 \ 742، 743) .(51/19)
(وعند أبي يوسف يصح بدونه) أي بدون ذكر مصرف مؤبد؛ لأن الوقف إزالة الملك لله تعالى، وذا يقضي التأبيد، ولمحمد أن الوقف تصدق بالمنفعة، وذا يحتمل أن يكون مؤقتا ومؤبدا، فلا بد من التنصيص (وإذا انقطع) المصرف (صرف إلى الفقراء) ولا يعود إلى ملكه إن كان حيا وإلى ورثته إن كان ميتا، فعلم من هذا أن التأبيد شرط البتة إلا عند أبي يوسف ما لا يشترط ذكره، وعند محمد يشترط، لكن صاحب الهداية نقله بصيغة التمريض، فقال: قيل: التأبيد شرط بالإجماع إلا عند أبي يوسف، فإنه لا يشترط ذكر التأبيد.
وفي البحر: والحاصل أن عند أبي يوسف في التأبيد روايتين: في رواية: لا بد منه، وذكره ليس بشرط، وفي رواية: ليس بشرط. ويفرع على روايتين ما لو وقف على إنسان بعينه، أو عليه وعلى أولاده، أو على قرابته وهم يحصون، أو على أمهات أولاده فمات الموقوف عليه، فعلى الأول: يعود إلى ورثة الواقف، وعليه الفتوى، كما في الفتح وغيره، وعلى الثاني: يصرف إلى الفقراء وإن لم يسمهم، وهذا الصحيح عنده. واختلفوا في حد ما لا يحصى: روي عن محمد عشرة، وعن أبي يوسف مائة، وهو المأخوذ عند البعض، وقيل: أربعون، وقيل ثمانون. والفتوى أنه يفوض إلى رأي الحاكم.
2 - قال إبراهيم الحلبي ومحمد علاء الدين الحصكفي (1) :
__________
(1) ملتقى الأبحر وشرحه الدر (1 \ 742)(51/20)
(و) اعلم أنه (شرط لتمامه ذكر مصرف مؤبد) عندهما (وعند أبي يوسف يصح بدونه، وإذا انقطع صرف إلى الفقراء) وهذا بيان لشرائطه الخاصة فجعلاه كالصدقة، وجعله أبو يوسف كالإعتاق، واختلف الترجيح. والإفتاء والأخذ بقول أبي يوسف أحوط وأسهل، كما في المنح عن البحر، وبه يفتى، كما في الدرر، وصدر الشريعة، وفي فتح القدير: أنه أوجه عند المحققين، والخلاف في ذكر التأبيد، وأما في نفس التأبيد فشرط بالإجماع حتى لو وقته بشهر مثلا بطل بالاتفاق، كما في الدرر، والغرر، والتنوير، وغيرهما، وعليه فلو وقف على رجل بعينه جاز، وعاد بعد موته لورثة الواقف، وعليه الفتوى، وقيل: للفقراء، وهي رواية البرامكة، فليحفظ.
3 - قال عمر حلمي أفندي: (1) المسألة (78) : لا يشترط الموقوف عليه ولا تعيينه، فلو وقف شيئا ولم يبين الموقوف عليه يصح وقفه وتصرف غلته إلى الفقراء.
المسألة (80) لا يشترط وجود الموقوف عليه حال الوقف، مثلا: لو وقف داره وشرط غلتها على ما سيحدث له من الأولاد صح وقفه، ويستحق غلته بالشرط المذكور أولاده الذين يولدون له بعد الوقف، وكذا لو هيأ موضعا ليبني فيه مكانا خيريا - كمعبد، ومكتب - وقبل أن يبني المكان الخيري في موضعه بعض أملاكه وشرط غلتها للمكان المذكور يصح وقفه،
__________
(1) إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف، ص (43)(51/21)
وتعود غلته إلى المكان المذكور حينما يبنى بعد.
وتصرف غلة الوقف للفقراء إلى أن يولد للواقف أولاد في الصورة الأولى، وإلى أن يبنى المكان المذكور في الصورة الثانية. . وهذا الوقف الذي لا يوجد فيه المشروط له ابتداء يقال له ولأمثاله: منقطع الأول.
المسألة (81) : الوقف الذي يوجد فيه المشروط له ابتداء ثم ينقطع وينقرض يقال له: منقطع الآخر. . مثلا: شرط غلة وقفه لذريته فتصرف بعده ذريته بغلة الوقف مدة ثم انقرضت ولم تعقب أولادا فذلك الوقف يقال له: منقطع الآخر.
المسألة (82) : الوقف الذي يوجد فيه المشروط له ابتداء ثم ينقطع ثم يظهر يقال له: منقطع الوسط. . مثلا: شرط الواقف غلة وقفه لذكور ذريته فتصرفوا بعده بغلة الوقف ثم ماتوا ولم يعقبوا غير الإناث فانقطع المشروط له، ثم بعد مدة تولد من الإناث أولاد ذكور، فيطلق على الوقف منقطع الوسط.
وغلة الوقف المنقطع بجميع أنواعه تصرف إلى المشروط لهم حين وجودهم وإلى الفقراء حين فقدهم وانقطاعهم.
المسألة (172) : وقف قديم لم يعلم في جهة صرف غلته شرط واقف ولا تعامل قديم فتصرف الغلة برأي الحاكم إلى الفقراء والمحتاجين (1) .
__________
(1) إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف، ص (113) .(51/22)
4 - وقال ابن عابدين (1) : قال في الخانية: ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد يصح، فإذا أدركت الغلة تقسم على الفقراء، وإن حدث له ولد بعد القسمة تصرف الغلة التي توجد بعد ذلك إلى هذا الولد؛ لأن قوله: صدقة موقوفة، وقف على الفقراء، وذكر الولد الحادث للاستثناء، كأنه قال: إلا إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي. اهـ. ومنه ما في الخانية: وقف على ولديه ثم على أولادهما أبدا ما تناسلوا، قال ابن الفضل: إذا مات أحدهما عن ولد يصرف نصف الغلة إلى الباقي والنصف إلى الفقراء فإذا مات الآخر يصرف الجميع إلى أولاد الواقف؛ لأن مراعاة شرط الواقف لازم، والواقف إنما جعل أولاد الأولاد بعد انقراض البطن الأول، فإذا مات أحدهما يصرف النصف إلى الفقراء. اهـ.
(تنبيه) : علم من هذا أن منقطع الأول ومنقطع الوسط يصرف إلى الفقراء، ووقع في الخيرية خلافه؛ حيث قال في تعليل جواب ما نصه: للانقطاع الذي صرحوا به بأنه يصرف إلى الأقرب للواقف؛ لأنه أقرب لفرضه على الأصح. اهـ. وهذا سبق قلم فإن ما ذكره مذهب الشافعي، فقد قال نفسه في محل آخر من الخيرية: والمنقطع الوسط فيه خلاف، قيل: يصرف إلى المساكين، وهو المشهور عندنا، والمتظافر على ألسنة علمائنا، ثم قال بعد أسطر في جواب سؤال آخر: وفي منقطع
__________
(1) حاشية ابن عابدين (4 \ 430، 431) .(51/23)
الوسط الأصح صرفه إلى الفقراء، وأما مذهب الشافعي فالمشهور أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. اهـ.
5 - وقال الكاساني في معرض ذكره شروط صحة الوقف (1) : ومنها أن يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا عند أبي حنيفة ومحمد، فإن لم يذكر ذلك لم يصح عندهما، وعند أبي يوسف ذكر هذا ليس بشرط، بل يصح وإن سمى جهة تنقطع، ويكون بعدها للفقراء وإن لم يسمهم. وجه قول أبي يوسف أنه ثبت الوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، ولم يثبت عنهم هذا الشرط ذكرا وتسمية، ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء وإن لم يسمهم، وهو الظاهر من حاله؛ فكان تسمية هذا الشرط ثابتا دلالة، والثابت دلالة كالثابت نصا. اهـ.
6 - وقال ابن نجيم في الأشباه والنظائر: لا يشترط لصحة الوقف على شيء وجود ذلك الشيء وقته، فلو وقف على أولاد زيد ولا ولد له صح وتصرف الغلة إلى الفقراء إلى أن يوجد له ولد. اهـ.
7 - وقال ابن أبي بكر الطرابلسي الحنفي: (2) ولو جعل أرضه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على زيد وعمر وولدي بكر ومن مات منهما عن ولد انتقل نصيبه إليه، وإن مات من غير وارث كان نصيبه مردودا إلى الباقي منهما جاز الوقف، فلو مات
__________
(1) بدائع الصنائع (6 \ 220) .
(2) كتاب الإسعاف في أحكام الأوقاف، ص (126) .(51/24)
أحدهما ولم يترك سوى أخيه لا يرد إليه نصيبه، بل يكون للمساكين؛ لموته عن وارث. ولو لم يكن أحدهما ممن يرث الآخر ومات أحدهما عن غير وارث انتقل نصيبه إلى الآخر. اهـ.
8 - وقال هلال الرأي (1) : قلت: أرأيت رجلا قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدا على عبد الله وزيد؟ قال: فالغلة بينهما نصفان، قلت: أرأيت إن مات أحدهما؟ قال: فللباقي منهما نصف الغلة، وما بقي فللفقراء والمساكين، قلت: وكذلك لو سمى جماعة فمات بعضهم، قال: نعم، قلت: أرأيت إذا قال أرضي صدقة موقوفة، لعبد الله من غلاتها مائة درهم، ولعمرو مائتان فزادت الغلة؟ قال: يعطى كل واحد منهما ما سمي له، وما فضل بعد ذلك فهو للفقراء والمساكين، قلت: ولم قلت ذلك؟ قال: لأنه لما قال: صدقة موقوفة، لعبد الله من غلاتها مائة درهم في كل سنة، ولزيد مائتان، قائمة لهما ما سمي خاصة، وليس لهما مما بقي شيء، ولا يشبه هذا الباب الأول إذا قال: صدقة موقوفة لزيد وعمرو ولزيد مائة درهم وعمرو مائة درهم، هذا يكون ما بقي من الغلة بينهما؛ لأنه قال في أول كلامه: صدقة موقوفة لعبد الله وزيد، فجعل الغلة لهما جميعا، ثم قال: لزيد منها كذا ولعبد الله منها كذا، فما بقي بعد ذلك يكون نصفين؛ لقوله في أول كلامه صدقة موقوفة لعبد الله
__________
(1) أحكام الأوقاف، ص (273) .(51/25)
وزيد، وأما إذا قال: صدقة موقوفة لعبد الله منها مائة درهم ولزيد منها مائتا درهم فلم يجعلها لهما جميعا ثم يفصل ما لكل واحد منهما فلذلك كان ما بقي للفقراء.
وأما في الباب الأول فقد جعلها لهما جميعا في أول الكلام ثم فصل ما لكل واحد منهما فصار ما بقى منهما نصفين. ألا ترى أن رجلا لو قال: قد أوصيت بثلث مالي لعبد الله وزيد، لعبد الله منه مائة درهم ولزيد مائتا درهم، وكان الثلث خمسمائة أعطينا زيدا مائتين وأعطينا عبد الله مائة وما بقي بينهما نصفان، وهذا قول أصحابنا في الوصية، والوقف على قياسه. ولو قال: أوصيت لزيد بمائة درهم من ثلث مالي ولعمرو بمائتي درهم، فكان الثلث خمسمائة درهم أعطيت كل واحد منهما ما سمي له وما بقي بعد ذلك من الثلث فهو للورثة، وكذلك الوقف وهما سواء، وإنما يختلف الوصية والوقف في باب واحد، كل ما كان في الثلث لا وجه له فمرجعه إلى الورثة، وكل ما كان لا وجه له في الوقف فمرجعه إلى الفقراء والمساكين؛ لقوله في أول كلامه: صدقة موقوفة. اهـ.
9 - وقال في موضع آخر: (1) أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة، لعبد الله منها كذا ولزيد كذا ولعمرو كذا، حتى سمى جماعة كثيرة، فقصرت الغلة عن هذه الأرزاق؟ قال: تقسط الغلة بينهم على ذلك، قلت: أرأيت إن زادت الغلة على ذلك؟
__________
(1) انظر أحكام الأوقاف، ص (281) .(51/26)
قال: تكون الزيادة للفقراء، ثم قال بعد ذلك (1) : قلت: أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله من غلاتها أعطي منه ما كان فقيرا من قرابتي في كل سنة ما يكفيه في طعامه وشرابه وكسوته بالمعروف فقصرت الغلة لفقراء القرابة كيف تقسم بينهم؟
قال: يضرب لكل واحد منهم ما سمي له من غلات هذه الصدقة، ويقسط بينهم على ذلك. قلت: أرأيت إن كان في غلاتها فضل عما سمي لهم؟ قال: يكون ذلك الفضل للفقراء والمساكين. . قلت: ولم قلت ذلك؟ قال: لأنه لم يجعل للقرابة من الغلة إلا النفقات، فما فضل عنهم كان ذلك الفضل للفقراء. اهـ.
وقال الخصاف (2) : (باب) الرجل يجعل أرضه وقفا على رجل بعينه وعلى ولده وولد ولده، ثم على المساكين من بعدهم، أو يقفها على قوم بأعيانهم ويجعل آخرها للمساكين وما يدخل في ذلك. قلت: أرأيت رجلا جعل أرضه صدقة موقوفة لله أبدا على فلان وفلان وفلانة وفلانة أبدا ما عاشوا، فمن مات منهم وله ولد لصلبه فنصيبه بينهم على قدر مواريثهم عنه، ومن مات منهم ولا ولد له لصلبه فإن كان له ولد ولد، أو ولد ولد ولد، أو نسل كان له نصيبه ثم من بعدهم على لمساكين، قال: هذا وقف جائز
__________
(1) انظر أحكام الأوقاف، ص (281) .
(2) انظر أحكام الأوقاف، ص (90، 91) .(51/27)
على ما شرطه الواقف، قلت: فإن مات واحد منهم ولم يترك ولدا لصلبه كان نصيبه لولد ولده وولد ولد ولده ومن سفل منهم، قال: تقسم الغلة بين أولئك الذين سماهم في كتاب وقفه على عددهم، فما أصاب الميت قسم بين جميع ولد ولده من سفل منهم، ومن كان فوق ذلك على عددهم، قلت: وكذلك إن كان قال: وعلى أن من مات من أولادهم ونسلهم كان نصيبه من غلة هذه الصدقة وسبيله سبيل ما اشترطه في ولده لصلبه وولد ولده وأولادهم على ما سمى ووصف في هذا الكتاب، قال: نعم قلت: وكذلك إن قال: وكل من مات من أهل هذه الصدقة وترك وارثا من ولد أو ولد ولد أو إخوة أو أخوات كان نصيبه من غلة هذه الصدقة لمن كان يرثه من هؤلاء على قدر مواريثهم عنه، وقال أيضا: ومن مات منهم ولم يترك وارثا من ولد ولا ولد ولد ولا إخوة ولا أخوات ولا غيرهم كان نصيبه من ذلك لفقراء قرابته - يعني: الواقف - وللمساكين أبدا.
قال: الوقف جائز على ما سمى وشرط من ذلك. قلت: فإن مات بعضهم وترك ابنة وإخوة وأخوات، قال: يكون نصيبه من غلة هذه الصدقة، لابنته النصف من ذلك، وما بقي فهو لإخوته وأخواته على قدر مواريثهم منه.
قلت: فإن مات بعضهم، ولم يترك وارثا من ولد ولا ولد ولد ولا إخوة ولا أخوات، وترك عصبة يرثونه، ما حال نصبيه؟ قال: يرجع ذلك إلى المساكين، ولا يكون ذلك لفقراء قرابته. قلت: ولم كان هذا هكذا؟(51/28)
قال: من قبل أنه شرط أن يرد نصيب من مات منهم ولم يدع وارثا من ولد، ولا ولد ولد، ولا إخوة، ولا أخوات، ولا غيرهم، إلى فقراء قرابته والمساكين، فلما مات هذا وترك عصبة لم يكن لفقراء قرابته والمساكين من نصيبه شيء؛ لأن نصيبه إنما يكون لفقراء قرابته إذا لم يدع وارثا من ولد، ولا ولد ولد، ولا إخوة ولا أخوات، ولا غيرهم، وقد وجدنا هذا الميت ترك وارثا وهو عصبة؛ فلذلك لم يكن لفقراء قرابته شيء من نصيبه.
قلت: فلم جعلت ذلك للمساكين؟ قال: من قبل أن أصل الوقف إنما يطلب به ما عند الله تعالى، وأصله للمساكين، فإن كان الواقف شرط أن يقدم من قد سماه في أول الوقف قد قال: هذا ما تصدق به فلان بن فلان تصدق بجميع ضيعته الكذا صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا، فهذا إنما هو للمساكين، ولكن اشتراطه أن تجري الغلة على فلان وفلان وفلانة وفلانة على ما سمي بعد هؤلاء، ثم جعل آخر ذلك للمساكين، فقد جعل أول الوقف وآخره للمساكين، وكلما بطل منهم واحد رجع نصيبه من ذلك إلى المساكين، ألا ترى أن رجلا لو قال: قد جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على فلان بن فلان وفلان بن فلان ومن بعدهما على المساكين، فمن مات منهما ولم يترك ولدا كان نصيبه من ذلك للباقي منهما، فمات أحدهما وترك ولدا، قال: يرجع نصيبه إلى المساكين ولا يكون ذلك للباقي منهما من قبل أن الواقف إنما اشترط أن يرجع نصيب الذي يموت منهما إلى الباقي إذا لم يترك الميت وارثا فهذا قد ترك وارثا وهو ولده،(51/29)
قلت: فلم لا تجعل نصيب الميت منهما لولده؟ قال: من قبل أن الواقف لم يجعل ذلك لولد الميت، إنما قال: من مات منهما ولم يترك وارثا كان ذلك للباقي منهما فلهذه العلة لم يكن للباقي ولا لولد الميت من ذلك شيء. اهـ.
10 - قال عمر حلمي أفندي (1) : الفصل الرابع: في جواز صرف مال وقف على وقف آخر أو عدم جوازه.
المسألة (343) لا يجوز صرف غلة وقف مشروطة لجهة على نفقات وقف آخر مشروط لجهة أخرى وإن كان الواقف واحدا، فلو فعل المتولي ذلك يضمن ما صرفه. مثلا: بنى مكتبين ووقفهما، ووقف لكل واحد منهما عقارا على حدته، فلا تصرف غلة عقار أحدهما على حاجات الآخر.
المسألة (344) : وقفان اتحد واقفهما وجهاتهما، طرأ على غلة أحدهما ضعف جاز أن يصرف على حاجته من فضل غلة الوقف الآخر. مثلا: وقف عقارا شرط غلته على تعمير مكتب بناه ووقفه ووقف عقارا آخر شرط غلته لوظائف معلمي مكتبه، ثم بعد زمان طرأ على غلة العقار المشروطة لوظائف المعلمين ضعف فصارت لا تقوم بكفاياتها، فيجوز أن يصرف على الوظائف من فضلة غلة العقار المشروطة لنفقات التعمير.
المسألة (345) : يجوز صرف واردات وقف خرب
__________
(1) إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف، ص (269) .(51/30)
واستغني عنه على وقف آخر برأي الحاكم على حاجات أقرب وقف إليه من نوعه قليل الدخل. مثلا: بنى في محلة مكتبا ووقفه وقفا لازما، ثم بمرور الأيام خرب المكتب كله واستغنى عنه أهل المحلة لتشتتهم فتصرف وارداته برأي الحاكم على حاجات أقرب مكتب إليه موقوف قليل الواردات، ولا يجوز صرف واردات الوقف المستغنى عنه على وقف ليس من نوعه. مثلا: لا تصرف واردات مستشفى وقف وخرب واستغني عنه على مكتب، ولا واردات مكتب خرب واستغني عنه على مستشفى.
المسألة (347) : قرية تفرق أهلها وتشتت شملهم فبقي مسجدها معطلا مستغنى عنه، وفي قربها قرية ليس فيها مسجد، فلأهل القرية الثانية أن ينقضوا ذلك المسجد وينقلوا أنقاضه ويعمروها معبدا في قريتهم، وتصرف واردات المسجد المنهدم برأي الحاكم على حاجات المسجد الثاني، وليس لورثة واقف المسجد المنهدم أن يطلبوا وارداته لأنفسهم ويمنعوا صرفها على المسجد الجديد. وكذا لو وقف مبلغا من النقود على حاجات مسجد وقفه في قرية، ثم تشتت شمل أهل القرية، وخرب المسجد وتعطل، فأراد متوليه أن يصرف ربح النقود برأي الحاكم على حاجات مسجد آخر قليل الواردات في أقرب قرية من موضع المسجد المذكور، فليس للورثة أن يمنعوه عن ذلك، ويجعلوا النقود ميراثا بينهم لخراب المسجد الموقوفة عليه واستغنائه عنها.(51/31)
المسألة (369) : فضلة الوقف المشروطة لبعض الأشخاص يدخر منها نقود احتياطية لتعمير الوقف. مثلا: وقف فيه مصارف معينة شرطت فضلتها لأولاد الواقف فللمتولي أن يدخر منها مقدارا كافيا من النقود الاحتياطية ليصرفها على تعمير الوقف حينما تمس الحاجة إلى التعمير، وإن كانت العقارات غير محتاجة للتعمير في الحالة الحاضرة (1) .
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - يشترط لتمام الوقف بعد لزومه ذكر مصرف مؤبد عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوقف تصدق بالمنفعة، وهو محتمل للتوقيت والتأبيد فاشترط له ذكر التأبيد، وقال أبو يوسف: لا يشترط ذلك؛ لأن الوقف إزالة ملك الواقف لله تعالى، وهو يقتضي التأبيد، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ذكر التأبيد وتسميته، ولأن القصد بالوقف القربة والإحسان، والفقراء أهل ذلك وإن لم يكن ثم تسمية، وعلى الأول إذا عين مصرفا غير مؤبد يعود الوقف بعد الانقراض إلى الورثة؛ لعدم صحته وقفا عندهما، وعلى الثاني يعود الوقف إلى المساكين، وهو الأوجه، وبه الفتوى.
2 - الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط أو الآخر صحيح على المفتى به، وغلته بجميع أنواعه تصرف إلى المشروط لهم
__________
(1) إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف، ص (287) .(51/32)
حين وجودهم، وعند انقراضهم إلى الفقراء.
3 - كل وقف لم يعلم من واقفه جهة صرف غلته، ولا يعلم تعامل قديم عن جهة صرفها تصرف برأي الحاكم إلى الفقراء والمحتاجين.
4 - لا يجوز صرف غلة مشروطة لوقف على وظائف وقف آخر يختلف عنه في الجهة، وإن كان الواقف واحدا، ومن فعل ذلك ضمن ما صرف، ويجوز صرف غلة مشروطة لوقف على حاجة وقف آخر إن اتحدت جهتهما واتحد الواقف عليهما.
5 - يجوز صرف واردات وقف خرب واستغني عنه على حاجات أقرب وقف إليه من نوعه لا يكفيه وقفه، ويكون هذا برأي الحاكم، وليس للواقف أو ورثته المنع من ذلك، ولا يجوز ذلك إذا اختلف النوع، كمستشفى ومسجد.
6 - يدخر من يتولى الوقف نقودا احتياطية من فضل غلة الوقف المشروطة لبعض الأشخاص ليعمر بها الوقف عند الحاجة، وإن لم يكن ثم حاجة في الحال.
7 - من وقف على ولديه ثم على أولادهما أبدا ما تناسلوا، ثم مات أحدهما عن ولد صرف نصف الغلة إلى الباقي منهما، والنصف الآخر إلى الفقراء، فإذا مات الآخر صرف الجميع إلى أولاد أولاد الواقف؛ عملا بشرطه، حيث جعل أولاد الأولاد بعد انقراض البطن الأول.
8 - من جعل أرضه صدقة موقوفة على زيد وعمر وولدي(51/33)
بكر، ومن مات منهما عن ولد انتقل نصيبه إليه، وإن مات عن غير وارث كان نصيبه لمن بقي منهما جاز الوقف، فإذا مات أحدهما ولم يترك سوى أخيه كان نصيبه للمساكين دون أخيه لموته عن وارث، وإن مات أحدهما عن غير وارث ولم يكن أحدهما ممن يرث الآخر انتقل نصيبه إلى الآخر.
9 - من قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدا على عبد الله وزيد أو جماعة معينين فهي بينهم بالسوية، فإن مات أحدهم فنصيبه للمساكين، ومن قال: أرضي صدقة موقوفة، لفلان من غلتها مائة ولفلان من غلتها مائة مثلا، فلكل ما سمي له وما بقي فللفقراء والمساكين، حيث لم يجعلها جميعا لهما. بل سمى لكل منهما شيئا فيها بخلاف التي قبلها فقد جعلها جميعا لهما فافترقتا، وكذا الحال في الوصية غير أنهما تختلفان في أمر هو أنه كل ما كان في الثلث لا وجه له فمرجعه إلى الورثة، وكل ما كان في الوقف لا وجه له فمرجعه للفقراء.
10 - ومن قال: أرضي صدقة موقوفة، وسمى لكل من الموقوف عليهم منها شيئا معينا، أو قال: يعطى كل منهم من غلتها ما يكفيه بالمعروف صح الوقف، وأعطي كل منهم ما جعل له إن وسعتهم وصرف الزائد عنهم للفقراء. وإن قصرت عنهم الغلة قسمت بينهم بنسبة ما سمي لكل منهم، وإنما ردت الزيادة للفقراء؛ لأنه لم يجعل لهم إلا ما سمى لهم، أو قدر كفايتهم بالمعروف.(51/34)
ب- مذهب المالكية:
1 - قال ابن القاسم (1) : وقد سئل مالك عن رجل أوصى بوصية فأوصى فيها بأمور، وكان فيما أوصى به أن قال: داري حبس، ولم يجعل لها مخرجا، ولم يدر أكان ذلك منه نسيانا أو جهل الشهود أن يذكروه ذلك؟
فقال مالك: أراها حبسا في الفقراء والمساكين.
فقيل له: فإنها بالإسكندرية، وجل ما يحبس الناس بها في سبيل الله. قال: ينظر ذلك ويجتهد فيه فيما يرى الوالي، وأرجو أن يكون به سعة في ذلك إن شاء الله. اهـ.
2 - وقال خليل (2) : ولا يشترط تنجيز. . . ولا تعيين مصرف، وصرف في غالب، وإلا فالفقراء، قال ابن المواق: قال عياض: أما لفظة الحبس المبهم، كقوله: داري حبس، فلا خلاف أنها وقف مؤبد ولا ترجع ملكا، وتصرف عند مالك في الفقراء والمساكين، وإن كان في الموضع عرف للوجوه التي توضع فيها الأحباس وتجعل لها حملت عليه. اهـ.
3 - روى ابن وهب (3) عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد أنه قال: من حبس دارا أو تصدق بها قال: الحبس والصدقة عندنا بمنزلة واحدة، قال: فإن كان صاحب ذلك الذي
__________
(1) المدونة (4 \ 341، 342)
(2) التاج والإكليل على مختصر خليل (6 \ 32)
(3) المدونة (4 \ 343) .(51/35)
حبس تلك الدار لم يسم شيئا فإنها لا تباع ولا توهب وليسكنها الأقرب فالأقرب منه.
قال سحنون: وقال بعض رجال مالك: كل حبس أو صدقة كانت عن مجهول من يأتي فهو الحبس الموقوف، مثل أن يقول: على ولدي ولم يسمهم، فهذا مجهول، ألا ترى أنه من حدث من ولده بعد هذا القول يدخل فيه، وكذلك لو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي بعدهم فهذه أيضا على مجهول من يأتي، وإذا سمى فإنما هم قوم بأعيانهم، وقد فسرنا ذلك. وقال ربيعة: والصدقة الموقوفة التي تباع إن شاء صاحبها إذا تصدق الرجل على الرجلين أو الثلاثة أو أكثر من ذلك إذا سماهم بأسمائهم.
قال سحنون: ومعناه: ما عاشوا، ولم يذكر عقبا، فهذه الموقوفة التي يبيعها صاحبها إن شاء إذا رجعت إليه.
قلت لابن القاسم: أرأيت الرجل يقول: داري هذه حبس على فلان وعلى عقبه من بعده، ولم يقل: صدقة، أتكون حبسا كما يقول: صدقة؟ قال: أصل قوله الذي رأيته يذهب إليه أنه إذا قال: حبس، ولم يقل: صدقة، فهي حبس إذا كانت على غير قوم بأعيانهم.
قال سحنون: وإذا كانت على قوم بأعيانهم فقد اختلف قوله فيها، وقد كان يقول: إذا قال: حبسا على قوم بأعيانهم، ولم يقل: صدقة، أو قال: حبسا، ولم يقل: لا تباع ولا(51/36)
توهب، فهذه ترجع إلى الذي حبسها إن كان حيا، أو إلى ورثته الذين يرثونه، فتكون مالا لهم. وقد قال: لا ترجع إليه، ولكنها تكون محبسة بمنزلة الذي يقول: لا تباع.
وأما إن قال: حبسا لا تباع، أو قال: حبسا، أو قال: حبسا صدقة، وإن كانوا قوما بأعيانهم، فهذه الموقوفة التي ترجع بعد موت المحبسة عليه إلى أقرب الناس بالمحبس، ولا ترجع إلى المحبس وإن كان حيا.
قال سحنون: وهو الذي يقوله أكثر الرواة عن مالك، وعليه يعتمدون، ولم يختلف قوله في هذا قط أنه إذا قال: حبس صدقة، أو قال: حبس لا تباع، وإن كانوا قوما بأعيانهم، إنما الموقوفة التي ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس إن كان ميتا أو كان حيا، ولا ترجع إلى المحبس على حال (ابن وهب) عن مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: يقال: لو أن رجلا حبس حبسا على أحد، ثم لم يقل: لك ولعقبك من بعدك، فإنها ترجع إليه، فإن مات قبل الذي حبس عليهم الحبس ثم ماتوا كلهم أهل الحبس فإنها ترجع ميراثا بين ورثة الرجل الذي حبس على كتاب الله.
عن ابن وهب عن يونس عن ربيعة أنه قال: من حبس داره على ولده وولد غيره فجعلها حبسا فهي حبس عليهم يسكنونها على قدر مرافقهم، وإن انقرضوا أخذها ولاته دون ولاة من كان منهم مع ولده إذا كانوا ولدا أو ولد ولد أو غيرهم.(51/37)
قال سحنون: وأخبرني ابن وهب، عن يونس بن يزيد أنه سأل أبا الزناد عن رجل حبس على رجل وولده حبسا ما عاشوا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، قال أبو الزناد: فهي على ما وضعها عليه ما بقي منهم أحد، فإن انقرضوا صارت إلى ولاة الذي حبس وتصدق. قال ربيعة ويحيى وابن شهاب: إن الحبس إذا رجع إنما يرجع إلى ولاة الذي حبس وتصدق.
4 - قال (1) ابن المواق على قول خليل: (إلا كعلى عشرة حياتهم فيملكه بعدهم) اللخمي إن قال: حبس على هؤلاء النفر وضرب أجلا أو قال: حياتهم رجع ملكا اتفاقا. واختلف إن لم يسم أجلا ولا حياة. وقال أبو عمر: من حبس على رجل بعينه، ولم يقل: على ولده، ولا جعل له مرجعا، فاختلف فيه قول مالك، قال أصحابه المدنيون: يصرف لربه، وقال المصريون: يرجع لأقرب الناس حبسا.
5 - قال محمد بن جزي الغرناطي المالكي (2) : الفصل الرابع في مصرف الحبس بعد انقراض المحبس عليهم وذلك على ثلاثة أقسام:
الأول: حبس على قوم معينين، فإن ذكر لفظ الصدقة والتحريم لم ترجع إليه أبدا، وإن لم يذكرهما، فإذا انقرضوا فاختلف قول مالك، فقال: أولا ترجع إلى المحبس أو إلى
__________
(1) التاج والإكليل (6 \ 30)
(2) قوانين الأحكام الشرعية ص (402)(51/38)
ورثته، ثم قال: لا ترجع إليه، ولكن لأقرب الناس إليه.
الثاني: حبس على محصورين غير معينين، كأولاد فلان وأعقابهم.
الثالث: حبس على غير محصورين ولا معينين، كالمساكين، فلا يرجع إليه باتفاق، ويرجع إلى أقرب الناس إليه إن كان لم يعين له مصرفا، فإن عين مصرفا لم تعد إلى غيره.
6 - قال ابن المواق على قول خليل (1) : وصدقة لفلان فله، قال عياض: إن قال: مكان هو حبس أو وقف هي صدقة، فإن عينها لشخص معين فهي ملك له، وإن قال: داري حبس على فلان وعين شخصا فاختلف فيه قول مالك، هل يكون مؤبدا لا يرجع ملكا، فإن مات فلان رجعت حبسا لأقرب الناس بالمحبس على سنة مراجع الأحباس، فإن لم يكن له قرابة رجعت للفقراء والمساكين. والقول الآخر: أنها ترجع بعد موت المحبس عليه ملكا للمحبس أو ورثته إن مات كالعمرى. اهـ.
7 - وقال عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني (2) : وروى ابن المواز عن أشهب فيمن وهب هبة لرجل على أن لا يهب ولا يبيع، أن ذلك حبس عليه وعلى عقبه، فإن انقرض عقبه رجع حبسا على أقرب الناس للمحبس يوم يرجع إليه.
__________
(1) التاج والإكليل (6 \ 32)
(2) كتاب العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام (2 \ 101) ، حاشية على تبصرة الحكام(51/39)
8 - وقال أيضا (1) : ويجوز التحبيس على الحمل وعلى من يولد من الولد، وفي جواز بيعه قبل يأسه قولان. وقال ابن الماجشون: يحكم بتحبيسه، ويخرج إلى يد ثقة، فيصح الحوز وتوقف غلته، فإن ولد له كان لهم، وإلا فلأقرب الناس إليه.
ومن حبس على قوم بأعيانهم ولم يذكر المرجع إلا أنه حبس عليهم فانقرض المحبس عليهم، فروى أن ذلك يرجع إلى المحبس ملكا أو إلى ورثته إن لم يكن حيا، وروى غيره أنه يرجع إليه أو إلى أقرب الناس إليه حبسا، فإن لم يكن له قرابة فإلى المساكين.
فإن أتى بما يقتضي التأبيد، مثل أن يقول: حبسا مؤبدا على فلان، وإن لم يذكر عقبه، أو ذكر العقب، فهو حبس مؤبد لا يرجع ملكا أبدا باتفاق.
وإذا رجع الحبس إليه بانقراض المحبس عليه فهو يجعله في الذي يراه من سبل الخير، والقرابة الذين يرجع إليهم الحبس هم عصبته من الرجال ومن النساء من لو كان رجلا كان عصبته، ولا يرجع إلى زوجته، ولا إلى جدة لأم باتفاق. وقيل: لا مدخل للنساء كلهن أصلا. اهـ.
9 - قال ابن القاسم (2) : وقال مالك في الرجل يحبس
__________
(1) كتاب العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام (2 \ 103)
(2) المدونة (4 \ 343)(51/40)
الحبس على رجل وعقبه أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو يقول رجل: هذه الدار حبس على ولدي ولم يجعل له مرجعا بعدهم فانقرضوا - أن هذا الحبس موقوف لا يباع ولا يوهب، ويرجع إلى أولى الناس بالمحبس يكون حبسا عليه.
قال ابن القاسم: قال مالك: إذا تصدق الرجل بداره على رجل وولده ما عاشوا ولا يذكر لهم مرجعا إلا صدقة هكذا لا شرط فيها، فيهلك الرجل وولده؟ قال: أرى أن ترجع حبسا على أقاربه في المساكين ولا تورث.
10 - قال الحطاب نقلا عن ابن رشد (1) : قال في المقدمات: وللتحبيس ثلاثة ألفاظ. . . وإن تصدق بذلك على غير معين إلا أنهم محصورون، مثل أن يقول: داري صدقة على فلان وعقبه، هل ترجع بعد انقراض العقب مرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا؟ على قولين: روى أشهب عن مالك: أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس: أنها ترجع مرجع الأحباس، وهو قول مالك وبعض رجاله في المدونة، وقد قيل في المسألة قول ثالث: أن ذلك إعمار وترجع بعد انقراض العقب إلى المصدق ملكا. اهـ.
11 - قال محمد بن يوسف العبدري- الشهير بابن المواق - على قول خليل: ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل (6 \ 28)(51/41)
وامرأة لو رجلت عصبت، قال ابن الحاجب (1) : إذا لم يتأبد رجع بعد انقطاع جهته ملكا لمالكه أو وارثه، وإذا تأبد رجع إلى عصبة المحبس من الفقراء، ثم للفقراء.
ابن عرفة: في الهبات منها لو قال: حبس عليك وعلى عقبك، قال مع ذلك: صدقة، أولا، فإنها ترجع بعد انقراضهم لأولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولده أو عصبته ذكورهم وإناثهم سواء يدخلون في ذلك حبسا، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها حبسا لا يرجع إلى المحبس ولو كان حيا، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء.
فإن كانوا كلهم أغنياء فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء، ونصها عند ابن يونس: قال مالك: من قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو قال: حبس على ولدي ولم يجعل لها مرجعا فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبسا على أولى الناس بالمحبس يوم الرجع وإن كان المحبس.
فقيل لابن المواز: من أقرب الناس بالمحبس الذي يرجع إليهم الحبس بعد انقراض من حبس عليهم؟ فقال: قال مالك: على الأقرب من العصبة، ومن النساء من لو كانت رجلا كانت عصبة للمحبس، فيكون ذلك عليهم حبسا، قال مالك: ولا
__________
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل، وهو على هامش مواهب الجليل للحطاب (6 \ 29)(51/42)
يدخل في ذلك ولد البنات ذكرا أو أنثى ولا بنو الأخوات ولا زوج ولا زوجة. قال ابن القاسم: وإنما يدخل من النساء مثل العمات، والجدات وبنات الأخ والأخوات أنفسهن شقائق كن أم لأب، ولا يدخل في ذلك الإخوة والأخوات لأم.
محمد: واختلف في الأم فقال ابن القاسم: تدخل في مرجع الحبس، قلت: فإن كان ثم من سميت من النساء، وثم عصبة معهن والنساء أقرب؟ قال ابن القاسم: قال مالك: يدخلون كلهم إلا أن لا يكون سعة فليبدأ بإناث ذكور ولده على العصبة ثم الأقرب فالأقرب ممن سميت، وكذلك العصبة الرجال يبدأ بالأقرب فالأقرب. . . إلخ، وإذا لم يكن إلا النساء كان لهن على قدر الحاجة إلا أن يفضل عنهن.
محمد: أحسن ما سمعت أن ينظر إلى حبسه أول ما حبس فإن كان إنما أراد المسكنة وأهل الحاجة جعل مرجعه كذلك على من يرجع، فإن كانوا أغنياء لم يعطوا منها، وإن كان إنما أراد مع ذلك القرابة وأثرتهم رجع عليهم وأوثر أهل الحاجة إن كان فيهم أغنياء. قاله مالك. اهـ.
محمد: فإن لم يكن فيهم فقير ردت إليهم إذا استووا في الغنى وكان أولاهم فيها الأقرب فالأقرب والذكر والأنثى فيه سواء في المرجع، فإن اشترط أن للذكر مثل حظ الأنثيين فلا شرط له؛ لأنه لم يتصدق عليهم، ألا ترى أنه لو لم يكن أقعد به يوم المرجع إلا أخت أو بنت الابن ذلك لها وحدها، وكذلك إذا كان(51/43)
معها ذكر كان بينهما شطران. اهـ.
12 - وقال الحطاب على قول خليل: (ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس) (1) قال: فإن كان أهل المرجع أغنياء، فقيل: يرجع إلى أولى الناس بهم، وقيل: يرجع إلى الفقراء والمساكين. انتهى من وشائق الجزيري. وقال في التوضيح ما يقتضي أن المشهور أنه يرجع إلى الفقراء.
13 - قال خليل (2) : ولا قبول مستحقة إلا المعين الأهل، فإن رد فكالمنقطع، قال ابن المواق على قول خليل: (فإن رد فكالمنقطع) ، ابن الحاجب لا يشترط قبول الموقوف عليه إلا إن كان معينا وأهلا، فإذا رد بذلك فقيل: يرجع ملكا، وقيل: يكون لغيره، وذلك من نص ابن رشد إن حبسه عليه بعينه فأبى أن ينفي ورجع إلى صاحبه وإلا دفع لغيره، وللشيخ من أمر بشيء لسائل فلم يقبله دفع لغيره، وقال مالك: من جمع له ثمن كفن ثم كفنه رجل من عنده رد ما جمع لأهله. قال ابن رشد: هذا موافق للمدونة إن فضلت للمكاتب فضلة ردت على الذين أعانوه.
انظر نحو هذا في أول نوازل ابن سهل فيمن طاع بمال لأسير فهرب ذلك الأسير وأتى قومه بلا فداء، قال بعضهم: ذلك كالذي أخرج كسرة لمسكين فلم يجده، وقال ابن زرب: بل يرد
__________
(1) مواهب الجليل (29، 30)
(2) التاج والإكليل (32، 33)(51/44)
إلى صاحبه، كما في سماع أصبغ في الجنائز أن مالكا قال في قوم جمعوا دراهم يكفنون بها ميتا فكفنه رجل من عنده، أن الدراهم ترد إلى أهلها. وقال ابن القاسم: وفي سماع عبد الملك فيمن أوصى بدنانير لتنفق في بناء دار محبسة فاستحقت أن الدنانير ترد إلى الورثة. اهـ.
14 - وقال ابن المواق أيضا على قول خليل: " وعلى اثنين وبعدهما على الفقراء نصيب من مات لهم " (1) ، قال: ابن الحاجب لو حبس على زيد وعمرو ثم على الفقراء فمات أحدهما فحصته للفقراء، وإن كانت غلة، وإن كانت كركوب دابة وشبهه فروايتان.
ابن عرفة: يؤخذان من قول مالك فيها: من حبس حائطا على قوم معينين: فكانوا يلونه ويسقونه فمات أحدهم قبل طيب الثمرة فجميعها لبقية أصحابهم وإن لم يلوا عملها، وإنما تقسم عليهم الغلة فنصيب الميت لرب النخل، ثم رجع مالك إلى رد ذلك لمن بقي، وبهذا أخذ ابن القاسم.
ابن عرفة: ففي نقل حظ معين من طبقة بموته لمن بقي فيها أو لمن بعدها قولان: بالأول أفتى ابن الحاج، وبالثاني أفتى ابن رشد، وألف كل منهما على صاحبه. اهـ.
15 - قال عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني (2) : ولا
__________
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل (6 \ 30) .
(2) العقد المنظم للحكام (2 \ 106) وما بعدها.(51/45)
تصرف غلات الأحباس بعضها إلى بعض فيما يحتاج إليه عند ابن القاسم، وقال غيره: يجوز صرف ذلك إلى المساجد التي لا أحباس لها، وذلك فيما فضل عما يحتاج إليه، وعلى القول الأول أكثر الرواة، وقال أصبغ وابن الماجشون في العتبية: إن الأحباس كلها إذا كانت لله تعالى جاز أن ينفق بعضها في بعض، والسلف كذلك، فمن أجاز صرف ذلك أجاز السلف، ومن لم يجزه منعه.
وكتب شجرة إلى سحنون في مسجدين أو ثغرين متقاربين من المرابطات: وضع في هذا سلاح وفي هذا سلاح ينتفع به المرابطون فيحتاج أهل أحد الموضعين إلى ما في الآخر لينتفعوا به، ويصرفوه- أن كل موضع أولى بما فيه. وسئل ابن رشد في مسجد جامع تهدمت بلاطة داره وليس في مستقلات أملاكه ما يبنى منه بعد نفقات وقيده وأجرة أئمته وخدمته، وعندنا مساجد قد فضل من غلاتها كثير فهل ترى أن تبنى البلاطات من فضلات هذه المساجد أو أن تؤخذ على السلف إلى أن ترد من غلات المسجد الجامع، فقال: ما كان من المساجد لا يفضل من غلات أحباسها إلا يسير فلا يجوز أن يؤخذ منه شيء لبنيان الجامع؛ مخافة أن تقل الغلة فيما يستقبل فلا تقوم بما يحتاج إليه، وما كان منها يفضل من غلاتها كثير حتى يؤمن احتياج المسجد إليها فيما يستقبل فجائز أن يبنى ما انهدم من الجامع بما إذا لم يكن في غلات أحباسه ما يبنى به ما انهدم منه على ما أجازه من تقدم من العلماء.(51/46)
وسئل أيضا في مسجد له غلة واسعة هل تستنفذ غلته في أجرة إمامه وحصره وزيت وقيده، ولا يوفر منها شيء، أو يوفر من غلته وتوقف؟ وهل يبتاع بها أصل ملك يكون حبيسا؟
فقال: لا يجوز أن تستنفذ غلة أحباس الجامع في أجرة إمامه وقومته وحصره وزيت وقيده، والواجب فيما فضل من غلته بعد أجرة إمامه المفروضة له بالاجتهاد، وبعد أجرة قومته وما يحتاج إليه من حصر وزيت بالسداد في ذلك دون سرف- أن توقف لما يحتاج إليه من نوابيه، ولما خشي من انتقاص غلته، وإن كان في الفاضل منها ما يبتاع به أصل ملك يكون كسبيل سائر أحباسه فذلك صوابه، ووجه من وجوه النظر.
16 - قال ابن المواق على قول خليل: " وفي كقنطرة لم يرج عودها في مثلها ولا وقف لها " (1) .
ابن عرفة شبه المصرف مثله إن تعذر، قال ابن المكوى: من حبس أرضا على مسجد فخرب وذهب أهله يجتهد القاضي في حبسه بما يراه. . . ولأصبغ عن ابن القاسم في مقبرة عفت لا بأس ببنيانها مسجدا، وكلما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض.
ومن نوازل البرزلي: بل الفتيلة من قنديل المسجد وأخذ زيته لا يجوز، ولو كان ذلك لمسجد آخر لجرى، على الخلاف بين الأندلسيين والقرويين في صرف الأحباس بعضها في بعض، وعلى
__________
(1) التاج والإكليل (6 \ 31، 32)(51/47)
الجواز العمل اليوم، مثل صرف أحباس جامع الزيتونة لجامع الموحدين، وأخذ حصره السنة بعد السنة وزيته كذلك.
وسئل ابن علاق عن حبس على طلاب العلم للغرباء أنه إن لم يوجد غرباء دفع لغير الغرباء، قال: ويشهد لهذا فتيا سحنون في فضل الزيت على المسجد أنه يؤخذ منه في مسجد آخر، وفتيا ابن دحون في حبس على حصن تغلب عليه يدفع في حصن آخر، قال: وما كان لله واستغني عنه فجائز أن يستعمل في غير ذلك الوجه ما هو لله ومنها فتيا ابن رشد في فضل غلات مسجد زائدة على حاجته أن يبنى بها مسجد تهدم. وقال عياض: إن جعل حبسه على وجه معين غير محصور، كقوله حبس في السبيل أو في وقيد مسجد كذا، أو إصلاح قنطرة كذا، فحكمه حكم الحبس المبهم يوقف على التأبيد ولا يرجع ملكا، فإن تعذر ذلك الوجه بجلاء البلد أو فساد موضع القنطرة حتى يعلم أنه لا يمكن أن يبني وقف إن طمع بعود إلى حاله أو صرف في مثله. اهـ.
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - لا يشترط في صحة الوقف التأبيد ولا تعيين المصرف ولا الموقوف عليه، فيصح الوقف المنقطع أولا ووسطا وآخرا. والوقف الذي لم يذكر له مصرف أو ذكر ونسي أو جهل، فمن قال: حبست كذا من العقار أو المنقول، أو قال: وقفته، صح وقفه، وكان مؤبدا، ثم إن كان ببلد الوقف عرف بوضع الأوقاف في مصرف معروف عمل به، وإلا فمصرفه الفقراء والمساكين، ومن حبس على غير معين مثل: حبست أو وقفت داري مثلا على(51/48)
ولدي أو على ولدي وولد ولدي ولم يسم أحدا أو على زيد وعقبه ولم يذكر مرجعا فهي حبس مؤبد، وترجع بعد انقراضهم وقفا على أقرب فقراء عصبة المحبس يوم رجوع الوقف إليهم من الرجال، ومن النساء من لو قدرت ذكرا لكانت عاصبا، ويستوي الذكر والأنثى في الاستحقاق ولو قال الواقف: للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنهم استحقوه وقفا عند الانقراض بحكم الشرع لا بسبب إنشاء الواقف، وعلى ذلك لا تدخل الجدة من الأم ولا الإخوة والأخوات من الأم ولا الخالة. . . إلخ.
وتدخل العمة والأم وبنت الأخ وبنت الابن. . . إلخ. وقيل: لا يدخل النساء في هذا أصلا فإن كانوا كلهم أغنياء أو لم يوجدوا رجع إلى أقرب فقراء عصبتهم، فإن لم يوجدوا رجع إلى الفقراء. وقيل: ترد إليهم إذا استووا في الغنى وكان أولاهم فيها الأقرب فالأقرب وإن لم يستووا في الغنى فلأدناهم غنى.
ولا يدخل الواقف في ذلك ولو كان فقيرا، ولا يدخل أيضا مواليه ولو فقراء. أما إن حبس شيئا على معين أو قوم بأعيانهم وسماهم بأسمائهم، فإن قال: حبس صدقة، أو قال: حبس لا يباع ولا يوهب، أو قال: وعقبهم، فهو وقف مؤبد مرجعه عند الانقراض مرجع الوقف على غير المعين، وإن لم يقل: صدقة، ولا قال: لا تباع ولا توهب، ولا ذكر عقبا ولا مرجعا، فمعناه: أنه لهم مدة حياتهم فيكون إعمارا. وعلى ذلك يرجع بعد انقراضهم إلى المحبس إن كان حيا، وإلا فلورثته ملكا لا وقفا. وقيل: يرجع إلى أقرب فقراء عصبة المحبس كالذي قبله.(51/49)
2 - من وقف على زيد وعمرو مثلا وبعدهما على الفقراء فنصيب من مات منهما للفقراء لا للحي منهما، سواء قال حياتهما أم لا، احتياطا لجانب الفقراء. ومن وقف على قوم محصورين حياتهم أو حياة الواقف أو حياة زيد مثلا أو ذكر أجلا انتقل نصيب من مات منهم للحي من أصحابه ولو واحدا، احتياطا لجانب الموقوف عليهم ليستمر الوقف عليهم حياتهم.
فإذا انقرضوا جميعا رجع الحبس ملكا لواقفه، أو لوارثه إن كان قد مات، فإن لم يقل حياتهم ولم يذكر أجلا رجع مراجع الأحباس على الأصح.
3 - من وقف حائطا على معينين فمات أحدهم قبل طيب الثمرة فنصيبه لأصحابه على كل حال، وهو الذي رجع إليه مالك.
4 - من وقف على أولاده ثم أولاد أولاده حجب كل فرد في الطبقة العليا فرعه فقط دون فرع غيره إلا إن جرى عرف بخلافه.
5 - من وقف على من سيولد صح الوقف، وتوقف الغلة إلى أن يوجد فيعطاها، فإن حصل مانع من وجوده كموت أو يأس رجعت الغلة للمالك إن كان حيا، وإلا فلورثته، وفي جواز بيع الواقف ذلك قبل اليأس قولان.
6 - يجب على من تولى الوقف أن يدخر من فاضل غلته ما ينفقه على الموقوف عليه عند الحاجة، وإن كان في فاضل الغلة(51/50)
ما يمكن أن يشترى به شيء للوقف اشتراه وضمه للأصل.
7 - لا تصرف غلات الأحباس بعضها إلى بعض، وقيل: يجوز صرف فضل غلات حبس إلى حبس آخر لا أحباس له، أو له أحباس لا تكفيه.
8 - ما حبس على منفعة عامة كقنطرة ومدرسة ومسجد فخرب الموقوف عليه فإن رجي عوده ادخرت غلة الوقف لتصرف في ترميمه وإصلاحه أو في إعادته وإنشائه من جديد، وإن لم يرج عود الموقوف عليه صرفت في مثله حقيقة، كغلة مسجد في مسجد آخر، وإن لم يمكن صرفت في مثله نوعا بأن تصرف في قرية أخرى.(51/51)
ج- مذهب الشافعية:
1 - قال الشيرازي (1) : وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان:
أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأن القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا؛ لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه.
والثاني: أنه يصح، ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على
__________
(1) المهذب (1 \ 441، 442)(51/51)
التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، ويقدم المسمى على غيره، فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب، والدليل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صدقة وذو رحم محتاج (1) » ، وروى سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة (2) » ، - هذا الحديث أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وحسنه الترمذي - وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء فيه قولان:
أحدهما: يختص به الفقراء لأن مصرف الصدقات إلى الفقراء.
والثاني: يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن في الوقف الغني والفقير سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء أو على رجل غير معين ثم على الفقراء ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: يبطل قولا واحدا؛ لأن الأول باطل، والثاني فرع لأصل باطل فكان باطلا، ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه باطل؛ لما ذكرناه، والثاني: أنه يصح؛ لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن وصار الثاني أصلا، فإذا قلنا: أنه يصح فإن كان الأول لا يمكن اعتبار انقراضه
__________
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالمتروك، أما بقية رجاله فثقات.
(2) سنن النسائي الزكاة (2582) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1844) ، مسند أحمد بن حنبل (4/214) ، سنن الدارمي الزكاة (1680) .(51/52)
كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه، وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ينقل في الحال إلى من بعده؛ لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه، فصار كالمعدوم.
والثاني: وهو المنصوص أنه للواقف، ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء فبقي على حكمه.
والثالث: أن يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل للفقراء؛ لأنه لا يمكن تركه على الواقف؛ لأنه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق. وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ على ما ذكرنا من القولين.
وقال أيضا: فصل: وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان:
أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأنه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت داري ووهبت مالي.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا كالأضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء وقد بيناه. اهـ.(51/53)
2 - وقال محمد بن محمد أبو حامد الغزالي في أثناء الكلام على الركن الرابع (1) وفي الوقف المنقطع آخره قولان. كما لو وقف على أولاده ولم يذكر من يصرف إليه بعدهم. فإن قلنا بالصحة فقولان في أنه هل يعود ملكا إلى الواقف أو إلى تركته بعد انقراضهم. فإن قلنا: لا يعود، فيصرف إلى أهم الخيرات. وقيل: إنه لأقرب الناس إليه، وقيل: إنه للمساكين، (و) وقيل: إنه للمصالح إذ أهم الخيرات أعمها. ولو قال: وقفت على من سيولد من أولادي فهو منقطع الأول فقولان كمنقطع الآخر. وقيل: يبطل قطعا؛ لأنه لا مقر له في الحال. وإن صححنا، فإذا وقف على عبده أو على وارثه وهو مريض ثم بعده على المساكين فهو منقطع الأول. ولو اقتصر على قوله: وقفت، لم يصح (م) على الأظهر. وقيل يصح ثم يصرف إلى أهم الخيرات كما ذكرنا في منقطع الآخر. ولو وقف على شخصين وبعدهما على المساكين فمات أحدهما فنصيبه لصاحبه أو للمساكين فيه وجهان، فلو رد البطن الثاني وقلنا: يرتد برده فقد صار منقطع الوسط ففي مصرفه ما ذكرناه، وقيل: إنه يصرف إلى الجهة العامة المذكورة بعد انقراضهم في شرط الوقف. وقيل: يصرف إلى البطن الثالث ويجعل الذين ردوا كالمعدومين.
3 - قال النووي (2) : الشرط الرابع: بيان المصرف، فلو
__________
(1) الوجيز (1 \ 148)
(2) روضة الطالبين (5 \ 331، 332)(51/54)
قال: وقفت هذا واقتصر عليه، فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما عند الأكثرين: بطلان الوقف، كقوله: بعت داري بعشرة أو وهبتها، ولم يقل لمن، ولأنه لو قال: وقفت على جماعة، لم يصح لجهالة المصرف. فإذا لم يذكر المصرف فأولى أن لا يصح.
والثاني: يصح، وإليه ميل الشيخ أبي حامد، واختاره صاحب (المهذب) ، والروياني، كما لو نذر هديا أو صدقة ولم يبين المصرف، وكما لو قال: أوصيت بثلثي فإنه يصح ويصرف إلى المساكين، وهذا إن كان متفقا عليه فالفرق مشكل.
قلت: الفرق، أن غالب الوصايا للمساكين، فحمل المطلق عليه، بخلاف الوقف، ولأن الوصية مبنية على المساهلة، فتصح بالمجهول والنجس وغير ذلك بخلاف الوقف. والله أعلم. فإن صححنا ففي مصرفه الخلاف في منقطع الآخر إذا صححناه، وعن ابن سريج، يصرفه الناظر فيما يراه من البر كعمارة المساجد والقناطر، وسد الثغور وتجهيز الموتى وغيرها.
4 - وقال النووي (1) : إذا وقف وقفا منقطع الآخر، بأن قال وقفت على أولادي، أو قال: وقفت على زيد ثم على عقبه ولم يزد، ففي صحته ثلاثة أقوال: أظهرها عند الأكثرين: الصحة، منهم القضاة: أبو حامد، والطبري، والروياني، وهو نصه في (المختصر) . والثاني: البطلان وصححه المسعودي والإمام. والثالث: إن كان الموقوف عقارا فباطل، وإن كان
__________
(1) روضة الطالبين (5 \ 326) .(51/55)
حيوانا صح لأن مصيره إلى الهلاك، وربما هلك قبل الموقوف عليه، فإن صححنا فإذا انقرض المذكور فقولان: أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف، أو إلى ورثته إن كان مات، وأظهرهما: يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه: أصحها: وهو نصه في (المختصر) يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور، والثاني: إلى المساكين، والثالث: إلى المصالح العامة مصارف خمس الخمس، والرابع: إلى مستحقي الزكاة. فإن قلنا: إلى أقرب الناس إلى الواقف، فيعتبر قرب الرحم، أم استحقاق الإرث وجهان: أصحهما الأول، فيقدم ابن البنت على ابن العم؛ لأن المعتبر صلة الرحم.
وإذا اجتمع جماعة، فالقول في الأقرب كما سيأتي في الوصية للأقرب، وهل يختص بفقراء الأقارب، أم يشاركهم أغنياؤهم؟ قولان: أظهرهما الاختصاص، وهل هو على سبيل الوجوب أم الاستحباب؟ وجهان.
وإن قلنا: يصرف إلى المساكين ففي تقديم جيران الواقف وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنا لو قدمنا بالجوار، لقدمنا بالقرابة بطريقة الأولى.
5 - وقال أيضا (1) : فرع: قال: وقفت هذا على زيد شهرا، على أن يعود إلى ملكي بعد الشهر فباطل على المشهور.
وفي قول يصح، فعلى هذا، هل يعود ملكا بعد الشهر، أم يكون
__________
(1) روضة الطالبين (5 \ 327) .(51/56)
كالمنقطع حتى يصرف بعد الشهر إلى أقرب الناس إلى الواقف، قولان حكاهما البغوي.
6 - وقال أيضا (1) : الشرط الثاني التنجيز، فلو قال: وقفت على من سيولد لي أو على مسجد سيبنى، ثم على الفقراء، أو قال: على ولدي ثم على الفقراء، ولا ولد له، فهذا وقف منقطع الأول، وفيه طريقان: أحدهما: القطع بالبطلان، والثاني: على القولين في منقطع الآخر، والمذهب هنا: البطلان، وهو نصه في (المختصر) فإن صححنا نظر، إن لم يمكن انتظار من ذكره كقوله: وقفت على ولدي ولا ولد له، أو على مجهول، أو ميت، ثم على الفقراء فهو في الحال مصروف إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، وإن أمكن إما بانقراضه كالوقف على عبد، ثم على الفقراء، وإما بحصوله كولد سيولد له فوجهان:
أحدهما: تصرف الغلة إلى الواقف حتى ينقرض الأول، وعلى هذا ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان، والثاني: وهو الأصح تنقطع الغلة عن الواقف، وعلى هذا أوجه: أصحها: تصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف، فإذا انقرض المذكور أولا صرف إلى المذكور بعده، وعلى هذا فالقول في اشتراط الفقر وسائر التفاريع على ما سبق، والثاني: يصرف إلى المذكورين بعده في الحال، والثالث: أنه للمصالح العامة. اهـ.
__________
(1) روضة الطالبين (5 \ 327) .(51/57)
7 - وقال في أثناء الكلام على صور الانقطاع- قال (1) : الثالثة: متصل الطرفين منقطع الوسط، بأن وقف على أولاده ثم رجل مجهول، ثم الفقراء، فإن صححنا منقطع الآخر فهذا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما: الصحة، ويصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف وإلى المساكين أو المصالح أو الجهة العامة المذكورة آخرا، فيه الخلاف السابق. الرابعة: أن ينقطع الطرفان دون الوسط، بأن وقف على رجل مجهول ثم على أولاده فقط، فإن أبطلنا منقطع الأول فهذا أولى، وإلا فالأصح بطلانه أيضا، فإن صححنا ففي من يصرف إليه الخلاف السابق.
8 - وقال في الكلام على أتباع شروط الواقف- قال (2) : ثم الوجهان فيما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة المسلمين، أما إذا لم يتعرض للانقراض ففيه خلاف، قلت: يعني: اختلفوا في صحة الوقف لاحتمال انقراض هذه الطائفة، والأصح أو الصحيح الصحة. اهـ.
9 - وقال أيضا في الكلام على مسائل تتعلق بالباب الأول (3) - قال: الأولى: وقف على رجلين، ثم على المساكين، فمات أحدهما، ففي نصيبه وجهان: أصحهما وهو نصه في حرملة: يصرف إلى صاحبه. والثاني: إلى المساكين، والقياس:
__________
(1) روضة الطالبين (5 \ 328) .
(2) روضة الطالبين (5 \ 330) .
(3) روضة الطالبين (5 \ 332، 333) .(51/58)
أن لا يصرف إلى صاحبه ولا إلى المساكين، بل صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط.
قلت: معناه: يكون صرفه مصرف منقطع الوسط؛ لأنه يجيء خلاف في صحة الوقف. والله أعلم.
10 - وقال أيضا: الثانية: وقف على شخصين ولم يذكر من يصرف إليه بعدهما وصححنا الوقف فمات أحدهما فنصيبه للآخر، أم حكمه حكم نصيبهما إذا ماتا، فيه وجهان.
الثالثة: وقف على بطون، فرد البطن الثاني، وقلنا: يرتد بردهم فهذا وقف منقطع الوسط، وسبق بيانه، وفيه قول أو وجه: أنه يصرف إلى البطن الثالث.
11 - وقال أيضا: السادسة: قال: جعلت داري هذه خانقاه للغزاة، لم تصر وقفا بذلك، ولو قال: تصدقت بها صدقة محرمة ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ولم يزد عليه، ففي صحة هذا الوقف وجهان. فإن صح، ففي الفاضل عن المقدار أوجه: أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، والثاني إلى المساكين، والثالث: تكون ملكا للواقف.
12 - قال النووي والرملي في الكلام على شروط الواقف (1) : ولا أثر لتأقيت الاستحقاق، كعلى زيد سنة، ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لي ولد كما نقله البلقيني عن الخوارزمي، وجزم به
__________
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج (5 \ 373) وما بعدها، وشرح المحلى على المنهاج (3 \ 102) لقليوبي وعميرة.(51/59)
ابن الصباغ، وجرى عليه في الأنوار، ولا للتأقيت الضمني "في منقطع الآخر المذكور في قوله: (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله) أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك (فالأظهر: صحة الوقف) لأن مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير (فإذا انقرض المذكور) أو لم تعرف أرباب الوقف (فالأظهر أنه يبقى وقفا) لأن وضع الوقف الدوام، كالعتق، ولأنه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر هديا إلى مكة فرده فقراؤها.
والثاني: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات؛ لأن بقاء الوقف بلا مصرف متعذر وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد فتعين ارتفاعه (و) الأظهر: (أن مصرفه أقرب الناس) رحما، لا إرثا؛ فيقدم وجوبا ابن بنت على ابن عم.
ويؤخذ منه صحة ما أفتى به العراقي: أن المراد بما في كتب الأوقاف ثم الأقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الإرث والعصوبة فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة، ومن ثم قال: لم يرجح عم على خالة، بل هما مستويان، ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على غيره فيما يظهر (إلى الواقف) بنفسه (يوم انقراض المذكور) لأن الصدقة على الأقارب أفضل القربات، فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه؛ لأن الأقارب مما حث الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر طلحة: (أرى أن تجعلها في الأقربين)(51/60)
وبه فارق عدم تعينهم في نحو الزكاة على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الريع لمصالح المسلمين، كما نص عليه البويطي في الأولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا وسكت عن باقيها فكذلك، وصرح في الأنوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد الوقف بخلاف الزكاة.
أما الإمام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لأقاربه، كما أفاده الزركشي وهو ظاهر (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) أو على مسجد سيبنى ثم على الفقراء مثلا (فالمذهب بطلانه) لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده فرعه.
والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: الصحة، وصححه المصنف في (تصحيح التنبيه) ولو لم يذكر بعد الأول مصرفا بطل قطعا؛ لأنه منقطع الأول والآخر، ولو قال: وقفت على أولادي ومن سيولد لي على ما أفصله، ففصله على الموجودين وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله: وقفت على أولادي ومن سيولد لي؛ لأن التفصيل بعده بيان له (أو) كان الوقف (منقطع الوسط) بالتحريك (كوقفته على أولادي ثم) على (رجل) مبهم، وبه يعلم أنه لا يضر تردد في صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق الانقطاع إلا مع الإبهام من كل وجه،(51/61)
(ثم الفقراء، فالمذهب صحته) ؛ لوجود المصرف حالا ومآلا، ومصرفه عند الانقطاع كمصرف منقطع الآخر، لكن محله إن عرف أمد انقطاعه، فإن لم يعرف كرجل صرف بعد موت الأول لمن بعد المتوسط كالفقراء، كما أفاده ابن المقري، وإطلاق الشارح ككثير محمولة على ذلك (ولو اقتصر على) قوله: (وقفت) كذا ولم يذكر مصرفا أو ذكر مصرفا متعذرا كوقفت كذا على جماعة (فالأظهر بطلانه) وإن قال لله؛ لأن الوقف يقتضي تمليك المنافع، فإذا لم يعين متملكا بطل كالبيع، ولأن جهالة المصرف كعلى من شئت ولم يعينه عند الوقف أو من شاء الله يبطله فعدمه بالأولى، وإنما صح أوصيت بثلثي ولم يذكر مصرفا حيث يصرف للمساكين؛ لأن الغالب الوصايا لهم، فحمل الإطلاق عليه، ولأنها أوسع لصحتها بالمجهول والجنس، بحثه الأذرعي من أنه لو نوى المصرف واعترف به صح، مردود. كما قاله الغزي بأنه لو قال: طالق ونوى زوجته لم يصح؛ لأن النية إنما تؤثر مع لفظ يحتملها، ولا لفظ هنا يدل على المصرف أصلا، ويؤخذ منه أنه لو قال في جماعة أو واحد: نويت معينا لا يصح، قيل: وهو متجه.
13 - قال النووي والمحلى (1) : (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله ولم يزد فالأظهر: صحة الوقف)
__________
(1) قليوبي وعميرة ومعهما المحلى على المنهاج (3 \ 102) .(51/62)
ويسمى منقطع الآخر، والثاني: بطلانه لانقطاعه، والثالث: إن كان الموقوف حيوانا صح الوقف؛ إذ مصير الحيوان إلى الهلاك فقد يهلك قبل الموقوف عليه بخلاف العقار (فإذا انقرض المذكور) بناء على الصحة (فالأظهر: أنه يبقى وقفا) والثاني: يعود ملكا للواقف أو ورثته إن مات، (و) الأظهر على الأول (أن مصرفه أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور) لما فيه من صلة الرحم ويختص بفقراء قرابة الرحم فيقدم ابن البنت على ابن العم، والثاني: مصرفه للمساكين، والثالث: المصالح العامة مصارف خمس الخمس (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) ثم الفقراء (فالمذهب بطلانه) لانقطاع أوله، والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: الصحة، وصرف في الصورة المذكورة في الحالة إلى أقرب الناس إلى الواقف على ما تقدم بيانه، وقيل: إلى المذكورين بعد الأول.
ومن صوره وقفت على ولدي، ثم على الفقراء، ولا ولد له فيصرف على القول بالصحة في الحال إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، (أو) كان الوقف (منقطع الوسط، كوقفت على أولادي، ثم رجل، ثم الفقراء، فالمذهب صحته) وقيل: لا يصح بناء على عدم الصحة في منقطع الآخر، وعلى الصحة يصرف بعد الأول فيه مصرف منقطع. الآخر على الخلاف المتقدم فيه (ولو اقتصر على وقفت) كذا (فالأظهر بطلانه) لعدم ذكر مصرفه، والثاني: يصح، ويصرف مصرف منقطع الآخر على الخلاف المتقدم فيه.(51/63)
14 - وقال قليوبي على قول النووي: (أقرب الناس) قال (1) : (قوله: أقرب الناس. . . إلخ) إلا إن كان الواقف الإمام فيصرف لمصالح المسلمين وجوبا إن كانت أهم وإلا خير بينهما ومثل ذلك وقف جهلت أربابه.
15 - وقال أيضا على قول المحلى: (فيقدم) قال (2) : (قوله: فيقدم) أي: وجوبا ولا يفضل ذكر على أنثى، ويستوي خال وعمة لاستوائهما قربا.
16 - وقال قليوبي أيضا (3) : (قوله: والثاني مصرفه المساكين. . إلخ) حمل على ما إذا فقد الأقارب أو كانوا كلهم أغنياء.
17 - وقال أيضا (4) : (قوله: المصالح العامة) حمل على كونه الأهم، أو فقد من قبله ولا يختص بفقراء بلد الواقف أو الوقف بخلاف الزكاة.
(فرع) لو قال الواقف: يصرف من ريعه لفلان كذا وسكت عن باقيه فحكم ذلك الباقي ما ذكر، قال عميرة (5) (قول الشارح: المساكين) هل المراد مساكين بلد الواقف أو الوقف؟
__________
(1) قليوبي وعميرة ومعهما المحلى على المنهاج (3 \ 102) .
(2) قليوبي وعميرة ومعهما المحلى على المنهاج (3 \ 102) .
(3) قليوبي وعميرة (3 \ 102) .
(4) قليوبي وعميرة (3 \ 102) .
(5) قليوبي وعميرة (3 \ 102) .(51/64)
الظاهر الثاني نظرا إلى اعتبارهم في الزكاة فقراء بلد المال.
تنبيه. منقطع الأول فيه تعليق ضمني، كما أن منقطع الآخر فيه تأقيت ضمني.
18 - وقال الرملي على قوله النووي: (ولو وقف على شخصين) كهذين (ثم الفقراء) مثلا (فمات أحدهما، فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر) لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم، فالصرف لمن ذكره الواقف أولى، والثاني: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل وإلا بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا فهما وقفان كما ذكره السبكي، فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر، بل الأقرب انتقاله للفقراء إن قال: ثم على الفقراء، فإن قال: ثم من بعدهما على الفقراء فالأقرب انتقاله للأقرب إلى الواقف، ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر منهما أو لأقرباء الواقف؟ وجهان: أوجههما كما أفاده الشيخ: الأول، وصححه الأذرعي، ولو رد أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الأصح صرفه للآخر، ولو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم الفقراء، فمات عمرو قبل زيد، ثم مات زيد، قال الماوردي والروياني: لا شيء لبكر، وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء؛ لأنه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا، فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا، وقال القاضي في فتاويه: الأظهر: أن يصرف إلى بكر؛ لأن استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده(51/65)
ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد الولد ثم الولد، يرجع للفقراء، ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها: أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من بعده عند استحقاقه. قال الزركشي: وهذا هو الأقرب.
ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالأوجه- كما صححه الشيخ أبو حامد - أنه منقطع الوسط؛ لأن أولاد الأولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم، واختار ابن أبو عصرون دخولهم وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم، واختاره الأذرعي.
19 - قال النووي والمحلى (1) : (ولو وقف على شخصين) معينين (ثم الفقراء فمات أحدهما فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر) لأنه أقرب إلى غرض الواقف، والثاني: يصرف إلى الفقراء كنصيبهما إذا ماتا، قال في المحرر: كالشرح والقياس أن يجعل الوقف في نصيبه منقطع الوسط، قال في الروضة: معناه يكون مصرفه مصرف منقطع الوسط لا أنه يجيء خلاف في صحة الوقف انتهى، ويوافق البحث حكاية وجه بعده بالصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف.
20 - قال قليوبي (2) : (قوله: على شخصين) أي: ولم
__________
(1) المنهاج وشرحه للمحلى ومعهما قليوبي وعميرة (3 \ 103) .
(2) قليوبي وعميرة (3 \ 103) .(51/66)
يفصل وإلا كأن قال: لهذا نصفه ولذاك نصفه فهما وقفان، ثم إن كان قال: ثم الفقراء، صرف نصيب الميت لهم، وإن كان قال: ثم من بعدهما للفقراء كان للآخر.
21 - وقال النووي والمحلى (1) : (ولو انهدم مسجد وتعذرت إعادته لم يبع بحال) لإمكان الصلاة فيه في الحال.
22 - قال قليوبي: قوله: ولو انهدم مسجد، أي: وتعذرت الصلاة فيه لخراب ما حوله مثلا.
23 - وقال قليوبي أيضا: (قوله: وتعذرت إعادته) أي بنقضه، ثم إن رجي عوده حفظ نقضه وجوبا، ولو بنقله إلى محل آخر إن خيف عليه لو بقي، وللحاكم هدمه ونقل نقضه إلى محل أمين إن خيف على أخذه لو لم يهدم، فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر، لا نحو مدرسة، وكونه بقربه أولى فإن تعذر المسجد بني به غيره، وأما غلته التي ليست لأرباب الوظائف وحصره وقناديله فكنقضه، وإلا فهي لأربابها، وإن تعذرت لعدم تقصيرهم كمدرس لم تحضر طلبته.
24 - ومن هامش كتاب طبقات الشافعية الكبرى قوله (2) : قال الأزهري في كتابه (الزاهر في شرح غريب ألفاظ المختصر) في أواخر باب قسم الصدقات ما نصه:
ومما يدل على تقديم الأقارب أيضا أن الأصحاب قالوا:
__________
(1) المنهاج وشرح المحلى عليه ومعهما قليوبي وعميرة (3 \ 108) .
(2) طبقات الشافعية الكبرى لعبد الوهاب السبكي (3 \ 65، 68) .(51/67)
إذا صححنا الوقف المنقطع الآخر وانقرض الموقوف عليه، فالأظهر: أنه يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه: أصحها: إلى أقرب الناس إلى الواقف، والثاني: إلى المساكين، والثالث: إلى المصارف العامة، مصارف خمس الخمس، والرابع: إلى مستحقي الزكاة.
قالوا: وإن قلنا بالثاني، وهو الصرف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقف وجهان: أصحهما: المنع، قالوا: لأنا لو قدمنا بالجوار لقدمنا بالقرابة بطريق أولى، فهذا يرشد إلى أن تقديم القرابة على الجوار أمر مفروغ منه.
بخلاف إمام لم يحضر من يصلي معه فلا يستحق إلا إن صلى في البقعة وحده؛ لأن عليه فعل الصلاة فيه وكونه إماما، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، وهذا في مسجد تمكن فيه تلك الوظائف، وإلا كمسجد محاه البحر مثلا وصار داخل اللجة فينبغي نقل وظائفه أي مع بقائها مع أربابها لما ينقل إليه نقض.
تنبيه: علم مما ذكر أنه يقدم حفظ غلته لرجاء عوده، فإن تعذر صرفت إلى أقرب المساجد إن احتيج إليها، وإلا صرفت لأقرب الناس إلى الواقف إن وجدوا وإلا فللفقراء، وعلى ذلك يحمل ما في كلامهم من التناقض.
تنبيه: لو زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقا ادخر لعمارته، وله شراء شيء به مما فيه زيادة غلته، ولو زاد ريع ما وقف لعمارته لم يشتر منه شيء، ويقدم عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقين، وإن لم يشترطه الواقف كذا في(51/68)
العباب. ويجب على ناظر الوقف ادخار شيء مما زاد من غلته لعمارته وشراء عقار بباقيه، وأفتى بعض المتأخرين بجواز الاتجار فيه إن كان من وقف مسجد وإلا فلا.
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - قيل: يشترط في صحة الوقف اتصاله ودوامه؛ لأن المقصود منه اتصال الثواب على الدوام، وعليه يكون الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط أو الآخر باطلا، فيرجع إلى الواقف إن كان حيا وإلى ورثته إن كان قد مات، وقيل: لا يشترط ذلك، فيصح الوقف المنقطع بجميع أنواعه، واختلف في مرجعه حين الانقطاع.
أما منقطع الآخر فقيل: يعود بعد انقراض الموقوف عليهم إلى الواقف إن كان حيا، وإلا فلورثته، وقيل: لأهم أبواب الخيرات وأعمها، وقيل: للمساكين، وقيل: لمستحقي الزكاة، وقيل: لأقرب الناس إلى الواقف رحما لا إرثا ولا عصوبة؛ لأن صلتهم أعظم جهات البر ثوابا، للآثار الواردة في ذلك؛ فيقدم وجوبا ابن بنت على عم، وتستوي الخالة والعم، ويستوي الذكر والأنثى، وهل يختص به فقراؤهم؟
قال النووي: وهو الأظهر؛ لأنهم موضع الصدقات، وأولى بالمعروف والإحسان أو يشترك معهم الأغنياء؛ لأنه عاد إليهم وقفا، والوقف يصلح أن يكون على الأغنياء كما يصلح أن يكون على الفقراء.(51/69)
وإن كان منقطع الابتداء، كوقفت كذا على رجل، أو من سيولد لي، ثم على الفقراء صرف إلى من بعد المجهول؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه، فسقط حكمه، أما إن أمكن اعتبار انقراضه، مثل: وقفت على عبدي، ثم الفقراء ففي مصرفه خلاف، قيل: يصرف إلى من بعده حيث لم يصح الوقف عليه فكان لغوا، وقيل: يرجع إلى الواقف إن كان حيا وإلا فلورثته إلى أن ينقرض الموقوف عليه؛ لأنه لم يوجد شرط انتقاله إلى من بعده، وقيل: يرجع إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه؛ لأنه قد زال ملك الواقف عنه بالوقف، ولم يوجد شرط انتقاله إلى من بعده، فكان أقرباء الواقف أحق به؛ لما ورد في ذلك من الآثار، وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك معهم الأغنياء؟ فيه الخلاف السابق، وقيل: يصرف في المصالح العامة حتى ينقرض الموقوف عليه، وإن كان منقطع الوسط ففي مصرفه زمن الانقطاع على تقدير صحته الخلاف السابق.
2 - يشترط في الوقف بيان المصرف؛ لأنه تمليك المنافع فأشبه البيع والهبة، وقيل: لا يشترط بيانه؛ لأنه تبرع وإحسان، فأشبه الصدقة والهدي والضحية والوصية، وعلى الأول يكون الوقف باطلا إن لم يبين المصرف ويعود إلى الواقف أو ورثته، وعلى الثاني يكون في مصرفه الخلاف السابق في الوقف المنقطع الآخر، وقيل: يصرفه ناظر الوقف فيما يراه من وجوه البر.
3 - من وقف على رجلين مثلا وعينهما ثم على المساكين فمات أحدهما ففي مرجع نصيبه وجهان:(51/70)
أصحهما: أنه يصرف إلى الباقي منهما، حيث لم يوجد شرط نقله إلى المساكين، والثاني: أنه يصرف للمساكين. والقياس أنه لا يصرف للباقي منهما ولا للمساكين، بل حكمه حكم الوقف المنقطع الوسط، وقد تقدم بيانه، هذا ما لم يفصل، بأن يقول: وقفت على كل منهما، وإلا انتقل نصيب من مات للفقراء؛ لأن الوقف على كل مستقل، أو يقول: ثم من بعدهما إلى الفقراء، وإلا عاد نصيب من مات للباقي منهما، فإن لم يذكر مصرفة بعد من عينهما أو عينهم، فهل نصيب من مات منهم لمن بقي أو حكمه حكم نصيبهما إذا ماتا؟ فيه وجهان: أوجههما الأول.
4 - من وقف على بطون فرد البطن الثاني فعلى تقدير صحة الرد يكون منقطع الوسط، وقد تقدم بيان الخلاف في مصرفه، وقيل: ينتقل إلى البطن الثالث؛ لأن المراد في حكم المعدوم.
5 - من قال: تصدقت بداري- مثلا- صدقة محرمة ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ففي صحة هذا الوقف وجهان، وعلى تقدير الصحة ففي مصرف الفاضل أوجه: الأول: أن يصرف لأقرب الناس إلى الواقف؛ لما تقدم، الثاني: يصرف للمساكين، الثالث: يكون ملكا للواقف.
6 - إذا زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقا وجب على ناظر الوقف ادخار ما زاد من الغلة ليعمر بها، وله شراء شيء بما زاد مما فيه زيادة غلته، وله الاتجار فيه لمصلحة المسجد، ولو زاد ريع ما وقف لعمارته لم يشتر منه شيء،(51/71)
وقدمت عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقين، وإن لم يشترط ذلك الواقف.
7 - إذا انهدم مسجد أو تداعى وأمكن إعادته أو إصلاحه بنقضه في الحال وجب ذلك، وإلا وجب حفظ نقضه إن رجي عوده بعد، فإن تعذر عوده بني أو رمم به مسجد آخر، والأولى أن يكون قريبا منه قدر الإمكان، وإن تعذر ذلك جعل في مرفق آخر كمدرسة أو مساكن لطلبة العلم. وكذا الحكم في حصره وقناديله وغلته التي ليست لأرباب الوظائف فيه. أما ما كان من الغلة لأرباب وظائفه فهو لهم، كمدرس لم تحضر طلبته، ونقلوا في مسجد آخر مثلا في مثل وظائفهم، ولا يستحق الإمام ما جعل له من الغلة إلا إذا صلى في بقعة المسجد ولو منفردا إن أمكن، وإلا نقل أيضا في مثل عمله إلى مسجد آخر. والله الموفق.(51/72)
د- مذهب الحنابلة:
1 - قال ابن قدامة (1) : إذا ثبت هذا- أي صحة المنقطع الانتهاء- فإنه ينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، وبه قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى: أنه ينصرف إلى المساكين، واختاره القاضي، والشريف أبو جعفر؛ لأنه مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف انصرفت إليهم، كما لو نذر صدقة مطلقة، وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يجعل في بيت مال
__________
(1) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 215) .(51/72)
المسلمين؛ لأنه مال لا مستحق له، فأشبه مال من لا وارث له.
وقال أبو يوسف: يرجع إلى الواقف وإلى ورثته، إلا أن يقول: صدقة موقوفة، ينفق منها على فلان وعلى فلان، فإذا انقرض المسمى كانت للفقراء والمساكين؛ لأنه جعلها صدقة على مسمى، فلا تكون على غيره، ويفارق ما إذا قال: ينفق منها على فلان وفلان، فإنه جعل الصدقة مطلقة. ولنا: أنه أزال ملكه لله تعالى، فلم يجز أن يرجع إليه كما لو أعتق عبدا.
والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف: أنهم أولى الناس بصدقته، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة (1) » ، وقال: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (2) » ، ولأن فيه إغناؤهم وصلة أرحامهم، لأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، كذلك صدقته المنقولة. إذا ثبت هذا فإنه في ظاهر كلام الخرقي، وظاهر كلام أحمد: يكون للفقراء منهم والأغنياء؛ لأن الوقف لا يختص الفقراء، ولو وقف على أولاده تناول الفقراء والأغنياء، كذا هاهنا.
وفيه وجه آخر: أنه يختص الفقراء منهم؛ لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء، ولأننا خصصناهم بالوصف لكونهم أولى الناس بالصدقة، وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الأغنياء.
واختلفت الرواية في من يستحق الوقف من أقرباء الواقف، ففي إحدى الروايتين: يرجع إلى الورثة منهم؛ لأنهم الذين صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2582) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1844) ، مسند أحمد بن حنبل (4/17) ، سنن الدارمي الزكاة (1680) .
(2) صحيح البخاري الوصايا (2742) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (1/176) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .(51/73)
إليهم من صدقته ما لم يذكر له مصرفا.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (1) » . فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم، ويكون وقفا عليهم، نص عليه أحمد، وذكره القاضي؛ لأن الوقف يقتضي التأبيد وإنما صرفناه إلى هؤلاء لأنهم أحق الناس بصدقته، فصرف إليهم مع بقائه صدقة.
ويحتمل كلام الخرقي أنه يصرف إليهم على سبيل الإرث، ويبطل الوقف فيه. فعلى هذا يكون كقول أبي يوسف. والرواية الثانية: يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف، دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات، فيقدم الأقرب فالأقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالي؛ لأنهم خصوا بالعقل عنه، وبميراث مواليه، فخصوا بهذا أيضا، وهذا لا يقوى عندي، فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع أو قياس، ولا نعلم فيه نصا، ولا إجماعا، ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي؛ لأن غلته لا تتحقق هاهنا.
وأقرب الأقوال فيه: صرفه إلى المساكين؛ لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى به، لا على سبيل) لوجوب، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، ولأننا إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين، فهي أيضا جهة منقطعة، فلا يتحقق اتصاله إلا بصرفه إلى المساكين. وقال الشافعي: يكون وقفا على أقرب
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .(51/74)
الناس إلى الواقف، الذكر والأنثى فيه سواء.
2 - وقال ابن قدامة أيضا (1) : فصل: فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وإنما قدمنا الأقارب على المساكين لكونهم أولى، فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل لذلك، فصرف إليهم إلا على قول من قال: إنه يصرف إلى ورثة الواقف ملكا لهم، فإنه يصرف عند عدمهم إلى بيت المال؛ لأنه بطل الوقف فيه بانقطاعه، وصار ميراثا لا وارث له، فكان بيت المال به أولى.
3 - وقال أيضا (2) : فصل: فإن قال: وقفت هذا، وسكت، أو قال: صدقة موقوفة، ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه. وقال ابن حامد: يصح الوقف. قال القاضي: هو قياس قول أحمد، فإنه قال في النذر المطلق: ينعقد موجبا لكفارة يمين.
وهذا قوله مالك، والشافعي في أحد قوليه؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فوجب أن يصح مطلقه، كالأضحية والوصية، ولو قال: وصيت بثلث مالي صح، وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع بعد انقراض الموقوف عليه.
4 - وقال أيضا (3) : وإن وقف على من يجوز الوقف عليه،
__________
(1) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 217) .
(2) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 217) .
(3) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 218) .(51/75)
ثم على من لا يجوز الوقف عليه، مثل: أن يقف على أولاده ثم على البيع، صح الوقف أيضا، ويرجع بعد انقراض من جاز الوقف عليه إلى من يصرف إليه الوقف المنقطع؛ لأن ذكره لمن لا يجوز الوقف عليه وعدمه واحد، ويحتمل أن لا يصح الوقف؛ لأنه جمع بين ما يجوز وما لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة.
5 - وقال أيضا (1) : فصل: وإن كان الوقف منقطع الابتداء، مثل أن يقفه على من لا يجوز الوقف عليه، أو أم ولده، أو عبده، أو كنيسة، أو مجهول، فإن لم يذكر له مآلا يجوز الوقف عليه فالوقف باطل، وكذلك إن جعل مآله مما لا يجوز عليه؛ لأنه أخل بأحد شرطي الوقف فبطل، كما لو وقف ما لا يجوز وقفه، وإن جعل له مآلا يجوز الوقف عليه، مثل: أن يقفه على عبده، ثم على المساكين ففي صحته وجهان، بناء على تفريق الصفقة، وللشافعي فيه قولان، كالوجهين، فإذا قلنا: يصح، وهو قول القاضي، وكان من لا يجوز الوقف عليه ممن لا يمكن اعتبار انقراضه، كالميت والمجهول والكنائس، صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأننا لما صححنا الوقف مع ذكر ما لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه؛ فإنه يتعذر التصحيح مع اعتباره.
وإن كان من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه، كأم ولد، وعبد معين، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه ينصرف في الحال إلى من يجوز الوقف
__________
(1) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 218) .(51/76)
عليه، كالتي قبلها، ذكره أبو الخطاب.
والثاني: أنه ينصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع، إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه، فإذا انقرض صرف إلى من يجوز.
وهذا الوجه الذي ذكره القاضي، وابن عقيل؛ لأن الواقف إنما جعله وقفا على من يجوز بشرط انقراض هذا، فلا يثبت بدونه، وفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه، فإنه تعذر اعتباره، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين. اهـ.
6 - وقال (1) أيضا: فصل: وإن كان الوقف صحيح الطرفين، منقطع الوسط، مثل: أن يقف على ولده ثم على عبيده ثم على المساكين خرج في صحة الوقف وجهان، كمنقطع الانتهاء، ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه، فإن لم يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة، وإن أمكن اعتبار انقراضه فهل يعتبر أو يلغى؟ على وجهين، كما تقدم، وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط، كرجل وقف على عبيده، ثم على أولاده، ثم على الكنيسة خرج في صحته أيضا وجهان، ومصرفه بعد من يجوز إلى مصرف الوقف المنقطع. اهـ.
7 - وذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (2) قوله: وأما الوقف الذي لم
__________
(1) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 219) .
(2) الدرر السنية، المجلد الثاني، الجزء الخامس (246) .(51/77)
يذكر له مصرف إذا انقرض الموقوف عليهم فمشهور المذهب: أنه يكون لورثة الواقف وقفا عليهم نسبا بقدر إرثهم، ويقع الحجب بينهم، فللبنت مع الابن الثلث والباقي له، وإن كان الوارث أخا شقيقا وأخا لأب انفرد به الشقيق.
وقال ابن أبي موسى: يكون ملكا للورثة، قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد، وقال الشافعي: يكون وقفا على أقرب الناس للواقف، الذكر والأنثى فيه سواء، واختار الموفق: أنه يصرف إلى المساكين، وهو رواية عن أحمد، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أحق به من غيرهم لا على سبيل الوجوب. اهـ.
8 - قال ابن قدامة (1) فصل: ولا يشترط القبول إلا أن يكون على آدمي معين، ففيه وجهان:
أحدهما: يشترط ذلك، فإن لم يقبله أو رده بطل في حقه دون من بعده، وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز، يصرف في الحال إلى من بعده، وفيه وجه آخر: أنه إن كان من لا يجوز يعرف انقراضه؛ كرجل معين، صرف إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض، ثم يصرف إلى من بعده، وإن وقف على جهة تنقطع، ولم يذكر له مآلا، وكذا على من يجوز ثم على من لا يجوز، أو قال: وقفت. وسكت، انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف وقفا عليهم
__________
(1) المقنع (2 \ 314) وما بعدها.(51/78)
في إحدى الروايتين، والأخرى إلى أقرب عصبته، وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين.
وقال القاضي في موضع: يكون وقفا على المساكين. وإن قال: وقفته سنة. لم يصح. ويحتمل أن يصح، ويصرف بعدها مصرف المنقطع.
9 - وفي حاشية المقنع (1) قوله: (وكان كما لو وقف على من لا يجوز. . . إلخ) هذا الوقف المنقطع الابتداء، وهو صحيح على الصحيح من المذهب؛ لأن الواقف قصد ضرورة الوقف إليه في الجملة، ولا حالة يمكن انتظارها، فوجب الصرف إليه لئلا يفوت غرض الواقف، ولئلا تبطل فائدة الصحة.
10 - وفيها أيضا (2) قوله: (وإن وقف على جهة تنقطع) وجملة ذلك. . . وإن كان غير معلوم الانتهاء، وهي مسألة الكتاب، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين ولا لجهة غير منقطعة، فالمذهب: الصحة، وبه قال مالك، وأبو يوسف، والشافعي في أحد قولين؛ لأنه معلوم المصرف فصح، كما لو صرح بمصرفه؛ إذ المطلق يحمل على العرف، كنقد البلد، وحينئذ يصرف إلى ورثة الواقف وقفا عليهم، وهذا المذهب؛ لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس به، لقوله عليه الصلاة والسلام: «صدقتك على غير
__________
(1) حاشية المقنع (2 \ 314) .
(2) حاشية المقنع (2 \ 315) وما بعدها.(51/79)
ذي رحمك صدقة، وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة (1) » ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (2) » ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل، فعليها يقسم على قدر إرثهم، جزم به في الفروع وغيره، قال القاضي: فللبنت مع الابن الثلث، وله الباقي، وللأخ من الأم مع الأخ للأب السدس، وله ما بقي، وإن كان أخ وجد قاسمه، وإن كان أخ وعم انفرد به الأخ، وإن كان عم وابن عم انفرد به العم.
وقال الحارثي: وهذا تخصيص بمن يرث من الأقارب في حال دون حال، وتفضيل لبعض على بعض، ولو وقف على أقاربه لما قالوا فيه بهذا التخصيص والتفضيل، وكذا لو وقف على أولاده أو أولاد زيد لا يفضل فيه الذكر على الأنثى، وقد قالوا هنا: إنما ينتقل إلى الأقارب وقفا. انتهى.
فظاهر كلامه أنه مال إلى عدم المفاضلة وما هو ببعيد، قاله صاحب الإنصاف، قال في الفائق: وعنه في أقاربه ذكرهم وأنثاهم بالسوية، ويختص به الوارث. انتهى.
11 - ومنها أيضا (3) قوله: (وكذا إذا وقف على من يجوز) الوقف عليه كأولاده (ثم على من لا يجوز، أو وقفه وسكت) فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسبا حين الانقراض.
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (658) ، سنن النسائي الزكاة (2582) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1844) ، مسند أحمد بن حنبل (4/214) ، سنن الدارمي الزكاة (1680) .
(2) صحيح البخاري الوصايا (2742) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (1/176) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .
(3) حاشية المقنع (2 \ 316) .(51/80)
12 - وفيها أيضا (1) فائدتان: إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها في حياة الواقف، فإن وقف على أولاده، أو أولاد زيد فقط فانقرضوا في حياته رجع الوقف إلى الواقف وقفا عليه، وأنسالهم على أنه من توفي منهم من غير ولد رجع نصيبه إلى أقرب الناس إليه، فتوفي أحد أولاد الواقف من غير ولد، والأب الواقف حي فهل يعود نصيبه إليه لكونه أقرب الناس إليه أم لا؟ تخرج على ما قبلها. والتي قبلها هي ما ذكرها بقوله: قوله: (وكذا إذا وقف على من يجوز الوقف عليه كأولاده، ثم على من لا يجوز، أو وقفه وسكت؛ فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسبا حين الانقراض) .
13 - ومنها أيضا (2) الثانية: للوقف صفات:
إحداها: متصل الابتداء والوسط والانتهاء.
الثانية: منقطع الابتداء متصل الانتهاء.
الثالثة: متصل الابتداء منقطع الانتهاء، عكس الذي قبله.
الرابعة: متصل الابتداء والانتهاء منقطع الوسط.
الخامسة: عكس الذي قبله: منقطع الطرفين صحيح الوسط، وأمثلتها واضحة، وكلها صحيحة على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب.
السادسة: منقطع الأول والوسط والآخر، مثل: أن يقف
__________
(1) حاشية المقنع (2 \ 316) .
(2) المقنع وعليه الحاشية (2 \ 316) .(51/81)
على من لا يصح الوقف عليه ويسكت، أو يذكر ما لا يصح الوقف عليه أيضا، فهذا باطل بلا نزاع بين الأصحاب، فالصفة الأولى: هي الأصل في كلام المصنف وغيره، والصفة الثانية: تؤخذ من كلام المصنف حيث قال: وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز. والصفة الثالثة: تؤخذ من كلامه أيضا حيث قال: وإن وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مآلا، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز، والرابعة والخامسة لم يذكرهما المصنف، لكن الحكم واحد.
14 - ومنها أيضا (1) : قوله: (والأخرى إلى أقرب عصبته) أي: لأنهم أقاربه وأولى الناس ببره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «ابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك (2) » رواه النسائي، فعلى الروايتين يكون وقفا على الصحيح من المذهب؛ لأن الملك زال بالوقف فلا يعود ملكا، نص عليه، وعنه يكون ملكا، قال في الفائق: وقيل: يكون ملكا، اختاره الخرقي، قال في المغني: ويحتمله كلام الخرقي، قال في الفائق: وقال ابن أبي موسى: إن رجع إلى الورثة كان ملكا بخلاف العصبة، قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد، قال في الشرح: وقال شيخنا: ولا يقوى عندي رجوعه إليهم، فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع، ولا نعلم فيه نصا ولا
__________
(1) حاشية المقنع (2 \ 316) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2532) .(51/82)
إجماعا، ولا يصح قياسه أيضا على ميراث، ولا الوالي؛ لأن علته لا تحقق هنا، وأقرب الأقوال فيه صرفه إلى المساكين، وهو رواية ثالثة عن أحمد، واختارها جماعة من الأصحاب؛ لأنهم مصارف مال الله وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى به على سبيل الوجوب، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وهذا الصحيح من المذهب. اهـ.
15 - وقال في المقنع (1) : وإذا وقف على ثلاثة ثم على المساكين فمن مات منهم رجع نصيبه إلى الآخرين.
قال في الحاشية (2) قوله: (وإن وقف على ثلاثة. . إلخ) أي: كزيد وعمرو وبكر، وهذا المذهب وعليه الأصحاب؛ لأنه الموقوف عليه أولا، وعوده إلى المساكين مشروط بانقراضهم؛ إذ استحقاق المساكين مرتب بثم، ولو وقف على ثلاثة ولم يذكر له مآلا، فمن مات منهم فحكم نصيبه حكم المنقطع، كما لو ماتوا جميعا. قاله الحارثي، قال: وعلى ما في الكتاب - أي: المقنع- يصرف إلى من بقي، وقطع به في القواعد، قال في المبدع: وهو أظهر، قال في التنقيح: وهو أقوى، وجزم به في
__________
(1) المقنع (2 \ 319) وما بعدها.
(2) حاشية المقنع (2 \ 320) .(51/83)
المنتهى، وإن قال: وقفته على أولادي، إثم على أولادهم، ثم على الفقراء، فالصحيح من المذهب أن هذا ترتيب جملة على مثلها لا يستحق البطن الثاني شيئا قبل انقراض الأول، وقيل: ترتيب أفراد، فيستحق الولد نصيب أبيه بعد موته، فهو من ترتيب الأفراد بين كل شخص وأبيه، اختاره الشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق.
قال الشيخ تقي الدين: فعلى هذا الأظهر استحقاق الولد، وإن لم يستحق أبوه شيئا، وقال أيضا - في من وقف على ولديه نصفين ثم أولادهما وأولاد أولادهما، وعقبهما بطنا بعد بطن -: إنه ينتقل نصيب كل واحد إلى ولده، ثم ولد ولده، وقال: من ظن أن الوقف كالإرث، فإن لم يكن أبوه أخذ شيئا لم يأخذ هو، فلم يقله أحد من الأئمة، ولم يدر ما يقول؛ ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم تحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعا ولا فرق. اهـ.
16 - قال ابن قدامة (1) : فصل: وما فضل من حصر المسجد وزيته ولم يحتج إليه جاز أن يجعل في مسجد آخر، أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم، وكذلك إن فضل من قصبه أو شيء من نقضه.
قال أحمد في مسجد بني فبقي من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه - قال: يعان به في مسجد آخر، أو كما قال.
__________
(1) المغني وعليه الشرح الكبير (6 \ 229، 230) .(51/84)
وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد (1) إذا فضل منه الشيء أو الخشبة، قال: يتصدق به، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا تخرقت تصدق بها، وقال في موضع آخر: قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة.
وروى الخلال بإسناده عن علقمة، عن أمه، أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة - رضي الله عنها - فقال: " يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها فننزعها، فنحفر لها آبارا فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب " قالت عائشة: " بئس ما صنعت، ولم تصب، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين " فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة، وهذه قصة مثلها ينتشر، ولم ينكر فكان إجماعا؛ لأنه مال الله - تعالى - لم يبق له مصرف، فصرف إلى المساكين، كالوقف المنقطع.
17 - وقال ابن قدامة أيضا (2) : وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين.
قال في الحاشية (3) : قوله: (وما فضل من حصره. . إلخ) وعبارة الوجيز (وما فضل عن حاجته) وهي أولى، جاز صرفه إلى مسجد آخر، وقال أحمد - رحمه الله -: لأنه انتفاع في جنس ما
__________
(1) بواري المسجد: حصره.
(2) المقنع (2 \ 331) .
(3) حاشية المقنع (2 \ 331) .(51/85)
وقف له والصدقة به على فقراء المسلمين، ونص عليه، وهذا المذهب، وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين - رحمه الله تعالى - وقال: يجوز أيضا صرفه في سائر المصالح.
18 - وقال ابن قدامة (1) : وإن عين رجلا أن يحج فأبى أن يحج بطل التعيين، ويحج عنه بأقل ما يمكن إنسان ثقة سواه ويصرف الباقي إلى الورثة.
19 - قال في الإقناع وشرحه (2) : (وما فضل عن حاجة المسجد من حصره وزيته ومغله وأنقاضه وآلته وثمنها) إذا بيعت (جاز صرفه إلى مسجد آخر محتاج) إليه؛ لأنه صرف في نوع المعين (و) جازت (الصدقة بها) أي: بالمذكورات (على فقراء المسلمين) لأنه في معنى المنقطع، قال الحارثي: وإنما لم يرصد؛ لما فيه من التعطل فيخالف المقصود، ولو توقعت الحاجة في زمن آخر ولا ريع يسد مسدها لم يصرف في غيرها؛ لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة، وإنما سومح بغيرها حيث لا حاجة، حذرا من التعطل، وخص أبو الخطاب والمجد الفقراء بفقراء جيرانه لاختصاصهم بمزيد ملازمته، والعناية بمصلحته.
قال الحارثي: والأول أشبه (قال الشيخ) يجوز صرف الفاضل في مثله (وفي سائر المصالح و) في (بناء مساكن لمستحق ريعه
__________
(1) المغني (6 \ 131) .
(2) الإقناع وشرحه (4 \ 249) ، الفروع (4 \ 630) .(51/86)
القائم بمصلحته وفضل غلة موقوف على معين استحقاقه مقدر) من الوقف (يتعين إرصاده. ذكره) القاضي محمد (أبو الحسين واقتصر عليه الحارثي) قال: وأما فضل غلة الموقوف على معين أو معينين، أو طائفة معينة فتعين إرصاده. ذكره القاضي أبو الحسين في فضل غلة الموقوف على نفقة إنسان، وإنما يتأتى إذا كان الصرف مقدرا، أما عند عدم التقدير فلا فضل إذ الغلة مستغرقة. اهـ.
وقال في المنتهى وشرحه (1) : (وفضل غلة موقوف على معين) كزيد أو ولده (استحقاقه مقدر) بأن قال: يعطى من ريعه كل شهر عشرة دراهم مثلا وريعه أكثر (يتعين إرصاده) أي: الفضل؛ لأنه ربما احتيج إليه بعد. اهـ.
20 - وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله - السؤال (2) : رجل وقف وقفا على مسجد، وأكفان الموتى، وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته، ثم للحاكم، وشرط لإمام المسجد ستة دراهم، والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم، وشرط لهما دارين لسكناهما، ثم إن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله، بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة، فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهما، ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجوز لهما تناوله؟
__________
(1) المنتهى وشرحه (2 \ 516) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (31 \ 17، 19) .(51/87)
فأجاب: نعم، يجوز أن يعطى الإمام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما، وإن كان زائدا على ثلثين، بل إذا كانا فقيرين، وليس لما زاد مصرف معروف جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما. وذلك لوجهين:
أحدهما: أن تقدير الواقف دراهم مقدرة في وقف مقدار ريع قد يراد به النسبة، مثل أن يشرط له عشرة، والمغل مائة، ويراد به العشر، فإن كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به.
ومن المعلوم في العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم، وشرط له ستة، ثم صار خمسمائة، فإن العادة في مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك، مثل خمسة أمثاله، ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة، فجعل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم.
الثاني: أن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه، وما يشبهها، مثل صرفه في مساجد أخر، وفي فقراء الجيران، ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك، أو يرصد لما يحدث من عمارة، ونحوه، ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه، بل فيه مضرة، وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق.
وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له، ففضلت فضلة؛ فأمر بصرفها في المكاتبين والسبب فيه: أنه إذا تعذر المعين، صار الصرف إلى نوعه؛(51/88)
ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته، كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج.
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما، وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر كما لا يمنع استحقاق غير مسجده.
وإذا كان كذلك وقدر الأكفان التي هي المصروفة ببعض الريع صرف ما يفضل إلى الإمام والمؤذن ما ذكر. اهـ.
21 - وقال أيضا (1) : وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته، ولم يحبس المال بلا فائدة. وقد كان عمر بن الخطاب كلى عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج، ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغنى عنه من الحصر ونحوها، وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان حتى صار موضع الأولى سوقا.
22 - وسئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغني عنه (2) . فأجاب: يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم
__________
(1) مجموع الفتاوى (31 \ 93) .
(2) مجموع الفتاوى (31 \ 206، 207) .(51/89)
ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولى، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وقد روى أحمد عن علي - رضي الله عنه - أنه حض الناس على إعطاء مكاتب ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين.
23 - وقال أيضا (1) جوابا عن وقف على تكفين الموتى يفيض كل سنة على الشرط، هل يتصدق به؟ وهل يعطى منه أقارب الواقف الفقراء؟ قال: إذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل في مصالح المسلمين، وإذا كان أقاربه محاويج فهم أحق من غيرهم.
24 - وقال أيضا (2) : وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد فيصرف في جنس ذلك، مثل عمارة مسجد آخر، ومصالحها، أو إلى جنس المصالح، ولا يحبس المال أبدا لغير علة محدودة، لا سيما في مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائما، فإن حبس مثل هذا المال من الفساد {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3)
25 - وقال أيضا (4) : وأما الفاضل عن مصلحة المسجد
__________
(1) مجموع الفتاوى (31 \ 203) .
(2) مجموع الفتاوى (31 \ 210) .
(3) سورة البقرة الآية 205
(4) مجموع الفتاوى (31 \ 258) .(51/90)
فيجوز صرفه في مسجد آخر، وفي المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد.
26 - قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (1) : وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين الذي وقف على عمارة مواعين سبل، وذكر أن المواعين ما تحتمل غلة ذلك الوقف، فالذي أرى أن يصرف فيما يناسب ذلك، مثل: أن يشترى به قدر ونحوه من نظيره من الوجه المذكور، فإن كان ذلك وصية لا وقفا فيعمر منها الماعون وما فضل للورثة. اهـ.
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - اختلف في الوقف المنقطع ابتداؤه أو وسطه أو نهايته.
فقيل: لا يصح؛ لأن القصد بالوقف التأبيد ودوام الإحسان والثواب، وعليه يرجع إلى الواقف أو ورثته ملكا، وقيل: يصح المنقطع بأنواعه الثلاثة، وعليه فمنقطع الانتهاء يصرف بعد انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف وقفا عليهم أو ملكا لهم؛ لأنهم أولى الناس بإحسانه وصلته للآثار الواردة في ذلك، وهل يرجع إلى أقرب عصبته؛ لأنهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه أو إلى ورثته؛ لأنهم أحق بماله بعد وفاته فكانوا أحق بصلاته في حياته، خلاف، وهل يختص به فقراؤهم؛ لأنهم مصارف الإحسان والتبرعات، أو يشترك معهم أغنياؤهم لصلاحية
__________
(1) مجموع ابن قاسم (الدرر السنية) المجلد الثاني، الجزء الخامس (248) .(51/91)
الوقف عليهم كالفقراء، خلاف، وهل يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم أو تقسم غلته بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، خلاف. وفي رواية ثانية عن الإمام أحمد أنه يرجع بعد انقراض الموقوف عليهم للمساكين؛ لأنهم مصرف الصدقات، وحقوق الله - تعالى - التي لم يعين لها مصرف. وفي رواية ثالثة عنه: أنه يوضع في بيت المال؛ لأنه لا مستحق له، فأشبه مال من لا وارث له، واختار ابن قدامة صرفه للمساكين، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أولى به لا على سبيل الوجوب، ولا يرجع هذا الوقف بحال إلى الواقف؛ لأنه أزاله عن ملكه لله تعالى كالإعتاق.
وأما منقطع الابتداء فإن لم يذكر له مآلا، أو ذكر مآلا لا يجوز الوقف عليه كان باطلا، وإن ذكر مآلا لا يجوز الوقف عليه ففي صحته وجهان، بناء على تفريق الصفقة، وعلى تقدير صحته يصرف إلى من بعد الانقطاع إن كان الموقوف عليه مما لا يمكن اعتبار انقراضه، كالميت والمجهول والكنائس؛ لأن الموقوف عليه لغو، لتعذر التصحيح مع اعتباره، وإن كان الموقوف عليه يمكن اعتبار انقراضه كعبده ففي مصرفه وجهان:
الأول: يصرف إلى من بعده في الحال.
الثاني: يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع الآخر إلى أن ينقرض من وقف عليه وقفا غير جائز ثم ينتقل لمن بعده؛ لأن شرط الانتقال- وهو الانقراض- لم يوجد.
وإن كان منقطع الوسط ففي صحة الوقف وجهان، كمنقطع الانتهاء، وعلى تقدير الصحة فإن لم يمكن اعتبار انقراض الوسط(51/92)
الموقوف عليه كالمجهول ألغي وانتقل إلى ما بعده، وإن أمكن اعتبار إلغائه، كالوقف على معين ثم أم ولده ثم المساكين ففيه الوجهان السابقان في منقطع الابتداء.
2 - إذا قال: وقفت، وسكت فلم يبين مصرفا فلا نص فيه، وقياس قول أحمد: أنه يصح قياسا على الصدقة والهدي والضحية والوصية، والنذر، ولأنه أزاله الواقف عن ملكه لله - تعالى - على وجه القربة فوجب أن يصح، وعليه فمصرفه مصرف الوقف المنقطع الآخر بعد انقراض الموقوف عليهم، ومشهور المذهب: أنه يكون لورثة الواقف وقفا عليهم تصرف غلته إليهم نسبا بقدر إرثهم، ويقع فيها الحجب كالإرث. ومال الحارثي إلى عدم المفاضلة، وقيل: يرجع إلى الورثة ملكا، قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بقول أحمد، واختار الموفق صرفه إلى المساكين، وهو رواية عن أحمد، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أحق به لا على سبيل الوجوب.
3 - لا يشترط لصحة الوقف قبول الموقوف عليه إلا إن كان آدميا معينا ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط فيصرف إليه.
والثاني: يشترط فإن قبل صرف إليه، وإن لم يقبل أو رد بطل في حقه دون من بعده وصرف إلى من بعده في الحال، أو يصرف مصرف الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط.
4 - إذا قال: وقفت داري سنة مثلا لم يصح؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، ويحتمل أن يصح ويصرف بعدها مصرف المنقطع.
5 - إن وقف على زيد وعمرو وبكر مثلا، ثم على(51/93)
المساكين، فمات أحدهم عاد نصيبه إلى الآخرين؛ لأن مصرفه إليهم أولا، وصرفه للمساكين مرتب بثم، فلا ينقل إليهم منه شيء إلا بعد انقراضهم، ولو عين الموقوف عليهم ولم يذكر مآلا فمصرفه مصرف المنقطع الآخر، وقيل: يرجع لمن بقي منهم، قال في المبدع: وهو أظهر، قال في التنقيح: وهو أقوى.
6 - لو قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء. فهل هو ترتيب جملة أو ترتيب إفراد؟ الصحيح من المذهب، الأول، واختار الثاني ابن تيمية، وصاحب الفائق، وعلى الأول: لا يستحق البطن الثاني شيئا إلا بعد انقراض البطن الأول كله، وعلى الثاني: يستحق الولد نصيب أبيه بعد موته، بل يستحق ذلك ولو حرم منه أبوه، وكذلك الحكم لو وقف على أولاده بطنا بعد بطن.
7 - ما فضل عن حاجة المسجد من حصره ونقضه وآلته وزيته وخشبه وعن ثمنها إن بيعت جاز صرفه إلى مسجد آخر دون التصدق به على الفقراء أو إنفاقه في المصالح العامة، واختاره الشيخ تقي الدين؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وقف عليه، وقيل: يجوز ذلك، ويجوز التصدق به، وصرفه في المصالح العامة، وهل يؤثر بذلك جيرانه الفقراء لمزيد اختصاصهم به أو يعم؟ خلاف، واستدل لذلك: بأن عمر كان يقسم كسوة الكعبة كل عام بين الحجاج، وبأن علية حض الناس على جمع مال إعانة لمكاتب ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين، وكل هذا ما لم تتوقع حاجة المسجد إلى الفاضل من وقفه، وإلا رصد له؛ لأن الأصل(51/94)
الصرف في الجهة المعينة. وأما فضل غلة موقوف على معين، أو معينين مع تقدير استحقاق المعين، مثل أن يقال: يعطى من ريعه كل شهر عشرة دراهم مثلا، فيتعين إرصاد الفضل؛ لأنه ربما احتيج إليه بعد، وإن كان الاستحقاق غير معين فلا فضل؛ لأن الغلة مستغرقة.
8 - إذا عين الواقف لكل من إمام المسجد ومؤذنه والقيم عليه مقدارا من غلة الوقف فزادت الغلة أضعافا مضاعفة جاز أن يعطى كل من أولئك زيادة على ما عين بقدر نسبة الزيادة في الريع، لجواز أن يكون الواقف أراد بما عينه لكل منهم نسبة من الريع وقت الوقف، وجاز أن يعطى كل منهم قدر كفايته من فائض الريع الذي لا تتوقع الحاجة إليه بعد لإفراد الزيادة؛ لأن فائض الوقف يصرف في جنس ما وقف عليه، أو يتصدق به على الفقراء، وصرفه في ذلك خير من حبسه وتعطيله.
وجملة القول: أن ما حكم فيه من الأوقاف بالبطلان لفقد شرط من شروطها عاد للواقف إن كان حيا، ولورثته إن كان ميتا، وما خرج منها مخرج العمرى من أجل صيغته، كما في بعض النقول عن المالكية فيما سبق فمرجعه بعد انتهاء أمد العمرى إلى المعمر، أو ورثته إن كان ميتا عند مالك، رضي الله عنه، وما حكم بصحته من الأوقاف فمرجع غلته زمن الانقطاع، أو بعد الانقراض، ومرجع فاضل غلته من المسائل الاجتهادية التي للنظر فيها مجال؛ لعدم ورود نص صريح فيها عن المعصوم - صلى الله(51/95)
عليه وسلم؛ فلذا اختلف الفقهاء في مرجع ذلك، ولكل وجهته.
والله الموفق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/96)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(51/97)
صفحة فارغة(51/98)
من الفتوى رقم 6315
السؤال الثالث: إن البشر عندنا يفرقون بين السنة والفرض، ويقولون: بأن الوعيد لا يكون إلا في الفرض والسنة المؤكدة، وأنا أعتقد أن كل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -وأظهره لأمته مفروض عليها اتباعه، ومن لم يفعل فقد كره ما جاء به - محمد صلى الله عليه وسلم -. مثلا: توفير اللحية جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم - هل ثبت عنه أنه حلقها، وهل حلقها دليل على كراهية ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم؟ .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الواجب: ما يثاب فاعله ويستحق العقاب تاركه، والسنة (المستحب) : ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها ولا يلزم من ترك السنة بغضها. أما حلق اللحية أو قصها فمحرم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (1) » ، ولا يلزم من ذلك كراهته لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم، كما أن العاق لوالديه والزاني عصاة، ولا
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .(51/99)
يلزم من معاصيهم كراهتهم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعاصي لها دواع كثيرة غير الكراهة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا لا يكفر العاصي بمجرد المعصية عند أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/100)
من الفتوى رقم 8241
السؤال الخامس: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عن شيء فانتهوا (1) » هل صحيح أن هناك نهي للتحريم، ونهي للتكريم، ونهي للتنزيه، ونهي للندب وغير ذلك مثلا: حديث رسول الله في صحيح الجامع ونصه: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم عن تسريح الشعر كل يوم (2) » فهل هذا للتحريم أم للندب أم كيف؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(2) سنن النسائي الطهارة (238) ، سنن أبو داود الطهارة (28) ، مسند أحمد بن حنبل (4/111) .(51/100)
ج: الأصل في النهي- إذا تجرد عن القرائن التي تصرفه عن أصله - التحريم، وليس هناك نهي للندب، وإن وجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة فهو لكراهة التنزيه، وأما الحديث الذي ذكرته فمعناه صحيح ولفظه عند الترمذي عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: «" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غبا (1) » وقال: حديث حسن صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1756) ، سنن النسائي الزينة (5055) ، سنن أبو داود الترجل (4159) .(51/101)
من الفتوى رقم 4221
السؤال الثامن: ما الذي يجعل النهي أحيانا للكراهة والأمر للاستحباب في كثير من الأحكام؟ حيث جاءت النصوص - فيما أظن - بعدم جواز البناء والجلوس والكتابة والوطء على القبر والاتكاء إليه، مع أن الإمام أحمد يقول بمكروهية ذلك في (زاد المستقنع) في باب " الجنازة " وكذلك الأمر بخروج(51/101)
الحيض وذوات الخدور إلى العيدين حيث يرى شارح عمدة الأحكام أنه مستحب في حق النساء.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قد يكون لاختلاف القرائن التي اقترنت بالأمر أو بالنهي، فإذا خلا الأمر والنهي عن القرائن فالأصل حمل الأمر على الوجوب وحمل النهي على التحريم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/102)
من الفتوى رقم 8133
السؤال الثاني ما هو تعريف المكروه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(51/102)
ج: ما يثاب تاركه حسبة لله على تركه، ولا يستحق العقاب فاعله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/103)
من الفتوى رقم 245
السؤال الأول: ويتضمن شرح تعريف الشرط بأنه ما لا يوجد المشروط مع عدمه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الشرط: هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، أي: هو الذي يلزم من فقده فقد الشيء المشروط به، كالصلاة مثلا، فمن شروطها الإسلام، فمتى انتفت صفة الإسلام في العبد لم تصح صلاته، وإن صلى فهذا الشرط حينما عدم عدم المشروط - وهو الصلاة - ولا يلزم من وجوده(51/103)
وجود ولا عدم، بمعنى: أن الشرط إذا كان موجودا فلا يستلزم وجوده وجود المشروط ولا عدمه، فقد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط، وقد يوجد الشرط ويوجد المشروط، فالصلاة - مثلا- من شروط صحتها دخول الوقت، فإذا دخل وقت الصلاة في ذلك تعين على من كان أهلا لوجوبها أداؤها، ولكن قد لا يؤديها؛ إما لتعذر أدائها، أو أنه ليس أهلا لوجوبها، وبهذا يتضح معنى: ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(51/104)
من الفتوى رقم 8006
السؤال الثالث: ما حكم التصوير للأرواح؟ الجواب بلا شك: أنه حرام ولا يجوز للمسلمين ولا المسلم أن يعمل ذلك، لكن المدرس عجزت أن أقنعه بذلك، وقلت له: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم قال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (1) » ، وإن الله سبحانه وتعالى يقول لصاحب
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .(51/104)
الصورة انفخ فيها روحا، ويا أستاذ إذا أردت أن ترسم ارسم - مثلا - شجرة وبيتا وحذاء وكتابا. . إلخ، على شرط أن يكون الرسم غير مجسم ولا يرمز للأرواح. . إلخ، ولكنه - الله يهديه - غير مقتنع، ويقول: أعطني دليلا من القرآن الكريم، قلت: السنة النبوية والقرآن الكريم كل واحد يكمل الآخر، والسنة: هي التي جاء بها نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وإنك والعياذ بالله غير مقتنع بما جاء به نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. أرجو الإجابة على هذه الأسئلة لكي أعطي كل صاحب حقه من السؤال، وقلت له: إن العلماء ورثة الأنبياء. . . إلخ، وقال لي: لا أعرف الدليل إلا من القرآن الكريم، والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، اللهم آمين يا رب العرش العظيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأحكام الشرعية كما تؤخذ من القرآن تؤخذ من السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) ، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) ،
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 54(51/105)
وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) ، وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) ، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) ، وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4) ، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6) ، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (7) ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (8) إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الدالة على وجوب العمل بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث، وقد صحت عنه الأحاديث في تحريم تصوير ذوات الأرواح، وفي توعد المصورين بالعذاب الشديد يوم القيامة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذبا يوم القيامة المصورون (9) » متفق عليه، وفي صحيح البخاري، عن أبي جحيفة - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله ولعن المصور (10) » والأحاديث بذلك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة النساء الآية 115
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4
(7) سورة النحل الآية 44
(8) سورة الحشر الآية 7
(9) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .
(10) صحيح البخاري البيوع (2086) ، مسند أحمد بن حنبل (4/308) .(51/106)
كثيرة، ونسأل الله أن يهدي أستاذك ويلهمه رشده.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/107)
الفتوى رقم 8803
س: هناك أدلة عقلية وأدلة نقلية للتدليل، وإثبات على أن خالق الكون، الإنسان، الحياة، هو الله، والسؤال هو: متى يكون الدليل على أن الخالق هو الله دليلا عقليا؟ ومتى يكون الدليل نقليا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الدليل العقلي: هو ما أدركه العقل في الموضوع الذي هو محل الاستدلال، كالاستدلال بخلق السماوات والأرض، وخلق أنفسنا على وجود الخالق سبحانه، وأنه عليم قدير حكيم.(51/107)
والدليل النقلي: هو الدليل النصي من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع أهل العلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/108)
من الفتوى رقم 9377
السؤال الأول: ما حكم من ينكر عذاب القبر بحجة أنها - أي: الأحاديث الواردة في عذاب القبر- هي أحاديث آحاد، وحديث الآحاد لا يؤخذ به مطلقا، وهم لا ينظرون إلى الحديث صحيح أو حسن أو ضعيف، ولكن ينظرون إليه من جهة كونه آحادآ أو مرويا بطرق مختلفة، فإذا وجدوه حديث آحاد لم يأخذوا به، فما هو الرد عليهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا ثبت حديث الآحاد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حجة فيما دل عليه اعتقادا وعملا بإجماع أهل السنة،(51/108)
ومن أنكر الاحتجاج بأحاديث الآحاد بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر، وارجع في الموضوع إلى كتاب (الصواعق) لابن القيم أو مختصره للموصلي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/109)
من الفتوى رقم 7701
السؤال الرابع: قال رسول الثقلين - محمد صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين كتاب الله وسنتي لن تضلوا ما استمسكتم بهما» ، أفي الأحكام الشرعية الإسلامية ما سوى هذين الدليلين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أحكام الشريعة مبنية على النصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما ضم إليهما مما يستند إليهما من الإجماع والقياس الصحيح.(51/109)
والمسلم إذا كان عاجزا عن أخذ الحكم - من دليله يجوز له أن يقلد أوثق من يعرفه من العلماء، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
السؤال الخامس: هل باب الاجتهاد مغلق أم غير مغلق؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: باب الاجتهاد لم يغلق، بل هو مفتوح لأهل العلم والإيمان والبصيرة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام من سلف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -وأتباعهم بإحسان من أهل العلم والإيمان، أما من ليس كذلك فالواجب عليه سؤالا أهل الذكر، كما سبق في جواب السؤال الرابع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(51/110)
من الفتوى رقم 9636
السؤال السادس: من مصادر التشريع في ديننا الإسلامي الحنيف - بعد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة - الإجماع، فهل قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة بمثابة إجماع علماء المسلمين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يعتبر إجماعا وهكذا أمثاله من المجامع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/111)
من الفتوى رقم 9907
السؤال الثاني: هناك مسائل لا يعلم المرء حكم الدين فيها، وقد يخطئ الإنسان نتيجة عدم علمه، وبعد فترة من الزمن قد يعلم الإنسان حكم الدين في بعض هذه المسائل، فهل يحاسب الإنسان على عمله مع عدم علمه بحكم الدين في المسألة المطروحة؟ وهل هناك توبة من الخطأ الذي يرتكبه الإنسان بعدم علمه عقب أن يعلم حكم الدين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كانت المسألة التي أخطأ فيها من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء ولم يكن خطؤه عن هوى ولم يخرج فيها عن قول المختلفين من العلماء - فلا إثم عليه ولا حرج، ولا تلزمه توبة من ذلك، وإنما يلزمه اتباع ما ظهر من الحق إذا كان من أهل العلم، وإلا فالواجب عليه سؤال أهل العلم قبل أن يقدم على شيء لا يعلم حكم الله فيه؛ لقول الله سبحانه:(51/112)
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(51/113)
من الفتوى رقم 4221
السؤال الأول: ما الحكمة في اختلاف الأئمة في الأحكام مع وجود الأدلة على المشروعية، كاختلافهم في الصلاة على الغائب حيث إن أبا حنيفة ومالك يقولان بعدم المشروعية، والشافعي وأحمد يقولان بذلك، مع أن حديثي أبي هريرة وجابر ينصان على ما ذهب إليه الشافعي وأحمد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قد يكون سبب الاختلاف بين أئمة الفقه الاختلاف في فهم الحديث، وقد يكون لعدم بلوغ الحديث لبعضهم، وقد يكون(51/113)
لاختلافهم في الترجيح عند تعارض الأدلة، وقد يكون لاختلافهم في نسخ النص، وقد يكون لغير ذلك، وإذا أردت التوسع فاقرأ كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، تجد ما يشفي إن شاء الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/114)
من الفتوى رقم 3897
السؤال السادس: ما حكم الخلاف بين الأئمة الأربعة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الخلاف بين الأئمة الأربعة مبني على اختلافهم في العلم والفهم، والمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، وخطؤه معفو عنه، وهكذا غيرهم من علماء الإسلام؛(51/114)
كالأوزاعي، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه وأمثالهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/115)
من الفتوى رقم 5566
السؤال الثاني: لقد أخذت كتاب (المغني) لابن قدامة واندهشت لما رأيت فيه من اختلاف عن مسألة لا بالى لها، لقد حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نجتنب من هذا بقوله: «لقد هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم (1) » وهو صحيح إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اختلاف أمتي رحمة» لكن ليس باختلاف الذي رأيناه في عصرنا في كتب الفقه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما ذكرته في سؤالك من وقوع خلاف في المسائل الفقهية ليس غريبا، فإن من سنة الله في الناس أنه جعلهم مختلفين في مداركهم وعقولهم، وفي اطلاعهم على الأدلة السمعية
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(51/115)
وإدراكهم لأسرار الكون وما أودعه الله فيه من سننه، فلا عجب أن يختلفوا في مسائل العلوم الشرعية والكونية عقلا وسمعا، بل ذلك هو مقتضى الحكمة واختلاف الخلق والمواهب، فليس لك أن تستنكر ذلك، لكن المنكر أن يتكلم الإنسان بجهل، أو اتباعا للهوى، أو بعصبية لرأي من تقلد مذهبه.
أما من نظر في الأدلة الكونية والسمعية الاجتهادية بإنصاف مبتغيا الحق فهو محمود، أصاب أم أخطأ، فإن أصاب فله أجران: أجر عن اجتهاده، وآخر عن إصابته الحق، وإن أخطأ فهو معذور، وله أجر واحد على اجتهاده، كما دلت على ذلك سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/116)
الفتوى رقم 4875
س: ما سبب اختلاف الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل - رحمهم الله تعالى -؟(51/116)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أسباب اختلاف الفقهاء الأئمة الأربعة وغيرهم كثيرة، وقد ألف فيها كتب منها: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية، و (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) لعبد الرحيم الأسنوي، و (الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف) لولي الله الدهلوي، و (أسباب اختلاف الفقهاء) لعلي الخفيف، و (الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الخلاف) لعبد الله بن سيد، و (بداية المجتهد) لابن رشد، فإنه يذكر في المسائل محل الوفاق، ثم يذكر محل الخلاف ويبين منشأه. ومع ذلك نذكر لك بعض هذه الأسباب:
1 - اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر؛ كالقروء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) فالقروء: تطلق على المحيض، وعلى الأطهار فذهب بعضهم إلى أن المطلقة تعتد بالأطهار، وذهب آخرون إلى أنها تعتد بالحيض، وكل له أدلة تبين المعنى الذي اختاره.
2 - تعارض الأدلة: فيختلف نظر الفقهاء في الترجيح أو الجمع بينها، مثل حديث النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب
__________
(1) سورة البقرة الآية 228(51/117)
الشمس، وحديث نهي من دخل المسجد عن الجلوس حتى يصلي ركعتين تحية للمسجد، فاختلف الفقهاء في تطبيق ذلك على من دخل المسجد في وقت نهي عن الصلاة فيه، فمنهم من قدم أحاديث النهي عن الصلاة، ومنهم من قدم حديث تحية المسجد، ولكل أدلة في ترجيح ما اختاره.
ومنها: أن يبلغ الحديث أحدهم دون الآخر، ومنها: الاختلاف في النسخ.
والفتوى لا تتسع لتفصيل مثل هذا، فارجع إلى ما تقدم ذكره من الكتب إن كنت متعلما لتستفيد منها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/118)
من الفتوى رقم 4272
السؤال الرابع: نرى أئمة كل على مذهب يخالف الآخر، وغالبا ما ينتهي الموضوع على معركة بينهم تؤدي إلى(51/118)
أن بعض المصلين يتركون الصلاة، فنريد جوابا شافيا كافيا في هذا الموضوع، وهل نتبع مذهبا واحدا، وكيف نوفق بين المذاهب حتى يستقر الأمر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: ج: الخلاف الموجود في الفروع الفقهية بين أئمة المذاهب الأربعة يرجع إلى الأسباب التي نشأ عنها، ككون الحديث يصح عند بعضهم دون بعض، أو بلوغ الحديث لواحد دون الآخر إلى غير ذلك من أسباب الخلاف.
فيجب على المسلم أن يحسن الظن بهم، فكل واحد منهم مجتهد فيما صدر منه من الفقه طالب للحق، فإن كان مصيبا فله أجران: أجر اجتهاده، وأجر إصابته، وإن كان مخطئا فله أجر اجتهاده وخطؤه معفو عنه.
وأما التقليد لهؤلاء الأئمة الأربعة، فمن تمكن أن يأخذ الحق بدليله وجب عليه الأخذ بالدليل، وإن لم يتمكن فإنه يقلد أوثق أهل العلم عنده حسب إمكانه، وهذا الاختلاف في الفروع لا يترتب عليه منع المختلفين أن يصلي بعضهم خلف بعض، بل الواجب هو أن يصلي بعضهم خلف بعض، فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يختلفون في المسائل الفرعية ويصلي بعضهم(51/119)
خلف بعض، وهكذا التابعون وأتباعهم بإحسان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(51/120)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الاحتفال بالموالد بدعة ومن أسباب الشرك
س: ما حكم الذبائح التي تكون في المولد، والأذكار، وضرب الطبول؟
ج: هذه كلها بدعة يجب تركها كما نص عليها أهل العلم، ولم توجد في عهده - صلى الله عليه وسلم-، ولم يأمر بها، ولم يفعلها لا هو ولا أصحابه - رضي الله عنهم - ولا السلف الصالح، لم يعرفوا هذه البدعة وهي الاحتفال بالموالد، فلم يحتفلوا بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بمولد الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا غيرهم، وإنما هذه بدعة حصلت بسبب الرافضة الفاطميين في القرن الرابع وما بعده، ثم تبعهم بعض الناس، فانتشرت هذه البدعة بسبب الجهل، وكثير من الناس يروجونها ويحثون عليها، وهؤلاء ممن يعين على الباطل.
والواجب الانتباه لذلك والحذر منه، فلا يجوز حضورها ولا مشاركتهم في ولائمهم، ويجب تحذيرهم من ذلك وبيان أن هذا خطأ وأنها بدعة، وأن الاحتفال بالموالد من أسباب الشرك، فكثير من هؤلاء(51/121)
ينتشر بينهم أنواع الشرك الأكبر، هذا يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم، وهذا يدعو الحسين - رضي، وهذا يدعو البدوي.
فالحاصل أنها بدعة ومن وسائل الشرك، ويكون فيها منكرات كثيرة في كثير من المجتمعات وفي كثير من البلدان، وقد قال الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) وقال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » أخرجه مسلم في صحيحه. وكان يقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي - محمد صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (6) » أخرجه مسلم في صحيحه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) سورة الأعراف الآية 3
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) رواه البخاري في (الصلح) برقم (2499) ، ومسلم في (الأقضية) برقم (3242) .
(5) رواه مسلم في (الأقضية) برقم (3243) .
(6) رواه مسلم في (الجمعة) برقم (1435) .(51/122)
أما بالنسبة للذبائح فمختلف، فإن كان ذبحها لصاحب المولد فهذا شرك أكبر، أما إن كان ذبحها للأكل فلا شيء في ذلك، لكن ينبغي ألا يؤكل منها، وأن لا يحضر المسلم إنكارا عليهم بالقول والفعل؛ إلا أن يحضر لنصيحتهم بدون أن يشاركهم في الأكل أو غيره. والله ولي التوفيق.(51/123)
كل أسماء الله تدل على الذات والصفة
س: هل من أسماء الله ما يجمع اسما وصفة؟
ج: كل أسماء الله تدل على الذات والصفة، حتى كلمة الجلالة (الله) فإنها تدل على الذات وعلى الألوهية، فهو سبحانه الإله الذي يدعى ويعبد ويخضع له، ويستحق العبادة بجميع أنواعها، كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) ، وهكذا بقية الأسماء فكلها أسماء وصفات.
__________
(1) سورة الحج الآية 62(51/123)
توحيد الربوبية أمر معترف به عند الأمم
س: الشيوعيون والملاحدة في عصرنا ينكرون وجود الله، ألا يعتبر هذا إنكارا لتوحيد الربوبية، خلاف ما قاله بعض(51/123)
أهل العلم، بأن أحدا من الكفار لم ينكر توحيد الربوبية؟
ج: ذكر العلماء أن توحيد الربوبية أمر معترف به عند الأمم، وإنما أنكره شواذ من الناس لا عبرة بهم، منهم المجوس حيث قالوا: إن هناك إلهين: النور والظلمة، وأن النور أعظم من الظلمة وأنه خلق الخير، وأن الظلمة خالقة الشر، وأما إنكار الآلهة بالكلية فهذا قد قاله مكابرة فرعون، وهكذا الفلاسفة الأقدمون. والملاحدة معروفون بأنهم يرون الأفلاك آلهة، وأن لها حركتها المعروفة، لكن جمهور المشركين وعامتهم يقرون بالرب، وأن هناك ربا خلق ورزق وهو في العلو، وإنما تقربوا إليه بما فعلوا من الشركيات.
وكفار قريش أنكروا المعاد، وهم يقرون بأن الله ربهم وخالقهم، ولكنهم أشركوا في العبادة وأنكروا المعاد، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وأنكروا الجنة والنار فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إليهم وإلى غيرهم من الجن والإنس بإرشادهم إلى الحق، وإنكار ما هم عليه من الباطل، فاتبعه من أراد الله له السعادة، وكفر به الأكثرون كغيره من الرسل - عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة سبأ الآية 20(51/124)
الله سبحانه أعلم بكيفية نزوله
س: كيف نرد على من قال: إنكم تقولون إن الله ينزل إلى السماء الدنيا بالثلث الأخير من الليل فإن ذلك يقتضي تركه العرش؛ لأن ثلث الليل الأخير ليس في وقت واحد على أهل الأرض؟
ج: هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو القائل - عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا تبارك - تعالى - إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر (1) » متفق على صحته، وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو - سبحانه وتعالى - فهو ينزل كما يشاء ولا يلزم من ذلك خلو العرش فهو نزول يليق به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا وهذا شيء يختص به - تعالى - لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقال - جل وعلا:
__________
(1) رواه البخاري في (الجمعة) برقم (1077) وفي (الدعوات) برقم (5846) وفي (التوحيد) برقم (6940) ، ومسلم في (كتاب صلاة المسافرين وقصرها) برقم (1261) و (1262) ، وأحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7275) .
(2) سورة الشورى الآية 11(51/125)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (1) وقال - عز وجل - في آية الكرسي: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به - عز وجل - ليس كنزولنا، إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من السيارة خلت منه السيارة، فهذا قياس فاسد له؛ لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته.
كما أننا نقول استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله وإنما نقول استوى استواء يليق بجلاله وعظمته. ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة؛ حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية، حتى قالوا لا داخل العالم ولا خارج العالم ولا كذا ولا كذا، حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية، ولهذا ذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه
__________
(1) سورة طه الآية 110
(2) سورة البقرة الآية 255(51/126)
بدعة " يعني عن الكيفية. ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك - رحمهما الله: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان بذلك واجب ". ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل كثيرة عديدة، وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص وأن لا نزيد على ذلك.
وهكذا نقول يسمع ويتكلم ويبصر ويغضب ويرضى على وجه يليق به سبحانه. ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو، وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة وطريق العلم، وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه - سبحانه وتعالى. والله - سبحانه - ولي والتوفيق.(51/127)
حكم الصدقة والحج عمن كان يذبح لغير الله
س: سائل يقول: إن والده يذبح لغير الله فيما قيل له عن ذلك، ويريد الآن أن يتصدق عنه ويحج عنه، ويعزو سبب وقوع والده في ذلك إلى عدم وجود علماء ومرشدين وناصحين له، فما الحكم في ذلك كله؟
ج: إذا كان والده معروفا بالخير والإسلام والصلاح، فلا يجوز له أن يصدق من ينقل عنه غير ذلك ممن لا تعرف عدالته،(51/127)
ويسن له الدعاء والصدقة عنه حتى يعلم يقينا أنه مات على الشرك، وذلك بأن يثبت لديه بشهادة الثقات العدول اثنين أو أكثر أنهم رأوه يذبح لغير الله من أصحاب القبور أو غيرهم، أو سمعوه يدعو غير الله، فعند ذلك يمسك عن الدعاء له، وأمره إلى الله - سبحانه وتعالى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن الله له، مع أنها ماتت في الجاهلية على دين الكفار، ثم استأذن ربه أن يزورها فأذن له، فدل ذلك على أن من مات على الشرك ولو جاهلا لا يدعى له، ولا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، ولا يحج عنه، أما من مات في محل لم تبلغه دعوة الله، فهذا أمره إلى الله سبحانه.
والصحيح من أقوال أهل العلم، أنه يمتحن يوم القيامة، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.(51/128)
إهداء بعض أعمال الخير للميت
س: هل يجوز إهداء بعض أعماله الخير إلى الميت؟
ج: يجوز إهداء ما ورد به الشرع المطهر من الأعمال؛ كالصدقة، والدعاء، وقضاء الدين، والحج والعمرة إذا كان المحجوج عنه ميتا أو عاجزا، لكبر سنه، أو مرض لا يرجى برؤه، وهكذا من تؤدى عنه العمرة؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة ما يدل على ذلك، وجاء في الكتاب العزيز ما يدل(51/128)
على شرعية الدعاء للمسلمين أحياء أو أمواتا، مثل قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » ، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: " نعم " متفق عليه.
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضا «أن رجلا قال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: " نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (3) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الحشر الآية 10
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(3) سنن أبو داود الأدب (5142) ، سنن ابن ماجه الأدب (3664) .(51/129)
ما يجوز إهداؤه للميت وما لا يجوز
س: السائل ح. م. ع. - من مصر يسأل ويقول: بعض الناس في قريتنا يقومون بإحضار مجموعة من المشايخ ممن لهم دراية بقراءة القرآن فيقرؤون القرآن بحجة أن هذا القرآن(51/129)
ينفع الميت ويرحمه، والبعض الآخر يستدعي شيخا أو اثنين لقراءة القرآن على قبر هذا الميت، والبعض الآخر يقيمون محفلا كبيرا يدعون فيه واحدا من القراء المشاهير عبر مكبرات الصوت ليحيي الذكرى السنوية لوفاة عزيزه، فما حكم الدين في ذلك؟ وهل قراءة القرآن تنفع الميت على القبر أو غيره، وما هي الطريقة المثلى لمنفعة الميت أفتونا جزاكم الله عنا خير الجزاء، ولكم منا جزيل الشكر والامتنان.
ج: الحمد لله، وبعد: هذا العمل بدعة لا يجوز؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولم يكن من سنته - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة خلفائه الراشدين - رضي الله عنهم - القراءة على القبور، أو الاحتفال بالموتى وذكرى وفاتهم، والخير كله في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم، كما قال الله - عز وجل -: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) وقال النبي - صلى الله عليه
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سورة التوبة الآية 100(51/130)
وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (2) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة ما ينفع المسلم بعد موته فقال - صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (3) » خرجه مسلم في صحيحه.
وسأله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: «يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ فقال - صلى الله عليه وسلم: " نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (4) » .
والمراد بالعهد الوصية التي يوصي بها الميت، فمن بره إنفاذها إذا كانت موافقة للشرع المطهر، ومن بر الوالدين الصدقة عنهما، والدعاء لهما، والحج والعمرة عنهما. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(4) سنن أبو داود الأدب (5142) ، سنن ابن ماجه الأدب (3664) .(51/131)
حكم الطواف وختم القرآن للأموات
س: أقوم أحيانا بالطواف لأحد أقاربي أو والدي أو أجدادي المتوفين ما حكم ذلك؟ وأيضا ما حكم ختم القرآن لهم؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الأفضل ترك ذلك؛ لعدم الدليل عليه، لكن يشرع لك الصدقة عمن أحببت من أقاربك وغيرهم إذا كانوا مسلمين، والدعاء لهم، والحج والعمرة عنهم.
أما الصلاة عنهم والطواف عنهم والقراءة لهم، فالأفضل تركه؛ لعدم الدليل عليه.
وقد أجاز ذلك بعض أهل العلم قياسا على الصدقة والدعاء، والأحوط ترك ذلك. وبالله التوفيق.(51/132)
الطريق الأمثل للاستقامة على المنهج القويم
س: كيف ترون سماحتكم المدخل لكي يتجنب الشباب الوقوع تحت وطأة مغريات هذا العصر ويتجه الوجهة الصحيحة؟
ج: بسم الله، والحمد لله: إن الطريق الأمثل ليسلك الشباب الطريق الصحيح في التفقه في دينه والدعوة إليه هو أن يستقيم على النهج القويم بالتفقه في الدين ودراسته، وأن يعنى بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنصحه بصحبة الأخيار والزملاء(51/132)
الطيبين، وملازمة العلماء المعروفين بالاستقامة حتى يستفيد من علمهم ومن أخلاقهم، كما أنصحه بالمبادرة بالزواج، وأن يحرص على الزوجة الصالحة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء (1) » متفق على صحته، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي الصيام (2240) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .(51/133)
من صفات أهل العلم
س: كثير من طلبة العلم اليوم يعرفون كثيرا من فضائل الأعمال وأجرها ومنها قيام الليل، ولا يفعلون هذا حيث إنهم يعلمون ولا يعملون.
ج: الأعمال التي جاءت النصوص ببيان فضلها قسمان: قسم واجب: فعلى المرء المسلم سواء كان عالما أو غير عالم أن يعتني به، وأن يتقي الله في ذلك، وأن يحافظ عليه كالصلوات الخمس وأداء الزكاة وغيرهما من الفرائض.
وقسم مستحب: كالتهجد بالليل وصلاة الضحى ونحو ذلك.
فالمشروع للمؤمن أن يجتهد في ذلك ويحرص عليه، ولا سيما أهل العلم؛ لأنهم قدوة ولو شغل عن ذلك أو تركه بعض الأحيان لم يضره ذلك؛ لأنه نافلة، لكن من صفات أهل العلم والأخيار العناية بهذا الأمر، والمحافظة عليه، كالتهجد بالليل وصلاة الضحى والرواتب إلى غير ذلك من وجوه الخير.(51/133)
حكم دخول الكفار المساجد
س: الأخت أم عماد من المدينة المنورة تقول في سؤالها: هل يجوز السماح للنصارى أو اليهود أو غيرهم من الكفار دخول المساجد لزيارتها، حيث إن بعض الدول الإسلامية تنظم مثل هذه الزيارات لبعض الشخصيات التي تزورها؟
ج: لا حرج في دخول الكافر المسجد إذا كان لغرض شرعي وأمر مباح؛ كأن يسمع الموعظة، أو يشرب من الماء، أو نحو ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنزل بعض الوفود الكافرة في مسجده - صلى الله عليه وسلم -؛ ليشاهدوا المصلين، ويسمعوا قراءته - صلى الله عليه وسلم - وخطبته، وليدعوهم إلى الله من قريب، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ربط ثمامة بن أثال الحنفي في المسجد لما أتي به إليه أسيرا فهداه الله وأسلم. والله ولي التوفيق.(51/134)
من رأى في المنام ما يكره
س: لقد كان لي قريب يكرهني في حياته ولا يطيقني وكان يضربني وقد توفاه الله. . وفي هذه الأيام أحلم أحلاما مزعجة، أراه يلاحقني أنا وابنتي الصغيرة لكني أهرب منه ولا يستطيع الإمساك بي، أرجو إرشادي إلى ما يريحني.
ج: هذه الرؤيا وأشباهها من المرائي المكروهة من الشيطان،(51/134)
والمشروع للمسلم إذا رأى ما يكره أن ينفث عند يساره ثلاث مرات، وأن يتعوذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى (ثلاث مرات) ، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليتعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ثم لينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا، وإذا رأى ما يحب فليحمد الله، وليخبر بها من يحب (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3292) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .(51/135)
إهداء تلاوة القرآن الكريم للآخرين
س: في هذا الشهر العظيم، شهر القرآن الكريم هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي، علما بأنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص؟
ج: لم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن صحابته الكرام ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به، والاستفادة منه، وتدبر معانيه والعمل بذلك، قال تعالى:(51/135)
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ، وقال نبينا - عليه الصلاة والسلام -: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (4) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم: «إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما (5) » .
والمقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهما أصلا يعتمد عليه، وقد قالت - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (6) » .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك وقالوا: لا مانع من أهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم، ولكن الصواب هو القول الأول؛ للحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح.
والعبادة لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بنص من كلام الله - عز وجل - أو من سنة رسوله - صلى الله عليه
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(5) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883) .
(6) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(51/136)
وسلم؛ للحديث السابق وما جاء في معناه.
أما الصدقة عن الأموات وغيرهم، والدعاء لهم، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام- فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان المحجوج عنه والمعتمر عنه ميتا أو عاجزا لهرم أو مرض لا يرجى برؤه. والله ولي التوفيق.(51/137)
قراءة القرآن في أوقات العمل
س: السائل خ. م. - يسأل ويقول: أنا موظف وفي العمل أقرأ القرآن الكريم في أوقات الفراغ، ولكن المسؤول ينهاني عن ذلك بقوله: إن هذا الوقت للعمل وليس لقراءة القرآن، فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟
ج: إذا لم يكن لديك عمل فلا حرج في قراءة القرآن، وهكذا التسبيح والتهليل والذكر، وهو خير من السكوت، أما إذا كانت القراءة تشغلك عن شيء يتعلق بعملك فلا يجوز لك ذلك؛ لأن الوقت مخصص للعمل، فلا يجوز لك أن تشغله بما يعوقك عن العمل.(51/137)
حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب
س: ما حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب؟
ج: لا حرج في ذلك، والواجب إخراج الكلب وعدم بقائه في المنزل إلا إذا كان لأحد ثلاثة أمور وهي: الصيد، والحرث، والماشية؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد، أو ماشية، أو زرع فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان (1) » متفق عليه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1574) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4287) ، مسند أحمد بن حنبل (2/8) ، موطأ مالك الجامع (1808) ، سنن الدارمي الصيد (2004) .(51/138)
حكم قراءة القرآن على الميت ووضع المصحف على بطنه
س: سائلة من الرياض تقول في سؤالها: ما حكم قراءة القرآن على الميت، ووضع المصحف على بطنه، وهل للعزاء أيام محدودة حيث يقال: إنها ثلاثة أيام فقط، أرجو الإفادة جزاكم الله خيرا؟
ج: ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح، بل ذلك غير مشروع، بل من البدع، وهكذا وضع المصحف على بطنه ليس له أصل، وليس بمشروع، وإنما ذكر بعض أهل العلم وضع حديدة أو شيء ثقيل على بطنه بعد الموت(51/138)
حتى لا ينتفخ.
وأما العزاء فليس له أيام محدودة، بل يشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها، وليس لغايته حد في الشرع المطهر سواء كان ذلك ليلا أو نهارا، وسواء كان ذلك في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة أو في غير ذلك من الأماكن. والله ولي التوفيق.(51/139)
من ينظر في المصحف دون تحريك الشفتين هل يثاب على ذلك
س: بعض الناس يأخذون المصحف ويطالعون فيه دون تحريك شفتيهم، هل هذه الحالة ينطبق عليها اسم قراءة القرآن، أم لا بد من التلفظ بها، والإسماع، لكي يستحقوا بذلك ثواب قراءة القرآن؟ وهل المرء يثاب على النظر في المصحف؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، ولكن لا يعتبر قارئا ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفظ بالقرآن ولو لم يسمع من حوله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (1) » رواه مسلم.
ومراده - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه: الذين يعملون به،
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .(51/139)
كما في الأحاديث الأخرى، وقال - صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها (1) » خرجه الترمذي، والدارمي بإسناد صحيح، ولا يعتبر قارئا إلا إذا تلفظ بذلك، كما نص على ذلك أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .(51/140)
علاج الأمراض العضوية بالقرآن
س: هل التداوي والعلاج بالقرآن يشفي من الأمراض العضوية كالسرطان كما هو يشفي من الأمراض الروحية كالعين والمس وغيرهما؟ وهل لذلك دليل؟ جزاكم الله خيرا.
ج: القرآن والدعاء فيهما شفاء من كل سوء بإذن الله، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1) ، وقوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى شيئا قرأ في كفيه عند النوم سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) و (المعوذتين) ثلاث مرات، ثم يمسح في كل مرة على ما استطاع من جسده فيبدأ برأسه ووجهه وصدره في كل مرة عند النوم، كما صح الحديث بذلك عن عائشة - رضي الله عنها -.
__________
(1) سورة فصلت الآية 44
(2) سورة الإسراء الآية 82
(3) سورة الإخلاص الآية 1(51/140)
رسالة في أن القرآن غير مخلوق للإمام الحافظ إبراهيم بن إسحاق الحربي 198 - 285 هـ
ويليها رسالة إمام أهل السنة والجماعة
إلى الخليفة المتوكل في مسألة القرآن
تقديم وتحقيق وتعليق علي بن عبد العزيز بن علي الشبل(51/141)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلت وإليه أنيب.
الحمد لله الذي أظهر الحق وأوضحه، وكشف عن سبيله وبينه، وهدى من شاء من خلقه إلى طريقه، وشرح به صدره وأنجاه من الضلالة حين أشفى عليها فحفظه وعصمه من الفتنة في دينه، فأنقذه من مهاوي الهلكة، وأقامه على سنن الهدى وثبته، وآتاه اليقين في اتباع رسوله وصحابته، ووفقه وحرس قلبه من وساوس البدعة، وأيده وأضل من أراد منهم وبعده، وجعل على قلبه غشاوة، وأهمله في غمرته ساهيا، وفي ضلالته لاهيا، ونزع من صدره الإيمان وابتز منه الإسلام، وتيهه في أودية الحيرة، وختم على سمعه وبأمره ليبلغ الكتاب فيه أجله، ويتحقق القول عليه مما سبق من علمه فيه من قبل خلقه له وتكريمه إياه ليعلم عباده أن إليه الدفع والمنع، وبيده الضر والنفع، من غير غرض له فيه، ولا حاجة به إليه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، إذ لم يطلع على غيبه أحدا، ولا جعل السبيل إلى علمه في خلقه أبدا.
فمن أراد أن يجعله لإحدى المنزلتين ألهمه إياها، وجعل موارده ومصادره نحوها، ومنقلبه ومنقلبه ومتصرفاته فيها، وكده وجهده ونصبه عليه، ليتحقق وعده المحتوم، وكتابه المختوم وغيبه المكتوم، قال تعالى:(51/142)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} (1) من ربهم. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (2) .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت، وينشئ ويقيت، ويبدئ ويعيد، شهادة مقر بعبوديته، ومذعن بألوهيته، ومتبرئ عن الحول والقوة إلا به.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه إلى الخلق كافة، وأمره أن يدعو الناس عامة قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3) .
أما بعد: فإن أوجب ما على المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته له وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين.
وكان من أعظم مقولة، وأوضح حجة معقول: كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأخيار المتقين، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها، والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثه المضلون.
__________
(1) سورة الشورى الآية 18
(2) سورة البقرة الآية 257
(3) سورة يس الآية 70(51/143)
فهذه الوصايا الموروثة المتنوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين، ثم من اقتدى بهم من أئمة المهتدين، واقتفى آثارهم من المتبعين، واجتهد في سلوك سبيل المتقين، وكان مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فمن أخذ في مثل هذه المحجة، وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة أمن في دينه التبعة، ومن أعرض عنها وابتغى من غيرها مما يهواه أو يروم سواها مما تعداه، أخطأ في اختيار بغيته وأغواه، وسلكه في سبيل الضلالة، وأرداه في مهاوي الهلكة.
وبعد هذه المقدمة الحافلة المستقاة من مقدمة اللالكائي لكتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) ، أدلف إلى المقصود منها بالتقديم لهذه المسألة المباركة للإمام الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، في موضوع جلل، عظم وزلت به القدم، وهو بدعة القول بخلق القرآن، وإنكار كلام منزل الفرقان، والتي يتلوها رسالة شيخه المبجل الإمام العلم أحمد بن حنبل في رسالته الجامعة لأمير المؤمنين وخليفة المسلمين المتوكل، في ذات الموضوع، لما صبر فيه على المحنة، فكافأه الله بعد ذلك في الدنيا العزة والرفعة، وفي الآخرة إن شاء الله المنزلة الرفيعة مع الصديق في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.(51/144)
بهذا توجه قصدي في إخراج هاتين الرسالتين العظيمتين في هذا النظم من جيده، والأولى كانت مغمورة، والثانية متداولة في بطون الكتب ومشهورة، وفي اجتماعهما فوائد وحكم منثورة مسطورة. وقد قدمت للأولى بترجمة مختصرة تعرف بالإمام الحربي، ثم بيان لوصف الأصل المخطوط، وطريقة العمل في تحقيقه وضبطه مع الرسالة الثانية، وما يحتاج مقامها من التعليق والتخريج.
والله أسأل أن ينفعني بما قدمت في العاجلة والآجلة، وأن يجعله لوجهه خالصة، وللزلفى لديه مقربا، ولرضوانه وجناته موصلا، ولوالدي ومشائخي وإخواني المسلمين، اللهم صل على محمد وآله وصحبه وأنبيائك جميعا وسلم تسليما.(51/145)
ترجمة موجزة للإمام إسحاق الحربي
انظر مصادر ترجمته في: - سير أعلام النبلاء 13 / 356 - 372.
- تاريخ بغداد 6 / 28 - 40.
- صفة الصفوة 2 / 404 - 410.
- طبقات الفقهاء ص 171.
- اللباب في الأنساب 1 / 355.
- تذكرة الحفاظ 2 / 584 - 586.
- العبر في خبر من غبر 2 \ 74.
- الوافي بالوفيات 5 / 320.(51/145)
- إنباه الرواة للقفطي 1 / 155 - 158.
- طبقات الفقهاء للسبكي 2 \ 256، 257.
- البداية والنهاية 11 \ 79.
- طبقات الحفاظ ص 259.
- بغية الوعاة 1 \ 418.
- طبقات المفسرين 1 / 5.
- طبقات الحنابلة 1 \ 8 6- 93.
- نزهة الألباب للأنباري رقم 577.
- مناقب الإمام أحمد ص 39، 508.
- المنتظم لابن الجوزي 6 / 3 - 7.
- معجم الأدباء لياقوت 1 / 112 -129.
- الفهرست لابن النديم ص 287.
- مروج الذهب 4 / 261 - 263.
- فوات الوفيات 1 / 14 - 17.
- شذرات الذهب 2 / 190.
- البلغة في تراجم أئمة اللغة 4، 5.
- الأنساب للسمعاني 1 / 20.
ومن الدراسات المعاصرة:
- مقدمة تحقيق كتاب المناسك لحمد الجاسر.
- غريب الحديث لسليمان العايد.
- الأعلام للزركلي.
- معجم المؤلفين لكحالة.(51/146)
اسمه:
هو الإمام الحافظ المحدث إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم ابن البشير البغدادي الحربي. نسبة إلى حربة، حي غربي بغداد، أبو إسحاق المولود سنة (198 هـ) والمتوفى ببغداد سنة (285 هـ) .
نشأته وطلبه للعلم:
نشأ في بيئة علمية، وغنية بالحركة التجارية والسياسية، وكان هو في نفسه غنيا ذا أملاك، وطلب العلم في بغداد - حاضرة الدولة الإسلامية - منذ نعومة أظفاره فلقي جماعة من العلماء - بعد حفظه القرآن ومبادئ العلوم في عصره - حيث اتجه إلى سماع الحديث وروايته فأخذ عن جماعة من محدثي بغداد والوافدين عليها، من أشهرهم:
1 - شيخه الذي لازمه وانتفع به كثيرا الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241 هـ) .
2 - عبد الله بن صالح العجلي (ت 211 هـ) .
3 - معاوية بن عمر الأزدي (ت 224 هـ) .
4 - أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) .
5 - مسدد بن مسرهد بن مغربل البصري (ت 228 هـ) .
6 - أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة العبسي الكوفي (ت 235 هـ) .
7 - عثمان بن محمد بن أبي شيبة المفسر (ت 239 هـ) .
8 - قتيبة بن سعيد الثقفي (ت 241 هـ) .(51/147)
9 - بندار بن محمد بن بشار البصري (ت 252 هـ) .
وغيرهم خلق كثير إذ كثرة الشيوخ سمة عصور المحدثين المتقدمين طلبا للسماع ولعلو الإسناد لدى المشائخ المسندين المعمرين.
أشهر تلاميذه:
شهد القرن الثالث الهجري نهضة حديثة متميزة في تدوين السنة والعناية بضبطها متونا وأسانيد، وردا على المخالفين لها، خصوصا بعد فتنة القول بخلق القرآن.
وقد أقبل خلق كثيرون من طلاب العلم على التلقي عن الإمام إبراهيم الحربي لتحصيله الأسانيد العوالي، ولقياه الشيوخ الكبار في أول عمره فأول شيوخه: عبد الله العجلي توفي وعمر الحربي ثلاث عشرة سنة.
ومن أميز طلابه وأشهرهم:
1 - إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282 هـ) ، وكان زميلا له. وهو عالم العراق.
2 - الحسين بن إسماعيل المحاملي (ت 330 هـ) صاحب كتاب الدعاء.
3 - عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل (ت 290 هـ) .
4 - عبد الله بن الإمام أبي داود السجستاني (ت 316 هـ) .
5 - أبو القاسم عمر بن جعفر الختلي (ت 356 هـ) صاحب كتاب المحبة لله عز وجل.
6 - أبو بكر محمد بن الحسن البربهاري (ت 362 هـ) إمام أهل(51/148)
السنة في وقته.
7 - أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي (ت 368 هـ) راوي مسند أحمد.
وغيرهم جماعة كثيرة حتى قيل: إنه يجتمع في مجلس إملائه ثلاثون ألف محبرة.
ثناء العلماء عليه:
قال فيه الإمام الدارقطني: كان إبراهيم الحربي يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، وقال: إبراهيم إمام بارع في كل علم، صدوق.
وقال الخطيب البغدادي فيه: كان إماما في العلم، رأسا في الزهد، عارفا بالفقه، بصيرا بالأحكام، حافظا للحديث، مميزا لعلله، قيما بالأدب جماعة للغة، صنف غريب الحديث، وكتبا كثيرة، وأصله من مرو.
وقال فيه تلميذه الحسين بن فهم (ت 289 هـ) : لا ترى عيناك مثل إبراهيم الحربي، إمام الدنيا، لقد رأيت وجالست العلماء فما رأيت أكمل منه رجلا.
وقالت القفطي: كان إبراهيم الحربي رأسا في الزهد، عارفا بالمذاهب، بصيرا بالحديث، حافظة. . .، له في اللغة كتاب (غريب الحديث) ، وهو من أنفس الكتب وأكبرها في هذا النوع.
وقد قال ثعلب إمام اللغة: ما لإبراهيم وغريب الحديث؟(51/149)
ثم حضر مجلسه في الجامع، ثم سجد لله لما سمعه.
وكان عبد الله بن الإمام أحمد معظما له، ومجلا لمكانته عند أبيه ومحبته له. وبالجملة فالثناء عليه كثير ومتنوع.
وهو - رحمه الله - قد سار على طريقة شيخه الإمام أحمد في ذم البدع وأهل الأهواء، ونصر السنة والأثر، وإجلال شيخه، وأهل الحديث سيما علمائهم الكبار، ويغضب كثيرا إذا قدم هو عليهم في المنزلة والذكر.
كما تأثر بشيخه في الزهد والترفع عن عطايا السلاطين؛ فكم مرة أرسل إليه آلاف الدنانير فأبى قبولها وتوزيعها، رحمه الله.
أشهر مؤلفاته:
كان رحمه الله مكثرا من التأليف كما ذكر مترجموه، ومن ذلك:
ا- غريب الحديث، وهو مطبوع في ثلاث مجلدات.
2 - إكرام الضيف وهو مطبوع في جزء صغير.
3 - كتاب العلل في الحديث.
4 - دلائل النبوة.
5 - مسائل الإمام أحمد، وهي متميزة.
6 - كتاب الأدب.
7 - كتاب في التفسير.
8 - سجود القرآن.(51/150)
9 - المغازي.
10 - القضاة والشهود.
11 - المناسك، وقد حققه حمد الجاسر، وطبعه في مجلد كبير، ورجح نسبته له.
وغيرها مما أورده مترجموه وحتى قال لبنته لما خاصمته في رد مال السلطان: في تلك الزاوية أثناء عشر ألف جزء حديثية ولغوية وغير ذلك كتبتها بخطي.
وفاته وعقبه:
توفي رحمه الله ببغداد بغربيها وعمره سبع وثمانون سنة، وأعقب رحمه الله بنتين فقط، مات ولم يتلذذ بطيب العيش ومترفه؛ زهدا به وورعا، وكانت جنازته مشهودة في يوم مطر ووحل، وصلى عليه يوسف القاضي صاحب السنن.
وكان - رحمه الله - مجاب الدعوة، مليح العبارة حسن السمت، وقد كان له ابن عمره إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن وتلقن بعض مسائل الفقه فمات فصبر عليه واحتسب.
من أقواله في العقيدة:
- نقل أبو ذر الهروي بسنده إليه أنه وعد تلاميذه أن يملي عليهم مسألة في الاسم والمسمى، فقال لهم لما اجتمع لها الطلاب وتكاثروا " قد كنت وعدتكم أن أملي عليكم في الاسم والمسمى، ثم نظرت فإذا لم يسبقني في الكلام فيها إمام يقتدى به فرأيت الكلام فيه بدعة، فقام الناس وانصرفوا، ثم(51/151)
جاءه رجل يوم الجمعة فسأله عن هذه المسألة فقال: ألم تحضر مجلسنا بالأمس؟ قال: بلى. فقال أتعرف العلم كله؟ قال: لا. قال: فاجعل هذا مما لا تعرف! ".
- أنه رحمه الله سمع مسائل عن الحارث بن مسكين الإمام عن رجل مال بعد ذلك إلى علم الكلام. فرجع إبراهيم الحربي وسمعها من طريق آخر عن غير هذا الذي مال إلى الكلام هجرا واستغناء.
- سأل مرة طلابه عن الغريب؟ فأجابوه بأجوبة، ثم قال: " الغريب في زماننا رجل صالح عاش بين قوم صالحين، إن أمر بمعروف آزروه، وإن نهى عن منكر أعانوه، وإن احتاج إلى سبب من الدنيا مانوه، ثم ماتوا وتركوه ".
- وقال: " لا أعلم عصابة خيرا من أهل الحديث، إنما يغدو أحدهم ومعه محبرته فيقول: كيف فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وكيف صلى؟ إياكم أن تجلسوا إلى أهل البدع، فإن الرجل إذا أقبل ببدعة ليس يفلح ".
- وقال مرة لتلميذه سليمان الجلاب (ت 334) : ينبغي للرجل إذا سمع شيئا من أدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسك به.
- كما اشتهر عنه من عدة طرق ذمه للرأي في الدين، وطلب الرأي، وحضور حلقه، والاشتغال به مقابل الحديث وعلوم السنة.
رحم الله أبا إسحاق وجمعنا به وبأسلافنا الصالحين في(51/152)
دار كرامته بفضله وبرحمته، آمين. اللهم صل على محمد وآله.
وصف الأصل المخطوط:
جاءت هذه الرسالة للإمام الحربي ضمن مجموع عن الجامعة العثمانية بحيدر آباد الدكن - بالهند ورقمه فيها 499 كما في طرة الرسالة وهي الرسالة الثانية منه، وتقع في ست صفحات في كل صفحة 12 سطرا، متوسط ما في كل سطر عشر كلمات، وخطها فارسي متقن، إلا أن الناسخ أغفل إعجام الحروف أحيانا، وأخطأ فيها أحيانا أخرى، كذلك بعض الكلمات مشكولة بالحركات الواضحة كالشدة والمد ونحوهما.
عنوان الرسالة كتب بنفس القلم الذي كتبت به الرسالة، لكن على جانب الصفحة الأولى الأعلى من جهة اليسار، كما ترى في النموذج المرفق هكذا:
رسالة في أن القرآن غير مخلوق
لإبراهيم الحربي رحمه الله.
الناسخ للرسالة هو مالكها واسمه كما كتبه في أسفل العنوان: كاتبه مالكه عبده الحقير: أحمد سعيد عفي عنه.
في آخر صفحة من الرسالة السابقة رسالة الحربي كتبت فائدة، وهي منقولة من التمهيد للسالمي من الإباضية حول البيعة(51/153)
لمعاوية في حياة علي - رضي الله عنهما- تركت إيرادها عمدا.
الناسخ جزاه الله خيرا عنده خلط في بعض رجال الإسناد، وتصحيف في مواضع المخطوطة مبينة في محالها، حتى إن بعض الرجال لم أعثر على تراجمهم بعد طول البحث فلأجله ولما في بعض الأسماء من تقديم وتأخير غلب على ظني خلطه في الأسماء والنسب.
ربما يصدق حصولي على هذه النسخة لفظ: " الوجادة " عند أهل الحديث، وهي أحدث طرق الرواية الثمانية، مع إخراجها والتعليق عليها.
منهج التحقيق:
الذي تهيأ لي من هذه الرسالة نسخة وحيدة، كان عليها الاعتماد مع المقابلة في المصادر الحديثة الأخرى في توثيق النقول، وضبط تراجم الرجال، وكانت طريقة العمل في هذه الرسالة بصورة مجملة على النحو التالي:
- نسخت الرسالة بالقلم الإملائي الحديث، مراعيا علامات الترقيم التي تساعد على تفصيل النص وفهمه، وترابط أجزائه.
- رقمت الآثار الواردة في النص ترقيما عدديا فبلغت أحد عشر أثرا.
- ترجمت لرجال الأسانيد، وقائلي الآثار بتراجم موجزة ما استطعت الحصول على تراجمهم. معتمدا في قائلي الآثار على(51/154)
التقريب للحافظ ابن حجر غالبا.
- خرجت الآثار الواردة في النص من المصادر المتاحة لزيادة التوثيق لها والاعتماد عليها، ولم أستوعب.
- علقت على بعض المسائل العقدية، بما تقتضيه الحاجة، مع مراعاة المقام من حيث الاختصار والإيجاز، والالتفات إلى مراعاة ما يحتاج إليه الموضع من الإشارة عن طوله العبارة.
- عزوت الآيات إلى سورها ورقم الآية فيها.
- صححت الأخطاء الواردة في متن المخطوط مع الإشارة في الحاشية إلى الخطأ الوارد في الأصل، هذا إذا تأكدت من كونه خطأ بالمقابلة بينه وبين الأصول الموردة للحديث والأثر، أو اسم المترجم له.
- أردفت مع الرسالة رسالة الإمام أحمد بن حنبل إلى المتوكل في مسألة خلق القرآن، لما وجه إليه يسأله عنها مسألة استرشاد واستعلام؛ لمناسبتها التامة لهذا المقام، ولورودها مخطوطة في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه أبي الفضل صالح، وسلكت فيها ما سلكته في هذه الرسالة من طريقة العمل التعليق.
هذه أبزر النقاط التي اتبعتها في إخراج الرسالتين. نفع الله بهما العام الخاص، آمين.(51/155)
صور من مخطوطة الإمام الحافظ
إبراهيم بن إسحاق الحربي
الصفحة الأولى(51/156)
الصفحة الثانية(51/157)
الصفحة الأخيرة(51/158)
رسالة في أن القرآن غير مخلوق
للإمام الحافظ بن إسحاق الحربي
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - أخبرنا أبو الفتح أحمد بن عمر بن سعيد بن ميمون الجهاري قراءة مني عليه. قال: نبا أبو الفضل جعفر بن إدريس القزويني بمكة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، قال: قرأت(51/159)
على إبراهيم الحربي ببغداد، وكان يصلي بنا في شهر رمضان، قال: كنت جالسا عند أحمد بن حنبل، إذ جاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله: إن عندنا قوما يقولون إن ألفاظهم بالقرآن مخلوقة.
فقال أحمد بن حنبل: يتوجه العبد بالقرآن إلى الله لخمسة أوجه كلها غير مخلوقة: حفظ بقلب، وتلاوة بلسان، وسمع بآذان، ونظر ببصر، وخط بيد، فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق. قال إبراهيم: فمات أحمد بن(51/160)
حنبل، فرأيته في النوم، وعليه ثياب خضر وبيض، وعلى رأسه تاج من الذهب، مكلل بالجوهر، وفي رجليه نعلان من ذهب يخط. فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال لي: قربني وأدناني، وقال: قد غفرت لك، فقلت له: يا رب بماذا؟ فقال: بقولك إن كلامي غير مخلوق.(51/161)
صفحة فارغة(51/162)
2 - أخبرنا أبو العباس أحمد بن علي بن إسحاق المعروف بالكسائي المصري إجازة بخطه، قال: نبا أبو الحسين بوانته أحمد بن عيسى بن بوانته الموصلي إملاء من كتابه بلفظه، وأنا أسمع، قال: نبا أبو جعفر محمد بن الحسن بن مروان بن بدينا.(51/163)
قال نبا أبو الفضل صالح بن أحمد. قال: سمعت أبي يقول:
افترقت الجهمية على فرق: فرقة قالوا: القرآن مخلوق. وفرقة قالوا: كلام الله وسكتت، وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق. قال الله تعالى في كتابه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) فجبرئيل عليه السلام تسمع من الله تعالى ليسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبرئيل، ويسمعه أصحاب النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة التوبة الآية 6(51/164)
وسلم من النبي صلى الله عليه وسلم فالقرآن كلام الله غير مخلوق.
3 - وحدثنا قال: نبا بوانته قال: نبا أبو جعفر، قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، قلت: يا أبا عبد الله أنا رجل من أهل الموصل، والغالب على بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير، وقد وقعت مسألة الكرابيسي، فافتتنهم قول الكرابيسي " لفظي بالقرآن مخلوق " فقال لي أبو عبد الله: إياك وإياك هذا الكرابيسي، لا تكلمه، ولا تكلم من يكلمه ثلاث مرات أو(51/165)
صفحة فارغة(51/166)
أربع - إلا أن في كتابي أربع -، قلت: يا أبا عبد الله: فهذا القول وما جانسه يرجع إلى قول جهم. قال: هذا كله قول جهم.
4 - وحدثنا قال: نبا بوانته قال: نبا أبو جعفر، قال: نبا صالح، قال: نبا أبي، وقال رجل للحكم بن عيينة: ما حمل(51/167)
أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات.
5 - قال معاوية بن قرة وكان أبوه ممن أتى النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم فهذه (1) الخصومات فإنها تحبط العمل.
__________
(1) هذا في المخطوطة، وفي بعض الأصول - كما عند اللالكائي - وهذه بالواو، ولكل وجه.(51/168)
6 - وقال أبو قلابة، وكان أدرك غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، وقال: أصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما يعرفون.(51/169)
7 - ودخل رجلان من أهل الأهواء إلى محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، تحدثنا بحديث؟ قال: لا.
قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله تبارك وتعالى؟ قال: لا. ليقومان عني، أو لأقومنه (1) ، قال: فقام الرجلان، فخرجا، فقال بعض القوم: يا أبا بكر، ما عليك أن يقرءا عليك آية من كتاب الله تعالى. قال: فقال محمد بن سيرين: إني خشيت أن يقرءا علي آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي، قال محمد - رحمه الله -: لو أني أعلم أني أكون مثل هذه الساعة لتركتموها.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي الأصول لأقومن، بنون التوكيد.(51/170)
8 - وقال رجل من أهل البدع لأيوب بن أبي تميمة الشيحاني: يا أبا بكر، أسألك عن كلمة. فولى وهو يقول: لا، ولا نصف كلمة.(51/171)
9 - وقال ابن طاوس، لابن له يكلم (1) رجل من أهل البدع: يا بني ضع إصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول، ثم قال: اشدد اشدد.
10 - قال وقال إبراهيم النخعي: إن القوم لم يدخر عنهم شيء، ختئ (2) لكم لفضل عندكم. قال: وكان:
__________
(1) هكذا في الأصل، وفي المصادر الأخرى: (وتكلم رجل. .) بتاء المتكلم وهو أصوب للسياق.
(2) هكذا في الأصل وهو تصحيف، وصوابه كما في الأصول: خبئ.(51/172)
11 - الحسن البصري يقول: شر داء خالط قلبا، يعني الأهواء. قال: وقد روي عن غير واحد ممن مضى من سلفنا(51/173)
أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وهو الذي أذهب إليه، ولست بصاحب الكلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان من كتاب الله تعالى، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، أو عن التابعين رحمة الله عليهم، فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود، والله المعبود، فالقرآن من علم الله، وعلم الله غير مخلوق. والدليل على ذلك قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (1) . الآية.
نسأل الله أن يجعلنا من العاملين بكتابه، وجميع المسلمين إنه على ما يشاء قدير.
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(51/174)
صورة من رسالة الإمام أحمد إلى الخليفة المتوكل في مسألة القرآن(51/175)
رسالة الإمام أحمد
إلى الخليفة المتوكل
في مسألة القرآن(51/178)
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
حدثنا صالح قال: كتب عبيد الله بن يحيى إلى أبي رحمة الله عليه يخبره: أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن أمر القرآن، لا مسألة امتحان، ولكن مسألة معرفة وبصيرة. فأملى على أبي رحمه الله:
إلى عبيد الله، أحسن الله عاقبتك أبا الحسين (1) في الأمور كلها، ودفع عنك مكاره الدنيا والآخرة برحمته، قد كتبت إليك رضي الله عنك بالذي سأل عنه أمير المؤمنين [بأمر القرآن بما
__________
(1) في سير أعلام النبلاء في ترجمته 13 \ 9 كنيته أبو الحسن.(51/179)
حضرني، وإني أسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين] فقد كان الناس في خوض من الباطل، واختلاف شديد يغتمسون فيه حتى أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين، فنفى الله بأمير المؤمنين كل بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس، فصرف الله ذلك كله، وذهب به أمير المؤمنين.
ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما ودعوا الله لأمير المؤمنين، فأسأل الله أن يجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء، وأن يتم ذلك لأمير المؤمنين، ويزيد في نيته ويعينه (1) على ما هو عليه.
وقد ذكر عن عبد الله بن عباس - رحمة الله عليه - أنه قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؛ فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم.
__________
(1) في المخطوطة: ويغنيه بالغين، وهو تصحيف ظاهر، والصواب ما أثبته.(51/180)
وذكر عبد الله بن عمرو: «أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا، وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا. قال: فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان. فقال: " أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه (1) » .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تماروا في القرآن، فإن مراء فيه كفر (2) » .
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند في مواضع، في 2 \ 195 - 196 و 118، قال: حدثنا إسماعيل، ثنا داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به. وأخرجه ابن ماجه في السنن في باب القدر رقم 85 بهذا الطريق بنحوه، وفيه قال ابن عمرو: ما غبطت نفس بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفس بذلك المجلس وتخلفي عنه. حسن أحسنأحسن بللللل وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي عاصم في السنة رقم 406 به. حسنه الألباني فيه.
(2) أخرجه أحمد في المسند في مواضع: في 2 \ 286، 300، 424، 475، 503، 528، قال: ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. وأبو داود في سننه رقم 6403، من طريقه. والآجري في الشريعة ص 67، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 10 \ 529، في فضائل القرآن، وصححه ابن حبان برقم 73. وأخرجه ابن بطة في الكبرى رقم 791، 792. وأخرجه اللالكائي في شرح السنة رقم 72، والحاكم في المستدرك 2 \ 223، وصححه، ووافقه الذهبي والبغوي في شرح السنة 1 \ 260، والطبراني في الصغير 1 \ 78، من اسمه شباب كلهم من طريق محمد بن عمرو به. وصححه الشيخ أحمد شاكر في طبعته للمسند رقم 7499. وقال ابن كثير في فضائل القرآن ص 15 على حديث أحمد: وهذا إسناد صحيح أيضا.(51/181)
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا.
فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه، فانطلقت إلى منزلي مكتئبا حزينا، فبينما أنا كذلك إذ أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين، فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني، وأخذ بيدي فخلا بي، وقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل؟ [فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فإني أستغفر الله عز وجل وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت. قال: لتحدثني ما الذي كرهت مما قال الرجل] (1) ، قال: إنما قلت يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يتحقوا، ومتى يتحقوا
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة في الأثر من المصنف لعبد الرزاق الصنعاني.(51/182)
يختصموا، ومتى يختصموا يختلفوا، ومتى يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك، والله إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها.
وروي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: " هل من رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي (2) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3 \ 322 - 339، وأبو داود في السنن رقم (4734) في كتاب السنة باب في القرآن في آخر فضائل القرآن رقم 2925، وابن ماجه في المقدمة فيما أنكرت الجهمية رقم 201، والدارمي في سننه 2 \ 532، رقم 3354، والبخاري في خلق أفعال العباد رقم 86 و 205، والحاكم في المستدرك 2 \ 612، وقال: حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، واللالكائي في شرح أصول السنة 554 - 555، والدارمي في الرد على الجهمية رقم 284. وطرقهم مدارها على إسرائيل ثنا عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنهما به، وقال بعده الترمذي هذا حديث غريب صحيح. وهذا إسناد كلهم ثقات، وسالم من المرتبة الثانية من مراتب المدلسين عند ابن حجر، وقد اغتفر الأئمة تدليسهم، وهو في نفسه ثقة. رحمهم الله.
(2) في المخطوطة: إلى قومي، وهو خطأ، والتصويب من روايات الحلية والسنة والنبلاء وما في التخريج. (1)(51/183)
وروي عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه - يعني القرآن (1) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن رقم 2912، قال: ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطأة، عن جبير بن نفير به. وأخرجه من طريقه أبو داود في مراسيله 6 \ 103، وهو مرسل عن جبير. وأخرجه عنه كذلك أحمد في المسند 5 \ 268 عن عبد الرحمن بن مهدي به. لكن أخرجه الحاكم موصولا في موضعين: الأول: في 2 \ 441، من طريق عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطأة، عن جبير، عن عقبة بن عامر الجهني بلفظ: '' أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلا: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث ''. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والثاني: 1 \ 555 من طريق سلمة بن شبيب ثنا أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن جبير، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. اهـ. وعلته في جميع الطرق الموصولة والمرسلة العلاء بن الحارث، وهو صدوق، رمي بالقدر، وقد اختلط في آخره وهو من الخامسة مات سنة 136 هـ. وبه ضعفه الألباني في الضعيفة رقم 1957. والله أعلم.(51/184)
وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه - يعني القرآن (1) » .
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " جردوا القرآن ولا تكتبوا فيه شيئا إلا كلام الله ".
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد بنحوه في المسند 5 \ 268، وهو الحديث السابق، وأخرجه أيضا عن أبي أمامة بلفظه الترمذي في فضائل القرآن رقم 2911 قال: ثنا أحمد بن منيع، ثنا أبو النضر، ثنا بكر بن خنيس، عن ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطأة، عن أبي أمامة به. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر عمره. وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرطأة عن جبير بن نفير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. اهـ.(51/185)
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " إن هذا القرآن كلام الله فضعوه على مواضعه ".(51/186)
وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد إذا قرأت كتاب الله وتدبرته ونظرت في عملي كدت أن أيأس وينقطع رجائي. قال: فقال له الحسن: " إن القرآن كلام الله وأعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير فاعمل وأبشر ".
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: " كنت جارا لخباب وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت معه يوما من المسجد وهو آخذ بيدي، فقال: يا هناة تقرب إلى الله بما استطعت؛ فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه ".(51/187)
وقال رجل للحكم بن عتيبة: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات.
وقال معاوية بن قرة، وكان أبوه ممن أتى النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال " (1) .
وقال أبو قلابة، وكان أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجالسوا أصحاب الأهواء أو قال أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون " (2) .
ودخل رجلان - من أصحاب الأهواء - على محمد بن سيرين فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا. لتقومان عني، أو لأقومنه. قال: فقام الرجلان فخرجا. فقال بعض القوم: يا أبا بكر، ما كان
__________
(1) سبق تخريجه والتعريف بقائله في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
(2) سبق تخريجه والتعريف بقائله في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.(51/188)
عليك أن يقرءا عليك آية من كتاب الله؟ فقال محمد بن سيرين: " إني خشيت أن يقرءا علي آية، فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي " فقال محمد: " لو أعلم أني أكون مثل الساعة لتركتهما " (1) .
وقال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: " يا أبا بكر، أسألك عن كلمة، فولى وهو يقول بيده: ولا نصف كلمة " (2) .
وقال ابن طاوس (3) لابن له - وتكلم رجل من أهل البدع -: أدخل أصبعيك (4) في أذنيك حتى لا تسمع ما يقوله. ثم قال: اشدد، اشدد.
وقال عمر بن عبد العزيز: " من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل ".
__________
(1) سبق تخريجه والتعريف بقائله في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
(2) سبق تخريجه والتعريف بقائله في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
(3) سبق التعريف به في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
(4) في المخطوطة: أصبعك، والتصويب من بقية الروايات والأصول.(51/189)
وقال إبراهيم النخعي (1) : " إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل عندكم " (2) .
وكان الحسن البصري يقول: " شر داء خالط قلبا، يعني الهوى " (3) .
وقال حذيفة بن اليمان - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: " اتقوا الله معاشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا، أو قال: مبينا ".
__________
(1) سبق التعريف به في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
(2) سبق تخريجه في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
(3) سبق تخريجه والتعريف بقائله في رسالة خلق القرآن لإبراهيم بن إسحاق الحربي.(51/190)
وإنما تركت ذكر الأسانيد، لما تقدم من اليمين التي حلفت بها مما قد علمه أمير المؤمنين، لولا ذلك ذكرتها بأسانيدها.(51/191)
وقد قال الله جل ثناؤه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) وأخبر تبارك وتعالى بالخلق، ثم قال: والأمر، فأخبر أن الأمر غير الخلق.
وقال تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنِ} (3) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (4) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (5) {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (6) فأخبر تبارك وتعالى أن القرآن من علمه. وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (7) وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (8) وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} (9) فالقرآن علم الله.
وفي هذه الآيات دليل على أن الذي جاءه صلى الله عليه وسلم هو القرآن لقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (10)
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) سورة الأعراف الآية 54
(3) سورة الرحمن الآية 1
(4) سورة الرحمن الآية 2
(5) سورة الرحمن الآية 3
(6) سورة الرحمن الآية 4
(7) سورة البقرة الآية 120
(8) سورة البقرة الآية 145
(9) سورة الرعد الآية 37
(10) سورة البقرة الآية 120(51/192)
وقد روي عن غير واحد ممن مضى من سلفنا أنهم كانوا يقولون: " القرآن كلام الله ليس بمخلوق ". وهو الذي أذهب إليه، ولست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا(51/193)
إلا ما كان من كتاب الله، أو في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، أو عن أصحابه - رحمة الله عليهم - أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.
وإني أسأل الله أن يطيل بقاء الأمير، وأن يثبته ويمده منه بمعونة، إنه على كل شيء قدير.(51/194)
التعاون بين الدعاة مبادئه وثمراته
للشيخ د: صالح بن عبد الله بن حميد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فهذا بحث في التعاون في الدعوة وبين الدعاة، شاملا تعاونهم فيما بينهم وتعاونهم مع غيرهم. يحاول أن يرسم أسس هذا التعاون ومبادئه وأغراضه وثمراته.
أرجو أن يكون فيه ما يحقق البغية والمنفعة، وأن يجعل الله بفضله كل أعمالنا وأقوالنا وعلومنا خالصة لوجهه الكريم، وموصلة إلى جناته جنات النعيم، إنه هو البر الرحيم.
تعريف:
التعاون في اللغة من العون، والعون هو الظهير على الأمر، ويجمع على أعوان. وتقول العرب: إذا جاءت السنة جاء معها أعوانها، ويعنون السنة الجدب وبالأعوان الجراد والذئاب والأمراض. والرجل المعوان من كان كثير العون وحسن المعونة.
وسمي الإناء ماعونا لما فيه من عون الجاء والمحتاج، كما جاء في التنزيل: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الماعون الآية 7(51/195)
ومن مرادفات اللفظة المفيدة في هذا البحث: الوزير والردء. ومنه قوله تعالى في حق موسى عليه السلام إذ سأل ربه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} (1) {هَارُونَ أَخِي} (2) {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (3) {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (4) ، وقوله سبحانه في ذات الموضوع في مقام آخر: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (5) (6) .
والشاهد من الآيات الكريمات مفردات: الوزير والأزر والردء.
أما الوزير فمشتق من الأزر وهو الظهر؛ لأن الظهر مجمع الحركة في الجسم وقوام استقامته، وسمي الإزار إزارا لأنه يشد به الظهر، ومنه يفهم التعبير القرآني: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (7) فهو مشدود بحزم وحزام وقوة، ومنه قول الشاعر:
شددت به أزري وأيقنت أنه ... أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه
وأصل الكلمة الأبعد أن الوزر الجبل المنيع، وكل معقل وزر. وفي التنزيل العزيز: {كَلَّا لَا وَزَرَ} (8) أي لا عاصم
__________
(1) سورة طه الآية 29
(2) سورة طه الآية 30
(3) سورة طه الآية 31
(4) سورة طه الآية 32
(5) سورة القصص الآية 34
(6) وسوف يكون للبحث وقفات عند هاتين الآيتين الكريمتين ودقة فقههما في موضوع البحث إن شاء الله.
(7) سورة طه الآية 31
(8) سورة القيامة الآية 11(51/196)
من أمر الله.
وسمي الوزير وزيرا لأنه يحمل عن الخليفة والملك ثقله ويعينه برأيه ويحتمل ما أسند إليه من تدبير الملك والمسؤولية (1) .
أما الردء فمأخوذ من أردأه أي: أعانه. قال صاحب اللسان: فلان ردء لفلان أي ينصره ويشد ظهره، فالردء هو العون والناصر (2) .
__________
(1) لسان العرب ج (5) ص (282، 283) ، ج (12) ص (298) ، تفسير الماوردي ج (3) ص (13، 14) .
(2) لسان العرب ج (1) ص (84، 85) .(51/197)
التعاون ضرورة إنسانية:
خلق الله الإنسان مدنيا بطبعه، فركبه على صورة لا تستقيم حياته، ولا يدوم بقاؤه، إلا بمعاونة غيره له من بني جنسه. فقد سخر الله الناس بعضهم لبعض في الغذاء والكساء والتصنيع والحماية بما لا يستطيع أحد منهم أن يستقل بنفسه البتة. ويظهر ذلك جليا حين يقارن الإنسان بالحيوان. فالحيوان لا يحتاج إلى معاونة أحد في تحصيل أسباب بقائه ومعايشه، فعنده من سهولة تحصيل الغذاء والقوة في الحماية ما لا يحتاج معه إلى أحد، بينما الإنسان بقوته الذاتية الفردية لا يستطيع مقاومة كثير من الحيوانات لا سيما الكبيرة منها والمفترسة، فهو عاجز عن المدافعة ما لم يكن معه جمع من جنسه أو آلات قد صنعها بنفسه أو بغيره تقاوم شراسة الحيوان. بل إن قدرته المنفردة لا تفي بتوفير احتياجاته(51/197)
ولا تستقل بتصنيع آلاته، فهو بحاجة إلى معاونة إخوانه ليحصل على قوت ويحتمي من حر ويتقي من قر ويدفع العدو والصائل.
إذن فالاجتماع والتعاون والتضامن ضروري لنوع الإنسان؛ لتتحقق الحياة على وجهها، ويهنأ له العيش، ويتمكن من القيام بمهمة الاستخلاف وعمارة الأرض بمقتضى قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (1) ، وقوله سبحانه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (2) ، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (3) (4) .
ولا مانع من الإشارة في هذا المقام إلى ما قد وضع الله في بعض مخلوقاته من غير بني آدم مما يشير إلى تعاون قد فطرت عليه، فقد أعطى ربنا كل شيء خلقه ثم هدى. مخلوقات جعل الله في فطرتها نوع تعاون إما لتأمين غذائها أو الدفاع عن نفسها وجماعتها، ويظهر ذلك في جنسي النمل والنحل.
فقد شوهد أن النمل إذا عثر على عسل في وعاء، ولم يتمكن من الوصول إليه مباشرة؛ لوجود ماء أو سائل يحول بينه وبين هذا العسل، فإنه يتعاون بطريقة فدائية انتحارية؛ فتتقدم فرق
__________
(1) سورة هود الآية 61
(2) سورة الزخرف الآية 32
(3) سورة الأنعام الآية 165
(4) راجع في هذا المعنى: (مقدمة ابن خلدون) ص (41 - 43) .(51/198)
بعد أخرى فتلتصق بالسائب وتموت، وتتقدم غيرها مثلها حتى تتكون قنطرة من جثث النمل الميت يعبر عليها الأحياء الباقون، فيدخلون الوعاء ويصلون إلى العسل ويبلغون مأربهم. هذا في حال اليسر والغذاء.
أما في حال العسر والتعرض للمخاطر فإن مجاميع النمل إذا تعرضت لتيار مائي داهم - مثلا - فإن بعضها يمسك ببعض - ثم تكون كتلة كروية متماسكة تتحمل اندفاع التيار، ثم تعمل حركتين في آن واحد، إحداهما: تتحرك فيها الأرجل كالمجاديف في اتجاه واحد نحو أقرب شاطئ، والثانية: حركة دائرية من أعلى إلى أسفل ليتم تقاسم التنفس بين الجميع، فإذا ما تنفس من في الأعلى حصل انقلاب ليرتفع من في جهة القاع، فيأخذ حظه من النفس، وهكذا في حركة دائرية حتى يبلغوا شاطئ الأمان.
فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وسبحان من وهب الإنسان العقل المفكر ليتأسى ويعتبر ويكتشف ويرقى بفكره - بعد هداية الله وتوفيقه - ليكون خيرا من الأنعام.
أما النحل فنظامه في تكوين مملكته وإنتاج عسله وترتيب الأعمال بين أفراد خليته فعجب عجاب في التعاون والتناوب ولله في خلقه شؤون (1) .
__________
(1) يراجع للمزيد مفتاح دار السعادة ج (1) ص (242 - 249) ، تفسير القاسمي 10 \ 129.(51/199)
فضل التعاون:
هذه طائفة من النصوص مختارة في فضل التعاون وعظم الأجر والنفع لمن أخذ به، وهي في ذات الوقت تعتبر أصلا في الباب ودليلا له. على أنه سيأتي في ثنايا البحث ما يزيد الأمر وضوحا في الفضل والتأصيل.
1 - قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) .
2 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (2) {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (3) {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} (4) {يَفْقَهُوا قَوْلِي} (5) {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} (6) {هَارُونَ أَخِي} (7) {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (8) {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (9) {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} (10) {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (11) {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} (12) .
3 - قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (13) {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} (14) .
ولقد كان لأهل العلم رحمهم الله وقفات جميلة عند هذه الآيات سوف تتبين عند الحديث عن ميدان التعاون والحديث عن غايته. ولقد قرروا فيما قرروا أن التعاون ركن من أركان الهداية
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة طه الآية 25
(3) سورة طه الآية 26
(4) سورة طه الآية 27
(5) سورة طه الآية 28
(6) سورة طه الآية 29
(7) سورة طه الآية 30
(8) سورة طه الآية 31
(9) سورة طه الآية 32
(10) سورة طه الآية 33
(11) سورة طه الآية 34
(12) سورة طه الآية 35
(13) سورة القصص الآية 34
(14) سورة القصص الآية 35(51/200)
الاجتماعية، فالله سبحانه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا في كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا وأقواما في دينهم ودنياهم وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم (1) .
أما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولاه الله عز وجل من أمر المسلمين شيئا فأراد به خيرا جعل له وزير صدق فإن نسي ذكره وإن ذكر أعانه (2) » .
2 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ثم شبك ببين أصابعه (3) » .
3 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) » .
__________
(1) تفسير المنار ج (6) ص (131) .
(2) أخرجه أحمد (المسند) 6 \ 70، والنسائي 3 \ 381، وأبو داود 2932، وهو صحيح الإسناد. انظر: صحيح النسائي للألباني 8 \ 159.
(3) متفق عليه البخاري مع الفتح 10 \ 6026، مسلم 2585.
(4) متفق عليه البخاري مع الفتح 10 \ 6011، مسلم 2586.(51/201)
وأمثال هذه الأحاديث المتآثرة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مما فيه الحث على الخير والدلالة عليه والحث على قضاء الحوائج، وبخاصة إذا أدرك المتأمل أن الحاجة في نصوص الشرع ذات مفهوم واسع مما هو مدلول عليه في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (1) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرا. . ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام (2) » .
وهذه رواية ابن عمر رضي الله عنهما. وعند الطبراني في الأوسط والحاكم، وقال: صحيح الإسناد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى في حاجة أخيه كان خيرا من اعتكاف عشر سنين (3) » .
ويتأكد هذا المعنى بالنظر في نصوص النهي عن خذلان المسلم وإسلامه للأعداء والنوائب، على حد قوله سبحانه:
__________
(1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2699.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير وصححه الألباني حيث أورده من أسانيد بعضها ضعيف وبعضها حسن. انظر الصحيحة 2 \ 608، 609.
(3) المنذري في الترغيب والترهيب 3 \ 391.(51/202)
{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وعليه فإن من اجتهد في كف الأذى والعدوان عن أخيه فقد قام بصورة كبرى من صور التعاون. ولئن قال العربي الجاهلي: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " فلقد جاء التفسير الإسلامي المحمدي لهذه المقولة لما لها من وقع عظيم على نفوس الإخوان والعشيرة، فتساءل الصحابة «وكيف ننصره ظالما؟ قال: " تكفه عن الظلم (2) » . فالمسلم أخو المسلم يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه (3) .
ومن هنا كان النكير الشديد على التعاون على الإثم والظلم وبطر الحق. وفي مثل هذا جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
- ما أخرجه البخاري في تاريخه والطبراني والبيهقي في (شعب الإيمان) عن أوس بن شرحبيل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام (4) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح مسلم 4 \ 1998.
(3) جزء من حديث متفق عليه البخاري مع الفتح 13 \ 7147، مسلم 1652.
(4) الدر المنثور ج (3) ص (12) ، والترغيب والترهيب ج (3) ص (199) وقال حديث غريب، والفتح الكبير ج (3) ص (241) .(51/203)
- وعند الطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله (1) » .
- وأخرج البيهقي من طريق فسيلة أنها سمعت أباها واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: «سألت رسول صلى الله عليه وسلم: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: " لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم (2) » .
والظلم في الدعوة الذي يلزم التكاتف والتعاون على رفعه يتمثل في ميادين كثيرة: من غلبة الهوى والتعصب والمراء وقلة الإخلاص والخلاف القائد إلى التنازع. كما أن منه خذلان الداعية من أن يقوم بتبليغ أمر الله ودعوة الإسلام أو إيذائه بغير حق. وهذا وأمثاله سوف يشار إلى كثير منه في صفات كل من رجل الدعوة والمعين فيها، مما يؤثر في بناء التعاون واستمراره وتحقيق ثماره.
__________
(1) الدر المنثور ج (3) ص (12) ، والترغيب والترهيب ج (3) ص (199) وعزاه أيضا إلى الأصبهاني، والفتح الكبير ج (3) ص (164) .
(2) سنن أبي داود ج (4) ص (331) أخرجه بمعناه وسكت عنه. ولفظه: ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم. وانظر سنن ابن ماجه ج (2) ص (1303) ، وسنن البيهقي ج (10) ص (234) .(51/204)
التعاون وغاية الدعوة:
من أجل تبين ذلك في أوضح صورة يحسن الوقوف المتأمل عند هذا الدعاء القرآني النبوي من نبي الله ووجيهه موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (1) {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (2) {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} (3) {يَفْقَهُوا قَوْلِي} (4) إلى قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} (5) {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (6) {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} (7) .
هنا ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: عند قوله سبحانه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (8) أن موسى عليه السلام اعلم من أمر الله له بالذهاب إلى فرعون أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره؛ فيجعله حليما حمولا، يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة من مر الحق والشدائد ما يذهب معه صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات. يشرح صدره فلا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب الطبيعة البشرية الضجر والقلق.
مع ما يتجلى في هذا الطلب من إظهار كمال الافتقار إليه عز وجل والإعراض عن الحول والأنانية بالكلية. إن شرح الصدر نور من الله وسكينة وروح منه سبحانه (9) .
__________
(1) سورة طه الآية 25
(2) سورة طه الآية 26
(3) سورة طه الآية 27
(4) سورة طه الآية 28
(5) سورة طه الآية 33
(6) سورة طه الآية 34
(7) سورة طه الآية 35
(8) سورة طه الآية 25
(9) تفسير أبي السعود ج (3) ص (624) ، روح المعاني ج (16) ص (181، 182) .(51/205)
ولذا فإن الصدر إذا ضاق لم يصاحبه لهداية الخلق ودعوتهم، وعسى الخلق أن يقبلوا الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم (1) .
والصدر إذا انشرح والقلب إذا انفتح لم يضق بسفاهة المعاندين ولجاجة الجاهلين، ومن ثم فلا يخاف شوكة ولا يهاب من كثرة ولا يراع من صولة (2) .
الوقفة الثانية: قوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (3) دعاء لتسهيل الأمر وتيسيره لتقوم الدعوة على وجهها بتوفر آلاتها ووجود المعين عليها. ولا شك أن التيسير والتسهيل لا يكون إلا بتوفيق الأسباب ورفع الموانع (4) .
الوقفة الثالثة: قوله تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} (5) {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (6) إذا تحقق شرح الصدر وتيسير الأمر ووجد الوزير والنصير فذلك مظنة تكثير الدعوة وأهلها وأنصارها، ومن مظاهر ذلك ومن غاياته كذلك كثرة التسبيح والمسبحين والذكر والذاكرين.
ذلك أن الدعوة تشتمل على التعريف بالله وصفاته وتنزيهه وتقديسه وتسبيحه، وهي حث للعباد على القرب من مولاهم لإدخالهم في حظيرة الإيمان والتقوى، وحين يتحقق ذلك يكثر
__________
(1) تفسير ابن سعدي ج (5) ص (153) .
(2) تنوير الأذهان ج (2) ص (428) .
(3) سورة طه الآية 26
(4) تفسير أبي السعود ج (3) ص (624) .
(5) سورة طه الآية 33
(6) سورة طه الآية 34(51/206)
ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه، ألا ترى إلى خطاب الله لنبيه موسى عليه السلام في الآية قبيل ذلك: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1) ، ثم خطابه وأخيه فيما بعد وهما يقومان بمهمة الدعوة: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (2) . أي: لا تضعفا في تبليغ الرسالة. إذن فتعليلهما بالتسبيح والذكر الكثيرين يعني تحقيق الدعوة نجاحها (3) .
أما الإمام أبو السعود في تفسيره فينظر إلى ذلك من زاوية أخرى، حين يقرر أن التسبيح والذكر في الآية ليس مرادا بهما ما يكون بالقلب أو في الخلوات، فهذا لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد، بل المراد ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة والعتاة إلى الحق، وذلك مما لا ريب في اختلاف حاله في حالتي التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله في حال الانفراد (4) .
وفي الختام يقول موسى عليه السلام مخاطبا ربه: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} (5) أي: إنك أنت العالم بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا (6) .
__________
(1) سورة طه الآية 14
(2) سورة طه الآية 42
(3) التحرير والتنوير ج (16) ص (213، 214) .
(4) تفسير أبي السعود ج (3) ص (626) .
(5) سورة طه الآية 35
(6) تفسير الزمخشري ج (2) ص (536) .(51/207)
ولما بسط موسى عليه السلام حاجته، وكشف عن ضعفه، طالبا العون والتيسير، متوسلا بالاتصال والذكر الكثير، جاء الجواب من العلي الأعلى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (1) .
__________
(1) سورة طه الآية 36(51/208)
أقسام الناس في التعاون:
يقسم الماوردي - رحمه الله - الناس باعتبار ما يقدمونه من معاونة وما يحققونه من معاني الأخوة والتعاون إلى أقسام أربعة:
الأول: من يعين ويستعين.
الثاني: من لا يعين ولا يستعين.
الثالث: من يستعين ولا يعين.
الرابع: من يعين ولا يستعين.
ثم قال: فأما المعين والمستعين فهو معارض منصف، يؤدي ما عليه ويستوفي ما له، فهو كالمقرض يسعف عند الحاجة ويسترد عند الاستغناء، وهو مشكور في معونته ومعذور في استعانته، فهذا أعدل الإخوان.
وأما من لا يعين ولا يستعين فهو متروك، قد منع خيره، وقمع شره، فهو لا صديق يرجى ولا عدو يخشى، وإذا كان الأمر كذلك فهو كالصورة الممثلة، يروقك حسنها ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شره ولا مشكور لمنع خيره، وإن كان باللوم أجدر.
وأما من يستعين ولا يعين فهو لئيم كل ومعان مستذل، قد قطع عنه الرغبة وبسط فيه الرهبة، فلا خيره يرجى ولا شره يؤمن، وحسبك مهانة من رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقل عند استقلاله،(51/208)
فليس لمثله في الإخاء حظ، ولا في الوداد نصيب.
وأما من يعين ولا يستعين فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة، فهذا أشرف الإخوان نفسا، وأكرمهم طبعا، فينبغي لمن أوجد له الزمان مثله - وقل أن يكون له مثل لأنه البر الكريم والدر اليتيم - أن يثني عليه خنصره ويعض عليه بناجذه، ويكون به أشد ضنا منه بنفائس أمواله، وسنى ذخائره؛ لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعا فهو بالادخار أحق، ثم لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رضي سائر أخلاقه، وحمد أكثر شيمه؛ لأن اليسير معفو والكمال معوز (1) .
تعليق:
هذا تقسيم من الماوردي - رحمه الله - أشبه بالحصر العقلي. وهو تقسيم جميل لتصوير النفوس وأحوال الناس والشخوص. ولكن واقع الناس، وما قضت به سنة الله في هذه الحياة، من بناء الدنيا واستقامة المعاش على المشاركة والمعاونة واتخاذ الناس بعضهم بعضا سخريا، كما سبق في مقدمة البحث يشوش على ما قرره الماوردي، فلا يتصور في الواقع من أحد - فيما نحن بصدده - أن يحقق مبتغاه إلا بتعاضد أطراف من الناس. هذا جانب. ومن جانب آخر، فإن البذل من طرف واحد - على نحو
__________
(1) أدب الدنيا والدين ص (211 - 213) .(51/209)
ما ذكر الماوردي - لا يسمى إلا إحسانا ومنة ونعمة، وهذا ليس من باب التعاون في شيء إلا من حيث الأثر والفائدة للمحسن إليه والمنعم عليه.
كما أن من يستعين ولا يعين قد رضي لنفسه أن يكون عالة على غيره، وجعل حياته مبنية على السؤال والطلب والتطلع إلى ما في أيدي الناس.
وأما من لا يعين ولا يستعين فتصور وجوده في بني الإنسان بعيد، على نحو ما سبق في المقدمة من تقرير أن التعاون ضرورة إنسانية. فالإنسان لا يستغني عن أخيه الإنسان، كما قضى الله عز وجل في سننه.(51/210)
ميادين التعاون:
الأصل في هذا قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وعليه فسوف يكون الحديث في هذه الفقرة عن مفهومي البر والتقوى، ثم استعراض تفصيلي لجملة من مجالات التعاون حسب ما تعنيه شريعة الإسلام من شمول وكمال.
وينبغي أن يفهم أن هذا التفصيل لا يخرجنا عن المقصود في الحديث عن الدعوة والدعاة، فكل هذه الميادين مفتوحة فسيحة أمام الدعاة، بل هم أحق بها وأهلها، كما سوف يتبين إن شاء الله.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(51/210)
البر والتقوى:
البر والتقوى كلمتان جامعتان تجمعان خصال الخير بالكلية، بل تفسر إحداهما الأخرى.
فالبر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير الذي يتضمنه (1) .
والتقوى في حقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا، أمرا ونهيا. يقول طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى. قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
ويعلق على ذلك ابن القيم رحمه الله فيقول: وهذا من أجمع المعاني، فإن كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه الإيمان المحض، لا العادة والهوى، ولا طلب المحمدة والجاه، ولا غير ذلك، بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب (2) .
ولعل داود لحظ هذا المعنى حين قال في وصيته: " اصحب أهل التقوى، فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة، وأكثرهم لك معونة " (3) .
__________
(1) بدائع التفسير ج (2) ص (93، 94) بتصرف.
(2) بدائع التفسير ج (2) ص (96) .
(3) انظر الإخوان لابن أبي الدنيا (124) .(51/211)
ويكفي لطالب العلم والدعوة برهانا ودلالة وإيجازا هذه الآية العظيمة التي جمعت بين البر والتقوى، وعرفت أحدهما بالآخر، ودلت على المفردات والأصول لهاتين الكلمتين العظيمتين، إنها قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) .
فالبر كما ترى شمل الدين كله، بعقائده وأحكامه، وأصوله وفروعه، وسلوكياته وعباداته، حقائق وشرائع، وقلوبا وجوارح. فمن حقق ذلك على وجهه فهو الصادق المتقي. ولكنه لا يتحقق على وجه إلا بالتعاون؛ ذلك أن التعاون عليهما - البر والتقوى - يكسب محبة تحصيلهما، ومن ثم يصير تحصيلهما رغبة للجميع. وفي التعاون تيسير العمل، وتحقيق المصالح وتوفيرها، وإظهار الاتحاد والتناصر، حتى يصبح ذلك خلقا للأمة (2) .
استعراض تفصيلي لميادين التعاون:
لقد أقام الإسلام التعاون بين المسلمين على أساس محكم، ومد له في كل ناحية من نواحي الحياة بسبب. فالتمثيل القرآني
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) التحرير والتنوير ج (6) ص (87، 88) .(51/212)
لأهل الإيمان أنهم كالبنيان المرصوص، وفي التمثيل النبوي كالجسد الواحد. فأمور الإسلام ومطلوباته لا تتحقق على وجهها إلا بالتعاون. ودين الله بنيان شامخ لا يقوم ولا يثبت إلا حين تتراص لبناته وتتضامن مبانيه لتسد كل لبنة ثغرتها.
وإذا كان الله سبحانه قد خلق الخلق لعبادته وطاعته فإن هذه العبادات والطاعات أنواع: قلبية عقلية كالإيمان، وبدنية كالصلاة، ومالية كالزكاة، ومركبة من البدن والمال كالحج والجهاد.
وكل هذه العبادات بأنواعها لا تقام ولا تشاد إلا بوسائلها: من صحة الفكر، وسلامة البدن، وسعة ذات اليد. ولهذه الوسائل وسائل: من التفقه في الدين، والإحسان في الأعمال؛ من زراعة وصناعة وحرف، وإتقان في العلوم والمعارف؛ من الطب والحساب والهندسة والمعامل والمختبرات. ومن المقطوع به - كما سبق - أن الإنسان بمفرده بل حتى الرهط من الناس والجماعة المحدودة من القوم لا تستطيع بهذه الوسائل الانفراد بتحقيق هذه المقاصد. ومنه يتبين حاجة الناس إلى الاجتماع والتآزر، فذلك ما تقتضيه الفطرة، ويتطلبه الدين، وتنتظم به الشؤون، وتستقيم به العلوم.
وهذا بعض البسط لصور من التعاون في أحكام الإسلام وآدابه، وإذا استجلاها رجل الدعوة عرف ضرورة التعاون وحاجته إليه في ميدانه ومجاله.
فالصلوات الخمس جماعة وجمعة، وصلاة العيدين وآدابهما، والحج بشعائره، وعقد النكاح بوليمته وآدابه، وعقيقة المولود، وإجابة الدعوى حتى للصائم، كلها مناشط عبادية اجتماعية تعاونية،(51/213)
ولا تكون صورتها الشرعية إلا كذلك.
وينضم إلى اجتماع الأعياد اجتماع الشدائد والكرب في صلوات الاستسقاء والكسوف والجنازة.
إنه انتظام عجيب بين أهل الإسلام في مواطن السرور والحزن، ناهيك بصورة الأخوة، ومبدأ الشورى، وحقوق المسلمين فيما بينهم؛ في القربى والجوار والضيف وابن السبيل واليتامى والمساكين، مع ما يحيط بذلك من سياج الآداب الاجتماعية؛ من إفشاء السلام، وفسح المجالس، ودمح الزلة، مما بسطه قانون الأخلاق في الإسلام، مما سيأتي إشارة منه في الصفات الشخصية المؤثرة في التعاون.
أما أنواع المعاملات والتعاملات فذلك جلي في عقود المضاربة والعارية والهبة والمهاداة وفرض الدية على العاقلة.
وثمة صور من المعاونات في كف الظلم، ونصرة المظلوم، ودفع الصائل بسلاح أو مال. بل هل يقوم الجهاد، وتقام الحدود، وتستوفى الحقوق، ويقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالتعاون والتآزر (1) .
وهناك التعاون بالرأي، بما يدل على الحق، ويخرج من الحيرة، وينقذ من المأزق والهلكة، في النصيحة والمشاورة، وقد يكون تعاونا بالجاه؛ من الشفاعة لذي الحاجة عند من يملك قضاءها (2) .
__________
(1) تفسير القاسمي ج (6) ص (25) .
(2) رسائل الإصلاح ج (1) ص (155، 156، 171) بتصرف.(51/214)
ومن هنا قال القرطبي رحمه الله: " فواجب على الناس التعاون، فالعالم يعين بعلمه، والغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم " (1) .
فإذا وضع المسلمون أيديهم على هذه الأسباب الوثيقة، يتقدمهم أولو الأمر والعلماء والدعاة بلغوا المكانة المحفوفة بالعزة المشار إليها بقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2) .
__________
(1) تفسير القرطبي ج (6) ص (47) .
(2) سورة المنافقون الآية 8(51/215)
الصفات الشخصية وأثرها في تحقيق التعاون:
لا يتصور الحديث عن التعاون في ميدان الدعوة بدون التركيز في الحديث عن علاقة رجل الدعوة بغيره من الناس وطبيعة هذه العلاقة.
يجب أن يعي رجل الدعوة، وهو وارث النبوة، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والموجه والمربي، يجب أن يعي أن تكون علاقته بالناس - كل الناس - وثيقة عميقة دقيقة. علاقة يحكمها الحب لهم، والحرص على إرشادهم وتوجيههم، وبذل النصح لهم، ورسم سبل الهداية لهم، والغيرة عليهم.
وإذا كان الأمر كذلك فإن من تمام الوعي للمسؤولية وحب التعاون والمعاونة أن يدرك أن الناس فئات وطبقات؛ فيتعامل مع(51/215)
كل فئة حسب طبيعتها ووظيفتها، والناس ينقسمون إلى عامة وغير عامة. فالعامة هم من ليسوا في موقع السلطة والمسئولية، من الأهل والأقارب والجيران وأهل الحي والقرية والبلدة وألوان المعارف والارتباطات والصداقات. وغير العامة كل ذي مسئولية مخاطب حسب مسؤوليته - صغيرة كانت أو كبيرة - من ولاة الأمر والمربين والعلماء والمعلمين وأصحاب الوظائف العامة والخاصة والمواقع الاجتماعية المؤثرة.
وإذا كان الأمر كذلك فعلى رجل الدعوة قبل أن ينتظر معاونة الناس واستجابتهم أن ينظر في نفسه وأخلاقه ومؤهلاته.
وهذا استعراض لأهم الصفات التي يؤثر تحقيقها واستجلاؤها في التعاون تحقيقا واستمرارا.(51/216)
عقد الأخوة الإيمانية:
إن من أهم صفات رجل الدعوة استشعار عقد الأخوة في الله، الأخوة الحقة، أخوة من أجل نصرة دين الله، إنه العقد الذي يشعر فيه المسلم بعامة ورجل الدعوة بخاصة أنه ليس وحيدا ولا فردا.
وعليه فإن من أولى واجبات الداعية تجنب ما يعكر هذا الصفو، من هنات وهزات تورث نفرة القلوب ووحشة النفوس، يتجنب في هذا الباب كثرة العتاب والمراء والجدل، وبخاصة إذا شابه رائحة استعلاء وحب تميز وظهور. والتعريض في العتاب مقدم على التصريح مع حفظ الغيبة والثبات على الوفاء وترك(51/216)
الكلف بعيدا عن الأنانية وضيق الأفق والتعلق بصغائر الأمور والانشغال بها.
وللسلف رحمهم الله في هذا أقوال محفوظة وعبارات مسبوكة تنتصب دلائل ومنائر على ما نحن بصدده.
يقول الحسن رحمه الله: " المؤمن مرآة أخيه إن رأى فيه ما لا يعجبه سدده وقومه وحاطه وحفظه في السر والعلانية، فثقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس " (1) . ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه. وكفى بالمرء عيبا أن يجد على الناس فيما يأتي أو يبدو لهم منه ما يخفى عليه من نفسه وأن يؤذيه في المجلس بما لا يعنيه " (2) .
ومن أقوال بعض الحكماء: " من جاد لك بمودته فقد جعلك عديل نفسه، فأول حقوقه اعتقاد مودته، ثم إيناسه والانبساط إليه في غير محرم، ثم نصحه في السر والعلانية، ثم تخفيف الأثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة أو يناله من نكبة، فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم " (3) .
ويقول عطاء بن أبي رباح رحمه الله: " تفقدوا إخوانكم بعد
__________
(1) الإخوان لابن أبي الدنيا ص (131) .
(2) الجامع لأبي زيد القيرواني ص (199) .
(3) أدب الدنيا والدين، ص (216) .(51/217)
ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو نسوا فذكروهم " (1) .
ويقول أبو جعفر بن صهبان رحمه الله: " كان يقال: أول المودة طلاقة الوجه، والثانية: المودة، والثالثة: قضاء حوائج الناس " (2) .
وهي كما ترى إشارات عابرة لما ينبغي أن يكون عليه رجل الدعوة من مبادرات ومحاسبة للنفس قبل محاسبة الآخرين أو انتظار عونهم.
بل مهما تأملت وتعمقت فلن تجد في عقد الأخوة وصدق المودة كما صار بين موسى وأخيه في ميدان الدعوة والنبوة.
أورد ابن أبي حاتم بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني: إنه يعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه. قال الأعرابي: موسى حين سأل لأخيه النبوة. فقلت صدق والله.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ومن هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (3) .
__________
(1) إحياء علوم الدين، 2 \ 176.
(2) الإخوان لابن أبي الدنيا، 194.
(3) سورة الأحزاب الآية 69(51/218)
وقال بعض السلف: ليس لأحد أعظم منة على أخيه من موسى عليه السلام على أخيه هارون عليهما السلام، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه، ولهذا قال ربه في حقه: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (1) وقال في مقام آخر: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (2) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 69
(2) سورة مريم الآية 53(51/219)
الإخلاص:
الحديث عن الإخلاص كثير وواسع، وكتب العلماء رحمهم الله المتقدمين منهم والمتأخرين قد ملئت وشحنت بذكر فضله وعظم أثره والحث عليه ومراقبة النفس فيه.
وخلاصة القول فيه أن الحديث عنه كثير، والدعوة إليه بين الناس عامتهم وعلمائهم ودعاتهم كثيرة ومستمرة، ولكن العمل والتطبيق عزيز وعزيز جدا.
والذي ينصب فيه الحديث هنا أثر الإخلاص في تحقيق التعاون، وعليه فليعلم رجل الدعوة أنه إن كان يضيق ذرعا بمساعدة إخوانه ومبادراتهم ومناصحتهم وتوجيههم وفتح الميادين الواسعة أمامهم إن كان يضيق بذلك فليتهم نفسه وليراجع إخلاصه.
إن عليه - إن كان مخلصا - أن يبادر بفسح المجال للكفء الأمين بالإسهام في ميادين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(51/219)
ويكفي نبراسا وقدوة تضرع موسى عليه السلام إلى ربه في أخيه هارون عليه السلام: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (1) ، مع أن مقام النبوة عظيم قد لا يخطر في البال أن ذلك مما تمكن المشاركة فيه، ولكن موسى أحب لأخيه ما أحب لنفسه.
ولعل فيما مضى من إشارة في الكلام على عقد الأخوة يكمل بيان مراد ما نحن بصدده ويزيد إيضاحه.
إن رجل الدعوة المخلص سوف يكون مسرورا ممتنا إذا ما ظفر بمسلم ذي مقدرة وكفاءة وأمانة يسهم معه في ميدانه ويعينه في شأنه.
أيها الدعاة: إن هناك علاقة بينة بل تنازع جلي بين بذل التعاون والرغبات الشخصية. فالصدق في التعاون وبذله يستلزم تنازلا عن الرغبات الشخصية والأهواء الذاتية.
ومن قام بالتعاون على وجهه، ووفى أعباءه ومتطلباته، إنما يغلب هواه، ويتجرد في إخلاصه؛ بل إنما يقدم المصالح العليا، والحاجات الكبرى، على المصالح الخاصة.
ومنه يدرك الناظر أثر التعاون الحقيقي في بناء الوحدة وكبح شر التشرذم، ومن هنا تتجلى التراجحات بين التعاون والمنافع الذاتية. إنها قضية أساسية يجب أن تحتل مكانة أرفع لدى الدعاة والمفكرين في ميادين الدعوة.
__________
(1) سورة طه الآية 32(51/220)
كيف يتم التعاون وفي المنتسبين إلى الدعوة أنماط إذا خولفوا في الرأي انقلب الحال عندهم؛ فصاروا كالوحوش الكواسر. أي إخلاص عند هؤلاء وقد تطور الحال عندهم إلى حقد وانتقام وثأر، ومن ثم يعمدون إلى التشهير بالمخالف، ثم يرقى الحال إلى نبذ التعاون، والوقوف مع العدو انتقاما وتشفيا.
ومنه يتبين أن الإخلاص الصادق كفيل بإذهاب التحاسد والتنافس غير الشريف.
وإذا ما اجتمع المخلصون حصل لهم بفضل إخلاص وصدق استقامتهم الاستبصار بأمرهم، فهم أصحاب وجهة واحدة، غير ذات أغراض متباينة، متوجهون جميعا نحو تحقيق هدفهم الموحد، بخلاف أهل الأغراض والأهواء، فمطالبهم متباينة، والتخاذل بينهم متحقق، فهم متنافسون متنابذون، وشركاء متشاكسون.(51/221)
البعد عن التعصب والحزبية:
ليس أضر على الدعوة بعامة والتعاون بين الدعاة بخاصة من الحزبية المنغلقة والمذهبية الضيقة، بل لا يكدر صفو الأخوة الإيمانية، ولا يضعف الرابطة الإسلامية أعظم من التحزب المقيت والتعنصر البغيض.
كيف يرجى التعاون، بل كيف تبنى الروابط، والوجه الطليق والابتسامة الرقيقة والتحية الحارة حكر على الحزب والجماعة والطائفة، أما غيرهم فنصيبه العبوس والوجه الكاشح أو اللقاء البارد والابتسامة الباهتة؟! .(51/221)
كيف تمد جسور التعاون وأخطاء الأصحاب يهون من شأنها، ويغض الطرف عنها، وتدخل في دائرة الاجتهاد المأجور. أما غيرهم فيبسط اللسان في التشهير به، ويرفع الصوت في تكبير أخطائه. أخطاء الجماعة وأغلاطها يستجلب لها المسوغات، ويستغفر لأصحابها، فهي عندهم لا تخدش في أصل المنهج، ولا تعيق المسيرة. أما غيرهم فأخطاؤهم غير مسوغة ولا مبررة؟! .
بل كيف يرجى التقارب - فضلا عن التعاون - إذا كان المنتمي عندهم محصورا ومحاصرا، فلا يقرأ إلا كتب الجماعة، ولا يتتلمذ أو يتلقى إلا عن شيوخ الحزب والمذهب؟! .
إذن كيف يبنى التعاون من هذا التلميذ، ضيق الأفق، مذبذب الشخصية، لا ينظر إلا من زاوية واحدة، ولا يدور إلا في فكر منغلق.
ما الذي يدفع إلى مثل هذا؟ هل هو حب التعاون؟ أم حب التجمع واستكثار الأتباع.
إن الطريق الأصوب والهدي الأقوم بإذن الله أن يفتح الباب واسعا أمام الدعاة، وبخاصة المتبدئون منهم؛ ليجلسوا إلى العلماء، ويستفيدوا من كل ذي خبرة؛ فيتربون على الأدب وحسن السمت، يتلقون من علماء ربانيين، فقهاء عاملين، لا يقصدون إلى استكثار الأتباع، ولا منافسة ذوي الرئاسات، أو مزاحمة أصحاب الزعامات، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(51/222)
فقه الاختلاط:
من أهم أسباب تحقيق التعاون إحسان الاختلاط بالناس؛ لكسب مودتهم، وتوثيق الروابط بهم، بل إنهم مادته وميدانه.(51/222)
اختلاط يخبر به أحوال الناس، ويميز طبقاتهم، من أجل حسن التعامل معهم، ومعالجة أخطائهم، وتقدير ظروفهم، من غير تجريح أو تقريع. اختلاط ينبئ عن اهتمام بهم، ومراعاة لمشاعرهم وأحاسيسهم، أدب في الخطاب والنداء، ودعوة بأحب الأسماء، مصحوبا بتبسم وتخير للكلمات الطيبات، طلب الدعاء بظهر الغيب، حسن المنظر والهيئة، المبادرة بتقديم المعونة، الإيجابية في المشاركات، والوفاء بالالتزامات، حفظ الأسرار، التواضع والحلم والأناة، والبعد عن التكلف، وتجنب التصرفات المزرية.(51/223)
صفات المعين:
لا تختلف الصفات المطلوبة في المعين عن الصفات المطلوبة في المحتاج إلى الإعانة، من حيث الإيمان والصلاح والتقوى والإخلاص وحسن الأدب والخلق، غير أن ثمة بعض الصفات تتطلبها طبيعة الإعانة والمبادرة بها في مسالك الدعوة ومنعرجاتها. من أبرز ذلك:
1 - التصديق والموافقة:
لقد قال موسى عليه السلام في مناشدته ربه مبينا نوع الحاجة إلى أخيه: {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (1) .
أما الردء فهو المعين والوزير والظهير، وهو مقصود البحث كله.
__________
(1) سورة القصص الآية 34(51/223)
أما قوله: {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (1) فليس المقصود منه أن يقول هارون عليه السلام: هو صادق بمجرد لسانه؛ لأن ذلك يستوي فيه الفصيح وذو الفهاهة (2) ، وإنما يكون مصدقا بما عرف عن هذا الردء والمعين من العقل والرزانة وقوة الحجة والبيان، فيحصل ببيانه وقوة موقفه الخضوع والانقياد والتسليم ورد الخصوم المجادلين. فالمصدق يبسط بلسانه ويفصح ببيانه ويجادل أهل الباطل، ولهذا قال موسى عليه السلام في ذات السياق في مسوغات الترشيح: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} (3) (4) .
ويزيد المقصود وضوحا استحضار موقف الصديق أبي بكر رضي الله عنه في حادثة الإسراء، حين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يخبر قريشا بالحادثة، فكذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، ولما جاء أبو بكر رضي الله عنه وبادرته قريش بعجبها واستنكارها بادرها بالمواجهة الصارمة العاقلة الصادقة: «إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس (5) » .
يقابل موقف الصديق هذا الموقف المعاكس، حين يبتلى رجل الدعوة برفيق مكذب مخذل يسعى في تحويل المحاسن إلى
__________
(1) سورة القصص الآية 34
(2) ذو الفهاهة: العيي في الكلام، ثقيل اللسان فيه. المعجم الوسيط ج (2) ص (704) .
(3) سورة القصص الآية 34
(4) محاسن التأويل ج (8) ص (105) .
(5) القصة في الصحيحين وراجع ابن كثير ج (3) ص (24) .(51/224)
مساوئ، وصورة ذلك جلية في خبر أبي سفيان قبل أن يسلم، حين لقي قيصر، «قال أبو سفيان: فجهدت أن أحقر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصغره. والله ما منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده يأخذها علي ولا يصدقني في شيء، قال حتى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال: فقلت أيها الملك: ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب؟! قال: وما هو؟ قال: فقلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح» . . . إلخ القصة (1) .
القرابة:
استنبط بعض أهل العلم من تصريح موسى في اختيار أخيه هارون عليهما السلام أن القريب مظنة النصح، بل خص من الأهل الأخ؛ لأنه أقوى في المناصحة، والمستشار حين يجمع العقل والعلم والفصاحة وكمال الآلة، ثم يكون أخا مخلصا محل ثقة المستنصح فحينئذ تبلغ الوظيفة ذروتها وتصل الثقة نهايتها.
ونظرة أخرى لحظها بعض أهل العلم في القرابة قالوا: لأن هذا اختصاص وحظوة، والقريب أحق بالبر وأولى بالإدناء.
__________
(1) المرجع السابق.(51/225)
ثمار التعاون:
ليس الغرض هنا بسط الحديث عن آثار التعاون وثماره، فذاك أمر جلي بين، بل إنه - كما سبق - ضرورة من ضرورات الإنسان، فلا تقوم حياة الإنسان على وجهها إلا بالتعاون؛ لأن(51/225)
الإنسان بمفرده لا يستطيع القيام بشأنه كله وتحقيق مآربه جميعها، ولكننا نشير في هذه الفقرة إلى ثمار خاصة تتعلق بالدعوة وأهلها. ومن أهم ذلك:
التناوب في العمل وتقاسم الحمل:
في التعاون الصحيح يكون التفرغ الأكثر لأداء رسالة الدعوة ونشرها، وتوزيع أعباء الحياة ومشاغلها. فالمتعاونان يمكن أن يوزعا الوقت بينهما ليقوم كل واحد بالضروري في حياته، ومن ثم تتوفر الأوقات لعمل الدعوة والإصلاح.
ومن خبر التعاون هذا قصة عمر رضي الله عنه والتي أوردها البخاري رحمه الله في صحيحه وغيره، حيث قال عمر رضي الله عنه: «كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك (1) » . . . إلخ القصة في خبر هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. .
وقد بوب لذلك البخاري رحمه الله بقوله: " باب التناوب في العلم ".
قال. الحافظ في الفتح: " إن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه، ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر أنه كان
__________
(1) صحيح البخاري العلم (89) ، صحيح مسلم الطلاق (1479) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3318) ، مسند أحمد بن حنبل (1/34) .(51/226)
يتعانى التجارة إذ ذاك " (1) .
الحماية:
قد يتعرض الداعية لعوائق بل لأنواع من الأذى؛ فيتخذ من إخوانه وأعوانه ما يعينه على تخفيف الأذى ويرفع العدوان. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل يدعوهم إلى أن يمعنوه ويحموه؛ ليبلغ دعوة الله، ويبين للناس ما نزل إليهم. وكان مما يقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا وتمنعوا، حتى أبين عن الله ما بعثني (2) » .
وفي بيعة العقبة الكبرى قال عليه الصلاة والسلام: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون عنه نساءكم وأبناءكم (3) » (4) .
__________
(1) البخاري مع الفتح ج (1) ص (223، 224) . والجار هو عتبان بن مالك الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه.
(2) ابن هشام ج (2) ص (31، 32) ، البداية والنهاية لابن كثير ج (3) ص (138 - 141) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/462) .
(4) المرجع السابق.(51/227)
خاتمة:
وبعد. . فلعل في هذا البحث الموجز ما أوضح العناصر، وبين الأركان، على أن ثمة عنصرا متمما يحسن العناية به وبسطه وإيضاحه في مقام غير هذا المقام، ذلكم هو ما ينبغي من عموم(51/227)
الناس والعامة، من تأييد كل قائم لله بدينه، محتسب له في الدعوة والنصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم خذلانه وإسلامه في هذه المواقف، بل المضايق في بعض الأحيان. فهذا باب من أبواب التعاون، ولون من ألوانه، يجب العناية به وبسط القول فيه؛ لأهميته وعظم المسؤولية فيه. فإذا كان من حق المسلم على أخيه ألا يخذله ولا يسلمه، فكيف بمن ظهر فضله وامتاز عمله، ممن يحب الخير للناس ويود صلاحهم، فهذا أحق وأولى بالعناية والرعاية والتأييد والإعانة. والله ولي التوفيق.(51/228)
التوبة في منهج القرآن الكريم
د. سليمان بن صالح القرعاوي
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم كتابه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) .
__________
(1) سورة الملك الآية 1
(2) سورة الملك الآية 2(51/229)
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعث بالشريعة السمحة التي أساسها اليسر بالخلق، ورفع الحرج عنهم، وغايتها تحقيق مصالحهم والعدل بينهم، وعلى آله وصحبه الذين خلفوه في حراسة شريعته، وهداية أمته، فكانوا نورا بدد ظلمات الجهالة، فأرشدوا البشرية، وقرروا الحق للناس قاطبة.
وبعد: فإن دراسة كتاب الله تعالى والعيش في رحابه نعمة لأولي الألباب الذين يعرفون أن الدنيا دار ممر، وليست دار مقر، وأن هذا الإنسان استخلفه الله على أرضه ليتخذ من شريعته منهجا ودليلا يرشده إذا ضل، ويعلمه إذا جهل، ويأخذ بيده في مزالق الطرق، ومتاهات الفيافي والقفار.
ولكن الإنسان عرضة لوسوسة الشيطان، ومجالا لرمي سهامه، مصداقا لقوله الذي قصه رب العزة: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (2) {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (3) {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (4) فإذا استجاب الإنسان لهذه الغواية، واتبع سبيل الضلال ألقى به الشيطان في بحر تتلاطم أمواجه، والظلام يحيط به من كل جانب عندها يحس بالندم، ويأخذ الهم بمجامع قلبه فيتخبط
__________
(1) سورة الحجر الآية 39
(2) سورة الحجر الآية 40
(3) سورة الحجر الآية 41
(4) سورة الحجر الآية 42(51/230)
يمنة ويسرة، ويأخذ في الإقدام والإحجام، ويقرر الفرار إلى ربه والهجرة إلى مولاه، لقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (1) فيضيء قلبه، وتهدأ نفسه ويتذكر قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (2) فيسهل الله له طريق التوبة، يرشده إليها، عندها يسلك طريق الصلاح والخير فيعود إلى ربه نادما، ويتقدم إليه تائبا، ويتحقق فيه وفي غيره من التائبين قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (3) ولكن متى تكون التوبة صادقة؟ ومتى يتقبل الله توبة العبد؟ إن الله تعالى يقول في محكم كتابه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (4) .
فهل تكون التوبة صادقة، وصاحبها لم يزل في اتباع الهوى؟ هل تكون التوبة صادقة، وحالة العبد متأرجحة بين الضلال والهدى، ونفسيته تواقة إلى الإيمان، ومشتاقة إلى فعل المنكرات؟ كما ذكر الله عن ذلك بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (5) هل تكون التوبة صادقة ونصوحة، وقد ولى شبابه، وذهبت أيامه وضاعت قوته، وأصبح شيخا فانيا، لا حول له ولا طول، وليست عنده رغبة يرغبها أو شهوة يريدها؟
إن التوبة تكون صادقة كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (6)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 50
(2) سورة الزمر الآية 53
(3) سورة التوبة الآية 118
(4) سورة المائدة الآية 27
(5) سورة النساء الآية 143
(6) سورة النساء الآية 17(51/231)
وإذا كان الأمر كذلك فمتى يتقبل الله توبة عبده؟ وما الدليل على قبولها؟ وما الشروط التي يجب أن يلزم العبد بها نفسه حتى يكون من هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (1) .
إن هذا البحث (التوبة في منهج القرآن الكريم) يعد باكورة لعمل متواصل-بمشيئة الله- وثمرة صادقة لمعايشتي كتاب الله تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولقد كتب على هذا النمط ليلائم طبيعة العصر؛ عصر الأزرار الفاتكة، والتقنية الباهرة، وكل ما يدعو إلى الدهشة، ويصيب الرؤوس بالدوار، وهدفه في النهاية عودة هؤلاء الشاردين الذين احتضنتهم مدنية الغرب بزيفها المغري، وبريقها الخادع، والرجوع بهم مرة أخرى إلى رحاب الله تعالى حيث صفاء الإيمان، ومرتبة الإحسان.
وعناصر هذا البحث لا تخرج عن هذا النطاق وهي:
1 - التوبة واقترانها بالإيمان.
2 - التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة.
3 - التوبة والعمل الصالح.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون بداية خير وقنطرة إلى التوبة
__________
(1) سورة الشورى الآية 25(51/232)
النصوح، عندها يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(51/233)
التوبة عند علماء اللغة:
يقال: تاب إلى الله توبا، ومتابا، وتابة: رجع عن المعصية، وهو تائب، وتاب الله عليه؛ وهو تواب على عباده، واستتابه: سأله أن يتوب (1) .
وقال ابن منظور:
التوبة: الرجوع عن الذنب، وتاب إلى الله يتوب توبا، وتوبة ومتابا: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وتاب الله عليه: وفقه لها، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده (2) وفي الحديث: «الندم توبة (3) » ويكاد يكون المعنى الذي تناوله علماء اللغة عن التوبة متقاربا لفظا ومعنى، فهي الرجوع والإنابة إلى الله تعالى.
التوبة في الاصطلاح:
قال ابن قدامة: " إن التوبة عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين
__________
(1) راجع بصائر ذوي التمييز، 2 \ 304
(2) راجع لسان العرب، مادة (توب)
(3) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، 1 \ 423. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 6678(51/233)
الإنسان وبين محبوبه " (1) . وما يقوله ابن قدامة يتفق مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «الندم توبة (2) » هذا الندم يتولد عنه العزم للإقلاع عن المعصية.
ويقول ابن عاشور في تفسيره:
" لما كانت التوبة رجوعا من التائب إلى الطاعة، ونبذا للعصيان، وكان قبولها رجوعا من المتوب إليه إلى الرضى، وحسن المعاملة، وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب، فقالوا: تاب فلان لفلان فتاب عليه؛ لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضي، فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به، وكان أصله مبنيا على المشاكلة ".
ويرى ابن عاشور: أن التوبة تتركب من علم، وحال، وعمل، فالعلم: هو معرفة الذنب، والحال: هو تألم النفس من ذلك الضرر، ويسمى ندما، والعمل: هو الترك للإثم، وتدارك ما يمكن تداركه، وهو المقصود من التوبة، وأما الندم فهو الباعث على العمل، كما جاء في الحديث «الندم توبة (3) » .
فإذا أردنا أن نتعرف على ما يقوله صاحب التعريفات بشأن التوبة نراه يقسمها إلى قسمين: التوبة فقط، والتوبة النصوح.
ويعرف الأولى: بالرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب
__________
(1) المغني لابن قدامة، 14 \ 192
(2) سنن ابن ماجه الزهد (4252) ، مسند أحمد بن حنبل (1/376) .
(3) راجع تفسير ابن عاشور، 1 \ 438(51/234)
ثم القيام بكل حقوق الرب (1) .
أما عن التوبة النصوح، فيرى أنها: توثيق العزم على ألا يعود لمثله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإصرار على أن لا يعود.
وقيل: التوبة في اللغة: الرجوع عن الذنب، وكذلك التوب، قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (2) .
وقيل: التوب: جمع توبة، والتوبة في الشرع: الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة، وهي واجبة على الفور عند عامة العلماء، أما الوجوب فلقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
وأما الفورية، فلما في تأخيرها من الإصرار المحرم، والإنابة: قريبة من التوبة لغة وشرعا.
وقيل: التوبة النصوح: أن لا يبقى على عمله أثرا من المعصية سرا وجهرا.
وقيل: هي التي تورث صاحبها الفلاح عاجلا وآجلا.
وقيل: التوبة: الاعتراف والندم والإقلاع (4) .
__________
(1) التعريفات للجرجاني، ص 83
(2) سورة غافر الآية 3
(3) سورة النور الآية 31
(4) المرجع السابق(51/235)
ولا شك أن صاحب التعريفات قد أضاف إلى ما ذكره العلماء من تعريفات التوبة: الوجوب، والفورية، ولقد جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تدل على وجوب التوبة، من ذلك: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} (1) ، وقوله أيضا: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (2) . وأما عن الفورية فقوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (3) .
قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت، وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب.
ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
قدم لنفسك توبة مرجوة ... قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق (4) النفوس فإنها ... ذخر وغنم للمنيب المحسن
وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (5) » . ومعنى ما لم يغرغر: ما لم
__________
(1) سورة هود الآية 3
(2) سورة هود الآية 52
(3) سورة النساء الآية 17
(4) يقال: غلق الرهن إذا لم يقدر على افتكاكه. يريد: بادر بالتوبة قبل ضياع الفرصة
(5) الحديث أخرجه الترمذي في الدعوات 98، وابن ماجه في الزهد 30، وصاحب الموطأ في الحدود 2، وأحمد بن حنبل في المسند، 2 \ 192، 425(51/236)
تبلغ روحه حلقومه.
وإذا كان الأمر كذلك فيطيب لي أن أعرض معاني التوبة التي جاءت في كتاب الله تعالى عن طريق الإيجاز غير المخل، أو التطويل غير الممل، وبالله التوفيق.(51/237)
معاني التوبة في القرآن الكريم:
يرى صاحب البصائر أن التوبة جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى التجاوز والعفو، وهذا مقيد بـ (على) (1) قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} (3) إلى {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (4) . قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته، وأداة مشيئته، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة، وينصركم عليهم، ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون، يشفها بهزيمة الباطل، وتشريد المبطلين.
__________
(1) بصائر ذوي التمييز، 2 \ 308
(2) سورة البقرة الآية 54
(3) سورة التوبة الآية 14
(4) سورة التوبة الآية 15(51/237)
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان، ويفتح بصيرتهم على الهدى، حين يرون المسلمين ينصرون، ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم، وهذا ما كان فعلا، وعندئذ يناله المسلمون المجاهدون أجر جهادهم، وأجر هداية الضالين، وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين (1) .
الثاني: بمعنى الرجوع، والإنابة، وهذا مقيد بـ (إلى) قال الله تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) .
قال ابن عباس: تبت إليك: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه، وذلك شأن الرجل المؤمن صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه، والذي عاد ورجع إليه تائبا مستغفرا، وأما شأن ربه معه فقد ذكره القرآن الكريم بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (4) .
وفي الآية الأخرى: تذكر التوبة النصوحة، وهي التوبة عن
__________
(1) راجع في ظلال القرآن لسيد قطب، 4 \ 157
(2) سورة الأحقاف الآية 15
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة الأحقاف الآية 16(51/238)
الذنب والمعصية، تبدأ بالندم على ما كان، وتنتهي بالعمل الصالح والطاعة، فهي من هذا المنطلق تنصح القلب فتخلصه من رواسب المعاصي، وتدفعه إلى العمل الصالح، ثم تظل تذكر القلب فلا يعود إلى الذنوب، ولا يفكر في المعصية، ولا يقترب منها، ولا يكون للشيطان عليه من سلطان، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (1) .
الثالث: بمعنى الندامة على الزلة، وهذا غير مقيد لا بـ (إلى) ولا بـ (على) قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة -نافذة التوبة- يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور فلا تيأس من رحمة الله، وكيف يحدث هذا والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) . وكيف يخالجها قنوط والله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (4) السيئات جميعها جليلها وحقيرها، عظيمها وكبيرها، وكيف لا يكون كذلك والله قد أعلن في كتابه عن ذلك بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (5)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 65
(2) سورة البقرة الآية 160
(3) سورة الزمر الآية 53
(4) سورة الشورى الآية 25
(5) سورة الأنعام الآية 54(51/239)
فهذا إخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي (1) » . وإذا كان الأمر كذلك وأن الله تعالى قد فرض التوبة على عباده وأوجبها عليهم قبل أن يظلهم الموت، أو أن تنزل عليهم آثاره، فما هي شروط التوبة؟
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في التوحيد 55، وبدء الخلق 1، ومسلم في التوبة 14، 16، وابن ماجه في الزهد 35، وأحمد بن حنبل 2 \ 242، 258، 260(51/240)
الشروط الواجب توافرها للتوبة:
اتفق العلماء على أن الذنب الذي يريد أن يقلع عنه العبد ويتوب منه هو ما بينه وبين ربه، فيشترط لذلك شروط ثلاثة:
الأول: الندم على ما سلف منه في الماضي.
والندم والندامة التحسر قال تعالى: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} (2) .
يندم هؤلاء عندما يجيء أمر الله، يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض على المسارعة والاجتهاد فيما يغضب الله تعالى، وعلى النفاق الذي انكشف أمره، عندئذ يندمون، ولا ينفعهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 52
(2) سورة سبأ الآية 33(51/240)
الندم، ولا ينجيهم من هذا الهول إلا العودة إلى الله تعالى، تائبين آيبين مقرين بذنوبهم.
الثاني: الرجوع والإقلاع عنه في الحال.
يقال: رجعت عن كذا رجعا، ورجعت الجواب، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} (1) . وقد جاء الرجوع بمعنى محاسبة النفس والرجوع إليها، قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ، وبمعنى التوبة، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات، تارة بالنعماء، وتارة بالبأساء، لعلهم يرجعون إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم ويستقيمون على طريقهم.
أما عن الإقلاع في الحال على طريق الفورية، فهذا كان نهج المسلمين الأول، يتلقون الأوامر عن طريق الوحي المتتابع فتعيه قلوبهم، وتنفذه جوارحهم، من ذلك عندما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) .
يقول أنس بن مالك: كنا نشرب الخمر وبعضنا شربته في
__________
(1) سورة التوبة الآية 83
(2) سورة الأنبياء الآية 64
(3) سورة الأعراف الآية 168
(4) سورة المائدة الآية 90(51/241)
يده، والبعض الآخر رفعها إلى فمه، فسمعنا منادي الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حرمت، فكسرنا الدنان وأريقت الخمر، حتى جرت في سكك المدينة، وتوضأ بعضنا، واغتسل البعض الآخر، وذهبنا إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نردد " انتهينا انتهينا " (1) .
إجابة فورية، وإقلاع عما كانوا عليه من الحلال عندما تحول إلى حرام.
الثالث: العزم على ألا يعاوده في المستقبل.
والعزم والعزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر، يقال عزمت الأمر وعزمت عليه واعتزمت، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (2) ، وقال أيضا: {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) ، وقال أيضا: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (4) أي: محافظة على ما أمر به، وعزيمة على القيام بالتكاليف، ويرى النقاش: أن العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين، وقال ابن عطية: وهذا خطأ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، والعزم قصد الإمضاء، والعرب تقول: " قد أحزم لو أعزم "، يقول: أعرف وجه الحزم، فإن عزمت فأمضيت الرأي فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني الحزم.
__________
(1) راجع تفسير القرطبي، 6 \ 292
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة آل عمران الآية 186
(4) سورة طه الآية 115(51/242)
هذه هي الشروط الثلاثة للتوبة، إذا كان الذنب والمعصية التي يريد التوبة منها بينه وبين ربه، أما إذا كانت المعصية تتعلق بحقوق العباد فقد أضاف العلماء شرطا آخر وهو:
الرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو عقارا رده لصاحبه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فرق الأرز فليكن مثله قالوا: ومن صاحب فرق الأرز يا رسول الله؟
فذكر حديث الغار حين سقط عليهم الجبل، فقال كل واحد منهم، اذكروا أحسن عملكم، قالا، وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق أرز، فلما أمسيت عرضت عليه حقه فأبى أن يأخذه وذهب، فثمرته له حتى جمعت له بقرا ورعاءها، فلقيني فقال: أعطني حقي؟ فقلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فذهب فاستاقها (1) » .
إن حقوق الآخرين، لا تسقط بأي حال من الأحوال إلا إذا تنازل عنها صاحبها، وهناك أحاديث كثيرة، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة (2) » ، ويوم
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في البيوع، ومسلم في كتاب الذكر حديث 2743 باب قصة أصحاب الغار، وأبو داود في كتاب البيوع حديث 3387
(2) الحديث أخرجه الترمذي في الديات 21، والبخاري في بدء الخلق (2) ومسلم في كتاب المساقاة 137، 139، وأحمد بن حنبل في المسند 1 \ 187، 190، 2 \ 387، 432(51/243)
القيامة: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (1) السرائر المكنونة المطوية على الأسرار المحجوبة، بأن هذا ضرب هذا وهتك عرض ذاك، وتقول ثالث، وقذف رابعا، وعندها هو متجرد من كل قوة، ومن كل ناصر {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} (2) فإذا رغب في التوبة لينجو من هول هذا اليوم فعليه أن يبرأ من حقوق الآخرين، فإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كان غيبة استحله منها، وإلا فلا توبة له، ويوم القيامة يرى حقوق الآخرين قد سبقته إلى يوم الحشر العظيم تأخذ بتلابيبه، كما قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (3) .
وإذا كان الأمر كذلك فيطيب لي أن أعرض أمام القارئ أقوال العلماء واستنباطات المفكرين الإسلاميين عن المعاني الآتية في منهج القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة وهي:
1 - التوبة واقترانها بالإيمان.
2 - التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة.
3 - التوبة واقترانها بالعمل الصالح.
هذا وعلى الله قصد السبيل ومنه التوفيق والسداد.
__________
(1) سورة الطارق الآية 9
(2) سورة الطارق الآية 10
(3) سورة الكهف الآية 49(51/244)
التوبة واقترانها بالإيمان:
سبق وأن تناولنا مفهوم التوبة عند علماء اللغة، وعند علماء(51/244)
الاصطلاح، وجلينا حقيقتها بما يسره الله لنا من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ونرى قبل البدء في طرح التوبة واقترانها بالإيمان، أن نضع أمام القارئ نبذة مختصرة عن الإيمان من خلال آيات القرآن الكريم، جاء الإيمان بمعنى التوحيد في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . قال القرطبي: أي: بما أنزل على محمد، وقال أبو الهيثم: ومن يكفر بالإيمان أي: يجحده، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله، قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان (2) .
وجاء الإيمان بمعنى التصديق في السر والإعلان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (3) أي الذين صدقوا بما جاءت به الرسل، وما نزل به الوحي، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، من أكرم الخلق على الله؟ قال: «يا عائشة أما تقرئين: (5) »
وجاء الإيمان بمعنى الصلاة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (6) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) راجع تفسير القرطبي، 6 \ 79
(3) سورة البينة الآية 7
(4) راجع فتح القدير، 5 \ 477
(5) سورة البينة الآية 7 (4) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
(6) سورة البقرة الآية 143(51/245)
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى المقدس؟
فأنزل الله تعالى: (2) » قال: هذا حديث صحيح فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل.
وقال أبو القاسم: الإيمان يستعمل تارة اسما للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} (3) ، ويوصف به كل من دخل في شريعته مقرا بالله وبنبوته، وتارة يستعمل على سبيل المدح ويراد به إذعان النفس للحق على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء:
تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح، ويقال لكل واحد من الاعتقاد والقول: الصدق، والعمل الصالح: إيمان (4) .
وبعد هذه الكلمة عن الإيمان يطيب لي أن استعرض أقوال العلماء في اقتران الإيمان بالتوبة، والله الهادي إلى سواء السبيل، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن 5 \ 208 ح 2964
(2) سورة البقرة الآية 143 (1) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
(3) سورة البقرة الآية 62
(4) راجع بصائر ذوي التمييز، 2 \ 150
(5) سورة الأعراف الآية 153(51/246)
قال ابن عطية: " تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عز وجل يغفر للتائبين، والإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل، وفي الآية ترتيب الإيمان بعد التوبة، والمعنى في ذلك أنه أراد بقوله: وآمنوا أن التوبة نافعة لهم منجية فتمسكوا بها، فهذا إيمان خاص بعد الإيمان على الإطلاق، ويحتمل أن يريد بقوله: وآمنوا أي: وعملوا عمل المؤمنين حتى وافوا على ذلك، ويحتمل أن يريد التأكيد فذكر التوبة والإيمان إذ هما متلازمان، إلا أن التوبة -على هذا- تكون من كفر ولا بد، فيجيء تابوا، وآمنوا بمعنى واحد، وهذا لا يترتب في توبة المعاصي، فإن الإيمان متقدم لتلك ولا بد، وهو وتوبة الكفر متلازمان، وقوله: إن ربك إيجاب ووعد مرج، قال: ويحتمل قوله تابوا، وآمنوا أن يكون لم تقصد رتبة الفعلين على عرف الواو في أنها لا توجب رتبة، ويكون وآمنوا بمعنى وهم مؤمنون قبل وبعد " (1) .
إن ما قاله المفسر الكبير ابن عطية من أن هذه الآية إشارة إلى من تاب من بني إسرائيل، ونحن نعلم أن بني إسرائيل قد آمنوا بموسى، وخرجوا مع نبيهم فارين من فرعون وجبروته، فارين إلى الله تعالى، كما قال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (2) .
وعندما تركهم موسى رجعوا عن إيمانهم باتخاذهم العجل
__________
(1) راجع المحرر الوجيز، 6 \ 91
(2) سورة الذاريات الآية 50(51/247)
إلها، قال تعالى في الآية السابقة على هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (1) .
ثم ماذا؟ ثم تابوا عن فعلتهم الشنيعة، عندها استقر الإيمان مرة أخرى في قلوبهم، فالآية على هذا التخريج لا تحتاج إلى هذه الاحتمالات الكثيرة التي ذكرها هذا المفسر الكبير.
ويؤكد الذي ذهبت إليه ما ذكره القرطبي عند حديثه عن هذه الآية بقوله: " ثم أخبر الله تعالى: أنه يقبل توبة التائب من الشرك وغيره {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} (2) أي: الكفر والمعاصي {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} (3) أي: من بعد فعلها {وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} (4) أي:
من بعد التوبة {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) . فإذا تركنا الإمام القرطبي، واتجهنا إلى صاحب زاد المسير لنرى ما ارتآه عند تفسيره لهذه الآية، نجده يقول: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} (6) فيها قولان:
أحدهما: أنها الشرك.
والثاني: الشرك وغيره من الذنوب. {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} (7) يعني السيئات، وفي قوله: وآمنوا قولان:
أحدهما: آمنوا بالله، وهو يخرج على قول من قال:
السيئات هي الشرك.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 152
(2) سورة الأعراف الآية 153
(3) سورة الأعراف الآية 153
(4) سورة الأعراف الآية 153
(5) سورة الأعراف الآية 153
(6) سورة الأعراف الآية 153
(7) سورة الأعراف الآية 153(51/248)
والثاني: آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة (1) .
فإذا اتجهنا إلى مفسر قريب العهد بابن الجوزي، وهو الإمام القرطبي، نراه يفرع هذه المسألة، ويستعرض أقوال العلماء والفرق الذين أدلوا بدلوهم في اقتران التوبة بالإيمان، فنراه يقول عند حديثه عن قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3) . "هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا، وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) .
وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية، هذا مذهب أهل السنة.
وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن لم يشأ لم يقبلها، وليس قبوله التوبة واجبا على الله من طريق العقل
__________
(1) راجع زاد المسير، 3 \ 266
(2) سورة النساء الآية 17
(3) سورة النساء الآية 18
(4) سورة النور الآية 31(51/249)
كما قال المخالف؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم والمكلف لهم؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى الله عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه -وهو الصادق في وعده- بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (1) . وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (2) . وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) .
فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه، يقتضي وجوب هذه الأشياء، والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة.
قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا، تامة الشروط،
__________
(1) سورة الشورى الآية 25
(2) سورة التوبة الآية 104
(3) سورة طه الآية 82(51/250)
فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه جل وعز، قال ابن عطية: وكان أبي -رحمه الله- يميل إلى هذا القول، ويرجحه، وبه أقول، والله أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (1) .
وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) .
وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله: (على الله) حذفا، وليس على ظاهره، وإنما المعنى: على فضل الله ورحمته بعباده، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتدري ما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يدخلهم الجنة (3) » .
فهذا كله معناه على فضله ورحمته بوعده الحق، وقوله الصدق، دليله قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (4) أي: وعد بها، أي أنه وعد، ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها. . " (5) . هذا ما قاله القرطبي عن التوبة واقترانها بحقيقة الإيمان، ثم تناول شروط التوبة -التي
__________
(1) سورة الشورى الآية 25
(2) سورة طه الآية 82
(3) هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في اللباس 101 والتوحيد 1، ومسلم في الإيمان 48، 49، والترمذي في الإيمان 18، وابن ماجه في الزهد 35 باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة
(4) سورة الأنعام الآية 12
(5) راجع تفسير القرطبي 5 \ 90 وما بعدها بتصرف(51/251)
سبق الحديث عنها- ومضيفا لها أن يكون الإقلاع عن الذنب أو الجرم حياء من الله تعالى، وخوفا من عقابه، لا لشيء آخر، كالعجز أو عدم الرغبة، أو قلة الحيلة التي يمكن أن تحقق له أهدافه في المعصية أو الجريمة التي تتوق نفسه لارتكابها.
ويطيب لي أن أختم موضوع اقتران التوبة بالإيمان بما قرره أحد العلماء المعاصرين، وهو العالم الجليل ابن عاشور -رحمه الله- صاحب التفسير المشهور، ولا شك أنه أضاف جديدا إلى ما توصل إليه السابقون من علماء الإسلام الأجلاء، فهو يقول: " اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل.
والمراد بالسيئات: ما يشمل الكفر، وهو أعظم السيئات، والتوبة منه وهي الإيمان، وعطف الإيمان على التوبة، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر، إما للاهتمام به لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (1) {فَكُّ رَقَبَةٍ} (2) {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (3) {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (4) {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (5) {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (6) .
ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة، وإما أن يراد بالإيمان، إيمان خالص فيشمل عمل الواجبات " (7) .
__________
(1) سورة البلد الآية 12
(2) سورة البلد الآية 13
(3) سورة البلد الآية 14
(4) سورة البلد الآية 15
(5) سورة البلد الآية 16
(6) سورة البلد الآية 17
(7) راجع تفسير ابن عاشور، 9 \ 120(51/252)
هذا ما قاله العلماء، وما أضافه ابن عاشور عن اقتران التوبة بالإيمان.
ولا شك أن الجميع من خلق الله تعالى، وهم تحت مشيئته وإرادته، لا يملكون التوبة إلا أن يتوب الله عليهم؛ مصداقا لقوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (1) ، أي قبل مشيئته لا يملكون التوبة، ولا يقدرون عليها، والرأي الذي نرتضيه نتيجة لما سبق أن توبة التائب بشروطها مقبولة؛ مصداقا لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (2) ، وإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نجلي أقوال العلماء وردودهم في التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة، وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) سورة التوبة الآية 118
(2) سورة الشورى الآية 25(51/253)
التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة:
قبل أن نتناول هذا الموضوع بالتبيين والتوضيح، وعرض أقوال العلماء ومفكري الإسلام بشأنه، نرى أن نقدم بين يدي هذا البحث نبذة مختصرة عن مفهوم الصلاة والزكاة في منهج الإسلام.
إن الصلاة من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختلفت صورها بين شرع وآخر، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) .
وقال بعضهم: أصل الصلاة من الصلى، ومعنى صلى الرجل
__________
(1) سورة النساء الآية 103(51/253)
أزال عن نفسه بهذه العبادات الصلى الذي هو نار الله الموقدة.
والصلاة: هي الصلة بين العبد وربه، والرابطة التي تربط الأرض بالسماء، ومعراج المؤمنين إلى ربهم، والمطية السريعة التي تنقلنا إلى رحاب الله سبحانه وتعالى، عندها يزول البعد، وتنمحي المسافات؛ مصداقا لقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1) .
والصلاة رحمة مهداة من الله إلى عباده، ومن الملائكة الأبرار إلى العباد المخلصين.
يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (2) .
والصلاة هنا رحمة، لأنها تخرج المؤمنين من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، ومن العماية إلى الهدى، ومن الطرق المتشعبة إلى الطريق الواحد المستقيم.
وصلاة الملائكة رحمة واستغفار، قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (3) .
وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته رحمة ودعاء، قال الله تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (4) .
__________
(1) سورة العلق الآية 19
(2) سورة الأحزاب الآية 43
(3) سورة غافر الآية 7
(4) سورة التوبة الآية 103(51/254)
هذه هي الصلاة في منهج الإسلام فماذا عن الزكاة؟
الزكاة: النمو الحاصل عن بركة الله تعالى، ومنه الزكاة لما يخرجه الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء، وتسميته بذلك لما يكون فيه من رجاء البركة، أو لتزكية النفس أي تنميتها بالخيرات والبركات، وبزكاة النفس وطهارتها يصير الإنسان مستحقا في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والثواب، والتطهير ينسب تارة إلى العبد لاكتسابه ذلك، نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (1) ، وتارة إلى الله تعالى لكونه فاعلا لذلك في الحقيقة، نحو: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (2) ، وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) .
أما اقترانها بالتوبة فذلك لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (4) .
يقول الماوردي عند تفسيره لهذه الآية: " أي: أسلموا؛
__________
(1) سورة الشمس الآية 9
(2) سورة النساء الآية 49
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة التوبة الآية 5(51/255)
لأن التوبة من الكفر تكون بالإسلام.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} (1) فيها وجهان:
أحدهما: أي: اعترفوا بإقامتها، وهو مقتضى قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يقتل تارك الصلاة إذا اعترف بها.
الثاني: أنه أراد فعل الصلاة، وهو مقتضى قول مالك والشافعي؛ لأنهما يقتلان تارك الصلاة، وإن اعترف بها.
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (2) يعني: اعترفوا بها على الوجهين معا؛ لأن تارك الزكاة لا يقتل مع الاعتراف بها، وتؤخذ من ماله جبرا، وهذا إجماع " (3) .
هذا ما قاله الماوردي، ولا شك أن وظيفته كقاض يمحص الأحكام، ويقوم معوجها عن طريق الأدلة والبراهين، كان لها أعمق الأثر فيما خطه قلمه، سواء في مجال السياسة وإقامة الدولة، أو في تفسيره لآيات الكتاب العزيز.
أما الإمام القرطبي فيقول: " هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا} (4) والأصل: أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) راجع تفسير الماوردي، 2 \ 120
(4) سورة التوبة الآية 5(51/256)
والزكاة، وهذا بين في هذا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما، نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1) » .
قال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطردا، ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنة متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر؛ لأنه يصير رادا على الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به وأخبر عنه.
وقال أيضا: هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت، أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة؛ لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة " (2) .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في الإيمان 17، 28، والصلاة 28، والزكاة 1، ومسلم في كتاب الإيمان 32، 36، وأبو داود في الجهاد 95، والترمذي في التفسير سورة 88، وابن ماجه في الفتن 1
(2) راجع تفسير القرطبي، 8 \ 74(51/257)
ونرى أن القرطبي في كلمته هذه فرق بين القتل وبين قبول التوبة، فإذا تاب رفع عنه القتل، ولكن تحقيق التوبة ودخوله في زمرة المؤمنين لا يكون إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أي أن يحقق القول الفعل، وإذا كانت هذه تصورات السابقين من رجالات التفسير، فيطيب لنا أن نتعرف على أقوال بعض المعاصرين بالنسبة للآية التي معنا.
يقول سيد قطب:
" لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان، ومن إيذائهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم، ثم من سماحة هذا الدين ورسوله وأهله معهم، وإنه لتاريخ طويل، ومع هذا كله فقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه؛ فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا. . كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله تعالى، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين، واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه، وذلك أن الله لا يرد تائبا مهما تكن خطاياه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
ثم يقول: [ما جاء في الآية، هو نص كان يواجه واقعا في مشركي الجزيرة يومذاك، فما كان أحدهم ليعلن توبته، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله، ويعني استسلامه له ودخوله فيه، فنصت الآية على التوبة، وإقامة الصلاة، وإيتاء
__________
(1) سورة التوبة الآية 99(51/258)
الزكاة؛ لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام، وارتضاه بكامل شروطه، وكامل معناه، وفي أولها الدينونة لله وحده، وشهادة أن لا إله إلا الله والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته " (1) .
ومع تقديرنا واحترامنا لصاحب الظلال، فنرى أن الآية قد تضمنت حكما فقهيا، وهو عدم القتل وعصمة أموالهم، وذلك من منطلق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم (2) » . . . إلخ.
فهذا الحديث أمر من الله تعالى بمقاتلتهم وسفك دمائهم وغنيمة أموالهم، ثم جاءت الآية، وكأنها تقول للرسول صلى الله عليه وسلم: كف عن قتلهم وأخذ أموالهم، بقوله تعالى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) وهل التخلية إلا الكف والمنع؟ فكيف لا تكون الآية متضمنة حكما فقهيا، وإذا كانت هذه الآية قد تضمنت "التخلية" لينطلقوا إلى حال سبيلهم، فإن الآية التي جاءت بعدها في نفس السورة قد أوجبت على المسلمين مؤاخاتهم في الدين ومراعاتهم في شئون الحياة، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (4)
__________
(1) راجع في ظلال القرآن لسيد قطب، 3 \ 1601، 1602
(2) سبق تخريج هذا الحديث قريبا من هذا
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) سورة التوبة الآية 11(51/259)
الآية الثانية:
قال الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) .
قال ابن الجوزي في تفسيره: أي: فتجاوز عنكم وخفف بنسخ إيجاب الصدقة، وقال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك- أي النسخ- لعشر ليال، وقال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار (2) .
فابن الجوزي يرى أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} (3) قد نسخت بقوله تعالى: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (4)
فإذا أردنا أن نتعرف على رأي ابن عطية في تفسيره لهذه الآية، فنراه ينفي قضية النسخ، ونص كلامه في ذلك: " ومن قال: إن هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة فقوله ضعيف لا يحصل كيفية النسخ، وما ذكر في نحو هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- لا يصح عنه، والله تعالى أعلم " (5) .
وقضية النسخ التي قال بها ابن الجوزي واستبعدها ابن عطية، لم تجد حلا لها عند المفسر المعاصر ابن عاشور، فنراه
__________
(1) سورة المجادلة الآية 13
(2) راجع زاد المسير، 8 \ 195
(3) سورة المجادلة الآية 12
(4) سورة المجادلة الآية 13
(5) تفسير ابن عطية، 14 \ 355(51/260)
يقول: " المشهور عند جمع من سلف المفسرين، أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها، وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك، فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة.
وقد قيل: لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولعل غيره لم يحتج إلى نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم واقتصد مما كان يناجيه " ثم يتابع حديثه قائلا: " قال المفسرون: على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما واستبعده ابن عطية " (1) .
إن ابن عاشور -رحمه الله- لم يضف جديدا إلى ما قاله ابن الجوزي، وما اعترض به ابن عطية، الأمر الذي يقتضينا أن نتعرف على رأي صاحب الظلال لعلنا نجد عنده إضافة جديدة في تفسير هذه الآية، قال صاحب الظلال: وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة، والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة، فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير. . . ثم يقول: كذلك يعلمهم القرآن أدبا آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فيبدو أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه كل فرد في شأن يخصه، ويأخذ فيه توجيهه ورأيه أو ليستمتع بالانفراد به مع عدم
__________
(1) راجع تفسير ابن عاشور، 28 \ 46(51/261)
التقدير لمهام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعية وعدم الشعور بقيمة وقته، وبجدية الخلوة به، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال، فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة. . . ولكن الأمر شق على المسلمين، وعلم الله ذلك منهم، وكان الأمر قد أدى غايته، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها، فخفف الله عنهم، ونزلت الآية التالية برفع هذا التكليف، وتوجيههم إلى العبادات والطاعات المصلحة للقلوب (1) .
إن صاحب الظلال قد وضع يده على الأهداف السامية التي أرادها الله سبحانه وتعالى من الجماعة الإسلامية، وهو إحساسهم بقيمة الوقت بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الوقت يجب أن يكون خالصا لجماعة المسلمين بعامة، إلا إذا كانت هناك ضرورة ملحة لبعض الأفراد بالانفراد بالرسول صلى الله عليه وسلم شريطة ألا يطغى ذلك على مصلحة الجماعة. ولقد استجاب المسلمون لهذه التربية العالية التي أمرهم بها ربهم جل وعلا، وإذا كان الأمر كذلك فيطيب لنا أن نتناول بالعرض والإبانة الموضوع الثالث: وهو اقتران التوبة بالعمل الصالح، والله الهادي والموفق إلى ما يحب ويرضى.
__________
(1) راجع في ظلال القرآن، 8 \ 21 بتصرف(51/262)
التوبة والعمل الصالح:
خلق الله تعالى الإنسان، وزوده بقوى وطاقات لا حصر(51/262)
لها، وما زال العلم يكشف عنها يوما بعد يوم، مما يجعل العقول تصاب بالدهشة والانبهار.
والإسلام يعمل دائما على توجيه هذه الطاقات توجيها حسنا في طريق العمل والإنتاج، على أساس من شرائعه ومبادئه، والعمل في منهج الإسلام، هو العمل المقبول عند الله تعالى، لأنه يسير حسب شرائعه ووحيه، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (1) ، وقال أيضا: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) .
يجزيهم الله أحسن ما عملوا؛ لأنهم لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة، وأداء حق العباد في الزكاة {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (3) .
تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب، وهم يخافون ذلك اليوم؛ فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (4) والعمل في منهج الإسلام دعامة الحياة، ووسيلة لتحقيق دور الخلافة في الأرض، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 16
(2) سورة النور الآية 38
(3) سورة النور الآية 37
(4) سورة النور الآية 38
(5) سورة التوبة الآية 105(51/263)
إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف، ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة، وللنية الطيبة مكانها، ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء، إنما تحسب مع العمل، فتحدد قيمة العمل، وهذا معنى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات (1) » الأعمال. . لا مجرد النيات.
ولهذا لما «سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (2) » .
وعن أنس رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام -إعياء- وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله (3) » .
بل إن الإسلام عد الإقبال على العمل والتشمير عن ساعد الجد فيه ضربا من الجهاد في سبيل الله، «مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 1 \ 2 كتاب بدء الوحي، ومسلم في صحيحه 2 \ 1515 كتاب الإمارة، باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم
(2) رواه أحمد في مسنده 4 \ 141 عن رافع بن خديج
(3) الحديث أخرجه مسلم في الصيام 97، وأبو داود في الصوم 42، والترمذي في الصوم 19، والنسائي في الصيام 52، 59، وأحمد بن حنبل في المسند 3 \ 87، 12، 6 \ 402 / 59(51/264)
فرأى أصحاب الرسول من جلده ونشاطه في الاكتساب والارتزاق ما حملهم على الكلام فيه، قالوا: يا رسول الله لو كان في سبيل الله هذا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفخرة فهو في سبيل الشيطان (1) » .
ومن هنا جاءت التوبة مرتبطة بالعمل الصالح في كثير من آيات القرآن الكريم؛ من ذلك قوله الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
فإذا أردنا أن نتعرف على أقوال المفسرين في هذه الآية، نرى الإمام الطبري يستهل حديثه عن هذه الآية بقوله: " إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه، وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله من صالح الأعمال بما يرضيه عنه، وبين الذي علم من وحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه، وعهد إليهم
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في الزكاة 38، والترمذي في البر 42، وأحمد بن حنبل في المسند 5 \ 284
(2) سورة البقرة الآية 160(51/265)
في كتبه فلم يكتمه، وأظهره فلم يخفه فأولئك يعني هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم، وهم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي والإنابة إلى مرضاتي " (1) .
فنرى الطبري اشترط لتوبة الله على عباده شروطا ثلاثة:
أولا: الإيمان الكامل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والتصديق بكل ما جاء به من عند ربه.
ثانيا: إصلاح حال نفسه بالتقرب إلى ربه، والعمل على مرضاته، والمداومة على هذا العمل.
ثالثا: عدم كتمان ما أنزل الله على رسوله، بل عليه إذاعته وإشاعته بين الناس، حتى يكون من المقبولين الذين قال الله تعالى عنهم: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (2) .
ويقول ابن عطية: ثم استثنى الله تعالى التائبين الذين أصلحوا في أعمالهم وأقوالهم.
ثم يوضح أن توبة الله على عبده: هي رجوعه به من المعصية إلى الطاعة (3) .
ولا نرى أن ابن عطية قد أضاف جديدا عما وضحه، وبين معالمه شيخ المفسرين الطبري.
أما عند الإمام القرطبي فهو يقول عند تفسيره لهذه الآية:
__________
(1) راجع تفسير الطبري، 3 \ 259
(2) سورة التوبة الآية 118
(3) المحرر الوجيز لابن عطية، 2 \ 45(51/266)
" استثنى الله تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم، ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه " (1) .
إن الإمام القرطبي وضع نصب عينيه عند تفسيره لهذه الآية أن التوبة إسلام جديد، والإسلام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يجب ما قبله (2) . فهو يرى أن التائب يعود إنسانا جديدا في كل تصرفاته وأحواله، ينسلخ من جهالته الأولى ليكون المؤمن التقي الورع الذي يخاف الله ويخشاه، ويجعل بينه وبين حياته الأولى وتصرفاته السابقة سدا منيعا من الحصانة والوقاية وخشية الله تعالى في السر والجهر.
فإذا تركنا الإمام القرطبي، واتجهنا إلى العالم المعاصر ابن عاشور، فنراه يتأثر بما قاله ابن مسعود: إن الآية خاصة بمن تاب من اليهود.
فنراه يقول: " وشرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا، وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس، فلا يكفي اعترافهم وحدهم، أو في خلواتهم، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه
__________
(1) تفسير القرطبي، 2 \ 187
(2) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، 4 \ 199، 201، 205(51/267)
رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم، وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا في كتاب الله؛ لأن الإيمان هو توبة الكافر من الكفر، وإنما زاد بعده {وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (1) لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه " (2) .
ثانيا: قال الله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3) .
قال الإمام القرطبي: فآذوهما قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير، وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير، قال ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال.
واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: واللاتي وقوله: واللذان فقال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة، وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ولم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى: من نسائكم وفي الثانية: منكم.
وقوله تعالى: فإن تابا أي: من الفاحشة.
وأصلحا يعني العمل فيما بعد ذلك. فأعرضوا أي:
__________
(1) سورة البقرة الآية 160
(2) تفسير ابن عاشور، 2 \ 72.
(3) سورة النساء الآية 16(51/268)
اتركوا أذاهما وتعييرهما، وإنما كان هذا قبل نزول الحدود.
فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية، وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى.
والله تواب أي: راجع بعباده عن المعاصي (1) .
لقد جلى القرطبي الآية ووضحها وأزال ما وقع فيه العلماء من لبس وتخبط لا يسنده دليل، ولا يؤيده نص، ومع هذه التجلية جاء في النهاية وأيد ما قاله العلماء من نسخ هذه الآية، ولكنه لم يوضح لنا العقوبة الواقعة على الرجلين اللذين يأتيان هذه الفاحشة المنكرة بعد نزول الحدود.
وإذا كان هذا ما قاله صاحب الجامع لأحكام القرآن في القرن السابع الهجري، فماذا يمكن أن يضيفه صاحب الظلال في القرن الخامس عشر للهجرة؟ يقول سيد قطب في قوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (2) فالتوبة والإصلاح -كما سيأتي- تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك، ومن ثم تقف العقوبة، وتكف الجماعة عن إيذاء المنحرفين الشاذين، وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضوع، أي: الكف عن الإيذاء. . {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3) وهو الذي شرع العقوبة، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح، ليس
__________
(1) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 5 \ 86، 90.
(2) سورة النساء الآية 16
(3) سورة النساء الآية 16(51/269)
للناس من الأمر شيء في الأولى، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة، إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه، وهو تواب رحيم، يقبل التوبة ويرحم التائبين.
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله، والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق، وإذا كان الله توابا رحيما، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء أمام الذنب الذي سلف، وأعقبه التوبة والإصلاح، إنه ليس تسامحا في الجريمة، وليس رحمة بالفاحشين، فهنا لا تسامح ولا رحمة، ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين، وقبولهم في المجتمع، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه، وتطهروا منه، وأصلحوا حالهم بعده، فينبغي -حينئذ- مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة، ونسيان جريمتهم حتى لا يثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها، مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس واللجاج في الخطيئة، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة، والإفساد في الأرض، وتلويث المجتمع، والنقمة عليه في ذات الأوان.
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك -فيما بعد- فروى أهل السنن حديثة مرفوعا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به (1) »
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الحدود 29 باب فيمن عمل عمل قوم لوط 4462 بسنده عن ابن عباس قال: '' قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. '' وذكره، والترمذي في الحدود حديث 1456 باب في حد اللوطي، وابن ماجه في الحدود حديث 2564 باب من عمل عمل قوم لوط، ونسبه المنذري للنسائي أيضا ولفظه عنده: '' لعن الله من عمل عمل قوم لوط '' كررها ثلاثا.(51/270)
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، ولقد جاءت هذه العناية مبكرة.
فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة الله، وتتولاها بالتنفيذ؟ فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) .
كما ورد في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (5) {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (6) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (7) .
وكرر هذا القول في سورة المعارج. ويتابع صاحب الظلال حديثه قائلا: " ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة، ولم تكن له فيها سلطة، فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32
(2) سورة المؤمنون الآية 1
(3) سورة المؤمنون الآية 2
(4) سورة المؤمنون الآية 3
(5) سورة المؤمنون الآية 4
(6) سورة المؤمنون الآية 5
(7) سورة المؤمنون الآية 6(51/271)
نهى عنها في مكة، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة، وصيانة المجتمع من التلوث، فلما أن أصبحت له دولة أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب، إلى جانب التوجيه والموعظة " (1) .
إن صاحب الظلال يحصر تصوراته في هذه الآية في نقاط ثلاث: الأولى:
الأولى: ما يطلق عليه تعديل أساسي في الشخصية الإنسانية التي كانت منحرفة عن الطريق السوي، فهي تسير على غير هدى من وحي، أو دليل من عقل، وتتخبط من جراء وسوسة الشيطان لها، حتى إذا تابت، وآبت، واستقامت على الصراط المستقيم، أصبحت لا يغريها لهو الحديث، ولا يأخذ بلبها بهرج الدنيا وزخرفها.
الثانية: على المجتمع الإسلامي الاتباع لا الابتداع، والتخلق بأخلاق الله تعالى التي أمرنا بها، وما دام الله قد حرم الظلم على نفسه، وأمرنا بعدم التظالم، فعلينا السمع والطاعة.
وما دام الله رؤوفا رحيما، فعلينا أن نرحم هؤلاء الذين عادوا إلى طريق الإيمان؛ فلا نؤذيهم بقارع القول، ولا نكون عونا للشيطان عليهم، بل علينا أن نساعدهم لاستئناف حياتهم الجديدة الطاهرة الملتزمة بتعاليم الإسلام.
__________
(1) في ظلال القرآن بتصرف، 2 \ 277، 278.(51/272)
الثالثة: حرص الإسلام على سلامة مجتمعه من الفحش والتفاحش حتى وقبل أن تكون له دولة تقيم الحدود، وترد الباغين عن تلويث المجتمع كانت له توجيهاته السليمة في التنفير من الزنا وأساليب المنكر، واستمر الوضع على ذلك حتى أقيمت دولته، عندها شرعت الحدود وقننت العقوبات؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن.
ثالثا: قال الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) .
قال الله سبحانه وتعالى ذلك بعد قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (2) . وسنحاول بمشيئة الله أن تكون لنا سياحة مع المفسرين، وأقوال المفكرين الإسلاميين لنتعرف على تفسيرهم لهذه الآية.
قال ابن الجوزي في تفسيره: " قال مقاتل: سبب نزولها أن قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين، فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابا، فكيف يفعل بهم؟ فنزلت هذه الآية، وعلى هذا يكون المعنى: إلا الذين تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة " (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 146
(2) سورة النساء الآية 145
(3) زاد المسير لابن الجوزي، 2 \ 234.(51/273)
وكأن الصحابة رضوان الله عليهم قد تعجبوا من توبة المنافقين الذين وصفهم الله تعالى: بأنهم في الدرك الأسفل من النار، دليله ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن الأسود قال: " كنا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم، ثم قال: لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله؟ إن الله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) . فتبسم عبد الله، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله فتفرق أصحابه، فرماني بالحصى فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت، لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا، فتاب الله عليهم.
قال الحافظ ابن حجر: " ويستفاد من قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) صحة توبة الزنديق وقبولها على ما عليه الجمهور، فإنها مستثناة من المنافقين من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) وقد استدل بذلك جماعة، منهم: أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن " (4) .
وقال ابن عاشور في تفسيره: " واستثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين، وأخلص دينه له، فلم يشبه بتردد ولا تربص
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة النساء الآية 146
(3) سورة النساء الآية 145
(4) راجع صحيح البخاري، 8 \ 200.(51/274)
بانتظار من ينتظر من الفريقين، المؤمنين والكافرين، فأخبر أن من صارت حاله إلى هذا الخبر فهو مع المؤمنين " (1) .
وما قاله ابن عاشور لا يخرج عما جاء في صحيح البخاري من أن الآية نزلت في توبة المنافقين.
وقال صاحب الظلال-: " وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} (2) فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام بالله، وإخلاص الدين له، ولكنه هنا ينص على الاعتصام بالله، وإخلاص الدين لله؛ لأنه يواجه نفوسا تذبذبت، وتولت غير الله؛ فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح على التجرد لله، والاعتصام به وحده، وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة ليكون في الاعتصام بالله وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص لله وحده خلوص وتجرد.
وبذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار، وبذلك يرتفع المؤمنون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة الله وحده، المستعلين بالإيمان، المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (3) .
وبهذه اللمسات المنوعة يكشف حقيقة المنافقين في
__________
(1) راجع تفسير ابن عاشور، 5 \ 244.
(2) سورة النساء الآية 146
(3) سورة النساء الآية 146(51/275)
المجتمع المسلم ويقلل من شأنهم، وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق، ويحذرهم مصيره، ويفتح باب التوبة للمنافقين، ليحاول من فيه منهم خير أن يخلص نفسه، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وحرارة وفي إخلاص " (1) .
وفي هذه الآية تتجلى شفافية صاحب الظلال، فنراه يبرز نقاطا جديدة في تفسير الآية، تستروحها نفوس القابضين على دينهم في القرن العشرين، فتأخذ بمجامع قلوبهم وتزيدهم قوة إيمان وتسلحهم بأسلحة واقية ضد طغيان المادية، وضلالات أصحابها، ومن هذه النقاط:
أ- أنه أبرز الجديد الذي تتفرد به هذه الآية عن نظيراتها من الآيات الأخرى، وهو الاعتصام بالله، واللجوء إلى حماه، حتى تستقر نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، ويهجرون النفاق والمنافقين إلى غير رجعة.
ب- أن الله تعالى هو مقلب قلوب العباد وأمرهم بيده، فلا غضاضة ولا مشاحة في نقل هؤلاء الذين توعدهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار إلى مصاف المؤمنين الآيبين العائدين إلى ربهم: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) .
ج- التهوين من شأن المنافقين المصرين على نفاقهم في
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 2 \ 565.
(2) سورة يس الآية 82(51/276)
المجتمع الإسلامي، وأن أمرهم إلى بوار، وكيدهم إلى ضلال، وأموالهم التي ينفقونها للصد عن سبيل الله ستكون عليهم حسرة وندامة، كما قال تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (1) .
رابعا: قال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
قال ابن عاشور في تفسيره: " أي: من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليه، أي: قبلت توبته، وليس في الآية ما يدل على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه؛ لأن ظاهر [تاب- وتاب الله عليه، أنه فيما بين العبد وبين ربه في جزاء الآخرة، فقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} (3) ترغيب لهؤلاء العصاة في التوبة، وبشارة لهم، ولا دليل في الآية على إبطاله حكم العقوبة في بعض الأحوال، كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء: توبة السارق لا تسقط القطع، ولو جاء تائبا قبل القدرة عليه، ويدلك لصحة قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية، ولا شك أنها تائبة " (4) . وقال في ذلك لأسامة بن زيد: «أتشفع في حد من حدود الله، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها (5) »
__________
(1) سورة الأنفال الآية 36
(2) سورة المائدة الآية 39
(3) سورة المائدة الآية 39
(4) تفسير ابن عاشور، 6، 7: 193.
(5) أخرجه البخاري في الأنبياء، 4 \ 213، باب حدثنا أبو اليمان.. إلخ، وفي الحدود 8 \ 9 باب كراهة الشفاعة في الحد، ومسلم في الحدود حديث 1688 باب قطع السارق الشريف وغيره، والترمذي في الحدود حديث 2547 باب الشفاعة في الحدود، والنسائي في قطع السرقة حديث 4905، وأبو داود في الحدود 4 باب في الحد يشفع فيه حديث 4373.(51/277)
ثم ذكر ابن عاشور رواية عن عطاء: إن جاء السارق تائبا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع، ونقل هذا عن الشافعي، وهو من حمل المطلق على المقيد حملا على حكم المحارب، وهذا يشبه أن يكون من متحد السبب، مختلف الحكم والتحقيق.
ثم رد ابن عاشور على هذه الرواية بقوله: " إن آية الحرابة ليست من المقيد، بل هي حكم مستفاد استقلالا، وأن الحرابة والسرقة ليسا سببا واحدا فليست المسألة من متحد السبب ولا من قبيل المطلق الذي قابله مقيد " (1) .
وما قاله العالم الجليل ابن عاشور قد سبقه إليه الإمام القرطبي عند تناوله لهذه الآية حيث قال: " إن الله تعالى لما ذكر حد المحارب قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) وعطف عليه حد السارق وقال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (3) فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما.
قال ابن العربي: ويا معشر الشافعية سبحان الله أين الدقائق
__________
(1) تفسير ابن عاشور، 7 \ 193.
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) سورة المائدة الآية 39(51/278)
الفقهية والحكم الشرعية التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟ . . . إلى أن قال: " وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة، فالتوبة مقبولة، والقطع كفارة له " (1) .
ونحن نميل إلى ما ذهب إليه ابن عاشور، والإمام القرطبي، وابن العربي في أن التوبة لا تسقط حد السرقة.
وإذا كان الأمر كذلك فما موقف صاحب الظلال من هذه الآية؟ يقول: يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب على أن يندم ويرجع ويكف، ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية، بل يعمل عملا صالحة، ويأخذ في خير إيجابي {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد، ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد، بل لا بد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح.
على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا، فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك، فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد، فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فهي تأمن الارتداد إلى الشر والفساد، بهذه الإيجابية، وبهذا الامتلاء. . إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله الذي خلق، والذي يعلم من خلق.
__________
(1) تفسير ابن عاشور، 7 \ 402 / 73.
(2) سورة المائدة الآية 39(51/279)
وعلى ذكر الجريمة والعقوبة، وذكر التوبة والمغفرة، ويعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة، فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه، وصاحب السلطان الكلي في مصائره، هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه، كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم، ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم (1) .
ونأخذ مما قاله ابن عاشور، والقرطبي، وسيد قطب، من مضامين هذه الآية النقاط التالية:
أ- أن حكم الحرابة مباين لحكم السارق، وأن توبة السارق لا تسقط عنه الحد.
ب- أن الندم توبة، والتوبة ليست عملا سلبيا تقف عند الإقرار بالذنب، والإنابة إلى الله، والتوبة إليه، بل يجب أن تتحول إلى عمل إيجابي يتمثل في عمل الصالحات، والكف عن المحرمات والمساهمة الفعلية في إقامة شرع الله في الأرض.
ج- أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لهذا الكون بكل ما فيه وعليه {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (2) ما دام الأمر كذلك فهو المتصرف الحاكم لخلقه {يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (3) فلا يتحركون إلا بأمره، ولا يتوبون إلا
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب، 2 \ 886
(2) سورة فاطر الآية 3
(3) سورة الشورى الآية 13(51/280)
بإذنه، قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (1) فقبل إرادته ومشيئته ما كانت لهم توبة وما وجد لهم عزم عليها.
خامسا: فقال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وإذا كان الأمر كذلك فما هي الجهالة في مفهوم الشرع، وعند علماء اللغة؟ يقال: الجهل نقيض العلم والجمع جهل وجهال، ويقسمه بعضهم إلى ثلاثة أضرب: الأول: خلو النفس من العلم، وقد جعل بعض المتكلمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام، كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام، الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.
الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا (3) .
والجهالة عند الإمام القرطبي تعم الكفر والمعاصي، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد
__________
(1) سورة التوبة الآية 118
(2) سورة الأنعام الآية 54
(3) راجع بصائر ذوي التمييز، 2 \ 406.(51/281)
والسدي، وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، يريد الخاصة بها، الخارجة عن طاعة الله، وهذا القول جار مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (1) .
وقال الزجاج: يعني قوله: بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل: بجهالة أي: لا يعلمون كنه العقوبة (2) .
وقد رأى المفسرون في هذه الآية وضوحا وبيانا؛ فلم يقفوا عندها كثيرا، وتكاد تكون آراؤهم التي ذكروها فيها متقاربة ومتحدة سواء ما ذكره الإمام ابن كثير (3) أو ما دبجته يراعة الألوسي (4) ، أو ابن عاشور (5) ؛ لهذا اكتفينا بما ذكره القرطبي عن الجهالة والجهل.
سادسا: قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (6) . ولقد تناول هذه الآية العديد من الشراح والمفسرين، من ذلك أن ابن عطية بدأها بقوله: " ولما حذر الله تبارك وتعالى غضبه والطغيان في نعمه، فتح باب الرجاء للتائبين؛
__________
(1) سورة محمد الآية 36
(2) راجع تفسير القرطبي 5 \ 92.
(3) التفسير العظيم 2 \ 146.
(4) تفسير الألوسي 7 \ 164.
(5) تفسير ابن عاشور 76 \ 259.
(6) سورة طه الآية 82(51/282)
لأن التوبة فرض على جميع الناس؛ لقوله تعالى في سورة النور: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} (1) .
والناس فيها مراتب: أما مواقع الذنوب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما مضى، والإقلاع التام عن مثله في المستقبل، وأما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته على ذلك، ممن شيخ أو بآفة فتوبته الندم واعتقاد الترك إن كانت له قدرة، وأما من لم يواقع ذنبا فتوبته العزم على ترك كل ذنب.
والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره، وهي توبة مقيدة، وإذا تاب العبد، ثم عاود الذنب بعينه بعد مدة، فيحتمل عند حذاق أهل السنة ألا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول؛ لأن التوبة قد كانت محضة، ويحتمل أن يعيده؛ لأنها توبة لم يوف بها" (2) .
وخلاصة ما قاله ابن عطية في هذا الصدد يمكن إجماله فيما يأتي:
أ- أن التوبة فرض فرضه الله تعالى على" جميع خلقه، ويؤيده ما جاء في الحديث «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (3) »
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) راجع المحرر الوجيز لابن عطية 10 \ 68.
(3) الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد 4251 بسنده عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكره، والترمذي في القيامة 49، والدارمي في الرقاق 18، وأحمد بن حنبل في المسند 3 \ 198.(51/283)
ب- قسم التوبة بحسب الذنب وطبيعة مرتكب الذنب إلى عدة مراتب.
ج- عودة التائب إلى ارتكاب المعصية التي تاب عنها موكولة أمره إلى خالقه تعالى، إن شاء حاسبه على ما قدم وأخر، وإن شاء تجاوز له عما كان قد تاب عنه.
هذه خلاصة مركزة لتخريجات ابن عطية في هذه الآية، الذي عاش القرن السادس الهجري، فماذا تراه يقول صاحب الظلال الذي عاش في قرننا هذا وشاهد عن كثب سلوكيات النفس البشرية وهي تتحرر وتنسلخ من الكثير الذي نادت به الشرائع وأمر به خالق الإنسان.
يقول سيد قطب: " التوبة ليست كلمة تقال، وإنما هي عزيمة في القلب يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح، ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع، فإذا وقعت التوبة، وصح الإيمان، وصدقه العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق على هدى من الإيمان، وعلى ضمانة من العمل الصالح، فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل " (1) .
إن صاحب الظلال يترجم للتوبة؟ فيرفض أن تكون كلمة تقال باللسان فقط، وهو بهذا يتوافق مع ما قرره علماء الشرع من أن التوبة إسلام جديد، والإسلام: إقرار باللسان، وتصديق
__________
(1) راجع في ظلال القرآن 5 \ 489.(51/284)
بالجنان، وعمل بالأركان.
إذن لا بد من تحقق العمل الصالح بعد الدخول في التوبة، العمل الذي لا تشوبه شائبة، ولا يميل عن الشرع قيد أنملة، فإذا تم ذلك، وأصبح العمل الصالح سلوكا ومنهجا للتائب، كانت له المغفرة من ربه، ووجده معه بالرعاية والعناية والكلاءة والحفظ في كل عمل يؤديه، وعند كل همسة يهمس بها، وعند كل خلجة يختلجها، قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) .
معنا بالرعاية التي لا تقف عند حد، معنا بالتوفيق والسداد في أعمالنا وشئون حياتنا، معنا بالمغفرة والتجاوز عن صغائر الذنوب، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (2) .
سابعا: قال الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
يقول الإمام الفخر الرازي: قال أصحابنا: " إنه بعد التوبة لا بد من مضي مدة عليه لظهور حسن الحال حتى تقبل شهادته، وتعود ولايته، ثم قدروا تلك المدة بسنة، كما يضرب للعنين أجل سنة (4)
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة النجم الآية 32
(3) سورة النور الآية 5
(4) . راجع تفسير الفخر الرازي 23 \ 163 وتفسير آيات الأحكام للصابوني 2 \ 59.(51/285)
فقوله: وأصلحوا فيه دليل على أن التوبة وحدها لا تكفي، بل لا بد من ظهور أمارات الصلاح عليه، فإن هذا الذنب مما يتعلق بحقوق العباد، ولذلك شدد فيه.
ويقول صاحب الظلال: " قد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء، هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها؛ فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ فذهب الأئمة: مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة، وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف، فحينئذ تقبل شهادته، [وهذا القول الأخير: هو الذي اختاره صاحب الظلال لأنه في رأيه] إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف، وبذلك يمحى آخر أثر للقذف " (1) .
ونحن أيضا نرى أن تنفيذ هذا الرأي، فيه تطهير للمجتمع وتنظيم لسلوك أفراده، وتصفية لقلوبهم، وتربية لنفوسهم؛ فلا يدفعها الهوى والغرض، أو الحقد والشنآن على البغي على الآخرين، وقذفهم بما لم يقترفوه، دون دليل واضح أو بينة قائمة.
__________
(1) راجع في ظلال القرآن 6 \ 63، 64.(51/286)
خاتمة البحث: من نعم الله -سبحانه وتعالى- على عبده أن يبدأ عملا ما، ثم تحوطه رعاية الله وعنايته حتى يفرغ منه، وأهم الأعمال في هذه الحياة ما كان خالصا لله تعالى، يبغي به رضى ربه، وشكر نعمته عليه، وأن يكون لمعة مضيئة على طريق الهداية لهؤلاء الذين تفرقت بهم السبل، وانبهمت أمامهم المسالك، فأهملوا شرع ربهم، وكانوا للشيطان أولياء.
ولقد كان من توفيق الله لي أن هداني للكتابة عن التوبة، التوبة الخالصة التي أوجبها الله على عباده، منذ أن خلق البشرية، حتى يرث الأرض ومن عليها.
وتبين لي من خلال إعداد هذا البحث أن التوبة من ألزم اللوازم لكل من خلق الله تعالى، لا تنفك عنهم لحظة، ولا يغفلوا عنها خطرة، امتثالا لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) فآدم أبو البشر يخدعه الشيطان؛ فيستجيب لإغوائه، ثم يتذكر معصيته لربه فيتوب إليه.
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (2) . والمستعرض لحياة الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- يجد أن التوبة كانت من ألزم اللوازم لهم، من ذلك أن موسى -عليه السلام- يسارع إلى التوبة من فعلته وتجرئه على ربه، قال تعالى
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 37(51/287)
على لسان موسى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) أي: أنا أول من آمن أنه لا ينظر إليك أحد إلا مات، وقيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا.
ويونس يجأر بالتوبة إلى خالقه ومولاه آيبا راجعا متبتلا في عبادة ربه، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له (3) » ولقد قبل الله تعالى توبة الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين لما حدث في غزوة العسرة، قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) .
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت
__________
(1) سورة الأعراف الآية 143
(2) سورة الأنبياء الآية 87
(3) سنن الترمذي، 5 \ 529.
(4) سورة التوبة الآية 117(51/288)
التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لأجل إذنه للمنافقين في القعود، دليله قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (1) وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة، وقيل: خلاصهم من نكاية العدو.
وإذا كان هذا حال التوبة مع الرسل والأنبياء وأتباعهم، فنجد أن التاريخ وكتب السير تحفظ لنا الكثير من توبة الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقتنا هذا.
من ذلك توبة أبي لبابة التي يقول عنها: «لما أرسلت قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم -حين اشتد الحصار عليهم- دعاني رسول الله -عليه السلام- وقال: اذهب إلى حلفائك فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس، قال: فدخلت عليهم - وقد اشتد عليهم الحصار - فهشوا إلي وقالوا: يا أبا لبابة، نحن مواليك دون الناس جميعا، وسألوني ماذا يريد بهم الرسول؟ فأومأت إلى حلقي -أي الذبح- قال: فندمت واسترجعت وذهبت إلى المسجد وربطت نفسي في سارية حتى مضى علي سبعة أيام لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى قبل الله توبتي وبشرت بذلك، وجاء الرسول -عليه السلام- وحل وثاقي من السارية، فقلت له: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: يجزئك الثلث يا أبا لبابة (2) » . .
__________
(1) سورة التوبة الآية 43
(2) راجع الاستيعاب، 4 \ 167، 168 بتصرف.(51/289)
ومن توبة الصحابة أيضا ما فعله حنظلة الأسيدي، حيث رمى نفسه بالنفاق، يقول: «نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما ذاك؟ " قال: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار حتى كأنا نراهما رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج، وداعبنا الأولاد، ونسينا كل شيء، فقال رسول الله خير: " والذي نفسي بيده: إن لو تدومون على ما تكونون عليه عندي [من ذكر وعبادة] ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة " يكررها ثلاث مرات (1) » .
هكذا كان إحساس الصحابة الذين تربوا في رحاب الإسلام، مراقبة تامة لربهم، وتدقيق في كل عمل يقومون به، وخوف من الله تعالى أن يعمل أحدهم عملا؛ فينزل في شأنه قرآن يعاتبه فيه ربه، أو يلومه على شيء صدر منه كما قال تعالى لرسوله الكريم: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (2) . ومن قبل الصحابة، وعند الأمم السابقة يحدثنا الرسول عن توبة أصحاب الغار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما ثلاثة نفر يمشون إذ أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت عليهم في غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم باب الغار، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بصالح أعمالكم فدعوا الله -عز وجل- فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأة وصبيان فكنت أرعى عليهم، فإذا رحت حلبت، فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وإنه نأى بي طلب
__________
(1) صحيح مسلم، 3 \ 2106، ح 2750.
(2) سورة الأحزاب الآية 37(51/290)
الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، فجعلوا يتصايحون عند قدمي، فلم أزل كذلك حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة، ففرج الله -عز وجل- لهم فرجة.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجل النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت علي حتى آتيها بمائة دينار، فجئتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة، ففرج الله لهم فرجة.
وقال الآخر: اللهم إني استأجرت أجيرا، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي فعرضته عليه فتركه ورغب عنه، فثمرته حتى اشتريت له بقرا ورعاءها، فجاءني بعد حين فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، فقلت انطلق فخذ تلك ورعاءها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت إني لا أستهزئ بك، فخذ تلك البقر ورعاءها، فأخذها وذهب، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرجها الله عنهم (3) »
__________
(1) راجع البخاري في كتاب الحرث والمزارعة، باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم وكان في ذلك صلاح لهم، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب 27 قصة أصحاب الغار الثلاثة حديث رقم 2743، والنسائي في كتاب الرقائق 6 \ 236.
(2) أي: بعد طلب المرعى. (1)
(3) الفرجة: الفتحة، وافرج لنا: فافتح لنا. (2)(51/291)
إن هؤلاء الثلاثة الذين أصابهم هذا الكرب الشديد عن طريق إطباق الغار عليهم، يطلبون من الله تعالى أن يفرج عنهم كربهم، ويزيح عنهم بلاءهم، ويقدمون بين طلبتهم هذه صوالح أعمالهم؛ لأنهم دائما يحرصون على مرضاة خالقهم، عن طريق تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وهم مع هذا كله يتوبون إليه عندما يقعون في الصغير والجليل؛ عسى الله أن يتوب عليهم.
ولقد استجاب لدعائهم الخبير بأحوالهم، والمطلع على سرائرهم، والعليم بكل ذرة من ذرات كيانهم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) . وفي النهاية نقول لهؤلاء الشاردين والشاردات الهاربين إلى طريق الغواية، الفارين إلى وسوسة الشيطان، فروا إلى خالقكم وعودوا إلى بارئكم فالسماء مفتحة الأبواب لكل توبة نصوحة، ورحمة الله واسعة تسع صغائر الذنوب وعظائمها، وعلينا جميعا أن نستجيب إلى دعوة الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (2) هذا وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الملك الآية 14
(2) سورة الزمر الآية 53(51/292)
الشيخ محمد بن إبراهيم
عالم الديار السعودية وفقيهها
1311 -1389 هـ
للدكتور: محمد بن سعد الشويعر
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . أما بعد: فإن القلم يقف مع الأفكار التي تتداعى في اختيار من يكتب عنه، واستحضار مكانته في النفوس، وأثره في الأمة، ذلك أن الأسماء المطروحة كثيرة، لكن الذي ترك بصمات بارزة، وتعلقت به الأفئدة، هو الذي تشرئب الأعناق لاستطلاع سيرته، وتذوق مسيرة حياته، حيث يتفتق الحديث عنه، إلى مواقف وعبر.
وهذا النوع من الرجال، بهم ندرة في كل مجتمع؛ لأن مكانتهم وأثرهم تعظمان بعد خلو الميدان منهم.
وحديثنا في هذا الموقف، عن عالم جليل القدر، جم التواضع، هو من القلة النادرة من الرجال، الذين تكبر مكانتهم بعدما تقلب سيرة حياتهم، وعند استجلاء مواقفهم، قد منحه الله(51/293)
خصالا شتى: شدة في غير عنف، ولين من دون ضعف، علاوة على ما خصه الله من ذكاء وفطنة، وورع وتقى. . مع حب للمساعدة وعطف على المحتاجين.
ومن تتبع سيرته: المرصود منها والمحفوظ، يتضح له أنه إمام في علمه واجتهاده، جبل أشم في تصديه للتيارات الوافدة، إذ هو من النوادر الذين يبرزون على الساحة بين وقت وآخر، وممن ينطبق عليه قول الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
إنه العالم الفذ، إمام عصره، الذي جمع الله فيه خصالا عديدة، مع الإخلاص، والاهتمام بالعلم ونشره، إلى جانب الحكمة في معالجة الأمور، وبعد النظر في تحري العواقب، وتلمس ما فيه الرأفة بالأمة.
إنه مفتي الديار السعودية، ورئيس قضائها: الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله جميعا.
ولئن كان الشيخ محمد علما من الأعلام البارزة، المرتبطة بتاريخ المملكة العلمي والقضائي والفتوى، والمعروف لا يعرف(51/294)
به، فإنه حي في ذاكرة كل من عرفه بأعماله وحكمته، ولذا فإن البحث، والحديث مع عارفيه، يجعلني أتقاصر الجهد الذي يبذل في التعريف بسيرة حياته؟ لأنه موطن خصب للدراسة، ومنبع ثر لمن يعرف بالجوانب العديدة في حياته، وكل جانب يستحق الدراسة المتأنية: فالشيخ محمد في علمه، والشيخ في أسلوبه في التعليم، والشيخ في تشجيعه للعلم، والشيخ في بعد نظره، والشيخ في حكمته وزهده، والشيخ في صبره وجلده، والشيخ في حكمته ومعالجته للأمور، والشيخ في جرأته وفتاواه، كل هذه جوانب تستحق الإفراد بدراسة مستقلة، ليظهر من ذلك مكانة هذا الرجل، وما كان يؤدي من أعمال، والثغور التي كان يسد.
وما سوف أقدم في هذه العجالة، ما هو إلا جهد المقل المحكوم بزمن معين، وحجم محدود، سأسهم به مع المترجمين لحياته، لما له من مكانة في الأنفاس، وذكرى طيبة يرددها كل من عرفه، أو سمع عنه، إلى جانب الآثار التي خلدتها أعماله.
وسأكون في هذا عالة على من سبقني في الحديث عنه، حيث وضعوا الصوى على الطريق، إلا أن أمثاله من العلماء الأفذاذ لهم حق على عارفيهم بتجديد الحديث عنهم؛ لما لهم من حق على عارفيهم، ولما لهم من سابقة، وبما يمتازون به من قدم راسخة وشجاعة، فالشيخ محمد -رحمه الله- مع تواضعه له هيبة، ومع ما أحفه الله من مكانة فإنه يبذل جاهه، ولا يبخل بمساعدته للمحتاج، ومع علمه ومكانته، يمتاز بالتبسط والمزاح مع الإنسان العادي، ولا يضن بالتفقد لحال الضعيف.(51/295)
وفي هذه المساهمة، سوف أحاول الإلمام بجوانب من حياة هذا العالم الكبير في علمه وقدره، الصغير عند نفسه، الباذل لعلمه، المحب لطلابه، المدافع عن العلماء والقضاة الذين أنيطت به مسئولية عملهم.(51/296)
مولده ونشأته:
أجمع الكاتبون عن سيرة الشيخ محمد -رحمه الله- على أنه ولد في السابع عشر من شهر محرم سنة 1311 هـ بمدينة الرياض، وأنه نشأ في بيت علم وفضل، فأبوه الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف كان عالما، أسند إليه الملك عبد العزيز قضاء الرياض من عام 1321 هـ، إلى أن توفي عام 1329 هـ، إلى جانب جلوسه للتدريس، وجده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن درس في الأزهر بمصر، بعدما نقله إبراهيم باشا مع أسرته لمصر بعد سقوط الدرعية عام 1233 هـ- 1234، وقد نال مكانة علمية كبيرة في مصر، ثم بعدما عاد منها: في الدعوة والتأليف والتعليم.
وجد والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤلف كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، وقد قدم من مصر عام 1241 هـ بعدما نفيت أسرتهم إلى هناك مع من نفي من آل سعود وآل الشيخ وغيرهم بعد هدم الدرعية. . وكان عالما ورعا أثنى عليه ابن بشر في تاريخه في علمه وسعة أفقه (1)
__________
(1) لراغب الاستفادة ينظر (عنوان المجد) لابن بشر حوادث عام 1241 هـ ج 1، و (مقدمة فتح المجيد) ص 3- 4.(51/296)
وكل واحد من فروع هذه الشجرة الطيبة، له شهرة علمية، وفضل لا يضاهى في سبيل نشر الدعوة، وتصحيح العقيدة، وحماية جناب التوحيد، توارثوا العلم كابرا عن كابر، فكانوا مصابيح تضيء دجى الجهل، وعلامات يسترشد بها الساري في الذود عن العقيدة.
ففي الرياض نشأ مجدد الدعوة، ومحيي السنة، الشيخ محمد بن إبراهيم، وفي ربوعها درج، حيث بانت علائم النجابة عليه منذ صغره، وفي حي دخنة، حيث بيوت العلم من آل الشيخ خاصة، ترعرع، وتفتح ذهنه على طلب العلم، فأدخله والده مدرسة الكتاب: لدى عبد الرحمن بن مفيريج وهو في الثامنة من عمره، ولنباهته وشغفه بالعلم فقد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ثم درس بعد ذلك التجويد.
وكانت دراسته عند ابن مفيريج على مرحلتين: المرحلة الأولى، وهو مبصر من الثامنة حتى الحادية عشرة حيث ختمه نظرا، والثانية بعدما أصيب بمرض الرمد في عينيه في السادسة عشرة، حيث استمر معه المرض سنة كاملة، كف بصره على أثره، فعوضه الله البصيرة، فعاد إلى الكتاتيب فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب(51/297)
لكن الشيخ عبد الله بن منيع في حديثه عن سماحته قال: " فمن حين بلغ السابعة من عمره شرع يتعلم القرآن الكريم في كتاب للمقرئ عبد الرحمن بن مفيريج فأتم قراءته وإجادته، ثم شرع في حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، فما بلغ الحادية عشرة حتى أتمه حفظا (1) ومهما يكن من اختلاف بين الكاتبين عن سماحته في العمر في بدء الدراسة، وختم القرآن، فإن هذا الاختلاف ليس بكثير، وهذا من الأمور المعتادة لكثير ممن يترجم لحياتهم في فترة متأخرة، بعدما علت مكانة الشيخ، وسما نجمه.
ذلك أن المعلومات الأولية عن حياة الشيخ محمد -رحمه الله- تجمع من الذاكرة، ومن مساءلة العارفين به، وليس بمستغرب حصول الاختلاف في التاريخ الذي لم يدون.
ومثل هذا الاختلاف أيضا، حصل في تحديد السن التي فقد فيها البصر، ولكنه أخف، إذ عبد الله بن رويشد في كتابه " قادة الفكر الإسلامي " يرى أنه فقد البصر، ولما يبلغ العاشرة من عمره (2) عمره، ويرى عمر رضا كحالة في مستدركه على معجم المؤلفين، نقلا عن خير الدين الزركلي في الأعلام، أنه فقد بصره
__________
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 213
(2) ص 405.(51/298)
في الحادية عشرة من عمره (1) .
ويرى الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف في كتابه " مشاهير علماء نجد وغيرهم " (2) والشيخ محمد بن قاسم في مقدمة مجموع فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (3) ، أنه أصيب بالرمد وهو في السادسة عشرة من عمره في عينيه فكف بصره.
والشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع الذي لازم سماحته آخر عمره قرابة خمسة عشر عاما، يرى: أنه كف بصره وهو في السابعة عشرة من عمره، حديث حدثنا سماحته عن نفسه بذلك (4) .
وأجدني أميل مع الشيخ عبد الله بأن بصره كف وهو في السابعة عشرة؛ لأنه أسند هذا الرأي للشيخ محمد نفسه -رحمه الله- فيكون أخذ العلم عن مصدره؛ لأن أصدق وأوثق ما يكتب في السير الذاتية، ما كانت المعلومات بحديث المترجم له، إنباء عن نفسه.
أما الرأيين في مشاهير علماء نجد، ومجموع فتاوى سماحته، فلعلهما عبرا به عن بدء المرض، الذي استمر معه سنة، بفقدان البصر، ومعلوم أن النتيجة لا تتم إلا بعد البرء من
__________
(1) (المستدرك لمعجم المؤلفين) ص 582، و (الأعلام) للزركلي 5: 306هـ -307.
(2) ص 169.
(3) ص 1: 9.
(4) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 213.(51/299)
المرض، والبرء تم وهو في السابعة عشرة، ولعلهما اعتبرا فقدان البصر، مع بداية المرض، وبذا يمكن التوفيق بين الرأيين.
إن مرض عيني الشيخ محمد، ثم فقدان البصر، لم يفتا في عضد الشيخ محمد -رحمه الله- ولم يوهنا عزيمته عن طلب العلم، لوجود سببين هيأهما الله له: الأول: النشأة في المحيط العلمي وترغيب والده له في العلم، فتلازم الدافع مع الترغيب، ونمى ذلك ما جعل الله في قلبه من حب للعلم، الذي وجد أسبابه ميسرة، والترغيب فيه مبسوطة، وكأن الشاعر عناه بقوله:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
والسبب الثاني: الموهبة التي خصه الله بها: من ذكاء فطري، وحافظة وقادة؛ لأن العلم لا بد له من وسيلة معينة على التحصيل، ووعاء يحفظ العلم، وهاتان الخصلتان قد خص الله بهما الشيخ محمدا، منذ تفتح ذهنه على الدنيا. . فالله جلت قدرته، إذا أراد شيئا هيأ أسبابه.(51/300)
طلبه العلم: للبيئة التي نشأ فيها المرء أثر في توجيه مساره في الحياة، وللنفوس دور في التعلق بما تفتحت عليه العيون، ووعته الذاكرة، حسبما هو دائر في محيط الإنسان.
والشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- الذي نشأ في بيت علم، ومن سلالة علم، ونشأ في محيط كله شرف ودين، مقرونا(51/300)
فيه القول بالعمل، قد تولد عنده حب العلم، والحرص عليه، منذ بدأ يعي ما حوله، وقد اهتم به والده الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف عالم الرياض، وقاضيها: توجيها وترغيبا، عندما أدرك من ذكاء ابنه وفطنته ما يهيئه للأخذ من العلم بنصيب وافر.
فالشيخ إبراهيم يقصده الطلاب في مجالسه ودروسه ليأخذوا عنه، ويستفيد منه العاقة في فتاواه، ومن القضايا التي تمر عليه في المنازعات وغيرها، وضمن توجيهاته في الدعوة والإرشاد.
والعارض الصحي الذي قدره الله على عيني الشيخ محمد، لم يسلمه لليأس، بل زاده جدا، وعزما على المضي قدما في مشوار العلم، - كما مر بنا من قبل - يساعده أمران: - دافع وجداني؛ لأن العلم تغلغل في جوانحه، والإصرار على الأخذ بأسبابه استحوذ على مشاعره.
- ودافع ممن حوله شد عضده، وشجعه على الطلب: من الأب الذي يمحضه نصحه، ومن الأسرة العلمية التي اهتمت به، أخذا وعطاء ودعوة.
فكانت بداية المشوار العلمي للشيخ محمد - بعد أن استسلم لقضاء الله، ورضي بقدره عندما فقد حبيبتيه - أن أعاد القرآن الكريم حتى ختمه حفظا، في فترة وجيزة، إذ عوضه الله عن البصر البصيرة، وعن الإحساس بالنظر لما حوله الذاكرة التي تستوعب ما يلقى إليها، والنهم العلمي الذي جعله يطلب المزيد باستمرار.(51/301)
واهتمامه بالقرآن الكريم أولا، جاء من مكانة القرآن الكريم من قلبه؛ لأن كل طالب يراه مجمع العلوم وأساسها.
وقد جعل الصبر والمثابرة مطيته في طريق العلم، محتملا في سبيل ذلك المشاق، مع التواضع في الأخذ، والتأدب مع المعلمين، فالعلم لا يناله مستكبر ولا مستح، مستعينا على ذلك بالله، ثم الدعاء وحسن العبادة مع خالقه، متأسيا بقول الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر
ذلك أن العلم الذي هو ميراث الأنبياء، له أدب في الأخذ، وواجب في العطاء، وحق لازم عند من أخذه، كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم (1) » . وفي بعض الروايات زيادة: «فمن أخذه أخذه بحقه» ، وحق العلم التبليغ.
وطالب العلم الصادق في النية، يضع نصب عينيه في طلبه: الإخلاص لله، والاهتمام بتبليغه، والتواضع في حلقاته، والتأدب مع معلميه، والحرص على تبليغه، والاهتمام بأمانته، وعدم مماراة السفهاء فيه، والعهد على ذلك، ومن صدق مع الله، وعلم منه سبحانه حسن النية في ذلك، أعانه الله في طلبه للعلم، ويسر له سبله، حتى يبلغ غايته.
والشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - الذي ظهرت عليه النجابة مبكرا، قد حرص على أن تكون هذه الأمور أمامه منذ
__________
(1) سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن الدارمي المقدمة (342) .(51/302)
بداية المشوار، عدة تعينه على المسيرة وتخطي العقبات، متأسيا في ذلك بسير أعلام الإسلام، وعلماء السلف من المسلمين، ومتأثرا بأقرب الناس إليه، حيث يشد طلاب العلم رحالهم إلى مدينة الرياض، التي أصبحت محط الأنظار لتوافر العلماء، رغم ما يكتنف هؤلاء الطلاب من مشقة في الترحل، وفراغ في اليد، إلا أن المورد العذب شوقهم لينهلوا منه. ومن رحمة الله بهذا الشاب المتوثب - الشيخ محمد - أن كانت المناهل العذبة، تحت سمعه وبصره، فدفعه ذلك إلى المزاحمة والمثابرة، فبدأ قراءة المختصرات العلمية من مؤلفات جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الفقه والعقيدة، وهي رسائل مركزة في محتوياتها، مبسطة في أسلوبها، سهلة في فهمها، مما ترغب الطالب، ولا تثقل على المبتدئ وتشوق إلى المزيد. وإلى جانبها كان يأخذ مبادئ النحو والفرائض.
كانت هذه البداية على يد والده الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، الذي كان له خير موجه ومعين ومرغب، فكان الأب يعطي ابنه من هذه العلوم بقدر ما يتلاءم مع رغبته وقدراته، كالطبيب الذي يصف جرعات الدواء. . فلا يزيده ليمل، ولا ينقصه ليتألم ويتحسر.
لكن همة التلميذ، وما حباه الله من فطنة وذكاء، كل ذلك جعله يستوعب هذه المختصرات في فترة وجيزة، مع حفظها عن ظهر قلب.(51/303)
ثم زادت رغبته في التحصيل، وسمت نفسه إلى المزيد من العلم، كالظمآن الذي أعطي جرعات قليلة من الماء، فزادته هياما؛ لأنه رآها لا تروي ظمأ، ولا تسد حاجة.
ولما كان لعمه العلامة الورع الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عالم الرياض، وحكيم علمائها، حلقات في العقيدة، فإن الشيخ محمدا وجدها فرصة مهيأة لينتظم فيها، فبدأ بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم العقيدة الواسطية، تلتها الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فحفظ ذلك. كما قرأ عليه في أصول التفسير والحديث أيضا.
أما فقيه الرياض ومحدثها، الذي جعل الله له قبولا لدى الخاص والعام، الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، فقد قرأ عليه الحديث والفقه، ومصطلح الحديث، ولسعة علم الشيخ سعد، فقد حرص الشيخ محمد على ملازمته، والنهل من مورده العذب، فاستفاد منه كثيرا.
أما الشيخ حمد بن فارس اللغوي البارع، فقد أخذ عنه الشيخ محمد في اللغة العربية: ألفية ابن مالك، وقرأ عليه في بعض المؤلفات في النحو، كما قرأ عليه في الفقه أيضا.
وازداد في علم الفرائض، بما تعلمه على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود العنزي، عندما نزل الرياض واستوطنها (1) .
ويذكر ابن قاسم في تفصيله لمناهله العلمية: أنه أول ما
__________
(1) يراجع في هذا (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 170.(51/304)
أخذ الفرائض عن والده الشيخ إبراهيم، ثم عن الشيخ عبد الله بن راشد، ومما قرأ عليه في ذلك ألفية الفرائض، والعقيدة وعلومها، أخذها عن عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، ثم كتاب التوحيد، وأصول الإيمان، وفضائل الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب والدلائل [حكم موالاة أهل الشرك] ، للشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والعقيدة الواسطية، والعقيدة الحموية، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأخذ الفقه أولا عن الشيخ حمد بن فارس، ثم عن الشيخين سعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن محمود المتوفى عام 1333 هـ، ومن كتب الفقه قرأ زاد المستقنع.
عن الشيخ حمد بن فارس أيضا أخذ علم العربية، ومما قرأ عليه في هذا الفن: الآجرومية والملحة، والقطر والألفية.
وفي الحديث وعلومه قرأ بلوغ المرام، وثلث المنتقى على عمه الشيخ عبد الله، ثم أعاد بلوغ المرام على الشيخ سعد بن عتيق، وعليه أيضا قرأ ألفية العراقي في مصطلح الحديث.
ثم قال: هذا ومن المستفيض أن الشيخ رحمه الله، كان كثير الدأب على المطالعة في مختلف الكتب وتدريسها، فكان هذا مصدرا ثانيا غنيا بتنمية حصيلته العلمية، وتوسيع أفقه، أعانه على ذلك. ما عرف عنه من حدة الذكاء، ورجاحة العقل (1) .
__________
(1) انظر (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم) 1: 9- 10.(51/305)
والشيخ محمد بن عثمان القاضي، قد أجمل في كتابه: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين في ترجمته للشيخ محمد - الحديث، فقال عن شيوخه: بعد أن حفظ القرآن الكريم شيئا فشيئا حتى أكمله، صار والده يدارسه القرآن، ويحفظ المتون العلمية من فقه وفرائض، وحديث وتوحيد، على أبيه وعمه، وكان أبوه قاضيا لمدينة الرياض، ولازم علماء الرياض ليله ونهاره، ومن أبرز من لازمه الفقيه المحدث، الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود، والشيخ حمد بن فارس؛ لازم سعدا في الفقه وأصوله، والحديث ومصطلحه، والفرائض. . ولازم حمدا في علوم العربية كلها، وابن جلعود في الفقه والفرائض وحسابها، ولازم أباه وعمه عبد الله بن عبد اللطيف بأصول الدين وفروعه، وبالحديث والتفسير، وأقبل على العلم إقبالا منقطع النظير حتى نبغ في فنون عديدة، وكان لا يحس بالملل في المطالعة والقراءة، ولا يسأم. وكان مفرط الذكاء، قوي الحفظ، سريع الفهم، وكان المشايخ معجبين بفرط ذكائه ونبله، ويقولون: سيكون لهذا الفتى شأن.
ولما توفي أبوه عام 1329 هـ، وصى به عمه عبد الله، وكان يحثه على المثابرة في طلب العلم (1) .
والشيخ عبد الله بن منيع في ترجمته لحياة الشيخ محمد، التي استقى أغلبها من سماحته مشافهة، يقول: هو من أكابر
__________
(1) انظر (روضة الناظرين) ج 2 ص 316- 317.(51/306)
علماء نجد ومشاهيرهم، فاحتذى الابن سنة أبيه، فمن حين بلغ السابعة من عمره، شرع يتعلم القرآن الكريم في كتاب المقرئ عبد الرحمن بن مفيريج، فأتم قراءته وإجادته، ثم شرع في حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، فما بلغ الحادية عشرة حتى أتمه حفظا، ثم شرع في طلب العلم، فأخذ في القراءة على أبيه وعمه علامة نجد في زمنه، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف.
وقراءته الأولى في التوحيد، وأصول العقيدة، قراءة حفظ وتفهم، ثم قرأ مختصرات كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومختصرات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، كالواسطية والحموية، وكذلك عني بمختصرات النحو والفرائض، كالأجرومية والرحبية.
ولم يثن عزمه كف بصره، ولا تصميمه في طلب العلم، بل صبر واحتسب، وزاد هيامه في تحصيله، وقضى أيام حياته في إدراكه، فشرع في القراءة على علماء الرياض، زيادة على القراءة على عمه وأبيه، فشرع في قراءة التفسير والحديث وأصولهما، على الشيخ سعد بن عتيق، وفي النحو وعلوم العربية على الشيخ حمد بن فارس، وفي المطولات من كتب الفرائض على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود، فأدرك من كل هذه العلوم إدراكا جيدا، وذكر لنا - رحمه الله - أن من مشايخه الشيخ عبد الله بن عمار (1) .
__________
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 213.(51/307)
والشيخ عبد الله بن رويشد، في مروره على ترجمة الشيخ محمد بن إبراهيم، في كتابه قادة الفكر الإسلامي عبر القرون، قد انفرد بذكر بعض أعلام العلماء الذين تتلمذ عليهم، من أمثال الشيخ عبد الستار الدهلوي الهندي، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ محمد عبد القادر الهلالي رحمهم الله جميعا.
لكنه لم يذكر الزمن والمكان في أخذ الشيخ محمد على أي منهم، مع أن العنقري من المعاصرين للشيخ محمد والمقاربين له في العمر.
ومهما يكن من أمر فإن في الكاتبين عنه، نجد اختلافا في أسماء المدرسين الذين أخذ عنهم، والكتب التي درس، والفنون التي أخذ على كل واحد منهم. . كما أننا لم نجد من بينهم من ذكر أنه أخذ العلم في غير الرياض.
كما نخرج من هذا الكم والاختلاف أن شيوخ الشيخ محمد كثيرون، واتفاقهم جميعا على الثناء عليه، والاعتراف منهم جميعا له بالذكاء والعلو في المكانة العلمية. . وهذا مما يدل على الموهبة التي خصه الله بها، والمكانة التي سيتبوأ، حيث كان على يديه خير كثير، من نصح وصدق، وحكمة وقفل لعدة أبواب، علاوة على الاهتمام بالعلم والعلماء، والحرص على مواكبة التطور الذي سارت فيه البلاد بالحكمة والإدارة الحسنة.(51/308)
جلوسه للطلبة: جرت العادة بين العلماء، ألا يتصدر حلقات العلم، ولا يجلس للطلاب يقرءون عليه، ويأخذون عنه، إلا من تشبع بالعلم، وأدرك من العلماء ما يخوله لذلك.
والشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - قد بدأت عليه علائم النجابة، وسيماء الذكاء في وقت مبكر، وقد أدرك عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف منه ذلك؛ لأنه كان يتابع مسيرته العلمية، ويسر بما عرف وسمع عن ابن أخيه، من نبوغ وذكاء، مع حرص شديد على العلم: حفظا واستيعابا، حتى أدرك واستوعب في وقت مبكر، فوق ما يدركه غيره في سنوات أكثر، فوضى عليه الملك عبد العزيز - رحمه الله - وزكاه له، من جوانب عديدة.
ولما توفي عمه الشيخ عبد الله في عام 1339 هـ، نفذ الملك عبد العزيز وصيته في ابن أخيه، وذلك أن الشيخ عبد الله في مرض موته، أكد تزكيته لعلم وعقل ابن أخيه، وأنه كفؤ لما يسند إليه من أعمال، وأخبره بكفاءته العلمية، وسعة صدره في معالجة الأمور، وأنه بموجب ذلك يصلح أن يكون خليفة بعده: في إمامة المسجد بدخنة، والتدريس، وحل المشكلات إلى غير ذلك (1) .
ويتناقل كبار السن أن الملك عبد العزيز تحدث مع العلماء والمشايخ عند قبر الشيخ عبد الله، في وداعه الأخير وقال: الله
__________
(1) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 170.(51/309)
يخلف على المسلمين بمن فيه السداد، اليوم دفنا العلم والورع، من ترون يحل مكانه. . فسكتوا. فقال: إن صدق ظني، فلا أجد أحدا يقوم مقامه إلا هذا الكفيف - ولو أنه أصغركم - بعلمه وعمله ونظرته للأمور.
قم يا شيخ محمد تراك محل عمك في جميع أموره من اليوم، الله يجعل فيك بركة، صل بمسجده، واجلس للطلبة يقرءون عليك، فهم في حاجة لمثلك.
ويذكر نجله معالي الشيخ عبد العزيز أن الملك عبد العزيز رحمه الله حين خرج من المقبرة بعد دفن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف جلس في الجانب الغربي من الوادي وجلس من حوله المشايخ والمشيعون فقال ما معناه: " اسمعوا لا تقولوا - وكان يخاطب المشايخ - مات ابن عبد اللطيف فمن خاض فيما لا يعنيه والله لأكونن له بالمرصاد " وهدفه من هذا الكلام أنه لا يرضى من يفتي بدون أن يتلقى من ولي الأمر إذنا بالفتوى أو أي أمر لم يسند إليه؛ حرصا منه على الانضباط ووحدة الفتوى. وقد سمعت وحفظت أن عمه الشيخ عبد الله وشيخه العلامة سعد بن عتيق قد أثنوا على الشيخ محمد ثناء عطرا، والمجتمع كله أيضا قد أدرك فضل الشيخ محمد في علمه وشخصيته المتميزة بالعقل الراجح وحسن الخلق. وحينما تصدر للتدريس كانت مجالسه منذ أن بدأها تغص بالطلاب من داخل البلاد وخارجها.
ويقول محمد العثمان القاضي: لما مرض عمه الشيخ(51/310)
عبد الله بن عبد اللطيف، وزاره الملك عام 1339 هـ، قال: إن ابن أخي، قد تضلع في العلم، وأخذ نصيبا وافرا منه، ولديه مؤهلات تؤهله لما يوكل إليه، فاستمسك بغرره.
وتوفي عمه فعينه الملك عبد العزيز خلفا له في الفتيا والتدريس والخطابة، في الجامع الكبير (1) ، وفي مسجد عمه في حي دخنة، الصلوات الخمس، ويجلس للطلبة فيه، في مختلف الفنون (2) .
ثم قال: فوالى نشاطه التعليمي: فبعد (3) صلاة الفجر إلى الضحى، وبعد الظهر ساعة، وبعد العصر، وبعد المغرب مثلها، والتف إلى حلقته طلبة لا حصر لعددهم، ووفد إليه الطلبة من كل صوب، وظل في تدريسه حوالي نصف قرن، ولم تصده الأعمال الموكلة إليه من نفع الخلق في التعليم، وتخرج عليه علماء عاملون، نفع الله بهم، ما بين أساتذة ومدرسين، وقضاة عادلين في الأصول والفروع والحديث، والتوحيد والتفسير، وصار مسجده ناديا من أندية العلم، وكان حسن التعليم، يرتب الطلبة، فكل طبقة لما يشاكلها: فالمبتدئون يجمعهم على المختصرات، والمتوسطون والمنتهون على المطولات، وكان واسع الاطلاع في الأصول والفروع، والحديث وعلوم العربية، وصار له نشاط في
__________
(1) هو جامع الإمام تركي بن عبد الله بالصفاة بجوار قصر الحكم.
(2) انظر كتابه: (روضة الناظرين) ص 2: 317.
(3) لعله يقصد تحديد أوقات جلوسه للطلاب.(51/311)
الإفتاء والإرشاد، والنصائح والتعليم منقطع النظير (1) .
لكن عبد الرحمن بن عبد اللطيف في كتابه مشاهير علماء نجد وغيرهم، قد توسع في تبيين طريقة تدريسه، وأوقات جلوسه، فقال: فكان - رحمه الله - إذا صلى الفجر جلس في المسجد يقرأ عليه صغار الطلبة في الآجرومية في النحو، وبعدهم يقرأ عليه متوسطو الطلبة في القطر لابن هشام في النحو، وبعدهم يقرأ عليه كبار الطلبة في ألفية ابن مالك، وشرح ابن عقيل، فإذا انتهوا من قراءة النحو، في الألفية والشرح، قرءوا عليه في الفقه، في متن الزاد- زاد المستقنع- غيبا، فإذا قرأ آخرهم وسكت، أخذ الشيخ في إعادة ما قرءوه من المتن من حفظه، وشرع يتكلم على العبارات، ويوضح معاني الكلمات، فإذا انتهى شرع أحد الطلاب في قراءة شرح الزاد: المسمى الروض المربع، شرح زاد المستقنع. . قراءة ترتيل، يقف عند كل فقرة وجملة، والشيخ يعلق على عبارات الشارح وجمله بكلام يوضح المعنى ويزيح الإشكال، ويصور المسائل تصويرا ملموسا،
__________
(1) انظر (روضة الناظرين) 2: 317، 318.(51/312)
يقرب المعاني الفقهية إلى أذهان الطلبة، ويقرر قواعدها في نفوسهم؛ لأنه - رحمه الله - آخذ بناصية علم الفقه، ومتبحر فيه تبحرا عظيما، فإذا انتهى من تقريره على الفقه شرعوا في القراءة عليه في بلوغ المرام، فإذا أشارت الساعة إلى الواحدة نهارا، انصرف إلى داره، وجلس فيها، فإذا حانت الساعة الثالثة جاءه كبار الطلبة وخواصهم، وقرءوا عليه إلى الساعة الخامسة نهارا، ثم انصرفوا، فإذا أدن الظهر، خرج وصلى بالناس في المسجد، وجاءه أهل المطولات وقرءوا عليه في مختلف الكتب، كجامع الترمذي، وصحيح البخاري، وزاد المعاد في هدي خير العباد، فإذا انتهوا قرأ عليه بعض الطلبة في بعض المتون العلمية غيبا، مثل: كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، فإذا أذن العصر خرج إلى داره، وجدد وضوءه، ثم رجع وصلى بالناس العصر، وجلس في المسجد يقرأ عليه أحد الأعيان من الطلبة، في بعض الردود، فإذا انتهى قرأ عليه جملة من الطلبة في مصطلح الحديث، فإذا انتهوا قرءوا عليه في العقيدة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإذا بقي على أذان المغرب مقدار نصف ساعة، خرج إلى داره، فإذا أذن المغرب جاء وصلى بالناس، ثم جلس في المسجد للطلبة، يقرءون عليه علم الفرائض، والمواريث، فإذا ختم وأذن للعشاء قام من حلقة درس الفرائض إلى الصف الأولى وتنفل، ثم أمر القارئ، فشرع يقرأ عليه في تفسير ابن كثير إلى الساعة الثانية والنصف - بالتوقيت الغروبي، فيأمر بإقامة الصلاة للعشاء، فإذا(51/313)
أقيمت وصلى بالناس تنفل وأوتر وخرج إلى داره، وهي قريبة من مسجده، واستمر على هذا الترتيب في الدروس بهذه الصفة، من عام 1339 هـ إلى عام 1380 هـ، حيث ترك جميع الدروس، ما عدا درس الفقه، وبلوغ المرام، فإنه لم يترك الجلوس لهما، بعد صلاة الفجر إلى أن حبسه المرض (1) .
والشيخ عبد الله بن منيع في حديثه عن الشيخ محمد - رحمه الله - ذكر توزيع سماحته وقته في التدريس بين طلابه حسب مستوياتهم، حيث يبدأ وقته اليومي، من صلاة الفجر حتى الساعة الثانية والنصف ليلا بالتوقيت الغروبي، حيثما يخلد للراحة، قال: وكل ما تقدم من دروس النحو، ودروس الفقه، ودروس الحديث في جلسة واحدة من جلساته، والتلاميذ على حلقته الكبيرة، ما بين وارد وصادر، وهو في مجلسه كالنبع الصافي، والمورد العذب، الذي لا ينضب على كثرة الواردين، وازدحام الناهلين، ثم يذهب إلى بيته، فيلبث فيه بقدر ما يفرغ من حاجاته الضرورية، ثم يعود إلى مجلسه في المسجد، فيأتيه الطلاب، ويشرعون بالقراءة عليه بالكتب الكبار، والمراجع الضخام.
إلى أن قال: وهكذا فقد فرغ كل أوقاته، وصرف جميع حالاته، في خدمة العلم وتحصيله، ونشره.
ومن هذا الإقبال العظيم على العلم، والانصراف إلى مراجعته، وتدريس وسماع هذه الكتب النافعة والأسفار المفيدة،
__________
(1) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 172.(51/314)
ندرك السر في سعة علمه، وكثرة تحصيله، ومدى اطلاعه. وقد لبث على هذه الحال، منذ توفي عمه في عام 1339 هـ، حتى عام 1382 هـ، حينما أسندت إليه كبار الأعمال، وتعددت مسئولياته، وكثرت مشاغله (1) .
وقد ذكر الشيخ حمد الجاسر أنه عندما أسندت إليه إدارة التعليم في نجد قابل سماحته ولمس منه رغبة وموافقة على تدريس العلوم النافعة الحديثة، وأن من الخير له أن يقوي صلته بالشيخ؛ لمكانته من النفوس ولصفته العلمية التي لا تجهل، كما أن جل موظفي التعليم من تلامذته، وفي 28 \ 2 \ 1369 هـ كتب تقريرا برقم 61 لولي العهد سعود رحمه الله، مطولا عن اقتراحاته في التعليم، وعن رأي الشيخ محمد بن إبراهيم بعدما قابله، ويقول: لا خوف على مسار التعليم طالما كان تأسيس المعاهد والمدارس على اختلافها تحت إشرافنا الذي يتولاه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فبعثه ولي العهد برقم 745 وتاريخ 2 \ 3 \ 1369 هـ للشيخ محمد بن إبراهيم ليأخذ رأيه وإفادته بما يرى فيه، وكان من نتيجة ذلك فتح المعاهد العلمية، أولها معهد الرياض عام 1371 هـ (2) .
ومن هذه الإلمامة بعرض من تطرقوا لطريقة الشيخ محمد في التعليم، وحرصه على طلابه تعليما، ووقته تنظيما، فإننا
__________
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 216- 218.
(2) صحيفة اليوم الصادرة يوم الجمعة 24 \ 1 \ 1418 هـ وفيها تفاصيل أكثر.(51/315)
نلاحظ أن مشاغله الكثيرة لم تصرفه عن الاهتمام بالعلم، وتشجيع الطلاب عليه، فقد حرص على توسيع القاعدة العلمية، والاهتمام بتوجيه ورعاية طلاب العلم؛ حيث تبنى فتح المعاهد العلمية في مدن المملكة، وكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، ووافق الملك على اقتراحه، ولكي يستقطب أكبر عدد ممكن من الطلاب عرض على الملك عبد العزيز - رحمهما الله جميعا - وضع مكافآت مجزية للطلاب، وحظي هذا العرض بالتأييد، فكان الشيخ محمد يحضر الدروس ليستمع إلى الطلاب في فصولهم، ويناقشهم ليعرف مستواهم العلمي، ويلتقي بالمدرسين ليشجعهم ويطمئن على سلامة تدريسهم وعلى قدراتهم العلمية.
كما كان يخصص يوما يلقي فيه كلمة توجيهية في المدرسين والطلاب، ويجيب على أسئلتهم، ويحضر النادي الثقافي في مساء الخميس من كل أسبوع بالمعهد العلمي بالرياض، ويستمع لما يلقى فيه، ويعلق وينبه على كل ما يراه ضروريا.
كما تولى سماحته الإشراف على مدارس دور الأيتام في المملكة وفي عام 1380 هـ صدر أمر بالموافقة على تعليم البنات في المملكة، وأن يكون بإشراف ورعاية الشيخ محمد بن إبراهيم؛ حيث سار التعليم في دور الأيتام، وفي مدارس البنات بالمملكة، على توجيهاته، ورقابته الدينية.
وعلاوة على ذلك، لم يغفل الشيخ محمد الصحافة(51/316)
والتأليف، وما يصدر فيه من جديد، فكان متابعا لذلك باهتمام بالغ وبدقة؛ ليوجه من شطح قلمه، ويعلم من انحرف فكره، وينبه من غفل قلبه، في أدب جم، ودأب وصبر، ومثابرة على التعليم وحسن التوجيه، فكان الشيخ محمد - رحمه الله - هو المؤسس في عام 1385 هـ لمؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية، والتي صدر عنها مجلة الدعوة.
فالمتابع لأسلوب ومنهج الشيخ في التعليم ومتابعة طلابه، وفي حكمته وسعة صدره في معالجته للأمور، يدرك أنه قلعة منيعة، بعلمه الواسع، ونظرته البعيدة، وصبره على عظائم الأمور، وحلمه في المواقف العصيبة، وصلابته في الحق، وحرصه على سد الذرائع، ودرء المفاسد.
ولذا يروى عنه رحمه الله، أنه لما ناقشه بعض المتحمسين في بعض المسائل التي له نظرة خاصة فيها، بعيدة المرمى، قال للمناقش: ستعلمون عن مكانة محمد بن إبراهيم، وحسن تصرفه في معالجته الأمور، بعدما تفتقدونه. وما ذلك إلا أنه رحمه الله كان يعلم ويوجه، ويعالج كل معضلة بما يناسبها، فمن عليه ملاحظة يعالجها بطريقة خاصة بينه وبين من لوحظ عليه؛ حيث ينفرد به، وينصحه بأفق واسع، وصمت وهدوء، ثم يلي ذلك المتابعة وتحسس صدق إنابته، كل ذلك يراعي فيه تغليب المصلحة، وعدم جرح الشعور؛ لأنه يرى أن لكل جواد كبوة.
وكان يراعي في معالجته الأمور القاعدة الأصولية التي(51/317)
تنادي بأن دفع المفاسد مقدم على جلب المنافع. . وإيثار المصالح.(51/318)
أبرز تلاميذه: لم تستقطب الرياض طلابا بقدر ما استقطبت على يد الشيخ محمد بن إبراهيم؛ حيث سطع نجمه في وقت مبكر، وعلا ذكره العلمي، فلفت الأنظار، واتجهت إليه المجاميع من أنحاء الجزيرة العربية، بل ومن خارجها منذ جلس للتدريس، فالتف حوله طلاب العلم، بحرص ورغبة، لكي ينهلوا من معين علمه الثر، للأسباب التالية: - ما جعله الله من قبول في القلوب، وسمعة حسنة لدى القاصي والداني، وما جبلت عليه طباعه من خصال عديدة وحميدة، ترغب في القرب منه، وتحبب في الأخذ عنه، وتزيل الهيبة، وتباعد عن الجفوة.
- ما جبلت عليه نفسه من حب في نشر العلم، وهمة عالية في توصيل ما أفاء الله به عليه للآخرين، حيث يرى أن أمانة العلم في تبليغه، وعدم كتمانه.
- حرصه على التطبيق العملي في نفسه؛ أولا: خوفا من التأثم بكتمان العلم، وثانيا: اهتمامه بإرواء نهم المتعطشين للنيل من موارد العلم العذبة، وثالثا: رجاء أن يترك أثرا علميا ينتفع به ليكون له في العمل المستمر الصالح.
- إخلاصه وبذله من جهده ووقته فوق ما يتحمله غيره، حرصا(51/318)
منه على أداء الأمانة، وشعورا بحاجة العباد والبلاد إلى العلم، الذي به السعادة والخير في الدنيا والآخرة.
- تواضعه مع طلابه، فهو للصغير أب يمحضه النصح والتوجيه، وللمتوسط أخ يتداول معه الرأي ويأخذ معه ويعطي، وللكبير ند يتشاور معه، ويتداول الأمور؛ ليستفيد كل منهما علميا ومباحثة من صاحبه.
ولصدقه وحصافة رأيه، فقد تجاوب معه الملك عبد العزيز - رحمهما الله - ويسر للطلاب السبل المعينة على التفرغ للدراسة بحلقة الشيخ محمد خاصة، والمشايخ الآخرين عامة وذلك: - بتوفير مساكن وأربطة لطلبة العلم، أكبرها وأهمها رباط دخنة المجاور لمسجد الشيخ عبد الله، الذي إمامه الشيخ محمد بعد وفاة عمه منذ عام 1339 هـ، ويقع جزء من هذا الرباط والمكتبة السعودية في مبنى مجمع المحاكم بالرياض في دخنة.
- بعدما ازداد عدد الطلاب، وضاق بهم رباط دخنة وما حوله، أوجدت مساكن أخرى متعددة لإسكان الطلبة واستيعاب عددهم المتكاثر سنة بعد أخرى، عرفت باسم بيوت الإخوان.
- الحرص على إتاحة الفرصة في العمل للنابهين القادرين من كبار الطلبة: في القضاء والوعظ والدعوة والإمامة والتدريس. . كل في الموقع المناسب له.
- تنظيم ترحيل هؤلاء الطلبة إلى ديارهم وقت الإجازة،(51/319)
ولأعمالهم لمن يكلف بعمل على حساب الدولة.
- وضع مخصصات للطلاب تصرف لهم من المالية: أرزاقا وكسوة في بادئ الأمر، ثم تحولت إلى مبالغ نقدية بعدما استقرت ميزانية الدولة، وثبت دخلها. . لكي تعينهم على التفرغ للعلم، وتكفيهم مؤونة البحث عن لقمة العيش.
وقد تحقق بذلك نتائج جيدة، فكان مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في دخنة جامعة علمية كبيرة، تخرج منه على يدي الشيخ محمد - رحمه الله - أفواج كثيرة من العلماء، شغلوا مناصب مهمة في الدولة، ولا يزالون. . لعل من أبرزهم، حيث لن نستقصي تعدادهم ولا أعمالهم لكثرتهم، ولكن نشير لمن أوردنا إلى آخر عمل قام به: 1- الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد - رحمه الله - وآخر عمل تولاه: رئيس المجلس الأعلى للقضاء.
2 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - أمد الله في عمره - مفتي عام المملكة العربية السعودية.
3 - الشيخ سليمان بن عبيد آل سلمي - رحمه الله - آخر عمل تولاه: الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي.
4 - الشيخ عبد الله بن يوسف بن وابل - ختم الله له بالجنة - قاضي أبها ونزيلها حاليا الذي أصيب بمرض لازمه طويلا.
5 - الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد - رحمه الله - أول رئيس(51/320)
لمدارس البنات وآخر عمل قام به: رئيس محكمة التمييز بالرياض.
6 - الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ - شقيق الشيخ محمد رحمهما الله - آخر عمل قام به: الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الغربية ومقره مكة.
7 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - آخر عمل قام به: وزير المعارف ثم رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8 - الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ - رحمه الله - أحد علماء الرياض ووجهائها.
9 - الشيخ صالح بن محمد اللحيدان. . رئيس المجلس الأعلى للقضاء حاليا.
10 - الشيخ محمد بن إبراهيم البواردي - رحمه الله - آخر عمل قام به: القاضي بمحكمة التمييز بالرياض.
11 - الشيخ صالح بن علي بن غصون آخر عمل قام به: عضو هيئة كبار العلماء، والقاضي بمجلس القضاء الأعلى قبل تقاعده.
12 - الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش - رحمه الله - رئيس محكمة مكة.
13 - ابنه الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ المستشار بالديوان الملكي حاليا.(51/321)
14 - ابنه الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ - آخر عمل قام به قبل تقاعده: وزير العدل.
15 - الشيخ راشد بن صالح بن خنين - المستشار بالديوان الملكي حاليا.
16 - الشيخ سعود بن رشود رئيس محكمة الرياض الكبرى سابقا - رحمه الله.
17 - الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل وفاته - رحمه الله.
18 - الشيخ محمد بن عبد الله بن الأمير عضو المجلس الأعلى للقضاء حاليا.
19 - الشيخ علي الرومي القاضي بمحكمة التمييز بالرياض حاليا.
20 - الشيخ غيهب بن محمد بن غيهب القاضي بمحكمة التمييز بالرياض حاليا.
21 - الشيخ محمد بن الشيخ عبد الرحمن بن قاسم الذي جمع فتاوى سماحته.(51/322)
وقد أورد فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع 33 عالما، كلهم أخذوا عن سماحته، ومن أبرزهم ممن لم يرد لهم ذكر عند غيره: 1- الشيخ حمد الجاسر. . علامة الجزيرة وباحثها.
2 - الشيخ محمد بن هليل - رحمه الله - القاضي بالدوادمي.
3 - الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، جامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وأول أمين للمكتبة السعودية بالرياض - رحمه الله.
4 - الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي داعية الجنوب - رحمه الله - والذي نفع الله به في جنوب المملكة واليمن.
5 - شقيقه وعضده في التعليم بعدما فتحت المعاهد: الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله.
6 - الشيخ الدكتور: حمد بن محمد بن فريان، وكيل وزارة العدل السابق، وعضو مجلس الشورى.
7 - الأمير مساعد بن عبد الرحمن - رحمه الله - وزير المالية سابقا وصاحب أكبر وأقدم مكتبة خاصة بالرياض.
8 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل، عضو المجلس الأعلى للقضاء سابقا.
9 - الشيخ محمد بن عبد الله بن عودة، آخر عمل قام به: الرئيس العام لتعليم البنات.
10 - الشيخ الدكتور عمر بن عبد العزيز المترك - رحمه الله -(51/323)
المستشار بالديوان الملكي سابقا.
11 - الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان عضو الإفتاء، وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة.
12 - الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة التمييز بمكة، وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة.
وقد أورد شهادة من سماحته له تاريخها 1 \ 6 \ 1384 هـ تتضمن التزكية العلمية (1) .
وخلاصته أن غالب علماء المملكة هم من تلاميذه، ذلك أن الشيخ مورد عذب، ترده الجموع من طالبي العلم، فينهلون من معينه، فيصدرون بعد ارتواء.
ولما تكاثر عددهم، ورأى حاجة البلاد بعد استقرارها، وتشعب الأعمال فيها، فقد اقترح الشيخ محمد - رحمه الله - على الملك عبد العزيز - رحمه الله - فتح المعاهد والكليات في عام 1370 هـ، حيث تحول طلابه إلى الدراسة بها، كل بحسب مستواه العلمي، وكان له الإشراف التعليمي والمتابعة، وأسند الإدارة لأخيه الشيخ عبد اللطيف، الذي كان له عضدا، يعمل بما يوجهه، ويتابع العمل مباشرة عنه.
وقد تحولت المعاهد والكليات فيما بعد إلى جامعة أخذت اسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فنفع الله بها وبمن
__________
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 216 - 219.(51/324)
تخرج منها في داخل المملكة وخارجها.(51/325)
مؤلفاته: مع ما حبا الله الشيخ محمدا من علم وافر، وقدرة على الاستيعاب، وفهم لأقوال العلماء، واستظهار المسائل، كما يبرز هذا في فتاواه، وفي منهجه في التدريس.
ومع المدة الطويلة التي قضاها في التحصيل والاستيعاب متفرغا للعلم، ثم بما تبوأ من صدارة بعد وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف في عام 1339 هـ إلى أن توفاه الله في عام 1389 هـ، وهي نصف قرن من الزمان.
مع هذا كله، إلا أن مؤلفات الشيخ محمد - رحمه الله - تعتبر قليلة، بالنسبة لهذه الأمور والمهمات التي تولى، وللمدة الزمنية التي استغرق.
وما ذلك إلا أن الشيخ محمدا، كان في الدور التأسيسي للمملكة من ناحية التعليم والقضاء، وتنظيم أمورهما في مملكة واسعة الأرجاء، حديثة البناء، قليلة العدد من العلماء والمتعلمين، فكان من همة الشيخ محمد، وحصافة رأيه، الاهتمام بانتقاء الرجال، والجلوس لهم تعليما وتوجيها، وتهيئتهم لتحمل المسئولية العلمية: في القضاء، والدعوة، والتعليم.
ولكي يتحقق ما كان يصبو إليه، فإنه قد أعطى من نفسه ووقته نموذج العمل، ونظم الجلسات للطلاب الذين توافدوا عليه من أنحاء المملكة وخارجها، يأخذوا عنه، بعد أن أعانهم على(51/325)
ذلك بما حرص عليه من تهيئة ما يعينهم على التفرغ للعلم، وبذل الأسباب المعينة على التحصيل.
وكان الشيخ محمد - رحمه الله - قد رغبهم في ذلك: بالبشاشة وحسن الاستقبال، وبالليونة وبسط الوجه، كما هيأ لهم كل وقته، تعليما على جميع المستويات، وفي أنواع المعارف الشرعية والعربية؛ لأنه - رحمه الله - كان موسوعة علوم، وحافظا متمكنا للمتون، وكان يردد على طلابه القول المأثور: حفظ المتون يشذ المتون.
كما كان قدوة لتلاميذه الذين أصبحوا علماء في جهات المملكة، بما رسم لهم من برنامج يومي، وأسلوب جيد في المحادثة، وحسن الاستماع، مع حسن خلق وتنظيم للوقت بين عمل الدين والدنيا.
فكان طلابه يأخذون منه ما طبقوه عملا بعدما تحملوا المسئولية في أعمالهم المناطة بهم: في التدريس والدعوة، وفي التنظيم بين العامة والطلاب، وفي الورع عند إصدار الأحكام، وفي التأدب معه واستشارته ورفع الأمر إليه في مجال الغيرة على الدين، والعقيدة، وإنكار المنكرات، وفي وقار القاضي، وهيبة مجلس القضاء، وفي التعفف عما في أيدي الناس، والبعد عن المجالس التي تنزل قدر طالب العلم، وفي الحرص على انتهاج طريق السلف الصالح في مكانة العلماء وعبادتهم.
وكل هذه الأمور تغني عن مؤلفات في مجالها؛ لأنه زرعها(51/326)
في رجال آتت أكلها على الوجه المرضي. . ومع هذا فكان يتابع ويوجه، ويراقب جميع طلابه في أعمالهم، ويمحضهم نصحه، ويعاقب من يراه أهلا للعقاب بأسلوب رقيق مهذب.
يقول معالي الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد بن إبراهيم: إن الشيخ محمدا لما عزم على تعيين الشيخ عبد العزيز بن باز في الجامعة الإسلامية بالمدينة، استدعاه وعرض عليه هذا الأمر فأجابه الشيخ عبد العزيز قائلا: أنا لا أرغب في ذلك. فقال الشيخ محمد رحمه الله، لا يخفاك أهمية هذه الجامعة وأملنا كبير في أن تنتشر منها الدعوة الإسلامية في العالم، إن شاء الله. فقال الشيخ ابن باز: إذا كنت تؤكد علي في ذلك فليس لدي إلا السمع والطاعة. فقال له الشيخ: أرى أنه لا يصلح لهذه الجامعة إلا أنت، فتوكل على الله. فقال الشيخ عبد العزيز: سمعة وطاعة وأخذ عصاه، وقام ممتثلا لما ألزمه به الشيخ محمد. وكان في تعيينه في هذه الجامعة الخير الكثير (1) .
فكان الشيخ إماما في عمله، يتحمل أعباء كثيرة لصالح الأمة، وتعليم أبنائها، مما شغله عن الإكثار من التأليف، لكنه لم ينشغل عن التعليم والإشراف عليه، وإفادة الناس بالإفتاء والتوجيه والإرشاد، كما سيبين ذلك من أعماله.
ولعل أهم مؤلفات الشيخ رحمه الله، تلك الفتاوى التي جمعت بعد وفاته، وخرجت في 13 مجلدا والتي تنبئ عن غزارة
__________
(1) المصدر: الشيخ صالح بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد خطيا.(51/327)
علمه، وسعة مداركه، ونظرته لأمور جدت في حياة الناس، هي نظرة العالم المتبصر، الذي يجمع بين العلم بنصه الشرعي، وبين العقل والحكمة في معالجة الأمور: قياسا، واجتهادا واستصحابا للحال. . وقد رتب على البداية بالعقائد، ثم أصول الفقه، ثم وزعت على أبواب الفقه المختلفة.
وقد برز فيها علمه الغزير، ونظرته الواسعة للأمور، مما يشبع معه نهم المسترشد. وسوف نورد في هذه العجالة من ترجمته نماذج لفتاواه، يدرك منها القارئ سعة علمه، مع أن كثيرا من فتاواه كانت تلقى مشافهة، أو تكتب برسائل تحمل إجابات شخصية، لم يتوفر منها شيء، ولم تضم لهذه الحصيلة العلمية التي بقيت بعده رحمه الله.
وقد ذكر عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ مؤلفات الشيخ محمد إجمالا، فقال: ألف مؤلفات وكتبا عديدة، ورسائل كثيرة، وله فتاوى تبلغ مجلدات، جمعها ورتبها الشيخ محمد بن قاسم، وله فتاوى غير ما جمعه ابن قاسم، تبلغ عدة مجلدات لا تزال محفوظة في ملفات دار الإفتاء وفتاوى كثيرة، وله مجموعة أحاديث في الأحكام، رتبها على أبواب الفقه، لا تزال محفوظة في ملفاتها (1) .
وجاء في الهامش: من مؤلفاته: الجواب المستقيم طبع بمطبعة الثقافة بمكة، ورسالة تحكيم القوانين طبع غرة رجب عام
__________
(1) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 177.(51/328)
1380 هـ بمطابع دار الثقافة بمكة، ورد على كتاب نقض المباني (1) .
ويقول محمد العثمان القاضي: وله مقالات في الصحف، وتنشر في الإذاعة مفيدة، وقد أملى رسائل عديدة، وفتاوى تبلغ مجلدات ضخمة (2) .
أما الأستاذ عبد الله الرويشد في كتابه قادة الفكر، فقد ذكر عن مؤلفات الشيخ محمد بن إبراهيم كلمة مجملة، وبعضا من الكتب، فقال: وله تآليف كثيرة منها: 1- مجموع في علم الحديث.
2 - مجموع خطب منبرية.
3 - مجموعة فتاوى تكون أربعة مجلدات (3) .
4 - نبذة رسائل ونصائح موجهة للأمة الإسلامية (4) .
ومحمد بن قاسم الذي جمع ورتب مجموع فتاواه، اعتذر للشيخ عن قلة التأليف بكثرة الأعمال المناطة به، وأنه كثير التأمل، شديد المحاسبة لنفسه، ومسئوليته تحتم عليه أن لا يكتب إلا بعد تحر طويل؛ لأن كلمة منه تعد حجة يتعلق بها العامة
__________
(1) انظر هامش المصدر السابق ص 177.
(2) انظر كتابه (روضة الناظرين) 2: 318.
(3) لعله قال هذا قبل خروج فتاوى سماحته التي أشرنا إلى أنها بلغت 13 مجلدا.
(4) انظر كتابه (قادة الفكر) ص 405 - 406.(51/329)
والخاصة. ومع ذلك فإن حياته لم تخل من كثير من الرسائل والفتاوى التي كتبها في مناسبات مختلفة.
على أن أجل أثر من آثاره، هذا الأثر الكبير الذي نقدمه هذا اليوم، والمتمثل في فتاواه التي بلغت عشرة أجزاء، لو لم يكن له أثر سواها لكفى به فخرا، لم يصل إليه غيره من أهل عصره، وقد كان ذلك بأمر من الملك فيصل مؤرخ في 7 / 10 / 1390 هـ، وقد أسندت دار البحوث والإفتاء ذلك للشيخ محمد بن قاسم (1) .
ومما ينبغي التنويه عنه من آثاره، أنه اختار ألف حديث في أبواب مختلفة (2) .
وعمر رضا كحالة ذكر في المستدرك على معجم المؤلفين في ترجمة الشيخ محمد، عن مؤلفاته قوله: وأملى من تأليفه كتبا، منها: الجواب المستقيم، تحكيم القوانين، مجموعة أحاديث الأحكام، والفتاوى من عدة مجلدات (3) .
وقد أشار إلى أنه استقى هذه المعلومات عن خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام، ولعل الزركلي أخذ هذه المعلومات عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف في كتابه مشاهير علماء
__________
(1) انظر الجزء الأول من المجموع ص 22- 23.
(2) انظر ص 582.
(3) تراجع (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 236- 237.(51/330)
نجد وغيرهم.
أما الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، الذي التصق بالشيخ محمد في العمل فترة تزيد عن عشر سنين، فقد قال: لم يكن من الشيخ محمد رغبة في التأليف، فقد يكون سبب ذلك انشغاله بأعماله، وبالرغم من ذلك فله رسائل صغيرة، في زكاة العروض، وفي حكم الدخان والقات، ومعالجة غلاء المهور وغيرها، وقد ضمت هذه الرسائل في مجموع فتاواه.
ثم قال: لقد كان رحمه الله شديد الحرص على ألا يخرج لسماحته إلا ما تطيب به نفسه، وما أقل ما ترضاه نفسه العالية، ثم ذكر رؤيا منه للشيخ محمد، بعد وفاته بشهر، يحرضه فيها على التثبت من فتاواه التي ستجمع (1) .
والشيخ إسماعيل بن عتيق، وهو ممن عاش في بيت الشيخ صغيرا، وتربى في كنفه، قال في كتابه (تاريخ من لا ينساه التاريخ) : أما شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، فلم يكن صاحب قلم أو ردود على أحد، فقد اتخذ منهج التدريس منهجا عمليا في تكوين الجماعة، وإقامة الأمة في تبصيرها عمليا، فقد يكون في بعض الردود شهرة المردود عليه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن سلطة الحكم في يد الشيخ، فقد يعاقب المناوئ أو المنحرف بعدالة السلطان، وحكم القرآن من غير حاجة إلى الردود والتوضيح.
__________
(1) ينظر خبر ذلك في (جريدة البلاد) يوم الخميس 20 رمضان 1392 هـ.(51/331)
ثم ذكر خمسة نماذج لمن خالف الشيخ فيما يفتي به، وطريقة الشيخ محمد في إثبات ما يراه وما يفتي به، دون حاجة للردود المكتوبة، وهذه الحالات باختصار هي: 1- عندما كتب الشيخ عبد الرحمن بن سعدي اجتهادا منه: أن يأجوج ومأجوج هم الصين، فقد استدعاه الملك عبد العزيز مع المشايخ برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم، وانتهى الاجتماع بعدم الحاجة لمثل هذا البحث واعتذر الشيخ ابن سعدي.
2 - قام الشيخ عبد الله بن محمود رئيس محاكم قطر بتأليف نسخة من مناسك الحج، خالف فيها جمهور العلماء والمفتى به والمعمول به حول المبيت بمزدلفة، والرمي قبل الزوال في أيام التشريق، فرأى الشيخ محمد بن إبراهيم استدعاء ابن محمود عند الملك سعود، ومناقشته وذلك بحضور المشايخ، وبعد المناقشة أبدى ابن محمود استعداده على نقض كلامه، والرجوع عنه فور عودته إلى قطر، ولما لم يف قام الشيخ محمد بالرد عليه، وشدد في رده، وأخبر بما حصل منه من الوعد، وهو مطبوع متداول.(51/332)
3 - بعد توسعة الحرم المكي، كان الشيخ محمد يرى أنه لا مانع من إزاحة المقام كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث كان المقام ملاصقا للكعبة فأزاحه عمر توسعة للمطاف، فحصل ضجة تبناها الشيخ سليمان بن حمدان، المدرس في المسجد الحرام، وكتب نسخة يرد بها على الفتوى، فصدر الأمر بإبقاء المقام مكانه مع هدم البناية فوقه، وإبقائه في بلورة من الزجاج.
4 - وقد ألف سماحته رسالته في وجوب تحكيم الشرع، وذلك ردا على ما صدر من أنظمة حول التعامل التجاري في عام 1369 هـ، وقد كان - رحمه الله - يؤكد على جميع القضاة، عدم صرف النظر في أي قضية كانت، وعليهم أن يحكموا بما يرونه شرعا، وليس له اعتراض على جهة التنفيذ.
5 - كان الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ولا يزال، يفتي لمن طلق ثلاثا بلفظ واحد طلقة واحدة، كما هو مذهب عمر بن الخطاب، وأفتى به ابن تيمية، وهذا مخالف لما يفتي به الشيخ محمد بن إبراهيم، غير أنه لم يلزم الشيخ ابن باز بالرأي الآخر، حيث الأمر فيه سعة، مع أن الشيخ محمدا يرحمه الله، لا يرى تعدد الفتوى في مسألة واحدة بين العلماء، كما أن الشيخ عبد العزيز بن باز طبق عمليا صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة في جامع الرياض، وهذا كان مخالفا لما عليه مساجد الرياض عموما.(51/333)
وكان الشيخ لا يرى غير ما عليه الجمهور والمعمول به، وهو عشرون ركعة والوتر، ثم أورد حادثة حصلت للشيخ إبراهيم ابن عبد الله بن عتيق، الذي كان قاضيا في الشمال، فصلى التراويح إحدى عشرة ركعة فجاءه برقية من الشيخ محمد، بأن يصلي كما يصلي الناس، فعاد وصلى عشرين ركعة، كما أمر سماحته.
وبعد أن ساق هذه الأمثلة قال: وندرك أن الحاجة للتأليف في الرد على المخالف ليس بضروري ولا حاجة له، وما دامت السلطة هي الموجهة في حل النزاع والخصام، كما قال عثمان رضي الله عنه: " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " (1) .
والعارفون بالشيخ محمد رحمه الله عن قرب، يرون أن له في هذا نظرة بعيدة، تتمثل في خوفه على الأمة من تعدد الفتوى، فيكون من ذلك نتائج بانت آثارها في عصور مختلفة، وفي جهات من ديار الإسلام، ومن ذلك الفرقة، والتطاول على الفتيا ممن لا يحسنها، والأخذ بالرخص، واتساع شقة الخلاف والشحناء بين طلبة العلم.
__________
(1) انظر كتابه (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 53 - 56 حيث اختصرنا منه ما يفي بالمطلوب.(51/334)
أعماله: مر بنا أن عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، لما مرض لفت نظر الملك عبد العزيز إلى كفاءة ابن أخيه العلمية، مع(51/334)
رجاحة عقله وحكمته، وعندما توفي عام 1339 هـ أسند الملك عبد العزيز أعماله إلى الشيخ محمد بن إبراهيم: من إمامة مسجده في حي دخنة، والخطابة وصلاة الجمعة في الجامع الكبير، جامع الإمام تركي بن عبد الله، والتدريس في مكانه، الذي استمر فيه إلى قبيل وفاته، حيث تفرغ للأعمال الكبيرة المناطة به.
وفي عام 1374 هـ أنشئت دار الإفتاء والإشراف على الشئون الدينية، ورئاسة المعاهد، فأسندت رئاسة هذه الأمور إليه، ويرى الشيخ إسماعيل بن عتيق أن الافتتاح عام 1373 هـ حيث كان يدعى الشيخ محمد بالمفتي، وقد كتب على أوراق مراسلته المفتي الأكبر، فنهى رحمه الله عن ذلك، ورفض تلقيبه بهذا اللقب، حيث كان ملفتا للنظر، وأمر بإلغاء اللقب والإبقاء على كلمة المفتي (1) .
وفي عام 1376 هـ توفي الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - رئيس القضاة بالحجاز، والمنطقة الغربية، فضمت إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - فكان رئيس القضاة في المملكة العربية السعودية (2) .
ولحبه للعلم، واهتمامه بالعلماء، حيث أدرك بحصافة رأيه، وبعد نظره حاجة البلاد والعباد إلى العلم، فقد قدم اقتراحا للملك عبد العزيز - رحمهما الله - يتضمن فكرة إنشاء معهد علمي
__________
(1) المصدر السابق ص 36.
(2) انظر (روضة الناظرين) للشيخ محمد القاضي 2: 319.(51/335)
بالرياض يجمع طلبة العلم، وتنتظم به دراستهم، فوافق عليه الملك، وتم الافتتاح عام 1370 هـ لمعهد الرياض العلمي الذي كان بداية للمعاهد العلمية التي شملت مدن المملكة فيما بعد، فكان هو الرئيس والمشرف على الدراسة والمناهج التعليمية، واختيار المدرسين، وكان يتخول المعاهد بزياراته، ويتناقش مع الطلبة في فصولهم ليتعرف على مستواهم، كما كان يحضر النادي بالمعهد ليلة الجمعة، ويعلق على ما يدور فيه، وكان حريصا على معرفة مستوى المدرسين مع طلابهم (1) .
وفي عام 1373 هـ أنشئت كلية الشريعة بالرياض، وفي عام 1374 هـ أنشئت كلية اللغة العربية بالرياض، كما تحصل الشيخ محمد في عام 1374 هـ على أمر ملكي يخوله افتتاح فروع لمعهد الرياض، فأمر سماحته بافتتاح ستة معاهد في كل من بريدة، وشقراء، والأحساء، والمجمعة، ومكة، وسامطة (2) .
وفي عام 1373 هـ تم إنشاء دار الإفتاء والإشراف على الشئون الدينية: المساجد ودور الأيتام والإفتاء، وغير ذلك.
وقد تعين في عام 1376 هـ ابنه معالي الشيخ إبراهيم بعد تخرجه من كلية الشريعة بنفس العام نائبا له في إدارة الإفتاء والإشراف على الشئون الدينية (3) .
__________
(1) راجع (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 37.
(2) راجع (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 179.
(3) انظر (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 36.(51/336)
وكان هو المرجع للقضاة: تعيينا وعزلا، وتأديبا وتمييز أحكام منذ عام 1376 هـ، حيث تم إيجاد رئاسة القضاة في المملكة، فكان هو الرئيس في المنطقة الوسطى والشرقية، حتى عام 1378 هـ، حيث أسندت إليه مهمة رئاسة القضاة في المملكة، بعد وفاة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، الذي كان يشرف على قضاة الحجاز، والمنطقة الغربية، فأخذ الشيخ منذ ذلك التاريخ لقب: المفتي ورئيس القضاة في المملكة العربية السعودية.
ولرغبته رحمه الله في التخفف من الأعمال الإدارية، فقد أسند رئاسة القضاة إلى نجله الأكبر الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم (1) .
وقد اقتنع سماحته في عام 1379 هـ بأهمية تعليم المرأة، فقدم مشروعا وافق عليه الملك سعود - رحمهما الله - بافتتاح مدارس البنات في مدن المملكة في عام 1380 هـ، وصدر بذلك مرسوم ملكي، أسند فيه الإشراف لسماحته، فاختار فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد؛ ليكون رئيسا مباشرا لتعليم البنات، ومرجعه هو الشيخ محمد - رحمهما الله -.
__________
(1) المصدر السابق، ص 37.(51/337)
وفي عام 1381 - صدر أمر بافتتاح الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والشيخ محمد بن إبراهيم هو رئيسها، وقد اختار نائبا له هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وهذه الجامعة كانت الفكرة من إنشائها تعليم أبناء المسلمين في أنحاء العالم، ولم يخصص للسعوديين إلا نسبة قليلة، فآتت بحمد الله ثمارها اليانعة، بحماسة وصدق، لإخلاص النية من الافتتاح ولحرص الشيخ محمد ونائبه الشيخ عبد العزيز بن باز.
وكان الشيخ محمد رائدا للتعليم في المملكة منذ إنشائها، فمسجده جامعة تستقطب أعدادا كبيرة من أنحاء المملكة وخارجها، والمعاهد والكليات، التي هي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الآن، كان يرأسها ويشرف عليها، دراسة ومناهج، علاوة على رئاسته للإفتاء والقضاة بالمملكة، والجامعة الإسلامية بالمدينة، ودور الأيتام، مع الإشراف الديني والدعوي بالمملكة، وعلى تعليم البنات، ثم المعهد العالي للقضاء بعد افتتاحه، والإشراف على المكتبة السعودية بحي دخنة، بجوار مسجد الشيخ عبد الله، التي هي أول مكتبة عامة بالرياض.
ثم لما أنشئت رابطة العالم الإسلامي، كان الشيخ محمد هو أول رئيس للمجلس التأسيسي الأعلى للرابطة، كما كان مشرفا على ترشيح الأئمة والمؤذنين، والوعاظ والمرشدين بالمملكة العربية السعودية.(51/338)
فكان رحمه الله يدير هذه الأعمال الكبيرة بحصافة رأي، وحسن تدبير، وحكمة، ولا يتقاضى مرتبا إلا من عمله في رئاسة القضاة فقط، وهذا من زهده وورعه، ويصدق فيه قول الشاعر:
سيفقدني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر(51/339)
تقديره للعلماء: إنما يوقر العلماء من عرف قدر العلم، وتشبع من سير العلماء وتقدير بعضهم لبعض، ولمحبة الشيخ محمد للعلم، وتشجيعه عليه، فإن للعلماء عنده - رحمه الله - مكانة رفيعة، فهو يعتبر الصغير منهم ابنا يوجهه ويمحضه نصحه، والمتوسط أخا، يتبادل معه الرأي والمشورة، والكبير أبا يوقره ويجله، ويعرف له منزلته العلمية.
يقول الشيخ عبد الله بن منيع عنه: يعتبر - رحمه الله - أبا حنونا لطلبة العلم عامة، وللقضاة خاصة، فهو رحمه الله لا يفتر من المطالبة بما يصلح أحوالهم، ويسد حاجاتهم، ويرفع شأنهم: اجتماعيا وماديا كما ارتفع شأنهم علميا. . كما أنه رحمه الله، يقف معهم ضد كل من يتناولهم بتجريح أو تهوين، يتحدث دائما أمام العموم والخصوص بمكانة القاضي، وأنه العين البصيرة، واليد الطويلة، في دائرة اختصاصه القضائي، ويكثر(51/339)
اللوم والتقريع على من يتناول أحدهم بسوء، ولا يعني هذا أنه يرحمه الله، يرى القضاة جنسا معصوما من الخطأ، ولكنه لا يظهرهم أمام العموم إلا بمظهر الهيبة والتقدير والاحترام، ويكون له مع القضاة مجالس خاصة، حضرت بعضها، يتناقش مع القاضي في أسباب الشكاية منه، ويوجهه التوجيه الأبوي، ويبصره بمهمة القاضي في البلاد، من حيث الحرص على إنهاء الخصومات، وإيصال الحقوق لأصحابها، والترفع عن المصالح الشخصية من الأهالي، والقضاء على أسباب الشغب والفتن في البلاد، فكان رحمه الله نعم الأب، ونعم المربي، ونعم الموجه، ونعم الرئيس، وكان لتوجيهاته في نفوس أبنائه القضاة الموقع الحسن، من حيث السمع والطاعة والقبول، لقد سمعت أحدهم يقول لسماحته بعد إبلاغه قرار نقله إلى مكان أبدى عدم رغبته في قبوله، فأصر الشيخ على ضرورة قبوله ذلك المكان، قال: والله يا شيخ لو عزمت علي بالقضاء في مكان وعينته، وهو من أكثر الأمكنة مشقة، لما وسعني غير الاستجابة لأمرك، وهذا القاضي مثال لكل القضاة، إلا من ندر (1) .
والشيخ محمد - رحمه الله - لصفاء سريرته، وحرصه على الخير، وبعده عن الأهواء أو الإضرار بأحد، قد جعل الله له قبولا لدى العلماء خاصة، وأفراد المجتمع بصفة عامة، فالعلماء يجلونه، وهو يعرف لكل منهم قدره، وقد أورد الشيخ
__________
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 235.(51/340)
إسماعيل بن عتيق شيئا من تعامله مع بعض أصفيائه وأحبابه، وأسلوب تعامله معهم؛ لأنه ممن ينزل الناس منازلهم، ويعطي كل واحد المكانة التي يستحقها؛ لأن له فراسة في الرجال، وبصرا جيدا يمحص به مكانتهم العلمية، وذكاء يستشف به ما سيكون لبعضهم من منزلة تظهر باعه في العلم، وتفقهه في الدعوة، أو يدرك من ذلك نظرته في الأمور، وحسن تصرفه وأمانته، وقد أورد عشرين شخصا، أغلبهم من العاملين معه، كنموذج يبرز تقديره للعلم، واهتمامه بالعلماء، ومن العلماء:
1- الشيخ العلامة: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فقد كان الشيخ محمد ينهض من مجلسه، إذا دخل عليه الشيخ العنقري، ويخطو إليه خطوات مستقبلا إياه، ثم يجلسه في مجلسه الخاص به، وهذه خاصية للشيخ العنقري لدى الشيخ محمد - يرحمهما الله -، ثم يجلس الشيخ محمد عن يساره جلسة التلميذ المتأدب مع أستاذه، ولا يتحدث بل يستمع إلى ما يقول الشيخ العنقري، وسر احترامه له، هو أن الشيخ العنقري من العلماء المبرزين، وله يد في الإصلاح، كما أن كبر سنه جعله محل احترام وتقدير لدى سماحة الشيخ محمد، ومع أنهما زميلان مبرزان لدى الشيخ سعد بن عتيق، إلا أنه يكثر الحفاوة والتقدير به.
2 - الشيخ فيصل بن عبد العزيز المبارك، فقد كان دائم الثناء عليه، ويذكر إخلاصه وزهده وتأثيره على البلدان التي ينصب فيها، ويذكر من آثاره: زهده وتأثيره في الجوف،(51/341)
وكان الشيخ فيصل رحمه الله، مع فضله وعلمه أحد المجاهدين الذين اشتركوا في الغزوات مع الملك عبد العزيز أيام توحيد الجزيرة.
3 - الشيخ أحمد محمد شاكر، المحدث المصري، كان يجلس عند الشيخ محمد في زيارته للمملكة، وكان الشيخ يجله ويحترمه، وربما جرى البحث معه في علوم الحديث، فيستمع إليه استماع المستفيد والمسترشد، مما عند الشيخ شاكر، وكان يتردد على الشيخ محمد ويجلسه في مجلسه الاحترام والتقدير.
4 - الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي، المحدث الذي كان مدرسا بالمعهد العلمي بالرياض، ثم في كلية الشريعة، وقبل ذلك كان في دار الحديث بالمدينة، كان الشيخ يظهر له المحبة والإكرام، ويصغي إليه كثيرا، وربما جرى البحث معه في مسائل علم الحديث والرجال، ويضحك لأحاديثه، وقل أن يضحك رحمه الله، وقد أوصى عند وفاته على أبنائه الشيخ محمد بن إبراهيم.
5 - الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، كان له مكانة عند الشيخ محمد، ويصغي إليه عندما يتكلم وربما جرى البحث معه في دقائق الأمور العربية: لغة وشعرا، وفي علم المنطق والفلسفة، وربما استشاره في بعض الأشياء، وما يرد من الخارج، خاصة في المسائل العلمية والفتاوى. والشيخ(51/342)
الشنقيطي أحد العلماء الأفذاذ في علم التفسير واللغة والفقه والحديث. . وله تفسير أضواء البيان.
6 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، كان من أخص تلاميذه، وبعد أن قدم من الدلم عندما كان قاضيا بها أكرمه الشيخ محمد بمأدبة كبيرة حضرها كثير من المشايخ والعلماء، وكان الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم كثير الثناء عليه في مجلس الشيخ محمد، وفي قرارة قلب الشيخ محمد كان يجله ويحترمه، ويرى له باعا في العلم والتفقه والدعوة، وقد جعله نائبا له في إدارة الجامعة الإسلامية بالمدينة وتنظيمها عند افتتاحها.
7 - الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، يعتبر من أخص تلاميذ الشيخ محمد، وأنبههم، وقد عينه في قضاء الرياض في سن مبكرة، ثم المجمعة، وللشيخ عبد الله مواقف صلبة وقوية وشجاعة، وخاصة فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام الشرعية، ولما طالب عمله في بريدة تقدم للشيخ محمد بطلب الإعفاء من القضاء، وبقي في التدريس إلى أن رشحه الشيخ رئيسا للإشراف على حرمي مكة والمدينة.
8 - الشيخ عبد الرزاق عفيفي، فقد كان الشيخ محمد يحترمه ويستشيره فيما يتعلق باختيار الطلبة المتخرجين في كلية الشريعة للقضاء، وأحيانا يرفض الشيخ محمد رأيه، وقد حدث أن رشح أحد الخريجين من منطقة جيزان يدعى(51/343)
جبران، فأراد الشيخ عبد الرزاق الاعتذار له من القضاء، فقال الشيخ: إنه صغير، فأجابه بأنه سيكبر، فقال: إنه أمرد لا لحية له، فقال الشيخ محمد: سنرسله إلى جماعته، وكان الشيخ عبد الرزاق يقف من الشيخ محمد - رحمهما الله - موقف الهيبة والإجلال، حتى تكاد تعد كلماته عندما يخاطبه (1) .
هذه نماذج لتقديره العلماء واستشارتهم في كثير من الأمور، وإلا فإنه رحمه الله يمثل في مجلسه هيبة العلماء، ومكانة العلم، ومع العاملين معه مهما كانت منزلتهم تراه ودودا ضاحكا يمازح هذا ويلاطف ذاك. . ويسأل عن أحوالهم وأولادهم. . ولذا كان جميع العاملين معه في أنحاء المملكة من قضاة وعلماء، ومدرسين ودعاة، يشعرون بأنه لهم بمثابة الأب الموجه لهم العطوف عليهم، الحريص على دقة أعمالهم، وسلامة مقاصدهم، فكان يجزئهم على استشارته في كل أمر، ويمحضهم نصحه في كل وقت وموقف، ويهتم بإبانة المداخل الحسنة لمن غابت عنه، وإيضاح الأمور التي تسيء إلى سمعة طالب العلم، حيث يشعر كل واحد جلس معه أن الشيخ قد اختصه بوقته وحده، وأنه بالنصائح والتوجيهات اعتبره أحد أبنائه من صلبه، ومع هذا لا يسمع كلام العامة في القاضي، ولا يريد الإنقاص من مكانته وعلمه، حتى لا يسقط في أعينهم، ولا يظهر أي تبرم بحضورهم حتى لا يطمعهم، أما إذا انفرد بالقاضي، فإنه يعطيه دروسا
__________
(1) انظر (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 28- 35 باختصار وتصرف.(51/344)
قاسية، ليحس في قرارة نفسه أنه مخطئ وعليه تدارك الخطأ، ولذا فإن القاضي لا يعلم ما قال الشيخ لخصومه، ولا الخصوم يعرفون رأي الشيخ في القاضي. . وهكذا الحال مع جميع طلبة العلم المرتبطين بالشيخ محمد - رحمه الله -. . وهذا ينبئ عن حسن أخلاقه وكمال علمه، ونظرته للأمور، وفكره الناضج. . ومع طيبة نفسه فلا أحد سبر غوره، أو يستطيع معرفة خفايا نفسه.(51/345)
أخلاقه وصفاته: جعل الله للإنسان أخلاقا يتطبع بها، ويمكنها في نفسه العلم الذي وهبه الله إياه، والعقل الذي يقود إلى الخير، بتوفيق الله. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قالت عائشة - رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. كما يكون للإنسان صفات جبلت عليها طباعه، أو كانت جزءا من تكوينه الخلقي، الذي أوجده الله عليه.
والشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - قد منحه الله عقلا وعلما، فكان العلم بالنسبة له زينة وجمالا، وأضفى العقل عليه سربالا من المهابة والإجلال. . وكان هذا من توفيق الله له، بأن تحلى بالأخلاق النبيلة؛ ليكون مقصدا ومعينا لطلاب العلم يمحضهم نصحه وتوجيهه، ويرسم لهم أقوم الطرق وأسهلها حتى يعرفوا مداخل القلوب، فكان دمث الخلق، متواضعا، محبا للخير، رقيق القلب، حريصا على تلمس حاجات الناس، شجاعا(51/345)
في كلمة الحق، لا يخاف في هذا السبيل لومة لائم، شديدا في قمع الفتنة، قوي الذاكرة.
وقد تحدث الشيخ محمد بن قاسم في نبذة من سيرته، ضمن مقدمة الجزء الأول من مجموع فتاواه عن أخلاقه، دمج فيها تحت هذا المسمى، أخلاقه وصفاته. . شأنه شأن غيره فكان من ذلك: أ- من أخلاقه: 1- الإخلاص في العمل، وعدم التبرم، أو التحدث عن العمل ومشاغله، حيث لم يكن طالب شهرة، ولا باحثا عن سمعة، بل كان يبتغي بعمله ما عند الله، والدفاع عن الحق.
2 - ومع ما آتاه الله من مهابة في نفوس الناس، وصرامة في الحق، حيث يحسب محدثه الحساب الدقيق حتى لا يزل في كلمة، إلا أن الناس يجلونه ويحبونه؛ لأنه أنيس عند المخالطة، ألوف لمعاشريه بعيد عن الغلظة، يحسن الفرق بين مجالس الجد والعمل، ومجالس الراحة عندما يكون في سفر أو نزهة.
3 - العفة والتورع عن أخذ ما ليس له، أو ما يرى فيه شبهة، فلم يعرف عنه الاشتغال بالبيع والشراء لا بالاستقلال ولا بالمشاركة.
4 - كرهه الشديد للمديح والثناء، فقد كتب لشخص: ما ذكرتم(51/346)
في خطابكم من الثناء نود ألا نسمعه، فنحن نستغفر الله ونتوب إليه من تقصيرنا وضعفنا، نسأله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. وكتب لآخر: نفيدكم أنه جاء في خطابكم بعض العبارات مثل قولكم: عالم الوجود. تلك العبارة التي لا يصدر مثلها إلا عن جاهل.
5 - راجح العقل، واسع الأفق، بعيد النظر، كثير التأني في إعطاء قراره فيما يتطلبه الأمر منه، شجاعا في إبداء رأيه، يقلب الأمر قبل قراره على أكثر من وجه، فإذا قرر مضى في قراره دون تردد أو تراجع، سمح النفس، كثير التبسط مع تلاميذه وموظفيه المباشرين للعمل مع سماحته، حاد الذكاء، عميق الفهم، كثير التروي والتأمل فيما يعرض عليه، مهيبا هيبة لم يكن أصلها غطرسة أو تجبر، وإنما هي مستمدة من الشعور العام عن سماحته بالقوة في جانب الحق، مهما كانت الجهة التي لديها الحق.
6 - له أسلوب متميز في فحص ما يلقى عليه من معاملات والتحرير عليها من حيث الصياغة، واللغة، أو من حيث المعنى، أو من حيث العدول عما تم التوجيه من سماحته بالتحرير عليها.(51/347)
7 - حريص التوثق من أقوال أهل العلم، وكلما مرت عليه مسائل شرعية في العبادات أو المعاملات، فإنه يهتم باستذكار الحكم الشرعي، ويطلبه من أكثر من كتاب يتحدث عن المسألة التي عرضت، ولا تطيب نفسه إلا بعد التوثق. ويقول للشيخ عبد الله بن منيع: يا عبد الله الأعمال شغلتنا عن بضاعتنا، فلا بد من فرص نرجع فيها لكلام أهل العلم استذكارا أو استزادة في العلم والفهم، أو استبيانا لما قد يخفى علينا، وليس علينا نقص في ذلك.
8 - طريقته في التأصيل تعطي العاملين معه ثقة وقدرة على التصرف في الأمور المهمة، حتى يتربوا على الشعور بتحمل المسئولية في مستقبل أيامهم، كما كان يعاملهم كأبنائه، لما يكنه لهم من المحبة والتقدير والعطف والشفقة، وقد ضرب الشيخ عبد الله بن منيع مثالا برسالة ألفها وجمع فيها أقوال أهل العلم: عن حكم ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر، حيث قام بالاعتراض عليها مجموعة من طلبة العلم، وأكثروا على سماحته بشأنها. . ومع هذا فقد تلطف للشيخ عبد الله، وقال: أنت أحد أولادي والوالد يقسو على أولاده وقد يضطر لعقابهم بما يراه، إلا أن ذلك لا يغير من الأبوة شيئا.(51/348)
ب- من صفاته: 1- منحه الله ذاكرة قوية، وحافظة نادرة، فكان مع حفظه لأقوال العلماء، ومعرفته لمظانها من كتب العلم، كان يحفظ كثيرا من القصائد المطولة، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ثلاثمائة صفحة تقرأ عليه، ثم يملي ما يرى مستحضرا كل ما مر فيها من الجزئيات، ولم يكن غريبا منه أن يدل القارئين على مواضع الأبحاث في كتبها ذاكرا رقم الصفحة أحيانا.
2 - بدت علائم الذكاء عليه وهو صغير، يقول الشيخ عبد الله بن منيع رواية عنه - رحمه الله: كنت في آخر العام الثاني من عمري فدخلت والدتي غرفة نومها، فرأيتها تبحث عن شيء فظننت أن ذلك الشيء الذي تبحث عنه مكحلتها، فأشرت إليها أن المكحلة في طاق الغرفة، ففرحت بإشارتي وضمتني ضمة، لا أزال أتذكرها حتى يومي هذا.
وكان يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات، فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة، ولا ينطلي عليه كيد أو احتيال. ورغم أنه لم يحمل الساعة في حياته فإنه يدرك الوقت ولا يكاد يخطئ فيه بضع دقائق.
3 - قد رزقه الله قلبا طاهرا، فهو لا يحمل ضغينة على من أساء إليه، ولا ينتقم من أحد ناله بأذى؛ فكان يصفح ويتجاوز.(51/349)
وهذه صفات نبيلة قل أن يقوى عليها، إلا من رزقه الله علما وحلما وبعد بصيرة، وتقوى لله عز وجل. ومع هذه الصفات فقد آتاه الله مهابة في نفوس الناس.
4 - ولحرصه على أن تكون صفاته مستمدة من تعاليم القرآن، فقد كان يتنزه عن الغيبة والحديث في الآخرين بما يكرهون، وقد كان هذا سجية فيه منذ حداثة سنه، هذا إلى جانب الحظ الوافر من الشجاعة وقوة الشكيمة في الحق، حيث لا يخاف في الله لومة لائم أيا كان المخاطب.
5 - عرف عنه - رحمه الله - إطالة التأمل، والتعمق في الأمور، وبعد النظر فيما يعرض عليه من القضايا التي جدت في الحياة، فكان لا يتعجل حتى يمعن في الدرس والتأمل، والنظر في العواقب. ومن ذلك هذان المثالان: أ- سئل عن افتتاح حمام فني فكتب ما نصه: لا أرى فتح مثل هذا الحمام في هذا البلد؛ لأن الضرر سيكون أكبر من النفع، ومثل هذه الأشياء تكون عادة وسيلة لفساد لم يخطر على بال الذي أسسها، ومهما حرصت الآن على مراعاة الآداب الشرعية والأخلاقية، فإنك لن تستطيع ذلك في المستقبل بعد فتح هذا الباب.
ب- وسئل عن إنشاء صندوق لسائقي السيارات فأجاب: إن اقتراح الذين اقترحوا جعل الصندوق مشروعا خيريا يحتاج إلى تقييد؛ لأنه وإن كانت طرق الخير مفتوحة أمام الراغبين إلا أنه ينبغي معرفة ما وراء ذلك، لئلا(51/350)
تكون وسيلة إلى استباحة أشياء لا تجوز تحت اسم الشيء المسموح.
ونظرته - رحمه الله - البعيدة للاحتمالات التي تفتح مجالا غير مناسب، هو ما يحرص عليه كثير من علماء الإسلام في باب: سد الذرائع، حتى لا تفضي الأمور الصغيرة إلى الأمور الأكبر.
6 - هذا إلى جانب ما عرف عنه من بذل وسخاء، وإكرام العلماء والقضاة، وخشيته لله، ورقة قلبه في العبادة، وملازمته إحياء الليل بالصلاة، وحرصه على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع أموره.
7 - حبه للعلم والعلماء منذ حداثة سنه، فصرف همته في العلم تعلما وتعليما، فرعى طلبة العلم وشجعهم وتواضع لهم، وسعى أمام ولاة الأمر في إعانتهم وتوسيع فرص التعليم لهم بنين وبنات في جميع مدن المملكة، ووضع الأسس التشجيعية لجذبهم لطلب العلم وترغيبهم فيه. ولاهتمامه الديني فقد شدد في المتابعة على أن يكون ركيزة التعليم الارتباط بشريعة الإسلام قولا وعملا، كما يتضح من فتاواه(51/351)
وملاحظاته ومتابعته (1) .
8 - ومن صفاته قال ابنه معالي الشيخ إبراهيم: كان يحفظ بعض قصائد الوعظ والزهد، ومن ذلك أبيات كان يكررها كثير وهي:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال مما أعنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم ... وأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
نادى بهم صارخ من بعد ما دفنوا ... أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
يا طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا (2)
9 - ويجمل الشيخ محمد بن عثمان القاضي أوصافه بقوله: وأما أوصافه رحمه الله، فهو ربعة من الرجال، متوسط الشعر،
__________
(1) انظر (علماء نجد في ستة قرون) 1 \ 89، 93- 95 للشيخ عبد الله بن بسام.
(2) نقلا عن ابنه صالح بن إبراهيم.(51/352)
حنطي اللون، قليل الكلام، ذو هيبة ووقار، أعمى البصر، فاتح القلب، ذو مكانة مرموقة عند الملك، وعند الناس، قام برحلة إلى مصر والشام (1) واتصل بعلمائها، وكانت رحلته ممثلا للعلماء في المملكة. ومرض فأشار عليه الأطباء بالسفر للعلاج، فسافر إلى مصر فلم يتماثل للشفاء، فواصل سفره إلى لندن، وتعالج فيها، ولم يقدر له الشفاء، فعاد إلى الرياض، بدون فائدة تذكر (2) .
نوادره: للنادرة وقع في النفس، وراحة في القلب، حيث تجلو صدأه مع رتابة العمل، والجدية المتواصلة. جاء في الأثر: «روحوا عن النفوس ساعة فساعة» ، فإنها إذا كلت ملت. والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يهتم بالنادرة، ويتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مداعبة أصحابه والتبسط معهم، ليسري عن العاملين، حيث يعاملهم كالأبناء. ومن ذلك:
__________
(1) يرى ابنه معالي الشيخ عبد العزيز أنه لم يسافر إلى الشام وإنما سافر إلى مصر فقط.
(2) انظر (روضة الناظرين) 2: 321.(51/353)
1 - يقول الشيخ عبد الله بن منيع الذي لازم سماحته في العمل معه مدة طويلة: أذكر أنني أنا وأحمد بن قاسم مع سماحته بعد العصر في الطائف، في منطقة الهدى لعرض ما لدي من معاملات على سماحته كالمعتاد، وفي رجوعنا وجه الكلام لأحمد بن قاسم قائلا: يا أحمد، أمك جاءت بولد ليس أخاك ولا أختك فمن هو؟ فبهت أحمد من هذا، وقال: خلها في قبرها عفا الله عنك، وبعد أن أتاح له فرصة التأمل، قال: هو أنت يا أحمد، جاءت بك أمك؛ فتنفس الصعداء وقال: الحمد لله فرجت عني جزاك الله خيرا.
2 - وأورد له هذه النادرة فقال: كان رحمه الله يحب النكتة ويسترويها، فقد صار من بعض الزملاء أن اجتمع لديه اثنان من فراشي الإفتاء فذكرهما أن الصوم يصير في الصيف، والشتاء، وكذلك الحج، هكذا فإن السنة تستدير، فإذا اجتمع الصوم مع الحج في إحدى السنين فمن منكما سيصوم ويترك الحج، ومن سيحج ويقضي الصوم، فقال أحدهما: سأحج وأترك الصوم لأيام أخر، وقال الآخر: سأصوم وأترك الحج، فذكرا لسماحته فاستدعاهما وأعيد السؤال عليهما، فاحتج الأول على تركه الصوم بقوله تعالى: {كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) ، واحتج الثاني بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) سورة البقرة الآية 185(51/354)
فضحك رحمه الله وقال: لقد بنيت هذه الدار على علم (1) .
3 - ذكر الشيخ إسماعيل بن عتيق أن. محمد عطاء الهندي سأل الشيخ في مجلسه فقال: ماذا نصنع بالميت إذا مات في السفينة؟ فقال الشيخ: ألقه في البحر. فقال السائل: يطفح على سطح البحر. فقال له الشيخ اعمل له مثقلا. فقال السائل: يأكله السمك. فقال الشيخ: إذا احمله على ظهرك ليكون معك حيث شئت.
4 - كان من مداعبته للشيخ علي بن خميس: أن عليا تكلم يوما بالهاتف مع مكة مخاطبا الشيخ عبد الله بن إبراهيم. فقال له الشيخ محمد: كلمت مكة يا علي؟ قال: نعم. قال فكلم الدرعية. فقال: لا تليفون فيها. قال: عجبا لك! تكلم البعيد ولا تكلم القريب. . وقال الشيخ ابن عتيق: ومثل هذا يحصل من الشيخ أحيانا مع غيره.
5 - وقرأ الشيخ عبد العزيز بن شلهوب، وهو حسن الصوت، قليل اللحن، ولكنه أخطأ في هذه القراءة بكلمة، وهي: وهذه لغة حمير قرأها: وهذه لغة حمير فقال الشيخ:
__________
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 231 - 232 مقال الشيخ عبد الله بن منيع عن الشيخ محمد.(51/355)
سبحان الله، وهل للحمير لغة (1) .
__________
(1) راجع في هذا ما ذكر الشيخ إسماعيل بن عتيق في كتابه (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 22- 35.(51/356)
شعره: قليلون جدا هم الذين يعرفون عن الشيخ محمد - رحمه الله - تذوقه للشعر حفظا واستشهادا، وقولا في المناسبات، ذلك لأنه لا يشتغل به، ولا يجعله يلهيه عن مذاكرة العلم وتعليمه. فقد روي عنه قوله الشعر، ولكن في مناسباته كالرثاء، وحفظه للشعر، ولكن للاستحسان أو للاستشهاد به مع الوقائع التاريخية، أو للشواهد العلمية من لغة وغيرها. . يقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: وللشيخ محمد معرفة بالعروض، ويقرض الشعر على طريقة العلماء، وقد رثى الشيخ عمر بن سليم بأربعة أبيات (1) هي قوله:
إن المصيبة حقا فقدنا عمرا ... أعظم بميتته رزءا بنا كبرا
قطب القصيم , وما دون القصيم وما ... خلف القصيم وما مجرى القصيم
جرى عليه دار الهدى , والحق بينه ... كان الحياة وكان السمع والبصرا
__________
(1) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 177.(51/356)
ارزقه يا ربنا عفوا ومغفرة ... واجبر مصيبتنا يا خير من جبرا (1)
وله مرثية في عمه الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف تبلغ خمسة وخمسين بيتا ومطلعها:
على الشيخ عبد الله بدر المحافل ... نريق كصوب الغاديات الهواطل (2)
ولم أقف على بقيتها كاملة، لكن قال عنها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام: إنها طويلة جيدة (3) . لكن الشيخ محمد بن عثمان القاضي أورد عشرين بيتا بالمطلع. . فقال بعده:
دموعا على الخدين تجري بعبرة ... ولوعة محزون مهاج البلابل
فقد حق أن العين تهريق ماءها ... وتسكب دمعا بالضحى والأصائل
وآن لكبدي أن تذوب وينطوي ... فؤادي على حزن به متواصل
__________
(1) المصدر السابق ص 360 في ترجمة الشيخ عمر بن سليم
(2) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 109 في ترجمة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف
(3) انظر (علماء نجد خلال ستة قرون) 1: 79 في ترجمة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف.(51/357)
وللأنس أن يزور عني جانبا ... فإني مصاب القلب مذكي الغلائل
فما مرنا يوم فظيع على الورى ... كيوم وفاة الشيخ زاكي الشمائل
فأعظم به من فادح جل خطبه ... به الكل مفجوع مصاب المقاتل
فهل أحد يرجى لسد انثلامه ... وفرجته هيهات ذا غير حاصل
هو العالم النحرير والجهبذ الذي ... يبين الهدى في مشكلات المسائل
هو الناصح البذال في النصح جهده ... وغايته كي ينتهى عن أباطل
إمام لعمري عارف أهل وقته ... طبيب زمان ما له من مماثل
تقي نقي حازم ذو رزانة ... وثابت جأش في اشتداد النوازل
حليم ذكي ذو دها وسماحة ... وذو خلق زاك وحسن شمائل
فقيه نبيه ناسك ومتورع ... وذو نصف في أمره غير مائل(51/358)
إليه تشد اليعملات وتمتطى ... ظهور الغلا من شاسعات المنازل
وصول لأرحام وإن قطعت به ... صفوح عن الزلات من جهل جاهل
فيا عين سحي أدمعا بعد أدمع ... على وجناتي واستمري وواصلي
سأبكيه جهدي ما بقيت بأدمع ... ويبكيه غيري من شريف وفاضل
ويبكيه طلاب العلوم بلوعة ... وأعينهم كالمستهل بوابل
جزاه إله العالمين بجنة ... وأسكنه الفردوس أعلى المنازل (1)
وقال فضيلة الشيخ علي الرومي، قاضي التمييز بالرياض، وهو من تلاميذ الشيخ الملازمين: كنا في الدرس عند سماحة شيخنا محمد، بعد صلاة الفجر، وفي ذلك اليوم، أنشأ هذه الأبيات - التي رواها لنا الشيخ من ذاكرته - ليحث الطلبة على الاهتمام بالدروس، وزيادة التحصيل، على الفور:
وا سوأتاه لطالب العلم الذي ... ثقلت عليه مجالس التدريس
__________
(1) انظر كتابه (روضة الناظرين) 1: 363- 365.(51/359)
وإذا قراءته تقضت قام لا ... يلوي على ما بعد من تأسيس
هذا وفي حال القراءة قلبه ... بالفهم والإصغاء غير أنيس
ويود لو أن القراءة تنقضي ... في لحظة. . ماذا يقول جليسي
إن قلت إنهم لعمري ما لهم ... من رغبة في نيل كل نفيس
إن قلت ما لهمو من الإقبال من ... إدلاجه حظ ولا تفليس
ورضوا الترسم وهو غير مفيدهم ... إن الأماني حظ ذي التقليس
يا رب واغرس خير غرس يرتجى ... منهم إغاظة ذي الخنا إبليس
يا رب واجعلنا من الغرس الذي ... تختار للتنزيه والتقديس
وإبانة التوحيد محضا صافيا ... وإزاحة التشبيه والتلبيس
ثم قال الشيخ علي، وقد فقدت منها بيتين لا أتذكرهما الآن.(51/360)
وقد كتب له بعض المحبين أبياتا رقيقة، فأجابه رحمه الله بقوله:
عليك مثل الذي أهديت يشفعه ... تحية ما شدا بالبان صادحه
في روضة من رياض الخرج باكرها ال ... وسمي والصيف تسقيها روائحه
ورحمة الله ما أبدى أخو مقت ... من الوداد الذي تخفى جوانحه (1)
فالشيخ محمد مع قدرته الشعرية، وفهمه للعروض جيدا، فإنه ينظم الشعر على طريقة العلماء في الرثاء، والتوجيه والنصح، ولم يشغل نفسه به؛ لئلا يلهيه عن المقصد الحقيقي لطالب العلم، خاصة وأن للقرآن الكريم، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيا في الشعر منفرا. ومن هنا كانت نظرة علماء الإسلام للشعر بأنه يزري بالعلماء، كما روي للشافعي قوله - وقيل لغيره - هذا البيت:
ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
__________
(1) المصدر: الشيخ صالح بن معالي الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم(51/361)
نماذج من فتاواه: بلغ ما دون من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ثلاثة عشر مجلدا، طبعت في عام 1399 هـ بمطابع الحكومة. والمستعرض لهذه الفتاوى يلاحظ أن سماحته قد أفتى في كثير من الأمور التي جدت في هذا العصر، مما يتضح معه سعة أفقه، ووفرة علمه، وأن الفقه الإسلامي، وعلماء الإسلام ليسوا بمعزل عن واقع حياة الناس، وما يطرأ عليهم في التنظيم، وما تسير به حياتهم.
وما نورد هنا من نماذج، ما هي إلا نبراس لمنهجه رحمه الله في الإفتاء، وطالب التوسع والراغب في الاستزادة، يجد بغيته في مجموع فتاوى ورسائل سماحته، التي بلغت 4575 فتوى ومسألة.
فتحت رقم 1577 حول الجزارين الذين يبيعون اللحم بسعر زائد عما يبيعه غيرهم، يقول: إنه يتعين إلزامهم بالبيع مثل ما يبيع غيرهم (1) .
وبرقم 1580 حول ما يعمله بعض التجار والشركات، من تقديم هدايا للجمهور على ما يشتريه من محلهم من بضاعة، وطلب الإعلان عن ذلك في الصحف، يقول: لا يجوز السماح لمثل هذه الأشياء، ولا يباح استعمالها، إذ إنها من أكل أموال
__________
(1) مجموع فتاوى سماحته 7: 75.(51/362)
الناس بالباطل، فينبغي سد الباب إلى الحرام، فمن الحزم قطع الطريق على كل مموه نهاب، يحتال على أموال الناس بشتى الحيل (1) .
وبرقم 1656 أجاب على رسالة وجهت إليه باستفتاء عن حكم بيع أوراق العملة بعضها ببعض إلى أجل متفاضلا، فمثلا: الدينار العراقي يساوي 11 ريالا، هل يجوز بيعه إلى أجل باثني عشر ريالا. .؟ إلخ. . فأجاب بما نصه: الذي يظهر لنا عدم جواز بيع بعضه ببعض إلى أجل بأكثر من ثمنه الحاضر؛ لأنه وسيلة إلى الربا، بل هو باب من أبواب الربا، إذ أنزل البدل منزلة المبدل، فلو لم يكن فيه إلا سد الذرائع لكفى، و: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» أخرجه البخاري ومسلم. والله أعلم (2) .
وبرقم 1698 أجاب على رسالة استفتى صاحبها عمن أقرض رجلا دراهم - أوراقا نقدية - ثم أرادت الحكومة تغيير تلك السكة بسكة أخرى فما الواجب دفعه لوفاء هذا القرض؟ فكان جوابه - رحمه الله: ذكر الفقهاء رحمهم الله أن السلطان إذا منع التعامل بالسكة فلا يلزم المقرض قبولها إذا ردها عليه المقترض؛ لأنها أصبحت كالمعيبة، وحينئذ يكون للمقرض قيمتها وقت القرض، بالنسبة إلى النقود الأخرى، التي لم تغير، فيدفع له
__________
(1) مجموع فتاواه 7: 77.
(2) مجموع فتاواه 7: 182.(51/363)
المقترض قيمة ما كانت تساويه وقت القرض، بالنسبة إلى الذهب مثلا (1) .
وبرقم 646 يجيب على سؤال من قال: إنه مسلم في إيطاليا مع زميله، ولا يوجد هناك مساجد ولا أذان ولا جماعة، والبلد ما فيه إلا كنائس، ويذكر أنه محتار. فكان الجواب: لا حيرة في ذلك يصلي هو ورفيقه الصلوات الخمس في مكان سكناهم بأذان وإقامة لكل صلاة (2) .
وبرقم 687 جاء الجواب التالي لمن لا يستطيع السجود على رجله للمكرم ثاني المنصور: فقد بلغنا ما حصل لك من مشقة الإمامة، وعلمنا أنه يحصل في إمامتكم نقص، حيث إنك لا تستطيع السجود على رجلك المصابة، بل تمدها أمامك، وهذا فيه نقص في الإمامة كبير، وأنت لا يخفى عليك مثل هذا، قال في حاشية الروض المربع 1 \ 250 قوله: ولا عاجز عن ركوع أو سجود. الظاهر أن الذي يمد رجله عند سجوده، أو لا يقدر على السجود على شيء من الأعضاء السبعة، لا تصح إمامته إلا بمثله، إلا إمام الحي المرجو زوال علته. وحيث لا ضرورة هناك تدعو لبقائك إماما فقد رأينا إعفاءك من إمامة المسجد، فاعتمدوا ذلك والسلام (3) .
__________
(1) مجموع فتاواه 7: 204.
(2) مجموع فتاواه 2: 271.
(3) مجموع فتاواه 2: 299.(51/364)
وعن أهمية الإمام للأمة قال تحت الرقم 3874: نصب الإمام واجب ضروري، يسمع له ويطاع. . ثم نعلم أن الولاية تثبت بأمور: منها: نصب أهل الحل والعقد، وهو الذي نص هنا. ومنها: أن يأخذها قهرا بسيفه ومن معه، ويكون فيه الأمر الكافي، ويقهر غيره، لا يرجع إلى أحد فإنه يثبت له حكم الولاية. الثالث: أن يعهد إليه ممن قبله. والكل والمدار هو إقامة الشرع، وحفظ كيان الأمة، والقيام بحقوقهم (1) .
وتحت رقم 3951 كتب سماحته لرئيس محكمة الدمام قائلا: أما بعد فقد اطلعت على الأوراق الواردة إلينا منكم برقم 631 وتاريخ 13 / 2 / 1384 هـ المحالة إليكم من إمارة المنطقة الشرقية حول طلب خليفة القصيبي السماح له بتوريد لحوم الضأن الطازجة، المجمدة من استراليا ومعها شهادات رسمية تثبت أنها مذبوحة بأيدي مسلمين حسب الشريعة الإسلامية.
وعليه ونظرا لأهمية هذا الموضوع، وخشية تساهل الموردين، ولأن الذكاة لها شروط أربعة معروفة، إذا اختل منها شرط لم تحل الذبيحة؛ لأنها تكون في حكم الميتة، وهذه الشروط منها: ما يتعلق بالمذكي - وهو أهلية المذكي - بأن يكون عاقلا سواء كان كتابيا، أو مسلما موحدا، لم يقم به شيء من موجبات الردة عن الإسلام، كالتعلق على القبور ونحوها، والخرافات الشركية، وأمور الوثنية. ومنها: ما يتعلق بصفة
__________
(1) مجموع فتاواه 12: 173.(51/365)
التذكية، وهو أن تذكى الذبيحة ذكاة شرعية، بقطع الحلقوم والمريء، كما ذكره الفقهاء، والاحتياط قطع أحد الودجين. ومنها: ما يتعلق بآلة التذكية، وهو أن تذكى الذبيحة بمحدد ينهر الدم ليس بسن ولا ظفر. ومنها: أن يذكر اسم الله عليها عند الذبح، وأما استقبال القبلة فليس بشرط ولا واجب، وإنما هو سنة.
إذا تقرر هذا فما دام خليفة قد التزم بأن لا يورد من اللحوم إلا ما توفرت فيه الشروط المطلوبة، فينبغي إفهامه بذلك، وأخذ التعهد اللازم عليه بما ذكر على صور ليتأملها بنفسه ويعطي منها وكلاءه، ومن سيتولى هذه المهمة في تلك البلدان، وعليه أن يبرهن على تطبيق ما ذكر بالإثباتات الكافية من طريق المفتي الشرعي في تلك البلاد إن وجد، وإلا فبواسطة السفارة السعودية، فإذا تحقق ما ذكر فلا بأس بالسماح له بتوريد اللحوم المذكورة، وإلا فلا نسمح لأحد يتخذ فتوانا وسيلة لمقاصده، ثم يتهاون بشيء مما ذكر، وهذا من باب الأمانة، يتعين عليه مراعاتها، وتقوى الله في ذلك، وعلى الجميع مراقبة ما ذكر بصورة مستمرة، والله الموفق والسلام (1) .
وهكذا يجد المتابع لفتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - حرصه على الإحكام والجدية والحيطة حتى لا تتخذ فتاواه ذريعة لفتح باب ينفذ منه المتساهل، صاحب
__________
(1) مجموع فتاوى سماحته 12: 212- 213.(51/366)
الغرض والهوى، ولقد كان - رحمه الله - جبلا أشم، بهيبته وعلمه وشجاعته.(51/367)
وفاته: اتفقت أقوال من كتب عن وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم، أنه - رحمه الله - توفي عام 1389 هـ ولكن الاختلاف في تحديد العمر، فالشيخ عبد الله بن منيع في مجلة البحوث (1) لم يحدد العمر ولا اليوم، والشيخ محمد بن عثمان القاضي اعتبر عمره 78 عاما وثمانية أشهر، والوفاة في ظهر يوم الأربعاء 24 رمضان (2) ، والشيخ إسماعيل بن عتيق (3) هو وعمر رضا كحالة (4) قالا: توفي عام 1389 هـ ولم يذكرا اليوم والشهر ولا العمر.
وعبد الله بن سعد بن رويشد قال: توفي في يوم 24 رمضان سنة 1389 هـ ولم يذكر عمره، لكنه قارنها بالميلادي عام 1969م شهر ديسمبر، ومرة أخرى يناير 1970م (5) .
أما الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ، فكان أكثر تحديدا عندما قال: توفي يوم الأربعاء، 24 رمضان 1389 هـ عن عمر بلغ 78
__________
(1) العدد 18 ص 238.
(2) انظر (روضة الناظرين) 2: 321.
(3) انظر (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 49.
(4) انظر (المستدرك على معجم المؤلفين) ص 582 وقارنها بالميلادي عام 1969م.
(5) انظر (قادة الفكر) ص 406.(51/367)
عاما، وثمانية شهور، وثمانية أيام (1) .
إلا أن الشيخ عبد الله بن بسام قال في كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) : إنه ناهز الثمانين من عمره، وهو في نشاطه وفي أعماله ومهام منصبه، ثم أصيب بمرض عضال فسافر من أجل علاجه إلى لندن مرتين، وعاد في المرة الثانية وقد أثقله المرض، وفي يوم الأربعاء بعد الظهر، من يوم الرابع والعشرين من شهر رمضان عام 1389 هـ انتقل إلى رحمة الله تعالى، فصلي عليه بعد صلاة العصر في جامع الرياض الكبير، وكان الجمع حاشدا والزحام شديدا، حيث خرجت الأمة كلها لتشييع الفقيد، وكان على رأس المشيعين جلالة الملك فيصل، وفيهم الأمراء والعلماء والوزراء والأعيان، ودفن في مقبرة العود بالرياض، وحضر العزاء في بيت الفقيد الملك فيصل، وأبدى أسفه الشديد على الفقيد، وظهر أثر ذلك على جلالته، وترحم عليه وأثنى عليه، وذكر خسارة البلاد بوفاته، وواسى أفراد أسرته والحاضرين من العلماء على عادته في تقدير المواقف ومعرفة الرجال.
والحقيقة أن الشعب هزته وفاته، وأصيب أفراده جميعا بالفزع لفقده، ورأوا أنهم فقدوا شخصية كبيرة غالية، من أعز أبناء البلاد عليها، لا سيما أهل العلم الذين يرون فيه الوالد والشيخ والرئيس والمرجع.
ولا شك أن البلاد فقدت بموته شخصية كبيرة في علمها
__________
(1) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 179.(51/368)
وعملها ومركزها ومقامها (1) .
وقال عبد الرحمن آل الشيخ: إن الذي أم الناس بالصلاة عليه الشيخ عبد العزيز بن باز، وأن الشيخ خلف أربعة أبناء هم الشيخ عبد العزيز، والشيخ إبراهيم، وأحمد وعبد الله - الذي أصبح فيما بعد وزيرا للعدل - (2) .
وقد رثاه جمع من العلماء والأدباء شعرا ونثرا، وخصصت مجلة الدعوة عددها 231 الصادر يوم 13 \ 10 \ 1389هـ للشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله.
وقد ذكر الشيخ إسماعيل بن عتيق أسماء الذين رثوه شعرا فبلغ عددهم عشرين اسما، وعدد أبيات كل واحد منهم، فبلغ مجموعها 482 بيتا، وقد أفردها في كتاب واحد ووعد بإخراجه (3) ، فرحم الله الشيخ محمدا، فإنه بحر في علمه، جبل في تصديه للملمات، بعيد الغور في حلمه ونظره البعيد للأمر، ورعا في أعماله وفتاواه، حريصا على سد الذرائع؛ خوفا من انفتاح باب الفتن، وولوج أصحاب الأهواء، ذا صفات عديدة، ينطبق عليه قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا ولد يموت ولا بعير
__________
(1) انظر كتابه (علماء نجد) 1: 95- 96.
(2) انظر (مشاهير علماء نجد وغيرهم) ص 179 - 180.
(3) انظر (تاريخ من لا ينساه التاريخ) ص 51 - 52.(51/369)
ولكن الرزية فقد شخص ... يموت بموته خلق كثير
ويذكر محمد القاضي: أنه صلي عليه صلاة الغائب في عموم المملكة، ومنها الحرم المكي، والمدني، وخلف مكتبة حافلة بنفائس المخطوطات والمطبوعات (1) .
وعندي أن أصح من حدد عمره بالعام والشهر واليوم هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ؛ لأن ولادته - رحمه الله - تعينت في 17 محرم 1311 هـ، ووفاته في 24 رمضان 1389 هـ.
__________
(1) انظر (روضه الناظرين) 2: 321.(51/370)
الخاتمة: في هذه العجالة من سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية، لا أدعي أنني وفيته حقه، وإنما ألممت بيسير من أخبار حياته، اقتفيتها من المصادر التي وقع عليها نظري. . وقد تراءى لي من الخطوات التي مر بها كل من درس حياة هذا العالم الفذ، أنهم جمعوا بعض أخباره ولم يستقصوها؛ لأن في أذهان من عاصره وعايشه من قضاة وعلماء، وطلاب علم وأصحاب قضايا الشيء الكثير والكثير جدا، مما يعطي جوانب عديدة في حياة هذا الرجل. . ولذا فإنه في حاجة إلى الاهتمام والدراسة، والتحليل لمكانته وما تنطوي عليه نفسه المحبة للخير.(51/370)
فمحمد بن إبراهيم العالم والأصولي.
ومحمد بن إبراهيم المفتي وكبير القضاة.
ومحمد بن إبراهيم المعلم، ومنهجه في الترغيب في العلم، وفي التعليم.
ومحمد بن إبراهيم الأب العطوف على طلاب العلم وعلى القضاة.
ومحمد بن إبراهيم الداعية والحريص على سد الذرائع.
كل هذه الجوانب وغيرها مما يتعلق بشخصية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - العلمية، وشجاعته في الحق، وتصديه للبدع؛ خوفا من انفتاح باب الفتن، يستحق من الباحثين، وخاصة في الدراسات العليا التخصصية، من يهتم به، دراسة وتحليلا.
فهو واحد من العلماء النابهين، الذين منحهم الله علما وجاها، وذكاء وقوة ذاكرة، وإدراكا لكل جديد في حياة الدولة، التي عاصر مسيرتها في طور البناء والتأسيس حتى رست الدعائم، واستوت قائمة تماشي غيرها، فكان عضدا قويا لولاة أمرها منذ عهد مؤسسها الأول الملك عبد العزيز، ثم مع أبنائه من بعده مشاركا بالرأي الحصيف، ومدافعا عن دين الله بكل مقدرة، ووفيا في العمل والنصح مع ولاة الأمور.
وجدير بعالم كالشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - أن يحظى بدراسات عنه وزهده، وحسن إدارته للأعمال، وقدرته(51/371)
على الوسطية في كل أمر. . وما ذلك على أبناء هذه البلاد بعسير، وهم الذين يدركون الظروف البيتية والمعاشية، والنظرة الاجتماعية للعصر الذي عايشه الشيخ محمد، لتبرز أمامهم بالحجة والبرهان مكانة هذا العالم وبعد نظره للأمور. . خاصة وأن الدارس لأي جانب من الجوانب العلمية والإدارية في حياة الشيخ، يجد آثارا حية في أذهان تلاميذه، ومن عمل معه من الموظفين والقضاة. . وهذا مما يعين في تجميع المعلومات المعينة على الدراسة، قبل أن تنصرف الآجال ببعضهم، فتذهب معهم المعلومات المطوية في الصدور.(51/372)
من قرارات المجمح الفقهي
القرار السابع بشأن:
1- قيام الشيك مقام القبض في صرف النقود بالتحويل في المصارف.
2 - الاكتفاء بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعة في المصرف.
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989 م قد نظر في موضوع: 1- صرف النقود في المصارف، هل يستغنى فيه عن القبض بالشيك الذي يتسلمه مريد التحويل؟ 2- هل يكتفى بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعة في المصرف؟ وبعد البحث والدراسة قرر المجلس بالإجماع ما يلي: أولا: يقوم استلام الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف.
ثانيا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن(51/373)
يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
أسماء الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
نائب الرئيس د. عبد الله عمر نصيف ... رئيس مجلس المجمع الفقهي الإسلامي عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن جبير
د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد للرحمن البسام ... صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان متوقف في المسألتين
د. يوسف القرضاوي ... محمد الشاذلي النيفر ... د. محمد الحبيب بن الخوجه
محمد محمود الصواف ... محمد بن عبد الله السبيل ... مصطفى أحمد الزرقا
د. محمد رشيد راغب القباني ... أبو بكر جومي ... د. أحمد فهمي أبو سنة
محمد سالم عدود ... د. طلال عمر بافقيه (مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي) ... -(51/374)
نصيحة حول الزلزال
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم فيما يقضيه ويقدره، كما أنه حكيم عليم فيما شرعه وأمر به، وهو سبحانه يخلق ما يشاء من الآيات، ويقدرها؛ تخويفا لعباده، وتذكيرا لهم بما يجب عليهم من حقه، وتحذيرا لهم من الشرك به، ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، كما قال الله سبحانه: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (1) ، وقال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (3) .
وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لما نزل قول الله
__________
(1) سورة الإسراء الآية 59
(2) سورة فصلت الآية 53
(3) سورة الأنعام الآية 65(51/375)
تعالى: " أعوذ بوجهك قال: " أعوذ بوجهك (3) » .
وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن مجاهد في تفسير هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} (4) قال: الصيحة والحجارة والريح. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} (5) أو قال: الرجفة والخسف.
ولا شك أن ما حصل من الزلازل في هذه الأيام في جهات كثيرة هو من جملة الآيات التي يخوف الله بها سبحانه عباده، وكل ما يحدث في الوجود من الزلازل وغيرها مما يضر العباد ويسبب لهم أنواعا من الأذى، كله بأسباب الشرك والمعاصي، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6) ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (7) ، وقال تعالى عن الأمم الماضية: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (8) .
فالواجب على جميع المكلفين من المسلمين وغيرهم،
__________
(1) صحيح البخاري، 5 \ 193.
(2) سورة الأنعام الآية 65 (1) {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}
(3) سورة الأنعام الآية 65 (2) {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}
(4) سورة الأنعام الآية 65
(5) سورة الأنعام الآية 65
(6) سورة الشورى الآية 30
(7) سورة النساء الآية 79
(8) سورة العنكبوت الآية 40(51/376)
التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على دينه، والحذر من كل ما نهى عنه من الشرك والمعاصي، حتى تحصل لهم العافية والنجاة في الدنيا والآخرة من جميع الشرور، وحتى يدفع الله عنهم كل بلاء، ويمنحهم كل خير، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) ، وقال تعالى في أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (2) ، وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} (3) {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (4) {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (5) .
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - ما نصه: " وقد يأذن الله سبحانه للأرض في بعض الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية، والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرع إلى الله سبحانه، والندم، كما قال بعض السلف، وقد زلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد زلزلت المدينة، فخطبهم ووعظهم، وقال: " لئن عادت لا أساكنكم فيها " انتهى
__________
(1) سورة الأعراف الآية 96
(2) سورة المائدة الآية 66
(3) سورة الأعراف الآية 97
(4) سورة الأعراف الآية 98
(5) سورة الأعراف الآية 99(51/377)
كلامه رحمه الله.
والآثار في هذا المقام عن السلف كثيرة: فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والرياح الشديدة والفيضانات - البدار بالتوبة إلى الله سبحانه، والضراعة إليه، وسؤاله العافية، والإكثار من ذكره واستغفاره، كما قال - صلى الله عليه وسلم - عند الكسوف: «فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره (1) » ويستحب أيضا رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ارحموا ترحموا (2) » ، «الراحمون يرحمهم الرحم، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم (4) » وروي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه كان يكتب إلى أمرائه عند وجود الزلزلة أن يتصدقوا.
ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء مبادرة ولاة
__________
(1) جزء من حديث متفق عليه أخرجه البخاري في (كتاب الكسوف) باب الذكر في الكسوف 2 \ 30، ومسلم في (كتاب الكسوف) باب ذكر النداء لصلاة الكسوف '' الصلاة جامعة '' 2 \ 628.
(2) أخرجه الإمام أحمد 2 \ 165.
(3) أخرجه أبو داود في (كتاب الأدب) باب في الرحمة 13 \ 285، والترمذي في (كتاب البر والصلة) باب في رحمة الناس 6 \ 43.
(4) أخرجه البخاري 5 \ 75، ومسلم 4 \ 1809، وأبو داود 14 \ 130، والترمذي 6 \ 33.(51/378)
الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء، وإلزامهم بالحق، وتحكيم شرع الله فيهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ، وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (5) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله فهي حاجته (6) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (7) » رواه مسلم في
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) أخرجه البخاري 3 \ 98، ومسلم 4 \ 1996، والترمذي 4 \ 575.
(7) أخرجه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4 \ 2074.(51/379)